|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (20) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات صفة الكلام لله عز وجل وَقَوْلِهِ: ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ))؛مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[1]. ففي هذين الحديثين إثبات صفة الكلام لله تعالى، وحديث أبي سعيد فسَّره حديث أبي هريرة، وكلاهما حديثان صحيحان ثبتا في الصحيحين. ((يَا آدَمُ)): هذا نداء يُنادي الله آدمَ على رؤوس الأشهاد. ((فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ)): وهذه فيها مقامات للأدب مع الله، ولهذا فالحُجَّاج يتأدَّبون بهذا، فينادون مُحرِمين في إحرامهم: لبَّيك اللهم لبَّيك. ((فَيُنَادِي بِصَوْتٍ)): والذي قال: إنه ينادي بصوت هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فليس قولَ أحدٍ مِن أهل العلم، وإنما هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظَمِ الناس وأعلَمِهم بالله، وما يجبُ له، ويجوز أو يمتنعُ عليه، فهو الذي أثبت أن الله يُنادي، وأثبت أنه يُنادي بصوت. إذًا فالله يتكلم، والكلام أنواع، ومنه النداء، وهو الكلام بصوت عالٍ، ولهذا قال: بصوت. فدل على أنَّ كلام الله بصوت، كما أنه بحَرف، وما قُلنا: إن كلام الله بصوتٍ ولا بحرف مِن جَرَّاء أنفسنا، ولا من استنباطات عقولنا، واجتهاداتنا، وإنما وقَفْنا فيها كما جاءت في الأدلة، وهذا الذي يجب الإيمان به. ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثَ ذُرِّيَّتِكَ إِلَى النَّارِ. قَالَ: مِنْ كَمْ يَا رَبِّ. قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعٌ وَتِسْعُونَ)). إذًا من بني آدم مِن كل ألفٍ إلى النار واحدٌ إلى الجنة. فعَظُم ذلك على الصحابة جدًا، وقالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ يَضْمَنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَاحِدَ؟! فجاءت البُشرى على لسان البشير صلى الله عليه وسلم لَمَّا قال: ((مِنْكُمْ وَاحِدٌ وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ))، فَكَبَّرَ الصَّحَابَةُ تَكْبِيرًا عَظِيمًا فَرَحًا بِهَذِهِ الْبُشْرَى. وهذا يدل على خصوصيَّةٍ لهذه الأمة أنهم أكثر أهل الجنة دخولاً، وأن أكْفاءهم وأعدالهم من التسع مئة وتسعةٍ وتسعين من يأجوج ومأجوج، فدل ذلك على كَثرتهم، وعلى كُفرهم؛ فإنَّ يأجوجَ ومأجوج قومٌ كُفَّار فُجَّار فُسَّاق، ولهذا هم أهل النار. والشاهد منه أنَّ الله يتكلم، وأن كلامه نداء. وجاء في حديث أبي هريرة: ((إِنَّ اللهَ يُنَادِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتٍ، يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ))؛ أي: إنه لا يخفى، وهذا فيه أن كلام الله بصوت. ومَرَّ أن الله عز وجل نادى الأبوَيْن في الجنة: ﴿ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا ﴾ [الأعراف: 22]، وجاء أن الله يُنادي الكفار في النار: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، وثبَت النِّداء والنِّجاء لكليم الله موسى: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ﴾ [مريم: 52]. وَقَوْلِهِ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانَ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ وَرَاءَهُ فَإِذَا النَّارُ))[2]. في هذا دليلٌ على إثبات أن الله يتكلم كلامًا يَليق بجلاله؛ ردًّا على مَن قال: إن كلام الله مخلوق كما تقوله الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والخوارج، أو كلام الله معنًى نفسيٌّ في ذاته؛ كما تقوله الكلابية، والأشاعرة والماتردية، وإن كان مذهبُ الماتردية أقربَ إلى مذهب الجهمية بأن كلام الله مخلوق. وممَّن كلَّمه الله تعالى كِفَاحًا مِن غير ترجمان في الدنيا: عبدالله بن حَرامٍ والدُ جابر رضي الله عنهما؛ كلَّمه الله فقال: ((تَمَنَّ عَلَيَّ يَا عَبْدِي))[3]؛ الحديث المشهور، وفيه أنزل الله تعالى قولَه: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ [آل عمران: 169]؛ ففيه إثباتُ أن الله يتكلم، وأنه مَن وقف بين يديه سيكلِّمه مِن غير ترجمان بمختلِف الألسنة، وليس الناس لسانهم واحد، والله يكلمهم جميعًا من غير ترجمان، فدل على أن كلامه لا ككلامنا، وأنه تعالى قد أحاط بكل شيء علمًا، وحكمة، وسمعًا، وبصرًا؛ فسبحانه لا إله إلا هو. إثبات صفة الرحمة لله عز وجل: وَقَوْلُهُ- فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ -: هذا حديث الرقية المشهور، وقد رواه أبو داود، وحسَّنه الشيخ، وصححه غيرُ واحد من العلماء، وممن صححه الحاكم في (المستدرك)، والذهبي في كتابه (العلو)، وقال: "إنه بإسناد صحيح"، وقد رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي في (الأسماء والصفات)، ورواه غيرهم. ((رَبُّنَا اللهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ)): في السماء؛ أي: في العلو. وإذا أُرِيدَ بالسماء المبنية - على السماء - فإنَّ (في) تكون بمعنى (على)؛ فيكون: على السماء المبنيَّة، وأما إذا كانت (في) على بابها فإن السماء هو العلو، إذًا ففيها إثبات علوِّ الله الذاتي على خلقه، كما أن له العلوَّ في القدر والمنزلة، وله العلو في القهر والغلبة. ((تَقَدَّسَ اسْمُكَ)): أثبت لله الاسم المقدَّس، المنزَّه من كل عيب، ونقص، وخلل. ((أَمْرُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)): أمر الله الذي لا يمكن أن يغادره شيء أبدًا، وهو نوعان: 1- أمر كوني قدري. 2- وأمر شرعي ديني. ((كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الأَرْضِ)): رحمة الله في السماء، ورحمة الله نوعان: صفته، وخلقه للرحمة. فصِفة الله الرحمة، التي من آثارها خلقه للرحمة، ورحمة الله المخلوقة منها الجنة، ومنها الرحمة التي يجعلها بين الخلائق يتراحمون بها. ((اغْفِرْ لَنَا حُوبَنَا وَخَطَايَانَا)): الحوب، قالوا: إنه عظيم الذنب وعظيم الإثم؛ ولهذا يُطلق الْحَوْبَة في الذنوب بين العباد بعضهم مع بعض، وهذا موجود حتى في أسئلة الناس: هذه حوبة فلان على فلان؛ أي: أثر ذنبه عليه. والخطايا هي الخطايا دون الكبائر. ((أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ)): الله رب الطيبين، ورب غير الطيبين، ولكنه خصه بذلك؛ لأن المقام مقامُ توسُّل، ومقام استعطاف منه سبحانه وتعالى. ((أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ، وَشِفَاءً مِنْ شِفَاءِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأَ)).حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَغَيْرُهُ[4]. قوله: ((أنزل)) يسمِّيه الأصوليون واللغويون طلبًا، ونسميه نحن دعاء، ندعوك بأن تُنزِل رحمةً مِن رحمتك، وشفاء من شفائك، فدلَّ على علوِّ الله من وجهٍ آخَر؛ لأن الإنزال من أعلى إلى أسفل. القاعدة في الأوامر كالتالي: 1- الأمر من الأعلى إلى الأدنى يُسمى أمرًا، وطلبًا. 2- الأمر من الأدنى إلى الأعلى يُسمى دعاء. 3- الأمر من المساوي إلى مثله يُسمى استدعاء. إثبات العلو لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ((أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ؟!))؛حَدِيثٌ صَحِيحٌ[5]. هذا فيه إثبات علو الله تعالى على عرشه، والحديث له قصة، وذلك أنه: لَمَّا قَسَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمُ الْغَنَائِمَ فَقِيلَ لَهُ: اعْدِلْ. فَقَالَ: ((أَلا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ)). فأثبت أن الله في السماء في العلو، وإذا كان المراد بالسماء المبنيَّة فيكون معنى (في): على السماء. وَقَوْلِهِ: ((وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، واللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ))؛حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاودَ، وَغَيْرُهُ[6]. أول الحديث: ((إِنَّ مَا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عامٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ بَحْرٌ مِنْ أَسْفَلِهِ إِلَى أَعْلاهُ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ، واللهُ فَوْقَ الْعَرْشِ، لا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)). وهذا الحديث يُسمى عند العلماء حديث الأوعال، وقد حسَّنه شيخ الإسلام رحمه الله هاهنا، فقال: رواه أبو داود وغيره. ففيه إثبات صفتين: علوُّه، وهي صفة ذاتية، واستواؤه على عرشه. وفيه أن عرش الرحمن على الماء، وهو الماء الذي فوق السماوات السبع، كما أن عرش إبليس على الماء؛ أي: على بحر الدنيا. كما في حديث عبدالله بن الصياد لما قال النبي صلى الله عليه وسلم له: ((مَاذَا تَرَى؟)) قَالَ: يَأْتِينِي حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَأَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ. قَالَ: ((ذَلِكَ عَرْشُ إِبْلِيسَ)). وَقَوْلِهِ لِلْجَارِيَةِ: ((أَيْنَ اللهُ؟)) قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَال: ((مَنْ أَنَا؟))قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: ((أَعْتِقْهَا؛ فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ))[7]. هذا حديثُ مُعاوية بنِ الحكَمِ السُّلميِّ رضي الله عنه: لَمَّا أَنْ كَانَتْ جَارِيَةٌ لَهُ تَرْعَى غَنَمًا لَهُ جِهَةَ سَلْعٍ، فَعَدَى الذِّئْبُ عَلَى أَحَدِهَا، فَأَكَلَهَا، فَلَمَّا جَاءَتْ إِلَيْهِ وَغَنَمُهَا مَنْقُوصَةٌ صَكَّهَا صَكَّةً عَلَى وَجْهِهَ،ا ثُمَّ نَدِمَ، فَأَدْرَكَ مَعَ النَّبِيِّ الصَّلاةَ، فَلَمَّا صَلَّى عَطَسَ، فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ. فَرَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقَالَ: وَاثَكْلَ أُمِّيَاه! فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، يَقُولُ مُعَاوِيَةُ: يُصَمِّتُونِي. حَتَّى إِذَا فَرَغَ النَّبِيُّ مِنْ صَلاتِهِ فَوَاللهِ مَا كَهَرَنِي، وَلا نَهَرَنِي، وَإِنَّمَا قَالَ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآن)). معاوية بن الحكم لما رأى هذا الانشِراح، وهذا السَّمت، وعدمَ التثريبِ عليه من النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر النبيَّ بخبَرِه، وأنه ندم على ضربه إياها، ويريد أن يُعتِقَها، قال: ((ائْتِنِي بِهَا))، فَلَمَّا جَاءَهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا صلى الله عليه وسلم: ((أَيْنَ اللهُ؟)) فَقَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. وَأَشَارَتْ إِلَى الْعُلُوِّ، فَقَالَ: ((مَنْ أَنَا؟)) قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ - فعرف أنها مميزة وحكم عليها من هذينِ الجوابين بأنها مؤمنة؛ لأن هذين الأمرين يتوقف عليهما الإيمان فيما يتعلق بالله عز وجل من جهة صفاته، وما يتعلق بالإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا مؤدَّى التوحيد؛ لأن (لا إله إلا الله) هذا في توحيد الله بأنواع التوحيد الثلاثة، و(محمد رسول الله) هو الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والنبي سألها هنا استفهامًا منها ليَعرِفَ جوابَها يَسألها، يمتحنها، وهذا ردٌّ على مَن يظنون أن هذا الحديث - وهو أشدُّ عليهم مِن كثير من المقامع - فيه ابتلاءٌ للعباد، امتحانٌ بأمر العقيدة، والامتحان في أمر العقيدة لا بأس به؛ ليَتميَّز المؤمنُ وغير المؤمن، فالنبي امتحن هذه المرأةَ، وسألها، فدل على أن هذا من الدِّين، لكن امتحان الناس كلهم من غير موجِبٍ لذلك؛ هذا الذي نص عليه البربهاري في عقيدته بأن الامتحان بدعة[8]. وَقَوْلِهِ: ((إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلا عَنْ يَمِينِهِ؛ فإنَّ الله قِبَل وجهِه، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قدَمِه))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[9]. أفاد هذا الحديثُ قُربَ الله من عبده، وأنه قِبَلَ وجهِه على ما يَليق بجلاله عزَّ وجل، فإذا تطرق السؤالُ إلى قَلبِك، أو إلى عقلك، أو إلى مَدارِكِك: كيف يكون الله قِبَلَ وجهِ المصلِّي؟! فقل: آمنتُ بالله على مُراد الله، وآمنتُ بما جاء عن رسول الله على مُراد رسول الله. واحذر أن تتدخَّل في هذا بعقلك وقلبك متهوِّكًا، أو متنطعًا، أو متكلفًا؛ فإن هذا مزلَّة الأقدام التي جعلَت طوائف الانحراف في هذا الأصل ينحرفون فيه الانحرافَ العظيم؛ فالممثِّلة شبَّهوا، وأدَّاهم ذلك إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تشبيه بعضِ صفات الخالق بصفات المخلوق، والمعطِّلة شبَّهوا، فاستقبَحوا التشبيه، فعطَّلوا، فجمعوا الخطيئتين، فشبَّهوا أولاً في قلوبهم، ثم دفَعوا هذا التشبيه بالتعطيل، ونفَوْا هذه الصفة وأمثالَها عن الله، ثم حرَّفُوها، وأَّولوها، واتهموا الأحاديثَ بأنها ظَنِّية لا تُفيد العلمَ ولا اليقين. وجاء هذا المعنى في أحاديثَ أخرى: ((إِنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي فِي صَلاتِهِ فَإِنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَيَسْتَقْبِلُهُ، فَإِذَا انْصَرَفَ وَالْتَفَتَ انْصَرَفَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَنْهُ))؛ وهذا على ما يليق بجلال الله وعظمته. وأما قوله تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [المائدة: 97]، وقوله: ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 150]، وقوله: ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]؛ فإن هذا المراد به القِبلة، ووجهُ الله؛ أي: الجهة التي أمرَكم الله باستِقبالها؛ لأن الوجه يأتي بمعنى الجهة، ويأتي بمعنى الصفة، ويُحدِّد ذلك سياقُ النَّص، وسياقُ الدليل أيهما المعنيُّ، ولهذا مَن فسَّر هذه الآية ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115] بالجهة فهو صحيح، ومن فسَّرها بالوجه فصحيح؛ على معنى أن المصلِّيَ إذا قام في صلاته استقبل الرحمنَ، واستقبله الرحمنُ بوجهه، وهذا ما يُستفاد من هذه الصفة، ويُستفاد أيضًا قُربه تعالى، فالله قريبٌ مِن عبده وإن كان هو في علوِّه على عرشه، لكنه قريبٌ من عبده؛ كما سيأتي في حديث مسلم في قيام الليل. [1] رواه البخاري (7483)، ومسلم (1101) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (6539)، ومسلم (1016)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه. [3] رواه الترمذي. [4] رواه أبو داود (3892)، وأحمد (6/ 20)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [6] حديث الأوعال رواه العباد بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد رواه أبو داود في سننه (4723)، في باب الرد على الجهمية، ورواه الطبراني، والذهبي أورده في العلو، (ص/ 39)، وقد حسَّنه شيخ الإسلام وغيره. وللحديث طرق وشواهدُ عديدة. [7] رواه مسلم (537)، من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه. [8] ومما بُلِي به بعض الشباب الآن من قول: ما تقول بفلان، ما رأيك بالمذهب الفلاني والجماعة. على جهة الامتحان والاختبار، وينتج عنها التصنيف، والتبديع بغير وجه حق، وينتج عنها اتهام النوايا واتهام القلوب، وهذا من البدع المحدثة، أما الاستفهام عن صفات الله لبيان موضع الحق فيُثبت، والباطل فيُنكر هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلينتبه طالب العلم حتى لا يلتبس عليه الأمران فإن التبس فإن الالتباس ناشئ منه ومن تقصيره، وقواعد الشريعة جاءت على هذا الأصل تأكيد وتمييزًا. [9] رواه البخاري (405)، ومسلم (547)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
__________________
|
#22
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (21) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إثبات المعية من صفات الله عز وجل وَقَوْلِهِ: ((أَفْضَلُ الإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللهَ مَعَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ))؛ حَدِيثٌ حَسَنٌ [1]: هذا الحديث رواه الطبراني، والإمام أحمد، وغيرهما، والشيخ يحسِّنه. أفضل الإيمان؛ أي: أكمله، ومعلومٌ أن هذه مرتبة الإحسان، والإحسان له درَجتان كما جاء ذلك في حديث جبريل، وقد رواه مسلمٌ في الصحيح بطوله، ورَوى جملته مما يتعلق بالإيمان البخاريُّ أيضًا، وفيه أنه قال: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: ((الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))[2] ؛ فإن رتبة الإحسان مشتمِلةٌ على أن أفضل الإيمان أن تَعبد الله كأنه معك. الإحسان ومراتبه: وهذا الإحسان له درجتان: 1- أعلاهما أن تعبد الله كأنك تراه. كحال الذي يرى الله أمامه، يعبد الله وهو بارز أمامه، ويُستأنس لهذا لما جاء في حديث حارثة بن زيد رضي الله عنه وإن كان الحديث فيه ضعفٌ، لكن معناه مما صحَّ في الأدلة الأخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟)) قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا يَا رَسُولَ اللهِ. قال: ((يَا حَارِثَةُ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْلٍ حَقِيقَةً، فَانْظُرْ حَقِيقَةَ مَا تَقُولُ))، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَزِئَتِ الدُّنْيَا فِي عَيْنِي، وَعَظُمَتِ الآخِرَةُ فِي قَلْبِي، وَأَصْبَحْتُ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا أَمَام َعَيْنَيَّ - وهذا الشاهد بأنه عبَدَ الله كأنه يراه - وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَإِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَعَاوَوْنَ فِيهَا. فَضَرَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى صَدْرِ حَارِثَةَ، وَقَاَل: ((يَا حَارِثَةُ، عَرَفْتَ فَالْزَمْ))، ثُمَّ قَالَ: ((رَجُلٌ نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ بِالإِيمَانِ)). 2- الدرجة الثانية: أن تعبد الله كأنَّه يراك؛ لقوله: ((فإن لم تكن تراه))؛ أي: إنك لم تصل إلى هذا اليقين، وهذه المعرفة الكاملة التي تكون في قلبك بتصور أنك ترى الله وأنت تعبده، فاعبده كأنه يراك، أي: متصورًا الحال التي تعبده والله يطلع عليك. مع أن إيمان المؤمن باطلاع الله عليه إيمانٌ لا بد منه، ضروريٌّ، وهو مقتضى رُبوبية الله وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ أنَّ الله مُطَّلع على عبده، يَسمع كلامه، ويرى مكانه، ولا يخفى عليه حالُه، لكن هذا اليقين في قلبك الذي هو مِن كمال الإيمان، ومن درجاته العالية، وهو أحد رُتبتَيِ الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الشعراء: 217 - 220]، هذا السِّياق وإن كان في سِياق النبي؛ فإنه يدلُّ على أحَدِ مَقامَيِ الإحسان، وإلا فإن الله لا يَخفى عليه مِن خلقه أحدٌ كائنًا مَن كان؛ دقيق في دِقِّه، أو عظيمٌ في عِظَمِهِ، خفيٌّ في خفائه، أو ظاهرٌ في ظهوره... كلهم عند الله سواء، لا يخفون عليه. فأفضل الإيمان أكمله، وأعلى درجاته أن تصل إلى هذه الرتبة أن تعبد الله كأنه أمامك، وهذا له علاقة بالصفات من جهة قربه واطلاعه على عبده، وأنه لا يخفى عليه منه خافية. بطلان مذهب الحلولية: ولا يُفهَم من ذلك الحلولُ أو الاتحاد؛ كما هو مذهب أهلِهما (أهل الحلول، وأهل الاتحاد)، فالحلولية رُتبة قبل رُتبة الاتحاد، والرتبة الثالثة: وَحْدة الوجود. فالحلولية المعتقِدون أن الله قد حلَّ بالمخلوقات، وأنه معهم معيَّةَ حلول، حالٌّ بهم، مخالِطٌ لهم، ممازجٌ لهم كما هو مذهب عامة الجهمية، وعامةِ المتكلمين من الأشاعرة، والماتوريدية، وأهل الاتحاد، وهم غُلاة الصوفية، وغلاة الجهمية، والأشاعرة الذين يقولون: إن الله اتَّحد بالمخلوق، ما زال المخلوق في تريُّض ورياض، وتجرُّد وتفكرٍ ومكاشفة إلى أن يتحد بالخالق، فهما شيئان ثم أصبحا متحدَين. وأقبحُ مِن هذا، وأعظمُ كفرًا وزندقةً وَحْدة الوجود؛ أي: إنه ليس ثَمة خالقٌ ولا مخلوق، ولا عابد ولا معبود، وإنما هو شيء واحد، فعين الخالق هي عين المخلوق، والاختلاف إنما هو في الصورة، وهذا أقبح ما علمنا من مذاهب الكفر، ومذاهب الزندقة، ومذاهب الردى التي دَرَجت على فِئامٍ من غُلاة المتصوِّفة، والغنوصية، وغلاة الباطنية، والروافض، وأضرابهم؛ والعياذ بالله. تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء الله: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن. وَقَوْلِهِ: ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ...))[3]: هذا الحديث من أذكار النوم التي حثنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولها الإنسان إذا أوى إلى فراشه، وفيها التوسل إلى الله تعالى بربوبيته هذه المخلوقاتِ العظيمةَ: ((اللَّهُمَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ! أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ))؛ هذا هو الشاهد بمعاني هذه الأسماء التي سمى بها الله نفسه كما في قوله: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]. وفسَّر هذه الأسماءَ بمعانيها نبيُّنا، وهذا شاهدٌ لما عَنْوَنَ عليه المؤلِّف هذا الفصل بقوله: "فصل، ثم السُّنة تفسر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه"؛ فسَّرَها صلى الله عليه وسلم، وبَيَّنَ ما معنى أن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء. فاسم الله الأول يَقتضي صفة الأوَّلية، ومعناها أنه لا شيءَ قبل الله، والمتكلمون والفلاسفة أخبَروا عن الله بأنه أزلي، وأنه قديم، وهذه أخبار فيها حق نَقبل به، وفيها معانٍ باطلة نردها، ولكن لا يجوز أن نسمي الله بها، أو نصف الله بها، أو نتقرَّب إلى الله وصفًا، ودعاء، وتوسلاً بها، فلا يجوز أن تسمي ولدك: عبدالقديم، عبدالأَزَلي. أو تقول: يا أزلي، يا قديم! اغفر لي. فهذا لا يجوز؛ لأنها لم تَصحَّ لله أسماءً يُتقرَّب إلى الله بالإيمان بها، ولا صفةً، وإنما تقول: يا أوَّل، وهنا: ((أنت الأول فليس قبلك شيء))، وهذا الخبر على جهة التوسُّل إلى الله تعالى، وتسمِّي ابنك بعبدِ الأول. ((وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ)): الآخِر من أسماء الله، ومعناه: الذي يَبقى إلى زوال خلقه، وليس بَعدَهم مِن خَلقِه شيء؛ ولهذا كان]في الآخر معنى الباقي. ((وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)): والظاهر اسم الله؛ دلَّ على مدلول اسم الله العليِّ والأعلى؛ فإن العليَّ الذي فوق جميع خلقه بأنواع العلوِّ الثلاثة، والظاهر: الذي ليس فوقه مِن خلقه شيء. ((وَأَنْتَ الْبَاطِنُ)): والباطن بمعنى اسم الله القريب: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]؛ كما سيَأتي في حديث أبي موسى رضي الله عنه لما دعَوُا الله ورفَعوا أصواتهم. ((فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ))؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. أي: لا شيء أقرب منك إلى خلقِك. وهذا فيه صفة قرب الرب من خلقه، فالله قريبٌ مع علوِّه، ظاهرٌ مع قُربه، آخِر مع أوَّليته، وأول مع آخريته سبحانه وتعالى. يَتطرَّق إلى بعض الأفهام والأذهان: كيف ذلك؟ فنقول: ليس هذا المقام مقام السؤال عن هذا بكيف؛ لأن كيف لو كان لها معنى هاهنا، أو نطيق - ونحن المخلوقون المربوبون - لَأُبِينَ لنا ذلك، ولكن لما كُنَّا لا نُطيقه، ولا نُدركه، وإنما تقصر عنه أفهامنا، وعقولنا، ومداركنا لم يُبَيَّن لنا ذلك، واكْتُفِي لنا بما نعقله، ونفهمه، ونؤمن به بأن مقتضى إخبارنا بهذه الأدلة وبهذه النصوص في الكتاب والسنة معرفتُها، وهو الإيمان بها، ولي ِإيمانًا مجردًا عن العلم كما هو مذهب أهل التَّفويض، الذين يؤمنون بهذه من غير أن يعرفوا معناها، كأنها ألغاز، أو كأنها طلاسِمُ، أما أهل السُّنة فيؤمنون بمعانيها، أما كيفية ذلك وحقيقته وكُنهُه فإنهم لا يَعرفونه؛ لأنهم لم يُفادوا منه بعلم، ولا بخبَر، وشأنهم هو التَّسليم والاستسلام والإذعانُ لما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسانُ حالهم ومَقالهم: سَمعنا وأطعنا، غُفرانك ربَّنا وإليك المصير. إثبات صفة القرب لله عز وجل: وَقَوْلِهِ للصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ))[4]: هذا حديث أبي موسى الأشعري، وهو أنهم كانوا مع النبي في سفر، ورفعوا أصواتهم بالدعاء، يدعون الله، ورفعوا أصواتهم بهذا الدعاء، فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ))؛ أي: ارفقوا بأنفسكم، ولا تتكلَّفوا، ولا ترفعوا أصواتكم بالدعاء. ((فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا)): وهذا فيه الصفات المنفيَّة، وربما تُسمَّى: الصفات السلبية. والاصطلاح في أنها سلبيَّة أصله اصطلاحُ متكلِّمين، لكن تَواضَعَ عليه بعضُ أهل العلم؛ لأن معنى النفي سَلْب، وإنما الذي يُعبِّر عنه مُحقِّقو أهل السنة بأنها صفات منفيَّة، والصفات المنفية في الكتاب والسنة نفيُها متضمِّن كمالاً، وهو كمال ضد المنفي؛ ((فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ))؛ لكمال سمع الله، ((وَلا غَائِبًا))؛ لكمال حياته، وقربه، وحضوره، وهذا يُثبت هاتين الصِّفتين من ضد هاتين الصفتين المنفيتين عن الله، والتي نَفاهما عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما تدعون سميعًا بصيرًا، فالله سميع يسمع دُعاءكم ولا يخفى عليه، وإن كان هذا الدعاء بالسِّر أو بين الإنسان وبين نفسه فالله يسمعه؛ لأنه السميع الذي أدرَك المسموعات سماعًا لها، بصير يَراكم ويرى حالكم؛ عز وجل. ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)): فالمسافرون لَما كانوا يُسافرون على الرواحل يركب على شداد، والشداد على الظهر، وفي يده خِطام الناقة، ويقرب عنه الراحلة، ويبتعد عنه بحسب مشيه وحجزه، ((إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)) ومعنى هذا إثبات صفة القرب لله تعالى؛ كما قوله تعالى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق: 16]؛ فالله قريبٌ مع علوِّه وظهوره، وهذا المعنى جاء في القرآن: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]، فلا تظنوا - أيها السَّائلون، أيها العباد - أن الله بعيدٌ قد يَخفى عليه سؤالُكم، فالله قريب، ومقتضى قربه أنه يَسمع ويرى، ولا يخفى عليه حالك وسؤالك: ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي ﴾ [البقرة: 186]، إذا استشعرَ المؤمنُ أن الله قريبٌ منه فإن اللائق به أن يتعبَّده بهذا الدعاء، ويَنكَسِر بين يديه وينطرح بين يديه دعاءً له؛ لأن ربَّه تعالى قريبٌ منه يسمع دعاءه ولا يخفى عليه حاجته، هذا هو اللائق مِن آثار الإيمان بهذه الأسماء والصفات علينا في سلوكنا وفي أفعالنا وفي أقوالنا. وهنا مسألة: فمِن هذا الحديث حديث أبي موسى عبدالله بن قيس الأشعريِّ اليماني رضي الله عنه، وكثيرٍ من الصحابة ممن عُرِفُوا بكُناهم أُبْهِمَت، وخَفِيَت عند الناس أسماؤهم، كأبي موسى، وأبي سعيد، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، حتى ربما ذُكِرَ الاختلاف في أسمائهم، فأبو الدرداء قيل: عُويمر. وقيل: عامر. والاختلاف في: هل هو عامر أو عويمر أو عبدالله؛ لاشتهاره بكنيته شهرةً أخفَتِ اسمه. الدعاء سِرٌّ، والذِّكر علانية: هذا الحديث فيه استحبابُ أن يكون الدعاء خفية وإسرارًا؛ لأن الدعاء عَرضٌ من الداعي حاجتَه على ربه تعالى، وهذا الدعاء أجلى مَظاهر العبادة، أجلى صور العبادة ومظاهرها الدعاء، والدليل قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، وعبَّر بالدعاء مع أن العبادة أنواعها كثيرة، لكن عبَّر بالدعاء؛ لأنه أجلى وأظهرُ مظاهر العبادة، ويؤيد هذا ما رواه الترمذيُّ وبعضُ أهل السنن من حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)). وهذا اللفظ حسن صحيح، وأصحُّ من حديث أبي هريرة: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةُ)). وقد رواه الترمذيُّ وحسَّنه. فهذا الدعاء الذي هو تَعبُّدٌ، وتذلل، وانكسار، وانطراحٌ فيه معنى الإخلاص بإخفائه، وهو لا يَخفى على الله. مقام آخَر مقام الذكر، فالشريعة جاءت باستحباب إظهار الذِّكر ورفع الصوت به، ومن الذكر التَّلبية، ومنه تسبيح الله عند كلِّ منخَفَض، وتكبيره عند كلِّ مرتفع، ومن الذِّكر دعاء السَّفر؛ ولهذا يُستحب الجهر به؛ لأن رفع الصوت بالذكر هاهنا رفع الصوت بتوحيد الله. ومن هذا رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة المفروضة، كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين أنه قال: كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ عَقِبَ الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال: كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ الصَّلاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِدَوِيٍّ لِذِكْرِ اللهِ فِي الْمَسَاجِدِ. وعنه أيضًا: كَانَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ انْقِضَاءِ الصَّلاةِ. وقوله: "كان" في هذه الثلاثة تدل على الاستمرار، خلافًا لمن ذهب من بعض أهل العلم، بل هم الجمهور من أهل العلم الذين يرَون أن هذا على جهة التعليم، والصحيح أن هذا على جهة التعليم وجهة الاستمرار، وقد ألَّف بعض أهل العلم رسائل في مدلول هذا الحديث، منهم الشيخ سليمان بن سحمان الخثعمي، المتوفَّى (1352ﻫ)؛ ألف رسالة سماها: (الإنصاف في رفع الذكر باللسان عقب الانصراف من الصلاة). إذًا رفع الصوت بالذكر مشروع، وهو سنة، أما رفع الصوت بالدعاء فإنه خلاف السنة؛ لهذا الحديث، حديث أبي موسى، الذي دل على قُرب الله تعالى وعلى سمعه وبصره. إثبات الرؤية لله عز وجل: وَقَوْلِهِ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْن رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ))[5]: هذا الحديث جاء من رواية عدة من الصحابة؛ جاء من رواية جرير بن عبدالله البجَلي، وجاء من رواية أبي سعيد الخدريِّ سَعدِ بن مالكِ بن سِنان، وجاء من رواية أبي هريرة عبدالرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنهم: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْن رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ، وَكَمَا سَتَرَوْنَ الشَّمْسَ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ)). ((لا تَضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ)): ((لا تُضَامُونَ)) هذه رواية، والرواية الثانية: ((لا تُضَامُّونَ))، والثالثة: ((لا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)). 1- أما الأولى: ((لا تُضَامُونَ))؛ بمعنى أنكم لا يصيبكم ضيم، وأن بعضكم يرى بوضوح أكثر من الآخر، فلو جاء الآن موكب، أو شيء ينتظره الناس فمن في الصف الأمامي يرونه أوضح من الصفوف الخلفية، فأصاب بعضَهم ضَيمٌ، بمعنى أنه نقَص عن الأول في رؤيته. 2- وأما ((لا ُتضَامُّونَ)) فمعناها: لا يضمُّ بعضُكم بعضًا ويتزاحم على هذه الرؤية. 3- ولفظة: ((لا تُضَارُّونَ)): لا يلحقكم ضررٌ حِسِّي أو معنوي. وهذا وجه تشبيه رؤية المؤمنين لله في الدار الآخرة برؤية الشمس والقمر، فالشمس والقمر يُرَيَان ليس دونهما حِجاب ولا سحاب، من جميع الناس، مِن غير مُضامَّة، ولا ضيم، ولا مضارَّة، ويُرَيانِ وهما في العلو، ويراهما جمع غفير، كلاهما واحد؛ الشمس واحدة، والقمر واحد، فالله تعالى سيُرى كذلك؛ سيُرى كما يُرى القمر ليلةَ الستِّ بعدَ ثمانٍ؛ أي: ليلة الرابع عشر. وهو أوضَحُ ما يكون القمر فيها بدرًا ليس دونه سحاب. الإيمان ثمرته في العمل الصالح: ((فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَلاَّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا))؛ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ[6]. وهذا فيه التأكيد على فريضتي: الفجر، والعصر. وفي هذا حُجَّة لأهل السنة الذين قالوا: إن إدراك هذه الفضائل في الجنان، وهذه الفضيلة في رؤية المنان تعالى إنما تتَأتَّى بالإيمان، والعمل الصالح. فالعمل الصَّالح من الإيمان؛ ولهذا أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هاتين الفريضتين بالمحافظة عليهما، وهذا معنى حديث أبي موسى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ))؛ تأكيدًا لهاتين الصلاتين من بين بقية الصلوات كما في القرآن: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]. ففي هذا إثبات أن الله يُرى، والأحاديث في إثبات رؤية الله قد بلغَت مبلغ التواتر، رواها عن النبي نيِّفٌ وثلاثون صحابيًّا، وفيها إثبات أن الله يتجلى لخلقه، كما أنه يُرى إذا نُزِع الحجاب، وكشف الحجاب، وتجلى لخلقه، إذا كان الله تجلَّى في الدنيا لمن لا ثواب له ولا عقاب، وليس هو مأمورًا ولا منهيًّا - وهو الجبل - فلم يُطق الجبل هذا التجلي، وإنما تدهدهَ، وخرَّ، وغدا ترابًا؛ ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143]، فالجبل ما أطاقَ - وهو أصَمُّ وأَشَمُّ - فالمخلوق الذي هو أقلُّ خَلقًا مِن الجبل من باب أولى ألا يُطيق، وفي هذا دليل على أن عدم رؤيتنا لله في الدنيا لا لخفاء الله ولكن لعجزنا وضعفنا؛ لا نطيق ذلك، فإذا كان يوم القيامة كمَّل الله للمؤمنين قُواهم ومداركَهم، فأطاقوا نعيمَه، وتلذَّذوا به كما يُطيق الكفارُ عذابَ الله في نار جهنم. أحاديث صفات الله عز وجل: إِلَى أَمْثَالِ هَذِه الأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ: مِن صفات الله مِن الكمالات اللائقة بالله، أو مما يُنزه الله عنه؛ كقوله: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ))[7] ، ((إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ شَيْئًا))[8] ، ((يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلا تَظَالَمُوا))[9] ، وهذا حديث قدسي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فهذه إلى أمثلها؛ أي: نؤمن بها. والشيخ لم يُرِد بهذا الاستيعابَ، وإنما ساق لنا ستة عشر حديثًا، وأحال إلى بقيتها من الصِّحاح في قوله: "إلى أمثال ذلك من الأحاديث الصحاح التي يُخبر فيها النبيُّ عن الله ما يخبر به"؛ أي: إنه يجب علينا أن نؤمن بها، ولا نتكلفها، ولا نتأولها، ولكن نؤمن بها على وجه يليق به سبحانه وتعالى؛ مِن غير تكييفٍ فلا نكيفها، ومن غير تحريف فلا نحرفها فيما يسمونه تأويلاً، من غير تمثيل، ولا تعطيل. [1] رواه الطبراني في الأوسط والكبير في مجمع الزوائد (1/ 60)، والبيهقي في الأسماء والصفات (907). [2] تقدم تخريجه. [3] رواه مسلم (2713)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (6610)، ومسلم (2714)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (554)، ومسلم (633)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [6] رواه البخاري (554)، ومسلم (633)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [7] رواه مسلم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [8] رواه البخاري (7449) بلفظ: ((فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا))، ومسلم (7191) بلفظ: ((إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً)). [9] تقدم تخريجه.
__________________
|
#23
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (22) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل إجمال مذهب السلف في باب الأسماء والصفات فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ، وَلا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ لا تَكْيِيفٍ، وَلا تَمْثِيلٍ: ردَّد هذا الأصلَ مرة ثانية لأنه طال عنه العهد، فردده مرة ثانية لَمَّا ذكَر أحاديث السنة؛ ليربطك به مرة ثانية، وهذا الأصل هو أن إيمان أهل السنة والجماعة إيمان الفرقة الناجية بهذه الأخبار المشتملة على أسماء الله وصفاته إنما هو إيمانٌ على الحقيقةِ اللائقة بالله تعالى؛ بعظَمِته وجَلاله، من غير تشبيه، من غير تمثيل، من غير تعطيل، من غير تحريف، من غير تكييف. وسطية أهل السنة والجماعة: بَلْ هُمُ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الأُمَمِ: الآن يَذكر لنا خَصائص أهل السنة، فأعظمُ خصائصِهم الوسَطيَّة؛ فإن أهل السنة والجماعة هم الوسط بين الفرق، كما أن هذه الأمةَ - أمَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم - هي الوسط بين الأمم. أمة النبي أمَّتان: أمة الإجابة الذين استَجابوا له وآمَنوا به، وأمة الدعوة الذين يُدعَوْن إلى دين الله. أمة الإجابة أمة النبي بِفِرَقِها غير الفِرَق الكفرية؛ لأن الفِرَق الكفرية خرجَت عن معنى كونها أمةَ إجابة إلى كونِها أمة دعوة. معنى الوسطية: يَظنُّ بعض الناس أن الوسط هو الشيءُ المتوسِّط بين الطَّرَفين وهذا مفهومٌ خاطئ غالط؛ بدليل أن هذه الأمة هي طرَفُ الأمم بالنسبة إلى ترتيبها الزماني والمكاني، فنحن آخِرُ الأمم، نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة، فليس معنى الوسطية هو الوسطَ بين الطَّرفين، وقد يكون هذا المعنى حقًّا لكنه ليس مطَّرِدًا دائمًا، وإنما معنى الوسطية: الخيار العدل، أصحاب المنهج السوي المستقيم، القائم على دين الله الحق. ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]؛ وسطًا عدلاً خيارًا، فلا يُظَنُّ أن الوسط هو ما كان متوسطًا بين الطرفين؛ فهذه الأمة وسطٌ بين الأمم بمعنى أنها خِيارها وعُدولها، وأهل السُّنة الفرقة الناجية هم الوسَط بين الفرق؛ أي: المنتسبةِ إلى هذه الأمة؛ أي: إن خيارها وعدولها لاستقامتهم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه أصحابه. وسطية أهل السنة في باب الصفات: فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللهِ سبحانه وتعالى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّةِ، وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ: بدأ بهذه الخِصِّيصة: فهم - أهل السنة والجماعة، الطائفة الناجية - وسطٌ في باب أسماء الله وصفاته بين طائفتين: بين أهل التعطيل الجهمية والمعتزلة، وبين أهل التشبيه الممثِّلة والمشبهة. وبدأ بالصفات مع أنَّ ثمة مسائل أعظم من الصفات؛ كمسائل توحيد العبادة، ومسائل الإيمان، ومعرفة الله (مسألة الأسماء والأحكام)، لكن بدأ بالصفات لأنها هي محورُ هذا البحث في العقيدة، ولأن هذه المسألة جليلة؛ لتعلقها بجلال المسمى والموصوف. المعطِّلة - جهمية أو معتزلة أو متكلمون، أو من تأثَّر بهم - أهلُ تحريف وتعطيل لله تعالى عن الصفات أو بعضِها، والممثِّلة المشبهة شبَّهوا صفات الله بصفات خلقه، أما أهل السُّنة فإنَّهم وسَطٌ بين هؤلاء وهؤلاء؛ أثبتوا لله الأسماءَ والصِّفاتِ من غير تشبيه، وإنما تنزيهًا من غير تعطيل، فهُم أولى الناس بوصف الإثبات، لكن من غير تشبيه، ومن غير تمثيل، وهم أولى الناس بوصف التنزيه (تنزيه الله تعالى عن النقائص وعن العيوب)، لكن من غير تعطيل، فأثبتوا لله الأسماءَ والصفاتِ على ما يليق بالله جلالةً وعظمةً وكبرياءً، لا يَعلمون حقائقَ أسمائه، ولا حقائقَ صفاته؛ لأنهم لا يَعلمون كيفية ذاته في الأصل، ولهذا صاروا في هذا الباب (بابِ الأسماء) وسطًا بين هؤلاء المنحرِفين. وسطية أهل السنة في باب القدَر: وَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ أَفْعَالِ اللهِ سبحانه وتعالى بَيْنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ: المراد بأفعال الله القضاء والقدر (القدَر الكوني والقدَر الشرعي)؛ لأن القضاء والقدر أفعالُ الله يفعلها بخلقه، فهُم وسَط في هذا الباب بين الجهميَّة الجبرية وبين القدرية وهم المعتزلة. سبحان الله! لم يجتمع مذهب التعطيل بين هذه الفرق المتضادة إلا في نفي صفات الله وأسمائه؛ ففي القدَر هم ضدان؛ أي: الجهمية ضد المعتزلة. وفي باب الإيمان هم ضدان؛ لأن الجهمية مرجئة والمعتزلة وَعيديَّة، أهل السنة وسط في أفعال الله في القضاء والقدر بين هاتين الفرقتين والطائفتين المنحرفتين؛ فالجهمية قالوا: إن العباد مجبورون على أفعالهم، والأفعال كلها من خلق الله لكن أُجبِر العبد عليها. والقدرية قالوا: لا، الله ما خلق الأفعال، ولا قدَّرها، وما قضاها، وإنما العبد يفعل باختياره المحض. ونلاحظ أن كل مذهب عنده حقٌّ وعنده باطلٌ كثير، ولو أخذتَ الحق الذي عند كل مذهب لاجتمَع لك مذهبُ أهل السُّنة؛ فالحقُّ عند الجهمية أن الأفعال كلَّها لله؛ قدَّرها، وقضاها، فنؤمن بذلك، لكن لا نوافقهم أن الله سلب قدرة العبد عليها وإرادته، وأنَّه صار مجبورًا؛ فهذا خطأ وباطل، والحق الذي عند المعتزلة أن العبد يختار بنفسه، وفِعلُه مخلوق له، منسوب إليه وهذا حق، لكن الباطل هو نَفيُهم قدرةَ الله، وتقديره، وكتابته، وإرادته، ومشيئته، وخلقه لفِعل عبده، وغُلاتُهم يَنفون علمَ الله وكتابتَه لما يكون من المقدرَّات. وسطية أهل السنة في مآل أهل الذنوب: وَفِي بَابِ وَعِيدِ اللهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْوَعِيدِيَّةِ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ: الوعيد في الآخرة الوعيدُ على الذنوب؛ ((لَعَنَ اللهُ شَارِبَ الْخَمْرِ، وَآكِلَهَا، وَمُؤْكِلَهَا))، ((لَعَنَ اللهُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَحَامِلَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُحْتَمِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ))، ((لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَمِؤْكِلَهُ))[1]هؤلاء هم أهل الوعيد. وأهل السُّنة وسَطٌ فيهم بين طائفتين: بين المرجئة الذين قالوا: لا يكون مع الإيمان ذنب. والمرجئة يشمل عدة فرق، فيشمل الجهمية - وهي أم الإرجاء - والأشاعرة، والماتريدية، والكرَّامية، وأقلهم إرجاءً مرجئة العراق، وبين الوعيدية من الخوارج القدرية وغيرهم. القدرية وصفٌ للمعتزلة، وسُمُّوا قدرية لأنهم ينفون القدر، ولقب القدرية يطول فئتين: 1- الجهمية؛ ويُسمَّون قدرية لأنهم يغلون في إثبات القدَر، وينفون قدرة العبد. 2- والمعتزلة؛ يُسمَّون قدرية لأنهم ينفون القدر، حتى صارت القدَريةُ في العصور المتأخرة وصفًا للمعتزلة. أهل السُّنة وسطٌ في باب الوعيد - على أهل الذنوب يوم القيامة، وعلى أهل الكبائر، وعلى أهل المعاصي - بين الوعيدية من القدرية الذين قالوا: إن صاحب الذَّنب في النار، مخلَّد فيها، وإن لم يكن مشرِكًا. وبين المرجئة الذين قالوا: إنه لا يَضرُّ مع الإيمان ذنب ولا معصية. وسطية أهل السنة في أسماء الإيمان: وَفِي بَابِ أَسْمَاءِ الإِيمَانِ وَالدِّينِ بَيْنَ الْحَرُورِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ: أسماء الناس في الدنيا: هل هو مؤمن، هل هو كافر، هل هو عاصٍ؟ والوعيد هي أحكامهم في الآخرة؛ ولهذا يُسمى هذا: باب الأسماء والأحكام. أسماء الإيمان والدِّين؛ أي: إن اسمه مؤمن أو غير مؤمن، ودينه هل هو كافر أو غير كافر؟ هل هو في الجنة أو ليس في الجنة؟ في هذا الباب هم وسط بين الطائفتين، بين الوعيدية من الخوارج، والمعتزلة "القدَريَّة": أ- فالخوارج سَمَّوا صاحب الذنب في الدنيا كافرًا كُفرًا أكبر، وهذا مذهب عامة الخوارج؛ ولهذا كفَّرُوا عثمان، وكفَّروا عليًّا، وكفروا الصحابة رضي الله عنهم، فحكَموا عليهم في الدنيا بأنهم كفار، والإباضية وهي إحدى فرق الخوارج؛ حيث الخوارج أشهر فرقها أربع: 1- الأزارقة: أتباع نافع بن الأزرق. 2- والنجدات: أتباع نجدة بن عامر اليمامي. 3- والصفرية: أتباع ابن أبي صفرة. 4- والإباضية أتباع عبدالله بن إباض التميمي. فالإباضية من الخوارج قالوا: إن صاحب الذنب كافرٌ كُفرَ نعمة لا كفر ملَّة، وقالوا: كفر نعمة؛ لئلاَّ يوجبوا عليه لوازم الكفر، فيستبيحوا دمَه، أو يُقيموا عليه الحد، أو يُطلِّقوا منه زوجتَه، أو لا يُوَرِّثوا منه أهلَه، فقالوا: هو في الدنيا كافرٌ كُفرَ نعمة، وإذا مات فهو في النار؛ ولهذا فإن مذهب الإباضية هو الذي بقي مِن مَذاهب الخوارج. ب- وبين مذهب المعتزلة الذين قالوا: إن صاحب الذنب في الدنيا فاسق، فيُسمُّونه الفاسقَ المِلِّي، فيقولون: الفاسق الملي هو الذي خرَج من الإيمان ولم يَدخل الكفر، وإنما بَقي في منزلةٍ بينَهما. وهذه أولُ بِدَعِهم بالمنزلة بين المنزلتين. إذًا فالخوارج والمعتزلة اختلَفوا في اسمه في الدنيا؛ فمِنهم مَن عدَّه كافرًا كُفرَ مِلَّة، ومنهم مَن عدَّه كافرًا كفرَ نعمة، وهم الإباضية، ومنهم من عده لا مؤمنًا ولا كافرًا، وهم المعتزلة أصحاب المنزلة بين المنزلتين، واتفقوا على أن حكمه في الآخرة التَّخليد في النار. والذي حمل الإباضيَّةَ على مذهبهم - وكذلك المعتزلة - هو الجُبْنُ والخوَر؛ لئلاَّ يُعامِلوا صاحب الذنب مُعامَلةَ الكافر؛ كما صرح به أولئك. ومذهب الخوارج يحمل في نفسه آثار الزوال، لا يبقى بهذه الصفة، وهكذا كل متشدِّد في أحكامه على الناس لا يَحمل مذهبُه وتشدُّده أسبابَ البقاء وإنما يَزول، وهذه نلاحظها مُطَّرِدةً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ))؛ ثَلاثًا[2]، وقولِه: ((إِنَّ هَذَا الدِّينِ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيِه بِرِفْقٍ))، ((وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ)). يقابل هؤلاء الوعيدية المرجئة الذين يرَون أن صاحب الإيمان لا يضره شيءٌ من الذُّنوب التي يفعلها، فيقولون: إن الإيمان لا يَضرُّ معه ذنب. وهذا المذهب موجودٌ عند المرجئة، عند عَوامِّ عوامِّهم. عوامُّ الأشاعرة، وعوام الماتوردية إذا أُمِرُوا بالمعروف ونُهُوا عن المنكر قالوا: الإيمانُ في القلب. يقول هذا وهو مُتلبِّس بالمعصية كَتَركٍ للصلاة أو مقارَفةِ مُنكَر؛ لأن عندهم - من آثار المذهب الذي هم فيه - أنَّه لا يضر مع الإيمان معصية، وهذا من مذهبهم، فعندهم صاحب الذنب يُسمى مؤمنًا كامل الإيمان وإن أتى ذنبًا. وتَوسَّط بينهم العدولُ الخيارُ أهلُ السُّنة والجماعة، فقالوا: إن صاحب الذنب في الدنيا يُسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمان؛ مؤمنٌ بإيمانه، ناقصُ الإيمان بذنبه؛ إما بكبيرة فيكون فاسقًا، أو بمعصيته فيُسمى عاصيًا؛ ولهذا فأهل السنة عندهم أوصاف: مؤمن، مسلم، مؤمن كامل، مؤمن ناقص الإيمان يُسمى فاسقًا، أو عاصيًا، والكافر. وسطية أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم: وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ: في باب الصحابة والإمامة هم وسط بين طائفتين: 1- الروافض الذين غلَوْا في عليٍّ وفي بعض آله رضي الله عنهم[3]: 2- وبين النواصب، والنواصب هم الخوارج الذين ناصَبوا عليًّا العداء، وقاتلوه، وكفَّرُوه، وحاربوه في (صِفين)، ثم في (النَّهروان)، ثم كان آخرهم عبدالرحمن بن مُلجم، هذا الشقي الخبيث الذي قَتل عليًّا رضي الله عنه. ناصَبوا عليًّا، وناصَبوا الصحابة الذين مع عليٍّ العداء، وناصَبوا بقية الصحابة العداء؛ ولهذا عند الخوارج لا يَسلَمُ منهم إلا أبو بكر وعمر، ومَن كان في عَهدِهما فقط، حتى عثمان ما سَلِم منهم، أما الروافض ما سَلِم منهم مِن الصحابة أحدٌ إلا الأربعة: سَلْمان، وأبو ذرٍّ، والمقداد، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم. فأهل السُّنة وسطٌ في هؤلاء الصحابة بين هؤلاء وهؤلاء؛ على ما سيأتي مِن بيان وسطيَّتِهم. [1] رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. [2] تقدم تخريجه. [3] وأقول: بعض آلِه؛ لأنهم ما غلَوا في جميع آل البيت؛ فإن آل الحسن، وآل جعفر، وآل عباس ما غلَوا فيهم، وآل الفضل ابن عبَّاس، وهم بالاتِّفاق من آل البيت، وهذه سيأتي لها نكتة؛ لأن غُلوَّهم في بعض آل البيت، هذه العقيدة التي اندرجَت عند السذَّج، والبُلْه، والأغبياء الذين ليس لهم عقول، فضلاً عن أن تكون لهم معرفة بالأدلة والنصوص، وهؤلاء الروافض لما غلَوا في بعض آل البيت سَبُّوا وكفَّروا بقية الصحابة، فلم يَسلَم مِن كفرهم إلا ثلاثةٌ أو أربعة أو خمسة؛ لا يتجاوزون أصابعَ اليد، وممن سلم من تكفيرهم عمار، وسلمان، وأبو ذر والمقداد رضي الله عنهم، ويسبون الصحابة ويُكَفِّرونَهم. الروافض لهم أربعة أصول؛ أعظمها أصل الإمامة، وفي أصل الإمامة جعلوا سب الصحابة، فقالوا: المستحق للإمامة نصًّا هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولهذا كفروا الصحابة؛ لأنهم لم يُصيِّروا عليًّا خليفة، وخالفوا نص الله، ونص رسوله؛ ولهذا فسبُّ الصحابة ليس أصلاً في ذاته، وإنما يندرج تحت أصلهم بالإمامة.
__________________
|
#24
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
#25
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (24) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]. وَقَوْلُهُ للصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ)). وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ - لا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي نُعُوتِهِ، وَهُوَ عَلَيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ. وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ: الإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 186]: دخل في ذلك؛ أي: الإيمان بأسمائه وصفاته على جهة التفصيل. والإيمان بأنه قريب ومجيب: لأن هذا الذي أخبر به عن نفسه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ ﴾ [البقرة: 186]؛ يجيب لأنه سبحانه مجيبٌ لمن دعاه وسأله، واستغاثه والتجأ إليه، فالله قريب مع علوه، من غير أن نقول: كيف؟ وإنما هي أول باب للظنون الكاذبة، وإنما هو قريب في علوه كما أخبرَنا بذلك عن نفسه، وأخبرَنا به أعرَفُ الخلق به؛ آمنَّا بهذا وصدقنا من غير أن ندخل فيها بعقولنا وظنوننا متهوكين، متجرئين، طالبين ما ليس لنا به علم. وَقَوْلُهُ للصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))[1] وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ - لا يُنَافِي مَا ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ: لما قال صلى الله عليه وسلم للصحابة لما كانوا في سفر ورفعوا أصواتهم بالدعاء: ((أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلا غَائِبًا، إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))[2] - دلَّ على قربه سبحانه وتعالى مع كونه بذاته على عرشه، على جميع خلقه، لكنه لا يَخفى عليه شيءٌ من خلقه، وهو مع ذلك قريبٌ منهم، وهذه معية خاصة لأوليائه، وهي من معاني قربه منهم. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي نُعُوتِهِ: هو سبحانه ليس كمثله شيء لئلاَّ تقول: كيف يكون هذا؟ لأن الله لا يُشبِهه شيء، ولا يماثله شيء، ولا يساميه شيء، ومِن انفراده أنه ليس كمثله شيء؛ لأحديته وفردانيته أنه في جميع نعوته (صفاته) لا يُماثل بخلقه، ولهذا لا تدركه العقول. وَهُوَ عَلَيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ: في قُربه، فمعنى الدنوِّ القُرب، وهو قريبٌ في علوه؛ ولهذا يقول النبي: ((إِنَّ اللهَ يَدْنُو إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ))[3] يدنو إلى سماء الدنيا وهذا نزول، كما دلت عليه أحاديث النزول إلى ثلث الليل الآخر؛ لأنه جاء في بعض الروايات: ((إِنَّ اللهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَيُبَاهِي بِأَهْلِ عَرَفَةَ مَلائِكَتَهُ))[4] هذا الدنو في علو الله، والقرب في علو الله - مما تتقاصر دونه أفهام الناس، ولا تدركه، ولا تحيط به عقولهم، إلا المؤمنون الموحدون، الذين عرَفوا ضعفهم وعجزَهم وعدمَ إحاطتهم، فكانوا واقفين على حد البحر لم يلجوا في لججه، ولا في أمواجه، ولا في ظلماته، وإنما هم على حدِّ البحر، على حد العلم الذي أُعْلِمُوا إياه، لم يتطاولوا ذلك ويتعدَّوه بعقولهم. يقول أبو المعالي[5] قبل أن يموت، وقد بلَغ من الحيرة مبلغها - وهذه نقَلَها عنه شيخُ الإسلام، ونقلها عنه شارح الطحاوية - يقول: "أيها الناس - وهو يبكي - لقد خضت البحر الخضم، وتركت على أهل الإسلام على بره، وقد نهَوْني أن أخوض فيما خُضت فيه، ولم أحصل علمًا ولا يقينًا، والآن أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وإن لم يتداركني الله برحمته فلا أدري شيئًا". أي: إنه وصل بعد هذه الاستطالات والخوض فيما لا يُحسِن، وفيما أُخْفِيَ عن علمه - وصل إلى تمني أن يموت على عقيدة العوام، أما أهل الإيمان فإنهم فوق عقيدة العوام لأنهم في مصافِّ العلماء، ولهذا لما قال الشهرستاني عبدالكريم: لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا ♦♦♦ وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ معالم البحث، والجدل، والمناظرة، وطلب ما يُسمى عندهم بالحقائق. فَلَمْ أَرَ إِلاَّ وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ ♦♦♦ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ ما أوصَلَتهم هذه المعلومات والمنطوقات والقواعد والنظر والجدل إلا إلى الحيرة؛ إمَّا واضعًا كفَّه على ذقنه، أو قارعًا سن نادم (سن الندم والحيرة). ابن الأمير الصنعاني لما قرأ هذا الكلام في الدرس على نُسخته أنشَأ بيتَين جادت بهما قريحته؛ لأنه تصور الحال التي أدركها هؤلاء بما يسمُّونه علومًا - وهو علم الكلام الفاسد - فأوصلَهم إلى هذه الدركات من الحيرة والضلال والشك التي يتمنى الإنسان عندَها أن يكون على عقيدة العوام، قال له ابن الأمير الصنعاني: لعلك أهملتَ الطواف بِمَعْهَدِ الـ ♦♦♦ ـرَسُولِ وَمَنْ لاقَاهُ مِنْ كُلِّ عَالِمِ أنت صحيح قد طُفتَ بكل المعاهد إلا معهدًا واحدًا ما أتيتَه، ولا قربت عنده؛ لأنهم كانوا يَحتقِرون أهله ويزدرونَهم: هؤلاء حشوية نابتة مجسمة، هؤلاء سذج لا يضرُّونكم، ليس عندهم إلا قال الله وقال رسوله، هذا المعهد أهملتَ الطواف به. فَمَا حَارَ مَنْ يَهْدِي بِهَدْيِ مُحَمَّدٍ ♦♦♦ وَلَسْتَ تَرَاهُ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ لأنَّه على يقين، على طُمَأنينة، على انشراح، على سَكينة الإيمان التي أفضى بها إليه أنَّه عرَف قدره، وانتهى بعِلمه إلى ما علَّمه الله إياه ورسولُه، الله ما عَلَّمَنا كيفية صفاته ولا كيفية أفعاله، ولا كيفية ذاته؛ لأن عقولنا ومداركنا تقصر وتقل فهمًا لهذه المعاني، فأُعْلِمْنا ما نفهم ونعقل، وغُيِّب عنا ما لا ندركه ولا نفهمه. ومن ذلك أنه عليٌّ في دنوه، هو مع كونه عليًّا فإنَّه دانٍ وقريب، وهو قريب مع علوه، نؤمن بذلك لأنه جاءنا عن الله وعن رسول الله، ولا نتهَوَّك في ذلك بأهوائنا وظنوننا الكاذبة والفاسدة. [1] تقدم تخريجُه. [2] كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه أخرجه في الصحيحين. [3] رواه مسلم (1348)، من حديث عائشة رضي الله عنها نحوَه. والعشية تبدأ مِن بعد العصر، مأخوذة من تعشية الإبل والبهائم، فإنها من بعد العصر وهي تعشي. [4] رواه مسلم (1348)، من حديث عائشة رضي الله عنها نحوه. [5] وقد خاض في هذه المعاني الكلامية، والقواعد الفلسفية، والقيل والقال، حتى إن كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة) لا تكاد أن تقرأ فيها آيةً واحدة.
__________________
|
#26
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (25) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ: وَمِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ: الإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً لا كَلامُ غَيْرِهِ. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلامِ اللهِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ، بَلْ إِذَا قَرَأَهَ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ بِذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الْكَلامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا، وَهُوَ كَلامُ اللهِ حُرُوفُهُ وَمَعانِيهِ، لَيْسَ كَلامَ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ. وَمِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَكُتُبِهِ: الإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ: الآن يفصِّل في مسألة كلام الله؛ لأنها من المسائل العظيمة الجليلة، التي هي مِن أوائل ما وقَع فيها الانحرافُ في مسائل الصفات؛ فإن أول من عُرِفَ عنه الانحراف في الصفات هو الجعد بن دِرْهَم؛ فقد نفى أن يكون الله كلم موسى تكليمًا، واتخذ إبراهيم خليلاً، فأنكر صفة الكلام، وأنكر صفةَ الخُلَّة، وتَلقَّفَها عن الجعدِ الجهمُ. ولهذا فابنُ القيم لما بدأ في نَظمِه في الكافية الشافية (النونية) بدأ يتغزل، والشعراء إذا بدَؤوا أشعارهم يتغزلون بمحبوباتهم: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ♦♦♦ مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وقال: لِخَوْلَةَ أَطْلالٌ بِبَرْقَةِ ثَهْمَدِ ♦♦♦ تَلُوحُ كَبَاقِي الْوَشْمِ فِي ظَاهِرِ الْيَدِ ومنهم من يبدأ بالأطلال يتوجد عليها. وابن القيم سلَك هذا المسلَك، فتغزَّل - وظنَّه كثيرٌ مِن الشُّراح أنه يتغزَّل بامرأةٍ على عادة الشعراء وهو يتغزل - ولكنه يتغزل بالعقيدة؛ حيث يقول: أَنَّى وَقَاضِي الْحُسْنِ نَفَّذَ حُكْمَهَا ![]() فَلِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْخَصْمَانِ ![]() وَأَتَتْ شُهُودُ الْوَصْلِ تَشْهَدُ أَنَّهُ ![]() حَقٌّ جَرَى فِي مَجْلِسِ الإِحْسَانِ ![]() صَوَّر العقيدة كأنها محبوبة معشوقة، وهذا من الخيال الخصب عند ابن القيم؛ ولهذا بدأ بهذا الإجمال العام، ثم بدأ بشعائر الإسلام، ثم بدأها بالحج وشعائره. وَرَقَتْ إِلَى أَعْلَى الصَّفَا فَتَيَمَّمَتْ ♦♦♦ دَارًا هُنَالِكَ لِلْمُحِبِّ الْعَانِي وفي بعض النُّسَخ: "للمُحثِّ العاني". إلى أن قال - الذي بيَّن أنه يتغزل بالعقيدة الصحيحة -: إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي ![]() فَعَلَيْكِ إِثْمُ الْكَاذِبِ الْفَتَّانِ ![]() جَهْمِ بْنِ صَفْوَانٍ وَشِيعَتِهِ الأُلَى ![]() جَحَدُوا صِفَاتِ الْوَاحِدِ الدَّيَّانِ ![]() إلى أن قال: وَلأَجْلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خَالِدُ الْ ![]() قَسْرِيُّ يَوْمَ ذَبَائِحِ الْقُرْبَانِ ![]() إِذْ قَالَ: إِبْرَاهِيمُ لَيْسَ خَلِيلَهُ ![]() كَلا وَلا مُوسَى الْكَلِيمَ الدَّانِي ![]() شَكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ ![]() للهِ دَرُّكِ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ ![]() فأول المسائل التي وقع فيها الانحرافُ في صفات الله فيها: مسألة كلام الله، وتطوَّرَ ذلك إلى أن أنكَرَته الجهمية، ثم تلقَّفَها عن الجهميةِ المعتزلةُ، وامتحَنوا الناس في عهد المأمون بها، ووقَف لها فُحولُ وأساطينُ السُّنة، وساداتُ الناس فيها وأئمتها، وما موقف الإمام أحمد في هذه الفتنة ببعيد. وأُولى مسائل العقيدة التي حصَل فيها انحرافٌ مسألة كلام الله، وإنكار صفاته الذي هو مذهبٌ خبيث أُثِرَ عن الجعد، وتحمَّلَه عن الجعدِ ونشَرَه الجهمُ، فنُسِبَ إليه، وتحمَّله عن الجهم المعتزلة، فنُسِبَ إِليهما مذهبُ الجهمية والمعتزلة. وأما أُولى مسائل العقيدة انحرافًا فهي مسألة صاحب الذنب التي هي مفصل الافتراق بين أهل السُّنة وبين الوعيدية وبين المرجئة، ثم مسألة القدر لما أنكر مَعبد بن خالدٍ الجهني قدَرَ الله على خلقِه، فحَكَم عليه التابعون - ومنهم الأوزاعيُّ - بقتله، فقتَله عبدالملك بن مروان. من الإيمان بالله وكتبه الإيمانُ بأن القرآنَ كلامُه؛ لأن الإيمان بالله إيمان بذاته، وأسمائه، وصفاته، ومن صفات الله أنه متكلم يتكلم، وكلامه أنواع: نداء، ونجاء، وقيل، وقول، وحديث. وكذلك الإيمان بكتبه؛ لأن كتبه التي تَكلَّم بها وأنزلها على الأمم هي مِن كلامِه سبحانه؛ إذ مقتضى الإيمان بالكتب أن تؤمن بصفة الله الكلام، وأن تؤمن بصفة الله العلو؛ لأنَّ كتبه مُنزَّلة من السماء. الإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ: الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، هذا هو مذهب السلف في القرآن أنه كلام الله؛ أي: صفة الله الذي أضافه له؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 6]، وقوله: ﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ [المائدة: 41]؛ مِن بعدِ ما سمعوه، من بعدِ ما عقَلوه. المعتزلة قالوا: إنه منزل؛ لكنه - مثل إنزال الحديد - مخلوق، ولهذا أضاف أهل السنة: منزَّلٌ غيرُ مخلوق. وممن يقول: إن القرآن مخلوق الجهميةُ والمعتزلة والماتوريدية، وحقيقة قول الأشاعرة لأن الذي معنا - عند الأشاعرة - هو مخلوق ليس عينَ كلام الله تعالى، وهو قول الخوارج، وهو قول الإمامية؛ لأن الإماميةَ والخوارجَ بعد القرن الثالث معتزلة، هذا في تأريخ الفرق؛ فالخوارج في أواخر القرن الثاني وأول الثالث، وكذلك الإمامية في أول الثالث - أضحَوْا معتزلة، مع أن متقدِّمي الروافض ممثِّلةٌ مشبِّهة: هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي. مِنْهُ بَدَأَ: أو يُقال: بدَا؛ كلاهما رسمان صحيحان، فمنه بدأ؛ أي: إن القرآن ابْتُدِئ من الله، فالله ابتدأ الكلام به، ومنه بدا بالألف بدون همز فإن القرآن ظهَر من الله، بمعنى أنه كلام تكلم به. وَإِلَيْهِ يَعُودُ: هذا من اعتقاد أهل السنة أن القرآن يعود إلى الله في آخر الزمان كما جاءت بذلك الأخبارُ الصادقة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((يُسْرَى عَلَى الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ، فَيَفْتَحُ النَّاسُ مَصَاحِفَهُمْ، فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ، لَيْسَ فِيهَا مِنْ كَلامِ اللهِ شَيْءٌ؛ قَدْ أُسْرِيَ بِالْقُرْآنِ))[1]؛ أي: رجع إلى صاحبه، إلى المتكلم به. وذلك لما أهمله الناس، وتركوا الهداية منه، وتركوا قراءته فإنه يرجع إلى صاحبه، وإليه يعود. وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً: تكلم الله به حقيقة، وأما كيف تكلم به؟ فلا نعلم، لكن نعلم ونؤمن ونوقن بأن الله تكلم به حقيقة، ومقابل الحقيقة ليس مجازًا تأويلاً كما يسميه المتكلمون، قالوا: إن تكلم الله مجازًا. إضافة الكلام إلى الله من جهة المجاز، لكن أهل السنة يقولون: تكلم به حقيقة. ولا يَعلمون كيفية التكلُّم به. وهذا القيد له فائدة أن القرآن أنزل على محمد، لم يُنزل على عيسى، ولا موسى، ولا داود، ولا إبراهيم عليهم السَّلام، وإنما أُنزل عليهم كتبٌ غير القرآن، ونحن نعلم من كتب الله تفصيلاً بأسمائها خمسة، وهي: القرآن على محمد، والإنجيل على عيسى، والتوراة على موسى، والزبور على داود، وصحف إبراهيم على إبراهيم. هُوَ كَلامُ اللهِ حَقِيقَةً لا كَلامُ غَيْرِهِ: هذا الكلام - أي: هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد - هو كلام الله الذي تكلم الله به، سمعه جبريل من الله، وسمعه محمد من جبريل، لا كلام غيره. والأشاعرة يقولون: إنه كلام جبريل، أو كلام محمد، أو كلام الهواء، أو اللطيفة. إذًا نؤمن بأن هذا القرآن الذي أنزله على رسوله ونقرؤه نحن هو كلام الله حقيقة. وَلا يَجُوزُ إِطْلاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلامِ اللهِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ: يُشير الشيخ بهذا إلى مذهبَيِ الأشاعرة والكلابية الذين قالوا: إن هذا القرآن الذي معنا عبارة عن كلام الله. وقالت الكلابية: إن هذا القرآن الذي معنا نقرؤه هو حكايةٌ عن كلام الله؛ وذلك لأن كلام الله – في اعتقادهم الفاسد - هو ذلك المعنى النفسي الذي قام بالله ولم يسمعه منه أحد، وهذا القرآن وقبله الإنجيل والتوراة والزبور هي عبارة - كما هو قول الأشاعرة - أو حكاية - كما تقول الكلابية - عن كلام الله. وقوله: بالعبارة والحكاية بدعةٌ ابتدعها هؤلاء، وخُصُّوا بها عن عامة الجهمية والمعتزلة والمعطلة، ومؤدى هذه البدعة أن الذي معنا ليس هو عينَ كلام الله، وإنما الذي معنا كلامٌ مخلوق؛ لأن كلام الخالق معنى نفسي قام بالله تعالى ولم يقم بغيره. بَلْ إِذَا قَرَأَهَ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ بِذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعَالَى حَقِيقَةً؛ فَإِنَّ الْكَلامَ إِنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لا إِلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا: إن الشيخ لخَّص لنا في هذين السطرين اعتقادَ أهل السُّنة في كلام الله القرآن، أن هذا القرآن - إذا قرأه الناس القارئون، أو رتله المرتلون، أو سمعه السامعون، أو كتبه النُّساخ، أو طبَعه الطابعون - لم يخرج عن كونه كلامَ الله؛ لأن المقروء كلام الله، والقارئ هو الإنسان، والمتلو كلام الله، والتالي هو المرتل، والمكتوب هو كلام الله، والكاتب والحبر والجلد والورق مخلوق، والمحفوظ كلام الله والحافظ هو الإنسان وطالب العلم والمؤمن، وقد يحفظ القرآنَ غيرُ المؤمن؛ ولهذا ذُكِرَ عن بعض المستشرقين حِفظُهم للقرآن، وعن بعض النصارى في لبنان وغيرها حفظهم للقرآن؛ ليجودوا ألسنتهم من ناحية العربية، أخبرني أحد الدكاترة أن أستاذهم الذي درسهم في (كمبرج) قديمًا يقال له: (يوسف شخب) - وهو مستشرق يهودي، مجَريُّ الأصل - أخبرني هذا أنه كان يحفظ القرآن، ويحفظ المسند "مسند الإمام أحمد"، ويحفظ الأم للشافعي، وهو يهودي خبيث مستشرق، كما ذكر الله عمن قبلنا أنهم كالحمير تَحمل أسفارًا، فالعلم على ظهورها وهي ما تستفيد؛ ولهذا يقول القائل: وَمِنَ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمَّةٌ ![]() قُرْبُ الشِّتَاءِ وَمَا إِلَيْهِ وُصُولُ ![]() كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا ![]() وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ ![]() الماء على ظهورها ولم تَستفِد منه، والله تعالى وصَفَ في آية الجمعة مَن قبلَنا - ممن أوتوا العلم - بأنهم كالحمير تحمل أسفارًا، أسفار العلم، وكتب العلم على ظهورها، وهي لم تستفد منه. هذا القرآن كيفما تصرَّف فهو كلامُ الله، أما فِعل المخلوق - مِن حفظه، وقراءته، وترتيله، وصوته، وكتابته، وإسماعه - فهذا فِعله هو؛ ولهذا فإن القارئين مختلفون، فهذا يقرأ بصوت حسن، وهذا بصوت أحسن، وهذا يجود وهذا أقلُّ تجويدًا، والمقروء شيء واحد، لكن الأصوات، والأداء، والترتيل اختلف باختلاف المخلوقين، الكتابة هذا يكتبه بقلم لين، وهذا بقلم أقل جودة، وهذا يطبع أحسنَ طباعة، والمطبوع والمكتوب شيءٌ واحد، لكن الكتابة والنفس مختلفة، فالقرآن كيفما تصرف - حفظًا في الصدور، أو قراءةً بالألسن، أو كتابةً بالأسطُر - هو كلام الله عينًا. ثم إن الكلام إنما يُضاف إلى مَن قاله ابتداء، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا؛ لأن الله قال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الحاقة: 40 - 42]، وقال: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾ [التكوير: 19، 20]، والمراد بالرسول الكريم في سورة التكوير جبريل؛ لأنه هو الموصوف بأنه ذو قوةٍ عند ذي العرش، مَكينٌ؛ أي: متمكن، له منزلته وقدره، والرسول في سورة الحاقة هو محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي اتُّهِمَ بأنه شاعر، وأتى الناسَ بشِعر. أضاف الله القول هنا في آية الحاقة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأضافه في التكوير إلى جبريل، وهذه تُسمى إضافة البيان والتبليغ والأداء؛ أضافه الله إليهما قولاً لهما؛ لأنهما المؤدِّيان، المبلِّغان عن الله، وحقيقة الإضافة لمن قاله مبتدئًا فيقال: هذا كلام الله. فلو أني وقفت وألقيت أبياتًا نحو: لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ ![]() لَدَيْنَا وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ ![]() حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ![]() يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ ![]() وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ![]() ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ ![]() ثم قلتُ: أنا الذي قلتُ هذه القصيدة - فسوف أُكَذَّب لأني لم أقلها، بل ألقيتها أداء، أما القائل الأول فهو أبو طالب؛ هو الذي أنشأها، فالقول يُنسَب لمن قاله ابتِداءً لا لِمَن قاله أداء وتبليغًا. وَهُوَ كَلامُ اللهِ حُرُوفُهُ وَمَعانِيهِ، لَيْسَ كَلامَ اللهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي، وَلا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ: (وهو) الضمير يعود إلى القرآن هو كلام الله، حروفه مِن الله، ومعانيه من الله؛ لأنه مرَّ علينا أن القرآن حرفٌ وصوت، وأن الحروف مجموعها كلمات، والكلمات مجموعها آيات، والآيات مجموعها سُور، وهذه الكلمات لها مَعانٍ ومَضامينُ ودلالات، فالقرآن كلام الله الحروف والمعاني جميعًا، وقد نسب الكلامَ إلى الله حرفًا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم لما قال: ((اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّ لَكُمْ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ حَسَنَةٌ إِلَى عَشَرَةِ أَضْعَافِهَا، لا أَقُولُ: ﴿ الم ﴾ [البقرة: 1] حَرْفٌ. وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ))[2]؛ فالقرآن حروفه ومعانيه كلها من الله، ليس كلام الله الحروف دون المعاني كما تقوله يراجع التسجيل، ولا المعاني دون الحروف كما تقوله الأشاعرة والكلابية الذين قالوا: إن كلام الله المعنى دون الحرف. فكلام الله هو مجموع هذه المعاني والحروف. [1] رواه الطبراني في مجمع الزوائد (1/ 330)، وقال الحافظ ابن حجر: سنده صحيح، لكنه موقوف؛ فتح الباري (13/ 16). [2] رواه الترمذي (2910)، والحاكم (1/ 555)، وصححه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
__________________
|
#27
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (26) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ وَقَدْ أَيْضًا دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ الإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ الله سبحانه وتعالى. فَصْلٌ: هذا تفصيلٌ من الشيخ في المسائل التي وقع فيها الخلافُ الكبير بين أهل السُّنة والجماعة وبين المنحرِفين عنهم من أهل الأهواءِ والبدع في مسائل الصفات؛ كمسألة كلام الله، ومسألة عُلوِّه تعالى، وهذه المسألة؛ مسألة رؤية الله بالأبصار في الدار الآخرة. وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الإِيمَانِ بِهِ وبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ: علاقة الإيمان برُؤية الله تعالى بالإيمانِ بالكتب والإيمانِ بالرُّسل مسألةٌ متعلِّقة بالصفات؛ متعلقة بالله؛ بأنَّ الله يُرى لأنه يتجلَّى، وعلاقتها بالإيمان بالكتب أنه جاء التصريح برؤية الله في الوحيينِ؛ في كتابه القرآن، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي وحيٌ ثانٍ، وقد دلَّت عليها أدلةٌ كثيرة؛ منها خمس آيات: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وهي أصرحُ آيةٍ في القرآن في إثباتِ رؤيةِ الله عيانًا بالأبصار بثلاث اعتبارات: أولاً: أن الله أضاف النَّظر أولاً إلى الوجوه، والوجوهُ مُشتمِلة على العينين. وثانيًا: عدَّى النظَر بـ (إلى)، فقال: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾، والنظر إذا تَعدَّى بـ (إلى) لم يحتمل إلا المعاينةَ بالبصَر. وثالثًا: أخلى الآيةَ عن قرينةٍ صارفة ومُعارِضةٍ لهذا المعنى. من آيات إثبات رؤية الله قولُه تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وقد فسَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزيادةَ بأنها النظر إلى وجه الله؛ كما في حديث صُهيبٍ عند مسلم. ومن الأدلة أيضًا قوله تعالى: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ق: 35]؛ فإن المزيد هو الزيادة، وهو النظر إلى وجهه تعالى. وقوله تعالى - في آيةِ سورة المطففين عن أهل سِجِّين -: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]؛ أي: يوم القيامة، فلما حُجِب أعداؤه في السُّخط دلَّ على أن أولياءه يرَونه في الرِّضا. ثم لَمَّا ذكر الأبرار أهل عِلِّيين قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾ [المطففين: 23، 24]، وهذه يُفسِّرها آيةُ القيامة ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]. والأحاديث قد بلغَت مبلغَ التَّواتُر، وعلاقة رؤية الله بالإيمان بالرسل لأن الرسل عليهم السلام أخبَروا أُممَهم بذلك، فَرَدُّ هذه الأحاديث تكذيبٌ للرسل، وهذا يَقدُح في الإيمان بالرسل. الإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ؛ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ: قوله: "عيانًا" يُخرِج الرؤيةَ القلبيَّة، والرؤيةَ المنامية، وقوله: "بأبصارهم" يُخرج رؤية القلوب؛ فهذا فيه التصريح بأنهم يرونه عيانًا، وساق لفظه كما جاء في حديث جرير وأبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهم: ((يَرَوْنَهُ كَمَا يَرَوْنَ الشمس صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ، وَمِثْلَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا يُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ))[1] ، ومر شرحُ لا يُضامون، ولا يُضامُّون، ولا يُضارُّون على ثلاثة ألفاظ جاءت في الأحاديث. يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، كَمَا يَشَاءُ الله سبحانه وتعالى. أي: إن كيفيَّة الرؤية لا نَعلمُها، وإنما على الصفة التي يَشاؤها الله، لكن أُخبِرْنا بأن المؤمنين يرَون الله فنؤمنُ بذلك؛ لا نتكلَّف، لا نتنطع، لا نتدخل فيما لم نُعطَ مِنه علمًا (الكيفيَّة)، أما الرؤية فنثبتها كما أثبتها الله لنفسه، وكما أثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم. ومَقامات رؤية الله ستَّة: رَاتِبُنَا مِنَ الرِّبَاطِ سِتُّ ♦♦♦ وَمَنْ يُرِدْ زِيَادَةً يُزَتُّ أوَّلاً: رؤية الله في الدنيا، وهذه ممتنعة؛ لضعف الرائي، لا لخفاء المرئي. وثانيًا: ورؤية الكافرين لله، وهي ممتنعة؛ لأن الله حجَبهم عنه: ﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ [المطففين: 15]. ثالثًا: رؤية المنافقين، ويَرَون اللهَ في العرَصات، لكن رؤيةَ تحسُّر، لا يتنعمون فيها كما دلَّ عليها حديثُ أبي سعيدٍ الطويلُ وهو في الصحيحين. رابعًا: رؤية النبيِّ صلى الله عليه وسلم لله ليلةَ المعراج، وهذه منتفِيَة؛ لم يَرَه بعينَي رأسه. خامسًا: رؤية المؤمنين لله في الآخرة في العرَصات أوَّلاً، ويوم يدخلون الجنة. وهذه ثابتة، وهي التي أنكرَها المنحرِفون. سادسًا: رؤية الله في المنام. انحرَف في الرؤية عدَّةُ فِرَق: أولاً: المشبِّهة الممثِّلة، وأثبتوا أن الله يُرى كما يُرى المخلوق، فهذا من تشبيهِهم وتمثيلِهم، وقولُهم باطل، وهو كفرٌ؛ لأنهم شبَّهوا الخالقَ بالمخلوق. ثانيًا: جمهور المعطِّلة من الجهمية والمعتزلة ومَن تبعهم من الإمامية والإباضية؛ فإن العلماء إذا قالوا: "الخوارج يُنكِرون الرؤية" فإنهم يريدون بهم الإباضية، أمَّا متقدِّمو الخوارج فلَم يُنكِروها؛ كالأزارقة، والصفرية، والنجدات؛ لم يُنكِروا رؤية الله، وإنما أنكرَها الإباضية لَمَّا تأثروا بالمعتزلة. فجمهور المعطلة ينكرون الرؤية، ويَذهبون إلى أنَّ الله لا يُرى. والأشاعرة قالوا: إن الله يُرى، لا في جِهة. فصاروا أُضحوكةً للمعتزلة؛ قالوا: كيف يُرى لا في جهة؟! الذي يُرى لا في جهة هذا مستحيل؛ لأنَّ الأشاعرة يَنفون عُلوَّ الله، فلا يُريدون أن يُثبتوا أن الله يُرى مِن فوق، فوقَعوا في التناقض. ونكَّت رحمه الله بقوله: "يرونه سبحانه وهم في عرصات يوم القيامة"؛ وذلك كما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يَقُولُ اللهُ - جَلَّ وَعَلا - يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ؛ فَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ يَتْبَعُ الشَّمْسَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْحَجَرَ يَتْبَعُ الْحَجَرَ، فَيَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهِمْ مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ بِصُورَةٍ غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهُ بِهَا)). وهذا فيه إثبات الصورة لله، وأن لله صورةً، وهي صفةٌ من صفاته، والصورة تأتي بمعنى الهيئة (مجموع الصفات)، والله تعرَّف إلينا بأسمائه وصفاته ((فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ لَسْتَ بِرَبِّنَا)). كما أنكَر الموحِّدون الدجَّالَ أن يَكون ربَّهم في الدنيا؛ لأنه أعورُ والله ليس بأعورَ، ((ثُمَّ يَأْتِيهِمْ بِصُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَهُ بِهَا (التي آمنوا بها) وَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا، إِلاَّ الْمُنَافِقَ يَبْقَى ظَهْرُهُ كَالْخَشَبَةِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ))[2] وذلك تأويل قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ﴾ [القلم: 42، 43]. المقام الثاني: مقام رؤية الله في الجنة؛ يوم يجمعهم الله تعالى إلى يوم المزيد، وجاء في الأثر: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَرَى اللهَ فِي الْجَنَّةِ مَرَّتَيْنِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا)). فَصْلٌ وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، مِمَّا يَكونُ بَعْدَ الْمَوْتِ. فَيُؤْمِنُ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ، فَأَمَّا الْفِتْنَةُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ فَيُقَالُ للرَّجُلِ: ((مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيُثَبِّتُ اللهَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ؛ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: اللهُ رَبِّي، وَالإِسْلامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّيَ. وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. فَيُضْرَبُ بِمَرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلا الإِنْسَانُ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ)). وَمِنَ الإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الآخِرِ: الإيمان باليوم الآخر أصلٌ من أصول الإيمان، وركنٌ من أركانه الستة، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمانُ بما يكون بَعدَ الدنيا، والإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان باثنتي عشرة مرحلة (مسألة) وهي: 1- الإيمان بأشراط الساعة؛ لأن أشراط الساعة من الإيمان باليوم الآخر. 2- الإيمان بالنَّفختَين: نفخة الصَّعق والفزَع، ونفخة البعث وقيام الناس لرب العالمين. 3- الإيمان بالبرزخ وما يكون فيه من الفتنة والعذاب والنعيم؛ كما صدَّرها الشيخ. 4- الإيمان بالحشر؛ حَشْر الأبدان، والأرواح، والأجساد لرب العالمين. 5- الإيمان بالشفاعات بأنواعِها، وأعظمُها الشفاعة العظمى. 6- الإيمان بالحساب، وهو تعريف الناس مقاديرَ أعمالهم. 7- الإيمان بتطاير الصحف؛ فمِن آخذٍ كتابَه بيمينه، ومن آخذٍ كتابه بشماله. 8- الإيمان بحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الحوض المورود، ولكل نبي حوض. 9- الإيمان بالميزان. 10- الإيمان بالصراط، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم. 11- الإيمان بالقنطرة بعد الصراط. 12- الإيمان بالجنة والنار. هذه هي مقتضَيات، أو مَراحلُ الإيمان باليوم الآخر؛ فالإيمان باليوم الآخر تضمن الإيمان بهذا كلِّه، ولأن هذا من الغيب، والغيبُ يَفتقِر إلى الوحي؛ فقد جاءنا ذلك في الوحي، ولهذا يسمِّي المتكلمون هذه المسائلَ - ما يتعلق بالقبر وأشراط الساعة وما يكون بعد الموت - بالسَّمعيات؛ لأنها مأخوذةٌ مِن السمع، لا مجال للعقل فيها. ومسائل العقيدة في تصنيفها عند المتكلمين ثلاثةُ أشياء: إلهيَّات، ونبوَّات وهو الإيمان بالأنبياء، وسمعيَّات وهو الإيمان بالأمور الغيبية؛ هكذا يقسمون العقيدة، أما أهل السُّنة فيقسمونها على أساس حديث جبريل، فليُفطَنْ لهذا، فإذا مرَّ علينا هذا من السمعيات، أو النبوات، أو الإلهيات - فإن هذا أصلُه اصطلاحُ المتكلِّمين، وليس اصطلاحَ أهل السُّنة السَّلفيِّين؛ السائرين على نهج السلف الصالح. قوله: ومن الإيمان باليوم الآخر: هذه (مِن) التبعيضيَّة. الإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكونُ بَعْدَ الْمَوْتِ: وقال هذا القولَ مع أنه جاء في القرآن الإيمان بما يكون بعد الموت من إخراج الروح: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [الأنعام: 93]، وقال في إثبات عذاب القبر: ﴿ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [الطور: 47]؛ أي: قبلَ عذاب الآخرة. ودون ذلك في البرزخ؛ لأن مِن الكفار مَن مات في الدنيا وهو لم يُعذَّب لا بقتلٍ، ولا بغيره، ومثل قوله: ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45، 46]. الإيمان بكلِّ ما أخبَر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشمل القرآنَ والسُّنة، وأيضًا الإيمان بما أخبر به الرسول من حديثه؛ لأنه أخبرنا تفصيلاً بعد إجمالِ ما في القرآن؛ لأنه مر معنا أن السنة تفسر القرآن، وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه. فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ: ومما يكون بعدَ الموت الفتنةُ في القبور، وهو السؤال، وعذابُ القبر ونعيمُ القبر على من يستحقهما، أما الفتنة فهذه لكلِّ أحد، إلا مَن جاء الشرع باستثنائِه، ومِنهم سعدُ بن مُعاذ رضي الله عنه؛ فقد جاء في الحديث: ((أَنَّهُ أُمِنَ الْفَتَّانَ)). ومنها ما رواه الإمام أحمد بإسناد جيد من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ لَيْلَتَهَا أُمِنَ مِنَ الْفَتَّانَ)). ومن هؤلاء ما روي في المسند والطبراني وغيرهما - والحديث محلُّ بحث عند أهل العلم -: ((أَنَّ مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ صَلاةً فِي مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم لا تَفُوتُهُ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ الفَتَّانِ وَمِنَ النِّفَاقِ))؛ بمعنى أننا نصدق أن كل من استثناه النبي من الفتان فإنَّه يُستثنَى منه، وليس المعنى أنه لا يُسأل، بل يُسأل، لكن السؤال عليه لا يكون فتنة، وإنما يكون مثبتًا. فَأَمَّا الْفِتْنَةُ: فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، فَيُقَالُ للرَّجُلِ: الفتنة في القبور هي السؤال مِن الملَكين العظيمين، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الصحيحين قوله: ((إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ لتُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا))[3] وفي رواية: ((إِنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ)). وليس له مرادٌ خاصٌّ بأمته كما فَهِمه بعض المتكلمين، وإنما هذا لعموم الأمة؛ لأن الفتنة في القبر ثبتَت عند اليهود وعند النصارى، ومرَّ صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين وإذا هي تُعَذَّب، والفتنة لفظٌ عام؛ يشمل العذاب ويشمل السؤال، لكن هاهنا المراد به السؤال. ((مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيُثَبِّتُ اللهَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ. فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: رَبِّيَ اللهُ، وَالإِسْلامُ دِينِي، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيِّي)). وهذه الأسئلة الثلاثة قد تواترَت بها الأحاديثُ تواترًا معنويًّا: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ ولأنها أسئلة عظيمة بَنَى عليها شيخ الإسلام رسالته العظيمة (ثلاثة الأصول)، مبنيَّةً على ما سيُسأل عنه الإنسان في قبره: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ وفي أهوال القبور يَذهب حِفْظُ الحافظ، وذكاء الذكي، وفطنة الفطين، وَلَمَاعَةُ الألمعي ولو كان في الدنيا مِن أحفظ الناس، وأذكى الناس، وأقدر الناس؛ لِما يراه عند خروج روحه من جسده من هول المطلَع، ثم في سؤال الملَكين يذهب معه كلُّ علمٍ حَفِظه، إلا مَن ثبَّته الله عز وجل؛ ولهذا جاء في قوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾؛ أي: إنه يُسأل الآن في الدنيا بالنسبة إلينا وإن كان الميت قد مات وهو مقبورٌ ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [إبراهيم: 27]؛ أي: يوم القيامة في العَرَصات عند السؤال. وهذه الجملة التي ساقها الشيخُ إنَّما لَخَّصها من الأحاديث، وقد جاءت الأحاديثُ متواترةً بهذا المعنى، وأوسَعُها وأطولُها حديثُ البرَاءِ بن عازبٍ رضي الله عنه، الذي رواه بعضُ أهل السنن، ورواه أحمد، ورواه ابنُ حِبَّان والحاكمُ في صحيحيهما؛ قال البراء: انْطَلَقْنَا فِي جَنَازَةٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَبَلَغْنَا الْقَبْرَ وَلَمَّا يُلْحَدْ لَهُ، ثُمَّ جَلَسَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ عُودٌ يَنْكُثُ بِهِ الأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، اسْتَعِيذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ))... ثم ذكَر الحديث بطولِه: ((إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي إِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ كَفَنِ الْجَنَّةِ، وَحَنَوطٌ مِنْ حَنُوطِهَا، فَجَلَسُوا عِنْدَ رَأْسِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي مَلَكُ الْمَوْتِ، فَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ))، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((فَتَخْرُجُ رُوحُهُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ - أي: بكل سهولة - وَيَخْرُجُ مَعَهَا كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، فَإِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ لَمْ تَدَعْهَا الْمَلائِكَةُ فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَتَضَعُهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَذَلِكَ الْحَنُوطِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُرْتَفَعُ بِهَا فَلا يُمَرُّ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلاَّ قَالُوا: مَنْ هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟ فَيُقَالُ: رُوحُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ؛ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُشَيِّعُهَا الْمَلائِكَةُ، حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهَا، فيُفْتَحُ لَهَا، وَتُشَيِّعُهَا مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا، إِلَى أَنْ تَبْلُغَ الْجَبَّارَ فَوْقَ عَرْشِهِ)). وهي في تشييع من ملائكة الرحمن كرامة وإكرامًا لروح المؤمن الموحِّد، ((فَإِذَا بَلَغَتْ تَحْتَ الْعَرْشِ يَقُولُ - جَلَّ وَعَلا -: أَعِيدُوا رُوحَ عَبْدِي فِي جَسَدِهِ؛ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيُقْعَدُ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، وَإِنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ مُشَيِّعِيهِ رَاجِعِينَ إِلَى أَهْلِيهِمْ))[4]؛ أي: بعدَما وارَوْه بالتراب؛ ولهذا قال عمرُو بن العاص رضي الله عنه عند احتضاره: إِذَا أَنَا مِتُّ، وَوَارَيْتُمُونِي فِي التُّرَابِ، فَامْكُثُوا عَلَى قَبْرِيِ قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا؛ أَسْتَأْنِسُ بِكُمْ وَأَنْظُرُ بِمَا أُرَاجِعُ رُسُلَ رَبِّي. دل على أن السؤال بعد الدفن مباشرة، وهذا معنى قولِه صلى الله عليه وسلم: ((سَلُوا لأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ))؛ ولهذا يُستحب بعد الدفن الوقوف يسيرًا، وسؤال الله لهذا الميت المؤمن بالثبات. جاء في حديث البراء: ((فَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَمَا دِينُكَ؟ وَمَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ)). جاء في لفظ عند أبي داود، وعند الحاكم، وعند ابن حبان سؤال رابع: ((وَمَا يُدْرِيكَ؟))، وفي لفظٍ: ((وَمَا عِلْمُكَ؟))؛ أي: ما عِلمُك بما أجبتَ؟ ((فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ فَعَرَفْتُهُ. فَيُنَادِي مُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ: صَدَقَ عَبْدِي، فَافْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها وَطِيِبهِا وَنَعِيمِهَا، ويُفْتَحُ لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ إِلَى النَّارِ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَنْزِلاً مِنَ الْجَنَّةِ. فَيَعْظُمُ عِنْدَئِذٍ سُرُورُهُ وَحُبُورُهُ، وَيَأْتِيهِ شَابٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟! فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي لا يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ. فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. ويُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، فَيَقُولُ: رَبِّي أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ))؛ لأن أهنأ ليلة ينامها الإنسان في الدنيا ليلة عُرسه، وهذا من باب التقريب بالتشبيه، لا من باب المطابَقة؛ فإنَّ المؤمن في قبره أهنأُ مِن هذه الليلة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ((وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ. فَيُضْرَبُ بِمَرْزَبَةٍ مِنْ حَدِيدٍ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ، إِلا الإِنْسَانُ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإِنْسَانُ لَصَعِقَ))[5].. الكافر والمنافق يُسأل: مَن ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ الكافر يقول: هاه! لا أدري. ولو كان من أذكى الناس، وأفطن الناس، رأى من هولات القبور ما لا قدرة له عليه، والمنافق الذي أظهر في الدنيا خلاف ما يبطن يَقُولُ: هَاه هَاه لا أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يقولون كذا وكذا. ومن المسائل في هذا أن السائلَين الملَكين اللَّذينِ يَسألان العباد يَختلفان، فهُما للمؤمن مِن ملائكة الرحمة، لكن للكافر والمنافق والفاجر مِن ملائكة العذاب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الكافر: ((فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ مَهِيبَانِ، مَهِيلانِ، يَطَآنِ الأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا، أَعْيُنُهُمَا كَبَرْقٍ خَاطِفٍ، وَأَصْوَاتُهُمَا كَرَعْدِ قَاصِفٍ، فَيُقْعِدَانِهِ فَيَسْأَلانِهِ: مَنْ رَبُّكَ، وَمَا دِينُكَ، وَمَنْ هَذَا الرَّجُل الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟))... حديث البراء بن عازب. فرَّقَ بين الملَكين في وصفِهما، فلم يَذكُر هذا الوصفَ في المؤمن وذكَره في الكافر؛ ولهذا جاء في الأحاديث الأخرى أن الملكين اللذين يسألان الكافر والمنافق والفاجر يُقال لأحدهما: مُنكر. ويقال للآخر: نكير. وهذان الاسمان يَدُلان على عظمتهما، وعلى شناعتهما، وعلى عظيم هيبتهما. فيصيح الكافرُ صيحةً عند ضربه تَسمعُها مخلوقاتُ الله إلا الثَّقلَين الإنس والجن، ولهذا نلاحظ أن المقابر لا يكون حولها كثير من البهائم، وإنما تفزع منها؛ لأنها تسمع ما لا يسمعه الإنس والجن المكلَّفون. [1] رواه البخاري ( 7437، 7439، 554، 573 )، ومسلم ( 182، 183، 633 ). [2] رواه البخاري (4581)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (2867)، وأحمد (5/ 190)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. [4] رواه أحمد (4/ 287 - 295 - 296)، وأبو داود (4753) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. [5] رواه الإمام أحمد (4/ 287)، وأبو داود (4753)، وصححهما ابن خزيمة في كتاب التوحيد، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
__________________
|
#28
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (27) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ، إِلَى أَنْ تَقُومُ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأَجْسَادِ، وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ، وَيَلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ، وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ: ï´؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ï´¾ [الأعراف: 8، 9]، وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ (وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ)، فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وَمِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 13، 14]. وَيُحَاسِبُ اللهُ الْخَلائِقَ، وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وأَمَّا الكُفَّارُ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لا حَسَنَاتٍ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالَهُمْ فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا، وَيُقَرَّرُونَ بِهَا، وَيُجْزَوْنَ عَلَيْهَا. ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ إِمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ: هذه كما جاءت في الأحاديث مصرَّحًا بها، وجاءت في القرآن. وأحوال الناس في القبور بعد السؤال ثلاثٌ: الحال الأولى: إما نعيم دائم، وهو مُتفاوتٌ فيهم بتفاوت إيمانهم وهؤلاء المؤمنون. الحال الثانية: وإما في عذاب دائم، ويتفاوتون فيه تفاوُتَ كفرهم؛ فإن المنافق أشد من عامة الكفار، وهذه المسألة هي التي يبحثها العلماء بمستقر الأرواح بعد الموت، وأين مستقَرُّها بعد الموت وهي في هذه المضامين. الحال الثالثة: وإما في عذاب منقطِع، وهم أصحاب الكبائر والذُّنوب؛ إذا شاء الله أن يُعذَّبوا بها في البرزخ فيُعذبون على قدر ذلك؛ كما جاءت الأحاديث في أخبار الزواني والزُّناة، وآكل الربا، وشارب الخمر، ومن يكذب الكذبة مِن بيته فتطير بالآفاق، والنائم عن الصلاة المكتوبة... وغيرها مما جاءت بهم الأحاديث بأنهم يُعذبون في برزخهم، وهذا العذاب منقطع بحسب ذنبه وكبيرته، ليس كالكافر دائمًا أبدًا سرمديًّا؛ ولهذا فمِن أسباب تكفير الذنوب ما يُلاقيه المؤمنُ عند سكرات الموت، وما يلاقيه في قبره، وما يلاقيه في الدنيا الأسباب العشرة التي ذكَرها ابنُ القيم، ونقلها عنه شارح الطحاوية. إِلَى أَنْ تَقُومُ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى، فَتُعَادُ الأَرْوَاحُ إِلَى الأَجْسَادِ، وَتَقُومُ السَّاعَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ: الشيخ رحمه الله ما ذكَر النفختين من باب الاختصار والإجمال، وإلاَّ فإن هناك نفختَين: نفخةً أولى طويلة، أوَّلها فزَع وآخرها صَعق، وبهذا تجتمع النصوص في قوله تعالى: ï´؟ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ï´¾ [النمل: 87]، وقال: ï´؟ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ï´¾ [الزمر: 68]، فسمَّاها فزَعًا وصعقًا؛ لأنها نفخةٌ طَويلة، وهذا له مَثلٌ يُقاربه الآن وهو الأبواقُ العالية كأجراس التحذير؛ فإنها أول ما تبدأ خفيفة، ثم بعد ذلك تكون مشتدة، فهذا يقارب نفخة الصُّور الأولى؛ أولها خفيفة فزع يَفزَع منها الخلق.. فهُما نفختان، وبعض أهل العلم عَدَّها ثلاثَ نفخات: صعق، وفزَع، وبعث. وهذا ليس بتحقيق، فالمحقِّقون على أنها نفختان: النفخة الأولى: نفخة الفزع. أولها فزع - وآخرها صعق، ثم النفخة الثانية: نفخة البعث، وقيام الناس لرب العالمين، وبين النفختين أربعين؛ قيل لأبي هريرة: أَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قِيلَ: أَرْبَعِينَ شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قِيلَ: أَرْبَعِينَ عامًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ؛ أي: لا أعلم. حديث في الصحيحين. والموكَّل بالنفخ هو ملَك واحد، وهو إسرافيل، وليس له إلا هذه الوظيفة؛ جاء في الحديث أن إسرافيل ((عَيْنُهُ عَلَى الْبُوقِ وَالْعَيْنُ الأُخْرَى عَلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ؛ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ))، وهو بُوقٌ عظيم، وسورٌ كبير، لا نعلم وصفَه ولا كيفيته، وهو مِن مخلوقات الله. النفخة الثانية هي نفخة البعث، ينفخ فيه فتطير الأرواح، وتنزل على أجسادها التي خرجَت منها بعدما يُنْزِل الله على الأرض مطرًا كماء الرجال، وتَنبُت منه أجسادهم من عَجْب الذَّنَب؛ أي: من رأس العُصعُص، فتكون أجسادًا لا أرواح فيها، فيأمر الله إسرافيل، فينفخ في الصور، فتطير الأرواح على أجسادها، فيخرجون كأنَّهم جراد منتشر، وهذا الوصف جاء في القرآن تفصيلاً بما لم يأتِ في الكتب السابقة؛ لأن آخر الأنبياء نبيُّنا، وآخر الكتب المنزَّلةِ القرآن، فجاء بوصف القيامة فيه بما لم يأتِ وصفُه في كتُبِ مَن قبله، ولهذا قال الفلاسفة: إنه لم يُصرِّح بالمعاد وبعث الأجساد إلا محمد؛ لأن البيان جاء - في شَرعه، وفي قرآنه الذي أُنْزِلَ عليه - أعظمَ مما جاء في الكتب السابقة؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْقِيَامَةِ رَأْيَ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: ï´؟ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ï´¾ [التكوير: 1]، وَلْيَقْرَأْ: ï´؟ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ï´¾ [الانفطار: 1]، وَلْيَقْرَأْ: ï´؟ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ï´¾ [الانشقاق: 1]. والإيمان باليوم الآخر دلَّ عليه القرآن، ودلت عليه السُّنة في أحاديثَ كثيرة، ودل عليه إجماع أتباع الرسل جميعًا، كلُّ نبي أخبر أمَّته بالبعث، حتى آدم: ï´؟ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ï´¾ [البقرة: 36]؛ إلى أجَل، فليس دائمًا أبدًا سرمديًّا، وإنما إلى أجَل، ودل عليه العقلُ ودلت عليه الفطرة. فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً، وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ وَيَلْجَمُهُمُ الْعَرَقُ: أي: لا أحذيةَ تَحتَهم، عُراة ليس عليهم مِن ألبستهم شيءٌ كما ولَدَتهم أمَّهاتهم، غُرلاً مِن آثار الوضوء؛ علامات الوضوء في أطرافهم نور: ((إِنَّ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْعَثُونَ غُرْلاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ)). تَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ - والروايات اختلفَت فقيل: إنها على قدر ميل. وقيل: على قدر ثلاثة أميال - وَيُلْجِمُهُمُ الْعَرَقُ))؛ أي: يتَصبَّبون عرقًا، حتى جاء في الحديث: ((إِنَّ الْعَرَقَ يَنْزِلُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا))، ثم يتفاوَت بعد ذلك حسَب الإيمان، فمِنهم مَن يبلغ كعبَيه، ومنهم من يَبلغ رُكبتَيه، ومنهم مَن يَبلغ حِقوَيه، ومنهم من يبلغ ثديَيه، ومنهم من يُلجمه (يُغرِقه) العرقُ إلجامًا. وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ ï´؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ï´¾ [الأعراف: 8، 9]، وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ وَهِيَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى: ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 13، 14]. مما يكون يوم القيامة كشفُ الدواوين، وهي الصُّحف الْمُنَشَّرة، المعطاة كلاًّ بيمينه أو بشماله أو مِن وراء ظهره، وآخذها باليمين هو المؤمن السعيد، وآخذها بشماله أو من وراء ظهره هو الكافر الشقي، وهذه الصحف فيها كل شيء، أُحْصِيَ على الإنسان: عُدَّ، وكُتِبَ عليه: ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ï´¾؛ أي: ما عمله أحصي عليه وعُدَّ، ï´؟ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ï´¾ [الإسراء: 13، 14]؛ يقول تعالى في الحديث القدسي من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه: ((يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ الْخَيْرَ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ))[1]. وهذه الكتب عدَّ فيها العادُّون، والكرامُ الكاتبون كلَّ شيء، حتى عَزْمه ونيَّته في قلبه، تُكتب له؛ لأن الله وصَف ملائكته بقوله: ï´؟ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ï´¾ [الانفطار: 11، 12]. ومما يدل على نشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - حديث البطاقة، وهو الحديث الذي رواه أحمدُ بإسناد صحيح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((يُنْشَرُ رَجُلٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ، فَتُخْرَجُ لَهُ سِجِلاَّتٌ تِسْعٌةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، وَقَدْ أُحْصِيَ فِيهِ مَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍ)) وهذه السجلات فيها شر سيئاته وذنوبه ((فَيُقَرَّرُ إِيَّاهَا فَيُقُّر، فَيَقُولُ اللهُ: أَظَلَمَتْكَ مَلائِكَتِيَ الْكَتَبَةُ؟ يَقُولُ: لا، يَا رَبِّ)) يتذكر الوقت الذي نسيه، وغفل عنه في الدُّنيا ((فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ لَكَ مِنْ حَسَنَةٍ؟ فَيَطِيشُ، وَيَنْسَى حَسَنَتَهُ مَعَ هَذِهِ السَّيِّئَةِ الَّتِي عُدَّتْ وَأُحْصِيَتْ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: لا - يَا رَبِّ - لَيْسَ لِي مِنْ حَسَنَةٍ. فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: إِنَّكَ لا تُظْلَمُ. فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)) فِيهَا ذِكْرُ اللهِ، ((وَيُؤْتَى بِالْمِيزَانِ)) [2]، وهذا من دلائل أهل السنة أن الميزان له كِفَّتان كما جاء عن ابن عباس أنه قال: الْمِيزَانُ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ. واللسان الذي يبين رجحان هذه على هذه ((وَيُؤْتَى بِالسِّجِلاَّتِ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفَّةٍ، وَتُوضَعُ الْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَتَطِيشُ الْبِطَاقَةُ باِلسِّجِلاَّتِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ)) قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((وَلا يُثْقَلُ مَعَ اسْمِ اللهِ شَيْءٌ)). هذا نشر الصحف والدواوين، وهناك نشرٌ آخر، لكنه لا يخرج عن هذا المعنى، وإنما هو من قبيل اختلاف التنوع، روى الطبراني وغيره عن النبي أنه قال: ((يَنْشُرُ اللهُ جَلَّ وَعَلا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاثَةَ دَوَاوِينَ: فَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ وَهُوَ الشِّرْكُ بِهِ، وَدِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ، وَهُوَ مَا سِوَى الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَهُوَ ذُنُوبِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ))[3]. ومما يكون بعد هذا الحساب قال: وَيُحَاسِبُ اللهُ الْخَلائِقَ: أي: إنه تعالى يُعَرِّفُهم أعمالهم ومقاديرها عَمِلْتَ كذا وعملت كذا، ومن الحساب المناقشة، وفي الحديث: ((مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّب)) [4]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: ï´؟ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ ï´¾ [الحاقة: 18]، فَقَالَتْ: أَلَيْسَ هَذَا الْحِسَابُ؟ قَالَ: ((لا يَا عَائِشَةُ، هَذَا الْعَرْضُ؛ تُعْرَضُ عَلَى النَّاسِ أَعْمَالُهُمْ، وَصُحُفُهُمْ، وَكُتُبُهُمْ، مَنْ أَخَذَهَا بِيَمِينِهِ، أَوْ بِشِمَالِهِ، وَمَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ))؛ لأنَّ هناك مَن يُكابر، ويعاند، ويكذب، وتكون أحوالهم متفاوتة، منهم من يكابر فيُقرَّر، ثم يُقِر، ومنهم من يستمر في عناده ومكابرته حتى يُختم على فيه، وينطق لسانه بما قال، وجوارحه كلها تتكلم؛ لأن في ذلك المقام يحاول أن يتخلص بأدنى مخلِّص، ولن يُخلِّص من ذلك الموقف إلا توحيدُ الله، والإيمانُ به، وما قدَّمه الإنسانُ مِن عمل صالح يُرضي ربَّه تعالى. ومن الحساب الوزنُ؛ وزن الأعمال، وقد جاءت الأدلة - كما ساقها الشيخُ - وغيرُها من الأدلة أن الذي يوزَن العمل كما يوزن العامل: ï´؟ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ï´¾ [الأنبياء: 47]؛ فهي موازينُ وليس ميزانًا واحدًا، وقوله: ï´؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ï´¾ [المؤمنون: 102، 103]، وقال: ï´؟ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ï´¾ [القارعة: 5 - 9]؛ أي: مأمومة رأسه. فالمأمومةُ هي أصل الرأس في الهاوية. وقد جاءت الأحاديث أنه يوزَن العمل مع عاملِه، ومِمَّا جاء في ذلك ما رواه البخاريُّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّجُلِ الْعَظِيمِ السَّمِينِ، فَلا يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَاقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: ï´؟ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ï´¾ [الكهف: 105])). ومما جاء في الصحيح: أَنَّ عَبْدَاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه رَقَى عَلَى شَجَرَةِ أَرَاكٍ يَجْنِي عُودًا مِنْ أَرَاكٍ، فَكَفَأَتِ الرِّيحُ عَنْ سَاقَيْهِ، فَضَحِكَ الصَّحَابَةُ، وَتَعَجَّبُوا فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((مِمَّ تَضْحَكُونَ؟)) قَالَ: قَالُوا: مِنْ دِقَّةِ سَاقِ عَبْدِاللهِ، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((إِنَّهُمَا لأَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ))[5]. فدلَّ الحديثان مع النصوص الأخرى على أن الوزن يوم القيامة يكون للأعمال، ويكون للعاملين. وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ: ومما يكون يوم القيامة إذا حاسب الله الخلائقَ شأنٌ لله مع عبدِه المؤمن، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ أن الله تعالى يُدْني عبده، فيخلو به، فلا يَسمع حديثَهما غيرُهما، فيقرر الله عز وجل عبدَه المؤمن بذنوبه، فيقرُّ العبد بذنوبه، يقول الله: عبدي، فعلتَ كذا وكذا وكذا؛ لا يَفضَحُه الله، وإنما يستره في ذلك المقام المشهود، لا يفضحه بعمَلِه، وإنما يقرره: فعلتَ كذا: يقول: نعم - يا رب - فعلت كذا. فتزداد مِنَّة الله، وتَعْظُمُ على عبده، فيقول: يا عبدي! ستَرتُها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك الآن. وهذا للمؤمن الموحِّد؛ كَرامةً من الله له لا لغيره، ولو أذنب ولو فعَل ما فعَل، خَلا الشِّرك بالله؛ فإن رحمة الله تسَعُه، ولهذا إذا قرَّر الله عبده في ذلك المقام أقر العبد، وكما قال صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[6]، يُقرُّ العبد بهذا، فإذا أقرَّ وقرَّره ربُّه ذلك واعترف، أتم سبحانه ستره في الآخرة، فلم يفضَحْه على رؤوس الخلائق، ولا في ذلك الموقف الرهيب العظيم، وإنما يُتم عليه ستره ورحمته كما ستره عليه في الدنيا، فنسأل الله الكريم من فضله. كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أي: إننا نؤمن بهذا الذي أخبرَنا به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق به إلا من وحيٍ يوحيه الله إليه. وأَمَّا الكُفَّارُ فَلا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ؛ فَإِنَّهُ لا حَسَنَاتٍ لَهُمْ، وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ، فَتُحْصَى، فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا، وَيُقَرَّرُونَ بِهَا، وَيُجْزَوْنَ عَلَيْهَا: عرَفْنا حال المؤمن في أمر الحساب والمُجازاة، أمَّا الكافر فلا يُحاسَب محاسبةَ مَن توزن حسناته وسيئاته، والمؤمنون على أنواع في يوم القيامة؛ فمِنهم مَن لا سيئات لهم؛ قد مُحِيَت وغُفِرَت - ويا سَعْدَ هؤلاء - ومنهم من لهم حسنات وسيئات فهؤلاء تحت مشيئة الله، إذا كانت سيئاتهم دون الشرك فإما أن يعفو عنهم، وإما أن يعذبهم، مع تحقق الوعيد المجمَل أنه لا بد أن يمسَّ العذابَ طائفةٌ مِن أهل الوعيد مِن أهل الكبائر، وأما مَن هم هؤلاء؟ فالله أعلم، لكن لا بد أن يتحقق فيهم وعيدُه؛ لأن الله لا يتخلف وعدُه ولا وعيدُه، ومنهم مَن تدخل أعماله تحت الموازَنة بين حسناته وسيئاته؛ ولهذا جاءت الأحاديث بأنه: ((وَيْلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ عَشَرَاتِهِ))؛ غلبَت سيئاتُه كَثرةً حسناتِه قِلةً، وهذا ممن يمَسُّه الوعيد المجمل وهو العذاب. الكفَّار ليس لهم حسنات تَبقى يوم القيامة، قد يكون لهم حسناتٌ في الدنيا؛ صِدقٌ في الحديث، وفاءٌ بالعهد، بِر، صدقة، عدم ظلم... لكنهم يُجازَون عليها في الدنيا، فلا يموتون إلا وقد وُفُّوا حسناتهم التي عَمِلوها، فإذا قَدِموا على الله فليس عندَهم حسنات ترجح مع سيئاتهم، ليس إلا السيئات المحضة، ويدل عليها قولُ النبي صلى الله عليه وسلم - لما ذكر له عمر حال كسرى وقيصر، وحال الفرس والروم فيما هم فيه من أسباب النعيم - قال: ((يَا عُمَرُ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةَ؟ أُولَئِكَ أَقْوَامٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ حَسَنَاتُهُمْ، وَنَحْنُ أَقْوَامٌ أُخِّرَتْ لَنَا حَسَنَاتُنَا))؛ ولهذا كان السلف الصالحون والعباد إذا رأَوا أسباب نِعم الله عليهم مُتوارِدَة خافوا من هذا، وخَشُوا أن تكون الحسناتُ قد عُجِّلَت لنا، وأن تكون سيئاتنا ومظالمنا قد أخرت علينا. الكفار ليس لهم حسنات، وإنما تُعد عليهم سيئاتهم، وتُحصى ويُقَرَّرُون، فمنهم مَن يقر، ومنهم من يكابر، ومنهم من يعاند، ومنهم من يتهم الملائكة الكتبة، ومنهم من لا يقبل إلا شهيدًا على نفسه مِن نفسه، فيُنطِق الله جوارحَه عليه، فيقول: تبًّا لكنَّ الدهرَ كلَّه؛ فعَنكنَّ كنتُ أدافع! فهؤلاء إذا قُرِّروا بأعمالهم، وأوقفوا عليها ولم يُنكِروها جوزوها بها عندئذ، ولهم النار السَّرمدية الأبدية، لا يخرجون منها، وهؤلاء الكفار على اختلاف كُفرِهم ودركات كفرِهم. [1] تقدم تخريجه، رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه. [2] رواه أحمد (2/ 213)، والترمذي (2639)، وابن ماجه (4300) وغيرهم، من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. [3] تقدم تخريجه. [4] رواه البخاري (6537)، ومسلم (1016). [5] رواه أحمد (1/ 421). [6] تقدم تخريجه.
__________________
|
#29
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (28) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً لا يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم؛ فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: العرصة والعرصات هي مواقف القيامة، والقيامة على أرض الشام، لكنها أرض كالزلفة، ليس فيها هضاب، ولا أودية، ولا مرتفعات، ولا منخفضات، وإنما صعيد واحد ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48]، وفي هذا الموقف العظيم تحصل هذه الأهوال، هذه العرصات. الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ: وفي ذلك الموقف من مراحله الحوض المورود، والحوض مجمع الماء، والمورود الذي يرده الواردون، ولكل نبي حوض كما جاء في الحديث: ((وَحَوْضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُهَا، وَحَوْضُ صَالِحٍ حَوْضُ نَاقَتِهِ)). الحوض جاء في القرآن في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، والكوثر نهرٌ أعطاه الله نبيَّنا في الجنة، يصب منه ميزابان عظيمان إلى حوضه، وجاءت السنة المتواترة، حتى إن أحاديث الحوض نافت على ستين حديثًا، عُنِيَ بها علماء السلف، وجمعوها، وحققوها، جاء من أوصافه: أَنَّ مَاءَ حَوْضِهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَشَدُّ حَلاوَةً مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَرْدًا مِنَ الثَّلْجِ مِنْ غَيْرِ مَا ضَرَرٍ، وَأَنَّ عَلَى الْحَوْضِ كؤوسًا وكيزانًا، لا إِحْصَاءَ لِعَدَدِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((بِعَدَدِ نُجُوم السَّمَاءِ))[1] ؛ أيْ: كَثرةً؛ لئلا يظنَّ الظانُّ أنه سيُشاحُّ في هذه الكؤوس والكيزان، وأن هذا الحوض طويلٌ مربع، طوله كعَرضه، جاء في الروايات: ((طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بُصْرَى)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَيْلَةَ))[2] ؛ إلى بيت المقدس، وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُمَانَ، أَوْ إِلَى صَنْعَاءَ)). كل الأحاديث التي جاءت فيها متفاوتة في ذكر الحدود، لكن تفيد أنه حوض طويل واسع، وهذا مما تواترَت به السُّنة، وأجمع عليه أهلُ السنة، ولكن في ذلك المقام الذي هو أشد ما يكون رهبة، وخوفًا، ووجلاً، وعظمة، وعطشًا، يَرِدُ الناسُ الأحواض، أقوامٌ مِن هذه الأمة سيُذادون؛ بمعنى أنهم يُمنعون مِن وُرود الحوض، جاء في الصحيحين قولُه صلى الله عليه وسلم: ((فَيُذَادُ بِأَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))؛ أي: غيَّروا، وبدلوا من دينك، وسُنَّتك، ((فَأَقُولُ: بُعْدًا بُعْدًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي))[3] ، فأفاد الحديث أن المبتدع بأي: إنواع البدع سواء بالقول، أو بالاعتقاد، أو الفعل، أو في المكان، أو في الزمان، أو في الحال، أو الهيئة أنه متوعد بأنه لا يرد حوضه صلى الله عليه وسلم ويُمنع منه؛ لتبديلِه سُنةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تحقيقٌ قاعدة: الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ وذلك أنه لَمَّا بدَّل أو غيَّر في سُنته صلى الله عليه وسلم ما بدل وغيَّر إلاَّ اتباعًا لهواه وشهوته، واتباعًا لجماعته وحزبه كان الجزاء أن يُمنع أن يرد حوضه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يرده إلا المستمسك بسنته. وقد زعمَت الرافضة أن هذا الحديث دليلٌ على أن الصحابة كفروا؛ لأنه جاء في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي، أَصْحَابِي))[4] ، وجاء في أكثر الألفاظ في الصحيحين - بعد تتبُّعي -: ((أُمَّتِي، أُمَّتِي))، فظَنوا بذلك - مِن قبيح مذهبهم - أنَّ الصحابة كفَروا، وهم أولى وأخلَقُ أن يكونوا ممن يُمنَعون ويُذادون عن الحوض؛ لأنهم أعظم الناس تغييرًا وتبديلاً لدينه وسنته صلى الله عليه وسلم. وقوله في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي أَصْحَابِي)) هذا اللفظ لا يردُّ اللفظ الآخر، فيُفهم بمجموعه؛ لأن الإطلاق العام في صحبة الأتباع، فأصحاب الرجل أتباعه، سواء ممن أخذوا عنه، أو ممن أخذوا عمن أخذوا عنه، كما أن الشيعة أتباعه؛ ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 83]، على أنَّ أكثر الألفاظ في الصحيحين قوله: ((أمتي أمتِي)). الحوض والأحواض التي تكون في العرصات، والميزان والوزن الذي يكون فيها مما أنكرته الجهمية والمعتزلة، حتى قال قائلهم - ويا سُخفَ ما قال، وسذاجتَه، وبلادته! -: إن الميزان لا يَحتاج إليه إلا الفوَّالُ والبقال! وكذَّبوا ما جاء عن اللهِ وعن رسول الله، وهذا نتاج تدخل العقول في الغيبيات، كما أنكروا عذاب القبر ونعيمَه، فقالوا: إذا فتحنا القبور ما وجَدنا لا عذابًا ولا نعيمًا. فأنكروا هذا العالَم الغيْبِي، الذي هو غير محسوس لنا إلا ما أظهره الله لنا، قال تعالى في عذاب القبر ونعيمَه: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، الدنيا والآخرة وبينهما البرزخ وهو القبر، ففي الدنيا يكون العذاب والنعيم على الأبدان، والأجساد، وقد يلحق الروحَ شيءٌ من ذلك، وفي القبر يكون العذاب والنعيم على الروح، وقد يصيب الجسدَ بعضٌ من ذلك، أمَّا الدار الآخرة فهي أكمل الأدوار، والعذاب والنعيم على الروح والجسد جميعًا؛ لأنها أكمل الحياة: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: لهي الحياة الكاملة، التي لا نقص فيها. فهؤلاء منكِرون لما يكون في البرزخ. وممن أنكره مِن الفلاسفة، الذين أنكروا أن يكون البعث كله، كذلك أنكره المشركون والملاحدة، فلاسفة المسلمين؛ كابن سينا، والفارابي، والكِنْدي وأضرابِهم؛ قالوا: إن البعث للأرواح لا للأجساد؛ ليقربوا بين الفلسفة وبين الشريعة، وأنى لهم ذلك؟! أما أهل الإثبات - أهل السنة، أهل القرآن - فإنهم مُصدِّقون بما جاء في كتاب الله، وما صح عن رسول الله من أمور المعاد، لا ينكرونه وإن لم تَبلُغه عقولهم ومَداركهم؛ شأنهم سمعنا وأطعنا، وحالهم أسلَمْنا وأذعَنَّا، وكانوا بهذا أحسنَ دينًا مِن أولئك. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ: مِن مراحل اليوم الآخر: الصراط، وهو ذلك الجسر المنصوب على متن جهنم، الذي هو أدقُّ مِن الشعر، وأحدُّ مِن السيف، وهو معوجٌّ ومظلم، ودَحضٌ، وعليه كلاليبُ أُمِرَت بخطف أقوام، والناس يمرون عليه كما نطقَت بذلك الأخبار الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرون بحسب أعمالهم؛ أي: بحسب إيمانهم. وأحاديث الصراط من أدلة أهل السنة في أن العمل مِن الإيمان؛ لأن في غالب الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ))، فدل على أن العمل من الإيمان؛ ولهذا عبَّر بالعمل عن الإيمان. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ: أي: سرعة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ: مثل أجاويد الخيل؛ الخيلُ الجياد السريعة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم[5]: ومنهم من يمر مثلَ أجاويد الركاب؛ أي: الإبل. ومنهم من يمر يَعْدو عدْوًا، ومنهم من يمر يَسعى سعيًا - والعدوُ أعظمُ من السعي وأسرعُ - ومنهم من يمر يمشي، ومنهم من يمر يحبو - والحبو جاءت فيه بعض الأحاديث - ومنهم من يمر يُقدِّم رجلاً ويؤخِّر أخرى، وهذا أضعف مَن يمر على الصراط، وقد ذكر النبيُّ في الحديث عند أحمد وغيره: ((أَقَلُّهُمْ رَجُلٌ إِذَا أَضَاءَ لَهُ فِي إِبْهَامِهِ نُورٌ قَدَّمَ رِجْلاً، فَإِذَا أَخْفَتَ وَقَفَ))؛ لأن الصراط مُظلِم؛ حيث إنه على متن جهنم. فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ[6]: وعلى الصراط حسَكٌ وكلاليبُ، والحسَكُ أصله نوعٌ من أنواع الشوك، يُشبه شوك السَّعدان، الذي يَكثُر الآن في الصَّحاري والبراري من نتاج الربيع، والكلاليب معروفة، وهي ما تُقَيَّد به الأرجل، وما يُصاد به الصيد، قد أُمِرَت بخطف رجال؛ بخطف أناس، والنبي عند أدنى الصراط رافعٌ يديه، يقول: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَكْدُوسٌ مُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)). والصِّراط (الجَسر المنصوب على متن جهنم) جاء ذِكرُه في القرآن في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]؛ أي: يَجْثون على رُكَبِهم، وهو مذكورٌ على سبيل الإشارة لا التصريح فيما يقَع بين المؤمنين والمنافقين يوم يُضرَب بينهم بسُور؛ ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]؛ وذلك أن المنافقين يَتبعون المؤمنين في عرَصات القيامة حتى إذا أقبَلوا على الصراط سبَقهم المؤمنون سبقًا. وبعضُهم استدل على الصراط بقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وهذا الاستدلال ليس بالقويِّ من عدة جهات: أُولاها: أن الصراط المستقيم في آية الفاتحة هو دين الله القويم، وهو الإسلام الذي مَن استمسَك به فهو مهديٌّ لأنه قال في بدله بعد ذلك: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، فدلَّ على أن الصراط المستقيم هو صراط الإسلام، غير طريق اليهود وغير طريق النصارى بعد التبديل. ثانيها: هناك مَن يعبر على الصِّراط فيَنجو، وهناك مَن يمر على الصراط فيَكْبو وهو مِن المؤمنين، لكنه أكباه ضعفُ عمَلِه، وطالِحُ كسبِه، ومعلومٌ أن المهديَّ الصراطَ المستقيمَ لو كان المراد به الجَسْر على متن جهنم لكان عابرًا، ومن المؤمنين من أصحاب الذنوب مَن يخبو ويكبو، فيكون في جهنَّم على قدر سيئته، فدل على أن الصراط المستقيم هو الإسلام، وليس الجسر على متن جهنم. ثالثُها: أن الصراط على متن جهنم ليس مُستقيمًا وإنما مُعوجٌّ ودحض. رابعُها: أن مَن هُدِيَ إلى الصراط المستقيم - وهو دين الله القويم - فسيُهدى على الصراط برحمة أرحم الراحمين، وبسبب ما يُقدِّمه من عملٍ صالح. وأما آية مريم فقد استدل بها السلف - عائشةُ وأبو هريرة وجابرٌ وغيرهم رضي الله عنهم - على أنَّ المراد به هو الجَسْر على متن جهنم؛ ولهذا كان كثيرٌ من السلف - من الصحابة ومن التابعين ومَن بعدهم - إذا مرَّ على هذه الآية يخشع لِمَا قام في قلبه من الخشية، ويقولون: "أَنَّى لَنَا الصُّدُورُ بَعْدَ الْوُرُودِ!" الورود في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71]؛ أي: وُرودُهم على متن جهنم؛ لأن الصراط على مَتنِها، وهذا دليلُ أهل السنة على أن الصراط على متن جنهم، جَسْر على متنها، فيقولون: "مَنْ يَضْمَنُ لَنَا الصُّدُورَ"؛ أي: النجاة "بعد الورود"؛ فإنَّ الله ذكَر الورودَ وأنَّ كلاًّ سيَرِدُها، لكن لم يَضمَنْ سبحانه وتعالى بالورود إلا للمؤمنين: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا ﴾؛ أي: محتومًا ﴿ مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]؛ مبرَمًا في قضائه القدَريِّ والشرعي، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، وهذا يدل على ما كان عند السلف من كمال الخشية لله تعالى، وعدم الاغترار بأعمالهم وإن عَظُمَت، في مُقابل الخلَف الذين أُعجِبوا بأعمالهم القليلة، وتفريطهم الكثير، وعَظُم عندئذ رجاؤهم في رحمة الله[7]. والصِّراط دلت عليه الأحاديث المتواترة فيه تواترًا معنويًّا، وأجمع عليه أهل السُّنة، وخالف فيه طوائفُ من الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم خالفوا في هذا الصراط، وعمدُة هؤلاء المنكِرين له أن الصراط لم يُذكَر في القرآن وإنما جاء في أخبار الآحاد، وهذه مطيَّتهم العَفِنة في ردِّ الأمور الغيبية التي لا توافق مَعقولاتهم، وإلا فإنه قد تواترَت فيه الأحاديثُ تواترًا معنويًّا، وليست على شرطِهم بأنها أخبارُ آحاد. ومما جاء في وصف الصِّراط أنه دقيق؛ أحَدُّ مِن الشعر، وأدقُّ من السيف، وأنه دَحْض، وأنه مُظلِم، وأن الناس يَعبُرون عليه على قدر إيمانهم. ومما يجب أن يُنْتَبه له أنَّ مِن أسباب الجُثِيِّ مِن على الصراط على وجوههم كما قال الله: ﴿ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، إنَّ مِن أسباب ذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه الطويل، لما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفَرٍ، ثم قال في آخِر حديثه: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَنْكَ هَذَا)) وَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِلِسَانِ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ إِنَّا مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَقُولُ؟ قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))؛ فقوله: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - وهذا من باب التعبير بالبعض عن الكل - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) أفاد ذلك أنَّ من أسباب الجُثيِّ في النار - على وجهه وعلى مَنخِره - نِتاجَ لسانِه إذا صار مشذارًا مهذارًا، سابًّا، لعَّانًا، شتَّامًا، مغتابًا، نمامًا، قادحًا في أعراض الناس، قادحًا في شرفهم؛ لأن العِرْضَ يشمل عِرض الدين في أن يُتَّهم في دينه، أو يُتهم في عقيدته، أو يُتهم بنِسْبته إلى منهج فاسد، أو يُتهم في شرَفه وهو عِرضه النَّسَبي؛ فإن هذا من أسباب الجثي على وجوههم في نار جهنم. والصراط جديرٌ بمن أنكره أن يكون ممن لا يَعبُرَه؛ كمَن أنكر رؤية الله ألا ينالَها، وكمَن أنكر ما يكون في البرزخ أن يُصيبه ضدُّ ما أنكَر؛ طردًا على القاعدة الشرعية: الجزاء من جنس العمل: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ ولهذا فإن الذين أنكَروا هذه الأشياء جديرون بأن يَخسَروا، ويرسبوا فيها، ويُرديَهم فيها سيِّئ اعتقادهم، وسيئُ قصدهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله. فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ: أي: إنه في الجملة يدخل الجَنَّة؛ فمِنهم مَن يدخلها مباشرة، ومنهم مَن يبقى على الجَسر؛ على القنطرة بعد الصراط، وهي قنطرةٌ قبل الجنة، يُقتصُّ فيها للمؤمنين بعضِهم مِن بعض مما يكون بينهم من أسباب الخصومات التي لم تُستوفَ بالعرَصات. وقوله: "ومَن عبر الصراط دخل الجنة"؛ أي: إنه نَجا من النار؛ لأن النار تحت الصراط، فالصراط جَسر عليها وهي تحتَه، ولو لم يكن مِن عرَصات القيامة وأهوالِها وشدائدها إلا العبور على الصراط الذي هذه صفته؛ دقيق، ومزلة، ومظلم، ودحض، وعليه حسَكٌ وكلاليبُ، وتحته نارُ جهنمَ سوداءُ مظلمة - لكفى بهذا نذيرًا ووعيدًا، وتخويفًا للمؤمنين ولغير المؤمنين. فَإِذَا عَبَرُوا وُقِفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ: هذه القنطرة - وهي مرحلة بين الصِّراط وبين الجنة - هي للمؤمنين فقط خاصَّة، فلا يَعبُرها كافر، وقد يَعبرها مسلمٌ عليه ظُلامةٌ لإخوانِه، فيكون الاقتصاص في ذلك المكان، ومن المؤمنين مَن سيَسقط من على الصراط على جهنم، وهذا بحسَب ذنبه وكبيرته، لا على جهة الخُلود؛ ولهذا في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72] لم يَقل: نُنجِّي الذين آمنوا؛ لأن مِن المؤمنين مَن يقع فيها، ولم يقل: ونذَر الكافرين فيها جثيًّا؛ لأن وصف الظلم يَطول الكافرَ - وظُلمُه الظلمُ الأكبر - ويَطول الفاسقَ - وظلمه ظلم الأصغر - ولهذا في القرآن إذا جاء وصفُ الظلم والكفر والفسق والنفاق فإنه يُراد به إما الأكبر أو الأصغر، ويُحدِّد ذلك السياقُ والآياتُ الأخرى التي يُرجع لها في تفسير هذا النصِّ وهذه الآية. في القنطرة يُقتصُّ للمؤمنين بعضِهم من بعض، مما لم يُستوفَ قبل ذلك في مراحل الآخرة؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم - ونقَله الشيخُ بلفظ الحديث، وحديث القنطرة حديثٌ في الصحيحين -: ((فَإِذَا هُذِّبُوا، وَنُقُّوا))؛ أي: لم تقم عليهم سيئة، ولم تبقَ عليهم ملامة هُذِّبُوا من آثار الذنوب وأسبابها، ونُقُّوا من ملامات الخلق ((أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ))[8] ، والإذن لهم بعد الإذن للنبي؛ لأنَّ مِن الشفاعات الخاصة به أنه يستفتح له وللمؤمنين بدخول الجنة إذا أخذ بحَلقَةِ باب الجنة. وهذا فيه تشبيهٌ للمؤمنين بالذَّهَب؛ فإن المؤمن كالذهب، والذهب كلما زِيدَ في صِليِّه النارَ نَقِيَ وصَفا مِن الشوائب، شوائبك - يا أيها المؤمن - هي ما تَحمَّلتَه من أسباب الذنوب والمعاصي، والتفريط؛ إن كان في حق الله، أو في حق عباد الله، وهكذا المؤمن تَزداد عليه البلايا والمِحَن، وصِلِيِّه النار إلى أن يتخفف من هذه الذنوب، ولهذا لن يدخل أحدٌ الجنة وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة، فإما أن يُجازى بها بأنواع الجزاءات - وهي الأسباب العشرة المسقِطة للذنوب - أو أن يشمَله الله برحمته، وهو أرحمُ الراحمين، فلن يدخل أحدٌ الجنةَ إلا مؤمن، ولن يدخلها مؤمنٌ وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة. [1] رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص. [2] رواه أحمد (3/ 230). [3] رواه البخاري (6582) ومسلم (2304)، من حديث أنس بن مالك. [4] تقدم تخريجه. [5] لما رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري. [6] نفس السابق. [7] رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، والإمام أحمد (5/ 231)، من حديث معاذ بن جبل. [8] رواه البخاري (7439)، من حديث أبي سعيد الخدري.
__________________
|
#30
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (29) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ، وَلَهُ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُولَى: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ: آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَريَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَلاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا. شيخ الإسلام رحمه الله أخَّر الكلامَ عن الشفاعة إلى هذا الموضع - مع أن حق الكلام عن الشفاعة أن يُقدَّم إذا قام الناس من قبورهم في أول عرصات القيامة - وذلك لثلاثة أمور: أولاً: إن هذا المتن مختصَر، وقد علَّقه مِن غير تحضير، ولا ترتيب، بل جاءه وليُّ الدِّين الواسطيُّ القاضي، وطلب عقيدته أن يكتبها له؛ ليدين بها هو وأهله، فكتبها له بين العصر والمغرب، وما وضع لها مخططًا، ولا عرَضه على الأقسام ليفحَصوه، وما ذهب، ولا أتى، وإنما أملاها من قلبه؛ ولهذا فإن ما يحصل فيها من التقديم والتأخير فإنه رحمه الله معذور. ثانيًا: ها هنا جاء ذِكرٌ لنوعٍ مِن الشفاعة الخاصةِ به (وهي الشفاعة بدُخول الجنة)، والشفاعات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الاستقراء أربع، أو خمس، والشفاعات كلُّها ثَمان، ونَذكُرها هنا تفصيلاً؛ لأن الشيخ لم يُرِد الاستيعاب وإنما ذكَرها لنا من باب ذِكْر أشهَرِها: أُولى الشفاعات الخاصة به: الشفاعة العظمى، التي أشار إليها الشيخ، وهي شفاعةٌ إلى الله ليَجيء إلى فصل القضاء، يوم يتخلَّى عنها كلُّ عباد الله ومُصطفَيْه، فيأتي الناسُ آدمَ وهم في عرَصات القيامة وشدتها، فيَعتذِر بأن الله غَضِب اليوم غضبًا لم يغضب مثلَه قط، ولن يغضَب مِثله قط - وهذا فيه إثباتُ الغضب لله تعالى - وأنه قد عَصى الله بأكلِه من الشجرة، ثم يأتون نوحًا فيعتذر كذلك بهذا العذر؛ بأن الله غضِب غضبًا لم يغضَب مثله قط، ولن يغضبَ مثله قط، وأنه سأل الله ما ليس له به عِلم، وهو نجاة ابنه كنعان، فنوحٌ له أربعةُ أبناء: كبيرهم كنعان، والثلاثة: سام، وحام، ويافث. وكنعان هو الذي كان مِن المغرَقين؛ لأنه كان كافرًا، ثم يأتون إبراهيمَ فيعتذر كذلك، ثم موسى، فعيسى، وعيسى لا يعتذر بذَنب، وإنما يعتذر بغضَب الله، ويقول: ((اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ؛ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)). فيَأْتُون نبيَّنا صلى الله عليه وسلم فيقول: ((أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا))[1]، فيذهب، فيَخِرُّ ساجدًا تحت العرش، ويفتح الله عليه أنواعًا مِن مَحامِدِه؛ أي: مِن الثناء عليه، وتمجيدِ ربِّه، لم يكن قد فتَحها عليه في الدنيا، فلا يزال ساجدًا هكذا، حتى يأتيَ الإذنُ مِن الله عز وجل: ((يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ))[2]، وهذا قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهذا المقام المحمود الذي يَغبِطه عليه الأولون والآخِرون، وهو الشفاعة إلى الله في الموقف العظيم؛ ليجيء لفصل القضاء، ويُريحَ الناسَ مما هم فيه من الهمِّ العظيمِ والبلاء. والشفاعة إلى الله مِلكٌ لله تعالى في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 44]، ولا تنفع الشفاعة إلا بشرطين: الأول: إذن الله للشافع بالشفاعة: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، ملوكُ الدنيا مهما عَظُم مُلكهم يُشفَع عندهم بغير إذنهم، إلا مَلك الملوك جل جلالُه؛ فلَن يشفَع أحدٌ عنده إلا إذا أَذِن له. الثاني: رضا الله عن المشفوع له؛ ولهذا فإن الكافرين والمنافقين لا ينفعهم الشافعون ولو شفعوا. وهذه الشفاعة العُظمى - مع أنها تَطول المؤمن والكافر، والكفار تبعٌ للمؤمنين - لكنها لا تنفَعهم هذه الشفاعة، وإنما تُعَجِّلُ بعَذابهم وسعيرهم، وصِليِّهم النارَ وجَزائهم، فالرسول مع أن شفاعته طالت هؤلاء إلا أنها لا تنفعهم، والله تعالى قال: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، ولم يقل: ولا يَشفع فيهم الشافعون. الشفاعة الثانية الخاصةُ به صلى الله عليه وسلم: ما أشار إليها الشيخُ من قولِه: ((فَيَشْفَعُ إِلَى اللهِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ))؛ وذلك أنه جاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ آخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَقَالَ: أَنَا، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيُقَالُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ))، فيُفتَح له؛ لأنَّه يَشفَع إلى الله بدخول الجنة، فهو أول الداخلين إلى الجنة من بني آدم، ومن المكلفين إنسًا وجنًّا، وأمته أول الأمم دخولاً إلى الجنة، وهذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نَحْنُ الآخِرُونَ - أي: زَمانًا - السَّابِقُون يوم القيامة))[3]؛ أي: السابقون إلى الجنان. وأمته في الجنة، ذُكِر أنهم يَبلغون شطرَ، بل ثُلثَي أهل الجنة؛ وذلك أنه جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه فقال: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَكَبَّرَ الصَّحَابَةُ كَانُوا فِي سُرَادِقٍ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلْثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَعَظُمَ تَكْبِيرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَكَبَّرُوا حَتَّى ارْتَجَّ السُّرَادِقُ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). وهذه كرامة لهذه الأمة وخَصِيصَةٌ من الله لها على سائل الأمم. الشفاعة الثالثة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث العباس رضي الله عنه أنه قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو طَالِبٍ فَعَلَ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ - يعدد مآثره وحميته على رسول الله - وَقَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، فَهَلاَّ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟"، وأبو طالب هو الذي ربَّى النبي، وقد حدب أبو طالب ظهره على رسول الله ثلاثًا وأربعين سنة من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن كان عمر النبي ثمانيَ سنوات إلى وفاة أبي طالب بعد البَعْثة بعشر سنين؛ ثلاث وأربعون سنة وأبو طالبٍ حادبٌ ظهرَه على رسول الله، وما كانت قريشٌ ولا غيرُها يستطيعون أن يَنالوا من رسول الله شيئًا وأبو طالب حي، أبو طالب كان شأنه عجَبًا مع رسول الله، وكان دافِعُ ذَلك الحميَّة، مع أنه صرَّح بصِدْق رسول الله، وصحة دينه بلِسانه، لكنه لَمَّا أبى أن يقول: لا إله إلا الله. كان كفرُه كفرَ إباءٍ، وهو أحد أنواع الكفر الخمسة، وأبو طالب هو القائل: وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ![]() مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا ![]() لَوْلاَ الْمَلامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ![]() لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا ![]() فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ![]() وَابْشِرْ فَقَرَّ بِذَاكَ مِنَّا عُيُونَا ![]() أليس هذا القول قولَ مَن آمن بالرسول؟ بلى، هذا قوله، لكنه أبى أن يقول: لا إله إلا الله. وهو الذي قال في لاميته: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ![]() ثِمَالِ الْيَتَامَى عِصْمَةٍ لِلأَرَامِلِ ![]() تَلُوذُ بِهِ الْهُلاَّكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ![]() فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ ![]() حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ![]() يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ ![]() فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ ![]() تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ ![]() لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ![]() مِنَ الدَّهْرِ طُرًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّخَاذُلِ ![]() لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ ![]() لَدَيْنَا وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ ![]() ومع ذلك لم يؤمن؛ أَبَى أن يقول: لا إله إلا الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه يسعى وهو يعالج السكرات، فقال: ((يَا عَمَّاهُ، قُلْ كَلِمَةً أُحَاجَّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))، واستدل بها طوائف المرجئة على أن مجرد قول: "لا إله إلا الله" يكفيه وينفعه، وهذا من جهلهم بحال أبي طالب وبحال النبي معه، بل مِن جهلِهم بتوحيد الله والإيمان به؛ لأن أبا طالب صدَّق بشِعره، لكنه أَبى أن يَقولها، فلما أَبَى أن يقولها لم ينفَعْه ذلك؛ لأنه أبى مع قدرته، وهذا دليلٌ عند أهل السنة على أن الإيمان لا بد فيه مِن النطق باللسان مع اعتقاده ومع قوله. فالعبَّاس يقول للنبي صلى الله عليه وسلَّم: أَبُو طَالِبٍ هلاَّ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ، يُخْرِجُهُ اللهُ بِي مِنْ دَرْكِ النَّارِ فَيَجْعَلُهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ))[4]، والضَّحضاح في اللغة: هو الماء إذا مَشى على الأرض، وبلَغ أسفَل القدَم، ولم يُجاوِز الكعبين يُسمَّى ضحضاحًا، سواء كان يَسيل أو كان راكدًا. قال النبي: ((فَيُوضَعُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ))؛ أي: إن النار لا تلبسه جميعًا، وإنما إلى كعبيه يَغلي منهما رأسه؛ يَظنُّ أنه أشدُّ الناس عذابًا، وهو في الحقيقة أقَلُّهم عذابًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَلَوْلايَ لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))؛ أي: لولا شَفاعتي فيه لكان في الدرك الأسفل من النار. وجاء في الحديث الآخَر: ((إِنَّ أَقَلَّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا رَجُلٌ يُلْبَسُ نَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا نَفُوخُهُ، يُرَى أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا، وَهُوَ أَقَلُّهُمْ عَذَابًا))! فأبو طالب لم تنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه من النار. الشفاعة الرابعة: شفاعته في السبعين ألفًا: وفيها خلاف بين أهل العلم. الشفاعة الخامسة: شفاعته في أهل الأعراف، وهم - على الراجح - مَن تَساوَت حسَناتُهم وسيئاتُهم، يشفع فيهم في دخولهم الجنان، وهذه فيها خلافٌ بين أهل العلم. الشفاعة السادسة - وهي ليست خاصة به، بل هي له ولغيره من الأنبياء، والشهداء، والملائكة، والصالحين -: شفاعته في رفع درجات المؤمنين في الجنان؛ بأن يكونوا في درجات دنيا، فيُرفَعون إلى درجات عليا، ومن ذلك شفاعة الآباء في أبنائِهم، وعكسها من شفاعة الأبناء لآبائهم. الشفاعة السابعة: شفاعته لأهل الكبائر: وقد ادَّخر صلى الله عليه وسلم شفاعته إلى يوم القيامة لأمته: ((شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي))[5]، وهذه التي يُنكِرها المعتزلةُ والجهمية (المسمَّون بالوعيديَّة)، بل الواقع أنهم لا يُقِرُّون إلا بشفاعةٍ واحدة، وهي العظمى، ويُنكِرون ما سواها. الشفاعة الثامنة: شفاعته في أقوام قد دخلوا النار، وذاقوا صليَّها وعذابها، فيشفع هو والأنبياء عليهم السَّلام، والشهداءُ والصالحون إلى الله في خروجهم منها. وفي شفاعته الثامنة يحدُّ له الله أربعةَ حدود كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه، وفي الصحيحين فيَحُدُّ الله له حدًّا، ويقول: ((يَا مُحَمَّدُ، أَخْرِجْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرِجُهُمْ، ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا ثَانِيًا: أَنْ أَخْرِجْ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا ثَالِثًا فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا رَابِعًا، فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ))[6]؛ أي: إنهم لم يعمَلوا خيرًا ينفعهم، وقوله: ((قَطُّ)) على جهة التغليب، وأن سيئاتهم العظيمةَ غلبَت حسناتهم غلَبةً، حتى كادت الحسنات تضمحلُّ مع هذه السيئات، وليس معناها أنهم لم يَعمَلوا أعمالاً أبدًا؛ لأنَّ هذا الدليل استدل به المرجئة على نفيِ العمل عن الإيمان، ومعلومٌ أن العمل يَشمَل عملَ القلب وعمل الجوارح؛ فإن قالوا: إنه لم يعمَل عملاً، لا عمل قلب، ولا عمل جوارح. صار مذهبُهم مذهبَ غُلاة المرجئة، ومعلوم أنه لا إيمانَ لمن لا عمل له، سواء بالعمَلَين عمل القلب وعمل الجوارح؛ فإن فصَّلوا فأثبتوا عمل القلب دون عمل الجوارح فقد تحَكَّموا على دليل بغير مستَدَلٍّ. نقول: من أين بالدليل قال: ((لم يعمل عملاً قط)) - أي: عمل الجوارح - إما أن تنفوا الجميع، أو تثبتوا الجميع. وليس لهم مَناصٌ عند السَّبْر والتقسيم إلا هذا؛ ولهذا فإن هذا الحديث في هذا الباب يعدُّ مشكِلاً إذا نُظِرَ إِليه بمجرَّده، أما إذا ضمَمتَه إلى بقية نصوص الوعد والوعيد يَزول الإشكال والاشتباه، كما عليه محقِّقو أهل السنة من أن هذا نَصُّ وعدٍ يُرجَع فيه إلى بقية نصوص الوعيد، فعندئذ يلئتم الأصل، ويجتمع عليه الشمل، ولا يختلف عليه قول أهل السنَّة. ((ثُمَّ يَأْخُذُ اللهُ تَعَالَى بِيَدِه غَرْفَةً مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: هَؤُلاءِ إِلَى رَحْمَتِي، وَلا أُبَالِي)). وهذه ليست شفاعةً، وإنما هي محضُ تفضُّلٍ من الله. انحرف في الشفاعة أقوام، وممن انحرف فيها الوعيدية من الخوارج، والمعتزلة، وهم كادوا لا يثبتون إلا العظمى، وبعضهم يثبت شفاعة النبي في التنقُّل في الجنة، والتدرُّج فيها، وغلاةُ المرجئة يُنكِرونها؛ لأن الشفاعة إنما جاءت في الأحاديث، وهي عندهم مظنَّة الآحاد! وهي خارمةٌ لأصلهم؛ فإن مِن المرجئة مَن يقول: إن مَن عرَف الله مؤمن! فإذا كان العارف مؤمنًا فلا حاجةَ له إلى شفاعة، ومن قال: "لا إله إلا الله" وهو مؤمن كما هو مذهب الكرَّامية، فلا حاجة له إلى شفاعة، وهذا نتاج أصولهم الفاسدة، وعقائدهم في الإيمان الكاسدة. وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ: أي: إنه يبقى في الجنة فضلٌ لم تمتلئ الجنة، والنار - وهي أقل مِن الجنة - لا تمتلئ حتى يضَع الرحمنُ فيها رِجلَه وقدَمَه، فتقول: قَدْني، قدْني. الجنة إذا دخلها كلُّ أهلها - ممن كتَب الله لهم دخولها، ومَن شفع فيهم الشافعون - يَبقى في الجنة فضلٌ؛ أي: مكانٌ لم يَدخله أحد، فيُنشئ الله لها أقوامًا يخلقهم لها، فيُدخلهم الله الجنة رحمةً منه؛ لأن الخلق خلقُه، والملك ملكُه، ولا يُسأل عما يَفعل، وهم يُسألون. وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ - مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَثَارَةِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِةِ عَنْ الأَنْبِيَاءِ. وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنْ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ: الأصناف هي الأنواع؛ أي: أنواعُ مَن يدخل الجنة، وما يقَع في اليوم الآخر من أنواع المواقف في العرَصات؛ مِن تطايُر الصحف، والحساب، والحوض، والميزان، والشفاعات، والصراط، والقنطرة بعد الصراط، والجَسْر على متن جهنم، وما يكون فيها من إقرار الإنسان بعمله... فكل هذه الأصناف (الأحوال) مذكورة في كتب الله المنزلة، ومذكورة فيما أوحاه الله على رسُلِه من أثَارة العلم (العلم المأثور) عن أنبياء الله. هذا حكاية من الشيخ لإجماعِ المرسَلين على الإيمان بهذه التفاصيل، تفاصيل اليوم الآخر؛ لأنها كما ذُكِرَت لنا ذُكِرَت له، لكن جاء في شريعة نبِّينا - من التفاصيل وذِكْرِ آحاد الأمور وأفرادها - ما لم يأت فيمن قبلنا؛ لأن شريعتنا هي الخاتمة، ومحمد هو خاتم المرسلين؛ ولهذا أبان من تفاصيل اليوم الآخر إبانة تفصيلية ما لم يذكرها نبي قبله، ولهذا جاء في الصحيحين: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْغَدَاةَ (الْفَجر)، ثُمَّ وَقَفَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَلَمْ يَنْزِلْ حَتَّى زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ إِلاَّ وَأَخْبَرَهُمْ مِنْهُ خَبَرًا، قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ؛ أي: نسيه من نسيه. فإن الجهل هاهنا بمعنى النسيان؛ دلالة على أنه أبان لهم ذلك إبانة واضحة لا مرية، ولا التباس فيها. [1] رواه البخاري (4712)، ومسلم (194)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] نفس السابق. [3] رواه البخاري (6624)، ومسلم (855)، من حديث أبي هريرة. [4] رواه البخاري (3883)، و (6208)، ومسلم (209) عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه. [5] رواه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (3/ 213)، من حديث أنس بن مالك. [6] رواه البخاري (7510)، ومسلم (193، و326)، وأحمد (3/ 116).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |