في ظلال آية . . . متجدد - الصفحة 17 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الدعاء للميت (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          صلّى وبين أسنانه بقايا طعام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          شَرْحُ مُخْتصر شُعَب الإيمان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3 - عددالزوار : 427 )           »          دراسة شرعية لصيانة الأسرة .. الدلالات الفقهية في إثبات النسب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          باختصار .. مغترب..! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          النهي عن ترويج السلع في وسائل التواصل بالحلف (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          ضوابط استخدام وسائل التواصل في الدعوة إلى الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 271 )           »          شفقة المؤمنين ورحمتهم بالمذنبين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الْيَمِينُ.. آدَابٌ وَأَحْكَامٌ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #161  
قديم 04-11-2008, 08:25 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض


هناك من الآيات القرآنية ما قد يفهم البعض من ظاهرها، أن بينها تعارضًا وتناقضًا؛ ومن هذا القبيل قوله سبحانه في سورة الأعراف: { إن الله لا يأمر بالفحشاء } (الأعراف:28)، مع قوله تعالى في سورة الإسراء: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } (الإسراء:16) .





فقد ذكر سبحانه في الآية الأولى، أنه لا يأمر أحدًا بفعل الفحشاء؛ في حين أنه سبحانه قد أخبر في آية الإسراء، أنه إذا أراد هلاك قرية، أمر مترفيها، ففسقوا فيها؛ وقد يفهم البعض من ذلك، أن الله يمكن أن يأمر بالفسق !! فهل هناك تعارض بين الآيتين ؟ وما هو السبيل لرفع ما يبدو بينهما من تعارض ؟



ومن المهم لرفع ما يبدو من تعارض بين الآيتين الكريمتين، معرفة السياق الذي وردت فيه الآيات؛ مما يساعد على فهمها فهمًا سليمًا، ويزيل ما يبدو بينها من تعارض .



وقد جاءت آية الأعراف في سياق الرد على أهل الجاهلية، وإنكار الممارسات التي كانوا يفعلونها، من طوافهم بالبيت وهم عراة، ودعوى أن الله أمرهم بذلك؛ فجاء الرد القرآني حاسمًا، ليقرر مبدأ مهمًا، وهو أنه سبحانه { لا يأمر بالفحشاء }، وإنما يأمر بالقسط { قل أمر ربي بالقسط } (الأعراف:29) فالآية واضحة صريحة في أن أمره سبحانه لا يكون بما هو فاحش ومنكر، وإنما يكون بما هو قسط وحق .



أما آية الإسراء فقد جاءت لتقرر سنة إلهية، لا تتبدل على مر العصور والأزمان، ولا تتغير باختلاف الأماكن والبلدان؛ وهي أن بقاء الأمم ودوامها مرتبط بإقامة أوامر الله، والعمل بشرعه؛ وأن هلاكها إنما يكون بانتهاك حرمات الله، وتعدي حدوده؛ فهناك سبب وهو الفسوق، وهناك نتيجة وهي الهلاك؛ وليس معنى الآية - كما قد يتبادر إلى الفهم - أن الله يأمر الناس بالفسق، فيفعلوا المعاصي ويرتكبوا المحرمات، ثم ينـزل الله بهم الهلاك، فهذا الفهم ليس مراد الآية، وليس هو من دلالتها، بل هو فهم مخالف لها، ومعارض لأدلة أخرى، تفيد أنه سبحانه لا يأمر عباده بغير العدل والخير .



وقد وردت آيات عديدة توضح المقصود من آية الإسراء؛ من ذلك قوله تعالى: { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } (هود:117)؛ فهذه الآية صريحة في أنه سبحانه ما كان ليهلك أهل القرى، إذا كانوا عاملين بأوامر الله، ومجتنبين لنواهيه؛ فهي تبين الوجه المقابل لما قررته آية الإسراء؛ فإذا كانت آية الإسراء قد علقت هلاك أهل القرى على فسقهم ومعصيتهم؛ فإن هذه الآية قد قررت أنه سبحانه لا يهلك أهل القرى ما داموا صالحين. والقرآن يفسر بعضه بعضًا .



والذي يوضح ويؤكد أن آية الإسراء ليس فيها ما يدل على أن الله تعالى يأمر عباده بالفسق، أنها لم تعين المأمور به، بل سكتت عنه؛ فالآية تقول: { أمرنا مترفيها }، ولم تصرح بطبيعة المأمور به، هل هو الفسق أم هو الطاعة؛ والذي يعين أحدهما اللغة، والسياق الذي وردت فيه الآية، وأدلة قرآنية أخرى .



أما اللغة، فأنت تقول: أمرت ولدي فعصاني، ولا يعني ذلك أبدًا: أنك أمرته بالمعصية، وإنما يدل على أن المعصية ترتبت على أمرك إياه، وهو أمر طبيعي؛ لأن المعصية فرع عن الأمر .



وأما السياق الذي وردت فيه الآية، فإنه يوضح أن المأمور به هو الدعوة إلى الاستقامة وعمل الصالحات؛ فقبل هذه الآية نقرأ قوله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا } (الإسراء:9)، وبعدها نقرأ قوله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } (الإسراء:19)، وإذا كان السياق يفيد أن المقصود طلب فعل الطاعات، فمن غير الصواب - حينئذ - فهم الآية على أنها أمر من الله لعباده بالفسق؛ وبالتالي فإن المصير إلى هذا الفهم السقيم من الضلال البعيد .



أما الأدلة القرآنية فكثيرة، منها قوله تعالى: { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي } (النحل:90) وهو نص واضح في أن أمره تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء. وهذا أمر من صلب عقيدة المؤمن، لا يقول بخلافه إلا من نزع الله الإيمان من قلبه .



وبذلك يكون المعنى الصحيح للآية، أن يقال: أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا؛ فحق عليهم العذاب؛ ويكون من الخطأ أن نفهم من الآية: أنه سبحانه أمر أهل القرية بالفسوق، ليُنـزل بهم عليهم العقوبة والهلاك .



وما تقدم هو الوجه الراجح في تفسير الآية الكريمة؛ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمرنا مترفيها بطاعة الله، فعصوا. وعلى هذا القول يكون في الآية كلام مقدر، مستفاد من السياق، أو من أدلة أخرى؛ وعليه فلا يكون هناك تعارض ولا إشكال بين هذه الآية وآية الأعراف .



على أن آية الإسراء تقتضي التنبيه إلى أمرين، يساعدان على إلقاء مزيد من الضوء حول معنى الآية؛ الأول: يتعلق بالمقصود بالمترفين، ووجه اختصاصهم بالذكر؛ فالمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش، وتعليق الأمر بهم على وجه الخصوص، مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس؛ لأنهم عادة في موقع القيادة والزعامة، والناس تبع لهم، فكان من المنطقي أن يتوجه الخطاب إليهم دون غيرهم، فإذا فسقوا عن الأمر، اتبعهم الأتباع وضعاف القوم، فعم الفسق أو غلب على القرية، فاستحقت الهلاك .



الثاني: يتعلق بوجه العلاقة بين إرادة الله إهلاك القرية، وبين أمر المترفين، فهي علاقة السبب بنتيجته؛ ففعل المترفين هو السبب، وإرادة إهلاك القرية هو النتيجة لذلك الفعل؛ وعليه فلا يقال: إن إرادة الله سبب مؤد إلى فسوق المترفين، ونزول الهلاك بأهل القرى؛ فحاشا لله أن يريد إهلاك قوم قبل أن يأتوا بما يستوجب هلاكهم، وليس من الحكمة الإلهية أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم. ولـ ابن عاشور كلام مفيد في تفسيره ( التحرير والتنوير )، يحسن الرجوع إليه في هذا المقام .



وقد ذكر المفسرون وجوهًا أخرى للتوفيق بين الآيتين الكريمتين، نذكر منها ما يلي:



الأول: أن يكون معنى { أمرنا }: كثَّرنا، من الكثرة؛ أي: كثرناهم حتى بطروا النعمة، ففسقوا؛ ومجيء ( الأمر ) بمعنى الكثرة والتكثير له أدلة من اللغة والشرع؛ وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( خير مال المرء له مهرة مأمورة ) رواه أحمد ؛ أي: كثيرة النسل؛ وفي حديث أبي سفيان مع هرقل قوله: ( لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ) أي: كثر وعظم .



