بيان كريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يحيط به وصف - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 470 )           »          أسماء الله وصفاته أنفعُ العلومِ وأشرفُها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          المخدرات والجريمة وجهان لعملة واحدة .. ضياع للأسرة ودمار للمجتمع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 623 )           »          النميمة: تعريفها وأضرارها وطرائق مواجهتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          «لاحول ولا قوة إلا بالله» كنز من كنوز الجنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          نظرة استراتيجية في السيرة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 120 - عددالزوار : 59958 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 119 - عددالزوار : 62529 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم اليوم, 11:44 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,345
الدولة : Egypt
افتراضي بيان كريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يحيط به وصف

بيان كريم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يحيط به وصف

د. أحمد خضر حسنين الحسن


اعلم أن الكلام في أخلاقه الشريفة وصفاته المنيفة، يحتاج إلى عدد من المجلدات الكبيرة، ولكن على حسب المقام أكتفي بذكر ثلاث آيات وبعض الأحاديث النبوية:
الأولى: قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام: 90].

قال السعدي - رحمه الله -: ﴿ أُولَئِكَ ﴾ المذكورون ﴿ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ؛ أي: امش - أيها الرسول الكريم - خلف هؤلاء الأنبياء الأخيار، واتَّبع ملتهم، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم، فاهتدى بهدي الرسل قبله، وجمع كل كمال فيهم، فاجتمعت لديه فضائل وخصائص، فاق بها جميع العالمين، وكان سيد المرسلين، وإمام المتقين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وبهذا الملحظ استدل بهذه من استدل من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل كلهم)؛ اهـ.

قلت: هذا كلام صحيح وحقٌّ في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه مجمل وتفاصيله موجودة في كتب السيرة النبوية والأحاديث الشريفة، فلا يكاد نبي من الأنبياء السابقين تعرَّض لموقف ظهر فيه حُسن خلقه، إلا وتعرَّض النبي صلى الله عليه وسلم لموقف مثله أو أشد منه، فتجد منه التخلق بالخلق الكريم في الوقت المناسب.

ولربما يسأل سائل: فأين الميزة هنا؟ وما وجه الموازنة؟ فالجواب أن تلك الأخلاق كانت مفرقة في الأنبياء عليهم السلام، فاجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم، ورحِم الله البوصيري حيث أشار إلى هذا المعنى بقوله:
فاق النبيين في خَلْقٍ وفي خُلُقٍ
ولم يُدانُوه في عِلمٍ ولا كَرَمِ




وموضع الشاهد في الشطر الأول (وفي خُلُقٍ)؛ أي: كان عنده من مكارم الأخلاق ما فاق بها جميع الأنبياء عليهم السلام، فلم يدانوه فيها؛ أي: لم يكونوا مقاربين له في خلقه على ما هم عليه من جميل الخلال ومكارم الأخلاق، فالفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم بيِّن وواضحٌ.

قال الفخر الرازي: في الآية مسائل:
المسألة الأولى: لا شبهة في أن قوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ﴾: هم الذين تقدم ذكرهم من الأنبياء، ولا شك في أن قوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) أمرٌ لمحمد - عليه الصلاة والسلام - وإنما الكلام في تعيين الشيء الذي أمر الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقتدي فيه بهم:
فمن الناس من قال: المراد أنه يقتدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال.

وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في جميع الأخلاق الحميدة والصفات الرفيعة الكاملة من الصبر على أذى السفهاء والعفو عنهم.

وقال آخرون: المراد الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصَّه الدليل، وبهذا التقدير كانت هذه الآية دليلًا على أن شرع مَن قبلنا يَلزَمُنا.

المسألة الثانية: احتج العلماء بهذه الآية على أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع الأنبياء - عليهم السلام - وتقريره: هو أنَّا بيَّنا أن خصال الكمال وصفات الشرف، كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، فداود وسليمان كانا من أصحاب الشكر على النعمة، وأيوب كان من أصحاب الصبر على البلاء، ويوسف كان مستجمعًا لهاتين الحالتين، وموسى - عليه السلام - كان صاحب الشريعة القوية القاهرة والمعجزات الظاهرة، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، كانوا أصحاب الزهد، وإسماعيل كان صاحب الصدق، ويونس صاحب التضرع، فثبت أنه تعالى إنما ذكر كل واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأن الغالب عليه كان خصلة معينة من خصال المدح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكل، أمَر محمدًا - عليه الصلاة والسلام - بأن يقتدي بهم بأسْرهم، فكان التقدير كأنه تعالى أمر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع من خصال العبودية والطاعة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، ولما أمره الله تعالى بذلك، امتنع أن يقال: إنه قصَّر في تحصيلها، فثبت أنه حصَّلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان متفرقًا فيهم بأسْرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أن يقال: إنه أفضل منهم بكُليتهم، والله أعلم.

وقال في تفسير المنار: وقد شهِد الله تعالى بأنه جاء بالحق وصدق المرسلين، وأنه لم يكن بدعًا من الرسل، فعلم بهذا أنه كان مهتديًا بهداهم كلهم، وبهذا كانت فضائله ومناقبه الكسبية أعلى من جميع مناقبهم وفضائلهم؛ لأنه اقتدى بها كلها، فاجتمع له من الكمال ما كان متفرقًا فيهم، إلى ما هو خاص به دونهم، ولذلك شهد الله تعالى له بما لم يشهد به لأحد منهم، فقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

وأما فضائله وخصائصه الوهبية، فأمر تفضيله عليهم فيها أظهرُ، وأعظمها عموم البعثة، وختم النبوة والرسالة، وإنما كمال الأشياء في خواتيمها، صلى الله عليه وعليهم أجمعين.

الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].


قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، قال ابن عباس ومجاهد: "على خُلق": على دين عظيم من الأديان، ليس دين أحبَّ إلى الله تعالى ولا أرضى عنده منه، وفي صحيح مسلم عن عائشة أن خلقه كان القرآن، وذكر أقولًا أُخَر، ثم قال: وحقيقة الخلق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب يسمى خُلُقًا؛ لأنه يصير كالخلقة فيه، وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره، فقال:
وإذا ذُو الفضول ضَنَّ على المو
لَى وعادت لخيمها الأخلاقُ




أي: رجعَت الأخلاق إلى طبائعها.

قال القرطبي رحمه الله تعالى: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصح الأقوال، وسُئلت أيضًا عن خلقه عليه السلام، فقرأت ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [المؤمنون: 1] إلى عشر آيات، وقالت: ما كان أحد أحسن خُلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال لبيك، ولذلك قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾، ولم يُذكَر خلقٌ محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظ الأوفر.

وقال الجنيد رحمه الله تعالى: سُمي خلقه عظيمًا؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله تعالى، وقيل: سُمي خلقه عظيمًا لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، يدل عليه قوله عليه السلام: (إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال)[1]، وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إياه بقوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). انتهى باختصار.

وعن سفيان بن عيينة أنه كان يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء، على خلقه وسيرته وهدْيه، فما وافَقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل)[2].


فائدتان:
الأولى: قال في التفسير الوسيط: والتعبير بلفظ (على) يشعُر بتمكُّنه صلى الله عليه وسلم ورسوخه في كل خلق كريم، وهذا أبلغ ردٍّ على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون؛ لأن الجنون سفه لا يَحسُن معه التصرف، أما الخلق العظيم، فهو أَرْقى منازل الكمال، في عظماء الرجال، وإن القلم ليَعجِز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة مِن ثناءٍ مِن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم.

الثانية: قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره هذه الآية ما ملخصه: قال قتادة: ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية، فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا، سجية له وخلقًا وطبعًا، فمهما أمره القرآن فعَله، ومهما نهاه عنه ترَكه، هذا ما جبَله الله عليه من الخلق الكريم؛ كالحكمة، والعفة، والشجاعة، والعدالة.

وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم جماعَ كلِّ خلقٍ عظيم وهو القائل: (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)[3].

الثالثة: قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128].

قال الرازي: فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلَم أنه تعالى لَما أمر رسوله عليه السلام أن يبلغ في هذه السورة إلى الخلق تكاليف شاقة شديدة صعبة يَعسر تحمُّلُها، إلا لِمَن خصَّه الله تعالى بوجوه التوفيق والكرامة - ختَم السورة بما يوجب سهولةَ تحمُّل تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول منكم، فكل ما يحصل له من العز والشرف في الدنيا فهو عائد إليكم، وأيضًا فإنه بحال يشق عليه ضررُكم، وتعظُم رغبتُه في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب المشفق والأب الرحيم في حقكم، والطبيب المشفق ربما أقدم على علاجات صعبة يعسر تحمُّلها، والأب الرحيم ربما أقدم على تأديبات شاقة، إلا أنه لما عرف أن الطبيب حاذق، وأن الأب مشفق، صارت تلك المعالجات المؤلمة متحملة، وصارت تلك التأديبات جارية مجرى الإحسان، فكذا ها هنا لَما عرَفتم أنه رسول حق من عند الله، فاقبَلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير، ثم قال للرسول عليه السلام: فإن لم يَقبلوها، بل أعرضوا عنها وتولَّوا، فاترُكهم ولا تلتفت إليهم، وعوِّل على الله، وارجع في جميع أمورك إلى الله، ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [التوبة: 129]، وهذه الخاتمة لهذه السورة جاءت في غاية الحسن ونهاية الكمال.

المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف الرسولصلى الله عليه وسلم في هذه الآية بخمسة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله: ﴿ مِنْ أَنفُسِكُمْ ﴾، وفي تفسيره وجوه - أقربها إلى الصواب وجهان -:
الأول: يريد أنه بشر مثلكم؛ كقوله: ﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يونس: 2]، وقوله: ﴿ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾ [فصلت: 6]، والمقصود أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على الناس، على ما مرَّ تقريره في سورة الأنعام.

والثاني: ﴿ مِنْ أَنفُسِكُمْ؛ أي من العرب، قال ابن عباس: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي عليه السلام بسبب الجدات، مُضرها وربيعها ويَمانيها، فالمضريون والربيعيون هم العدنانية، واليمانيون هم القحطانية، ونظيره قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [آل عمران: 164]، والمقصود منه ترغيب العرب في نُصرته، والقيام بخدمته، كأنه قيل لهم: كل ما يحصل له من الدولة والرِّفعة في الدنيا، فهو سببٌ لعزكم ولفخركم؛ لأنه منكم ومِن نسبِكم.

الصفة الثانية: قوله تعالى: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾، اعلَم أن العزيز هو الغالب الشديد، والعزة هي الغلبة والشدة، فإذا وصلت مشقة إلى الإنسان عرَف أنه كان عاجزًا عن دفعها؛ إذ لو قدِر على دفعها لما قصَّر في ذلك الدفع، فحيث لم يدفعها، علم أنه كان عاجزًا عن دفعها، وأنها كانت غالبة على الإنسان، فلهذا السبب إذا اشتدَّ على الإنسان شيء قال: عزَّ عليَّ هذا، وأما العنت فيقال: عنت الرجل يَعنت عنتًا: إذا وقَع في مشقة وشدة لا يُمكنه الخروج منها.

ومنه قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 25]، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ﴾ [البقرة: 220]، وقال الفراء: ﴿ مَا ﴾ في قوله: ﴿ مَا عَنِتُّمْ ﴾ في موضع رفع، والمعنى: عزيزٌ عليه عنتُكم، أي يشق عليه مكروهُكم، وأَولى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله تعالى، وهو إنما أُرسل ليدفع هذا المكروه.

والصفة الثالثة: قوله: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، والحرص يمتنع أن يكون متعلقًا بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.


واعلَم أن على هذا التقدير يكون قوله: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾، معناه: شديدة معزته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم، وبهذا التقدير لا يحصل التكرار؛ قال الفراء: الحريص الشحيح، ومعناه: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار، وهذا بعيد؛ لأنه يوجب الخلو عن الفائدة.

والصفة الرابعة والخامسة: قوله: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه، وقد سبق بيان هذا في الفصل السابق.

وقال ابن كثير: وقوله تعالى: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ: أي: يَعز عليه الشيء الذي يُعنت أمتَّه، ويشق عليها، ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال: "بُعثت بالحنيفية السمحة"، وفي الصحيح: "إن هذا الدين يُسر، وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسَّرها الله تعالى عليه".

﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، ثم ذكر رحمه الله آثارًا تدل على حرصه صلى الله عليه وسلم على الأمة:
1- عن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يَقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علمًا، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بقي شيء يقرِّب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُيِّن لكم"؛ رواه الطبراني.

2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يحرِّم حرمة إلا وقد علِم أنه سيَطَّلعها منكم مُطَّلعٌ، ألا وإني آخذ بِحُجَزكم أن تَهافتوا في النار كتهافت الفَراش أو الذباب"؛ رواه أحمد.

3- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته، فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة، ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك، إذ أتاهم رجل في حُلة حبرة، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رِياضًا مُعْشِبة وحِياضًا رِواءً تتبعوني؟ فقالوا: نعم، قال: فانطلق بهم، فأوردهم رياضًا معشبة، وحياضًا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضًا معشبة وحياضًا رواءً أن تتبعوني؟ فقالوا: بلى، فقال: فإن بين أيديكم رياضًا هي أعشب من هذه، وحياضًا هي أروى من هذه، فاتبعوني، فقالت طائفة: صدق والله لَنَتَّبِعَنَّهُ، وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه)؛ رواه أحمد.

4- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء، قال عكرمة: أراه قال: في دم، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، ثم قال: "أحسنت إليك"، قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضب بعض المسلمين، وهموا أن يقوموا إليه، فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أن كفُّوا، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله، دعا الأعرابي إلى البيت، فقال: "إنك إنما جئتنا تسألنا، فأعطيناك، فقلت ما قلت"، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، وقال: "أحسنت إليك؟"، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم"، فقال: نعم، فلما جاء الأعرابي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن صاحبكم كان جاء فسألنا فأعطيناه، فقال ما قال، وإنا قد دعوناه فأعطيناه، فزعم أنه قد رضي، كذلك يا أعرابي؟"، فقال الأعرابي: (نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة، فشردت عليه، فاتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورًا، فقال لهم صاحب الناقة: خلُّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أَرفق بها، وأنا أعلم بها، فتوجه إليها، وأخذ لها من قتام الأرض، ودعاها حتى جاءت واستجابت، وشد عليها رحلَها، وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال، لدخل النار)[4].

وكمال حُسن الخلق في الأدب ولم يكن أحدٌ أكمل منه أدبًا صلوات الله عليه، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (أدَّبني ربي فأحسن تأديبي)[5].

[1] مشكاة المصابيح – للعلامة محمد بن عبد الله المعروف بالخطيب التبريزي - حديث رقم (5770).

[2] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع- للعلامة أبي بكر أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي، (1 /9).

[3] رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (273)، وأحمد والحاكم وغيرهم، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1/ 75): وهذا إسناد حسن، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي.

[4] مسند البزار 2 /465، وفي سنده ضعف، وذكره ابن الجوزي في كتابه الوفا بتعريف فضائل المصطفى 305 .

[5] رواه ابن السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء ص 1، ونسبه السخاوي في المقاصد ص 29 للعسكري في الأمثال، وضعفه أيضًا الألباني؛ انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 1 /101 -102، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن معناه صحيح، ولكن لا يعرف به إسناد ثابت؛ (انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 18 /375).






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 64.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 62.54 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]