د. حلمي القاعود يكتب: ذهبتُ وأنا عمر.. وجئتُ وأنا عمر!!إخوان أون لاين - 24/01/2007
د. حلمي القاعود
في أول أيام العام الهجري الجديد 1428 هجرية، قدَّم التلفزيون المصري حسنةً من حسناته القليلة، بإذاعة الحلقات الأخيرة من مسلسل عمر بن عبد العزيز، رضوان الله عليه.
وهذا المسلسل من الأعمال العظيمة التي كتبها الراحل الموهوب "عبد السلام أمين" وقام بتقديمه مجموعة من الممثلين الممتازين في مقدمتهم رشوان توفيق ونور الشريف وعبد الرحمن أبو زهرة ومديحة حمدي.
لا يمل المشاهد من الجلوس أمام الشاشة لمتابعة وقائع أحداث المسلسل، مهما تكررت إذاعتها أو بثّها، ففيها ما يشدّ ويجذب ويُمتع، إنها حياة الخليفة الراشد الخامس، الذي حكم ثمانية وعشرين شهرًا، حوَّل الدولة من خلالها إلى مخزنٍ للخير ومصدرٍ للعدل ومحيط للأمن ومنبع للإيمان يفيض على الدنيا كلها، ويُقدِّم صورةً رائعة، بل أكثر من رائعةٍ للإسلام حين يُشيع الطمأنينة في النفوس، ويُبعد شبح الفقر عن الملايين في المشارق والمغارب، ويُخضع لسطوة الحق طغاةً و جبابرةً ولصوصًا!
تأتي من مصر مربية "عمر بن عبد العزيز"، وتصل إلى دمشق، وتسأل عن دار الخليفة لتشكو إليه فقرها وعوزها، فإذا بهم يرشدونها إلى بيتٍ متواضعٍ في ناحيةٍ من نواحي دمشق، فتظن أن الذين أرشدوها يستهزئون بها، فتقول لهم: إن دارها المتواضعة المتهالكة في أحد أحياء القاهرة أفضل من هذه الدار، ويدخل عمر وهي تحتج على مَن أدخلوها الدار المتواضعة، ويقول: لقد صدقوا، فهي دار الخليفة، وأنا الخليفة.. وتظن المرأةُ أنه يتابع حملة الاستهزاء.. فتقول له: أتسخر مني؟ فيقول لها: لا.. ألا تعرفينني يا خالة؟ وتسأله: مَن أنت؟ فيقول لها عمر: أنا عمر بن عبدالعزيز الخليفة، فيزداد اندهاش المرأة؛ لأن الذي تراه أمامها شخص بسيط، يلبس ثيابًا خشنة، وقد عهدت عمر يلبس الحرير، ويُغيِّر كل يومٍ ثوبًا، ولكنها تتحسس يديه التي عرفتها مذ كان صغيرًا، وتضع يدها على جبهته فترى أثر الجرح الذي يُميزه، والذي أشار إليه جدُّه الأعلى "عمر بن الخطاب" في نبوءةٍ صدقت: "من هذا الأشجِّ (المجروح) يأتي من نسلي، ويرثني من بعدي؟".. عرفت المرأة الأشجّ، وتأكدت أنه هو عمر الذي ربته في دار الولاية بمصر.
وتزداد دهشة المربية حين يأتون لها في دار الخلافة بطعامٍ بسيطٍ متواضع.. وتكثر دهشتها حين ترى زوج الخليفة بسيطة تشبه فقراء المسلمين في ملبسها وحياتها!
ويأمر عمر للمربية بعطاءٍ من بيت المال يكفيها في رحلتها، ويؤمن لها بناء بيتٍ يليق بها بدلاً من بيتها المتداعي في القاهرة، وليكون أفضل من بيته وأقوى وأجمل!
ويلتقي عمر بن عبد العزيز بشيخه ومستشاره الأمين "رجاء بن حيوة"، وتتلاشى الشمعة التي تُضيء المكان، فيذهب عمر بنفسه ليُضيء شمعة أخرى، ويرفض أن يقوم رجاء بهذا الأمر.. وحين يتعجب رجاء دهشًا من هذا الأمر فإنَّ عمر يقول ببساطة شديدة: "ذهبتُ وأنا عمر.. وجئتُ وأنا عمر"!
وكان ابن المهلب صهر الحجاج يتولى بلاد ما وراء العراق (خراسان)، وكان طاغية شرسًا، متجبرًا، يُسخِّر منصبه للكسب والتربح، ويُطارد كل مَن يعترضه، ويُلقي به في السجن ويعذبه، ويُبقيه إلى أجلٍ غير مسمى.
وكثرت الشكاوى ضده، فاستدعاه عمر إلى مقرِّ الخلافة، فجاء بخيله وهيلمانه وأبهته وحراسه، وهداياه وأمواله، وظنَّ أن ذلك سيجعل له مكانةً عند خليفة المسلمين تفوق بقية الخلائق، ولكنه فوجئ بما لم يكن يتوقع، فقد جرَّده عمر من كلِّ هذا، وأبقاه وحيدًا، وحاسبه بالسؤال الشهير: من أين لك هذا؟
ولكنه استعظم أن يُسأل أو يُحاسب؛ ويرد بغطرسة: لقد تاجرتُ وزرعتُ واستثمرتُ، وملأتُ الأسواق بما يحتاجه الناس إن لم يكن مجانًا فبثمنٍ قليل! ويردّ عليه الراشد العمري:
- ألم يصادر الحجاج أموالك؟ ثم أنَّى لك بمعرفة الأسعار رخيصها وغاليها؟ ويأمر عمر بإيداعه السجن، وضم أمواله وهداياه إلى بيت مال المسلمين، وإطلاق سراح سجنائه في ولايته!
وعندما يعرض "رجاء بن حيوة" بريد الولاة (المحافظين بلغتنا هذه الأيام)، ويقرأ عليه رسائلهم، فإنه يقرأ عليه رسالةً من والي اليمن أو عامل اليمن يطلب فيه "ميزانية" ليشتري ورقًا من مصر ليكتب عليه الرسائل الرسمية.
وينظر عمر في الرسالة فيراها على ورقةٍ كبيرة، فيطلب من رجاء أن يكتب إليه بأن يختصر في رسائله، ويكتبها على ورقٍ صغير؛ توفيرًا لأموال الدولة.
ويكتب إليه والٍ آخر يطلب زيادة في الاعتماداتِ كي يبني سورًا يحمي المدينة ويُحصنها، ويُعبِّد طرقها، فيردّ عليه: "حصّن مدينتك بالعدل، وعبّد طرقها بالقضاء على الظلم والفساد"! ويكتب إليه ثالث أن كثيرًا من أهل الذمّة (غير المسلمين) قد دخلوا في الإسلام، وقلَّت الموارد بسبب رفع الجزية عنهم، فيرد عليه: بأنه يتمنى، لو أنَّ كل أهل الذمة دخلوا الإسلام، واشتغل هو ومَن معه عمالاً وراء المحاريث لخدمةِ الإسلام والمسلمين!
لم يسلم الراشد العمري من التآمر، ولم يسكت الفاسدون المفسدون في الداخل والخارج عن محاولة إزاحته وإلحاقِ الأذى به، فقتلوا ابنه "عبد الملك" بالسم، وهو في ريعان شبابه وصباه، وقتلوه هو الآخر بالطريقةِ ذاتها، ولكنه ظلَّ حتى قُبِض إلى بارئه، يمثل نموذجَ العادل الورع التقي، ولا نُزكيه على الله، والله حسيبه، وقُبيل وفاته أرسل إليه- أمبراطور الروم- عدوّ المسلمين اللدود، كل الأطباء الذين يمكنهم معالجته تكريمًا له واعترافًا بكرم أخلاقه وحُسن معاملته، ووفائه بوعوده، واحترامه لمواثيقه، ولكنَّ الأطباءَ لم يصلوا إلا بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى!
وكان أجمل ما اشتمل عليه المسلسل هو ذلك النشيد المعبِّر عن عمر؛ والذي صاغه الموهوب الراحل عبد السلام أمين في المقدمة والختام:
ها هو العدل تجسَّد
ها هو الحق تجدَّد
ها هو الحلم الذي
ظلَّ صداه يتردّد
في نفوس الفقراءِ
وقلوب الضعفاءِ
وقيود السجناءِ
.... ....
.... ....
الراشد العمريُّ على الصراط قويُّ
وبالفقير رحيمٌ وباليتيم حفيٌّ....
في ثمانية وعشرين شهرًا، اعتدل ميزان الدولة، عادت سيرتها الأولى الراشدة، تراجع الظلم والنهب.. توافقت الأمة، أمنت الأغنام على نفسها أمام الذئاب، أو عاشت الذئاب مع الأغنام في سلام!
لماذا نحتاج إلى سيرة عمر الجد وعمر الحفيد؟
لأننا نحتاج إلى العدل والأمن والكرامة.. والدولة المدنية الإسلامية التي تساوي بين مواطنيها، ولا تجعل الأقلية الفاسدة أو الأقلية المستقوية بأعداء البلاد فوق الأكثرية المظلومة المقهورة!
وليت مثقفي الحظيرة يكفون عن هجاء الإسلام، وتملّق خصومه.. وليتهم يتقون الله فيما يرددونه من أكاذيب سادتهم ومستخدميهم عمَّا يُسمَّى مخاطر الدولة الدينية، فالإسلام لم يعرف الدولة الدينية الكهنوتية على امتداد تاريخه الطويل، ولكنه ابتلى بالدولة البوليسية الفاشية التي لا تعرف الحق ولا العدل ولا كرامة الإنسان المسلم.
وليتهم يقرأون سيرة العمرين، ويأمرون سادتهم وكبراءهم أن يُقلِّدوهما حتى يفيض الخير والأمن والإيمان على القلوب والنفوس والمجتمع، وحتى يقول الحاكم العربي: ذهبت وأنا عمر.. وجئت وأنا عمر!
-------------