الثاني: أن يكون معنى { أمَّرنا } بتشديد الميم، من الإمارة؛ أي: جعلناهم أمراء، ففسقوا؛ لأن الأغلب ممن يتولى أمر الناس، أن لا يراعي حكم الله فيهم. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب. وهو قوله تعالى: { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } (الأنعام:123) .



الثالث: أن يكون ( الأمر ) في قوله سبحانه: { إن الله لا يأمر بالفحشاء } هو من باب الأمر الشرعي، المطلوب فعله من العباد؛ وأن ( الأمر ) في قوله تعالى: { أمرنا مترفيها } هو من باب الأمر القدري، الذي لا يخرج عنه شيء في هذا الكون. ولهذا أدلة من القرآن، وتفصيل الكلام فيه له مقام آخر .



ويتضح من مجموع ما قيل في معنى آية الإسراء، أن هذه الآية الكريمة لا تعارض قوله تعالى: { إن الله لا يأمر بالفحشاء } بل إن كل منهما تقرر حقيقة لا تعارض الأخرى ولا تخالفها؛ فآية الأعراف تقرر عقيدة إيمانية، وآية الإسراء تقرر سنة إلهية، لا تتخلف ولا تتبدل .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #162  
قديم 08-11-2008, 12:31 AM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض


واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها؛ كيف لا وقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } (آل عمران:104) والأحاديث الثابتة في ذلك مستفيضة مشهورة .

لكن قد يُشكل على هذا الأصل ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } (المائدة:105) فقد يتبادر إلى الذهن أن ثَمَّة تعارض بين آية آل عمران - الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وبين آية المائدة، والتي يدل ظاهرها على لزوم الإنسان أمر نفسه، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، كما قد يفهم منها البعض ذلك، وليس الأمر في الواقع كذلك، وليس ثَمَّة تعارض بين الآيتين، وفيما يلي بيان لما قد يبدو من تعارض:


روى الترمذي في "جامعه" عن قيس بن أبي حازم ، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية، وتتأولونها على غير تأويلها: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

قال ابن كثير في توجيه آية المائدة: وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا؛ ثم استدل على هذا التوجيه بالأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنَّه فلا يستجيب لكم ) رواه أحمد .

وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي أن يتوهم من هذه الآية أنها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن جميع ذلك واجب بأدلة كثيرة، جاءت بها الشريعة؛ يوضح هذا أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى؛ ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

على أن آية المائدة نفسها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان ذلك من وجهين:

أولهما: أن قوله تعالى: { عليكم أنفسكم } معناه: ألزموا أنفسكم طاعة الله، وطاعة رسوله؛ ومن طاعة الله وطاعة رسوله القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

والوجه الثاني: أن قوله سبحانه: { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } يفيد أنه إذا تمسكنا بالهدى والتزمناه لم نؤاخذ بضلال من ضل، ولا بكفر من كفر؛ ومن جملة تمسكنا بالهدى، أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإن ذلك داخل في قوله تعالى: { إذا اهتديتم } وعلى هذا يكون معنى الآية: إذا سلكتم طريق الهداية، ومن جملته أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، حينئذ لا يضركم إعراض المعرضين، ولا ضلال الضالين، فإنه { لا تزر وازرة وزر أخرى } (الإسراء:15) .

ويرشح ما ذكرناه، أن الخطاب في الآية الكريمة إنما جاء بصيغة الجمع: { عليكم أنفسكم } و { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وليس بصيغة المفرد، فالمخاطبون في الآية هم جماعة المؤمنين، وليست الآية خطاب لأفراد مستقلين .

إذن، فليس في آية المائدة ما يعارض آية آل عمران؛ وليس فيها إطلاقًا ما يفيد أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى والرشاد. بل الذي تفيده عموم أدلة الشريعة - ومنها هذه الآية - وجوب دعوة الآخرين إلى هدى الله وشرعه. فإذا أقامت الأمة شرع الله في نفسها أولاً، تعيَّن عليها أن تدعوا الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم .

وهكذا، فكما صحَّح الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه فهمًا معكوسًا لمقتضى آية المائدة، فكذلك نحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد صارت أشق على النفس، وأشد وطئًا .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #163  
قديم 08-11-2008, 04:22 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض

في القرآن الكريم نقرأ قوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } (البقرة:256) ونحو ذلك من الآيات المشابهة؛ وفي المقابل نقرأ قوله تعالى: { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } (التوبة:29) وقوله سبحانه: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } (التوبة:123) ونحو ذلك من الآيات الحاثة على الجهاد .

والتعارض بين آية البقرة وآيتي التوبة ظاهر بأدنى تأمل؛ فآية البقرة وما شاكلها، تفيد منع الإكراه على الدين بحال؛ وآياتا التوبة ونحوهما تفيدان محاربة ومقاتلة الكافرين؛ فما السبيل الأسلم للتوفيق بين أمثال هذه الآيات، وما الطريق الأوفق لرفع ما يبدو من تعارض بينها .


بالعودة إلى ما ذكره المفسرون، حول الآيات موضوع الحديث، نقف على أقوال عديدة للعلماء، حاصلها قولان:

الأول: أن آية { لا إكراه } منسوخة بقوله تعالى: { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } (التوبة:73) إلا أن القول بالنسخ يعارضه أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من بعض الكفار مقابل الكف عنهم، وهذا ما يُضعف القول بالنسخ، كما أن النسخ لا يصار إليه، ويقال به إلا بعد العجز عن الجمع بين الدليلين .

الثاني: أن آية { لا إكراه } محكمة، ولكنها خاصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يُكْرَهون على الإسلام إذا أدُّوا الجزية، وكانوا تحت حكم المسلمين؛ أما غيرهم فيجبرون عليه؛ وهذا القول الثاني هو ما عليه أكثر أهل العلم، وقد استدلوا لما ذهبوا إليه، بما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، قال: ( نزلت في الأنصار، قال: كانت المرأة منهم إذا كانت نزرة أو مقلاة - الذي لا يعيش لها ولد - تنذر لئن ولدت ولدًا لتجعلنه في اليهود، تلتمس بذلك طول بقائه، فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير، قالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { لا إكراه في الدين } رواه البيهقي . وهذا الذي اختاره شيخ المفسرين الطبري وصوَّبه، وحمل عليه معنى الآية، فقال: ( وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآية في خاصِّ من الناس ) ثم قال: عنى بقوله تعالى ذكره: { لا إكراه في الدين } أهل الكتابين والمجوس، وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه ) .

هذا حاصل أقوال المتقدمين في الجمع بين هذه الآيات؛ والواقع فإن الناظر في كتب التفسير المتقدمة عمومًا، يجد أن المفسرين لم يخرجوا عن هذين القولين، في الأغلب، ورجَّح أكثرهم القول بأن آية البقرة خاصة بأهل الكتاب ومن شاكلهم .

وإن كان ثمة من ملاحظة نبديها على هذا المسلك، فهي أن نقول: إن القول بالتخصيص هنا لا يرفع التعارض الواقع بين الآيات موضوع الحديث، ناهيك على أن القاعدة التفسيرية تقرر: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب .

أما عن أقوال المتأخرين، فإننا نكتفي بالوقوف عند قولين منها:

القول الأول: قول سيد قطب " في ظلال القرآن " إذ رأى - رحمه الله - أن الإكراه على العقيدة والدين أمر ينافي حقيقة دعوة الإسلام، فينبغي أن يترك الناس - كأفراد - وما يختارونه من دين ومعتقد، لكن ينبغي أن تزال من طريقهم تلك العوائق التي تمنعهم من إبصار حقيقة هذا الدين، وتصدهم عن دين الإسلام؛ ونص عبارته: إن ( الإسلام بوصفه دين الحق، الوحيد القائم في الأرض، لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من جهة؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق، على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه، ولا من تلك العوائق المادية كذلك ) ويوضح هذه الحقيقة بقوله: ( { لا إكراه في الدين } أي: لا إكراه على اعتناق العقيدة، بعد الخروج من سلطان العبيد، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله؛ أو أن { الدين كله لله } بهذا الاعتبار ) .

فآية: { لا إكراه } وما شاكلها - حسب رأي سيد - موضوعها الأفراد؛ وآية: { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة } وما وافقها، فموضوعها تلك العوائق المادية والمعنوية، التي تصد الناس عن معرفة دين الحق، وتمنعهم من الانضواء تحت لوائه .

وظاهر من كلام سيد - رحمه الله - أنه وفَّق بين الآيات توفيقًا متَّجهًا، تؤيده الأدلة ولا تأباه، وأعمل كل دليل وَفْق ظرفه، وحسب حاله، وهذا أمر معهود، وطريق مقبول عند العلماء، للتوفيق بين الأدلة .

أما القول الثاني، فهو قول الشيخ ابن عاشور وقد ذكره في تفسيره " التحرير والتنوير " وحاصل ما قال بهذا الصدد: إن آية { لا إكراه في الدين } ناسخة لآيات القتال، وأن هذه الآية - وأيضًا حسب رأي ابن عاشور - نزلت بعد فتح مكة، واستخلاص بلاد العرب، فنسخت حكم القتال على قبول الإسلام، ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام، وهو المعبَّر عنه بالذمة، ووضَّح هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .

وكلام ابن عاشور صريح، أو على الأقل ما يُفهم منه، أن آية: { لا إكراه في الدين } ناسخة لآيات القتال، وحاكمة عليها؛ ولنا على ما ذهب إليه الشيخ ابن عاشور بضع ملاحظات:

- أن القول بالنسخ لا يصار إليه - كما هو مقرر أصوليًا - إلا عند عدم إمكانية الجمع بين الأدلة، والجمع هنا ممكن، وبالتالي فلا مجال للقول بالنسخ هنا .

- أن ما ذهب إليه ابن عاشور مخالف لما عليه أكثر أهل العلم، في توجيه هذه الآية، وقد عرفنا مذهب الجمهور آنفًا، وأن آية { لا إكراه } خاصة بأهل الكتاب .

- ثم إنا نقول: إن المتتبع لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، يجد أن سيرته على خلاف ما قرره ابن عاشور ، بخصوص تشريع آيات الجهاد؛ وذلك أن مجاهدة الكافرين كانت ثابتة في سيرته صلى الله عليه وسلم، إلى حين وفاته عليه الصلاة والسلام، يرشد لهذا أمره بتجهيز جيش أسامة لقتال الروم قبل وفاته بمدة قصيرة .

- على أن من المعلوم من تاريخ نزول الآيات، أن سورة براءة - وفيها آيات الجهاد - هي من أواخر ما نزل من القرآن، فإذا كان لا بد من القول بالنسخ، فالأصوب أن يقال: إن آيات الجهاد - الواردة في سورة براءة - هي الناسخة لآية البقرة وليس العكس، وهذا مذهب بعض أهل العلم .

إذا تبين هذا، فالذي يقتضيه النظر بين الأدلة، وما تقتضيه قواعد الأصول، أن نقول: إن إمكانية الجمع هنا ممكنة، وبالتالي فلا وجه للقول بالنسخ هنا، والأصوب أن يقال: يُعمل بهاتين الآيتين، كل في موضعه، وكل بحسب ظرفه؛ فآية البقرة: { لا إكراه في الدين } يُعمل بها على مستوى الأفراد، فلا يُكره أحدٌ على اعتناق الإسلام والدخول فيه .

أما آيات الجهاد والقتال، فيُعمل بها عندما يُواجَه هذا الدين من قِبَل أعدائه، أو يُمنع من تبليغ رسالة رب العالمين، إذ هي الهدف الأساس من دعوة الإسلام، ليكون { الدين كله لله } (الأنفال:39) وبذلك تلتئم الأدلة وتتفق، ويُحمل كل دليل بحسب ظرفه وسياقه .

على أن من المفيد الإشارة هنا إلى أن ابن القيم رحمه الله تكلم كلامًا جيدًا في هذا السياق، يمكن الرجوع إليه في كتابيه ( زاد المعاد ) و ( هداية الحيارى ) .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #164  
قديم 09-11-2008, 11:51 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض

تعارض آية وحديث



وصف سبحانه بيته الحرام - بما فيه الكعبة المشرفة - بالأمن، فقال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: { أولم نمكن لهم حرما آمنا } (القصص:75)؛ ووردت آيات عديدة، يفيد مجموعها كون البيت الحرام بيتًا آمنًا للناس؛ قال تعالى: { ومن دخله كان آمنا } (آل عمران، وكان من دعاء إبراهيم عليه السلام: { رب اجعل هذا البلد آمنا } (إبراهيم:35) .

وهذه الآيات التي تخبر بأن البيت الحرام مكان آمن للناس، ورد مقابلها حديث، يُخبر بخراب الكعبة، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرب الكعبة ذو السويقتين - صاحب الساقين الصغيرتين - من الحبشة ) متفق عليه .

وأيضًا، فإن بعض الوقائع في التاريخ الإسلامي، تثبت أن البيت الحرام قد ناله الخراب والدمار؛ كما حدث في عهد يزيد بن معاوية أثناء حربه مع ابن الزبير ، وما حدث كذلك من أفعال القتل والتخريب التي قام بها القرامطة في القرن الرابع الهجري، وغير ذلك من الوقائع .

وفي حديث ذي السويقتين، ووقائع التاريخ الإسلامي ما يعارض صفة ( الأمن )، التي وصف الله بها بيته الحرام. فكيف يمكن الجمع والتوفيق بين الآيات، التي وصفت البيت بأنه آمن، وبين الحديث المُخْبِر عن تخريب الكعبة على يد ذي السويقتين ؟


أجاب العلماء على هذا السؤال بجوابين:

الأول: أن ( الأمن ) الذي أخبر به القرآن ليس أمنًا دائمًا، لا يزول ولا يحول، وإنما هو أمن محدود بقرب قيام الساعة، وانتهاء الحياة في هذه الدنيا، بحيث لا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله؛ وقد صح في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: ( لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله ) رواه مسلم . وفي رواية ابن حبان : ( ثم تظهر الحبشة، فيخربونه خرابًا، لا يعمر بعده أبدًا ). فإذا شارفت الحياة الدنيا على نهايتها، واقتربت الساعة، أرسل الله ذا السويقتين، فيخرب الكعبة، ويكون هذا من علامات اقتراب الساعة. فليس في الآية ما يدل على استمرار الأمن ودوامه، ويكون معنى قوله تعالى: { حرما آمنا }، أي: آمنا إلى قرب القيامة، وخراب الدنيا، وبذلك يندفع التعارض، ويزول الإشكال بين الآية والحديث .

ثانيًا: أن قوله تعالى: { أولم نمكن لهم حرما آمنا }، على عمومه، وما ورد من أحاديث ووقائع تاريخية تنافي وصف البيت بالأمن الذي جاءت به الآية، فإنما هي استثناءات عارضة، وأمور طارئة، ليس لها صفة الدوام، بل سرعان ما تزول، وسيبقى البيت كما أخبر تعالى: { حرما آمنا }، تهوي إليه أفئدة الناس من كل حدب وصوب؛ قال ابن بطال: " فهذا شرط الله لا ينخرم ولا يحول، وإن كان في خلاله وقت يكون فيه خوف، فلا يدوم، ولابد من ارتفاعه، ورجوع حرمتها وأمنها، وحج العباد إليها ". واسترشد من قال بهذا القول، بقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليحجن البيت، وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ) رواه البخاري .

على أن من العلماء من ذهب إلى أن عموم الآية مخصص بالحديث، غير أن ما تقدم من التوفيق بين الآية والحديث، هو الذي ذهب إليه أكثر أهل العلم .

وحاصل القول من كل ما تقدم، أنه لا تعارض بين قوله تعالى: { أولم نمكن لهم حرما آمنا }، وبين قوله عليه الصلاة والسلام: ( يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة )، وأن الحديث مبين للآية، وموضح لمجملها .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #165  
قديم 16-11-2008, 03:38 AM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض


تعارض آية وحديث


من أسمائه الحسنى سبحانه ( العدل )، والعدل أساس الشرائع السماوية، وعليه قامت السماوات والأرض. وقاعدة الشريعة أن الإنسان خُلق مكلفًا، ومحاسبًا على عمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؛ ويتبع هذه القاعدة، أن الإنسان لا يحمل تبعات غيره، ولا يعاقب على ما فعله الآخرون؛ فليس مما يقتضيه الشرع، ولا مما يقبله العقل، أن يحمل الإنسان تبعات أعمال، لم يكن له فيها ناقة ولا جمل .


وقد صرح القرآن الكريم في أكثر من آية، أن الإنسان ليس مسؤولاً عن أفعال غيره، ولا يعاقب عليها، وإنما يحاسب على ما فعله، يقول تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } (الأنعام:164) والآية صريحة في أن الإنسان لا يحمل ذنب غيره، وإنما يحمل ما كسبته يداه فحسب .



ومن جانب آخر، فقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) متفق عليه، وفي رواية ثانية: ( إن الميت ليعذب ببكاء الحي ) متفق عليه؛ وفيه تصريح بأن الميت يلحقه العذاب بسبب بكاء الحي عليه .



وواضح أن بين الآية الكريمة، وبين الحديث شيء من التعارض؛ وذلك أن الآية نفت أن يُحَمَّل الإنسان تبعات غيره؛ في حين أن الحديث أثبت العذاب بذنب الغير. فكيف يكون وجه التوفيق والجمع بين الآية والحديث ؟



لقد جمع العلماء بين الآية والحديث بعدة توجيهات، تتباين قربًا وبعدًا، وتختلف قوة وضعفًا، إلا أنها في النهاية تتفق على إمكانية الجمع بينهما، وعدم وجود أي منافاة، وبيان ذلك فيما يلي:



التوجيه الأول: أن العذاب الذي يلحق الميت، إنما يكون لمن أوصى بالبكاء عليه بعد مماته؛ فإذا فعل ذلك ناله من العذاب بسبب ما أوصى به، لأنه إيصاء بما يخالف الشرع، ويكون العذاب في هذه الحالة بسببه هو، وليس بفعل غيره؛ أما إذا كان الميت قد أوصى أهله بعدم البكاء والنوح عليه، ففعلوا ذلك، ولم ينفذوا وصيته، فلا يناله من العذاب شيء، بل الإثم لمن فعل ذلك منهم؛ لقوله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } .



وقد استأنس أصحاب هذا التوجيه له، بأنه كان من عادة العرب أن يوصوا أهلهم بالنوح عليهم، واستمر ذلك من عادتهم إلى أن جاء الإسلام، وأبطل تلك العادة، ومن أشعارهم في هذا الصدد، قول طرفة بن العبد :



إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد



وقول لبيد بن ربيعة :



تمنى ابنتيا أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر


إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر



وإلى هذا التوجيه ذهب جمهور أهل العلم .



التوجيه الثاني: أن العذاب يلحق من علم من عادة أهله البكاء والنواح، وأهمل نهيهم عن ذلك؛ أما إن كان نهاهم عن البكاء عليه، ثم هم فعلوا ما نهاهم عنه، فلا يلحقه شيء من العذاب، وإنما الإثم عليهم، والذنب ذنبهم، لأنه أدى ما عليه. ومقتضى هذا القول، أنه يجب على الإنسان، إذا علم من عادة أهله البكاء والنواح، أن ينهاهم عن ذلك، فإن لم يفعل، لحقه العذاب لتقصيره؛ لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا } (التحريم:6) .



التوجيه الثالث: أن يكون المقصود بـ ( التعذيب ) في الحديث، العذاب بمعناه اللغوي، وهو مطلق الألم، وليس العذاب الأخروي؛ فيكون تعذيب الميت على هذا التوجيه معناه: تألمه بما يكون من أهله من نياحة وعويل، وتألمه كذلك لعدم التزامهم شرع الله؛ وإلى هذا القول ذهب الطبري ، ورجحه القاضي عياض ، واختاره ابن تيمية ؛ واستدلوا له بقوله صلى الله عليه وسلم: ( فوالذي نفس محمد بيده، إن أحدكم ليبكي، فيستعبر إليه صويحبه، فيا عباد الله ! لا تعذبوا موتاكم ) رواه ابن أبي شيبة و الطبراني ، وقال ابن حجر : حسن الإسناد، و( الاستعبار ) هو دمع العين؛ فالإنسان إذا مات، فبكى عليه أهله وأصحابه، فإنه يشعر ببكائهم، فيتألم لألمهم، فيكون ذلك عذابًا له .



ويشار هنا إلى أن البكاء الذي ذكر في الأحاديث، ورتب العذاب عليه، المقصود منه البكاء المصحوب بالنواح والعويل والصياح ونحو ذلك، فهذا النوع من البكاء هو المنهي عنه، والمحذر منه؛ أما بكاء العين ودمعها، فهذا لا حرج فيه، ولا يشمله ما جاءت به الأحاديث .



وبذلك يتبين، أن الإنسان لا يعذب بذنب غيره، إلا إذا كان متسببًا فيه، فيعاقب حينئذ على تسببه وتقصيره؛ أما ما سوى ذلك، فلا تكسب كل نفس إلا ما عملت، قال تعالى: { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } (البقرة:286) .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #166  
قديم 17-11-2008, 05:28 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض


تعارض آية وحديث

الحسد صفة مَرضِيِّة مذمومة، وهو من أشد أمراض القلوب فتكًا بصاحبه؛ ومن كلامهم فيه:

لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله

وقد نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن التلبس بهذه الصفة، فقال: ( لا تحاسدوا ...)؛ وكان من جملة ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أمته بأن قال: ( دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء ) رواه الترمذي .

والقرآن الكريم نهى المؤمنين عن تمني ما للآخرين من نعمة، وطلب منهم التوجه بالسؤال إلى الله؛ طلبًا لفضله، وأملاً بعطائه، فقال تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله } (النساء:32)، وقد فُسرت الآية الكريمة بالحسد، وهو تمني الرجل نفس ما أُعطيَ أخوه من نعمة، بحيث تنتقل تلك النعمة إليه؛ وفُسرت كذلك بتمني ما هو ممتنع شرعًا، كتمني النساء أن يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد، والفضائل الدنيوية كالمساواة في الميراث، والإدلاء في الشهادات؛ أو تمني ما هو ممتنع قدرًا، كتمني النساء أن يكن رجالاً، وأن يكون لهن من القوة ما لهم، أو كتمني أحد من هذه الأمة، أن يكون نبيًا بعد ما أخبر الله تعالى، أن نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء .

بالمقابل، نقرأ في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق؛ ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها ) متفق عليه .



وظاهر هذا الحديث يدل على أن الحسد مذموم إلا في خصلتين اثنتين، فهو فيهما محمود وممدوح؛ وهاتان الخصلتان هما: طلب العلم للعمل والتعليم، وطلب المال لإنفاقه في أبواب الخير .

وربما يشكل هذا الحديث مع ما جاء في الآية السابقة، الناهية عن تمني ما في أيدي الآخرين من نعمة وفضل؛ ووجه ذلك، أن الآية الكريمة أطلقت النهي عن تمني ما فضَّل الله به بعض عباده على بعض؛ في حين أن الحديث الشريف نهى عن الحسد عمومًا، واستثنى منه أمرين: طلب العلم، وطلب المال. فكيف نفهم نهي الآية واستثناء الحديث ؟

لقد تعرض شرَّاح الحديث لهذا الإشكال، وأجابوا عنه بأن قالوا:

إن الحديث حضَّ على تمني مثل النعمة التي أنعم الله بها على بعض عباده؛ بينما الآية الكريمة نهت عن تمني عين تلك النعمة؛ وبعبارة أوضح: إن الحديث وجَّه المؤمن إلى تمني أن يكون له مثل ما للآخرين من نِعَم، دينية كانت أو دنيوية؛ أما الآية فقد نهت المؤمن عن تمني حصول النعمة ذاتها التي أنعم الله بها على بعض عباده. وعلى هذا تكون الآية نهت عن تمني الإنسان ما في يدي غيره، بحيث تخرج من يده وتصير إليه؛ في حين أن الحديث رغب المؤمن أن يتمنى أن يكون له من الخير مثل ما للآخرين، من غير أن تزول تلك النعمة عنهم .

ومما يلقي مزيد ضوء على توضيح هذا الإشكال، أن العلماء قسموا الحسد إلى قسمين، أحدهما: محمود؛ والثاني: مذموم؛ فأما الحسد المحمود، فيسمى حسد الغبطة، وهو أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل ما للآخرين، من غير أن تزول تلك النعمة عنهم؛ أما الحسد المذموم - وهو المراد عند الإطلاق - فهو أن يتمنى المرء زوال النعمة عن الغير، سواء عادت تلك النعمة إليه، أم عادت إلى غيره .

وانطلاقًا من هذا التقسيم للحسد، يمكن أن نفهم أن الحسد المنهي عنه في الآية هو الحسد المذموم، وهو تمني زوال النعمة عن الغير؛ أما الحسد الذي رغَّب فيه الحديث النبوي فهو حسد الغبطة؛ وشتان ما بينهما .

وبحسب ما تقدم، يتضح وجه التوفيق بين ما يبدو من تعارض بين الآية والحديث .

واعلم أن ما قيل في التوفيق بين الآية وهذا الحديث، يقال أيضًا في الحديث الآخر، وفيه قوله صلى عليه وسلم: ( إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل؛ وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو نيته، فأجرهما سواء؛ وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل؛ وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيته، فوزرهما سواء ) رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح .

ومما هو وثيق الصلة بموضوع المقال أن يقال: لا بأس أن يغبط المؤمنُ المؤمنَ على ما يفعله من أعمال البر، وأن يتمنى أن لو فعل مثل ما فعله، ويعمل على تحصيل ذلك؛ بل إن المؤمن حقًا مطالب بأن ينظر في أمور الدين إلى من هو فوقه، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال تعالى: { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } (المطففين:26)؛ فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية، اجتهد أن يلحق به، وحزن على تقصيره وتخلفه عمن سبقه؛ لا حسدًا لهم على ما آتاهم الله، بل منافسة لهم، وغبطة وحزنًا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين؛ وكذلك في أمور الدنيا، لا حرج على المؤمن أن يطلب من أمرها ما يكون مشروعًا ومقدورًا عليه .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #167  
قديم 19-11-2008, 11:45 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض

الاعتراض على نصوص الشريعة - قرآنًا وسنة - والنيل منها، والتنقص من قدرها، وتوهين أمرها، أمر كان ولا يزال شغل المشككين في هذا الدين، والضعفاء من أتباعه وأشياعه .



وفي هذا السياق، يطالعنا من يعلم ظاهرًا من العلم دون حقيقته، بأن ثمة تعارضًا بين آيات وردت في القرآن الكريم، تصرح بأن دخول الجنة إنما يكون بعمل العبد، ونتيجة لسعيه وكسبه؛ في حين أن هناك أحاديث وردت في "الصحيحين" تصرح أيضًا أن دخول الجنة ليس جزاء لعمل العبد، ولا هو نتيجة لسعيه، وإنما هو بفضل الله ورحمته .




ويفصل البعض الشبهة، بقوله: ( إن حديث: ( لن يدخل أحدًا عمله الجنة ) مخالف لقوله تعالى: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (النحل:32) ويضيفون إلى هذا قائلين: إن في القرآن آيات كثيرة في هذا المعنى...وإن ( صحيح البخاري ) فيه أصح الأحاديث، ولكن الناس بالغوا في تقديره، حتى وصلوا إلى تقديسه، مع أن المحدِّثين يقررون أن الحديث مهما كانت درجته، إذا خالف القرآن، ولم يمكن التوفيق بينه وبين الآية، نحكم بأن الرسول لم يقله ) .



هذا حاصل قول من قال بهذه الشبهة. ومراد قائلها أن يضع ويقلل من قيمة ( صحيح البخاري ) ومن باب أولى أن يسحب هذا الطعن إلى ما سواه من كتب السنة؛ وذلك بحجة أن فيها ما يعارض القرآن ويخالفه !!



وليس غرض مقالنا الرد على من أراد الطعن في كتب السنة، وما حوته من أحاديث وآثار، فقد كتب في هذا الكثير، وفي محور الحديث على موقعنا ما يفي بهذا الغرض، لكن حسبنا في مقالنا هذا أن نبين وجه التوفيق والجمع فيما يبدو من تعارض بين الآية والحديث، إذ هو الأليق بموضوع هذا المحور، محور القرآن الكريم .



وللوصول إلى ما عقدنا المقال لأجله، نستعرض بداية بعضًا من الآيات القرآنية التي تثبت وتصرح بأن دخول العبد الجنة إنما هو بعمله، وجزاء لسعيه؛ ثم نردف تلك الآيات ببعض الأحاديث التي تقرر وتصرح بأن دخول الجنة ليس نتيجة لعمل العبد، ولا هو جزاء على سعيه وكده، وإنما هو بفضل الله ورحمته؛ ثم نعطف على ذلك بنقل أقوال أهل العلم في وجوه التوفيق بين الآيات والأحاديث الواردة في هذا الموضوع، محاولين أن نستخلص منها القول الفصل في هذة المسألة. لكن قبل هذا وذاك نرى من المناسب - بل وربما من المهم - أن نمهد بكلمة موجزة تتعلق بمسألة التعارض بين نصوص الشريعة، فمن هذه النقطة نبدأ، فنقول:



إن القول بوجود تعارض حقيقي بين نصوص الشريعة - قرآنًا وسنة صحيحة - إنما يصدر عن أحد رجلين؛ إما عن جاهل لا حظ له من علم الشريعة في شيء، فمن كان هذا شأنه فليس من المستغرب أن يصدر عنه مثل هذا القول، ويبني عليه ما يريد أن يبني؛ وإما عن حاقد مضاد لهذه الشريعة، يتقول عليها ما يوافق أغراضه وأهوائه، وغير هذين الرجلين لا نقف على قائل بوجود تعارض تام بين نصوص الشريعة، أو تناقض فيما جاءت به من أحكام وأخبار .



ثم إنه من المفروغ منه عند كل من رضي الإسلام دينًا، والتزم به شرعة ومنهجًا، أن القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة، كلاهما يصدران عن مشكاة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك كان وجود التعارض بين نصوص الشريعة - قرآنًا وسنة - أمرًا غير واقع، بل هو غير وارد بحال من الأحوال، وإن بدا شيء من ذلك فهو فيما يبدو للإنسان بسبب محدودية قدراته العقلية، لا على أن واقع الأمر كذلك. كيف لا وقد قال الله سبحانه: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } (النساء:82) فالآية الكريمة تقرر وتبين أن القرآن لو كان من عند غير الله سبحانه، لكان الاختلاف فيما جاء فيه وتضمنه أمر كائن وحاصل، بل هو الأمر الطبعي، أما وإنه ليس كذلك، إذ هو من عند الله سبحانه، فإن وقوع الاختلاف فيه أوالتناقض أمر غير وارد؛ لأن ذلك مما لا يليق بصفات الله سبحانه وتعالى .



ثم إن نفي الاختلاف الوارد في الآية الكريمة الآنفة الذكر، ليس عن القرآن فحسب، بل هو أيضًا عن السنة الصحيحة الثابتة؛ لأنها شارحة ومفصلة ومبينة للقرآن، قال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } (النحل:44) وإذا كان الأمر كذلك، ثبت أن شأن القرآن والسنة واحد، ما دام أن مصدرهما واحد، وبالتالي امتنع أن يقع التعارض الحقيقي بينهما .



على أنه لا يُنكر وجود تعارض من حيث الظاهر بين آية وأخرى، أو بين آية وحديث، أو بين حديث وحديث؛ لكن كل ما يبدو من هذا وذاك، هو عند التحقيق والتدقيق منتف ومعدوم، وإنما هو تعارض فيما يبدو للناظر، لا أنه كذلك في واقع الأمر .



أجل هذا الملحظ، وجدنا أهل العلم - وخاصة علماء الأصول - يخصصون فصولاً في كتبهم تحت عنوان ( التعارض والترجيح بين الأدلة ) أو شيء من هذا القبيل، وهم يبحثون فيها ما كان من الأدلة ظاهره التعارض، ويقررون في ذلك قواعد تتعلق بالتوفيق والترجيح بين النصوص المتعارضة في ظاهرها، والمتوافقة في حقيقتها .



فإذا تبين ما تقدم، ظهر لنا أن ما قامت عليه هذه الشبهة من بنيان، إنما هو في الحقيقة بنيان هاو وهار؛ من جهة أن النصوص التي قامت عليها هذه الشبهة نصوص ثابتة لا شك في سندها، ولا مطعن فيها بحال، وإنما الطعن والشك قد يرد على طريقة فهمها، ومنهج التوفيق بينها، مما قد تختلف فيه الأنظار، وتتباين فيه الأفكار .


يتبع
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #168  
قديم 19-11-2008, 11:46 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

تابع لما قبله


بعد هذا التوضيح لمسألة التعارض بين النصوص، نتجه صوب الشبهة - موضوع حديثنا - لنرى مدى صحة هذه الشبهة، ومدى قوة أو ضعف ما قامت عليه واستندت إليه. وهذا ما نسعى إلى توضيحه في الفقرات التالية، فنقول:



وردت في القرآن الكريم آيات صريحة، تبين أن دخول الجنة مرتبط بعمل الإنسان، ومتوقف على سعيه وجهده في هذه الحياة. ويفهم من تلك الآيات أن ثمة علاقة سببية بين فعل الإنسان ودخوله الجنة، وأن العمل سبب للدخول، وأن الدخول نتيجة للعمل؛ من ذلك نورد الآيات الآتية:



- قوله تعالى: { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } (الأعراف:43) وقال تعالى: { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (النحل:32) ويقول سبحانه: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } (الزخرف:72) فهذه الآيات وما شاكلها تدل على أن سعي الإنسان وكسبه والعمل بما أمر الله به كان سببًا لدخوله الجنة. ويفهم من هذه الآيات أن من لم يعمل بطاعة الله في هذه الدنيا، ولم يلتزم بأحكام شرعه فليس له نصيب من الجنة، ولن يكون من داخليها ولا من أصحابها. فهذا بعض من الآيات الواردة في هذا الشأن؛ أما الأحاديث، فنسوق منها:



- ما رواه البخاري في "صحيحه" أن أبا هريرة رضي الله عنه،قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ( لن ينجي أحدًا منكم عمله ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة، سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا ) وقد روى البخاري هذا الحديث في موضعين آخرين من "صحيحه" بألفاظ متقاربة .





- وروى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ( لن ينجي أحدًا منكم عمله ، قال رجل: ولا إياك يا رسول الله ! قال: ولا إياي، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، ولكن سددوا ) وقد روى مسلم هذا الحديث في مواضع أُخر من "صحيحه" بألفاظ متقاربة أيضًا .

- والحديث رواه عدد من أئمة الحديث؛ فهو في ( صحيح ابن حبان ) و( مسند الإمام أحمد ) و( سنن ابن ماجه ) و( السنن الكبرى ل لبيهقي ) وهو عند الطبراني في ( المعجم الكبير ) و( الأوسط ) وهو في ( مسند أبي يعلى ) و( مسند الطيالسي ) وغيرها من كتب الحديث .



وإذا كان الأمر كذلك، فالحديث ثابت سندًا لا شك فيه ولا مطعن، وهو إن لم يكن إلا في "الصحيحين" لكفى، فكيف وهو في غيرها من كتب الحديث .

بعد ما تبين من تحرير موضع الشبهة، يجدر بنا أن نتجه إلى أقوال أهل العلم - وشراح الحديث منهم خاصة - لنرى ماذا يقولون في توجيه هذا التعارض، وماذا يقررون في منهج التوفيق بين الآية والحديث؛ والبداية مع الإمام النووي في شرحه على ( صحيح مسلم ) فماذا يقول النووي عند شرحه لحديث: ( لن ينجي أحدًا منكم عمله ) ؟



- بعد أن يقرر الإمام النووي عقيدة أهل السنة في مسألة الثواب والعقاب، وأن ذلك ثابت بالشرع لا بالعقل، خلافًا للمعتزلة، يقول بعد تلك التقدمة: (... وفى ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لايستحق أحد الثواب والجنة بطاعته ) ثم يورد ما يَرِدُ من اعتراض أو تعارض بين هذا الحديث - وما شاكله من أحاديث - وبعض الآيات القرآنية، فيقول: ( وأما قوله تعالى: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } { وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون } ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يُدْخَل بها الجنة، فلا يعارض هذه الأحاديث، بل معنى الآيات: أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للاخلاص فيها وقبولها برحمة الله تعالى وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال، أي: بسببها، وهي من الرحمة ) إذًا، يقرر النووي ألا تعارض بين الآيات والأحاديث، وأن وجه التوفيق بينهما، بأن يقال: إن دخول الجنة نتيجة لعمل العبد، لكن عمل العبد لا يكون إلا بتوفيق من الله، وفتح منه، وبذلك تتفق النصوص وتتوافق. وهذا حاصل ما قرره النووي في هذه المسألة .



- أما ابن حجر في ( فتح الباري ) فهو ينقل بعضًا من أقوال أهل العلم في المسألة؛ لبيان وجه التوفيق بين الأحاديث والآيات الواردة في هذا الشأن؛ فنقل قول ابن بطال بأن: ( تحمل الآية على أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها ) .

ويدلي ابن حجر بدلوه في المسألة، فيقول: ( ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر، وهو أن يحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولاً، وإذا كان كذلك، فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه. وعلى هذا، فمعنى قوله تعالى: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } أي: تعملونه من العمل المقبول. ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة أو للإلصاق أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية ) وما قرره ابن حجر يلتقي في المحصلة مع ما قرره النووي .



- أما ابن كثير ، فيقول في توجيه هذا التعارض: (...{ وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } أي: أعمالكم الصالحة كانت سببًا لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحدًا عمله الجنة، ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات يُنال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات...) ثم يؤيد هذا التوجيه للآية، بما رواه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كل أهل النار يرى منـزله من الجنة، فيكون له حسرة، فيقول : { لو أن الله هداني لكنت من المتقين } (الزمر:57) وكل أهل الجنة يرى منـزله من النار، فيقول : { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } (الأعراف:43) فيكون له شكراً ) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من أحد إلا وله منـزل في الجنة ومنزل في النار؛ فالكافر يرث المؤمن منـزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منـزله من الجنة . وذلك قوله تعالى: { وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون } (الزخرف:72). وحاصل كلام ابن كثير في هذه المسألة، أنه لا تعارض بين الآيات الدالة على ارتباط الجزاء بالعمل، وبين الأحاديث الدالة على أن دخول الجنة إنما يكون بفضل الله وبرحمته؛ من جهة أن القيام بالأعمال إنما هو حاصل من الله سبحانه بتوفيق العبد للقيام بها، وليس للعبد في ذلك سببية حقيقية في القيام بهذه الأعمال، ونيل الجزاء عليها، بل هي سببية عادية على حسب ما أقام الله عليه أمر الدنيا من الأسباب الظاهرة .



- ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية وجه التوفيق بين الآية والحديث، بأن نيل الجنة ليس لمجرد العمل؛ إذ العمل مجرد سبب فحسب؛ ولهذا قال النبى صلى الله عليه و سلم: ( لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ..) أما قوله تعالى: { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } قال: فهذه ( باء السبب ) أي: بسبب أعمالكم؛ والذى نفاه النبي صلى الله عليه وسلم ( باء المقابلة ) كما يقال: اشتريت هذا بهذا، أي: هذا مقابل هذا؛ ويكون المعنى: ليس العمل عوضًا وثمنًا كافيًا لدخول الجنة، بل لابد من عفو الله وفضله ورحمته؛ فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف البركات .



- وقد سار ابن القيم على درب شيخه في التوفيق بين ما يبدو من تعارض الآية والحديث، واستحسن في الجواب أن يقال: إن ( الباء ) المقتضية لدخول الجنة، غير ( الباء ) التي نفي معها الدخول؛ فالمقتضية هي ( باء ) السببية، الدالة على أن الأعمال سبب لدخول الجنة، ومقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها؛ و( الباء ) التي نفي بها الدخول، هي ( باء ) المعاوضة والمقابلة، التي في نحو قولهم: اشتريت هذا بهذا؛ فالحديث النافي أن يكون العمل سببًا لدخول الجنة، يقرر ويفيد أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل العبد، بل هو برحمة الله وفضله، فليس عمل العبد وإن تناهى موجبًا وكافيًا بمجرده لدخول الجنة، ولا عوضًا لها. فإن أعمال العبد وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه، فهي لا تقارن نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا، ولا تعادلها، بل لو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له، ولو رحمه لكانت رحمته خيرًا له من عمله. وهذا حاصل جواب ابن القيم في هذه المسألة .



- على أن المتأخرين من أهل العلم، لم يخرجوا في التوفيق بين الآية والحديث عن فحوى ما قاله المتقدمون؛ فهذا ابن عاشور في ( التحرير والتنوير ) يقول: و( الباء ) في قوله: { بما كنتم تعملون } سببية، أي: بسبب أعمالكم، وهي الإيمان والعمل الصالح ). لكن السببية هنا ليست سببية محضة، بل هي سببية ظاهرة كما قدمنا؛ لذلك نجده يُتبع ما تقدم من كلامه بالقول: ( وهذا الكلام ثناء عليهم بأن الله شكر لهم أعمالهم، فأعطاهم هذا النعيم الخالد لأجل أعمالهم، وأنهم لما عملوا ما عملوه من العمل، ما كانوا ينوون بعملهم إلا السلامة من غضب ربهم، وتطلب مرضاته شكرًا له على نعمائه، وما كانوا يمتون بأن توصلهم أعمالهم إلى ما نالوه، وذلك لا ينافي الطمع في ثوابه والنجاة من عقابه ) وقد دلل ابن عاشور على هذا التوجيه، بأن الآية جمعت بين لفظ ( الإيراث ) في قوله سبحانه: { أورثتموها } وبين ( باء ) السببية، في قوله تعالى: { بما كنتم تعملون } وذلك أن لفظ ( الإيراث ) دال على أنها عطية، بدون قصد تعاوض ولا تعاقد، وأنها فضل محض من الله تعالى؛ لأن إيمان العبد بربه وطاعته إياه لا يوجب إلا نجاته من العقاب، الذي من شأنه أن يترتب على الكفران والعصيان، وإلا حصول رضى ربه عنه، ولا يوجب جزاء ولا عطاء. وهذا محصل كلام ابن عاشور في هذه المسألة .

وفي الجملة، نستطيع أن نلخص أقوال أهل العلم في التوفيق بين الآية والحديث، بالنقاط التالية:



* أن الأعمال ليست سببًا حقيقًا لدخول الجنة، وإنما هي سبب حسب الظاهر والمعتاد والمألوف؛ وأن دخول الجنة إنما يحصل بفضل الله ورحمته .



* أن الأعمال سبب لدخول الجنة، لكن التوفيق للقيام بالأعمال، إنما هو من الله سبحانه؛ فضلاً منه على عباده، ورحمة منه لخلقه؛ ولولا رحمة الله وفضله لما وِفِّق العباد لفعل الطاعات، التي يحصل بها دخول الجنات .



* أن الأعمال سبب لدخول الجنة، لكنها ليست مقابلاً لها؛ فمن أراد دخول الجنة بعوض يقابلها، فلن يجد إلا رحمة الله وفضله، وتكون أعمال العباد سببًا لنيل تلك الرحمة .

* أن أصل دخول الجنة إنما هو بفضل الله، لكن اقتسام درجاتها ومنازلها، مرده إلى عمل العباد؛ فيقع التفاوت في تلك الدرجات والمنازل بحسب الأعمال؛ كما قال بعض السلف: ينجون من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلون الجنة بفضله ونعمته ومغفرته، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم .



على أن الأمر الذي يجدر التنبيه إليه في هذا المقام، أن ما نص عليه الحديث من كون دخول الجنة إنما يكون بفضل الله ورحمته، لا يفهم منه التقليل من سعي العبد وكسبه؛ لذلك جاء في الحديث نفسه: ( سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا ) أي: اقصدوا بعملكم الصواب، أي: اتباع السنة من الإخلاص وغيره، ليقبل عملكم، فتنـزل عليكم الرحمة .



نخلص من كل ما تقدم - وهو ما عقدنا المقال لأجله - أنه لا يوجد تعارض حقيقي بين آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول الأمين، وأن وجود تعارض من حيث الظاهر بين آية وحديث، لا يعني بحال إسقاط ذلك الحديث، وعدم اعتباره. ومن ظن أو اعتقد خلاف ذلك، فليس على بينة من أمره .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #169  
قديم 22-11-2008, 03:35 AM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

آيات ظاهرها التعارض


في سورة النساء نقرأ قوله تعالى: { أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله } (النساء:78) وبعدها مباشرة نقرأ قوله عز وجل: { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك } (النساء:79) ونقرأ أيضًا قوله سبحانه في سورة آل عمران: { قل هو من عند أنفسكم } (آل عمران:165) .

وقد يظن للوهلة الأولى أن قوله سبحانه: { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } مناف لقوله تعالى: { قل كل من عند الله } ولقوله أيضًا: { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } (آل عمران:166) ولقوله: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء:35) وليس الأمر كذلك .


وهذه القضية التي تتناولها الآيات السابقة، هي جانب من قضية كبيرة؛ القضية المعروفة في تاريخ العالم كله باسم " القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار" .

والواقع، فإن فهم هذه الآيات فهمًا صحيحًا يستدعي أمرين؛ أولهما: النظر إليها في السياق الذي وردت فيه؛ إذ لا يستقيم ولا يصح فهمها وهي منعزلة عن سياقها الخاص. وثانيهما: النظر إليها وفق المنظومة القرآنية العامة، أو بعبارة أخرى، النظر إليها نظرة كلية عامة، وضمن إطار الآيات القرآنية الأخرى؛ إذ إن آيات الكتاب يشهد بعضها لبعض، ويؤيد بعضها بعضًا. وانطلاقًا من هذين الأمرين نستطيع التوفيق بين ما قد يظهر من تعارض في الآيات التي نحن بصددها .

على ضوء هذا نقول: إن قوله سبحانه: { قل كل من عند الله } معناه: قل يا محمد، للقائلين إذا أصابتهم حسنة: { هذه من عند الله } وإذا أصابتهم سيئة: { هذه من عندك } قل لهم: إن كل ذلك من عند الله؛ فمن عنده سبحانه الرخاء والشدة، ومنه النصر والظَفَر، ومن عنده الفوز والهزيمة. ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { قل كل من عند الله } قال: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. وعن قتادة في قوله سبحانه: { قل كل من عند الله } قال: النعم والمصائب. وعن ابن زيد قال: النصر والهزيمة. وعن أبي العالية قال: هذه في السراء والضراء .

وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: إن كل ما أصاب الناس من خير أو شر، أو ضر أو نفع، أو شدة أو رخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. فالجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البِر والفاجر، والمؤمن والكافر. وفي هذا إعلام من الله لعباده، وتقرير لحقيقة مفادها: إن مفاتح الأشياء كلها بيده سبحانه، لا يملك شيئًا منها أحد غيره .

أما قوله عز وجل: { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } يعني: ما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه، فمن نفسك، أي: بسبب ذنب اكتسبته نفسك. وفي ذلك آثار أيضًا؛ فعن السدي قال: { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أي: من ذنبك. وعن قتادة قال: { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } أي: عقوبة يا ابن آدم بذنبك. وعن أبي صالح قال: بذنبك، وأنا قدَّرتها عليك.

وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد معنى هذه الآية؛ كقوله تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } (الشورى:30) أي: بذنوبكم وبما كسبت أيديكم؛ وقوله في سورة آل عمران بشأن أهل غزوة أحد: { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } (آل عمران:65) .

فحاصل المعنى هنا: ما أصابك أيها المؤمن من خصب ورخاء، وصحة وسلامة، وغنى وفقر، وسراء وضراء، ونعمة ونقمة، فبفضل الله عليك وإحسانه إليك؛ وما أصابك من جدب وشدة، وهمٍّ وغمٍّ، ومرض وسقم، فبذنب أتيته، وإثم اقترفته، وعمل كسبته، فعوقبت عليه .

وفي تفسير ابن كثير عن مطرف بن عبد الله قال: ما تريدون من القدر ؟ أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء: { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } أي: من نفسك؛ والله ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا وإليه يصيرون. قال ابن كثير معقبًا: وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضًا .

قال أهل العلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، كما قال تعالى: { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } (الأنبياء:35) .

فالآية - موضع البحث - تقرر حقيقة مهمة حاصلها: أن الله سبحانه هو المقدر لكل ما يقع في الكون؛ فما يقع في الكون من خير، فهو بتقديره؛ وما يقع من شر فهو بتقديره أيضًا، لكنه سبحانه - وهو العليم الحكيم - يقدر الشر والضر لسبب؛ فما أصابك أيها الإنسان من خير فهو بتقدير الله، وبسبب من أعمالك الصالحة، وما أصابك من شر فبسبب ذنوبك الطالحة، ولا يظلم ربك أحدًا .

إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير بالوسائل التي أرشد الله إليها، بَيَدَ أنَّ تحقق الخير فعلاً، لا يتم إلا بإرادة الله وقدره .

وكذلك، فإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدره .

فكل أمر في هذا الكون لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره. وما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة - بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يبدو في الظاهر، أو حسب ما هو في حقيقة الأمر والواقع - فهو من عند الله. لأنه لا ينشىء شيئًا ولا يحدثه ولا يخلقه ولا يوجده إلا الله .

أما ما يصيب الإنسان من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته. وما يصيبه من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند نفسه، لأنه بسبب تنكُّبه منهج الله، وإعراضه عن هدايته ومنهجه. وبهذا البيان يستقيم فهم الآيات والتوفيق بينها .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
  #170  
قديم 25-11-2008, 06:00 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

أمثال قرآنية


تناولت الأمثال القرآنية كثيرًا من القضايا التي تحيط بالإنسان في هذه الحياة؛ كقضايا الكفر والإيمان، والإيمان والنفاق، والهدى والضلال، والعلم والجهل، والخير والشر، والغنى والفقر، والحياة الدنيا والحياة الآخرة، وغير ذلك من القضايا .

ومن بين تلك القضايا التي تناولتها الأمثلة القرآنية قضية الحق والباطل، قال تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } (الرعد:14) .


هذه الآية الكريمة في جملتها تبين أن الذي يصح ويبقى في هذه الحياة، وينتفع به الناس غاية الانتفاع إنما هو الحق. وبالمقابل فإن كل ما كان خلاف ذلك من أنواع الباطل لا وزن له ولا قيمة ولا اعتبار، وسرعان ما يزول ويضمحل .

فهذه الآية تضمنت مثلين حسيَّين، يراد منهما إيصال فكرة واحدة، مفادها: أن الحق هو المنتصر في النهاية، وهو صاحب الكلمة الفصل في معركة الحياة، وأن الباطل هو الخاسر والمنهزم في المحصلة؛ فالمثل الأول وهو قوله تعالى: { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا } مضروب للماء الذي يُنـزله الله من السماء، فيتدفق في الأرض، فيملأ الأودية التي تشكل سيولاً جارفة، تحمل معها كل ما تصادفه في طريقها من القش والورق والفضلات وغير ذلك مما لا قيمة له في الحقيقة. ثم إن هذه السيول الجارفة تشكل على سطحها رغوة بيضاء على شكل فقاعات، سرعان ما يتلاشى شكلها، وينطفئ لونها. ويبقى الماء وحده هو الذي ينتفع به الناس، حيث يرفد الأنهار، ويغذي الينابيع، ويحمل معه الخير، فيحلُّ الخصب بعد الجدب، والنماء بعد القحط، والخير بعد الشح .

والمثل الثاني هو قوله تعالى: { ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله } ضربه سبحانه للنار الحامية التي تعرض عليها المعادن بأنواعها، ومنها الذهب والفضة، بقصد إزالة شوائبها وما خبث فيها، وفي أثناء عرضها على تلك النار تطفو على سطحها طبقة سائلة أشبه بالرغوة البيضاء التي تطفو على سطح الماء، لكنها سرعان ما تتلاشى في الهواء وتضمحل هنا وهناك، ويبقى جوهر المعدن الأصيل الذي ينتفع به الناس، فيصنعون منه أدواتهم، ويستعينون به على قضاء حوائجهم .

كذلك الحق والباطل في هذه الحياة؛ فالباطل قد يظهر، ويعلو، ويبدو أنه صاحب الجولة والكلمة، لكنه أشبه ما يكون بتلك الرغوة البيضاء التي تطفو على سطح ماء السيل، والمعدن المذاب، سرعان ما تذهب وتغيب، من غير أن يلتفت إليها أحد. في حين أن الحق، وإن بدا لبعضهم أنه قد انزوى أو غاب أو ضاع أو مات، لكنه هو الذي يبقى في النهاية، كما يبقى الماء الذي تحيى به الأرض بعد موتها، والمعدن الصافي الذي يستفيد منه الناس في معاشهم حلية أو متاعاً .

على أن في الآية الكريمة - غير ما تقدم - وجهاً آخر من التمثيل، ذكره بعض أهل العلم، وهو أن الماء الذي ضرب الله به المثل في هذه الآية، إنما المراد منه العلم والهدى الذي يبعثه الله على عباده عن طريق أنبيائه ورسله ودعاته، فيأخذ الناس منه حظهم، بقدر ما ييسرهم الله له، ويوفقهم إليه. فتكون عناصر التمثيل في هذه الآية - بحسب هذا الوجه - وفق التالي: الماء مراد به العلم والهدى. والأودية مراد منها القلوب التي تتلقى العلم والهدى. وسيلان الأودية بقدرها مراد منه حظ القلوب في قبول وتلقي ذلك العلم. والزبد الذي يطفو على سطح الماء والمعادن مراد منه الأباطيل والشكوك والشبهات والشهوات التي تنتاب الإنسان. وما يبقى من الماء الصافي بعد مضي السيل، والمعدن النقي بعد عرضه على النار مراد منه الحق الذي يبقى على مر الأيام والسنين؛ لأن من صفاته الثبات ومن خصائصه البقاء .

ووجه التمثيل - وفق هذا المسلك - أن السيل الجارف والمعدن المذاب كما يذهب زبدهما هنا وهناك، من غير اكتراث ولا اهتمام، فكذلك الأباطيل والشكوك تذهب من قلب المؤمن وتتلاشى ليحل مكانها الإيمان والهدى، الذي ينفع صاحبه، وينتفع به غيره .

وقد روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله في هذه الآية: هذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها. فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع الله به أهله، وهو قوله: { فأما الزبد فيذهب جفاء }، وهو الشك، { وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض }، وهو اليقين، كما يجعل الحلي في النار، فيؤخذ خالصة، ويترك خبثه في النار. فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك .

وعلى نحو هذا التمثيل في الآية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) متفق عليه .

والذي يستفاد من التمثيل الوارد في الآية جملة أمور:

أولها: أن العاقبة للمؤمنين، وأن الحق منتصر لا شك في ذلك، وإن كان الواقع يدل على غير ذلك؛ وأن الباطل لا محالة زائل، وإن كان في يوم من الأيام ممسكاً بالراية ورافعاً لها .

ثانيها: أن العمل الصالح هو الذي يبقى لصاحبه، وهو الذي يرجى منه الخير في الدنيا والآخرة، وأن العمل السيئ يذهب ولا يفيد صاحبه شيئاً .

ثالثها: أن العلم والهدى هو الذي ينفع المؤمن في هذه الحياة، وأن الشك والباطل لا يغنيا ولن يغنيا من الحق شيئاً .

أخيراً، يقول ابن القيم : إن من لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما .

وقد قال بعض السلف: كنت إذا قرأت مثلاً من القرآن فلم أفهمه، بكيت على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: { وما يعقلها إلا العالمون } (العنكبوت:43) .
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 139.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 133.68 كيلو بايت... تم توفير 5.91 كيلو بايت...بمعدل (4.23%)]