سلسلة شرح الأربعين النووية - الصفحة 4 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شكر النعم سبيل الأمن والاجتماع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          نملة قرصت نبيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          المسلم الإيجابي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الضحك والبكاء في الكتاب والسنة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          من مفاسد التصوير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          ضيافة الصديق سعة بعد ضيق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          طلب العلم وتعليمه فضائل وغنائم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أقنعة الزيف.. حين يصبح الخداع طبعا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          مكانة العلماء في ضوء الكتاب والسنة وهدي السلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 25-09-2025, 03:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 30: «إن الله عز وجل فرض فرائض...»


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].


﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].


﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.


عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها،وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»[1].


عباد الله،هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ورغم تضعيف بعض العلماء له من حيث إسناده، فإن مرادنا وتركيزنا على معانيه، ومعانيه صحيحة بشواهد أخرى. والحديث في بيان أحكام الدين، وهي أربعة أقسام: فرائض، وحدود، ومحارم، ومسكوت عنه.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
1- عدم تضييع الفرائض: الفرائض هي ما أوجبه الله على عباده، ومنها في باب العبادات؛ كالتوحيد، والصلاة، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وغيرها. وكل عبادة لها فرائض بالمعنى الفقهي عند الفقهاء التي لا تصحُّ بدونها؛ كالنية في كل العبادات وقراءة الفاتحة في الصلاة. والفرض منه ما هو عيني؛ كإقامة الصلوات الخمس، فتجب على كل واحد توفَّرت فيه شروط الصلاة بعينه. وفرض كفاية؛ بحيث لو قام به البعض يكفي؛ كصلاة الجنازة، والجهاد في سبيل الله.


وهناك فرائض في أبواب المعاملات والعلاقات بين الناس؛ كَبِرِّ الوالدين؛ قال تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23]. والعدل والوفاء بالعقود والعهود والالتزامات وغيرها؛ قال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1].


وهذه الفرائض يجب عدم تضييعها؛ بل من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربِّه، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه"[2]، فحافظوا على فرائض الله- عباد الله- تنالوا وتفوزوا بمحبَّة الله.


2- عدم الاعتداء على حدود الله: قال تعالى: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 229]. وحدود الله هي أوامره ونواهيه، وهي تشمل الفرائض والمحرَّمات والحدود الشرعية (يعني العقوبات المحددة)؛ فمثلًا: حد الزاني والزانية الجلد إذا كانا غير محصنين؛ قال تعالى:﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2]، وحد السارق قطع اليد من الرسغ (المعصم) إذا تحققت فيه الشروط؛ كأن تكون قيمة المسروق ربع دينار فصاعدًا؛ قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة: 38]، والتي توفي عنها زوجها تعتدُّ أربعة أشهر وعشرة أيام؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234].


فعلى الأمة الرجوع إلى حدود الله، وعدم الاعتداء عليها بتحكيم شرعه في العقوبات والجنايات، وعدم استنساخ قوانين غيرها، وترك شريعة ربها وراءها ظهريًّا.


3- عدم انتهاك المحرمات: والمحرمات هي الأمور المنهي عنها في كتاب ربنا أو في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم. وهي قسمان: كبائر الذنوب التي فيها وعيد شديد؛ كالشرك، وقتل النفس المحرمة، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور، وشرب الخمر، والسحر، والزنا، والسرقة، وغيرها؛ فوجب اجتنابها، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31]، وصغائر الذنوب وهي التي ليس فيها وعيد شديد؛ كنظر الفجأة، والتأخُّر عن صلاة الجماعة، وكثرة الكلام بما لا فائدة فيه، وإساءة الأدب في الكلام دون سبٍّ أو قذف، وسماع الكلام الباطل؛ كالغيبة دون المشاركة فيها، وتطويل الأظافر، وغيرها. وإدمان الصغائر يجعلها من الكبائر، ومن المكفِّرات لها ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر"[3].


فاللهم اجعلنا من المحافظين على فرائضك، الواقفين عند حدودك، المجتنبين لمحارمك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بـ:
4- عدم البحث عن المسكوت عنه: وهي الأمور التي لم يرد فيها نصٌّ بإيجاب أو تحريم، وسكتت عنها الشريعة تخفيفًا على العباد؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "وسكت عن أشياء رحمةً بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها"، فوجب السكوت عنها حتى لا تأتي أحكام تكون فيها المشقة، وهذا النهي خاص بزمان نزول الوحي، أو السؤال عن تفاصيل دقيقة وأمور غير مهمة لا تنفع السائل في شيء؛ قال تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة: 101، 102].


ومثال الأمور المسكوت عنها: السؤال عن اسم كلب أصحاب الكهف، أو تعيين عددهم، أو اسم الغلام الذي قتله الخضر، أو اسم مؤمن آل فرعون، أو موضع جبل الطور، أو التشدُّد في تعيين ليلة القَدْر، أو تعيين وقت قيام الساعة، أو وقت زوال دولة الاحتلال الإسرائيلي، أو مكان دفن الأنبياء، أو تعيين أسماء المنافقين، أو تعيين وقت النفخ في الصور، وغيرها؛ إذ لو كان فيه فائدة في معرفتها لوجدنا الجواب في القرآن أو السُّنَّة.


ومثالها كذلك السؤال عن حكم الأطعمة التي لم يرد نص في تحريمها، أو حكم ركوب السيارة والطائرة أو استعمال الوسائل الحديثة المبتكرة، أو الألعاب المبتكرة إذا خلت من القمار أو المحرمات، فهذه الأمور وغيرها على قاعدة "الأصل فيها الإباحة ما لم يرد دليل في التحريم، أو يترتب عنها ضرر"، وقاعدة "ما سكتت عنه الشريعة فهو عفو".


والفائدة في هذا السكوت، إلى جانب الرحمة والشفقة، توجيه الأمة الى الاشتغال بما ينفعها، والابتعاد عن الجدال العقيم الذي لا يثمر عملًا، وتحقيق علم الله المطلق لكل الأشياء، فيشعر العبد بضعفه وجهله، فتجنَّبوا- رحمكم الله- كثرة السؤال، أو البحث بتكلُّف في الأمور المسكوت عنها، ولا تُضيِّقوا ما وسَّعه الله عليكم، ولا تتشددوا فيشدد الله عليكم، والتزموا الوسط، فشريعة الله عدل وسط، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.


فاللهم اجعلنا من المشتغلين بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم. آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه الدارقطني، رقم: 4396. وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريجه لرياض الصالحين، رقم: 1832. وضعَّفه الألباني في تحقيقه لرياض الصالحين، رقم: 1841.

[2] رواه البخاري، رقم: 6502.

[3] رواه مسلم، رقم: 233.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #32  
قديم 25-09-2025, 03:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 31: «ازهد في الدنيا يحبك الله...»




عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبَّني الله وأحبَّني الناس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، بين فيه سبب محبة الله للعبد، وسبب محبة الناس للعبد.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
1- الحرص على الخير: فالصحابة- رضوان الله عليهم- من أحرص الناس على الخير، ولا أدلكم على ذلك من هذا السؤال لسهل بن سعد الساعدي- رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، دلني على عمل إذا أنا عملته أحبَّني الله وأحبَّني الناس؟". وقد رأينا في الحديث التاسع والعشرين سؤال معاذ بن جبل- رضي الله عنه- للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أخبرني بعمل يُدخِلني الجنة ويُباعِدني عن النار"[2]؛ فدلَّ على حرص معاذ على هذا العمل الذي يُدخِل الجنة ويُبعِد من النار. وسهل بن سعد الساعدي في هذا الحديث يسأل عن سبب نيل محبة الله، وسبب نيل محبة الناس، ولا شك أنه سؤال عظيم يدلُّ على الحرص على الخير؛ لأن من أحبَّه الله يضع له القبول في الأرض، ومن أبغضه يضع له البغضاء في الأرض، ومن أحبه الناس أكرموه وسمعوا لدعوته وألفوه، ومن أبغضه الناس تركوا الأخذ عنه، فتخسر دعوته.

ونستفيد من هذا- إخواني- أن نحرص على السؤال عما ينفعنا من أمور ديننا ودنيانا، وأن نأخذ بأسباب نيل محبة الله ومحبة الناس. فما هي هذه الأسباب؟

2- السبب الأول: ازهد في الدنيا يحبك الله: الزهد أن تترك في الدنيا ما لا ينفع في الآخرة، والورع أن تترك ما تخاف ضرره في الآخرة [3]. وليس من الزهد ترك الدنيا بالكلية ولبس الخشن من الثوب، وأكل الرديء من الطعام، أو ترك الزواج، أو الزهد في العلم الشرعي، وغيرها من مظاهر الزهد الظاهري، كلا، بل الزهد الحقيقي في زهد القلب عن حب الدنيا والركون إليها، ولو كان من أغنى الناس، فهذا سليمان عليه السلام طلب الدنيا وقال: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]؛ فسخَّر الله له الجن والريح وغير ذلك من مظاهر الملك والرياسة، ومع ذا كان أزهد الناس، فلما ألهته الدنيا- ومنها الخيل- عن ذكر ربه، وعن صلاة العصر ضربها بالسيف؛ قال تعالى: ﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ [ص: 32، 33]، وبهذا نال محبة الله فجمع له بين النبوَّة والملك؛ قال تعالى: ﴿ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 39، 40]. والنبي صلى الله عليه وسلم إمام الزاهدين، وله تسع نسوة، وبعض الصحابة كانوا من أزهد الناس، ولهم من المال الشيء الكثير؛ كأبي بكر الذي تصدَّق بكل ماله، وعمر الذي تصدَّق بنصف ماله، وعثمان الذي جهَّز جيش العسرة رضي الله عن الجميع.

فالأنبياء والصالحون من العلماء العارفين عرَفوا معنى الزهد الحقيقي، وأخذوا بأسباب النجاة يوم القيامة، وفقهوا خطاب ربهم الذي يبين حقيقة الدنيا في قوله تعالى: ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [النحل: 96]. فالزاهد يعلم أن ما عنده من زخرف الدنيا إلى زوال. وقوله تعالى:﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20]، فالزاهد يعلم أنها لعب ولهو وزينة، وأنها متاع الغرور. وقوله تعالى: ﴿ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 23]، فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود. فقهوا هذه الآيات وغيرها في معنى الزهد، وفقهوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها"[4]. فهموا من الحديث أن موضع العصا خير من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها، بكل ما فيها من نعيم وترف. فهل يفضل عاقل- بعد هذا- الدنيا؟ وكيف يؤثر أقوام الدنيا على الآخرة؟ وكيف ينغمسون في شهواتهم، ويتكاسلون عن الصلوات، ويتثاقلون عن ذكر الله، ويخونون الأمانات؟ وكيف يعملون لها ويحبون من أجلها ويبغضون من أجلها وهم يعلمون أنهم عنها راحلون؟

فاللهم اجعلنا ممن آثروا الآخرة على الدنيا، وآتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كذلك بـ:
3- ازهد فيما عند الناس يحبك الناس: مفتاح السعادة الحقيقية في العلاقة مع الناس، ومفتاح جلب محبتهم، هو الزهد مما في أيديهم من حطام الدنيا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"؛ لأن الناس مجبولون على كره من ينازعهم ما في أيديهم. قال الشافعي رحمه الله:
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها
وإن تجتذبها نازعتك كلابها




وليس كذلك من الزهد مما في أيدي الناس، رفض مساعدتهم فيما يقدرون عليه، فهذه مخالفة لسنن الله، الذي سخَّر البعض لخدمة البعض؛ قال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]، فلا نقول: من الزهد إذا مرضت أن تزهد في خدمات الطبيب، وإذا تعطلت سيارتك أن تزهد في خدمات الميكانيكي، فهذا زهد أعوج لا تستقيم معه الحياة. وذم سبحانه الذين يمنعون الماعون؛ قال تعالى: ﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴾ [الماعون: 7]، فلا تمتنع من تقديم خدماتك ومهاراتك لمساعدة إخوانك وما يسهم في تقدم الإسلام والمسلمين؛ لكن بالمقابل لا تطمع في أحد، ولا تطمع فيما ليس من حقك؛ كأكل الميراث، أو الغش في المعاملة، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو التنافس والغضب لأجل دنيا الناس، أو مجاملتهم على حسب دينك، قال صلى الله عليه وسلم: "من التمس رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس"[5].

فاللهم اجعلنا من الزاهدين مما في أيدي الناس، المتعاونين مع إخوانهم على البر والتقوى. آمين.


(تتمة الدعاء)...

[1] رواه ابن ماجه، رقم: 4102. وصححه الألباني في تحقيقه لرياض الصالحين، رقم: 476.

[2] رواه الترمذي، رقم: 2616. وقال: حديث حسن صحيح. وانظر: صحيح الجامع، رقم 5136.

[3] انظر: مدارج السالكين، ابن القيم: 2/ 12.

[4] رواه البخاري، رقم: 2892.

[5] صحيح الترغيب، رقم: 2250.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #33  
قديم 25-09-2025, 03:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت


الحديث 32:((لا ضرر ولا ضرار))


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهَدْيِ هَدْيُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحْدَثاتُها، وكلَّ مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي سعيد الخدري سعد بن سنان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا ضرر ولا ضرار))[1].

عباد الله: هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلِمه صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث الذي يدور عليها الفقه، وأصل لقاعدة الفقهاء: (لا ضرر ولا ضرار)، ومعناها: (لا ضرر)؛ أي: لا يصدر منك الضرر كيفما كان تجاه نفسك، أو تجاه أخيك المسلم بدون حقٍّ، و(لا ضرار)؛ أي: لا تعامل بالمثل مع من ضرك، فتلحق به الضرر بناءً على ضرره الأول، فهو – إذًا - تحقيق لمصالح العباد، ودفع المفاسد عنهم، وحث على مكارم الأخلاق، ونهي عن الظلم والاعتداء؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا))[2]، وهذا الحديث له فوائد عظيمة وتطبيقات في واقعنا.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
1- النهي عن الضرر: وله أمثلة كثيرة في الواقع؛ منها:
عدم الغلو والتشدد والإفراط في العبادة؛ لأن فيه ضررًا بالنفس، ويفضي إلى عدم الاستمرار، فوجب التزام منهج الوسط والاعتدال، كمن يصوم صوم الوصال - يعني يصوم يوميًّا ولا يفطر - أو من يقوم الليل كله دائمًا ولا ينام، أو يترك الزواج للتفرغ للعبادة رغم حاجته إليه؛ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((إن الدين يُسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا)))[3]، فالمظاهر السابقة غلو، وإضرار بالنفس وربما بمصالح الغير، تصوروا معي موظفًا يقوم الليل، ولا يأخذ قسطًا من الراحة، ويأتي إلى عمله كسلانًا، ألَا يضر هذا بمصالح الناس وحوائجهم؟

في مجال الأسرة والحياة الزوجية؛ قد يضر الإنسان بزوجته إذا امتنع عن الإنفاق، وتضر به إذا امتنعت عن فراش الزوجية؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 34]، وقد يقع بينهما شقاق، ولا سبيل إلى الإصلاح، فيتركها الزوج معلَّقة، فلا هي بزوجة ولا مطلَّقة، وهذا فيه ضرر؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 231]، وقد ترفض المطلقة إرضاع ابنها إضرارًا بأبيه، وهذا ضرر بالأب والابن؛ قال تعالى: ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ﴾ [البقرة: 233]، وقد يضر الاب ابنته فيمنعها من الزواج ممن تحب - إذا كان صالحًا - أو يزوجها ممن تكره، أو يزوجها بغير إذنها أو رضاها، وهذه الصور كلها من الضرر لا تقرها الشريعة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 232]، وقد يوصي الأب بأكثر من ثلث ماله إضرارًا بباقي الورثة، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص من الوصية بأكثر من الثلث، أو يوصي لوارث؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلا وصية لوارث))[4].

وفي العلاقات الاجتماعية والتجارية؛ قد يضر الإنسان بجاره فيلقي – مثلًا - القمامة أمام منزله، أو يُقلق راحته برفع الأصوات، أو يتجسس على عورة بيته، وغيرها من أنواع الضرر مخالفًا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم بالجار؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه))[5]، والبوائق هي الشرور والظلم والتعدي، وقد يغش البائع في السلعة، أو يخفي عيوبًا في المبيع، أو يحتكر سلعًا عن الناس في وقت الحاجة إليها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((من احتكر فهو خاطئ))[6]، أو يقرض المقرض بالربا، أو يعطي الراشي رشوةً لإبطال حق أو استحقاق ما ليس له، وكل هذا من الضرر وأكل أموال الناس بالباطل.

وفي التكنولوجيا والإعلام المعاصر؛ من ينشر الشائعات على وسائل التواصل، أو يخترق حسابات الآخرين، أو يسرق بياناتهم، أو ينشر صورًا بغير إذنهم، أو يشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ بنشر صور أو فيديوهات مخلة بالحياء، وغيرها، كل هذا من صور الإضرار بالآخرين، وهي صور كثيرة في مختلف المجالات، وقصدنا التنبيه على بعضها لأجل تجنبها.

فاللهم إنا نعوذ بك من إلحاق الضرر بالآخرين، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن لآثارهم اقتفى؛ أما بعد:
فمن المستفادات في الحديث كذلك:
2- النهي عن الضرار: والضرار هو التعامل بالمثل مع من ضرَّك، فتلحق به الضرر بناءً على ضرره الأول – كما أسلفنا - أو تزيد بضرر أكبر مما ضرك به، وله أمثلة كثيرة في الواقع؛ منها:
أن تضرب من سبَّك؛ كثيرًا ما نعاقب من أساء في حقنا بأكثر مما فعل بنا، وهذا ظلم؛ لأن المعاملة بالمثل عدل تقره الشريعة لمن أراد سلوك هذا المسلك، وترك المعاقبة بالمثل مندوب وخير ومستحب؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 232]، ولا شك أن الضرب أكثر من السب وفوقه في الرد، فلا يجوز لك أن تضرب من سبَّك، لأنه نوع من الإضرار بأخيك.

بل إذا ترتب عن المعاملة بالمثل إلحاق الضرر بجهة أخرى لا يجوز، كمن يسبك وتسب أنت والديه، فما دخل الوالدين في الموضوع؟ وهذا كثير في الواقع، بل من الكبائر أن تتسبب في لعن والديك من غير قصد؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه))[7] ، ونهى الله المسلمين من سب آلهة المشركين وهي باطل، حتى لا يفضي ذلك إلى أن يسبوا الله الحقَّ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108].

توسيع دائرة الضرر عن طريق المعاملة بالمثل دون فائدة؛ فإذا تسبَّب لنا الجار في رمي نُفاياته أمام المنزل وعاملناه بالمثل، وإذا أتلف لنا شخص مالًا أو محصولًا زراعيًّا وعاملناه بالمثل دون المطالبة بالضمان، وإذا كنت أسوق سيارتي وأضرني سائق بسبب عدم احترامه لقانون السير، أو التهور في السياقة، فعاملته بنفس التهور، وإذا قاطعني قريب أو لم يستجب لدعوتي إياه لوليمة، وعاملته بنفس المقاطعة وعدم الاستجابة، وعلى هذا القياس، فمتى يصلح حال الأمة والأفراد؟ ومتى نعدل علاقاتنا فيما بيننا؟ ومتى سينتهي الفعل ورد الفعل؟ بل من طبيعة البشر في الرد؛ أن يرد الصاع صاعين، ويكيل بمكيالين، وينتقم شرَّ انتقام؛ فاحفظوا وصية نبينا صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))، وتجنبوا البدء بالضرر، وتجنبوا مقابلة الضرر بالضرر، فمن ضارَّ ضرَّ الله به، ومن شاقَّ شقَّ الله عليه.

فاللهم إنا نعوذ بك من إلحاق الضرر بالآخرين، ونعوذ بك من مقابلة الضرر بالضرر، آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] رواه مالك في الموطأ، رقم: 600، وابن ماجه، رقم: 2341، والدارقطني، رقم: 3079، وصحَّحه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم: 250.

[2] رواه مسلم، رقم: 2577.

[3] رواه البخاري، رقم: 39.

[4] رواه البخاري، رقم: 39.

[5] رواه البخاري، رقم: 6016.

[6] رواه مسلم، رقم: 1605.

[7] رواه البخاري، رقم: 5973.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #34  
قديم 25-09-2025, 03:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 33: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر»



عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعَى رجالٌ أموالَ قومٍ ودماءهم، ولكن البيِّنة على المدَّعي، واليمين على من أنكر» [1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، ومن الأحاديث التي يدور عليها الفقه، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام. وضع أسس الحكم بين الناس حتى تُصان الحقوق، وتُحفظ الأعراض، ويُقام العدل، ويأخذ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
1- بعض تطبيقات القاعدة في مجال الدعوة إلى الله: من ذلك:
تأييد الله رسله بالبينات والمعجزات:الله عز وجل أرسل الرسل، ومن طبيعة البشر طلب البينة على الدعوى؛ دعوى الرسالة، فأيَّد الله رُسُلَه بالبيِّنات حتى يصدقهم الناس؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [الحديد: 25]؛ ولذلك طلب فرعون من موسى البينة، فقال: ﴿ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [الأعراف: 106]، فأيَّده الله بالعصا وغيرها. وصالح عليه السلام قال لقومه: ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ﴾ [الأعراف: 73]. ورسولنا صلى الله عليه وسلم أعطاه الله القرآن كدليل وبرهان على رسالته، وتحدَّى قومه بأن يأتوا بمثله، أو بسورة، أو آية؛ فلم يستطيعوا، قال صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"[2]. فالله عز وجل أيَّدهم بالبينات الدالة على صدق دعواهم بالرسالة، فالبينة على المدعي.

وعلى الدعاة إلى الله عز وجل التسلُّح بالعلم والحجة والبينة والدليل في مخاطبة الناس؛ حتى يكون لكلامهم صدق وقوة وجاذبية، فإذا أرادوا تقرير عقيدة البعث، أو تحريم شيء من المحرمات؛ كالربا والخمر وغيرهما، أيَّدوا كلامهم بالأدلة من القرآن والسُّنَّة، والاستعانة بالأدلة العقلية كذلك؛ حتى يستطيعوا تفنيد الشبهات، واستمالة الناس بقوة الحجة والبيان.

بطلان دعوى من لا بينة له، ومن ذلك:
بطلان دعوى أدعياء النبوَّة: هناك أدعياء النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كمسيلمة الكذَّاب، والأسود العنسي، وغيرهما، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجَّالون كذَّابون، قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله"([3]). والمقرر في عقيدتنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء؛ قال تعالى: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40]، ولأن هؤلاء دجَّالون كذَّابون فقد عجزوا عن إثبات دعواهم بالبيِّنة، وإنما دفعهم لذلك الهوى وحب الزعامة والسلطة وغيرها من الأسباب. وقد قبض على أحدهم يدَّعي النبوَّة، فقيل له: لمن بعثت؟ فأجاب: ما تركتموني حتى أبعث، بعثت في الصباح وقبضتم عليَّ في المساء! فهؤلاء وأمثالهم أحقر من أن يقيموا البينة على دعواهم.

بطلان دعوى اليهود والنصارى: نقرأ في القرآن الكريم بعض ادِّعاءات اليهود والنصارى، وهي ادعاءات باطلة ومرفوضة؛ لأنها غير مسنودة بالبينة والدليل، ومن ذلك مثلًا قول اليهود والنصارى كما حكى الله عنهم: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ [المائدة: 18]، وهذه دعوى تحتاج إلى بينة ودليل؛ ولذلك أمر الله رسوله بالرد عليهم فقال له: ﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [المائدة: 18]، فالله عز وجل لا يعذب من أحب؛ بل أنتم بشر كالبشر، من أحسن منكم جازاه بالجنة، ومن أساء منكم عاقبه بالنار. كما ادعى اليهود أن عزيرًا ابنُ الله، وادعت النصارى أن عيسى ابنُ الله، وادعوا أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودات، وهذا وغيره من ادعاءاتهم الباطلة المذكورة في القرآن؛ لأنه لا بيِّنة لهم فيها، بل كذَّبها الله عز وجل فيما كذَّب من تحريفاتهم لكتبهم.

فاللهم إنا نعوذ بك من الادعاء والتقوُّل عليك، وعلى نبيِّك بغير علم ولا حق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
من المستفادات في الحديثكذلك:
2- بعض تطبيقات القاعدة في مجال الفقه والقضاء: فمن اتهم رجلًا أو امرأةً بالزنا فعليه أن يقيم البينة على دعواه، وإلا عُدَّ قاذفًا؛ فيطبق عليه الحد، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4]، فلا بد من أربعة شهود من الرجال لإثبات شهادة الزنا. والزاني أو الزانية إذا اعترافا فهو بينة، أو ظهر حمل المرأة.

ويطلب القاضي شهادة رجلين في الحدود؛ كالقتل والسرقة والخمر وغيرهما؛ قال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ [الطلاق: 2].

وفي الحقوق المالية؛ كالبيع والقرض، فلا بد من شاهدين أو شاهد وامرأتين؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282].

وفي الأمور التي لا يطَّلِع عليها إلا النساء تقبل شهادتهن بشرط أن تكون المرأة ثقةً؛ كأمور الرضاع والولادة والبكارة وغيرها. فإذا قالت المرأة أنها أرضعت فلانًا أو فلانة يسمع لها؛ لأن ذلك له أثر في الزواج، وغيرها من الأحكام.

والمدعى عليه إذا لم يستطع المدعي إقامة الحجة، فإنه يحلف؛ لأن اليمين أقل حجةً من البينة، قال صلى الله عليه وسلم: «واليمين على من أنكر». والحلف يكون بالله، وإذا رفض المدعى عليه الحلف فهو اعتراف وإقرار بدعوى المدعي.

عباد الله، اعلموا ما لهذه الشهادة وما لهذا الحلف واليمين من عواقب وخيمة في زمن انتشرت فيه شهادة الزور، وفسدت الذمم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجالٌ أموالَ قومٍ ودماءهم". واستهان كثير من الناس في هذا الزمان بأمر الحلف؛ نتيجة ضعف إيمانهم ودينهم. وأدوا الشهادة كاملةً من غير زيادة أو نقصان، ولا تحلفوا على الكذب والزور والبهتان، فهي يمين غموس تغمس صاحبها في النار؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]، وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين صَبْرٍ (أي: يترتب عليها الحكم)، يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان»[4].

وعلى قضاتنا ومن يتولى الحكم بين شخصين تحرِّي الصواب بالاجتهاد، وعدم الجور في الحكم؛ قال صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة؛ رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار»[5]. وعليهم زجر ووعظ الشهود قبل أداء الشهادة، ووعظ الحالف قبل حلفه، بتذكيره بعاقبة الأيمان الكاذبة.

فاللهم أصلح قضاتنا وولاة أمرنا، واجعلنا ممن يخشاك في الغيب والشهادة، ويقول كلمة الحق في الرضا والغضب. آمين.


(تتمة الدعاء)...

[1] رواه البيهقي في الكبرى، رقم: 21201. وحسنه النووي في الأربعين.

[2] رواه البخاري، رقم 4981.

[3] رواه البخاري، رقم 3609.

[4] رواه البخاري، رقم: 6676.

[5] صحيح ابن ماجه، رقم:1887.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #35  
قديم 25-09-2025, 03:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 34: «من رأى منكم منكرًا فليغيره...»


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أَمَّا بعدُ:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، نص على وجوب إنكار المنكر، والمنكر ضد المعروف، وهو كل ما يستقبحه الشرع ويحرمه؛ لفساده وضرره من كل المعتقدات والأقوال والأفعال والأحوال. وقد أمر الله بتغيير المنكر في قوله: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104]. فكون فئة من الناس هي الآمرة والناهية، فيه دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية. وإذا كثر المنكر وترك الناس النهي؛ فسد المجتمع، فالمجتمع كسفينة يركب فيها الجميع، ولا ينبغي السماح للمفسدين أن يخربوها؛ وإلا سيغرق الجميع، ويوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده؛ الصالح والطالح؛ قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟

نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
1- إنكار المنكر باليد واللسان وضوابطه: قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه»، دلالة الحديث فيها وجوب إنكار المنكر على كل فرد، فهو بهذا فرض عين، لإرادة النصح للمسلمين، ولكن لا يتعيَّن إلا بشروط وضوابط ذكرها أهل العلم؛ ومنها:
العلم: فقبل إنكار المنكر لا بد من العلم أنه منكر، حتى لا ينكر ما هو معروف أو يأمر بما هو منكر، فيشبه المنافقين الذين قال الله فيهم: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ ﴾ [التوبة: 67]، فالعلماء ليسوا كغيرهم لعلمهم بالمنكر، ومن اشتبه عليه الأمر فليسأل العلماء قبل الإنكار. والمنكر الذي ينكر هو البارز الظاهر وليس بالبحث عنه والتجسس على الناس، وأن يكون مجمعًا عليه وليس مختلفًا فيه؛ إذ المعلوم عند العلماء أنه: لا إنكار في مسائل الخلاف.

القدرة: أي إن الشخص يكون قادرًا على إزالة المنكر دون أن يترتب على هذه الإزالة ضرر أكبر؛ كمن له سلطة أو وجاهة. فالدولة بأجهزتها لها القدرة أكثر من غيرها، ووجهاء وأعيان البلد لهم القدرة أكثر من غيرهم، والمسؤول عن قطاع معين له القدرة على موظفيه أكثر من غيره، والأب له القدرة على زوجته وأبنائه أكثر من غيره، وهكذا. وفي الأثر عن بعض السلف: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"؛ أي: يمنع بالسلطان من اقتراف المحارم أكثر مما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس ضعيف الإيمان. فإذا وجد الشرطي مثلًا طبق قانون السير والمرور، لكن إن لم يجده، خرق القانون.

اختيار أحسن الطرق والوقت المناسب والصبر: لقوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]. ومراعاة الرفق في الإنكار وترك الفظاظة والغلظة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه»[2]، فالذين يفقدون الحكمة، والرفق، واختيار أنسب العبارات، وإنزال الناس منازلهم، يفسدون أكثر مما يصلحون، ثم لا بد من الصبر والحلم على رد فعل المدعو، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأسوة في الصبر على أذى المشركين؛ قال بعض السلف: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمر به، فقيهًا فيما ينهى عنه، رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به، حليمًا فيما ينهى عنه»[3].

* ألا يفضي تغيير المنكر إلى منكر أو فوضى أكبر منه: كمن يُجوِّز الخروج على السلطان بدعوى ارتكابه بعض المعاصي، فإن الخروج عليه غير جائز، وسيترتب عليها فوضى أعم تأتي على الأخضر واليابس، والواقع خير شاهد على هذا. وإذا كنت تعرف أن النكير على شاربي الخمر سيفضي إلى القتال وإزهاق الأرواح، تترك هذا النهي حتى لا يترتب عليه مفسدة أكبر، وهذا من القواعد الشرعية. وهذا ابن تيمية رحمه الله قال: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم"[4].

هكذا كان فقه علمائنا – أيها الإخوة المؤمنون- فاجتهدوا في التفقه في الحلال والحرام، ومعرفة الخير؛ لتعملوا وتأمروا به، ومعرفة الشر لتحذروه وتحذروا منه. فاللهم فقهنا في ديننا، وبصرنا بما ينفعنا وما يضرنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
من المستفادات في الحديث كذلك:
2- إنكار المنكر بالقلب فرض عين على الجميع: إذا كان المنكر باليد واللسان يحتاج إلى قدرة واستطاعة، فإن الإنكار بالقلب في مقدور كل أحد، ولا يترتب عليه رد فعل من المنكر عليه، فالقلوب لا يَطَّلِع عليها إلا الله. ولأنه أدنى مراتب الإنكار، وقليل الأثر والفاعلية، عُدَّ من أضعف الإيمان؛ قال صلى الله عليه وسلم: «فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وفائدة الإنكار بالقلب عدم تطبيع النفس مع المنكر، فالمطبع مع المنكر يألفه ولا ينكره ويتحوَّل عنده إلى معروف بالتدرج، ثم إن من أدمن إنكار المنكرات بقلبه يحمله ذلك على التدرُّج إلى مرتبتي الإنكار باليد واللسان حال توفر الاستطاعة، فضلًا عن وقاية نفسه من الانغماس فيه.

قال صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء (أي: نقطة)، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَدًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا (أي: إناء معكوس)، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه»[5]. فمن أنكر الفتن والمنكرات ولم يستجب لها، ترك في قلبه نقطة بيضاء حتى يصبح أبيض، ومن لم ينكر المنكرات ويتطبع معها يسودّ قلبه، وتنقلب عنده الموازين؛ فيصبح عنده المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، فلا يعرف من المعروف إلا ما وافق هواه.

فاللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف، الناهين عن المنكر، وارزقنا صفاءً في القلب. آمين.
(تتمة الدعاء).

[1] رواه مسلم، رقم: 49.

[2] رواه مسلم، رقم 2594.

[3] الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ابن تيمية، ص 21.

[4] أعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن القيم: 3/13.

[5] رواه مسلم، رقم 231.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #36  
قديم 25-09-2025, 03:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 35: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا...»

عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبِعْ بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» [1].

عباد الله،هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وعظيم النفع، حثَّ على الأخوة الإيمانية وحذر من كل ما يناقضها؛ كالحسد والخداع والتباغض والتدابر والاحتقار وغيرها، وحرم دم المسلم وماله وعرضه.

فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
1- الحث على الأخوة الإيمانية:لقوله صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم». وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. فالرباط الذي يجمع المؤمنين رغم اختلاف أوطانهم ولغاتهم وألوانهم وأعراقهم وأجناسهم وقبائلهم، هو رباط العقيدة والإيمان، وهي أقوى الروابط كلها وتقدم عليها عند التعارض. كما تبرَّأ إبراهيم عليه السلام من أبيه لما كفر، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: 114]. وعجيب أن نرى في واقعنا غياب اللحمة والتعاون والتآزر والتآخي بين المسلمين؛ بل أصبحت العصبية لروابط أخرى؛ كاللون واللغة والقبلية والوطن، وتهميش الرابطة الدينية. وما ذاك إلا لعدم الأخذ بأسباب تقوية هذه الرابطة والقيام بحقوقها، وهو موضوع الفائدة الثانية.

2- حقوق الأخوة الإيمانية والأخذ بأسباب تنميتها:ومما ذكر في الحديث من الحقوق والأسباب ما يلي:
تجنب الحسد:لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا». فحينما تتمنَّى زوال النعمة التي أنعم الله بها على أخيك، حسدًا من عند نفسك، وتكون هذه النعمة إليك أو إلى غيرك، فأنت بهذا تعترض على قسمة الله، وتقضي على الرابطة الإيمانية بينك وبينه.

وتأملوا- إخواني- حسد إخوة يوسف عليه السلام له وما آل إليه أمرهم، كما قصَّ الله علينا في سورة يوسف. وتأملوا الحسد الذي أدى إلى قتل قابيل لهابيل ابني آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة: 27]. فاجتهدوا في أن تحبوا لإخوانكم مثل ما تحبون لأنفسكم تجلبوا المودة والمحبة بينكم.

تجنب النجش: لقولهصلى الله عليه وسلم: «ولا تناجشوا». والنجش هو الذي يمكر ويحتال ويخادع أخاه عمومًا وفي البيع خصوصًا. وعند الفقهاء هو الذي يزيد في السعر رغم أنه لا نية له في شراء السلعة، فيتضرر المشتري بذلك؛ لأنه اشترى بغير الثمن الحقيقي. فعلينا التزام الصفاء والوضوح في معاملاتنا، وألا نغش إخواننا أو نأكل أموالهم بالباطل.

تجنب التباغض: لقولهصلى الله عليه وسلم: «ولا تباغضوا». فكل ما ينشر التباغض بين المسلمين وجب تركه، فالغيبة والنميمة والظلم والغش والخداع والتجسس وغيرها تنشر الحقد بين المسلمين. وبالمقابل، كل ما ينشر المحبة والأُلْفة بينهم؛ كالإصلاح بين المتخاصمين والهدية وإفشاء السلام وجب القيام به. والأدلة على ما ذكرنا معلومة.

تجنب التدابر: لقولهصلى الله عليه وسلم: «ولا تدابروا». فإذا تحدثت مع شخص وأهملتما الثالث وهو معكما، فإن هذا نوع من التدابر، والذي يهجر أخاه ولا يكلمه نوع من التدابر، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام» [2].

تجنب البيع على بيع أخيك المؤمن: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض». فإذا عرفت أن أخيك المسلم مثلًا باع شيئًا بثمن محدد للمشتري، ثم تقول للبائع: أنا أزيدك فافسخ البيع معه؛ فهذا نوع من الإيذاء لأخيك المشتري. أو تقول للمشتري: ثمن ما اشتريت مرتفع فافسخ العقد وأنا أبيعك بثمن أقل. وهذا كله من صور الضرر التي لا تجوز.

تجنب ظلم أخيك المسلم: لقولهصلى الله عليه وسلم: «لا يظلمه». فالظلم يجعل المظلوم يحس بالاحتقار؛ مما يفتح الباب للحقد على الظالم والدعاء عليه، ودعاء المظلوم مستجاب.

تجنب خذلان أخيك المسلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ولا يخذله». فإذا احتاج أخوك المسلم إلى نصرته فلا تخذله، فنكوص الأمة عن نصرة إخوانهم في فلسطين نوع من الخذلان، وأي خذلان! والذي ينتظر أن تؤدي الشهادة بصدق ثم تشهد الزور في حقه نوع من الخذلان، والعياذ بالله.

تجنب احتقار أخيك المسلم: فالاستهزاء وعيب أخيك المسلم في خلقته مثلًا أو احتقار نسبه أو قبيلته، فتح لباب العصبية والشر؛ ولذلك قالصلى الله عليه وسلم: «ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».

فاللهم بصِّرنا بحقوق إخواننا، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى.

أما بعد:
من المستفادات كذلك من قولهصلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» ما يلي:
تجنب الاعتداء على نفسه: فلا يحل قتل المسلم بغير وجه حق؛ لأن حفظ الأنفس من الكليات الشرعية التي أمرنا بالحفاظ عليها، ضمانًا لحقها في الحياة. كما يحرم الاعتداء عليه بالضرب أو التعذيب أو الترويع أو التخويف. وشرع الإسلام القصاص لضمان هذا الحق، قال تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179].

تجنب الاعتداء على ماله: فلا يحل الاعتداء على أمواله بالسرقة والنهب، أو أكل أمواله بالباطل عن طريق الغش، أو الرشوة، أو الربا، وغيرها من الطرق المحرمة. وحفظ المال من الكليات الشرعية التي أمرنا بالحفاظ عليها، بعدم ضياعه وتبذيره فيما لا ينفع، وبذله في الوجوه المشروعة. ولأجل الحفاظ على المال شرع الإسلام حَدَّ السرقة، قال تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ [المائدة: 38].

تجنب الاعتداء على عرضه: فلا يحل الاعتداء والطعن في شرف المسلم وسمعته وكرامته؛ كأن تقذف وتتهم المؤمنة بالزنا دون بيِّنة؛ ولذلك شرع الإسلام حَدَّ القذف لصيانة الأعراض، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 4]. والغيبة والنميمة وسوء الظن نوع من الاعتداء على عرض أخيك المسلم. فأحسنوا الظن بإخوانكم، ولتسلم ألسنتكم من لحومهم.

عباد الله،إن اجتناب ما سبق ذكره في هذه الخطبة من حسد ونجش وتباغض وتدابر وبيع على بيع أخيك، وتجنب ظلمه وخذلانه واحتقاره، وتجنب الاعتداء على دمه وماله وعرضه، كما أخبر الصادقصلى الله عليه وسلم، لهو كفيل ببناء الأخوة الإيمانية وبناء مجتمع متراحم متعاون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

فاللهم اجعلنا إخوةً متحابِّين، وجنِّبْنا أسباب الشقاق والنفور. آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه مسلم، رقم: 2564.

[2] رواه البخاري، رقم: 6237.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #37  
قديم اليوم, 11:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت



الحديث 36: «من نفَّس عن مؤمن كربةً...»



عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]،أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كُرْبةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كُرْبةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بَطَّأَ به عملُه، لم يُسْرِع به نسبه»[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، جامع لأنواع العلوم والقواعد والآداب، كما قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه لصحيح مسلم[2]: وفيه الترغيب بحقوق الأخوة الإيمانية، والاهتمام والعناية بطلب العلم وقراءة القرآن.


فما هي الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من هذا الحديث لواقعنا ما يلي:
الحث على الأخوة الإيمانية والترغيب فيها: ومنها في هذا الحديث:
تنفيس كربة أخيك المؤمن: لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كُرْبةً من كُرَب الدنيا، نفَّس الله عنه كُرْبةً من كُرَب يوم القيامة». والكُرْبة هي الضائقة والأزمة التي يمرُّ منها المسلم أو المسلمة. فمن حرص على المساعدة المادية لإخوانه في غزة بفلسطين في محنتهم هذه الأيام، لشراء ما يحتاجون إليه من طعام، ودواء، وغيرها، وتقديم ما يستطيع من العون بحسب طاقته، لهو من أعظم التنفيس عن الكُرْبة التي يعيشونها ويفرضها المحتل الذي فقد كل معاني الإنسانية. ومثله من يحتاج إلى عملية جراحية عاجلة ولا يملك مالًا أو شفاعةً لإجرائها، فساهمت من مالك أو توسَّطْت له للنظر في حالته المستعجلة فهذا تنفيس للكربة. ويتعدَّى تنفيس الكرب الجانب المادي إلى الجانب المعنوي والنفسي، فقد لا تملك حلًّا لمشاكل إخوانك، ولكنك تملك التخفيف عنهم بالكلمة الطيبة التي تدخل السرور عليهم، وترفع معنوياتهم، وتساعدهم في اتخاذ القرار، وتواسيهم بالحضور، وغيرها.


وليبشر من يفعل هذا في الدنيا بأن ينفس الله عنه كُرْبةً من كُرَب يوم القيامة، ومهما تكن من كُرْبة في الدنيا فلا تداني كُرَب ذلك اليوم.


التيسير على المعسر:لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن يسَّر على معسر، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة». ولنعطي مثالًا في مجال الديون، فقد تكون ميسورًا تقرض إخوانك قرضًا حسنًا، فأنت بهذا نفَّست كُرْبةً من كُرَب الدنيا- كما رأينا- ثم إذا كان هذا المقترض معسرًا، حضر الأجل ولم يستطع الوفاء، فزدته في الأجل دون رِبًا، أو وضعت عنه شطرًا من قيمة الدَّيْن، أو وضعته كله، فأنت بهذا يسَّرت على أخيك؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 280]، فأبشر بالتيسير عليك في الدنيا والآخرة.

ستر أخيك المؤمن: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة». الكمال لله وحده، وكلنا نخطئ، ومن حقوق أخيك إذا رأيته في معصية ألَّا تُعين الشيطان عليه بالتشهير والتشنيع، بل استر عليه ما دام يستخفي بمعصيته ولم يستعلن بها، وانصحه سرًّا بينك وبينه، عسى أن يرحمَه ربُّه ويمنَّ عليه بالتوبة النصوح، فلا يُعيَّر بعدها بالذنب القديم، ومن منهج النبيصلى الله عليه وسلم: "إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟"[3]. وكم ستر الله علينا ولم يفضحنا.


قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وهو الحيي فليس يفضح عبده
عند التجاهر منه بالعصيان
لكنه يلقي عليه ستره
فهو الستير وصاحب الغفران


فأبشر يا من هذا خلقه بستر الله عليك في الدنيا والآخرة.


عون أخيك المؤمن:لقولهصلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». ومن أمثلته ما رأيناه في الحديث السادس والعشرين من الأربعين، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: «... ويُعين الرجل على دابَّتِه فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقة...»[4]. فإذا أعنت رجلًا على ركوب سيارته، أو أعنته على رفع متاعه وغيرها من أوجه التعاون، فأبشر بمعونة الله لك في جميع أمورك.


فاللهم بصِّرْنا بحقوق إخواننا، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
من المستفادات في هذا الحديث:
الترغيب في طلب العلم: لقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة». والعلم المقصود هو العلم الموصِّل إلى معرفة الله والإيمان به واتِّباع شريعته، وكثير ممن له شواهد مرموقة في تخصُّصات شتى، تجده ملحدًا، أو لا يصلي، أو لا يتورَّع عن منكر، بل يسخر علمه في المكر والخداع.


فهذا علمه لا ينفعه، فالعلم الموصل إلى الجنة هو العلم المقرون بالعمل المورث للخشية، قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

الأعمال هي التي تنفع يوم القيامة: لقولهصلى الله عليه وسلم: «ومن بَطَّأ به عَمَلُه، لم يُسْرِع به نَسَبُه». فالذي ينفع العبد يوم القيامة هو العمل والقلب السليم، قال تعالى:﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]. وقالصلى الله عليه وسلم: «يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله»[5]. فالنَّسَب لا يغني عن العمل، فلنحذر- إخواني- من الغرور، الاغترار بالمال أو النَّسَب أو القبيلة وغيرها مما يتفاخر الناس به في الدنيا، فكلها إلى زوال، ولا يثبت إلا العمل الصالح، فغدًا يقول من أوتي كتابه بشماله: ﴿ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة: 25 - 29]. فاغتنموا أوقاتكم في تقديم ما ينفعكم بين يدي ربكم.

فاللهم إنا نسألك العلم النافع والزيادة منه، واجعلنا من أهل القرآن، ونسألك العمل الصالح. آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه مسلم، رقم: 2699.

[2] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 17/21.

[3] صحيح أبي داود، رقم: 4788.

[4] رواه البخاري، رقم: 2989. ومسلم، رقم: 1009.

[5] رواه البخاري، رقم: 2989. ومسلم، رقم: 1009.










__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #38  
قديم اليوم, 11:05 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت




الحديث 37: «إن الله كتب الحسنات والسيئات...»



عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]،أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربِّه عز وجل قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملةً، فإن هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له سيئةً واحدةً»[1].

عباد الله،هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، يبين سعة رحمة الله على عباده وتفضله عليهم من خلال جزاء الحسنات والسيئات؛ حيث لم يجعل جزاءهما واحدًا، حتى يحفز عباده للعمل الصالح وترك الطالح.


فما هي بعض الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- كتابة الله للحسنات والسيئات: قالصلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك». فالله عز وجل قدر المقادير قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، والحسنات والسيئات من هذه المقادير في علمه سبحانه وتعالى، وشاء أن تقع بأمره الكوني والشرعي، والله عز وجل كتبها في اللوح المحفوظ، وأمر الملك- والعبد في بطن أمه- أن يكتب أربع كلمات: أجله، وعمله، ورزقه، وشقي أو سعيد. وعمله يشمل الصالح والطالح؛ أي: الحسنات والسيئات. وجعل على العباد في الدنيا ملائكةً يحفظون أعماله ويكتبونها، قال تعالى: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17، 18].

ولا ينبغي الاحتجاج بتقدير الله للحسنات والسيئات بترك العمل الصالح أو التبرير للعمل السيئ، بل على العكس، يجب أن تكون هذه الكتابة دافعًا لنا لزيادة الحسنات والاجتهاد في الطاعات، وسببًا لترك السيئات والبعد عن المعاصي. فالله عز وجل أمر بالطاعة ونهى عن المعصية وهو أعلم بخلقه، فالذي ينبغي أن يشغلنا هو أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله، وعليه أن يجتهد في فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فلم يُطلِعنا الله على علمه وماذا كتب وقدر علينا؟ ولا ينبغي التقول على الله بلا علم، والتبرير للعجز والكسل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات يوم جالسًا وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال: "ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله، فلمَ نعمل؟ أفلا نتَّكِل؟ قال: لا، اعملوا، فكُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ [الليل: 5، 6]، إلى قوله: ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 10]"[2].

2- جزاء الهمِّ بالحَسَنة دون فعلها: لقولهصلى الله عليه وسلم: «فمَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنةً كاملةً». والهَمُّ هو النية وعقد العزم على الفعل. ومثال الهمِّ بالحسنة دون فعلها؛ هممت أن تتصدَّق على فقير، لكنك لم تتمكن من ذلك بسبب نفاذ ما عندك من مال، يكتب لك أجر الصدقة؛ لأنك عزمت على فعل حسنة التصدُّق. أو شخص نوى صيام يوم الاثنين أو الخميس، ولكنه مرض في ذلك اليوم، يكتب له أجر الصيام. أو شخص نوى مساعدة مريض، ولكنه لم يستطع الوصول إليه لظرف طارئ، يكتب له أجر المساعدة.


فاجتهدوا- إخواني- في نوايا الخير، فإنه إن حيل بينكم وبين فعل الخير، تفوزوا بأجر النية، وهو الحسنة الكاملة. وهذا من فضل الرحمن.


3- جزاء الهَمِّ بالحسنة مع فعلها: لقولهصلى الله عليه وسلم: «فإن هو هَمَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة». قال تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا[الأنعام: 160]، وقال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261]. وهذا مثال واضح لمن هَمَّ بالحسنة فعملها، فهؤلاء في نيِّتهم الإنفاق في سبيل الله كتجهيز المجاهدين، أو بناء مسجد، أو إطعام مسكين وغيرها، ثم عزموا على ذلك، ثم قاموا بالفعل، فهؤلاء لهم الأجر المضاعف من عشرة فما فوق، يتفاوتون بحسب إخلاصهم وحجم الإنفاق، ووقت وحاجة المحتاج، وغيرها من الأسباب التي تجعلهم متفاوتين مما لا يعلمه إلا الله.


فاللهم إنا نسألك في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذاب النار، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.


الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
عباد الله، نستفيد كذلك:
4- جزاء الهَمِّ بالسيئة دون فعلها: لقولهصلى الله عليه وسلم: «ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتَبَها الله له عنده حسنةً كاملةً». فقد يخطر ببالك فعل سيئة ثم تعزم وتُصمِّم على الفعل، ثم تستحضر رقابة الله فتتراجع، فهذا التراجع محمود شرعًا، ومرغوب فيه؛ ولذلك كان الجزاء حسنةً كاملةً، للتحفيز على التراجع عن الأمور المذمومة شرعًا بعد العزم عليها.


ومثال الهم بالسيئة دون فعلها: أن يعزم شخص على السرقة أو القتل أو الغيبة أو الكذب أو شهادة الزور، وغيرها من المحرَّمات والكبائر، ثم يتذكر عاقبة وشناعة هذا الفعل فيتراجع.


ولنا مثال واضح أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فانحطت عليهم صخرة، فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فقال أحدهم: «اللهم إن كنت تعلم أني كنت أحب امرأةً من بنات عمي كأشد ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها حتى تعطيها مئة دينار، فسعيت فيها حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركتها»[3]. فهذا عزم على سيئة الزنا- والعياذ بالله- ولما ذُكِّر بالله تذكر واعتبر وتراجع وتاب وترك ما هو عازم عليه من السيئة، وهذا محمود؛ لأن التراجع عن الباطل خيرٌ من التمادي فيه.

5- جزاء الهمِّ بالسيئة مع فعلها: لقولهصلى الله عليه وسلم: «فإن هو هَمٌّ بها فعملها، كتبها الله له سيئةً واحدةً»، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160].ومثال الهمِّ بالسيئةمع فعلها: ما رأيناه في المثال السابق، فإنه لو زنا ذاك الرجل بالفعل بابنة عمِّه، فقد نفذ سيئة الزنا بالفعل. ومثال آخر: الطالب والتلميذ الذي يعزم على الغش في الامتحان، وأتى بهاتفه وأوراق الغش إلى مركز الامتحان بنية الغش ثم بدأ يتحيَّن الفرصة المواتية للغش، فغش بالفعل، فهذا له وزر الغش وسيئته. وعلى هذا القياس.


عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واعملوا بقول نبينا صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"[4]. فمن ظلم نفسه باقتراف السيئات، فليجتهد في فعل الحسنات بعدها، فإن الحسنات يذهبن السيئات.
فاللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء. آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 6491. ومسلم رقم: 231.

[2] رواه مسلم، رقم: 2647.

[3] رواه البخاري، رقم: 2215.

[4] صحيح الترمذي، رقم: 1987.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #39  
قديم اليوم, 11:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 38: «من عادى لي وليًّا...»



عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.
الخطبةالأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]،أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه»[1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، يبين طريق نيل محبة الله تعالى وولايته بأداء الفرائض والتقرُّب إليه بالنوافل، إلى جانب فوائد أخرى.


فما هي بعض الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟


نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- من هم أولياء الله؟ وما واجبنا نحوهم؟ ولي الله هو كل مؤمن ومؤمنة تقي وتقية، قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾[يونس: 62، 63]. فيستطيع كل واحد منا أن يكون وليًّا لله بشرط تحقيق الإيمان والتقوى. والولاية غير محصورة في أشخاص بعينهم؛ بل قد يكونون من الأخفياء الأتقياء الأصفياء الذين لا يتفطن لهم أحد، وقد يكونون شُعْثًا غُبْرًا، لو أقسموا على الله لأبرَّهم. والناس يتفاوتون في هذه الولاية بحسب إيمانهم وتقواهم وأعمالهم الصالحة، ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾[المطففين: 26]، قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32].

فالظالمون لأنفسهم: هم المفرطون في بعض الواجبات، المرتكبون لبعض المحرمات؛ مثلًا: شخص يرتكب الكبائر؛ كالزنا وشرب الخمر، ولكنه لا يجحد بالله ولا ينكر وجوده.


والمقتصدون: هم الذين يؤدون الفرائض ويجتنبون المحرمات، لكنهم يتركون المستحبات، ويقعون في بعض المكروهات؛ مثلًا: شخص يصلي ويصوم ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يحرص على النوافل كصوم الاثنين والخميس، ولا يسعى لخدمة الناس.


والسابقون بالخيرات: يقومون بالواجبات والمستحبَّات، ويتركون المحرَّمات والمكروهات.


مثلًا: شخص لا يكتفي بأداء الفرائض، بل يسارع إلى فعل الخيرات، ويجتهد في طلب العلم، وينفق في سبيل الله، ويخدم المجتمع.


فهؤلاء جميعًا أولياء لله، لكنهم متفاوتون في هذه الولاية، وأفضلهم على الإطلاق: الأنبياء ثم الصدِّيقون ثم الشهداء ثم الصالحون من الناس، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70]. فاجتهدوا في نيل أعلى مراتب ولاية الله، تفوزوا وتسعدوا.

وينبغي عدم إيذاء أي مسلم؛ لأن الله يتولَّاه ويحرسه ويحفظه بمقدار حفظه لله، وعاقبة الاعتداء على أوليائه وخيمة؛ كما في الحديث الذي بين أيدينا: «إن الله قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب". والمسلمون اليوم إذ تأخر عنهم نصر الله، ويعيشون عيشة الذل بين الأمم، وتداعوا عليهم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عليهم مراجعة ولايتهم وارتباطهم بربهم، وابتعادهم عن شريعته، فإذا تصالحوا مع ربهم جاءهم النصر، وقد تكون عليهم جولات ابتلاء لهم، ولكن العاقبة للمتقين.

فاللهم اجعلنا من أوليائك ومن عبادك الصالحين، وأعِزَّ جندك، وانصر أولياءك، فإنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت. وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:
عباد الله، من المستفادات في هذا الحديث أيضًا:
2- أسباب نيل ولاية الله تعالى ومحبته: ومن ذلك في الحديث القدسي:
أداء الفرائض: لقوله تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه». وسبق أن رأينا في الحديث الثلاثين من الأربعين قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تُضيِّعوها...»[2]. فأولياء الله يتقربون إليه أولًا بالفرائض، فالميزان عندهم ميزان صحيح، يحترمون الأولويات. فالعجب ممن يحرص على صلاة التراويح في رمضان- على أهميتها وأجرها- ويحرصون على قيام الليل، مع ما فيه من الفضل، ولكن تجدهم يهملون القيام لصلاة الفجر، أو يتركون الحضور لصلاة الجماعة في المسجد. فهؤلاء يحرصون على النفل، ويُضيِّعون الفرائض، فعكسوا ميزان الأولويات.


ومثاله كذلك في واقعنا: الذي يتصدَّق ببعض ماله على الفقراء تطوعًا، ويظن المسكين أنه بهذا أخرج زكاة ماله المفروضة عليه، فالزكاة لها مقدار محدد، عليه أن يحصي أمواله، فإذا بلغت النصاب وحال عليها الحول (العام)، أخرج منها ربع العشر أو العشر أو نصف العشر، بحسب نوع المال المزكَّى. وهذا الذي يجب عليه أولًا، فإذا أدى ما عليه، تطوَّع بعد ذلك، وفي المال حق غير الزكاة.


ومثاله كذلك في واقعنا؛ الذي ينفق بسخاء على أصدقائه ومع الفقراء من غير قرابته، وهذا شيء جميل ما لم يخرج عن حد الاعتدال إلى الإسراف، لكن المشكلة أنه يبخل ويكون شحيحًا مع زوجته وأبنائه، مع أن الإنفاق عليهم واجب، قال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته»[3].

التقرُّب إلى الله بالنوافل: لقوله تعالى في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه». فاجتهدوا في صلاة النوافل؛ كالسنن الرواتب وقيام الليل، واجتهدوا في صيام النوافل؛ كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، واجتهدوا في صدقات التطوُّع ومساعدة المحتاجين، وغيرها من الأعمال الصالحة.


3- نتائج وآثار نيل ولاية الله تعالى: قال تعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنه». يعني أن الله يكون مسددًا له في هذه الأعضاء الأربعة؛ يسدده في سمعه، فلا يسمع إلا ما يرضي الله. ويسدده في بصره، فلا ينظر إلا إلى ما يحب الله النظر إليه، ولا ينظر إلى المحرم. ويسدده في يده، فلا يعمل بيده إلا ما يرضي الله. ويسدده في رجله، فلا يمشي إلا إلى ما يرضي الله. ولا يسعى إلا إلى ما فيه الخير.


قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس: 62 - 64].

فاللهم اهدنا وسددنا، هدايةً للطريق المستقيم، وسدادًا للسهم. آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه البخاري، رقم: 6502.

[2] رواه الدارقطني، رقم: 4396. وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريجه لرياض الصالحين، رقم: 1832. وضعَّفه الألباني في تحقيقه لرياض الصالحين، رقم: 1841.

[3] رواه مسلم، رقم: 996.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #40  
قديم اليوم, 11:08 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,273
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سلسلة شرح الأربعين النووية

سِلْسِلَةُ شَرح الأَربَعِينَ النَّوَويَّةِ


عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

الحديث 39: «إن الله تجاوز لي عن أمتي...»


عناصر الخطبة:
رواية الحديث.
المعنى الإجمالي للحديث.
المستفادات من الحديث والربط بالواقع.

الخطبةالأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. أعاذني الله وإياكم من النار.

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» [1].

عباد الله، هذا الحديث له أهمية عظيمة؛ لأنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، اشتمل على فوائد وأمور مهمة، تبين رحمة الله بعباده وفضله عليهم بالتجاوز عنهم حال الخطأ والنسيان والإكراه، والحديث عمدة الفقهاء في أمور كثيرة سنقف على بعضها.

فما هي بعض الفوائد التي نستفيدها من هذا الحديث؟
نستفيد من الحديث لواقعنا ما يلي:
1- تجليات رحمة الله بعباده: وهذه الرحمة تتجلى في تجاوز الله عن عباده وعدم مؤاخذتهم فيما يلي:
- حال الخطأ: الخطأ ما يقع فيه الإنسان دون قصد أو إرادة، بمعنى أنه لم يتعمد؛ قال تعالى: ﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 5]، وقال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]. وله أمثلة كثيرة منها: عدم مؤاخذة القاضي أو الحاكم أو المجتهد إذا اجتهد في نازلة أو حكم ثم أخطأ، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" [2]. فالمخطئ يؤجر على اجتهاده؛ لأنه عبادة، ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا في حق من تولى الحكم والاجتهاد، وله أهلية لذلك، أما المتطفلون على أحكام الشريعة بدعوى الاجتهاد، وليسوا من أهل العلم، فعليهم الوزر.

ومنها: قصة الصحابي الجليل (عامر بن الأكوع) في غزوة خيبر، لما تبارز مع مشرك، فرجعت ضربته على نفسه فمات، فقال بعض الصحابة: إن عامرًا قتل نفسه فبطل وحبط عمله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كذب (أي: أخطأ) من قالها، إن له لأجرين اثنين"[3].

ورفع الإثم والحرج عن المخطئ لا يعني أنه لا تترتب عليه الأحكام، فمن أفطر في رمضان خطأً بأن أكل أو شرب- مثلًا- وهو يظن بقاء الليل فتسحر، أو ظن غروب الشمس فأفطر، ثم بانَ خطؤه، وهو لم يتعمد ذلك، فجمهور أهل العلم ألزموه بالقضاء. ومن قتل مؤمنًا خطأً له أحكامه المذكورة في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 92].

- حال النسيان: والنسيان أيضًا غير مؤاخذ عليه؛ قال تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، فإذا نسي الإنسان واجبًا أو محرمًا، فلا إثم عليه، ولكن إذا تذكر وجب عليه المبادرة إلى فعله أو تركه؛ فمن صلَّى بدون وضوء نسيانًا عليه الإعادة، ومن نسي صلاةً صلاها متى ما ذكرها، ومن أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم، عليه أن يكمل صومه، وأن يلفظ ما في فَمِه بمجرد التذكُّر، وسواء أكل مرةً واحدةً أو تعدَّدت المرات؛ فصومه صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: «من أكل ناسيًا، وهو صائم، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»[4]. لكن مالكًا- رحمه الله- فرَّق بين صوم رمضان وصوم النافلة، فمن نسي فأكل في رمضان فإنه يقضي دون النافلة [5].

- حال الإكراه: فمن أكره على فعل شيء لا يريده، فلا إثم عليه في هذه الحالة، قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106]. والآية الكريمة نزلت في عمَّار بن ياسر، فعن محمد بن عمار بن ياسر، عن أبيه رضي الله عنه، قال: «أخذ المشركون عمَّار بن ياسر، فلم يتركوه حتى سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شرٌّ يا رسول الله؛ ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئنًّا بالإيمان، قال: إن عادوا فعُدْ"[6]. فهنا عمَّار بن ياسر أُكْرِه على سَبِّ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤاخذ على فعله، بخلاف الذين يسبُّونه أو ينشرون رسومًا مسيئةً له مختارين. فمن أكره أو أكرهت على الزنا، أو شرب الخمر، أو قول محرم، وغيرها من المحرمات، فلا حرج ولا إثم ولا حد ولا كفارة عليه- ما دام قلبه يكره ذلك- بخلاف من أكره على قتل غيره فلا يحل له ذلك بحال، ولو أدَّى امتناعه إلى أن يقتل.

فاللهم فقهنا في ديننا وزدنا علمًا. وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن لآثارهم اقتفى، أما بعد:

عباد الله، من المستفادات في هذا الحديث أيضًا:
2- واجبنا تجاه رحمة الله: عدم المؤاخذة مظهر من مظاهر رحمة الله والتخفيف على عباده، ويجب علينا تجاه هذه الرحمة أمران:
عدم التهاون: لا يعني عدم المؤاخذة حال الخطأ والنسيان والإكراه أن نتهاون أو أن ندعي ادعاءً كاذبًا أننا نسينا أو أخطأنا أو أكرهنا، فالله عز وجل مطلع على قلب كل واحد منا، وسيجازيه على ما في قلبه من الصدق أو الكذب، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[7].

كما أنه ليس ذريعةً للتساهل في الأمور الشرعية. فعلى سبيل المثال: من أخطأ في توقيت الإمساك أو الإفطار في رمضان بناءً على خلل في ضبط ساعة الهاتف، أو الساعة اليدوية، فعليه بالمبادرة لإصلاح الخلل حتى لا يسقط في نفس الخطأ مرةً أخرى. ومن ينسى كثيرًا ويتهاون في أوقات الصلوات فعليه أن يستعين بالرفقة الطيبة أو بالتطبيقات على هاتفه المعينة له على التذكُّر، وهكذا.

شكر الله: فنعم الله الحسية والمعنوية تستوجب منا الشكر، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، فالشكر يبعث على المزيد، وكفر النعم يستوجب الحرمان والعقاب. فوجب شكر الله على نعمة التخفيف على هذه الأمة، التي رفع الله عنها الكثير من التشديدات التي كانت في الأمم قبلنا. نقرأ في الدعاء الذي ختمت به سورة البقرة، قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].

فاللهم لك الحمد على نعمك، لا نُحْصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فاجعلنا لك من الشاكرين. آمين. (تتمة الدعاء).

[1] رواه البيهقي في السنن الكبرى، رقم: 15094. وانظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، رقم: 1731.

[2] رواه البخاري، رقم: 7352.

[3] رواه البخاري، رقم: 6891.

[4] رواه البخاري، برقم: 6669.

[5] انظر: الكافي في فقه أهل المدينة، ابن عبدالبر: 1/343.

[6] رواه الحاكم في المستدرك، برقم: 3362.

[7] صحيح الجامع، برقم: 1862.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 193.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 188.07 كيلو بايت... تم توفير 5.86 كيلو بايت...بمعدل (3.02%)]