تفسير سورة التوبة (الحلقة التاسعة) مصارع المنافقين في قلوبهم وألسنتهم وأيديهم - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح كتاب الحج من صحيح مسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 7462 )           »          أحكــــــام الصيــــــــــام وآدابــــــــه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          سِيَر أعلام المفسّرين من الصحابة والتابعين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 88 - عددالزوار : 24319 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 8603 )           »          آفاق التنمية والتطوير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 19 - عددالزوار : 5015 )           »          خواطر الكلمة الطيبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 22 - عددالزوار : 1734 )           »          أهمية الشعور بالمسؤولية وتحملها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          فقه النبوءات والتبشير – عند الملِمّات وضوابطه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 85 )           »          ذنوب القلوب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 18 - عددالزوار : 3814 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #2  
قديم 21-04-2024, 02:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,415
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير سورة التوبة (الحلقة التاسعة) مصارع المنافقين في قلوبهم وألسنتهم وأيديهم



وقد بدئت هذه الآية الكريمة بحرفي "إن" للتوكيد و"ما" للحصر، للدلالة على أنه لا حق فيها لغير هؤلاء الثمانية المذكورين، وقال عن تشريعها صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولَّاها مَلَكٌ مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه)). أما صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء الثمانية وإلى غيرهم بحسب إرادة المتصدِّق.

بهذه الآيات الكريمة حسم الحق تعالى جدل المنافقين حول تقسيم الصدقات، ولكن المنافقين لا يرعوون ولا يرتدعون، فقد واصلوا أصنافًا أخرى من الأذى لا تصدر إلا عن النفوس المريضة، يلتمسون بها ما يعيبون به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المبرأ من العيب، فنزل الوحي بذلك يفضحهم ويندد بفعلهم ويرد عليهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ﴾ [التوبة: 61] والأذن لغة وهي حاسة السمع من الكائن الحي، وفي هذه الآية تعبير مجازي عن السامع بها، خبر المبتدأ ﴿ هُوَ ﴾؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول المنافقين: ﴿ هُوَ أُذُنٌ ﴾، يعنون به أنه صلى الله عليه وسلم سليمُ القلبِ بسيط، سريع الاغترار بما ينقل إليه والتصديق بكل ما يسمعه، والقائلون كانوا جماعة من مردة المنافقين يغتابونه صلى الله عليه وسلم في مجالسهم الخاصة، منهم نبتل بن الحارث، وعتاب بن قشير، قالوا: "محمد أذن سامعة، نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول"، قال محمد بن إسحاق بن يسار: "نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، وكان رجُلًا أزلم[2]، ثائر الشعر، أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، قال عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث))، وكان ينقل حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى المنافقين، فقيل له: "لا تفعل" فقال: "إنَّما محمد أذن، فمن حدَّثه شيئًا صدَّقه؛ فنقول ما شئنا، ثُمَّ نأتيه فنحلف له"، وأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن السّديّ قَالَ: اجْتمع نَاس من الْمُنَافِقين فيهم جُلاس بن سُوَيْد بن صَامت وجحش بن حِمْيَر ووديعة بن ثَابت، فأرادوا أَن يقعوا فِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنهى بَعضهم بَعْضًا وَقَالُوا: "إنا نَخَاف أَن يبلغ مُحَمَّدًا فَيَقَعَ بكم"، وَقَالَ بَعضهم: "إِنَّمَا مُحَمَّد أذن نحلف لَهُ فيصدقنا"، وهذا من المنافقين طعن في أخلاقه صلى الله عليه وسلم بعد أن لمزوه في عدالته وقسمته الصدقات، وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، وقال عنه الحق تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فرد الله عليهم وعلى من يفعل فعلهم بقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد، ﴿ أُذُنُ ﴾ خبر مرفوع لمبتدأ محذوف جوازًا تقديره "هو"، أي الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ خَيْرٍ لَكُمْ ﴾ بكسر الراء مضاف إلى ﴿ أُذُنُ ﴾؛ أي: هو أُذُن خيرٍ لكم، يسمعكم ويفهم ما تقولون، فيعرف بعضَه ويُعرِض عن بعضه، ويغضي عن بعضه، رحمةً بكم وإشفاقًا عليكم، ثم يصحح أخطاءكم في القول والفهم والمعرفة والتصرف بما يوحيه الله إليه من الحكمة، مستمعُ خيرٍ ورحمة، لا مستمع شر ونقمة، ولو كان غير ذلك لكذَّبكم وفضحكم.

ولفظ ﴿ خَيْرٍ ﴾ بالكسر مضافًا إلى: "أذن"، هو ما عليه الجمهور، فإن قرأت "أُذُنٌ" بالتنوين كان "خيرٌ" بالضم والتنوين خبرًا ثانيًا لضمير المتكلم المحذوف "أنا"، وهي قراءة عاصم في رواية الأعمش وعبدالرحمن عن أبي عكرمة، كما تقرأ "ورحمة" بالضم عطفًا على "أُذُن" وبالجر عطفًا على "خَيْرٍ" إذا كانت بالجر.

ثم زاد الحق تعالى توضيحًا لفضله صلى الله عليه وسلم بينهم وفيهم وعليهم فقال سبحانه: ﴿ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ﴾ حق الإيمان ﴿ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي: يصدق ما يعلنونه له من إيمانهم على اختلاف درجاته قوةً وضعفًا، وحقيقته وجودًا وعدمًا، تثبيتًا للصادقين وسترًا وإمهالًا لغيرهم لعلهم يرعوون فيتوبون ﴿ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ﴾، ورحمة لمن صدق إيمانه منكم، وإمهال لغيرهم ممن لم يخلص إيمانهم فيقبله منهم ملاينة واستدراجًا لهم إلى الخير، ثم هدَّد الله تعالى هؤلاء المنافقين فقال عز وجل: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، وهو تهديد آخر لهم يؤكد ما نزل فيهم من قبل بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [المجادلة: 5]، وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [الأحزاب: 57].

وقوله تعالى: ﴿ يُؤْذُونَ ﴾، من الأذى وهو الشيء يؤلم النفس أو الجسد أو يكرهه المرء ولا يتحمله، أكثر ما يطلق على الضرر الخفيف أو الضر بالقول والدسائس، يقال: آذاه يؤذيه فهو مؤذٍ؛ أي: مضر له بالقول أو الفعل أو المعاملة أو الإشارة أو التعريض، ومنه قوله تعالى: ﴿ لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى ﴾ [آل عمران: 111]، والآية تهديد بالعذاب الشديد في الدنيا والآخرة للمنافقين الذين كانوا يعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًّا ويحاولون إذايته تعريضًا وتلميحًا أو تصريحًا ومجاهرة، أو تأويلًا فاسدًا لأقواله وأفعاله، ووعيد صارم بالعذاب لكل من يرتكب ذلك في حياته أو بعد وفاته.

إن العادة المضطردة في المنافقين أنهم جبناء رعاديد لا يتورعون عن الهمز واللمز والأذى تنفيسًا لغيظهم وأحقادهم، فإن انكشف أمرهم أنكروا ما قالوه وما فعلوه وما حاولوه، وتترسوا بالتمويه والجدل والأيمان الفاجرة والغموس لإنكار ذلك، وقد روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: "ذكر لنا أن رجلًا من المنافقين قال في شأن المتخلفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقًّا لهم شر من الحمر"، فسمعها رجل من المسلمين فقال: "والله إن ما يقول محمد لحق، ولأنت أشر من الحمار"، فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: (ما حملك على الذي قلت؟)، فجعل يلْتَعِنُ - أي يلعن نفسه إن قال ذلك - ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: "اللهم صدِّقِ الصادقَ وكذِّبِ الكاذبَ، فأنزل الله في ذلك قوله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 62]، والآية خطاب من الله سبحانه للمؤمنين يحذرهم بها من تصديق المنافقين الذين يحاولون التمويه على نفاقهم بإنكاره، أو تأكيد إيمانهم بالحلف على صدقه وسلامته، ودليل على ما أصابهم من الرعب والخوف من الفضيحة، وأن الذي يهمهم هو سمعتهم ورضاء الناس عنهم على خلوِّ قلوبهم من الإيمان و إصرارهم على الكفر، ولو كانوا مؤمنين حقًّا لكان همهم إرضاء الله تعالى؛ لأنه الأحق بالرضا، وإرضاء رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأحق بالاتباع ﴿ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 62]، والحال الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن الحق أن يجعل إرضاء الله بمحبته والإيمان به وحده لا شريك له والتوبة والإنابة إليه هدفه ومقصوده، وأن يجعل إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم بتصديقه واتباعه وطاعته وعدم إيذائه منهج حياته وسعادة قلبه في ليله ونهاره.

إن العدوَّ عدُوَّان، ظاهر معلن تعد له ويعد لك في رابعة النهار، وذلك فعل الكافر المجاهر، ومتستر يمكر بك ويكيد لك ويعد لك في ظلمة الليل وأنت نائم أو غافل، وذلك فعل المنافقين، الذين تكاثروا في المجتمع المسلم في السنتين الأخيرتين من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عقب فتح مكة وإسلام أهلها غلابًا، وشارك بعضهم في غزوة حنين، وحاول بعضهم فتنة جيش المسلمين وإرباكه، وتطور مكر بعضهم إلى المشاركة في محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من تبوك عند العقبة، ومحاولة عرقلة جيش أسامة وتأخير خروجه، ومع كل هذا المكر والغدر والخيانة يحلفون للمسلمين أنهم منهم ترضية لهم وتغطية على نفاقهم؛ ولذلك فضحهم الله بين المسلمين ثم أنَّبَهم وهددهم بقوله: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [التوبة: 63]، والهمزة في أول الآية للاستفهام الإنكاري التعجبي من أفعال المنافقين وإصرارهم على الفساد، وحرف ﴿ لَمْ ﴾ للجزم والنفي، تجزم فعل ﴿ يَعْلَمُوا ﴾ بحذف النون، وتنفي علمهم، والفعل ﴿ يُحَادِد ﴾، من الحد وهو الحاجز بين الشيئين يمنع اتصالهما، ومنه قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ﴾ [البقرة: 229]، وقوله عز وجل: ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 97]، ويستعمل مجازًا بمعنى المفاصلة والمحاربة كما في هذه الآية من قوله تعالى: ﴿ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي: يحارب الله بتكذيب رسوله والمكر به، والجملة الاسمية من الشرط وجوابه: ﴿ أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 63]، مفعول ﴿ يَعْلَمُوا ﴾؛ أي: ألم يسبق لهم العلم في القرآن وقد بلغهم وتلي عليهم بأن من يحارب الله تعالى ورسوله كما يفعلون مصيره الخلود في جهنم؟ وهو منه تعالى سؤال للتأنيب والتوبيخ؛ لأن من يؤمن بالله حق الإيمان يعلم يقينًا أن حرب الله ورسوله كبرى كبائر الإثم، مرتكبها مُخلَّد في النار، فكيف يجرؤون على ذلك وقد بلغهم قول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33] وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [المجادلة: 5]. إن من يدعي الإيمان أو بلغته دعوة الإسلام يعلم بداهة أن محاربة الله والنيل من رسوله كفر بواح، فكيف غاب عنهم ما بلغهم وعرفوه وادعوا الإيمان به ثم عملوا بنقيضه؟! لذلك وصف الحق تعالى حالهم ومآلهم؛ إذ يرتكبون ما ارتكبوا بقوله عز وجل: ﴿ ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 63]، والخزي من فعل"خَزِيَ يخزَى" الرجل من باب علِم يعلَم إذا وقع في بلية أو فضيحة تذله وتهينه واستحيا من قبح فعله، فهو خَزيان؛ أي: وذلك هو أعظم الهوان والذل وأوخم ما ينتظرهم ويدخر لهم في الآخرة.

إن المنافقين أسوأ حالًا من الكُفَّار المعالنين؛ لأنهم يعرفون الحق الذي جاء به الإسلام وتأباه نفوسهم لأهوائها الضالة وعلاقاتها الفاسدة وأمزجتها القلقة المتقلبة، وهم كالذي صُفِع قفاه مرة ويرتقب صفعة أخرى أشد تفضح سرائرهم بين أهلهم وذويهم والناس أجمعين، ذلك حالهم الذي مردوا عليه منذ أسلموا كرهًا عقب فتح مكة، ثم تكاثروا وقويت شوكتهم وفي المسلمين سمَّاعون لهم، ثم وهم في أمر مريج من الخوف والاضطراب والترقب؛ إذ أخذ نفاقهم يفتضح، وانتصارات الرسول صلى الله عليه وسلم تتوالى، والقرآن ينزل تترى آياته كاشفة لأسرارهم سِرًّا بعد سِرٍّ بقوله تعالى: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 64].

وفعل ﴿ يَحْذَرُ ﴾؛ أي: يخاف ويترقب، مضارع فاعله ﴿ الْمُنَافِقُونَ ﴾، من الحذر وهو التحرز والتيقظ، وترقب المكروه والاستعداد له، أو الخوف منه والاحتياط له، والرجل الحذر هو الخائف المتأهب للمواجهة، ومترقب الشر من جهة ما، ومنه في القرآن: ﴿ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ ﴾ [الشعراء: 56]؛ أي: خائفون ومتأهِّبون. وقوله تعالى: ﴿ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ جملة فعلية من "أن" والفعل، مفعول: "يحذر"؛ أي: إن المنافقين المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم كانوا حاذرين خائفين مترقبين أن ينزل الله في شأنهم سورة من القرآن تفضح دخيلة قلوبهم وما فيها من النفاق والاستهزاء بالعقيدة وأحكامها، وتهتك أسرارهم وما يخفونه ويعدونه من المكر والغدر والخيانة، هذه المواقف منهم لم يكن لها من سبب إلا الشك فيما نزل من الوحي والارتياب، في الألوهية والنبوة؛ لذلك كانوا يعلنون الإيمان خوفًا، ويخفون الريب والشك والاستهزاء بالعقيدة وأهلها فيما بينهم، فإذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكروا شيئًا من أمره وأمر المسلمين، قالوا مستهزئين ساخرين: "لعل الله لا يفشي سِرَّنا"، فقال الله لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلِ ﴾ لهم يا محمد ﴿ اسْتَهْزِئُوا ﴾، والأمر في قوله تعالى: ﴿ اسْتهزِئُوا ﴾ للتهديد والوعيد والتحدِّي والسخرية بهم، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ﴾ [الزمر: 14، 15] وقوله لإبليس: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64]؛ أي: اسخروا كما تشاؤون فلن تنفعكم السخرية شيئًا، وعاقبة أمركم أن تنفضحوا في الدنيا وتعذبوا في الآخرة ﴿ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾، ولفظ "مخرج" تعبير مجازي بمعنى مظهر أو كاشف أو منزل من القرآن ما يفضح أسراركم وأحقادكم وضغائنكم على المسلمين، وما تُعِدونه من خيانة لله ورسوله، قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ﴾ [محمد: 29].

لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على حماية المنافقين من أنفسهم ويستدرجهم للتوبة، فيتألف قلوبهم وينصحهم أو يحذرهم بحسب ما تقتضيه الظروف، ولكنهم يراوغونه ويتفلتون من الاعتراف بالذنب وينكرون فساد عقيدتهم ونواياهم وأمراض قلوبهم، من ذلك أن رَهْطًا مِن الْمُنَافِقِينَ كانوا يَسِيرُونَ مَعَه صلى الله عليه وسلم فِي تَبُوكَ، مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَالْجُلاسُ بن سُوَيْدِ بْنِ الصَّامِتِ، ومخشي بْنُ حِمْيَرَ مِنْ أَشْجَعَ، حَلِيفٌ لِبَنِي سَلمَة، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ. فَقَالَ: "تَحْسَبُونَ قِتَالَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَاَللهِ لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ"، إرْجَافًا بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: "مَا لِي أَرَى قُرّاءَنَا هَؤُلَاءِ أَوْعَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا ألسنة، وأجبننا عند اللِّقاء؟" وقال الجلاس بن سُوَيْدٍ: "هؤلاء سَادَتُنَا وَأَشْرَافُنَا وَأَهْلُ الْفَضْلِ مِنَّا، وَاللهِ، لَئِنْ كَانَ مُحَمّدٌ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرُّ مِن الْحَمِيرِ، وَاللهِ لَوَدِدْت أَنِّي أُقَاضِي عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنّا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَأَنَّا نَنْفَلِتُ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا الْقُرْآنُ بِمَقَالَتِكُمْ"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: ((أَدْرِك الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى، قَدْ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا))، فَذَهَبَ إلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ لَهُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى نَاقَتِهِ، وَقَدْ أَخَذَ بِحَقَبِ نَاقَةِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَرِجْلَاهُ تَنْسِفَانِ الْحِجَارَةَ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَا رَسُولَ اللهِ، إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل فِيهِ: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65]؛ أي: لئن سألتهم أو سئلوا عن تصرُّفاتهم المخربة للصف، وأقوالهم المثبطة للهمم، تجاهلوا خطورتها وأنكروا القصد منها، وادعوا أنها مجرد تفكُّه بسيط وتسلية كانت فيما بينهم لتمضية الوقت أو قطع الطريق. هذا ديدنهم وأسلوبهم في الدسِّ والمراوغة، كلما كشف الله للنبي نفاقهم وأخرج للمؤمنين ضغائنهم وأحقادهم؛ ولذلك أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله له:﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد موبِّخًا ومهددًا ﴿ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65]، هل بلغت بكم الجراءة والوقاحة والعدوان على المقدَّسات أن تسخروا بالله وآياته المنزلة، وبرسوله المبتعث إليكم؟! ﴿ لَا تَعْتَذِرُوا ﴾؛ لأن الاعتذار يكون عن الخطأ غير المقصود، وما فعلتم ليس خطأ، بل هو الكفر والعدوان والوقاحة والسخرية، لقد حصدتم بأقوالكم وأعمالكم وسرائر قلوبكم كل شر، وما تركتم سوءًا إلا تلبستم به ﴿ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾، قد تحقق كفركم بعد أن ادعيتم الإيمان ﴿ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ﴾، عن فرقة منكم تابت وأخلصت الإيمان ﴿ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ﴾ نعذب أخرى أصرت ولم تتب ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ بسبب إصرارهم على الكفر الذي هو منتهى الإجرام.

ثم رفعا لمستوى الوعي لدى المسلمين بصراع الحق والباطل في حلبة الحياة وميدان الدنيا، وارتقاء بتوبيخ المنافقين وكشف مثالبهم وتيئيسهم من رحمة الله ما أقاموا على النفاق، عرف الحق تعالى المؤمنين بطبيعة المنافقين وأسلوبهم في التخريب، وحقيقة علاقتهم بمقتضيات الإيمان فقال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 67] متشابهون فيما يضمرونه للإسلام والمسلمين من العداوة والجحود، متضامنون فيما بينهم، يدافع بعضهم عن بعض في تكتُّل شيطاني رجيم ﴿ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المجادلة: 19] ومن كان الشيطان قد استحوذ على قلوبهم فإنهم لا بد بألسنتهم ﴿ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ ﴾ يحرضون على كل سوء ﴿ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ وينهون عن كل خير ﴿ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ﴾ عن أي عمل يرضاه الله، نفقة أو بذلًا أو بِرًّا وإحسانًا ﴿ نَسُوا اللَّهَ ﴾ ذهلوا عن التفكُّر في الله وتدبر آياته والعمل بأحكامه ﴿ فَنَسِيَهُمْ ﴾، فمنعهم هدايته ووكلهم لضلالهم وعبث شياطينهم بهم ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ إن المنافقين هم الأحق بأن يوصموا بالفسق؛ لأنهم انسلخوا عن الإسلام وتترَّسوا بالنفاق ﴿ وَعَدَ اللَّهُ ﴾ توعَّد الله ﴿ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ ﴾ جميعًا ﴿ نَارَ جَهَنَّمَ ﴾ محبوسين فيها تحيط بهم من كل جانب ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يغادرونها ولا يُخرَجون منها أبدًا ﴿ هِيَ حَسْبُهُمْ ﴾ هي كِفاء آثامهم، وهم أهل لها ﴿ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ﴾ أبعدهم من عفوه ورحمته ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ ﴾ في الآخرة ﴿ مُقِيمٌ ﴾ دائم أبدًا.

[1] بلغ عدد من عدَّهم ابن العربيفي "الأحكام" من المؤلفة قلوبهم تسعة وثلاثين رجلًا.
[2] شرير.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

 

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 117.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 115.56 كيلو بايت... تم توفير 1.56 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]