شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (1) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: بدأ المؤلف - رحمه الله - بالبسملة تأسياً بالكتاب العزيز، وتأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى الناس، فإنه جاء في الصحيحين - وأفرده البخاري بطوله - لما كتب إلى هرقل: (( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرْقَلَ عَظِيمِ الرُّومِ )).[1] واستئناساً بما رُوِي من وجوه عديدة (( كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللهِ، أَوْ بِذِكْرِ اللهِ، أَوْ بِبِسْمِ اللهِ، أَوْ بِالْحَمْدِ للهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، أَوْ أَقْطَعُ، أَوْ أَجْذَمُ )).[2] والحديث - وإن كان ضعيفاً مضطرباً في ألفاظه لكنه - يُستأنس به مع هذين الأصلين، تأسياً بالكتاب العزيز وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم. الْحَمْدُ للهِ: هذا من حمد الله، والثناء عليه، وهذا تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا خطب، أو حدَّث الناس بدأ حديثه بحمد الله والثناء عليه، على أنه ليس بلازم ومتعين أن يكون بدؤه بحمد الله والثناء عليه من خلال خطبة الحاجة،[3] والناس في خطبة الحاجة على مناح ثلاث: 1- منهم من يرى قصرها على عقد النكاح كما هو صنيع أكثر المتأخرين من الفقهاء، بحيث يجعلونها شعاراً لخطبة النكاح، بأن يأتي بخطبة ابن مسعود. 2- ويقابلهم طوائف من أهل الحديث وأهل الظاهر يوجب أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه بخطبة الحاجة، فإن لم يفعل فإنه تحت طائلة التهمة إما بالتبديع، أو بالتضليل، أو بالتخطئة. 3- والوسط بين ذلك هو ما عليه صنيع العلماء من عهد الصحابة إلى هذا الزمان أن خطبة الحاجة يُبْتَدَأ بها في تصانيف الكتب، وفي الأمور المهمة، وإن بدأ بحمد الله والثناء عليه بما أثنى عليه في القرآن فإنه لا ضير ولا غضاضة في ذلك، ومن ذلك صنيع الشيخ هاهنا. حمد الله؛ لأنه الذي حمد نفسه كما في أول الفاتحة: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ï´¾ [الفاتحة: 2]. وقوله تعالى: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ï´¾ [الأنعام: 1]. وقال: ï´؟ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ï´¾ [الأعراف: 43]. وقال: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ï´¾ [الكهف: 1]. الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدَاً: رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أرسله بالهدى ليهتدي هو ويهدي الناس من بعده، ودين الحق ليس بالدين الباطل المحرف، وإنما دين الحق هو الذي أرسل رسوله بالهدى ليظهر على الناس كافة. هو الذي أرسل رسوله بالحق ï´؟ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ï´¾ [الرعد: 43] فالله تعالى أرسله، وشهد بأنه رسول مرسل إلى الناس كافة، وفي هذا مع حمد الله الإشارة إلى النعمة العظيمة التي أولانا الله به بأعظم نعمة أن هدانا للإيمان من خلال بعثة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَاراً بِهِ وَتَوْحِيدَاً: الإقرار هو الاعتراف والإيمان إقراراً به وتوحيداً، وهذه الشهادة شهادة التوحيد، ولها أصل في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في حديث " سيد الاستغفار "، من حديث شداد بن أوس: (( اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَعَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي )).[4] أي: أعترف وأقر إقراراً به، وتوحيداً. لأن الرسالة في بيان التوحيد. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً مَجِيدَاً: هذا من أعظم ما يُثنى به على الرسول صلى الله عليه وسلم بهذين الوصفين: 1- وصف العبودية، 2- وصف الرسالة. فهما أعظم وأجمع وصفين يُمدح بهما نبينا، ويوصف بهما، ويُثنى عليه بهما وصف الرسالة ووصف العبودية؛ لأنها أعلى درجة يدركها العبد في الدنيا أن يكون لله عبداً، فمن كان لله عبداً فهذا غاية ما يحصله من المراتب الشريفة في الدنيا، لأن من لم يكن لله عبداً كان لغيره عبداً، يقول ابن القيم: هَرَبُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ[5] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من لم يكن لله عبداً كان لغيره عبداً، ومن كانت عبوديته لله فهذه أعظم المراتب في الدنيا، ولهذا وصف الله رسوله بوصف العبودية في أشرف المقامات: 1- المقام الأول: مقام الإسراء: ï´؟ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الإسراء: 1]. إن الله قادر على أن يقول: سبحان الذي أسرى بمحمد. لكنه وصفه في هذا المقام الشريف بوصف العبودية. 2- المقام الثاني: التنزيل. فقال: ï´؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ï´¾ [الكهف: 1]. وقال: ï´؟ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ï´¾ [الفرقان: 1]. 3- المقام الثالث: مقام التحدي. كما في قوله: ï´؟ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ï´¾ [البقرة: 23]. 4- المقام الرابع: مقام الدعوة. في قوله: ï´؟ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ï´¾ [الحج: 19]. 5- والمقام الخامس في مقام الشفاعة العظمى. كما جاء في الصحيحين أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول عيسى: (( اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ )). [6] وعندما قيل عن الملائكة: إنهم إناث. مدح الله الملائكة، ورد على المشركين قولهم، فقال: ï´؟ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ï´¾ [الأنبياء: 17]. فأعلى ما يحصله العبد في الدنيا أن يكون لله عبداً، فيترقى في درجات العبودية، ولا يتردى في دركات الوثنية. ووصف العبودية وصف مُكْتَسَبٌ يكتسبه الإنسان بعمله باعتقاده، وبما يستقيم عليه من دين ربه. المنحرفون في هذه المسألة: 1- من رفعوا العبادة عن درجة العبودية، فجعلوا لهم خصائص العبادة كالمشركين، والوثنيين، والقبوريين. 2- من أخرجوا العباد عن معنى العبودية كالملاحدة، والإباحية، واللادينيين. والوصف الثاني: وصف الرسالة. وهذا خاص بالاصطفاء إذ ليست الرسالة مكتسبة فقد اصطفاه الله بها فقال تعالى: ï´؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ï´¾ [الحج: 25] فهي اصطفاء واجتباء. والشهادة بأن محمداً عبد الله ورسوله لما جاء في حديث وفد بني عامر، من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (( انْطَلَقْنَا فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْنَا: سيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَعَظِيمَنَا وَابْنَ عَظِيمِنَا... قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ وَلا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ - وفي رواية: وَلا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ. أي: يجري بأهوائكم - إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ )).[7] وجاء في بعض الروايات: (( مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عَلَيْهَا )).[8] من حديث أنس رضي الله عنه. ومقتضى هذه الرسالة ومعناها في أربعة أمور: 1- تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر. 2- اجتناب ما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وزجر. 3- وطاعته فيما أمر. 4- أن لا نعبد الله إلا بما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم المنحرفون في هذه المسألة: 1- الفلاسفة الذين زعموا أن النبوة مكتسبة. 2- غلاة الصوفية، الزاعمة أن الولي أفضل من النبي. 3- المكذبون بالرسل، أو ببعضهم، كالمشركين، واليهود، والنصارى كلٌّ بحسبه. فوصف العبودية والرسالة أبلغ وصفين يُوصف بهما محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت بها الأدلة المتكاثرة، منها قوله - في حديث عبادة في الصحيحين -: (( مَنْ شَهِدَ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ )). [9]، وفي حديث ابن عمر: (( بُنِي الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ )).[10] لأن مقتضى الرسالة مقتضى العبودية. أما بعد: هذه جملة فاصلة لما قبلها عما بعدها، وأصلها: أما بعد ذلك. فحُذِف المضاف إليه، وأُبْدِلَ بدله بالضمة (أما بعْدُ) وقالوا: إن أول من قالها خطيب العرب القس بن ساعدة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في خطبه: أما بعد. وبعض الناس يقول: ثم أما بعد. وهذه من غير الفصيح؛ لأن ثم عاطفة، ولا حاجة إلى أن يعطف وهو يريد أن يفسر الكلام ما قبله بما بعده بقوله: أما بعد. ولكن إذا أراد أن يأتي بالعطف أن يقول: وبعد. أو يقول: بعده. ثم يأتي بمراده. فَهَذَا اعْتِقَادٌ: هذا يُسمى عند المؤلفين بذكر العنوان،[11] فهذا اعتقاد، أي: بيان العقيدة. الاعتقاد مأخوذ من الْعَقْدِ، وَهُو الربط والإيثاق، ويكون العقد في القلب في موضع الاعتقاد، وهذا فرق ما بين العقيدة؛ لأن العقيدة ناشئة من اعتقاد من ربط وتوثيق. العقيدة والفكر: وما يُسمى عند الناس بالفكر، فالفكر يعرض ويزول، أما الاعتقاد فهو مُوَثَّق بهذا الربط والعقد في قلبه، ولهذا فإن من الأغلاط الشائعة تسمية العقيدة فكراً، وتسمية الفكر عقيدة وهذا غلط، وهو كثير، خصوصاً على ألسنة الإعلاميين والصحفيين، ومن تشبه بهم من المنتسبين للعلم، ولهذا تُسمى العقائد الباطلة أفكاراً، كفكر التكفير، وفكر التكفير عقيدة في قلب هذا المفكر، وتسميتها فكراً خطأ؛ لأن الفكر يعرض ويزول، ونحن في الأصل لم نؤاخذ على مجرد فكرة؛ لأن الفكرة غالب الحديث حديث نفس، أو إن شئت سمه: حديث عقل. أما العقيدة فهي الأمر المستوثق، المنعقد في قلبك، فالتكفير الباطل هذا عقيدة، والتبديع بغير حق عقيدة وليست هي أفكاراً، ونسمع من بعض الصحفيين الفكر الإرجائي، والفكر التكفيري، وهذا كله خطأ في الاصطلاح. يتبع |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (1) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل مشكلة المصطلح: والاصطلاحات التي تُلُوعِبَ بها سُمِّيت الأشياء بعد ذلك بغير اسمها، ألم يخبرنا النبي عن هذه الأزمة (أزمة الاصطلاحات) أنه يأتي في آخر الزمان من يشرب الخمر ويسميها بغير اسمها، فإذا سماها بغير اسمها درج ذلك عند الجهال، فظنوا أنها ليست الخمرة المحرمة. ويؤكل الربا فيسمى بغير اسمه وهذا وقع، فالربا يُسمى فوائد استثمارات اقتصادية، وهو ربا صريح، ولو سُمِّي باسمه لحذره المسلمون، أما إذا سُمِّي بغير اسمه عند الجاهلين وغير العارفين، فإنه يسوغ عندهم، ويسوغ، ولا يُنكر والخمر مثلاً سُمِّيت مشروبات روحية، أو مشروبات الفرفشة، أو مشروبات حمراء، وصفراء، حتى درجت فنشأ أجيال بعد ذلك لا يظنوا أنها هي الخمر المحرمة. وكذلك التدين إذا سُمِّي إرهاباً أُسِيء إليه، فالاستقامة على السنة لا تُسمى إرهاباً، لكن التشدد يُسمى تشدداً، ويُسمى تعسيراً كما سمته الشريعة. وكذلك من الانحراف في الأسماء والمصطلحات رسم ذوات الأرواح، أو نحتها فإنه يُسمى فناً عند أهله، والغنى، واللهو، والفن، والطرب يُسمى فناً. وتسميته فناً من اللعب بالمصطلح، فالمقصود أن هذا اعتقاداً، ولا يُسمى فِكراً، فإن تسميته فِكراً من المحدثات!. الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: سُمِّيت الفرقة الناجية لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها كذلك كما في الحديث المستفيض، والمتواتر، حيث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ستة عشر صحابياً حيث قال: (( افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً افْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً )). [12]وسماها فرقاً، ثم قال: (( كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً )). [13] فالحديث إلى هذا الجزء من الحديث متواتر إلى قوله: إلا واحدة. ولا عبرة فيمن يُضعف الحديث فإنه بلغ مبلغ التواتر إلى هذه الجملة، ثم بعد ذلك تباين الروايات، فأكثرها: (( قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلَ مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي )). [14] وجاء في رواية: (( قَالَ: هُمُ السَّوَادُ الأَعْظَمُ )). وَجاء في رواية ثالثة فقال: (( هُمُ الْجَمَاعَةُ )).[15] ومن هذا الباب سُمِّي أهل السنة والجماعة أهل السنة؛ لأنهم على مثل ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي: مع سنته. وسموا بالجماعة لقوله: هم السواد الأعظم. فهذان الوصفان مستمدهما من هذا الحديث الشريف، وقد شرح شيخ الإسلام شرح حديث الافتراق شرحاً بديعاً. فالرسول سماها فرقة، وجعلها فرقة ناجية، وغيرها هالكة كلها في النار، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (( كلها في النار )). أنه على جهة الوعيد. وهو نوعان: 1- فمنها ما هي في النار خالدة إذا كانت بدعتها ومخالفتها وافتراقها مُكَفِّراً مخرجاً عن ملة الإسلام. 2- ومنها ما ليست في النار خالدة، وإنما على جهة الوعيد، وهو ما كانت بدعتها مضللة مفسقة، لم تبلغ حد التكفير، وهذا كثير. أنواع البدع من حيث حكمها: 1- فمن البدع ما هي كفر كبدعة سب الصحابة وتكفيرهم، وكبدعة اعتقاد أن غير الله ينفع أو يضر، وكبدعة نفي القدر جملة فهذه مكفرة، وبدعة أن الله لا يعلم إلا الكليات كما هو مذهب الفلاسفة وبدع الباطنية، فهذه بالاتفاق أنها مكفرة، بل كفرها أكبر من كفر عقائد اليهود و النصارى وكثير من المشركين كما ذكره أهل العلم في فرق الباطنية، والإسماعيلية، والديصانية، والعبيدية، والحشاشين وأمثالهم. 2- وهناك بدع مضللة لا تبلغ حدَّ الكفر وإنما مبلغها مبلغ التضليل، كمؤولة بعض الصفات، ونحوهم، وهذه يأتي لها مزيد بسط وبيان في ذكر اعتقاد الشيخ. أوصاف الطائفة الناجية: فالفرقة الناجية هي ناجية في مقابل الفرق الهالكة. 1- الوصف الأول أنها فرقة. 2- والوصف الثاني أنها ناجية. 3- والوصف الثالث أنها منصورة. وهذا وصف ثالث لهذه الفرقة المعينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ )).[16] وفي بعض الألفاظ: (( لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورَةٌ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ )).[17] والصحيح أن المنصورة وصف لهذه الفرقة، فالفرقة الناجية منصورة وإن خذلها الناس. النصرة نسبية قد تخفى في مناطق وأجيال وفئات، وتظهر في آخرين، والنصرة هاهنا من جهة أن الله نصرها وإن عرَّضها لأنواع البلاء، لكن تبقى منصورة، وضابط هذه النصرة كما في الحديث: (( لا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَا حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ )). لا يعتبرون بالكثرة إذا اعتبر غيرهم أن الحق في كثرة أهله، ولا يعتبرون بقوة سلطان، ولا يعتبرون بقوة مال، وإنما مبعث قوتهم ونصرتهم ناشئ من هذا الاعتقاد الذي اعتقدوه، وهو الاعتقاد الصحيح الذي هو الإيمان، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة، وعلى هذا أئمة السلف، فإن الإمام أحمد لما سُئِلَ: من هذه الفرقة الناجية؟. قال: " إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ". وجاء عن سفيان وغيره أنهم هم أهل الأثر وأهل العلم، وهذه أوصاف لرؤوس ورموز هذه الطائفة الناجية أنهم أهل علم، عنايتهم بعلم الوحي، وعلم الشريعة، وأنهم أهل حديث، طلاب لتصفية وتنقية حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إنهم متتبعون لآثار رسول الله، وآثار أصحابه، فهم أهل الأثر؛ لتعظيمهم الآثار أشد من تعظيم غيرهم لأقوال ومعظمهم تعصبات لمذاهب الرجال، فهم أهل الآثار. وَهُوَ الإِيمَانُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، والْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالإِيمانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. لخص شيخ الإسلام رحمه الله اعتقادهم إجمالاً بأصول الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله، وملائكة، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت وهو الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. فهذه هي أصول اعتقاد المسلمين، هذه هي أصول اعتقاد الفرقة الطائفة الناجية، هذه هي أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة أصول الإيمان الستة. لِمَ أصول الإيمان ستة؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عددها ستة أصول كما في الحديث الذي هو أصل من أصول الإسلام حديث جبرائيل عليه السلام، لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فأخبره بأركانه الخمسة، فقال: (( صَدَقْتَ )). ثم سأله عن الإيمان فقال: (( أَخْبِرْنِي عَنِ الإيمَانِ. قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )).[18] وفي رواية: (( حُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى )). هذا التعريف للأسف أن المناطقة ومن تأثر بهم من الأصوليين لا يعدونه تعريفاً منطقياً صحيحاً؛ وإنما هذا هو أصدق التعاريف؛ لأنه جاء ممن لا ينطق عن الهوى، وبه تعرفون ما داخل بعض علوم الشريعة كأصول الفقه من شوائب أصول الضلال والبدع، ولهذا يعدون هذا التعريف غير جامع، أو غير مانع، أو غير مستوٍ، أو غير صحيح، والحق بخلاف قولهم: تأصيلاً وتفريعاً. أصول الإيمان ستة. وقد عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم ستة أصول، وابن القيم وغيره من أهل العلم ربما سماها بالأصول الخمسة عداً من القرآن، كما في آية البقرة: ï´؟ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 177]. فذكر خمسة أصول، وفي سورة النساء ï´؟ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ï´¾ [النساء: 36] فذكرها الله تعالى في القرآن مجملةً خمسة أصول، وليس معنى هذا أن السنة تعارض القرآن، بل سيأتينا في الواسطية، قول الشيخ: " فصل: ثم السنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ". لأن هذه الأصول الخمسة في آيتي البقرة وآل عمران لم يُذكر فيها القدر، وإنما جاء القدر مستقلاً في مواضع أخرى، منها قوله: ï´؟ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ï´¾ [الفرقان: 2]. وقوله: ï´؟ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ï´¾ [القمر: 49]. ولم يُذكر القدر مع هذه الأصول في آيتي النساء وقبلها البقرة؛ لأن القدر قدر الله، ولهذا جاء في الحديث عطف الخمسة على الفعل الأول، ثم لما جيء بالقدر كُرِّر الفعل مرة ثانية، فقال: (( الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ )). وما قال: تؤمن بالملائكة. ثم قال: (( وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ )). لأن القدر قدر الله، وهو من أفعاله تعالى، وعطف الفعل عليها تخصيصاً للتأكيد، والتنويه بشأن القدر الذي هو مزلة أقدام كثير من المتعبدين، وكثير من الطوائف المبتدعين على ما سيبينه الشيخ في مواضع. هذه هي أصول الإيمان الستة التي انعقد عليها كلام ربنا القرآن، وحديث نبينا صلى الله عليه وسلم خير البيان، وعليها الإجماع، وهي أصول الإيمان إجمالاً، فإذا قيل لك: ما أصول العقيدة، وما أصول الإيمان، وما أصول اعتقاد الفرقة الناجية؟. فلن تجد أشفى، ولا أجمع، ولا أصوب من أن تجيب بقول النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأصول الستة. [1] رواه أحمد ( 2/302، 343 )، وأبو داود ( 4841 )، والترمذي ( 1106 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه أبو داود ( 1097 ). [3] خطبة الحاجة التي رواها ابن مسعود ورواها غيره من الصحابة رضي الله عنهم كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدمها بين حوائجه المهمة، أما الأصل هو أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه ومن صور هذا الحمد والثناء خطبة الحاجة.. [4] رواه البخاري ( 6306 )، عن شداد بن أوس رضي الله عنه. [5] النونية لابن القيم ( 3 )، مدارج السالكين. لابن القيم: منزلة المحبة. [6] رواه البخاري ( 4712 )، ومسلم ( 194 )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] رواه أبو داود ( 5 /124 )، بسند جيد، وقال فيه ابن حجر: " رجاله ثقات، وقد صححه غير واحد ". فتح ( 5/179 ). [8] رواه النسائي في اليوم والليلة، ( 249 )، وأحمد في المسند ( 3 /241 )، وقال عبد الهادي في الصارم ( ص/246 ): " بإسناد صحيح على شرط مسلم ". [9] رواه البخاري ( 3435 )، ومسلم ( 28 )، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. [10] رواه البخاري ( 126 )، ومسلم ( 21 )، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [11] وهو أن - في هذه الورقات وهذا المتن فيه - اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، أهل السنة والجماعة. [12] رواه أبو داود ( 4596 )، والترمذي ( 2640 )، وابن ماجه ( 3992 )، وأحمد، والنسائي، وغيرهما. [13] انظر: حديث الفرق طرقه، ورواياته، وفقهه. لعلي الشبل. [14] رواه الترمذي ( 2641 )، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وغيره. [15] رواه أبو داود ( 4597 )، ورواه أحمد ( 4 /102 )، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وغيره. [16] رواه مسلم ( 1920 )، والترمذي ( 2230 )، من حديث ثوبان رضي الله عنه. [17] رواه البخاري ( 3641 )، ( 7312 )، ورواه مسلم ( 1920 ) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ( 1920)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. [18] رواه مسلم بطوله ( 821 )، من حديث ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهو في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (2) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَمِنْ الإِيمَانِ باِللهِ الإِيْمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلا تَعْطِيلٍ وَلا تَكْييفٍ وَلا تَمْثِيلٍ، بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ï´؟ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]. وَمِنْ الإِيمَانِ باِللهِ: إن أصل أصول الإيمان، وأساسها الذي عليه تعتمد، ومنه تتفرع: أصل الإيمان بالله عز وجل، وهو الإيمان بنوعي التوحيد، فإن الإيمان فيه نوعان من أنواع التوحيد - كذا عُرِف عند المتقدمين -: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. ثم فصَّله شيخ الإسلام، وأهل العلم بأنواع التوحيد الثلاثة: 1- الأول: توحيد الربوبية، وهو إفراد الخالق بأفعاله. 2- الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو الذي بَيَّنَهُ الشيخ ها هنا في قوله: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه بالقرآن، فإن هذا هو توحيد الأسماء والصفات. 3- الثالث: توحيد العبادة، وهو توحيد الألوهية، وهو توحيد الله بأفعال المكلفين، بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، هذه أنواع التوحيد مستندها استقراء أدلة التوحيد في الكتاب والسنة. الإِيْمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم: أي: إن من أنواع التوحيد توحيد الأسماء والصفات، وهو أحد نوعي توحيد المعرفة والإثبات، فإن المعرفة تتضمن معرفة أسماء الله وصفاته، التي سمَّى الله بها نفسه، وسمَّاه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ووصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله، والإثبات إثبات الأسماء والصفات والأفعال اللائقة بالله تعالى، كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: بما وصفته رسله عليهم السلام، وإنما عين رسوله بأنه محمد، علمًا بأن جميع الأنبياء جاؤوا بالتوحيد، وجاؤوا بإثبات الكمال لله؛ لأنه لا يتأتى لنا أن نعرف تفاصيل ما أثبته الأنبياء قبلنا من أسماء الله وصفاته؛ لأن مادتها في كتبهم المنزلة وقد حُرِّفت، وبُدِّلت، وزُيِّفت، وغُيِّرَت، وافْتُرِي على الأنبياء، فلما كان ذلك ما كان لنا أن نعرف تفاصيل ما جاءت به الأنبياء، صار التعويل بأسماء الله وصفاته بالتفصيل على ما جاء به ربنا السالم عن التحريف، والتبديل عن ذلك، وعما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم. مصادر تلقي العقيدة: وبهذا نعرف أن مصادر تلقي العقيدة ثلاثة: 1- الأول: الكتاب العزيز، فما جاء بالكتاب العزيز من العقيدة - ومنها أسماء الله وصفاته - أثبتناه لله، وآمنا به، وصدقنا. 2- الثاني: السنة الصحيحة، وهو المعنيُّ بقوله رحمه الله: وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أي: محمد، وهذا في سنته الصحيحة، فخرج عن ذلك السنة غير الصحيحة، فإنه لا يُعول عليها استقلالًا في إثبات الأسماء والصفات، أو مسائل العقيدة، لكن مع هذا نجد بعض أهل العلم قد يبني صفة، ثم يستدل عليها بحديث، وقد يكون هذا الحديث فيه ضعف، فهنا لا يُفْهَمُ أن هذه الصفة استُقِلَّ بإثباتها في هذا الحديث الضعيف فقط، وإنما هذا الحديث الضعيف بإسناده قد يكون معناه صحيحًا دلَّت عليه الأدلة الأخرى، فيكون ذكر الدليل ها هنا على جهة الاعتضاد، وجهة الاعتبار لا على جهة الاستقلال بالاستدلال؛ أي: إنه لم يستدل بهذا الحديث مستقلًا به عن غيره، وهذا كثير؛ كحديث أبي ذر رضي الله عنه في إثبات الكرسي والعرش، فقد دلت عليه الأدلة الأخرى كآية الكرسي، ولحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إن الله حي)، وإن كان هذا الحديث مختلف فيه عند أهل العلم، وأكثر المحققين من المحدثين يُضعفه، ومنهم مَن يُحسنه بمجموع شواهده. 3- الأصل الثالث: الإجماع، وسيأتي بيان الإجماع المنضبط في كلام الشيخ في أواخر نهاية العقيدة، عند قوله: والأصل الثالث الإجماع، والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم؛ إذ بعدهم كثر الخلاف، وانتشرت الأمة. وقوله: من الإيمان بالله أن نؤمن بما وصف به نفسه، فإنه إذا أُطْلِقَ الوصف دخل فيه التسمي؛ لأن الوصف والاسم معنيان مرتبطان بعضهما ببعض؛ أي: ونسمي الله بما سمى به نفسه، وما سماه به رسوله، وهذا هو اعتقاد أهل السنة الذي ساقه الشيخ في أسماء الله وصفاته أن نؤمن بما وصف الله به نفسه، وما سمى الله في كتابه (القرآن)، وبما وصفه به رسوله وسماه به رسوله، ولا بد من قيود أربعة: من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل. مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ: لأن هذه القيود الأربعة تخلص لنا مذهب السلف الصالح في أهل السنة والجماعة عن غيرها من مذاهب الناس، فكل يدَّعي أنه الحق، فالأشاعرة الكلابية يقولون: نحن أهل السنة، والمعتزلة يدَّعون أنهم مذهب أهل الحق، فليس العبرة بمجرد الدعوى بسلامته، وإنما الشأن بالتي تخلص لنا مذهب السلف الصالح أهل السنة من غيرها من المذاهب المنتسبة، والمنتحلة مذهب السلف، وهي بعيدة عنه. والتحريف هو التأويل الباطل، ولم يُعَبِّر شيخ الإسلام بالتأويل مع أنه مصطلح أشهر من التحريف، فلم يقل: من غير تأويل، وذلك أن التأويل لم يأت ذمه في القرآن، بل الذي جاء ذمه التحريف؛ كما عاب الله على اليهود بقوله: ï´؟ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ï´¾ [النساء: 46]، وقال: ï´؟ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ï´¾ [النساء: 41]. أنواع التأويل وأمثلته: والتأويل يُطلق على معانٍ: 1- منها ما هو صحيح كإطلاقه على التفسير. 2- وإطلاقه على التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، فهذا حق. 3- ومنها ما هو صحيح وفاسد بحسب قرينته كما هو مستخدم عند المتكلمين؛ حيث يطلقون التأويل على صرف اللفظ عن ظاهره إلى احتمال آخر بقرينة. فهذه القرينة إذا كانت صحيحة، فالصرف صحيح، وإن كانت القرينة غير صحيحة، فالصرف غير صحيح، وقرينة تأويل أسماء الله وصفاته وتحريفها (بمسمى التأويل) عن معناها الظاهر اللائق بالله قرينتها غير صحيحة، بل هي فاسدة، وأصل التحريف الانحراف عن الحق، والميل عن الصواب، فإذا حرف الشيء يعني أنه أماله؛ كما قال تعالى:ï´؟ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ï´¾ [الحج: 11]؛ أي: انحراف. أنواع التحريف وأمثلته: والتحريف في الاصطلاح أنواع، كتحريف الأسماء والصفات: 1- النوع الأول: تحريفها بالزيادة، بأن يزاد فيها ما ليس منها، من ذلك تأويل المتكلمين والمتجهمة في قوله تعالى ï´؟ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ï´¾ [الفجر: 22]، قالوا: وجاء أمر ربك، فزادوا في كلام الله تعالى معنى حرفوا فيه كلام الله عن ظاهره اللائق بالله، ومثاله في السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يَنْزِلُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الثُّلُثِ الأَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ)[1]. فقالوا: ينزل ملك، أو تنزل رحمته، أو ينزل أمره، بمعنى أنهم يُحرفونه بالزيادة، وهذا كثير. ومنه تحريف اليهود لما أمرهم الله تعالى على لسان موسى عليه السلام أن يقولوا: حطة، فقالوا: حنطة، فزادوا حرفًا واحدًا وهي النون، وما (نون) هؤلاء اليهود بعيدة عن (لام) المتجهمة، والمتكلمة؛ حيث أوَّلوا الاستواء إلى الاستيلاء، فقالوا: ï´؟ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ï´¾ [طه: 5]، بمعنى: استولى، فهذا تحريف بالزيادة، وهذا النوع الأول من أنواع التحريف. 2-النوع الثاني: تحريف بتغيير الشكل، تحريف لكلام الله بأسمائه وصفاته بتغيير الضبط والشكل، كما أراد الجعد بن درهم أو غيره من أحد القراء أن يبدل قول الله: ï´؟ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ï´¾ [النساء: 164]، بأن يجعلها: وكلم اللهَ موسى، فكأن الله هو الْمُكَلَّم، وموسى هو الْمُكَلِّم، فأراد أن يحرف الشكل، فقال أبو عمرو بن علاء المقرئ المشهور: "هب أنني فعلت ذلك، فكيف تصنع بقول الله تعالى: ï´؟ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [الأعراف: 143]، فهذا إبطال للتأويل بتغيير الشكل. 3- النوع الثالث: تحريفٌ بتغيير المعنى، وهذا عامة عمل المؤولين المحرفين؛ سواء في الأسماء والصفات كما عند المتجهمة، والمتعزلة، والمتكلمين من الأشاعرة، والماتريدية وأمثالهم، أو التأويل في نصوص الوعد والوعيد كما عند الوعيدية، والمرجئة، أو التأويل في نصوص المعاد كما عند الفلاسفة، والباطنية، والمعتزلة فيما يتعلق بعذاب القبر، والوزن، والصراط، وما إلى ذلك، هذا هو التحريف، وهو تغيير المعنى؛ سواء بالزيادة، أو النقصان، أو بتغيير الشكل، أو بتغيير معنى الكلام عن معناه الظاهر المتبادر إلى الله تعالى. وقد يكون التأويل بالنقص، بأن يُنقص الشيء عن معناه كما فعلته الجهمية، والمعتزلة في كلام الله، جعلوه كلامًا للمخلوق، فقالوا: كلام الله يعني خلق الله. وَلا تَعْطِيلٍ: أما التعطيل فأصله من الإفراغ، فإن الشيء المْعُطَّل الْمُفْرَغ، فإذا قالوا: فلان عاطل عن العمل؛ أي: إنه مُفْرَغٌ من العمل، ليس عنده عمل، ومنه قوله تعال ï´؟ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ ï´¾ [الحج: 45]، بئر معطلة بمعنى أنه لا ماء فيها، وليس عليها دلو، ومن الأمثلة أن كبار السن إذا رأوا إنسانًا ما فيه خير، أو إنسانًا لا يُرجى من ورائه النفع، قالوا: "فلان بئر ما عليها دلو"؛ أي: إنها ليس فيها ماء، إنما هي حفرة، فالبئر المعطلة هي المفرغة، والخالية من الماء، والتعطيل فيما يتعلق بالله تعالى إفراغه عن الأسماء والصفات كما هو مذهب الجهمية، وغلاة المعتزلة، ومذهب الفلاسفة، أو إفراغه عن الصفات كما هو مذهب عامة المعتزلة، أو إفراغه عن بعض الصفات كما هو مذهب عامة المتكلمين من الأشاعرة، والماتردية، ويدخل معهم المسمون عند أهل العلم بالصفاتية؛ لأن عندهم اضطراب في صفات أثبتوها وصفات لم يثبتوها، هذا هو التعطيل، وهو إفراغ الله عن الكمالات من أسمائه وصفاته، أو عن بعضها. ومن غير تَكْييفٍ: والتكييف هو البحث عن كيفية الشيء - (حقيقته وماهيته، وما هو عليه) - والدليل على أن منهج السلف يقوم بإثبات الأسماء والصفات من غير تكييف العبارة، وجاء في الجملة الْمُتَلَقَّاةُ بالقبول مروية عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة الرأي - ربيعة بن فروخ - وعن الإمام مالك أنهم قالوا في الاستواء: "الاستواء معلوم والكيف مجهول - أي: إننا لا نعلم كيفيته - والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة"[2]. وَلا تَمْثِيلٍ: أي: ولا تمثيل، ولم يُعَبِّر الشيخ بقوله: ولا تشبيه؛ لأن وصف التشبيه أكثر دورانًا على ألسنة هؤلاء المعطلة في نفي التشبيه، والممثلة في إثبات التشبيه، فلم يقل رحمه الله: ولا تشبيه؛ لأن الذي جاء نفيه في القرآن التمثيل؛ كما في سورة الشورى: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ï´¾ [الشورى: 11]، مع أن التمثيل بمعنى التشبيه، لكن الشيخ يعبر بالألفاظ التي جاءت عنها الأدلة، وهذا منهج جلي لدى محققي أهل السنة والجماعة. أيهما أشنع التمثيل أم التعطيل؟ والتمثيل هو مماثلة الله تعالى لخلقه، والتمثيل مذهب غلاة الروافض، وغلاة الكرامية، وغلاة الصوفية أنهم مثلوا الله تعالى بخلقه وهذا مذهب قبيح، والتعطيل مذهب قبيح، فأما القبح فكلاهما قبيحان، لكن التعطيل أشد قبحًا من التمثيل؛ لأن المعطل قبل أن يعطِّل مثَّلَ، فذهب التمثيل والتشبيه عن قلبه، فقال بالتعطيل الذي يسميه - زورًا وبهتانًا -: تنزيهًا. ومثاله: المعطل الذي نفى عن الله أن يتكلم، ونفى الكلام عن الله بقوله: لأن الكلام من صفات الأجسام، ولا يتكلم إلا المخلوق، فشبه كلام الله بكلام المخلوق، فذهب يريد أن يطرد هذا التشبيه، فقال: إن الله لا يتكلم، لَمَّا نفى نزول الله قال: ما ينزل إلا المخلوق، فذهب يريد أن ينفي هذا النزول الذي تصوَّره تشبيهًا، فقال: إن الله لا ينزل، وإنما ينزل أمره، أو رحمته، أو الملك، فالمعطل جمع بين التمثيل لما اعتقده وصوَّره، ثم أضاف إليه قبحًا آخر وهو التعطيل. بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ï´¾ [الشورى: 11]، فإن الله نفى أن يشابهه أي شيء أو يماثله أي شيء، فقال: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ï´¾ [الشورى: 11]؛ لأنه واحد، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في أسمائه وصفاته لا شبيه له ولا مثيل له، وواحد في أفعاله لا يشابهه شيء. نفى في أول الآية التمثيل، وَرَدَّ في آخرها على أهل التعطيل لما أثبت أنه سميع بصير ï´؟ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]، فهو السميع له سمع يسمع الأصوات، وبصير له بصر يُدرك المبصرات، وهذا هو مذهب السلف في أسماء الله وصفاته، أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله من الأسماء والصفات، وهذا الإثبات على الوجه اللائق بالله عظمة وجلالة، من غير تحريف، ومن غير تعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل، وإنما على ما يليق بالله؛ كما مدح نفسه بقوله: ï´؟ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ï´¾ [الشورى: 11]، ولهذا قال: فَلا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاء اللهِ وَآيَاتِهِ، وَلا يُكَيِّفُونَ وَلا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ سبحانه وتعالى: هذه الجملة يمكن أن نُعنصرها بقولنا: ما خصائص مذهب أهل السنة في الأسماء والصفات؟ [1] رواه البخاري ( 7494 )، ومسلم ( 758 )، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه اللالكائي في شرح السنة، ( 664 )، والبيهقي في الأسماء والصفات ( 2867 )، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ( 13/ 407 ): إسناده جيد، ورواه ابن عبدالبر في التمهيد ( 7/ 2151 )، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب.........، لكن ليس في إسناده مما يُعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك"؛ مجموع الفتاوى ( 5/ 365 ). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (3) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل بل يؤمنون بأن الله سبحانه ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. فإنَّ الله نفى أن يشابهه أيُّ شيء أو يُماثله أيُّ شيء، فقال: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]؛ لأنه واحد، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في أسمائه وصفاته، لا شبيه له، ولا مثيل له، وواحد في أفعاله لا يُشابِهه شيء. نَفى في أوَّل الآية التمثيل، وردَّ في آخرِها على أهل التعطيل لمَّا أثبت أنه سميع بصير:﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]؛ فهو السميع، له سمع يسمع الأصوات، والبصير، له بصر يدرك الْمُبصَرات، وهذا هو مذهب السلف في أسماء الله وصفاته؛ أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبدالله من الأسماء والصفات، وهذا الإثبات على الوجه اللائق بالله عظمةً وجلالةً، من غير تحريف، ومن غير تَعطيل، ومن غير تكييف، ومن غير تمثيل، وإنما على ما يليق بالله؛ كما مدَح نفسَه بقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. ولهذا قال: فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يُحرِّفون الكَلِمَ عن مواضعِه، ولا يُلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يُكيِّفون ولا يُمثِّلون صفاته بصفات خلقه سبحانه وتعالى: هذه الجملة يُمكن أن نُعنصرَها بقولنا: ما خصائصُ مذهب أهل السنَّة في الأسماء والصفات؟ خصائص أهل السنة والجماعة هي: 1- الأولى: أنهم لا يَنفون عن الله ما وصف به نفسَه، وما وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فسمَّى سبحانه نفسَه في القرآن بأنه سميع، وبصير، وعليم، وعليٌّ - له علوٌّ - وجبار، وبأنه الأول والآخِر، والظاهر والباطن، فلا يَنفون عن الله ما وصف به نفسه، أما أهل التعطيل وأهل التمثيل يَنفون عن الله ذلك؛ فالممثِّلة يقولون: إنَّ صفات الله التي وصف بها نفسه كصفات المخلوق، فوصفوا الله بالنقائص لما شبَّهوه بالمخلوق، والمعطِّلة نفَوا عن الله ما وصف به نفسه؛ تحت أصل التحريف الذي سمَّوه تأويلاً، أو سموه تنزيهًا، فدرَجوا تحته أن يَنفوا عن نفسه الكمال. الله وصَف نفسه بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع في القرآن[1]، فيقول المعطِّلة: ما استوى، ولكن استولى على العرش! فنَفَوا عن الله ما وصف به نفسَه، وكذلك نفَوا عن الله ما وصفه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فالرسول وصَف الله بأنه يَضحك، ووصفَه بأنه يغضب، وأنه له أصابع... وهُم يَنفون عنه ذلك! 2- الثانية: أنهم لا يحرِّفون الكلم عن مواضعه؛ فالتحريف منفيٌّ عن أهل السنَّة؛ لأنهم لا يؤولون كلام الله وكلام رسوله تأويلاً يُخرج اللَّفظ عن معناه وإن سمَّوه تأويلاً، لكنه هو في الحقيقة ليس تحريفًا للكلم عن مواضعِه كما حرَّف أهلُ الكتابين كتابَ ربهم عن مواضعه، والتحريف: التأويل الفاسد، وقد عده العلماء طاغوتًا من طواغيت أهل البدع في رد النصوص؛ كما نصَّ عليه ابن القيم في "الصواعق المرسَلة". 3- الثالثة: أنهم لا يُلحدون في أسماء الله وآياته، والإلحاد هو الميل في أسماء الله التي سَمى بها نفسه، وفي آياته الشرعية التي اشتملت على الصفات، واشتملت على أمور العقيدة، واشتملت على التفاصيل والأحكام؛ لأن الله سبحانه نهانا عن ذلك في قوله: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ﴾ [الأعراف: 180]. 4- الرابعة: أنهم لا يُكيِّفون أسماء الله وصفاته، فلا يَعتقدون عِلمَهم بكيفيَّة أسماء الله وصفاته وذاته؛ لأنَّ هذا مما أُخفي عنهم علمُه كما قال السَّلَف: والكيف مجهول. 5- الخامسة: أنهم لا يمثِّلون صفاتِه بصفات خَلقه، فلا يقولون: صفات الله مثل صفات المخلوقين، وكلامه ككلام المخلوقين، وسمعُه كسَمعهم، وعُلوُّه كعُلوِّهم، لا، وهذا من خصيصة مذهب أهل السنة، الذي تميَّزوا به عن أولئك المنحرفين. سيأتينا في باب الصفات أنهم وسَط بين المشبِّهة الممثِّلة، وبين المعطِّلة المؤوِّلة كما أخرج الله اللبن أبيضَ صافيًا من بين فرثٍ ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين؛ فمِن بين فرث - فرث التمثيل - ومن بين دم - دم التعطيل - أخرج الله هذا المذهب صافيًا، فهذه خصائصهم. أنواع الإلحاد في أسماء الله: والإلحاد في أسماء الله أنواع؛ منها: 1- أولاً: تسمية المخلوق بأسماء الخالق؛ فيسمَّى المخلوق بالله، أو يُجعَل له تسعة وتسعون اسمًا، كما فعله بعض الطغاة، وكمن سمى المخلوق ملك الناس. 2- ثانيًا: ومن الإلحاد تسمية الخالق بأسماء المخلوق، وهو أن تسمي الله بما لم يسمِّ به نفسه؛ ولهذا فالفلاسفة والمتكلمون يسمون الله بالمخترع، والمتكلمون يسمون الله بالصانع القديم، فتسمية الله بما لم يسم به نفسه إلحاد في أسماء الله. 3- ثالثًا: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه؛ فالنصارى سموا الله بالأب والابن وروح القدس، والفلاسفة سمَّوا الله بالأزلي، أو بالعلة الفاعلة، أو بعلة الأفلاك، وهنا سموا الله بما لم يسم به نفسه، وهذا إلحاد. 4- رابعًا: ومن الإلحاد أيضًا أن يسمى المخلوق بمشتقات أسماء الله؛ كما جاء أن المشركين سموا اللات من اسم الله الإله، وسموا العزى من اسم الله العزيز، كما جاء ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وهذا إلحاد في أسماء الله. 5- خامسًا: نفي أسماء الله كلها؛ كما عليه الجهمية والفلاسفة، أو بعضها؛ كما عليه المعتزلة والرافضة. أنواع الإلحاد في صفات الله: وكذلك الإلحاد في صفات الله يندرج عليه هذه الأقسام؛ أن يوصف الله بصفات المخلوق، أو يوصف المخلوق بصفات الخالق، أو ينسب إلى الله من الصفات ما لم يصف به نفسه. لأنه سبحانه وتعالى لا سميَّ له: أي: إنه ليس ثمة مَن يستحق اسمَه سبحانه على الحقيقة؛ فقد يُسمى الاسم كالاسم، فالله يُسمَّى العزيز وقد يسمى المخلوق عزيزًا؛ كما قال تعالى: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ ﴾ [يوسف: 51]، وسَمى الله نفسه بالملك، وسمى بعض خلقه مَلكًا فقال: ﴿ وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ﴾ [الكهف: 79]، لكن الاسم هنا كالاسم لفظًا، مع عِظَم المباينة والمُفارَقة حقيقةً ومعنى، ولهذا قال: الاسم كالاسم، والمُسمَّى ليس كالمسمى؛ فقوله: لأنه لا سميَّ له؛ أي: إنه ليس أحدٌ يستحق اسمه سبحانه وتعالى على الحقيقة؛ كما قال: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]؛ أي: لا أحد يُساميه. ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى: أي: إنه لا أحد يكافئه بأن يُماثله أو يناظرَه، أو يساويَه أو يساميَه، ولا ندَّ له (كفء)، ولا يقاس بخلقه سبحانه، قال نُعيم بن حمَّاد: "مَن شبَّه الله بخلقه كفرَ، ومَن جحَد ما وصف الله به نفسه أو وصفَه رسولُه كفَر، وليس فيما وصف الله به نفسه تشبيهٌ". أنواع الأقيسة: ولا يُقاس بخلقه؛ لأن الخالق لا يَدخل مع المخلوق في قياس تمثيلي، أو شمولي؛ ولهذا فإن مصادر الأدلة الفقهية أربعة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس، وأما العقيدة فمَصادرها ثلاثة: الكتاب، والسنَّة، والإجماع الصحيح، وأما القياس فليس له اعتبار؛ لأن الله لا يقاس بخلقه إلا قياسًا واحدًا، وهو قياس المثل الأعلى. وتسميته قياسًا على جهة الاصطلاح، وإلا فإن حقيقتَه ليس بالقياس؛ لأنَّ القياس المنفيَّ هو القياس الشمولي، أو القياس التمثيلي المشهور عند الأصوليِّين، وهو: إلحاق الفرع بالأصل في الحكْم لعلَّة جامعة بينهما، ولا يَجوز أن يلحق الله بخلقِه أو يلحق المخلوق بالخالق، وهذا معنى قوله: ولا يُقاس بخلقه سبحانه وتعالى، وقال في سبب ذلك: فإنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثًا من خلقِه: ولهذا كان وصف الله لنفسِه، وتسمية الله نفسه - أعظمَ شيء؛ لأنه أعرف بنفسه، وهو أعرف بخلقِه وما يعرفون ويُدركون، وما تُقلُّه قلوبهم، وتُدركه مَداركهم وعقولهم، ولهذا أمرنا أن نُثبت له ما أثبته لنفسه، ولا نَدخل متهوِّكين بآرائنا لمعرفة كيفية ذلك، ولا معطِّلين لله بالتأويلات الفاسدة، ولا ممثِّلين له بخلقه، ولا محرفين كلامَه عن معناه، ولا معطلين؛ لأنه تعالى أعلم بنفسه، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثًا من خلقِه؛ كما جاء في القرآن: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [آل عمران: 95]. [1] في سور: الأعراف، ويونس، والرعد، والفرقان، والسجدة، والحديد؛ ففيها كلها: ﴿ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ [الأعراف: 54]، والموضع السابع في سورة طه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (4) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ثم رسله صادقون مُصدَّقون: هنا أتى بالرسل جميعًا؛ لأن المقام مقام ثناء لا مقام استدلال بما عليه تفاصيل هؤلاء الرسل، فهؤلاء الرسل عليهم السلام صادقون؛ لأن الله صدقهم ولأن الرسول لا يكذب باتفاق العقلاء، مصدوقون؛ أي: إن الله صدَقَهم، فمصدوق اسم مفعول من الفعل الثلاثي صدق، واسم الفاعل منه صادق، وفي بعض النسخ: "ثم رسله صادقون مُصدَّقون" من الرباعي صدق، واسم الفاعل منه مصدِّق، واسم المفعول مصدَّق، وكلا المعنيين صحيح، والنسخ جاءت بهذا وهذا. رسله صادقون، وقد صدَّقهم الله وأصدقهم، فلم يفتروا على الله تعالى الكذب، ولم ينسبوا لله في باب الوصف والتسمي والفعل ما ليس لله. بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون حقيقتها؛ ولهذا قال: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180]. والذين يقولون على الله ما لا يعلمون هم أعداء الرسل؛ كما بيَّنهم رحمه الله في كتابه "التدمرية"، أعداء الرسل سواء كانوا مِن الفلاسفة، أو مِن الْمُشركين، أو من الصابئة، أو مِن أهل الكتابَين الْمُحرِّفين، أو من المتجهِّمة، أو من المعتزلة، أو من الممثِّلة، أو مِن المتكلمين، وإذا أُطلق المتكلِّمون يُراد بهم الأشاعرة والماتريدية، فإن هؤلاء خالَفوا ما عليه الرسلُ بقدر مخالفتهم إياهم في نفي وتعطيل أسماء الله وصفاته، أو تمثيل وتشبيه أسماء الله وصفاته؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى في آخر سورة الصافات: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180]؛ أي: بما وصَفه به الجاهلون، ومنهم المشركون لمَّا نسبوا لله تعالى الولد والبنات، ونسبوا لله النقائص كما فعلته اليهود: ﴿ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 181، 182]، وكما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ [المائدة: 64]. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]. فسبَّح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسُل: فهو سبحانه وتعالى سبَّح نفسه عما وصفه به الجاهلون فقال: ﴿ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾، سبَّح نفسه عما وصفه به مُخالفو الرسُل؛ إن كان في الأسماء والصفات، أو في استحقاقه لما جعَلوا الشريك، سواء الشريك في الملْك، أو الشريك في الفعل، أو الشريك في العبادة. أنواع الشرك في التوحيد: 1- الشريك في الملْك والشريك في الفعل هذا في شرك الربوبية. 2- والشريك في العبادة هو في شرك الإلهية. 3- أو الشريك في أسمائه وصفاته، لما منحوا المخلوق أو بعض المخلوقين شيئًا من أسماء الله أو صفاته وقعوا في الشرك في الأسماء والصفات. سلام على المرسَلين، وكان المناسبة في سلامه على المرسَلين أن قال: وسلام على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من النَّقص والعيب: أي: ما قالوه في حقِّ الله في توحيد أسمائه وصفاته، في توحيد إلهيته في ربوبيته من النقص والعيب، ولهذا روى أحمد وغيره بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سلَّمتم عليَّ فسلموا على المرسَلين؛ فإنما أنا رسول من المرسَلين))[1]، وأخذ العلماء من ذلك استحباب أن يُصلي ويُسلِّم على أنبياء الله ورسله لهذا الدليل، ولهذا المعنى المستنبط من هذه الآية. هو سبحانه قد جمع فيما وصَف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات سبحانه وتعالى: هذه قاعدة من قواعد أهل السنَّة والجماعة في أسماء الله وصفاته، ومِن قواعد أهل السنَّة والجماعة في هذا الفنِّ - فن الأسماء والصفات - أنَّ الله جمع فيما وصَف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات، فنفى عن نفسه أشياء، وأثبت لنفسه أشياء؛ ففي باب الأسماء سمَّى الله نفسه بأسماء؛ منها: العليم، والحكيم، والسميع، والبصير، والعلي، والظهير، والأول، والآخر... وغير ذلك، ونفى عن نفسه أشياء، ففي آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255] نفى عن نفسه السِّنَة والنَّوم، نفى عن نفسه الظلم فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [النساء: 40]، ونفى عن نفسه اللُّغوب - وهو التعب والإعياء والنصَب - فقال: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، ونفى عن نفسه العجز فقال: ﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [العنكبوت: 22]. هذه أشياء أثبتَها الله لنفسه، ونفاها عن نفسه. أنواع النفي والإثبات في الصفات: والنفي في القرآن يأتي في باب الأسماء، ويأتي في باب الصفات؛ ففي باب الأسماء يأتي النفي مجملاً نحو قوله تعالى: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الصافات: 180] هذا نفْي عما وصَفه به الجاهلون. ويَجيء النفْي مفصلاً نحو قوله تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3، 4]، وقوله: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3]، وقوله: ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ [الإسراء: 111]، فجاء النفْي مفصَّلاً وجاء مثبتًا. كما أن الإثبات جاء مفصلاً وجاء مجملاً، فالإثبات المفصَّل نحو قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقوله: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الحشر: 22]، ومن الأدلة على الإثبات المُجمَل في الأسماء قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الأعراف: 180]، وفي آخر آية سورة الحشر: ﴿ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الحشر: 24] فصَّل ثم أجمل، فجمع الله فيما وصف وسمَّى به نفسه بين النفي والإثبات. أنواع النفي: وكلُّ نفْي عن الله في القرآن فإنه النفي الممدوح المحمود؛ لأن النفي نفيان: 1- الأول: نفْي محض، وهذا ليس بكمال، ولم يأت ذلك في القرآن ولا في السنَّة. مثاله: قول المتكلمين عن الله: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا بجوهر ولا عرض ولا جسم. وقول المعطلة: لا أسماء له ولا صفات، وقول الباطنية بسلب النقيضين: لا حي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم. 2- والثاني: نفي ممدوح، وهو ذلك النفي الذي يثبت نقيض المنفي، فكل ما نفاه الله عن نفسه فله سبحانه وتعالى كمال ضد هذا المنفي. مثاله: نَفى عن نفسه النوم؛ لكمال حياته وقيُّوميَّته، ونفى عن نفسه السِّنَة؛ لكمال حياته، فقال: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، ونفى عن نفسه الظلم لكمال عدله، فقال: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ونفى عن نفسه العجز؛ لكمال قوته، فقال: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [فاطر: 44]، ونفى عن نفسه العُزوب؛ لكمال علمِه وإحاطته، فقال: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ [ق: 38]، ونفى عن نفسه الولد والصاحبة؛ لكمال أحديته ووحدانيَّته وفرديته، فقال: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، وهكذا غيرها؛ فكل نفْيٍ نفاه الله تعالى عن نفسه في القرآن، ونفاه عنه رسوله فهو نفي ممدوح لإثبات كمال ضدِّه. فلا عُدول لأهل السنَّة والجماعة عما جاء به المُرسَلون: طريقتهم في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي توحيد إلهية ربهم وعبادته هي بما جاء به المُرسَلون عليهم السلام؛ لأنَّهم أعرفُ الخَلقِ بالله، وهم الذين يَدلُّون الخَلق على الله ويُعرِّفونهم بالله، وبحق الله. فإنه الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين: أي: إن طريق هؤلاء هو الصراط المستقيم الذي لا عِوَج فيه ولا انحراف، ولا ميلَ ولا إلحاد، وقوله: صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - تضمينٌ من سورة النساء في قوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، وقد رتَّبهم سبحانه وتعالى بحسب مراتبِهم: 1- بدأ بالأفضل وهم الأنبياء، ويدخل فيهم الرسل. 2- والمرتبة الثانية مرتبة الصدِّيقية، وهم أقل رُتبةً من الأنبياء، وأفضل ممن هم دونهم. 3- ثم مرتبة الشهادة فالشهداء بعد الصدِّيقين. 4- ثم مرتبة الصالحين. ولهذا فالصِّديق أبو بكر رضي الله عنه في مرتبة الصديقية، وهو أفضل من عموم الشهداء؛ فعُمر وعثمانُ وعليٌّ وأكثر العشرة شهداء، والصديق أبو بكر أفضل منهم، فنال بالصديقية مرتبةً أعلى من مرتبة الشهادة، والشهداء أعلى من مراتب عموم الصالحين، ومن أفراد الصالحين مَن قد يَفضُل بعضَ أفراد الشهداء، ومِن الشهداء مَن قد يفضل الصديقين؛ إذا كان له مع الشهادة وصف آخر كوصف النبي. فمِن الأنبياء مَن قتله قومه فجمع الله له بين النبوة والشهادة، فهذا أعلى بهذا الاعتبار من الصدِّيق، وقد يكون الصدِّيق شهيدًا فقد يُدرك هذه المرتبة، فيجمع بين الصديقيَّة، وهي قوة تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم تصديقًا بالاعتقاد والقلب، يتبعه القول والعمل، ويجمع معه مرتبة الشهادة، كأفرادٍ من بني إسرائيل جاء وصفُهم أنهم بلَغوا في الصديقية مبلغها، وأضافوا إليها مبلغ الشهادة، لكن أبا بكر هو أفضل أتباع الأنبياء قاطبة؛ لما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نقول والنبي حيٌّ بين أظهرنا - أي: إنه صلى الله عليه وسلم يقرُّنا على ذلك - أفضل الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر ثم عثمان"[2]. ولهذا وزَن إيمانُ أبي بكر رضي الله عنه إيمان الأمة؛ كما رواه أحمد وغيره، وقال الصحابة رضي الله عنه: "والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة، ولا صيام، ولكن شيء وقر في قلبه". [1] وقد كلفني سماحة شيخنا ابن باز رحمه الله ببحث هذا الحديث تخريجًا، وحكمًا. [2] رواه البخاري (3697)، وأحمد في المسند (2 / 14)، وغيرهما، بلفظ: "أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر". |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (6) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل قوله سبحانه: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58]: فيه أن نفْي الموت عن الله من الكمال الذي فيه كمال ضد المنفي؛ لكمال حياته. والآيات التي ساقها الشيخ رحمه الله بعد ذلك هي في إثبات علم الله تعالى؛ إثبات صفة العلم، وهو من أجلِّ الصفات، وكلُّ صفات الله جليلة، ومن ذلك قوله تعالى في أول الحديد يمدح نفسه ويُمجِّدها، ويُعرف خلقَه بنفسه سبحانه، فإن الأسماء والصفات في القرآن تُعرف من الله إلينا، يعرفنا الله بنفسه في أسماء وصفاته؛ فقال: وقوله سبحانه: ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]: هذه الأسماء - الأول والآخر، والظاهر والباطن - فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المخرَّج في الصحيح من أذكار النوم: ((اللهمَّ أنت الأول فليس قبلك شيء)) الحديث[1]، فلا مزيد على تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمعاني هذه الأسماء الحسنى. • الفرق بين بابَي الوصْف والخبر في حق الله: المتكلِّمون قد يسمونه تعالى بالقديم، والقديم ليس من أسماء الله، ولكن يجوز إطلاقه خَبرًا عن الله؛ لأنَّ من قواعد أهل السنة في الصفات التوقيفَ، فلا نَصِف الله ولا نُسميه إلا بما جاء في الكتاب والسنَّة الصحيحة، وهذه هي القاعدة في باب الوصف والتسمِّي، لكن في باب الخبر يجوز أن نخبر عن الله بكل معنًى صحيح، والأخبار جاءت في القرآن؛ فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 19]، فيقال: إن الله شيء، لكنه شيء لا كالأشياء، وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا شخْصَ أغيَرُ من الله))[2]، فلا يقال: إنَّ الله يسمَّى ويوصف بالشخص؛ لأنَّ هذا من باب الخبر عن الله تعالى، فباب الأخبار - وهذه قاعدة - أوسع من باب الوصْف والتسمي، فنَقول: يَجوز أن يخبر عن الله بكل معنى صحيح يليق به سبحانه، يقال: إنَّ الله سابق الصَّوت، وسابق الفوت هذا معنى صحيح، فيُخبَر به عن الله، لكن لا يجوز أن يوصَف الله أو يُسمَّى إلا بما ثبَت من أسمائه وصفاته، فيخبر عن الله بأنه متقدِّم على غيره، لكن مع الكراهة؛ لأنَّ عندنا مِن أسماء الله ما يُغنينا عن هذا المعنى، وهو اسم الله الأول الذي ليس قبله شيء. ومما يُسمى به الله عند النَّاس: الدائم، وليس الدائم من أسماء الله، ولهذا في بعض البلدان إذا خرَجوا في جنازة ردَّدوا: "يا دائم، هو الدائم، ولا دائم غير الله..." إلى أن يبلغ بالجنازة إلى المقبُرة، وربما سمَّوا أنفسَهم بعبدالدائم وأولادَهم، أو عبدالموجود، فالدائم والموجود ليسا مِن أسماء الله، لكنُ يخبَر عن الله بأنه دائمٌ ويُخبَر عن الله بأنه موجود، ولكن الذي مِن أسمائه سبحانه وتعالى "الآخر" دلَّ على معنى الدائم وزيادة. ﴿ وَالْآخِرُ ﴾ [الحديد: 3]: الذي ليس بعده شيء، يفنى خلقه وهو سبحانه باق لا يَفنى، ﴿ وَالظَّاهِرُ ﴾ [الحديد: 3]: الذي ليس فوقه شيء، وهذه من أدلة علوِّ الله بذاته أنه ظاهر، ﴿ وَالْبَاطِنُ ﴾ [الحديد: 3] بمعنى أنه قريب ليس دونه شيء؛ كما فسَّره النبي صلى الله عليه وسلم. ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]؛ فسياق هذه الآية إثباتُ علم الله تعالى بكل شيء، وهذا دليل على علم الله بكلِّ شيء مما كان ومما يكون ومما لم يكن لو كان كيف يكون؛ لأنه شيء حتى ولو في داخل الذي يُسمى شيئًا، والله به عليم. • إثبات صفة العلم لله عز وجل: وقوله سبحانه: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [التحريم: 2]، ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]: فيه إثبات علمه سبحانه وتعالى وأنَّ مِن علمه أنه يُخبر علمه علم الخبير بهم؛ أي: الذي يعرف دقائقهم وتفاصيلهم، ولا يعزب عنه منهم شيء: ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ [سبأ: 2]. هذا في إثبات العلم لشيء قد يَطرأ على الذِّهن أنَّ الله لا يعلمه، فكل ما يلج في الأرض بأن يدخل فيها، وكل ما يعرج في السماء، وكل ما ينزل منها فإن الله يَعلمه جلَّ جلاله. • وجماع الغيب في قول الله تعالى: وقوله: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59]: مفاتح الغيب فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((مفاتحُ الغيب خمسٌ لا يعلمهنَّ إلا الله))، وهي التي جاءت في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، فمفاتح الغيب هي أصوله ومعاقده، وأعظم أمور الغيب لا يعلمها إلا هو، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الأنعام: 59]: (ما) موصولة بمعنى الذي، فكل ما في البر وما في البحر فإنَّ الله يعلمه، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ﴾ [الأنعام: 59]، سبحان الذي لا إله إلا هو قد أحاط بكل شيء علمًا، ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59]، عَلِمها ربُّنا وكتبها في كتاب مبين بيِّن ظاهر ليس خافيًا وهو اللوح المحفوظ، فكل شيء كتبه الله في اللوح فقد سبق به عِلمه قبل أن يقع بخمسين ألف سنة أو بأكثر من ذلك. وقوله: ﴿ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ﴾ [فاطر: 11]: (أنثى) تشمَل البشر أو الجن أو سائر مخلوقات الله المخلوقة، فلا تحمل ولا تضَع إلا بعلم الله تعالى، وهذا فيه ردٌّ على الفلاسفة الذين قالوا: علم الله خاصٌّ بالكليات دون الجزئيات! فهذه الآيات فيها أنَّ الله أحاط علمًا بالجزئيات والتفصيلات، وهم قالوا ذلك لئلا يتع؛ب لأنَّ المخلوق إذا أحاط بالأشياء تفصيلاً تعب ذهنه، وهذا ما وقعوا فيه مِن تشبيههم الخالق بالمخلوق. وقوله: ﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾[الطلاق: 12]: أي: لا يُعجزه شيء؛ فقدرته أحاطت بكل شيء، وأنَّ الله تعالى أحاط بكل شيء عِلمًا، وهو على كل شيء قدير؛ ولهذا تأتي هذه الآية كثيرًا في القرآن: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، لم يأتِ إلا في موضع واحد في قوله: ﴿ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 29]، أما بقية المواضِع ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]؛ لأنَّ قدرته أحاطت بكل شيء، وفي العلم قد أحاط الله بكل شيء علمًا فأحاط تفصيلاً وأحاط به كلية، وأحاط في أدقِّ الأمور؛ فعلم الله لا يَغيب عنها، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ [سبأ: 3]؛ أي: إنه لا يغيب عن علم الله ولو مثقال ذرة في حقارتها وفي رقتها، فسبحان من أحاط بكل شيء علمًا، لا إله إلا هو ما قدَرناه حقَّ قدره. وهو العليمُ أحاط علمًا بالذي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في الكون مِن سرٍّ ومِن إعلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبكل شيء علمه سبحانه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فهو المُحيط وليس ذا نسيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكذاك يَعلم ما يكون غدًا وما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد كان والموجود في ذا الآنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif [1] - رواه مسلم (2713)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] - رواه البخاري في كتاب التوحيد (7009). |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (7) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58]: هذه الآيات الأولى اشتملَت على ذِكر بعض أسماء الله؛ فقال تعالى في آخر الذاريات: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58]، ولهذا فمِن أسماء الله الرزاق، وليس من أسمائه رازق؛ لأن الرزاق هذا الاسم هو الذي جاء في حق الله، أما ما جاء في الأحاديث بأنَّ الله رازق الدواب أو رازق الحية في جحرها فهذا خبر، والرزاق صيغة مبالغة من الرزق ليست في حق الله، فلا يقال في حق الله: إنها صيغة مبالغة، وكذا علام الغيوب لا يقال: إنها صيغة مبالغة، هي في اللغة صيغة مبالغة لكن في حق الله اسم يليق بالله عز وجل مطابق لذاته وأفعاله. وكذلك الرزاق من أسمائه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والرزق من أفعاله نوعانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رزق على يد عبده ورسوله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نوعان أيضًا ذان معروفانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قوله: ﴿ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 58] فيه إثبات أن الله قويٌّ، وهذا فيه أدلة: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25]، وهو ذو القوة له قوة لا يَغلبه شيء، المتين كذلك تفيد معنى القوة ومعنى الجبروت. وهو القوي له القُوى جمعًا تعا ♦♦♦ لى رب ذي الأكوان والأزمانِ وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]، وقوله: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [المائدة: 1]، وقوله: ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 125]، وقوله: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]. وقوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]. فيه إثبات أن الله سميع بصير، فهو سبحانه سميع له سمع يُدرك المسموعات، وبصير له بصر يُدرك المبصَرات، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]. فيه إثبات أنَّ الله سميع بصير، وهذان الاسمانِ يأتيان مقترنين كثيرًا في القرآن؛ لما فيهما من إحاطة الله تعالى بخلقه، وأنَّ سمعه لا يغلب على بصره، وأن إدراكه المسموعات كإدراكه المبصرات، في هذه الصفات وأمثالها يجوز أن يشير فيها الإنسان إلى الصفة، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه وهو على المنبر "لما قرأ هذه الآية: ﴿ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58] أشار بالإبهام إلى أذنه وبسبابته إلى عينه"[1]، وليس معناه التشبيه كما يتبادر إلى ذهن البليد أو السَّاذج أو الغبي، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشبِّه الله بنفسه، وإنما معنى ذلك أن يبين أن سمع الله حقيقي كما أن سمع المخلوق حقيقي، وأن بصر الله حقيقي كما أن بصر المخلوق حقيقي، وهذا قطعٌ لحُجج ومادة التعطيل والتحريف، وجاء في الصحيح قولُه صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن[2]))، وأشار بأصبعيه، ليس معناه أن أصابعه كأصابع المخلوق؛ كأصابعنا، حاشا وكلا، بل لا يتصور هذا في جَنابه صلى الله عليه وسلم أن يقوله في حق الله جل جلاله وإنما معناه أن يُثبت أن سمع الله حقيقي لائق بالله، كما أن المخلوق له أصابع فالله له أصابع مع الفارق العظيم بين صفات المخلوق والمخلوق كما الفرق بين الخالق بنفسه والمخلوق بذاته: وهو السميع يرى ويَسمع كل ما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في الكون من سرٍّ ومِن إعلانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولكلِّ صوت منه سمعٌ حاضر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالسرُّ والإعلان مُستويانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والسمعُ منه واسع الأصواتِ لا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يَخفى عليه بَعيدُها والدَّاني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وهو البصير يرى دبيبَ النملةِ السْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سَوداءِ تحت الصخرِ والصوَّانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثم ذكر الأدلة على إثبات صفة المشيئة والإرادة، فقال: وقوله: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]. وأما إثبات أن الله يشاء فيقول تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [الإنسان: 30]، ففيها إثبات المشيئة والله يَشاء، والمشيئة في الأدلة في الكتاب والسنة تأتي بمعنى الإرادة العامة كما قرَّر ذلك المحقِّقون من أهل العلم؛ كشيخ الإسلام وابن القيم والعلماء المحقِّقين، أن المشيئة هي الإرادة العامة، ولا يمكن أن تأتي المشيئة بالإرادة الخاصة. وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]. الضابط في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية: كرَّر الله المشيئة في أول الآية ثم في آخرها ثم ختَمها بقوله: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253]؛ لأن الإرادة هنا بمعنى الإرادة العامة، قد يقول قائل: ما هو الضابط في الأدلة بين الإرادة العامة والإرادة الخاصة؟ الضابط أن الإرادة إذا جاءت بمعنى: يقدر فهي العامة بأن تضَع بدل (يريد)، أو (قال) يقدر أو قدر، فإذا كان معناها مستقيمًا فهي الإرادة العامة، وإذا جاءت الإرادة بمعنى يحب فهي الإرادة الخاصة الدينية، ولو طبَّقنا هذا في قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [البقرة: 253] أي: يفعل ما يقدر، فلو قلت: يفعل ما يحب فالكفر لا يحبه الله ومع ذلك يقع الكفر؟! • أسماء الإرادة العامة: الإرادة العامة الكونية الشاملة، والقدرية، والخلقية: 1- فتسمى الإرادة الشاملة؛ لأنها متعلقة بجميع الكون. 2- وتسمى الإرادة العامة؛ لأنها تعمُّ الخَلق كلهم. 3- وتسمى الكونية؛ لأنها متعلِّقة بالكون وما يكون فيه. 4- وتُسمى القدرية؛ لأنها متعلقة بكل ما هو مقدر. 5- وتسمى الخلقية؛ لأنها تعم جميع الخلق. • أسماء الإرادة الدينية: وكذا الإرادة الدينية لها أسماء تُميِّزها، كما للإرادة العامة أسماء تبينها، وتُميِّزها؛ فمن أسمائها: 1- الإرادة الدينية؛ لتعلُّقها بدين الله خصوصًا. 2- وتُسمى الخاصة؛ لأنها تخص دين الله، لا عموم القضاء والقدر. 3- وتُسمى الأمرية؛ لتعلقها بما أمر الله به، وفرَضه. 4- وتُسمى الشرعية؛ لتعلقها بشرع الله، وما أمر، وما نهى عنه. [1] رواه أبو داود، وغيره، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4738)، وقوى سنده الحافظ ابن حجر، وقال: "على شرط مسلم في الفتح" (13 / 373)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه مسلم (2654)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
|
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (9) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ♦ إثبات صفة الرحمة: وقوله: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1]: في هذه الآيات إثبات الرحمة، وأنها من صفات الله، فإن الله وصَف نفسه بالرحمة فقال: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 1] الرحمن: كثير الرحمة، والرحيم: رحمة خاصَّة بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: وقوله: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]. فيها خصوصية رحمته بالمؤمنين، أما هو سبحانه وتعالى فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمُهما، لكن الرحيم خاصٌّ بالمؤمنين؛ لأن الله ذو رحمة، ورحمته لم تقتصر على المؤمن فقط وإنما تعدَّت إلى الكافر، فيرحم الله الكافر، ولهذا يُطعمه ويَسقيه في الدنيا ويَرزقه ويُمكِّن له، وهذا من رحمته لأنه شيء وقد أدركته رحمة الله. وقوله: ﴿ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]، وقوله: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وقوله: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، وقوله: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]، قوله: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]. فرحمة الله أعظمُ مِن غضبه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل في الحديث القدسي: ((إنَّ رحمتي سبقت غضبي))[1]، وفي رواية: ((إنَّ رحمتي غلبت غضبي))[2] أنواع رحمة الله عز وجل: ورحمة الله نوعان: 1- الأول: صفة من صفاته وصَفها الله بنفسه: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا ﴾ [غافر: 7]، فعِلم الله صفته، ورحمته صفته، ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وقال: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، وقال: ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [يونس: 107]، وقال: ﴿ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 64]، إذًا فالرحمة صفةٌ من صفات الله. 2- الثاني: وهناك رحمة أخرى؛ وهي: خلقٌ مِن خَلقِ الله، وهي من آثار رحمته التي هي صفته، وهي رحمات كثيرة، وهي المعنية بقوله: ((إنَّ الله جعل الرحمة في مئة جزء فأنزل إلى الأرض جزءًا واحدًا، فمنه يتراحَم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولَدِها؛ مَخافة أن تُصيبه))[3]، فإذا كان يوم القيامة رجعت الرحمات إلى الله تعالى فرحم بها خلقه، ومِن رحمة الله المخلوقة: الجنة؛ فهي رحمة الله. وعلى هذا، فإن رحمة الله نوعان؛ الأول: صفة من صفاته، وهي غير مخلوقة، ومن آثارها الرحمات المخلوقة كلها، ومنها التي جعلها مئةَ جزء، وسيَرجع الجزء الذي نزل إلى الخلق يتراحمون به إلى التسع والتسعين فتكمل بها مئةً، يَرحم الله بها خلقَه، ولهذا إذا دعا الداعي فقال: اللهمَّ إني أسألك مستقرَّ رحمتك فلا غضاضة؛ فإن الجنة مستقَرُّ رحمة الله المخلوقة، وأعظم رحمات الله المخلوقة هي جنته، ورحمة الله المخلوقة غير رحمته التي هي صِفة من صفاته، بل الرحمات المخلوقة مِن آثار صفته - عز وجل. والرحمة تطال الكافر كما تطال المؤمن، لكنها يوم القيامة يَخُص الله بها المؤمنين فيرحمهم الله برحمته الواسعة، ومن آثار ذلك أن رحمة الله غلبَت غضبَه؛ الجنَّة لها ثمانية أبواب، كما جاء في الصحيح عنه صلَّى الله عليه وسلم[4]، والنار لها سبعة أبواب كما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ﴾ [الحجر: 44]، ولهذا قال النبي: ((فسُبحان الذي غلبَت رحمتُه غضبَه))[5]، حتى الجنة والنار، فالنار غضب الله، والجنةرحمة الله، فغلبَت رحمتُه غضبَه، مع أن أهل النار أكثر من أهل الجنة أضعافًا مُضاعَفة، لكن رحمة الله غلبَت وسبقَت ووسعت حتى غضبَه، ولهذا فالنار لا تشبَع ولا تَمتلئ وتقول: هل مِن مزيد؟ حتى يستوعب فيها أهلها وهي تقول: هل مِن مزيد؟ حتى يضَع الرحمن فيها قدمه فيُزوى بعضها إلى بعض فتقول: قطني قطني؛ أي: حسبي حسبي، امتلأت عند؛ئذ لأنها جاءها من العِظَم ما لا قدرة لها بها، فسبحانه لا إله إلا هو. إثبات صفة الرضا لله عز وجل: وقوله: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]: هذه الآية فيها إثبات صفة الرضا، والرضا من صفات الله الفعليَّة، والرضا يؤوِّله المؤولة - على اختلاف أنواعهم ومِلَلِهم - إما إلى صفة أخرى، أو إلى مخلوق، فالصفات الفعليَّة - كالرضا، والغضب، والمحبة، والبُغض - تُؤوَّل عند المؤولة: إما إلى صفات؛ كإرادة الانتقام في الغضب، وإرادة الثواب في المحبة والرضا، أو يؤولونها إلى خَلقٍ مِن خَلقِ الله، فالمحبة والرضا يؤولونها بأنه يثيبهم ويعطيهم عطاءً جزيلاً، فتؤول إلى مفعولات الله ومخلوقاته، والغضب والانتقام يُؤول إلى أنه يُعاقبهم، هذا منهجهم فيها، فهذا هو التحريف لكلام الله عن معناه وعن ظاهره، وقد أخبر الله أنه رضي عنهم، والعجيب من هؤلاء أنهم يؤولون الرضا عن الله ولا يؤولون الرضا عن المخلوق، فتجرَّؤوا على الله ما لم يتجرؤوا على المخلوق. تنبيه: المؤولة من الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، والماتريدية، والمتكلمين - هؤلاء يؤولون رضا الله بأنه إرادة ثوابه، أو إثابته عباده، ولا يؤولون رضا المخلوق في قوله: ﴿ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [البينة: 8]، فكأنه قام في قلوبهم من إجلال المخلوق وإثبات الصفة له ما لم يَقُم في قلوبهم من إثبات الصفة للخالق، وهذا من آثار أصولهم الفاسدة في صفات الله تعالى. إثبات صفة الغضب لله عز وجل: وقوله: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ﴾ [النساء: 93]. من صفات الله "الغضب"؛ كما في هذه الآية، وهذه خمسة أنواع من الوعيد لمن قتَل مؤمنًا ظلمًا وعدوانًا وبغيًا، وبناءً على هذه الآية قال العلماء: إنَّ أعظم ذنب عُصي الله به بعد الشرك أن يَقتُل المسلمَ المؤمنَ ظلمًا وعدوانًا، فجزاؤه جهنم، وهذا وعيد له بالنار، وهذه كبيرة بحد ذاتها، قال: ﴿ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء: 14]، ولم يقل: خالدًا فيها أبدًا، فالمراد بالخلود هنا هو: المكث الطويل، ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ [النساء: 93] فيه إثبات أن الله يغضب، فاستوجب غضب الله بقتل المعصوم المسلم بغير وجه حق، ﴿ وَلَعَنَهُ ﴾ [النساء: 93] لعنه هو: طرْدُه وإبعاده، ﴿ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنَّ قاتل المسلم بغير وجه حقٍّ لا توبةَ له"[6]، وهذا مذهب ابن عباس، فراجَعَه تلميذه مجاهد بن جبر شهرًا كاملاً يُناقشه ويُراجعه فيها، وهو مصرٌّ رضي الله عنه أن قاتل النفس لا بد أن يعذبه الله تعالى، وليس مذهب ابن عباس أنه خالد في النار أبدًا، بل يُعذِّبه على قدر هذا الذنب؛ أي: إن من قتل المؤمن ظلمًا وعدوانًا فهو في مذهب ابن عباس وجماعة لا يَدخُل تحت المشيئة، ولا يدخل تحت الموازنة، بل صاحبه مستحق للعذاب؛ جراء هذا الذنب العظيم بقتْل المسلم ظلمًا وعدوانًا، وهذا فيه عظم شأن المؤمن عند الله، حتى إنه أعظم شأنًا عند الله من بيته، وفي الخبر: ((لأنْ تُنقض الكعبة حجرًا حجرًا أهوَنُ على الله من أن يُقتَل امرؤ مسلم بغير وجه حق)). وقوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ ﴾ [محمد: 28]: وهذا مِن أدلَّة إثبات الغضب، والشاهد من هذه الآية قوله: ﴿ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ ﴾ [محمد: 28]؛ أي: أغضبَه، وفيه إثبات أنَّ الله يسخَط؛ لأنَّ الله أضاف الفعل إلى نفسه. وقوله: ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55]: وهذا في فرعون وقومه؛ أنَّهم لما أغضبوا الله انتقم منهم، وفيه إثبات أن الله يغضب، وإثبات الانتقام، وهذه اللغة من إطلاق الأسف على الغضب، وكنت أظنُّها مُندثرَة حتى زرنا إحدى الجهات، فسمعت رجلاً يُعاتب ابنه فيقول له: يا بنيَّ، لا تُؤسفني عليك؛ أي: لا تُغضِبني منك! وهذه من أدلة إثبات الغضب والسخط. إثبات صفة الكُرْه لله عز وجل: قَوْلِهِ: ﴿ وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ [التوبة: 46]، وَقَوْلِهِ: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3]: هاتان الآيتان فيهما إثبات أنَّ الله يَكره ويَمقُت، وكرهُه وغضبُه وسخطُه وأسفُه كمالٌ يليق بجلاله، لا يشبه صفات المخلوقين، ومن الصفات المقاربة لهذا المعنى المقْت؛ فإنَّ المقْت والانتقام والسخط والغضَب صفات مُتقاربة المعاني، لكن المقت أشد الغضب، ولهذا نقول: كلُّ مقْتٍ غضب، وليس كل غضب مقتًا، كما الرضا في صفة المحبة كل خُلَّة محبة، وليس كل محبة خُلةً؛ فقوله: ﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 3]؛ أي: عَظُم مقتًا وسخطًا وبغضًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. فهذه مِن الصفات الفعلية دلَّت عليها الآيات، فالرضا، والغضب، والسخط، والأسف (الغضب)، والانتقام، والكره، والمقْت - صفات من صفات الله الفعلية. إثبات صفة الإتيان لله عز وجل: وقوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [البقرة: 210]، وقوله: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 158]. في هذه الآيات إثبات صفة الإتيان، وصفة المَجيء، وفي هاتين الآيتين من سورتي البقرة والأنعام صفة الإتيان، وأنَّ الله تعالى يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، وفي ذلك المقام تشقَّق السماء بالغمام؛ لإتيانه ومجيئه جلَّ جلاله، وفي سورة الفجر: وقوله: ﴿ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ [الفجر: 21، 22]، وقوله: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25]: فيها إثبات مجيء الله تعالى، ومجيء الملائكة، وحالة مجيء الملائكة أنهم يأتون صفوفًا؛ صفًّا إثر صفٍّ، وإتيانه تعالى ومجيئه من صفاته الفعلية التي يفعلها إذا شاء، فهي مرتبطة بمشيئته، وليست من الصفات الذاتية التي هي ملازمة لذاته، بمعنى أنه ليس في كل وقت جائيًا، وليس في كل وقت آتيًا. وإن كانت الصفات الفعلية مرتبطة بالذاتية من كونها متعلقة بالذات أفعالاً لهذه الذات، يفعلها تعالى إذا شاء، كيف يشاء، والمنحرفون من المؤولة والمعطلة حرفوا إتيانه ومجيئه إلى أنواع من التحريفات فقالوا: إنه تأتي الملائكة، أو يأتي أمرُه، أو يجيء ثوابه وعقابه، ونفَوا عن الله حقيقة الإتيان والمجيء اللائقَين به، وهذا من الانحراف، فإذا كان التعلق بمجيئه وإتيانه حرَّفوه بما يسمونه تأويلاً، وأما مجيء الملائكة ومجيء بعض آيات الله فإنهم يُثبتونه على ظاهرِه، وهذا غاية التضاد والانحراف، ففيما يتعلق بالله يُحرف ويؤول، وفيما يتعلق بالمخلوق يُمضى على ظاهره؟! وإتيان بعض آيات الله؛ كما في قوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ﴾ [الأنعام: 158]. معاني (نظر) بحسب تعدِّي الفعل: 1- يَنظرون بمعنى ينتظرون؛ لأن النظر في الأدلة يأتي متعديًا بنفسه (هل ينظرون)، فيحتاج إلى مفعول، وهذا هو الانتظار، ومنه قوله تعالى عن المنافقين: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ ﴾ [الحديد: 13]؛ أي: انتظرونا، فالنظر هنا وما تعدى به يكون بمعنى الانتظار، ومنه ما في آخِرِ سورة البقرة: ﴿ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [البقرة: 280]؛ أي: فانتظار إلى أن يوسر. 2- ويأتي النظر متعديًا بحرف الجر (في)؛ ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 185]، فالنظر إذا تعدى بـ"في" فإن معناه التفكُّر والاعتبار والاستبصار. 3- ويأتي النظر متعديًا بحرف الجر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ﴾ [الأنعام: 99]، وقوله: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، فإذا تعدى النظر بحرف الجرِّ "إلى" فإنه يدل على المعاينة بالبصر، والنظر بالأبصار، وهذا من أدلة أهل السنة على إثبات النظر لله حقيقة. وإتيان بعض آيات الله - كما فُسِّرت في الصحيح - عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك في آخِر الزمان إذا طلعَت الشمس مِن مغربها، أو الدجَّال، أو الدابَّة، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرًا[7]، فالمقصود أنَّ الإتيان (المجيء) من صفات الله تعالى الفعليَّة، التي يَفعلها إذا شاء، وهو يأتي ويجيء كما يشاء سبحانه وتعالى على كيفيَّة يعلمها هو ونجهلها نحن، فلا نعلمها. [1] رواه البخاري (7554)، ومسلم (2751)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه البخاري (7404)، ومسلم (2726)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (6000)، ومسلم (2752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [4] وهو ما رواه مسلم (234) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من توضأ، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهمَّ اجعلني من التوابين، واجعلني مِن المتطهِّرين، فُتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)). [5] رواه البخاري (6661)، ومسلم (2848)، بلفظ مقارب له من حديث أنس رضي الله عنه. [6] رواه البخاري (4590)، ومسلم (3023). [7] رواه مسلم (157)، ورواه البخاري (4635) بلفظ: "طلوع الشمس من مغربها" فقط، وهو عندهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
رد: شرح العقيدة الواسطية
شرح العقيدة الواسطية (5) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تَعدل ثلث القرآن[1]: المقصود بالجملة هو جملة الأسماء والصفات - التي يفصِّل الشيخُ فيها - حيث قال في أولها: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله"، دخل في هذه الجملة ما وصَف به نفسه في سورة الإخلاص؛ فإن فيها النفيَ والإثبات الذي جمَع الله تعالى لنفسِه وصفًا واسمًا، وتعدل ثُلث القرآن، والذي قال ذلك هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ ((فإن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن))، كما جاء ذلك في الأحاديث الصحيحة، وفيها قاعِدةٌ لأهل السنَّة أن كلام الله يتَفاضَل؛ أي: بعضه أفضلُ مِن بعض، ولا يَعني أن المفضول مزدَرًى، لكن المعنى أن الفاضل أعلى رتبةً مِن هذا المَفضول، وكلاهما من كلام الله، لكن كلام الله يتفاضَل كما أن رسل الله يتفاضلون: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [البقرة: 253]. وأفضل القرآن سورة الفاتحة، والبقرة وآل عمران الزَّهراوان لهما فضائلهما، وأفضل وأعظم آية في القرآن آية الكرسي، وسورة الإخلاص سُمِّيت الإخلاص لأنها خَلصت بأوصافها وأسمائها لله تعالى، خَلصت بأسماء الله وصفاته، فليس فيها ذِكرٌ لغيرِه، فسُمِّيت بالإخلاص[2]. لِمَ تَعدِل سورة الإخلاص ثلث القرآن؟ وكونها تَعدل ثلث القرآن استنبط العلماء من ذلك أن القرآن على ثلاث مضامين كبار: 1- إما توحيد، وقد اشتملت به واستقلَّت به هذه السورة. 2- وإما قصص، سلى الله بها رسوله، والمؤمنين، وأخذوا منها العِبرة. 3- وإما أحكام وتشريعات. فبهذا الاعتبار صارَت هذه السورة ثلُث القرآن، وشيخ الإسلام رحمه الله له فيها كتابان جليلان: الأول: "تفسير سورة الإخلاص"، وهو أمتع ما رأيت في تفسير هذه السورة، والثاني: "جواب أهل العلم والإيمان بأن ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] تَعدِل ثلث القرآن"، وهذا غير التفسير، بل في فنِّ العقيدة، في قاعدة تفاضُل كلام الله عز وجل فهما كتابان مُستقلان، وثمة تفسير لهذه السورة مُختصَر لكنه جمع أصول أهل السنَّة، وهو "تفسير سورة الإخلاص"؛ للحافظ ابن رجب. مضامين العقيدة إجمالاً في سورة الإخلاص: حيث يقول: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]. قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1] فيها اسم الله (الله) الذي لا يَجوز أن يُسمى به أحد غيره، و(أحد)، وهذا وصف الله بالأحديَّة وتسميتُه بالأحد. و(الصمد) له ثلاثة معان يدور عليها عند السلف: 1- المعنى الأول: الذي تَصمد إليه المخلوقات في حوائجها؛ أي: تَقصدِه، تَلتفِت إليه في طلب حوائجها وتحصيلها. 2- والمعنى الثاني: قيل: الصمد الذي لا جوف له؛ فإن الشيء المُصمَد الذي لا جوف له، والله تعالى لا حاجة له إلى الجوف؛ لأنه يُطعِم ولا يُطعَم، كما قال تعالى: ﴿ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14]، فاستدلَّ به على أن الله ليس له ما للمَخلوق مِن الجوف الذي هو أمعاء، وكبد وما إلى ذلك؛ لأنه يطعِم ولا يطعَم. 3- والمعنى الثالث: أنه السيد الكامل في سؤدده وسيادته[3]. ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]؛ م يَزعم أحد بأن الله تولد مِن والدَين. الزاعِمون بأن لله ولدًا: 1- وقد زعم بأن الله يَلد اليهودُ والنَّصارى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 30]. وقال المشركون: الملائكة بنات الله. وقالت الفلاسفة واليونانيون: إنَّ الآلهة تتوالد، فزعموا بأن لله الولد، وهذا الزعم زعمٌ نادر - الذي زعموه اليونانيون الإغريق الوثنيون في آلهتهم - أنها تتولَّد، لكن في حق الله لا نعرف أن أحدًا زعم أن الله ولد من والِدَين. قال أهل العلم: لما نفى الولادة ناسب أن يَنفي ما يُقابلها وهو التولُّد، فلما نفى أن يكون له ولد ناسب أن ينفي الوالدين؛ لئلا يأتي أحد يَعتقده في الله أنه تولد من والدين، فقال: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، وهذا كله على جهة التفصيل إثبات الأسماء والصفات، والنفي والإثبات تفصيلاً، فقوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 1، 2]، هذا إثبات مفصَّل، وقوله: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾ [الإخلاص: 3]، هذا نفْيٌ مفصَّل، ثم أجمل فقال: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 4]؛ أي: إنه لا أحد يكافئه سبحانه وتعالى ولا يُماثله، ولا يشابهه، ولا يناظره، ولا يُنادده، فهذا نفيٌ مجمَل. وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه؛ حيث يقول: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]. فضل آية الكرسي في التوحيد: هذا استمرارٌ لما بدأه في ذكر الأدلة على أسماء الله وصفاته، فبدأ بسورة الإخلاص وهي سورة التوحيد، ثم ثنَّى بأعظم آية في كتاب الله وهي آية الكرسي، وكونها أعظم آية في كتاب الله كما جاء في حديث أبيِّ بن كعب رضي الله عنه، وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك[4]، وآية الكرسي اشتملت على مضامين عظيمة في توحيد الله، فيقول تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] فبدأها بأعظم أسمائه وهو اسم (الله) المسمى عند أهل العلم بلفظ الجلالة؛ لأنه لا يجوز أن يُسمى به مخلوق، ولهذا فإن أسماء الله الأخرى يجوز أن يتسمى بها المخلوق مع المفارقة بين الاسم والاسم، أما اسم الجلالة (الله) فلا يجوز أن يتسمى به مخلوق أبدًا. ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [البقرة: 255]: هذه هي كلمة التوحيد المشتملة على ركني النفي والإثبات. ﴿ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255] ثمَّة قاعدة في أسماء الله وصفاته: أنَّ كلَّ اسم من الأسماء يتضمن صفة إما بالتضمُّن بدلالة المطابقة، أو بدلالة الاستلزام، أو بدلالة التضمُّن، وسأبينها إن شاء الله بالتمثيل، وليس الصفة يؤخذ منها اسم، وهذه من قواعد أهل السنَّة أن الأسماء الحسنى يؤخذ منها صفات، ولا يؤخذ من الصفات أسماء، ومثاله: الحي، فاسم الله الحي يؤخذ منه أن الله له حياة، وقد دلَّ اسم الله الحي على صفة الحياة دلالة تضمُّن؛ لأنَّ اسم الله الحي دلَّ على ذاته ودلَّ على حياته، ودلَّ اسم الله "الحيُّ" على الله دلالة مطابقة؛ لأنها دلَّت على جميع معناه، ودلَّ اسم الله الحي على بقائه وأبديته، وعلى قدرته، وملكوته بالاستلزام؛ لأن الحي يستلزم أنه باقٍ أبدًا، والحي يستلزم القدرة، فدلَّ اسم الله الحي على صفة الملك والبقاء دلالة استلزام. تطبيق أنواع الدلالات: والفرق بين أنواع هذه الدلالات أن دلالة المطابقة هي دلالة الشيء على جميع معناه، ودلالة التضمن دلالة الشيء على بعض معناه وعلى شيء آخر، فدلَّ اسم الله الحي على صفة الله الحياة، ودل على شيء آخر، وهو ذات الله، وعلى اسمه الله، وعلى الحي، ودلالة الاستلزام هي دلالة الشيء على أمر خارج عن معناه (يستلزمه)؛ كاسم الله الملك يتضمن صفة الله القدرة؛ فالله قادر لأن المَلِك من معانيه القدرة. ﴿ الْحَيُّ ﴾ [البقرة: 255] ويؤخذ منه صفة الله الحياة، ﴿ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وهو القائم بنفسه، المقيم لغيره، فغيره يَحتاجون إليه، وهو لا يحتاج إليهم لأنه قائم بنفسه، مقيم لغيره، وخلق غير قائمين بأنفسهم. قال ابن القيم في هذين الاسمين: والوصف بالقيوم ذو شأن كذا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif موصوفه أيضًا عظيمُ الشانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والحيُّ يتلوه، فأوصاف الكما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لِ هُما لأفْقِ سمائها قُطبانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالحي والقيوم لن تتخلف الْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أوصافُ أصلاً عنهما ببيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255] هذا نفي مفصَّل، وهو من النوع القليل الذي جاء في الكتاب والسنة، والأكثر في النفي أنه يأتي مجملاً لكن النفي من الأقل أنه يأتي مفصلاً. والنفْيُ نفْيان: الأول: نفْي محْض وهو العدَم المحض، والثاني: نفْي يتضمَّن إثبات كمال ضدِّه، فالنفي المحض ليس فيه كمال، ولهذا عاب أهل السنَّة على الجهمية والمُعتزلة وأضرابهم أنهم يصفون بالسلوب، ويَمدحون الله بأنه لا حي ولا ميت، ولا داخل العالم ولا خارج، ولا جسم ولا جوهر، ولا مركَّب ولا مُعنصَر، وهذه أوصاف سلبية عدمية، لا كمال فيها. ولهذا لم يأتِ هذا النفي العدمي المحض في الكتاب ولا في السنَّة أبدًا، بل في عرف الناس لو أن إنسانًا قام يَمدح ملكًا، أو سلطانًا، أو رئيسًا فقال: أنت - أيها السلطان - لست زبالاً، ولا كناسًا، ولا كذابًا، ولا خسيسًا، ولا خبيثًا... فإنه لا يستحقُّ إلا أن يعذَّب؛ لأنه لم يمدحه، وإنما أتى بالنفي المحض، أما لو أنه قال: يا أيها السلطان! أنت لست ظالمًا؛ لأن عدم الظلم يثبت عدله، أو قال: لستَ غافلاً عن رعيتك؛ أي: إنك فطن لهم، مطَّلع على حوائجهم صار هذا النفي كمالاً، فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق من باب أولى. ولهذا فإن قوله: ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]؛ أي: لا تَلحقه السِّنة، والسِّنة هي النُّعاس، فنفى السِّنَة، ونفى ما هو أعظم منها وهو النوم؛ لكمال حياته، وكمال قيوميته تعالى، وفي الحديث: ((إنَّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، بيده القسط يخفضه ويرفعه))[5]. ﴿ لَهُ ﴾ [البقرة: 255]: اللام هنا لام الملْك، ولام الملك تفيد الاختصاص، ومعرفة دلالة الحروف نحتاجه في دلائل التوحيد كثيرًا كما نحتاجه في الأحكام الشَّرعية، وفي استِنباط القرآن: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 162]؛ أي: لله اختصاصًا وملكًا، ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2]؛ أي: ولربك، فاللام هنا لام الاختصاص ولام الملك، وتأتي في أمور الفقهيات في آية الزكاة، في سورة براءة: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ [التوبة: 60] اللام هنا للتمليك، فلا تَبرَأ الذمة إلا بتمليك الزكاة للفقير؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ؛ ﴾ [التوبة: 60] فهذه لام الملك، والملك يفيد اختصاص المملَّك. ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 255] (ما) موصولة بمعنى الذي، فتشمل كل شيء فله كل ما في السماء وكل ما في الأرض. ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]؛ أي: إنه لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا دليل لأحد شرطَيِ الشفاعة؛ فإن الشفاعة لها شرطان: 1- الأول: إذن الله للشافع بالشفاعة. 2- والثاني: رضا الله عن المشفوع له. وقد جُمِعا في قوله تعالى: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26]، لا أحد يَشفع عنده إلا بإذنه، قال العلماء: وفيها فرق بين الشفاعة عند الله والشفاعة عند المخلوقين، فالشفاعة عند المخلوقين من الأمراء والقضاة وذوي الشرف يشفع عندهم بغير إذنهم، أما الله تعالى فلا يُمكن أن يشفع عنده إلا إذا أذن للشافع ورضي عن المشفوع له، وهذا يُبين أن شفاعة المخلوق من حاجة المخلوق لمن يشفع عنده، أما الشفاعة عند الله فليس فيها حاجة الخالق للمخلوق. ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [البقرة: 255]، وهذا فيه إثبات صفة العلم - كما ستأتي لها الأدلة - وهي من أعظم خصائص الله تعالى وخصائص ربوبيته: علمه الذي أحاط بكل شيء، ولهذا اضطرب الفلاسفة والمتكلِّمون في مسألة إثبات العلم أعظم الاضطراب، في كيف يثبتونه؟ هل يعلم الكليات أو يعلم الجزئيات؟ حتى قال أبو عبدالله الرازي - لما حار واضطرَب، وتاب في أبياته، التي ذكرها شيخ الإسلام في الدرء -: نهايةُ إقدامِ العُقول عِقالُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وغايةُ سَعْي العالَمين وبالُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولم نَستفِد من بحثنا طول عُمرِنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلى أن قال: "لقد جَرَّبتُ المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فلم أرها تَشفي عليلاً ولا تَروي غليلاً، ورأيتُ أقرب الطرق طريقة القرآن"؛ اقرأ في الإثبات: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، واقرأ في النفي: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110] فعرف أن القرآن في ألفاظه وفي دلائله على أسماء الله وصفاته أتى بأعظمِ ما يكون في حق الله من التنزيه والإجلال، وإن تكلَّف المُتكلِّفون وابتدع المبتدعون ألفاظًا فإنها لا تَبلغ ما في دلالة هذين الوحيين. ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ [البقرة: 255] نفى الله الإحاطة من المخلوق بشيء، و"شيء" نكرة فتشمل القليل والكثير من علم الله عز وجل؛ لأنه هو الذي يعلم ما بين أيديهم، أي: ما أمامهم وما خلفهم. معنى صفة العلم لله عز وجل: فهو سبحانه يعلم كل شيء، وفي اعتقاد أهل السنة أنَّ الله يعلم ما كان ويعلم ما يكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، والأدلَّة على أن الله يعلم ما كان وما يكون كثيرة؛ منها قوله: ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [البقرة: 255]، وقوله: ﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الحديد: 3]، لكن الأدلَّة على أن الله تعالى يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون فكثيرة أيضًا؛ ومنها: قوله تعالى عن أهل النار إذا اصطَرخوا ونادَوا لعلَّ الله أن يُخرجهم مما هم فيه، وأنهم لو خرجوا لرجعوا للتوحيد وآمنوا وأصلحوا أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، ومعلومٌ أنَّ ردَّهم إلى الدنيا في الناحية العقلية مُمكن، لكنه مُستحيل؛ لأنَّ الله قضى على نفسه ألا يردَّهم فلا يُمكن أن يرجعوا إلى الدنيا مرة ثانية، ومع ذلك عَلم الله هذا الأمر المستحيل الذي لم يكن لو كان كيف سيكون؛ بمعنى أنهم يَكذبون ويَعودون إلى ما هم عليه. لا يمكن أن يعلم المخلوق من الغيب إلا ما شاء الله جلَّ جلاله أن يعلمه، ولكن لا يمكن أن يعلم المخلوق علم الغيب المطلق، ومن زعم أن مخلوقًا أيًّا كانت منزلتُه؛ ملَكًا من الملائكة، أو نبيًّا من الأنبياء، أو صالحًا أو وليًّا أو طالحًا - يَعلم علم الغيبِ الكليَّ فقد كفَر؛ لأنه نازع الله أخصَّ خصائص ربوبيته، أما بعض الغيب فقد يطَّلع عليه بعضُ المخلوقين؛ كما قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ [الجن: 26، 27]، ورسول هنا نكرة، فتشمل رسل الملائكة ورسل الإنس، ﴿ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 27]، وبهذا نعلَم أنَّ ما قاله الشرف البوصيري في بردته التي يُتغنَّى بها لمناسبة المولد عند أصحاب المدائح والموالد والاحتفالات المبتدعة المحدثة - أن قوله: يا أكرمَ الخَلقِ ما لي مَن ألوذُ به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سواكَ عند حلولِ الحادث العمَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنْ لم تكن في معادي آخذًا بيدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فضلاً، وإلا فقل: يا زلَّة القدَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فإنَّ مِن جُودك الدنيا وضرَّتَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومِن علومك علم اللوح والقلمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنَّ هذا من أعظم ما يكون محادةً لله في أن جَعل للرسول صلى الله عليه وسلم عِلمَ ما في اللوح والقلم - والعياذ بالله - وجعل من ملك الرسول ملك الدنيا وضرتها وهي الآخرة. ﴿ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255] بما شاء الله مِن أن يَعلمَه خلقُه، ولهذا قد يرى الإنسان في منامه ما يكون غيبًا على غيره؛ فقد يوحى إليه، وقد يُطلَع عليه، ولا يكون الوحي إلا للأنبياء عليهم السلام. • أقوال العلماء في الكرسي: قوله تعالى: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [البقرة: 255] الكرسي هنا اختلف فيه علماء أهل السنَّة اختلافًا، وهذا الاختلاف يَندرج تحت الاختلاف في المسائل الاجتهادية من تفاصيل مسائل العقيدة؛ كاختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لله، واختلافهم في الكرسي ما هو، واختلافهم في العاصي هل يعذَّب أو يدخل تحت الموازنة في أصحاب الكبائر، هذه تفاصيل ولا تَندرج على الأصل أن مسائل العقيدة (أصولها ومسائلها) ليس فيها اختلاف بين أهل السنة: 1- فمِن قائل: إن الكرسي هو العِلم؛ أخذًا من سياق هذه الآية. 2- ومن قائل: إن الكرسي هو العرش. 3- والقول الثالث: إن الكرسي موضع القدمين، وهذا هو القول الراجح عند المحقِّقين؛ لأثر أبي موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: "الكرسيُّ موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره"[6]. ﴿ وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [البقرة: 255]، هذا مِن النفي المتضمن كمالَه؛ أي: إنه لا يعجزه سبحانه وتعالى ولا يكلفه حفظ السماوات ولا حفظ الأرض، قال شيخ الإسلام: "أي: لا يكرثه ولا يثقله" فإذا كان لا يكرثه ولا يثقله ولا يُعجزه دل على كمال قدرته وقوته. أنواع علو الله عز وجل: ﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ ﴾ [البقرة: 255]؛ "عليٌّ" له أنواع العلوِّ الثلاثة: 1- الأول: علوُّ الذات، وهذا العلو الذي ينحرف فيه المنحرفون من الجهمية والمعتزلة، ومن المتكلمين فالأشاعرة والماتريدية يَنفون علوَّ الله بذاته. 2- الثاني: وله العلو بقدره ومنزلته، فلا أحد أعلى من الله قدرًا ولا منزلة. 3- والثالث: وله العلوُّ بقهره وغلبته، فلا أحد يقهر الله عز وجل. قال أهل العلم: والعلو بالذات بالقهر والغلبة، والعلو بالمنزلة والشأن ما اتفق عليه الناس، أما الذي وقع فيه الانحراف فهو العلوُّ بالذات: وهو العلي فكل أنواع العلوْ ♦♦♦ وِله فثابتةٌ بلا نُكرانِ ﴿ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]: الذي لا أعظم منه عَظمةً في ذاته، وعظمة في صفاته، وعظمة في أفعاله. وهو العظيم بكلِّ معنًى يوجب التْ ♦♦♦ تَعظيم لا يُحصيه من إنسانِ ولهذا كان مَن قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يُصبح: وهذه الآية المشتملة على هذه المضامين العظيمة من العقيدة قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ حتى يُصبح، ولا يقربه شيطان))[7]، ولهذا لما جاء الشيطان مرة ومرة ومرة في ليالٍ ثلاث إلى الصدقة يسرق منها، كل مرة يُقبض عليه، فيعتذر بأن لديه صِبية، وفي الثالثة قال له حارس الصدقة أبو هريرة رضي الله عنه: "والله لا أتركك حتى أسلمك إلى النبي" وقد حاول معه ثم قال: "ألا أدلك على شيء إذا صنعتَه لم يزَل عليك من الله حافظ ولا يقربنَّك شيطان؟" فأخبره عن آية الكرسي فقال النبي في ذلك: ((صَدَقك وهو كذوب)). "الحي القيوم" هذان الاسمان جاءا في القرآن في ثلاثة مواضع: 1- الموضع الأول: في آية الكرسي. 2- والموضع الثاني: في أول سورة آل عمران: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 2]. 3- والموضع الثالث: جاء في سورة طه: ﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ﴾ [طه: 111]. في قوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58] استدلالٌ من الشيخ بمعنى اسم الله "الحي"؛ أن له الحياة الكاملة لا التي يَلحقها موت، ولا حتى النومُ والنعاس؛ لأنَّ النوم والنعاس حاجة وافتقار، فمَن لم ينم يكون مريضًا؛ فالمخلوق يحتاج إلى النوم ليرتاح، فصار هذا الكمال وهو النوم كمالاً للإنسان؛ لفقرِه واحتياجه وافتقاره، ولما كان الله كاملاً من كل الوجوه فلا حاجة له إلى هذا النوم. [1] رواه البخاري (5015)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ورواه مسلم (811) من حديث أبي الدرداء. [2] انظر: القاعدة البعلبكيَّة؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية. [3] انظر: تفسير ابن كثير عند هذه الآية في سورة الإخلاص. [4] رواه مسلم (810)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. [5] رواه مسلم (179)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [6] رواه عبدالله ابن الإمام أحمد، في كتاب السُّنَّة، (586)، وابن أبي شيبة في العرش، (161)، وابن خزيمة في كتاب التوحيد (2248)، والحاكم في المستدرك (2 / 282)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. [7] رواه البخاري (2311)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. |
الساعة الآن : 10:22 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour