|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() البخاري والدولة الأموية والعباسية: دراسة علمية في دعوى التسييس وتفنيد الشبهات المعاصرة د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر المقدمة: الحمد لله؛ أما بعد: فقد كان الجامع الصحيح للإمام محمد بن إسماعيل البخاري، ولا زال محورًا للمهابة والتقدير العلمي منذ أكثر من اثني عشر قرنًا، فهو بحقٍّ أعظمُ مؤلَّف حديثي عند أهل السنة والجماعة، ومع تعاظم مكانته، ازداد خصومه في كل عصر، لا سيما في القرنين الأخيرين؛ إذ سعت تيارات استشراقية وحداثية وشيعية إلى تقويض الثقة بهذا السِّفر الجليل، ومن أبرز دعاواهم: الزعم بأن تصنيف الإمام البخاري لصحيحه خضع لتوجيهات سياسية، وأن اختياراته للمتون والرواة تأثرت بسلطة بني العباس – بل وسبقهم الأمويون في ذلك – بما يجعل الصحيح انعكاسًا لمشروع سياسي لا لوحيٍ نبوي. وتهدف هذه الدراسة إلى معالجة هذه الدعوى معالجةً علمية رصينة، مستندة إلى معطيات السيرة الذاتية للإمام البخاري، وتحليل السياق السياسي والحديثي الذي نشأ فيه، بما يبرز مدى التهافت المنهجي والتاريخي لتلك المزاعم، ويثبت موضوعية منهج الإمام واستقلاليته. أولًا: منبع الشُّبهة وتطورها بين المستشرقين والحداثيين: تُعَدُّ هذه الدعوى امتدادًا لأطروحات المستشرق المجري "جولد تسيهر"، الذي زعم أن البخاريَّ وقع تحت ضغط سياسيٍّ أدى إلى تغييب أحاديث فضائل بعض الصحابة، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، إرضاءً للعباسيين، تبع ذلك تبنِّي عددٍ من المفكرين الحداثيين العرب، ثم توظيف الشيعة المعاصرين لهذه الأطروحة، بغرض الطعن في منهج أهل السنة، وتمرير بدائلهم الحديثية. ولا تخفى الخلفية الإيديولوجية وراء تلك الطروحات؛ فالحداثيون يسعَون إلى نزع القداسة عن النصوص، وتفكيك المرجعيات الحديثية، أما التيار الشيعي فيروم تسويغ الطعن في الصحابة، وتقديم مدونته الحديثية الخاصة بوصفها البديل. ثانيًا: السياق السياسي لتأليف "الجامع الصحيح" وموقع البخاري منه: عاش الإمام البخاري في الفترة الممتدة من 194هـ إلى 256هـ، وابتدأ تصنيف صحيحه قرابة سنة 216هـ، وأتمَّه بعد ستة عشر عامًا من الجهد والتنقل، أي في حدود سنة 232هـ، وهي الفترة التي توافق خلافة المأمون والمعتصم والواثق، وجميعهم من الخلفاء العباسيين الذين تبنَّوا عقيدة الاعتزال، وشنوا حملات اضطهاد ضد أهل الحديث؛ ولذا، فإن أيَّ زعم بخضوع البخاري لسلطة سياسية موالية لأهل السنة في تلك المرحلة، لا يصمد أمام التحقق التاريخي. بل إن الدولة العباسية آنذاك كانت تحارب عقيدة البخاري نفسه، لا سيما في قضايا خلق القرآن، ورؤية الله، وأسماء الله وصفاته، ومع ذلك، نراه يصرح في صحيحه بعبارات تعد – بمقاييس ذلك العصر – تحديًا عقائديًّا مباشرًا للسلطة؛ كما في تبويبه: "باب: وكان عرشه على الماء"، و"باب قول الله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]". ثالثًا: موقف الإمام البخاري من السلطة العباسية والطاهرية: يتضح من تتبع سيرة البخاري في المصادر الأصلية أنه كان بعيدًا عن أبواب الأمراء، معتزًّا بعلمه، عزيز النفس، يرفض الامتيازات الخاصة؛ ومن أمثلة ذلك: • رفضه دعوة والي بخارى لقراءة صحيحه على أولاده في قصره، قائلًا: "لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك حاجة، فاحضر في المسجد أو داري". • امتناعه عن السعي لتحصيل ماله من غريم له عبر والي المدينة، رغم كونه مبلغًا كبيرًا؛ لأنه لا يريد أن يستدرج إلى علاقة نفعية مع السلطة. • لم يسجل له حضور ببلاط السلاطين، بل نُكِّل به لاحقًا وطُرد من بُخارى إلى خرتنك. أما الدولة الطاهرية التي كانت تحكم خراسان؛ حيث نشأ الإمام البخاري، فكانت شبه مستقلة عن بغداد، ولم يكن له علاقة مباشرة بأمرائها، وقد رفض مرارًا التدخل في شأنهم، مما يدل على استغنائه التام عن دعمهم السياسي أو المالي. رابعًا: تفنيد دعوى تسييس اختيار المتون والرواة: تزعم هذه الدعوى: • أن البخاري امتنع عن إخراج أحاديث في فضائل عليٍّ وآل البيت. • وأنه أخرج لأُناس مقربين من البلاط العباسي. الرد العلمي: • أخرج البخاري في فضائل الإمام علي رضي الله عنه بابًا كاملًا سمَّاه: "باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: ((أنت مني وأنا منك))، وقال عمر: تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ"، وروى عن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وروى فضائلهم ومناقبهم. • لم يخرج البخاري الروايات التي وضعها بعض القصاصين في مدح بني العباس، بل نقلها بتضعيفها في كتبه الأخرى؛ مثل: "التاريخ الكبير". • معيار البخاري في توثيق الرجال لم يكن سياسيًّا، وإنما كان علميًّا صرفًا، فلُوحظ عليه إخراج أحاديث عن بعض المبتدعة كالجهمية والخوارج – متى ثبت ضبطهم وعدالتهم في النقل – وهو ما يؤكد منهجًا دقيقًا غير خاضع للأهواء. خامسًا: أثر العقيدة في صحيحه وتحديه لسلطة المعتزلة: يعد "كتاب التوحيد" في نهاية صحيح البخاري بيانًا صريحًا لموقفه العقدي الذي يخالف توجه الدولة العباسية آنذاك؛ حيث قرر فيه: • إثبات صفات الله على منهج السلف. • الرد على منكري الرؤية. • نقض القول بخلق القرآن. وتشهد مؤلفات البخاري المختلفة عن اعتقاده. خاتمة: إن دراسة سيرة الإمام البخاري وسياق تأليفه للجامع الصحيح، تكشف بجلاء أن دعوى تسييس كتابه دعوى باطلة، لا تستند إلى دليل تاريخي معتبر، ولا تنسجم مع خصائص الصحيح، ولا مع سيرة مؤلفه، بل هي دعوى أيديولوجية معاصرة، تتَّكئ على شذرات مبتورة من التاريخ، وتغُضُّ الطرف عن سياق كامل من المعطيات العلمية والمذهبية والسياسية. لقد ظلَّ الإمام البخاري حارسًا للسنة، عفيفًا عن السلاطين، نزيهًا في اختياراته، وصادقًا في عقيدته، وسجل لنا في صحيحه ميراثًا علميًّا لم تستطع عواصف الاستشراق، ولا تشويشات الحداثة، ولا تطاولات الطوائف، أن تنال منه شيئًا. فكان كما قال ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلمَ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحفظ له، من محمد بن إسماعيل البخاري"، وكما قال النووي: "اتفق العلماء على أن أصح الكتب المصنفة صحيحا البخاري ومسلم، واتفق الجمهور على أن صحيح البخاري أصحهما صحيحًا، وأكثرهما فوائدَ"، والحمد لله رب العالمين.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |