|
فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الخطأ في الفتوى وأثره على حياة المسلمين المعاصرة (الحلقة الأولى)
د. حماد عبدالجليل البريدي مركز سلف للبحوث والدراسات عن معاوية - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»، فالعلم هو أفضل ما رغب فيه الراغب، وسعى واجتهد فيه الطالب، والعلماء ورثة الأنبياء، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»، وأعظم أهل العلم منزلة المفتي الذي جعله الله بينه وبين الناس؛ لأنه يقوم مقام النبيين ويوقّع عن رب العالمين، وفي هذه الأيام التي اشتدت فيها الغربة وقل فيها العلم، وكثر فيها الجهل، وتكلم فيها الرويبضات، واتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، لذلك فقد وقع انحراف كبير في باب الفتوى، حدث بسببه فساد عريض في المجتمع المسلم، وكما قَالَ عبداللَّهِ بْنُ الْمُعْتَزِّ: «زَلَّةُ الْعَالِمِ كَانْكِسَارِ السَّفِينَةِ، تَغْرَقَ وَيَغْرَقُ مَعَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ»، فكان لا بد من التنبيه على بعض المزالق والأخطاء في باب الفتيا التي عمت بها البلوى، وانتشرت بين الناس، فكانت هذه الورقة العلمية. أولا: تعريف الإفتاء
ثانيا: تورع السلف عن الفتوى هاب الفتيا من هابها من أكابر العلماء العاملين وأفاضل السابقين والخالفين، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة واضطلاعه بمعرفة المعضلات في اعتقاد من يسأله من العامة من أن يدفع بالجواب، أو يقول: لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري، قال ابن القيم: «كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ، فَإِذَا رَأَى بِهَا قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ بَذَلَ اجْتِهَادَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ثُمَّ أَفْتَى، وعَنْ عبدالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْت عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَا كَانَ مِنْهُمْ مُحَدِّثٌ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْحَدِيثَ، وَلَا مُفْتٍ إلَّا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ الْفُتْيَا. وَقَالَ سَحْنُونُ بْنُ سَعِيدٍ: أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا، يَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْبَابُ الْوَاحِدُ مِنْ الْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ الْحَقَّ كُلَّهُ فِيهِ، وعن ابن سِيرين قال: قال حذيفة: إنَّمَا يُفْتِي النَّاسَ أَحَدُ ثَلَاثَةٍ: مَنْ يَعْلَمُ مَا نُسِخَ مِنْ الْقُرْآنِ، أَوْ أَمِيرٌ لَا يَجِدُ بُدًّا، أَوْ أَحْمَقُ مُتَكَلِّفٌ. فَرُبَّمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: فَلَسْت بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ». ثالثا: أصول الخطأ في باب الفتيا ويقع الخطأ في باب الفتوى في أصول عدة، نذكرها فيما يلي: 1- الإفتاء بغير علم يعدّ الإفتاء بغير علم من أكبر المزالق التي تقع في الفتوى قديمًا وحديثًا، وما من عالم ألف في الفتوى إلا ونبه على أهمية العلم بالنسبة للمفتي، حتى إن ابن حمدان ألف كتابه (صفة الفتوى) من أجل وجود هذا الانحراف بين المفتين فقال: «عَظُمَ أمر الفتوى وخطرها، وقل أهلها، ومن يخاف إثمها وخطرها… وأقدم عليها الحمقى والجهال، ورضوا فيها بالقيل والقال، واغتروا بالإمهال والإهمال، واكتفوا بزعمهم أنهم من العدد بلا عدد، وليس معهم بأهليتهم خط أحد، واحتجوا باستمرار حالهم في المدد بلا مدد، وغرهم في الدنيا كثرة الأمن والسلامة وقلة الإنكار والملامة، والله إنَّهَا فِتْنَةٌ عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَمَتْ الْقُلُوبَ فَأَصْمَتْ، رَبَا عَلَيْهَا الصَّغِيرُ، وَهَرِمَ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَاُتُّخِذَ لِأَجْلِهَا الْقُرْآنُ مَهْجُورًا». وعَنْ عبداللَّهِ بن مسعود قَالَ: «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إلَّا وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ: أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنْ فُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا، وَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ»، فالفتيا بغير علم مصيبة كبرى، وأمر عظيم ظهر في الإسلام؛ ذلك أن المفتي تجرأ على ربه، وتقوَّل على الله بغير علم. بين الشرك والقول بغير علم قرن والله -عز وجل- بين الشرك وقبحه وبين التقوُّل عليه بغير علم؛ فقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33)، ونهى الله -عز وجل- نبيه أن يتكلم بغير علم، فقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (ص: 86)، قال السعدي -رحمه الله-: «{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أدَّعي أمرا ليس لي، وأقفو ما ليس لي به علم، لا أتبع إلا ما يوحى إليَّ»، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ بِهِ؛ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيَقُلْ: اللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}». ولقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء الذين يفتون بغير علم وكانوا سببًا في موت صاحبهم، ففي الحديث عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم - أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ». تخوّف السلف من الفتيا كان السلف -رضوان الله عليهم- مع علمهم وورعهم لا يتجرؤون على الكلام في أي مسألة -وإن صغرت- بغير علم، ويبرؤون من ذلك، فعَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَهْ قَالَ: سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - عَنْ آيَةٍ، فَقَالَ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي؟! وَأَيْنَ أَذْهَبُ؟! وَكَيْفَ أَصْنَعُ إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا؟! وعَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ نَمْشِي، فَلَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَنْتَ عبداللَّهِ بْنُ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَأَلْت عَنْك فَدُلِلْت عَلَيْك، فَأَخْبِرْنِي أَتَرِثُ الْعَمَّةُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: أَنْتَ لَا تَدْرِي؟! قَالَ: نَعَمْ؛ اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ فَاسْأَلْهُمْ. فَلَمَّا أَدْبَرَ قَبَّلَ يَدَيْهِ قَالَ: نِعمَّا قَالَ أَبُو عبدالرَّحْمَنِ؛ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ: لَا أَدْرِي، وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يَتَهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ، وَقَالَ: سَمِعْت ابْنَ هُرْمُزَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ جُلَسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ «لَا أَدْرِي»، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَيْدِيهِمْ يَفْزَعُونَ إلَيْهِ، وقال: سَمِعْت ابْنَ عَجْلَانَ يَقُولُ: إذَا أَغْفَلَ الْعَالِمُ «لَا أَدْرِي» أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. القول بغير علم من أقبح الأشياء ولقد كان السلف -رضوان الله عليهم- يعدون القول بغير علم من أقبح الأشياء ، مهما كانت مكانتهم، ومهما كان قدرهم، فعن أبي عَقِيلٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْقَاسِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، فَقَالَ يَحْيَى لِلْقَاسِمِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّهُ قَبِيحٌ عَلَى مِثْلِكَ عَظِيمٌ أَنْ تُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ هَذَا الدِّينِ، فَلَا يُوجَدَ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ، وَلَا فَرَجٌ أَوْ عِلْمٌ، وَلَا مَخْرَجٌ. فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ: وَعَمَّ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ ابْنُ إِمَامَيْ هُدًى: ابْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. قَالَ: يَقُولُ لَهُ الْقَاسِمُ: أَقْبَحُ مِنْ ذَاكَ عِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ آخُذَ عَنْ غَيْرُ ثِقَةٍ، قَالَ: فَسَكَتَ فَمَا أَجَابَهُ. هذا حال سلف هذه الأمة، كانوا يعتبرون قول القائل: «لا أدري» شرفًا، فابتلينا في هذه الأيام بمن تجرؤوا على الفتيا، وتوثّبوا عليها، ومدّوا باع التكلف إليها، «يَمُدُّونَ لِلْإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْفَتَاوَى يُكَذْلِكُ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ نَصِيبُهُمْ مِثْلُ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا مُفْتٍ قَلِيلُ الْبِضَاعَةِ، فَكَانَ لَا يُفْتِي حَتَّى يَتَقَدَّمَهُ مَنْ يَكْتُبُ الْجَوَابَ، فَيَكْتُبُ تَحْتَهُ: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخِ، فَقُدِّرَ أَنْ اخْتَلَفَ مُفْتِيَانِ فِي جَوَابٍ، فَكَتَبَ تَحْتَهُمَا: جَوَابِي مِثْلُ جَوَابِ الشَّيْخَيْنِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمَا قَدْ تَنَاقَضَا، فَقَالَ: وَأَنَا أَيْضًا تَنَاقَضْتُ كَمَا تَنَاقَضَا». ![]() 2- الجواب عن كل ما يُسأل عنه!! ومن أصول الخطأ في الفتيا جواب المفتي عن كل ما يسأل عنه؛ فتجد من يجيب في كل شيء يسأل عنه، كأنه جمع علم الأولين والآخرين، جاء في كتب المحاضرات أن رجلا كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل وهي (الخنفشار)، فسألوه عنها؛ فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة، ينبت في أطراف اليمن إذا أكلته الإبل عقد لبنها قال شاعرهم اليمني: لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار ولذا كان السلف يعدون الفتوى في كل شيء ضربًا من الجنون، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ لَمَجْنُونٌ»، قَالَ الْهَيْثَم بن جميل: شهِدت مَالِكًا سُئِلَ عَن ثَمَان وَأَرْبَعين مَسْأَلَة، فَقَالَ فِي اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي، وَقيل: رُبمَا كَانَ يسْأَل عَن خمسين مَسْأَلَة فَلَا يُجيب فِي وَاحِدَة مِنْهَا. وَكَانَ يَقُول: من أجَاب فِي مَسْأَلَة فَيَنْبَغِي من قبل أَن يُجيب فِيهَا أَن يعرض نَفسه على الْجنَّة وَالنَّار، وَكَيف يكون خلاصه فِي الْآخِرَة ثمَّ يُجيب فِيهَا. وَسُئِلَ عَن مَسْأَلَة فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقيل لَهُ: إِنَّهَا مَسْأَلَة خَفِيفَة سهلة، فَغَضب وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْعلم خَفِيف، أما سَمِعت قَول الله -تعالى-: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}؟! فالعلم كُله ثقيل، ولا سيما مَا يسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة. (لا أدري) من أصول طلب العلم هذا هو هدي السلف، كانوا لا يتكلمون إلا بعلم، ولا يفتون إلا بما يعرفون، ويتشرفون بقولهم: «لا ندري»، فخلف من بعدهم خلف تجرؤوا على الله، وتكلّموا في كل شيء، بعلم وبغير علم، قال ابن جماعة الكناني: «واعلم أن قول المسؤول: (لا أدري) لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه؛ لأنه دليل عظيم على عظم محله، وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته، وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف، وإنما يأنف من قول: (لا أدري) من ضعفت ديانته وقلّت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين، وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه، ويتصف عندهم بما احترز عنه»، بل كانوا يعدون تلقين الطالب (لا أدري) من أصول طلب العلم، قَالَ ابْن هُرْمُزَ: يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُوَرِّثَ جُلَسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ (لَا أَدْرِي)، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَيْدِيهِمْ يَفْزَعُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: (لَا أَدْرِي) نِصْفُ الْعِلْمِ. برامج الإفتاء على الفضائيات ولقد أسهم في حدوث هذه الظاهرة في حياة المسلمين المعاصرة برامج الفتاوى على الفضائيات؛ فتجد المذيع أو طالب العلم قد عقد المجلس ليجيب المتصلين، فبعضهم يجيب عن أسئلة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر، ويا ليته يصيب الجواب الصحيح، إذًا لهان الخطب، ولكنه يخبط خبط عشواء، ولا يجسر أن يقول على الهواء: لا أدري! تقرير مركز البحوث والدراسات الفقهية أعدّ مركز البحوث والدراسات الفقهية بموقع الفقه الإسلامي تقريرًا عن برامج الفتاوى على بعض القنوات الفضائية لمدة ثلاثة أشهر، وذكروا أن الداعي لعمل التقرير هو ما يوصف في بعض الأحيان بالتفلّت وعدم الانضباط في بعض الفتاوى، وذكر التقرير أن عدد الفتاوى في الثلاثة أشهر بلغ (4571) فتوى. وذكر التقرير بعض صور عدم الانضباط في الفتوى مثل: عدم موافقة الجواب للسؤال، ووجود فتاوى تحتاج إلى مراجعة، وافتقاد الدقة في الحكم على الأحاديث. والملاحظ في هذا التقرير ما يلى: أنه تم عمله على بعض القنوات الدينية ولم يتطرق التقرير لغيرها من القنوات، فإذا كانت هذه الأخطاء في القنوات المتخصصة، فكيف الأمر في غيرها؟! كما أنه ذكر عدد الأسئلة، وأهم الملاحظات في الإجابة عنها، ولم يذكر أن أحد هؤلاء المفتين قال مرة عن جوابه: لا أدري، وما ترك من أسئلة دون إجابة كان غفلة من المفتي، ولم يكن اعترافًا بعدم العلم بالإجابة، والواجب أن نُفَعِّل هذه الكلمة: (لا أدرى) في برامجنا وقنواتنا الفضائية، لا نستحيي من أحد؛ بل هذه سنة العلماء وينبغي أن نحييها في الأمة مرة ثانية. اعداد: مركز سلف للبحوث والدراسات
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |