|
ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() عبرةُ اليقينِ في صدقةِ أبي الدَّحْداحِ د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم الحمدُ للهِ ذي الكرمِ، جزيلِ النِّعمِ، ودافعِ النِّقمِ، وأشهدُ ألّا إلهَ إلا اللهُ الباسطُ الحَكَمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه ذويِ المناقبِ والشِّيَمِ. أما بعدُ، فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]. أيها المؤمنون! أبو الدَّحْداحِ -رضيَ اللهُ عنه- صحابيٌّ لم تكن له هالةٌ من شهرةٍ، ولم يُحفظْ له نسبٌ سوى أنه كان حليفًا للأنصارِ. بيدَ أنَّ مجدَ يقينِه قد نُقِشَ في جبينِ المآثرِ الخالدةِ إلى يومِ الدينِ، حين سُطِّرَ به اسمُه في ديوانِ جنةِ الفردوسِ ولمّا يَزلْ حيًَّا بشهادةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم له؛ فما قصةُ تلك الشهادةِ النبويةِ؟ وما وَقْعُ ذلك اليقينِ؟ روى أَنَسُ بنُ مالكٍ -رضيَ اللهُ عنه-: أَنَّ رَجُلًا -وفي روايةٍ أنّه يتيمٌ- قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ" فَأَبَى، فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي -أي: مزرعتي كلِّها، وعددُ نخلِها ستُّمائةِ نخلةٍ -. فَفَعَلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي. قَالَ: فَاجْعَلْهَا لَهُ؛ فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ!" قَالَهَا مِرَارًا. قَالَ: فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ؛ فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ! أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا (رواه أحمدُ وصحَّحَه ابنُ حبِّانَ). هكذا حرَّك اليقينُ أبا الدحداحِ حين تشرّبَ قلبُه صِدْقَ نبأِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلم؛ فلم يَعُدْ ينظرُ لأمرِ الدنيا إلا بمنظارِ اليقينِ الجليِّ؛ فكانت رؤيتُه للوعدِ الإلهيِّ رؤيةَ المعايَِنةِ التي لا يعتريها تلكُّؤٌ أو استرابةٌ أو غَبَشٌ؛ وهكذا فِعلُ اليقينِ إنْ حلَّ في القلبِ؛ فكأنَّ أبا الدحداحِ يرى بيقينِه تلك النخلةَ على رَبْوةٍ عاليةٍ في الجنةِ بعذوقِها وبهائِها كأنما يَرى رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمامَه وهو يَعِدُ بها صاحبَ نخلةِ الدنيا، واليقينُ يأخذُ بمَجامعِ فكرِه في اهتبالِ فرصةِ الفوزِ بدخولِ الجنةِ بضمانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تلك النخلةَ فيها؛ إذ ضمانُها ضمانٌ لشاريها بدخولِ الجنةِ؛ وقد تلاشى أمام هذا اليقينِ كلُّ نعيمِ الدنيا ومُلْكِها بنخلةٍ في الجنةِ، كيف ومقدارُ القَوْسِ في الجنةِ خيرٌ من الدنيا وما حَوَتْه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَقَابُ قوْسِ أحدِكم في الجنةِ خيرٌ مما طلعتْ عليه الشمسُ أو تغربُ" رواه البخاريُّ. قد حرَّكَ ذلك الوعدُ النبويُّ في قلبِ أبي الدحداحِ ما قد حرَّكتْه آيةُ الاستقراضِ الربانيِّ من قبلُ؛ فكان اليقينُ في قلبِه مُضاعَفًا، ولم يُجْرِ حساباتِ الدنيا الماديةَ التي طالما كانت مانعًا من إدراكِ غنائمِ الوعودِ الربانيةِ التي لا يُتعاملُ معها إلا بمنظورِ اليقينِ الراسخِ والثقةِ المطلقةِ بصدقِ ما وَعَدَ اللهُ ورسولُه، كما هو حالُ المؤمنين الذي نوَّه اللهُ بهم في قولِه: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]. قال عَبْدُاللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رضيَ اللهُ عنه-: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ﴾ [البقرة: 245] قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ". قَالَ: أَرِنَا يَدَكَ، قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، قَالَ: قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي - وَحَائِطُهُ فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ -، فَجَاءَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْحَائِطَ وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا، فَنَادَى: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ! قَالَتْ: لَبَّيْكَ! قَالَ: اخْرُجِي؛ فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي! رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُمَا ثِقَاتٌ -كما قال الهيثميُّ-. اللهُ أكبرُ! هكذا يفعلُ اليقينُ! وهكذا تَطيبُ أنباءُ أهلِه ويروقُ سماعُها! لسانُ حالِ يقينِ أبي الدحداحِ أفصحَ عنه مقالُه؛ في رَجَزِه لزوجِه أمِّ الدحداحِ -رضيَ اللهُ عنهما- حين خاطبَها؛ يستنهضُ يقينَها، ويغريه؛ ليرتقيَ مع يقينِه إلى مصافِّه العليَّةِ وقتَ تممَّ بيعتَه مع اللهِ بشرائه نخلةً في الجنةِ بستِّمائةِ نخلةٍ في الدنيا مع أرضِها، فجاءها في البستانِ المُباعِ وهي مع صبيانِها تدورُ تحتَ النخلِ، يَطْعَمون ثمرَه، ويستظلون فَيْئَه، ويُمتِّعون النظرَ برؤيا جمالِه، وهم يستنشقون عَبَقَه، فأنشأَ يقولُ: هَدَاكِ رَبِّي سُبُلَ الرَّشَادِ ![]() إِلَى سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالسَّدَادِ ![]() بِينِي مِنَ الْحَائِطِ بِالْوِدَادِ ![]() فَقَدْ مَضَى قَرْضًا إِلَى التَّنَادِّ ![]() أَقْرَضْتُهُ اللهَ عَلَى اعْتِمَادِي ![]() بِالطَّوْعِ لَا مَنٍّ وَلَا ارْتِدَادٍ ![]() إِلَّا رَجَاءَ الضِّعْفِ فِي الْمَعَادِ ![]() فَارْتَحِلِي بِالنَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ ![]() وَالْبِرُّ لَا شَكَّ فَخَيْرُ زَادِ ![]() قَدَّمَهُ الْمَرْءُ إِلَى الْمَعَادِ ![]() فجاءَ جوابُها من نَسْجِ ما كان من يقينِه الراسي رُسُوَّ الجبالِ الشامخاتِ؛ ليلتقيَ اليقينان في مِعراجِ السموِّ الإيمانيِّ، ويَصيرا نَجْميْنِ في عليا سمائه، يقتدي بها السائرون إلى غايةِ مرضاةِ ربِّهم الراغبون في عطائِه، فخاطبتْه راجزةً تقولُ: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ وَفَرَحْ ![]() مِثْلُكَ أَدَّى مَا لَدَيْهِ وَنَصَحْ ![]() إنَّ لك الحظَّ إذا الحظُّ وَضَح ![]() قَدْ مَتَّعَ اللهُ عِيَالِي وَمَنَحْ ![]() بِالْعَجْوَةِ السَّوْدَاءِ وَالزَّهْوِ الْبَلَحْ ![]() وَالْعَبْدُ يَسْعَى وَلَهُ مَا قَدْ كَدَحْ ![]() طُولَ الليالي وعليه ما اجترح ![]() ثمَّ شَرَعَتْ أمُّ الدحداحِ في إتمامِ تنفيذِ صفقةِ البيعِ التي أبرمَها زوجُها أبو الدحداحِ مع ربِّه؛ فعَمَدَتْ إلى صبيانِها تُخرِجُ ما في أفواههِم من ثمرِ البستانِ، وتَنْفُضُ ما في أكمامِهم حتى أفضتْ إلى آخرِ الحائطِ؛ فالبيعُ مع اللهِ قد تمَّ، والوفاءُ من اللهِ كائنٌ يومَ الدِّينِ. خرجوا من مُلْكٍ فانٍ محدودٍ إلى مُلكٍ باقٍ ممدودٍ؛ جزاءً من عُذُوقِ الجنةِ التي لا تفنى، وعطاءً وافرًا من تلك العذوقِ بتكثيرِ الوعدِ النبويِّ وتكريرِه: "كَمْ مِنْ عِذْقٍ!"، وجاءت الرواياتُ بوصفِ تلك العذوقِ بقربِ التَّناولِ والتذلُّلِ: "كم من عذقٍ معلَّقٍ أو مُدلَّى" -كما في روايةِ مسلمٍ-، وبالكثرةِ والثِّقلِ والعظمةِ: "كم من عذقٍ رَدَاحٍ" -كما في روايةِ أحمدَ-، وبالرائحةِ الزاكيةِ " كم من عذقٍ راحٍ" -كما في روايةِ سعيد بن منصورٍ-، وبعلوِّ النخلةِ مع دنوِّ جَنْيِها: "كم من عذقٍ دوَّاحٍ" -كما في روايةِ ابنِ حبانَ-. فللهِ ما أبرَّ ذلك البيعَ! وما أربحَ تلك الصفقة! بَذَلْتَ الحَديقَةَ لِلإلهِ تَقَرُّبًا ![]() فَنِلْتَ نعيمًا في الأرائكِ باقيًا ![]() ![]() ![]() الخطبة الثانية الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.أما بعدُ، فاعلموا أن أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ... أيها المؤمنون! إنَّ المشهدَ الجميلَ الحاضرَ والحبلَ الناظمَ في تفاصيلِ نبأِ صدقةِ أبي الدحداحِ وزوجِه -رضيَ اللهُ عنهما-، هو ذلك اليقينُ الإيمانيُّ الجازمُ الذي كان به يتلقّى أبو الدحداحِ وزوجُه نصوصَ الوحيِ؛ تصديقًا بالأمرِ والوعدِ والجزاءِ؛ ويَنظران به إلى الغيبِ كالواقعِ المشاهدِ، فكان نورُ ذلك اليقينِ أعظمَ محرِّكٍ على مبادرِةِ الامتثالِ، وتخطِّي عقابيلِه ومثبِّطاتِه. قال أحمدُ بنُ عاصمٍ الأنطاكيُّ: "اليقينُ نورٌ، يجعلُه اللهُ في قلبِ العبدِ حتى يُشاهِدَ به أمورَ آخرتِه، ويَخْرِقَ بقوتِه كلَّ حِجابٍ بينه وبين ما في الآخرةِ، حتى يُطالِعَ أمورَ الآخرةِ كالمُشاهِدِ لها". وذلك اليقينُ من أخصِّ خصائصِ جيلِ الصحابةِ الفريدِ الذي حازوا به الفضائلَ، وفتحَ اللهُ لهم به الفتوحُ؛ إذ كانت قلوبُهم باليقينِ تَنْضَحُ، ونباُ أبي الدحداحِ شاهدُ ذلك. قال ابنُ القيِّمِ: "الصحابةُ أعلمُ الأمَّةِ على الإطلاقِ، وبينهم وبين مَن بعدهم في العلمِ واليقينِ كما بينهم وبينهم في الفضلِ والدِّينِ". كتب عمرُ لأبي عبيدةَ -رضيَ اللهُ عنهما-:"إنِّ النصرَ إنما يكونُ مع اليقينِ والثقةِ باللهِ". وليس للأمَّةِ مناصٌ من سلوكِ سبيلِهم إنْ رامتِ الظَّفَرَ بما ظَفِرَ به السابقون الأولون! وبتعلُّمِ ذلك اليقينِ وتحقيقِه كان أهلُ العلمِ يوصون ويَتواصون. قال خالدُ بن مِعْدانَ: "تعلَّموا اليقينَ كما تعلَّموا القرآنَ حتى تعرفوه؛ فإني أتعلَّمُه". وأوصى لُقْمَانُ الحكيمُ ابْنَه قائلًا: "يَا بُنَيَّ، الْعَمَلُ لَا يُسْتَطَاعُ إِلَّا بِالْيَقِينِ، وَمَنْ يَضْعُفْ يَقِينُهُ يَضْعُفْ عَمَلُهُ". وقال الحسنُ البصريُّ: "ما طُلبتِ الجنةُ إلا باليقينِ، ولا هُرِبَ من النارِ إلا باليقينِ، ولا أُدِّيَتِ الفرائضُ إلا باليقينِ، ولا صُبِرَ على الحقِّ إلا باليقينِ". و"مَن أيقنَ الخَلَفَ جادَ بالعطيةِ". وقد أبانَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ سُبُلَ تحقيقِ اليقينِ بقولِه: "وأما كيف يحصلُ اليقينُ؟ فبثلاثةِ أشياءَ؛ أحدُها: تدبُّرُ القرآنِ، والثاني: تدبُّرُ الآياتِ التي يُحدِثُها اللهُ في الأنفسِ والآفاقِ التي تُبَيِّنُ أنَّه حقٌّ، والثالثُ: العملُ بموجَبِ العلمِ، قال -تعالى-: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]". وسؤالُ اللهِ اليقينَ سبيلٌ كريمٌ على اللهِ لا يُرَدُّ طالبُه؛ فتلك وصيةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمَّتِه إذ يقولُ: "سَلُوا اللهَ الْيَقِينَ، وَالْعَافِيَةَ؛ فَإِنَّمَا أُوتِيَ عَبْدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرٌ مِنَ الْعَافِيَةِ" رواه الضياءُ في المختارةِ وأصله عند أحمدَ وصححَه الألبانيُّ. وكان من دعائه: "وارْزُقْنِي مِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا" رواه الحاكمُ وصحَّحَه. ربَّاه هبْ للمؤمنين يقينَهم ![]() حتى يَروا وَعْدَ العزيزِ عَيانا ![]() ![]() ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |