|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#81
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 82 ) باب : صـــلاة الضُّـــحى ثمــاني ركعــــات الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 369-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ وَحَرَصْتُ عَلَى أَنْ أَجدَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يُخْبِرُنِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُحَدِّثُني ذلك، غَيرَ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَتْنِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّه[ أَتَى بَعْدَ مَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ يَومَ الْفَتْحِ، فَأُتِيَ بِثَوْبٍ فَسُتِرَ عَلَيْهِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ، لا أَدْرِي أَقِيَامُهُ فِيهَا أَطْوَلُ، أَمْ رُكُوعُهُ أَمْ سُجُودُهُ؟ كُلُّ ذَلكَ مِنْهُ مُتَقَارِبٌ، قالَت: فَلَمْ أَرَهُ سَبَّحَهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ.الشرح : قال المنذري: باب: صلاة الضحى ثماني ركعات. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/498) وهو في الباب السابق. وقد رواه البخاري في المغازي (4041) باب: منزل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: عن ابن أبي ليلى قال: ما أخبرنا أحدٌ أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها ذكرت أنه يوم فتح مكة اغتسل في بيتها، ثم صلى ثماني ركعات، قالت: لم أره صلى صلاةً أخفّ منها، غير أنه يُتم الركوع والسجود . قوله: «سَأَلْتُ وحرصْتُ عَلَى أَنْ أَجدَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يُخْبرُنِي، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى» سُبْحةَ الضُّحَى: أي نافلة الضحى. وهذا يدل - كما سبق - على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يُواظب عليها، خشية أنْ تُفرض على أمته . قوله: «غير أم هانئ بنْت أَبي طَالب»، وهي: فاختة على المشهور، وقيل: هند، وهي بنْت أَبي طَالب، أختُ علي رضي الله عنهما. قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَتَى بعد ما ارتَفعَ النَّهَارُ يوم الْفَتْحِ». أي: يوم فتح مكة، جاء بيتها رضي الله عنها ليغتسل من أثر الغزو، ويصلي صلاة الضحى فيه، وقيل: هي صلاة الفتح، شكراً لله تعالى، والأول أصح، وقد سبق الكلام عليه. قال الحافظ ابن حجر: زاد كريب عن أم هانئ: «فسلّم منْ كل ركعتين»، أخرجه ابن خزيمة، وفيه: ردٌ على منْ تمسّك به في صلاتها موصولة، سواء صلى ثماني ركعات، أو أقل. قال: وفي الطبراني: من حديث ابن أبي أوفى: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفتح ركعتين، وهو محمولٌ على أنه رأى من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ورأتْ أم هانئ بقية الثماني، وهذا يقوي أنه صلاها مفصولة. انتهى كلام الحافظ. قولها: «لا أَدْري أَقيَامُهُ فيها أَطْولُ، أَمْ رُكُوعُهُ أَم سُجُودُه؟ كُلُّ ذلك منه مُتَقَارِبٌ». وفي لفظ البخاري: قالت: «لم أره صلى صلاةً أخفّ منها، غير أنه يُتم الركوع والسجود» قال الطيبي: استُدل به على استحباب صلاة الضحى، وفيه نظر، لاحتمال أن يكون السبب فيه التفرغ لمهمات الفتح ، لكثرة شغله به. وقد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الضحى فطوّل فيها، أخرجه ابن أبي شيبة من حديث حذيفة. واستدل بهذا الحديث :على إثبات سُنة الضحى، وحكى عياض عن قوم: أنه ليس في حديث أم هانئ دلالة على ذلك! قالوا: وإنما هي سُنة الفتح، وقد صلاها خالد بن الوليد في بعض فتوحه كذلك. وقد قيل: إنها كانت قضاء عما شُغل عنه تلك الليلة من حزبه. وتعقبه النووي: بأنّ الصواب صحة الاستدلال به، لما رواه أبو داود وغيره: من طريق كريب عن أم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سُبحة الضحى. ولمسلم في كتاب الطهارة: «ثم صلى ثماني ركعات سُبحة الضحى». وروى ابن عبد البر في التمهيد: عن عكرمة بن خالد عن أم هانئ قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فصلى ثماني ركعات، فقلت: ما هذه؟ فقال: هذه صلاة الضحى. قولها: «فَلَمْ أَرَهُ سَبَّحَهَا قبْلُ ولا بَعْدُ». هذا مبنيٌ على علمها، وإلا فقد رآه غيرها يصلي الضحى، كما سبق بيانه. 166- باب : الوصية بصلاة الضحى 370.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ: بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَرْقُدَ. الشرح : قوله: «أوصاني». أي : عَهِد إليّ، وأمرني أمرًا مؤكدا بهذه الأمور الثلاثة، وهذه الوصية النبوية العظيمة لأبي هريرة رضي الله عنه، هي وصية للأمة كلّها؛ لأنّ وصية النبي صلى الله عليه وسلم وتوجيهه لواحد من أمته هو خطاب لأمته كلها، ما لم يدل دليلٌ على الخصوصية ، لقوله تعالى: {وما أرسلنَاك إلا رَحمةً للعَالمين}. ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بها أيضا: أبا ذر، وأبا الدرداء رضي الله عنهما. وقوله: «خليلي» يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبّر بهذه المرتبة التي هي أعلى أنواع المحبة، لبيان عظيم ِمحبته وافتخاره بمنزلته من النبي صلى الله عليه وسلم . وليس في قول أبي هريرة رضي الله عنه هذا، تعارضٌ مع قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: «لو كنتُ متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليلُ الله»؛ لأنّ أبا هريرة لم يُخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم اتَّخَذه خليلا، ولكنه يُخبر عن نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم خليلُه، أي: أنّ الْخُلّة مِن جِهة أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «ويُؤخذ منه الافتخار بصحبة الأكابر، إذا كان ذلك على معنى التحدّث بالنعمة، والشكر لله، لا على وجه المباهاة». أما الوصايا النبوية الثلاث : - فأول الوصايا: هي صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ وذلك أن الصيام يعوّد النفس على الصبر والتحمل، ويعلّم الأمانة ومراقبة الله تعالى في السِّر والعلن؛ إذْ لا رقيب على الصائم إلا الله وحده، وفيه جهاد للنفس ومقاومة للأهواء، كما أنه ينمِّي عاطفة الرحمة والأخوة والشعور بالآخرين من الفقراء والمحتاجين. وفوق ما مرّ من فوائد، فإن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، يعدل صيام الشهر كله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما -: «إنّ بِحَسْبِك أنْ تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإنّ لك بكلّ حسنةٍ عشر أمثالها، فإنّ ذلك صيام الدهر كله» متفق عليه . وقد اخْتُلِف في هذه الأيام، هل هي أيام البيض، أو أنها الأوائل مِن كل شهر، أو أنها تُصام أيام الإثنين والخميس، فذهب الإمام البخاري إلى أنها أيام البيض؛ حيث بوّب على حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي نحن بصدد شرحه بقوله: «باب صيام أيام البيض، ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة». والأرجح أنه طالما لم يحصل تقييد في الحديث لها، فليأخذ المرء بما يتيسر له، سواء كان ذلك بصيام ثلاثة أيام من أول كل شهر، أو وسطه أو آخره، متتابعة أو متفرقة ، والله أعلم. لكن يستحب أن يجعل هذه الثلاثة: أيام البيض; لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا أبا ذر، إذا صمتَ من الشهر، فصم ثلاثَ عشرة، وأربعَ عشرة، وخمسَ عشرة». أخرجه الترمذي. وروى النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأعرابي: «كُل» قال: إني صائم. قال: «صوم ماذا ؟»، قال: صوم ثلاثة أيام من الشهر . قال: «إنْ كنت صائما فعليك بالغُر البيض: ثلاثَ عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة». وسميت أيام البيض: لابيضاض ليلها كله بالقمر، والتقدير: أيام الليالي البيض. - أما الوصية الثانية: عدم ترك ركعتي الضحى. وصلاة الضحى كما سبق هي صلاة نافلة مؤكدة، يبدأ وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح، إلى قبيل وقت الزوال، وأقلها ركعتان. وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الضّحى، وذكر فضلها في أحاديث كثيرة، سبق منها أحاديث. - أما الوصية الثالثة: فالمحافظة على صلاة الوتر. وصلاة الوتر هي الصلاة التي تُختم بها صلاة الليل ، وسميت بذلك؛ لأنها تصلى وتراً، أي ركعة واحدة، أو ثلاثاً أو أكثر من ذلك، وأقلها ركعة واحدة، والأفضل تأخير فعلها إلى آخر الليل، لمن وثق باستيقاظه قبل الفجر، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «منْ خافَ أنْ لا يقوم آخر الليل، فليُوتر أوله، ومنْ طَمِع أنْ يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإنّ صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل». رواه مسلم. ومع أفضلية الوتر في آخر الليل، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة رضي الله عنه أن يوتر قبل نومه، وقد اجتهد العلماء في معرفة سبب ذلك، فقال الحافظ ابن حجر: «قيل سببه: أنه رضي الله عنه كان يشتغل أول ليله، باستحضاره لمحفوظاته من الأحاديث الكثيرة، التي لم يسايره في حفظ مثلها أكثر الصحابة، فكان يَمضي عليه جزءٌ كبير من أول الليل، فلم يكد يطمع في استيقاظ آخره، فأمره عليه السلام بتقديم الوتر لذلك لاشتغاله بما هو أولى». وقال الطيبي: «كان المناسب أنْ يقال: والوتر قبل النوم ليناسب المعطوف عليه، فأتى بأنْ المصدرية وأبرز الفعل وجعله فاعلاً اهتماما بشأنه، وأنه أليق بحاله لمّا خاف الفوت أنْ ينام عنه، وإلا فالوتر آخر الليل أفضل». ويمكن أن يكون لسبب آخر، والله أعلم . 167- باب: صلاة الأوّابين 371.عَنْ الْقَاسِمِ الشَّيْبَانِيِّ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنه: رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنْ الضُّحَى، فَقَالَ: أَمَا لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الصَّلَاةَ فِي غَيْرِ هَذِهِ السَّاعَةِ أَفْضَلُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ ، حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ». الشرح : قال المنذري: باب: صلاة الأوّابين. قوله: «أن زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ رضي الله عنه: رَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ مِنْ الضُّحَى». وجاء في رواية ابن أبي شيبة في المصنف: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال: «صلاة الأوابين، إذا رمضت الفصال من الضحى». فدل الحديث على أن صلاة الأوابين هي: «صلاة الضحى» . ولقولهصلى الله عليه وسلم : «لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، وهي صلاة الأوابين». رواه ابن خزيمة والحاكم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة (2/1263). قوله: «حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَالُ». رمض كعلم يعلم. والرمضاء: هي التراب الساخن من شدة وهج الشمس . ومعنى رمضت: احترقت أخفافها من شدة الحر. قال الإمام ابن الأثير: المراد بصلاة الأوابين: صلاة الضحى عند الارتفاع واشتداد الحر، واستدل به على فضل تأخير الضحى إلى شدة الحر. والفصيل هو الصغير من الإبل. اهـ وقال الإمام المناوي في فيض القدير: وفي رواية لمسلم «إذا رمضت الفصال» أي: حين تصيبها الرمضاء، فتحرق أخفافها لشدة الحر، فإن الضحى إذا ارتفع في الصيف يشتد حر الرمضاء، فتحرق أخفاف الفصال لمماستها . قال: وإنما أضاف الصلاة في هذا الوقت إلى الأوابين؛ لأن النفس تركن فيه إلى الدعة والاستراحة، فصرفها إلى الطاعة والاشتغال فيه بالصلاة رجوعا من مراد النفس إلى مرضاة الرب، ذكره القاضي. انتهى . أما ما جاء أن صلاة الأوابين ، هي : ست ركعات بعد صلاة المغرب؟ فهذا ليس بصحيح، والحديث فيها ضعيف، وإنْ كانت تستحب الصلاة بين المغرب والعشاء، ولو أكثر من ست ركعات، لكن لا تسمى صلاة الأوابين، إنما هي صلاة الضحى كما سبق بيانه.
__________________
|
#82
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 83 ) باب : من سجد لله فله الجنة الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 372.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: يَا وَيْلِي - أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ، فَلِي النَّار».الشرح: قال المنذري: باب: من سجد لله فله الجنة. والحديث رواه مسلم في الإيمان (1/87) وبوب عليه النووي: باب بيان إطلاق اسم الكفر، على من ترك الصلاة . والحديث صححه الإمام ابن خزيمة أيضا في (صحيحه 1/276) وبوب عليه بقوله: «باب فضل السجود عند قراءة السجدة، وبكاء الشيطان، ودعائه بالويل لنفسه عند سجود القارئ السجدة». قوله: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد» أي: قرأ آية السجدة، فسجد امتثالاً لأمر الله عز وجل. قوله: «اعْتزلَ الشَّيْطَانُ يَبْكي» أي: تنحى عنه، وابتعد عن مكانه. قوله: «يا ويله» الويل: الهلاك، وويل: كلمة تُقال لمن وقع في هلكة، وفي الرواية الأخرى «يا ويلي» ويجوز فيه فتح اللام وكسرها. وقوله: «يا ويله» هو من آداب الكلام، وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سُوء، واقتضت الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم، صَرَف الحاكي الضمير عن نفسه، تصاوناً عن صورة إضافة السوء إلى نفسه، قاله النووي. قوله: «أُمِرَ ابنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسَجَدَ، فلَهُ الْجَنَّةُ، وأُمِرتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ، فَلِي النَّارُ» إشارة إلى قوله تعالى: {وإذْ قُلنا للمَلائكةِ اسْجدوا لآدمَ فسَجدُوا إلا إبليسَ أَبَى واسْتكبرَ وكانَ منَ الكافرينَ}( البقرة : 34 ). قال القرطبي رحمه الله: «وبكاء إبليس المذكور في الحديث: ليس ندماً على معصيته، ولا رجوعاً عنها؛ وإنما ذلك لفرط حسده وغيظه وألمه، بما أصابه من دخول أحدٍ من ذرية آدم عليه السلام الجنة ونجاته، وذلك نحوا مما يعتريه عند الأذان، والإقامة ، ويوم عرفة» انتهى . المفهم (1/274). وهذا الأمر – وهو بكاء الشيطان - ثابت وصحيح، وهو على حقيقته، فلا يجوز تكذيب ذلك، بأي رأيٍ أو عقل، وقد ثبت في النصوص أنّ الشيطان يبكي ويضحك، ويحزن ويفرح، ويأكل ويشرب، وهو مخلوق من مخلوقات الله الّتِي أعطاها العقل، وجعل لها الاختيار. وقد أورد مسلم في الباب حديثين: أحدهما حديثنا هذا: «إذا قرأَ ابنُ آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان..». والحديث الثاني: «إنّ بين الرجل وبين الشرك والكفر، تركُ الصلاة». ومقصود مسلم رحمه الله بذكر هذين الحديثين هنا: أن من الأفعال ما تركه يوجب الكفر، إما حقيقة وإما تسمية. فأما كفر إبليس بسبب السجود، فمأخوذ من قول الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} قال الجمهور: معناه وكان في علم الله تعالى من الكافرين، وقال بعضهم: وصار من الكافرين، كقوله تعالى: {وحَالَ بينهما الموجُ فكانَ من المُغرقين }(هود: 43). وأما تارك الصلاة، فإنْ كان منكراً لوجوبها، فهو كافرٌ بإجماع المسلمين، خارج من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه. وإن كان تركه تكاسلاً، مع اعتقاده وجوبها، كما هو حال كثير من الناس اليوم، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله والجمهور من السلف والخلف، إلى أنه لا يكفر، بل يفسق ويستتاب، فإنْ تاب، وإلا قُتل حداً، كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف ، واحتجوا على قتله بقوله تعالى:{فإنْ تَابوا وأقامُوا الصّلاةَ وآتَوا الزّكاة فخلُوا سبيلهم} (التوبة: 11). وبقوله صلى الله عليه وسلم : «أُمرتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عَصَموا مني دماءهم وأموالهم» . رواه مسلم . وذهب جماعةٌ من السلف إلى أنه يكفر ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وغيره من أصحاب رسول الله، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله، وبه قال: عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه ، وهو وجهٌ لبعض أصحاب الشافعي . وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه لا يكفر، ولا يقتل، بل يُعزّر ويحبس حتى يصلي. واحتج من قال بكفره، بظاهر الحديث الثاني المذكور، وبالقياس على كلمة التوحيد. واحتج منْ قال: لا يقتل بحديث: «لا يَحل دمُ امرئ مسلمٍ، إلا بإحدى ثلاث...» وليس فيه الصلاة . واحتج الجمهورعلى أنه لا يكفر ، بقوله تعالى: {إنّ اللهَ لا يغفرُ أنْ يُشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء: 48). وبقوله صلى الله عليه وسلم : «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، ومَن مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله، دخل الجنة، ولا يلقى الله تعالى عبدٌ بهما غير شاك، فيحجب عن الجنة». وبقوله صلى الله عليه وسلم : «إنّ الله حرّم على النار، من قال: لا إله إلا الله» وغير ذلك من الأحاديث . وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم : «بين العبد وبين الكفر، ترك الصلاة» على معنى أنه يستحق بترك الصلاة: عقوبة الكافر، وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو أن فعله فعل الكفار . 169- باب: فضل من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة 373-عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً، تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ، إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ ، أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ». قَالَتْ أَمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. وقَالَ عَمْرٌو: مَا بَرِحْتُ أُصَلِّيهِنَّ بَعْدُ. وقَالَ النُّعْمَانُ: مِثْلَ ذَلِكَ. وفي رواية: «في يَوْمٍ و ليلة». الشرح: قال المنذري: باب: فضل من صلى ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة. والحديث رواه مسلم في في صلاة المسافرين (1/503) وبوب عليه النووي: باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن . هذا الحديث العظيم في فضائل صلاة النافلة الراتبة ورد بلفظين: قولها: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصلِّي للَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرةَ رَكْعَةً، تطَوُّعًا غير فَرِيضَةٍ، إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة» فيه فضل النوافل أو الرواتب مع الفرائض، التي يصليها العبد في اليوم والليلة. ورواتب الفرائض، اجتمع فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب فيها، مع عمله لها. وهذا الحديث ورد بلفظين: ظاهر أحدهما: أنّ من صلى الرواتب الاثنتي عشرة ركعة، ولو يوماً واحدا من عمره، بَنى اللهُ له بيتاً في الجنة، ومن حافظ عليها لأيام كثيرة، كان له من البيوت في الجنة، بعدد تلك الأيام التي حافظ عليها، يدل عليه ظاهر لفظ حديث الباب. وكذا ما رواه مسلم في الباب بلفظ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عشْرةَ رَكْعَةً في يوْمٍ ولَيلَةٍ، بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيتٌ في الجَنَّةِ». وكذلك هو ما يظهر من قول أبي هريرة رضي الله عنه قال: «ما من عبدٍ مسلم، يُصلي في يوم ثنتي عشرة ركعةً تطوعاً، إلا بُني له بيتٌ في الجنة». رواه أحمد (16/283) بإسناد حسن . وكذا من قول عائشة رضي الله عنها: «منْ صلّى أولَ النهار ثنتي عشرة ركعة، بُني له بيتٌ في الجنة» رواه ابن أبي شيبة في (المصنف) (2/109) . وجاء في بعض الألفاظ: أن من صلى هذا العدد دفعة واحدة، بالليل أو النهار، حصل على الأجر نفسه، فروى النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من صلى ثنتي عشرة ركعة بالنهار، أو بالليل، بنى الله عز وجل له بيتا في الجنة». قال الألباني: صحيح الإسناد. وظاهر الحديث أنه لا تشترط المحافظة على هذه الركعات، بل إن الإنسان إذا صلاها يوما واحداً بهذا العدد، حصل على الثواب الوارد في الحديث وهو «بنى الله له بيتاً في الجنة» وما ذلك على الله بعزيز. أما القول الثاني: أن هذا الوعد خاصٌ بمن واظب على ذلك؛ إعمالاً للقيد الذي ورد في روايات صحيحة؛ فالمطلق يحمل على المقيد. لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: «حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات...» أخرجه البخاري ومسلم. وهو ما يظهر من تبويب الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه (414) على حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بَنى الله له بيتاً في الجنة: أربع ركعات قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر». إذ بوّب بقوله: «باب ما جاء فيمن صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة من السنة، ما له فيه من الفضل» انتهى.
__________________
|
#83
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 84 ) بــاب: بيـــن كــــلّ أذانــــينِ صــــلاة الفرقان قال أحمد بن حنبل: يصلي ستا بعد الجمعة أحبُ إلي، وإنْ شاء أربعا، وكان ابن عمر يصلي بعدها ركعتين في بيته، ويقول: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 374-عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ» قَالَهَا ثَلَاثًا، قَالَ: «فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ». الشرح: قال المنذري: باب: بين كل أذانين صلاة. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/573 ) وبوب النووي: باب بين كلّ أذانين صلاة. وقد رواه البخاري في الأذان (624 ): باب كم بين الأذان والإقامة ومن ينتظر الإقامة. وفي (627 ) باب: بين كل أذانين صلاة لمن شاء. قوله: «بين كل أذانين صلاة» أي: بين كل أذانٍ وإقامة، وإنما قال: أذانين تغليبًا، كما يقال: القمرين، يعني الشمس والقمر. قوله: «صلاة» أي: وقت صلاة، والمقصود بالصلاة: أي النافلة، فيجوز للمصلي أنْ يصلي ما شاء من التطوع بين الأذان والإقامة إلا ما استُثني، كالاقتصار على ركعتي سُنة الفجر، وهذه فائدة تنكير لفظ صلاة، فيتناول كل عددٍ نواه المصلي. ولا يصح حمل قوله: «بين كل أذانين صلاة»على ظاهره وهي الفريضة، لأن الحديث فيه التخيير بقوله «لمن شاء». قوله: «قَالَهَا ثَلَاثًا» وفي الرواية الأخرى «ثم قال في الثالثة: لمنْ شاء» فمعناه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في المرة الثالثة: «لمن شاء». وقد ثبت من حديث أنس رضي الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً. رواه البخاري في العلم. وهذا للتأكيد والتنبيه. وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الثالثة «لمن شاء» رفعاً للحرج والواجب الذي قد يتوهم من تكريره لجملة «بين كل أذانين صلاة»، لا أنّ كلمة الثالثة تعني صلاة جديدة، كما فهم السائل. قال ابنُ الجوزي: فائدة هذا الحديث: أنه يجوز أنْ يتوهم أنّ الأذان للصلاة يمنع أنْ يفعل سوى الصلاة التي أذّن لها، فبين أنّ التطوع بين الأذان والإقامة جائز في حديث أنس. (الفتح 2/107). والنية في صلاة النافلة تنقسم إلى قسمين: نافلة معينة: كصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح والوتر والرواتب، فهذه تحتاج إلى نية الصلاة مع التعيين، بأنْ ينوي المصلي مثلاً أنّ هذه سُنة الظهر، وهذه سنة المغرب، وهكذا. والقسم الثاني من النافلة: هي النافلة المطلقة، كصلاة الليل، وصلاة الضحى، فهذا تُجزئ فيه نية الصلاة لا غير. والله أعلم. 171- باب: التّنفُل قبلَ الصلاة وبعدها 375.عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الظُّهْرِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ سَجْدَتَيْنِ، فَأَمَّا الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَالْجُمُعَةُ، فَصَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ [ فِي بَيْتِهِ. الشرح: قال المنذري: باب: التنفل قبل الصلاة وبعدها. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/504) وبوب عليه النووي: باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن. قوله: «صَلَّيْتُ مع رسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الظُّهْرِ سَجْدَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا سَجْدَتَيْنِ» وفيه: أنه صلى ركعتين قبل الظهر وبعدها، وأن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم في المسجد، واختلف في صلاته بعد المغرب والعشاء والجمعة كما سيأتي. وفي حديث عائشة رضي الله عنها في مسلم (1/504 ): «كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً..». وفي هذا الحديث: دليل على أن صلاة النهار مثنى مثنى، كصلاة الليل سواء. وفيه: إباحة صلاة النافلة في المسجد، والأصل في النافلة أنها صلاة البيوت. وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد بني عبد الأشهل، فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم، رآهم يُسبّحون بعدها، فقال: «هذه صلاةُ البيوت». رواه أبو داود. وقد كره بعضهم التطوع في المسجد بعد صلاة المغرب لهذا الحديث، ولا حجة لهم فيه؛ لأنه لو كرهه لنهى عنه، وإنما حثهم على الأفضل. والذي اجتمع عليه العلماء: أنه لا بأس بالتطوع في المسجد لمنْ شاء، على أنّ صلاة النافلة في البيوت أفضل. وروى ابن عبد البر: عن العباس بن سعد: أنّ الناس كانوا على عهد عثمان رضي الله عنه يصلون الركعتين بعد المغرب في بيوتهم. وروي عن ثابت بن عبيد قال: رأيت زيد بن ثابت رضي الله عنه صلى الركعتين بعد المغرب في بيته. وروي عن عبد الله بن يزيد قال: كان إبراهيم إذا صلى المغرب في المسجد رجع فصلى ركعتين في بيته. قال: فهذه الآثار كلها تبين لك أنّ صلاة الركعتين بعد المغرب في البيت أفضل، وأنه الأمر القديم، وعمل صدر السلف، وهو الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصليها في بيته. وأما قوله: «وبعد الجمعة ركعتين» اختلف الفقهاء في التطوع بعد الجمعة، فقال مالك: ينبغي للإمام إذا سلّم من الجمعة، أنْ يدخل منزله، فيركع الركعتين في بيته، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: ومن خلف الإمام أيضا، إذا سلّموا، فأحبّ إلي أنْ ينصرفوا ولا يركعوا في المسجد، فإنْ ركعوا فإنّ ذلك واسع. وقال الشافعي: ما أكثر المصلي من التطوع بعد الجمعة فهو أحبُ إلي، وقال أبو حنيفة: يصلي بعد الجمعة أربعا، وقال في موضع آخر: ستا، وقال الثوري: إنْ صليتَ أربعاً أو ستا فحسن. وقال أحمد بن حنبل: يصلي ستا بعد الجمعة أحبُ إلي، وإنْ شاء أربعا، وكان ابن عمر يصلي بعدها ركعتين في بيته، ويقول: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت طائفة من العلماء تصلي بعدها ركعتين أيضا، وحجة من ذهب هذا المذهب ما روى عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث أنّ رسول الله كان يفعل ذلك. وروى أبو داود: عن نافع عن ابن عمر: أنه رأى رجلاً يصلي ركعتين يوم الجمعة في مقامه ودفعه وقال: أتصلي الجمعة أربعا ؟ قال وكان عبد الله يصلي يوم الجمعة ركعتين في بيته، ويقول هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وحجة من قال يصلي بعد الجمعة أربعا: ما رواه أبو داود وابن ماجة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كان منكم مُصلياً بعد الجُمعة، فليصلّ أربعاً». وفي رواية قال: «إذا صَليتم الجُمعة، فَصلُوا بعدَها أربعاً». وقد روي عن جماعة من السلف: أنهم كانوا يصلون بعد الجمعة ركعتين، ثم أربعا، وممن روى ذلك عنه: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وأبو موسى، ومجاهد، وعطاء. وروي أن ابن مسعود كان يُصلي بعدها أربعا، وإليه ذهب إسحاق، وأصحاب الرأي ; وجاء عن النخعي: إنْ شئت ركعتين، وإنْ شئت أربعا. وروى عبد الرزاق: عن السائب بن يزيد أنه سُئل عن شيءٍ رآه منه معاوية رضي الله عنه في الصلاة، فقال: صليتُ معه في المقصورة، فلما سلمنا قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إليّ فقال: لا تعدْ لما صنعت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاةٍ حتى تكلم، أو تخرج، فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ; أن لا تُوصل صلاةٌ بصلاة حتى تكلم أو تخرج. ورواه أبو داود. وروى مالك: عن نافع عن ابن عمر: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يُصلي بعد الجمعة شيئاً في المسجد، حتى ينصرفَ فيصلي ركعتين في بيته. قال أبو عمر ابن عبد البر: الاختلاف عن السلف في هذا الباب، اختلافُ إباحة واستحسان، لا اختلاف منع وحظر، وكل ذلك حسنٌ إنْ شاء الله. ثم روي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قدم علينا عبد الله فكان يصلي بعد الجمعة أربعا، وقدم بعده عليٌ فكان يصلي بعد الجمعة ركعتين وأربعا. قال: وكذلك مَنْ لم ير الركعتين بعد المغرب في المسجد، ورآهما في البيت، إنما هو على الاختيار، لا على أن ذلك لا يجوز، والله أعلم انتهى.
__________________
|
#84
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 85 ) بــاب: في التَّـــنــفـــلِ باللـيــــلِ والنّهـــــار الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 376.عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، عَنْ تَطَوُّعِهِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيُصَلِّي بِالنَّاسِ الْعِشَاءَ، وَيَدْخُلُ بَيْتِي فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ فِيهِنَّ الْوِتْرُ، وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا، وَلَيْلًا طَوِيلًا قَاعِدًا، وَكَانَ إِذَا قَرَأَ وَهُوَ قَائِمٌ، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِذَا قَرَأَ قَاعِدًا، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَاعِدٌ، وَكَانَ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.الشرح: قال المنذري: باب: في التنفل بالليل والنهار. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/504) وبوب عليه النووي: باب جواز النافلة قائماً وقاعدا، وفِعلُ بعض الركعة قائماً، وبعضها قاعدا. قولها «كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِي قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ... إلخ» فيه: محافظة النبي صلى الله عليه وسلم على السنن الراتبة، قبل الفرائض وبعدهن، وبيان عددهن. وأنه كان صلى الله عليه وسلم يُصليهن في بيته، لا في مسجده الشريف، وهو الأفضل كما سبق بيانه. إلا لمن أراد أنْ يعلم الناس السنن الرواتب وأعدادها، فلا بأس أن يصليها أمامهم في المسجد بعد الفريضة. قولها «وكان يُصَلِّي منْ اللَّيلِ تسْعَ ركعَاتٍ، فيهنَّ الْوِتْرُ» فيه: بيان صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل، وكيفية صلاة الوتر وعددها. «وكان» أي: أحيانا «يصلي من الليل» أي: بعض أوقاته وساعاته «تسع ركعات» قال ابن حجر: أي تارة، وإحدى عشرة تارة، وأنقص تارة اهـ. وجاء عنها (عائشة) أنها قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدة». وفي لفظ: «يُسلّم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة». وفي كيفية الوتر، له فيه صلى الله عليه وسلم حالتان: - الأولى: أنْ يسلم من كل ركعتين، وهو الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : «صلاةُ الليلِ مَثنى مثنى، فإذا خَشي أحدُكم الصبح، صلى ركعة، أوترتْ له ما قد صلى». رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما. ومعنى «مَثنى مثنى» أي: اثنين اثنين. كما روى مسلم: عن عقبة بن حريث قال: قلت لابن عمر: ما معنى مَثنى مثنى؟ قال: تُسلّم من كل ركعتين. قال ابن حجر: وفيه ردٌ على من زعم من الحنفية، أن معنى «مثنى» أن يتشهد بين كل ركعتين، لأن راوي الحديث أعلم بالمراد منه، وما فسّره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يُقال في الرباعية مثلاً إنها مثنى. انتهى (الفتح 2/479). وهو الأفضل؛ لأنه أكثر عملاً. - الحالة الثانية: أنْ يُوتر بأكثر من ركعة واحدة، بثلاث أو بخمس أو بسبع، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يُوتر في ذلك بخمسٍ، لا يجلس في شيء إلا في آخرها» متفق عليه. فتذكر أم المؤمنين رضي الله عنها هاهنا، كيفية صلاة الوتر، إذا كان أكثر من ركعة، فتقول: إنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر بخمس، أي: كان قيامه ثماني ركعات، ثم يصلي خمس ركعات، فتكون ثلاث عشرة ركعة. ثم بيّنت لنا كيفية وتره، أنه: ما كان يجلس في الركعات الخمس، إلا في الركعة الأخيرة. وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم يوتر بسبعٍ وبخمسٍ، لا يَفصل بينهن بسلامٍ، ولا كلام» رواه أحمد ومسلم. فإنْ أوتر بخمس، أو سبع، سردها ولم يجلس إلا في آخرها. فهذه الخمس والثلاث، إنْ شاء صلاها بقعود واحد، وتسليمة واحدة، كما في الصفة الثانية، وإن شاء سلم من كل ركعتين، كما في الصفة الثالثة وغيرها، وهو الأفضل. وأما صلاة الخمس والثلاث بقعود بين كل ركعتين بدون تسليم، فلم نجده ثابتا عنه صلى الله عليه وسلم ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيتار بثلاث، كما في الحديث، وعلل ذلك بقوله: «ولا تُشبهوا بصلاةِ المغرب» رواه الدارقطني وغيره ؛ فلا بدّ لمن صلى الوتر، ثلاثاً من الخروج عن هذه المشابهة، وذلك يكون بوجهين: - أحدهما: التسليم بين الشفع والوتر، وهو الأقوى والأفضل. - والآخر: أنْ لا يقعد بين الشفع والوتر، فلو صلى ثلاث ركعات، فعند جمهور الفقهاء: أنه يصلي الركعات الثلاث متصلة، ولا يجلس في الثانية، وإنما يجلس في الأخيرة، ويتشهد ويُسلم. وقال الأحناف: إنه إذا أوتر بثلاث، يجلس في الثانية ولا يُسلم، ثم يقوم ويأتي بالركعة الثالثة، فيتشهد ويسلم، ولكن يرده ما سبق. وعن أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَال: قَال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «الْوِتْرُ حَقٌّ , فَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِخَمْسٍ , وَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِثَلاثٍ , وَمَنْ شَاءَ فَلْيُوتِرْ بِوَاحِدَةٍ» رواه الدارقطني. وفيه: أن قيام الليل والوتر شيءٌ واحد، كله من صلاة الليل. قولها «وَكَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طويلًا قائِمًا» أي: زماناً طويلاً من الليل وهو قائم، «وليلًا طَويلًا قاعدًا» وزماناً طويلا من الليل وهو قاعد، فهما حالتان من حالاته صلى الله عليه وسلم في قيام الليل. قولها «وكانَ إِذَا قَرَأَ وهُوَ قَائِمٌ، رَكَعَ وَسَجَدَ وَهُوَ قَائِمٌ» أي: لا يقعد قبل الركوع. «وكان إذا قرأ قاعداً، ركع وسجد وهو قاعد» أي: لا يقوم للركوع. الأولى: أنْ يصلي قائمًا، ويقرأ قائما، ويركع قائمًا. الثانية: أن يصلي قاعدًا، ويقرأ قاعدًا، ويركع قاعدًا. وهناك حالة ثالثة: أنْ يصلي جالسًا، فإذا بقي عليه من السورة شيءٌ، ثلاثون أو أربعون آية، قام فقرأهن ثم ركع. وقال بعض أهل العلم: هذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن نافلته مع القُدرة على القيام، كنافلته قائمًا، تشريفًا له ؛ لأنه مشرّع للأمة، وأما غيره، فالجالس له نصف أجر القائم، لكن الرسول له هذه الخصوصية ؛ لكونه هو المبين للأمة دينها. قولها «وكَان إِذا طَلَعَ الْفَجْرُ، صَلَّى رَكْعَتَيْنِ» وهما ركعتا سُنة الفجر.
__________________
|
#85
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 86 ) بــاب: صــــــلاة النــافــلــــة في الـمـســجــد الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 377.عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه قَالَ: احْتَجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَيْرَةً بِخَصَفَةٍ أَوْ حَصِيرٍ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِيهَا، قَالَ: فَتَتَبَّعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ وَجَاءُوا يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ، قَالَ: ثُمَّ جَاءُوا لَيْلَةً فَحَضَرُوا، وَأَبْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ، قَالَ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَحَصَبُوا الْبَابَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَا زَالَ بِكُمْ صَنِيعُكُمْ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُكْتَبُ عَلَيْكُمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ، إِلَّا الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ».وفي رواية: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ حُجْرَةً فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حَصِيرٍ. الشرح: قال المنذري: باب: صلاة النافلة في المسجد. الحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/539) وبوب عليه النووي: باب استحباب صلاة النافلة في بيته، وجوازها في المسجد. قوله «احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة بخصفة أو حصير فصلى فيها» الحجيرة بضم الحاء تصغير حُجرة، والخصفة والحصير بمعنى واحد، شك الراوي في المذكورة منهما، وهي شيءٌ يُنسج من خوص النخل. ومعنى «احتجر حُجرة» أي: حوّط موضعاً من المسجد بحصير ليستره، ليصلي فيه، ولا يمر بين يديه مار، ولا يتشوّش بغيره، ويتوفر خشوعه وفراغ قلبه. وفيه: جواز مثل هذا الفعل إذا لم يكن فيه تضييقٌ على المصلين ونحوهم، ولم يتخذه دائما ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجرها بالليل يصلي فيها، وينحيها بالنهار ويبسطها، كما ذكره مسلم في الرواية التي بعد هذه، ثم إنّ النبي صلى الله عليه وسلم تركه بالليل والنهار، وعاد إلى الصلاة في بيته. وفيه: جواز صلاة النافلة في المسجد. وفيه: جواز الجماعة في غير المكتوبة، كقيام الليل والتراويح كما سيأتي. وفيه: جواز الاقتداء بمنْ لم ينوِ الإمامة. وفيه: ترك بعض المصالح، لخوف مفسدة أعظم من ذلك. وفيه: بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته، ومراعاة مصالحهم، وأنه ينبغي لولاة الأمور، وكبار الناس والمتبوعين - في علم وغيره - الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك. قوله «فتتبّع إليه رجالٌ» أصلُ التتبع: الطلب، ومعناه هنا: طلبوا موضعه واجتمعوا إليه. قوله «وحَصبوا الباب» أي: رموه بالحصباء، وهي الحصى الصغار، تنبيهاً له، وظنهم أنه نسي. قوله صلى الله عليه وسلم «فإنّ خيرَ صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة» وهذا عامٌ في جميع النوافل المرتبة مع الفرائض، والمطلقة، إلا في النوافل التي هي من شعائر الإسلام، وهي: العيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، فإنها مشروعةٌ في جماعة في المسجد، والاستسقاء في الصحراء، وكذا العيد إذا ضاق المسجد، والله أعلم. 174- باب: صلاة النافلة في البيوت 378.عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلْيَجْعَلْ لِبَيْتِهِ نَصِيبًا مِنْ صَلَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ فِي بَيْتِهِ مِنْ صَلَاتِهِ خَيْرًا». الشرح: قال المنذري: باب: صلاة النافلة في البيوت. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/539) وهو في الباب السابق. قوله «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده» أي: إذا أدّى الفرض في المسجد مع الجماعة. «فليجعل لبيته» أي: محل سكنه، «نصيباً» أي: قِسماً، «من صلاته» أي: فليجعل الفرض في المسجد، والنّفل في بيته، لتعودَ بركته على البيت وأهله. قوله «فإنّ اللهَ جاعلٌ في بيته من صلاته» أي: منْ أجلها وبسببها، «خيراً» أي: كثيراً وعظيماً لعمارة البيت بذكر الله وطاعته، وحضور الملائكة واستبشارهم بصلاته وذكره لله، وما يحصل لأهله من ثواب وبركة. وفيه: أنّ النفل في البيت أفضل منه في المسجد، ولو بالمسجد الحرام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه - وهو في مسجده - يقول: «صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». أخرجه البخاري (1/147)، ومسلم (1/256). وكان عليه الصلاة والسلام يصلي النافلة في بيته، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أخرجه مسلم (1/504). وعن رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: «تطوُّعُ الرجل في بيتِهِ، يزيدُ على تطوُّعِه عندَ الناس، كفضْلِ صلاة الرجل في جماعةٍ على صلاتهِ وحدَه» أخرجه عبد الرزاق ( 4835) وابن أبي شيبة (2/256) وقال الألباني: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم، وظاهر إسناده الوقف، ولكنه في حكم المرفوع. سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/422). ولهذا نص الإمام مالك والشافعية على تفضيل فعل النافلة في البيت على فعلها في المسجد. كما في المنتقى شرح الموطأ (1/230)، والأشباه والنظائر للسيوطي (1/147)، التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (1/186). إلا أنّ الإمام مالك قال: التنفل فيه – أي المسجد النبوي - للغرباء أحبُ إلي من التنفل في البيوت. وقال ابن قدامة رحمه الله: «والتطوع في البيت أفضل؛ لأنّ الصلاة في البيت أقربُ إلى الإخلاص، وأبعدُ من الرياء، وهو من عمل السّر، وفعله في المسجد علانية، والسرُ أفضل» المغني (2/564). بل قال ابن علان: بأن صلاة النافلة ببيت الإنسان، أفضل من فعلها في جوف الكعبة، وإنْ قيل باختصاص مضاعفة الأعمال بها، وذلك لأنّ في الاتباع من الفضل ما يربو على ذلك. دليل الفالحين (6/601). وفي هذا إجابة عما قد يستشكله البعض: من وجود المضاعفة في الحرم، وفقدانها في البيت، فيقال: إن متابعة السُنة، أفضل من المضاعفة ؛ ولهذا من يصوم يوماً ويفطر يوماً، أفضل ممن يصوم الدهر، مع أنّ العمل من الثاني أكثر، وهذا من بركات ملازمة السنة واتباعها، والحمد لله. ورجح تفضيل أدائها في البيت على فعلها في المسجد الحرام، الرحيباني الحنبلي، ونسبه العلائي للمحققين من أهل العلم. مطالب أولي النهى (1/549)؛ لأن الأحاديث في التفضيل مطلقة ولم تقيد. وقد أورد الحافظ العلائي سؤالاً: هل فعلها في المساجد الثلاثة أفضل، أو في البيوت؟ ثم أجاب عليه فقال: «الذي تقتضيه الأحاديث عند المحققين، أنّ فعلها في البيوت أفضل، إلا ما شرع له الجماعة كالعيد والكسوف والاستسقاء، وكذا التراويح على الأصح، وكذا ركعتي الطواف اتباعاً لفعله صلى الله عليه وسلم لهما خلف المقام، وكذلك تحية المسجد لاختصاصها بالمسجد، وما عدا ذلك ففعله في البيت أفضل، لدخوله تحت قوله صلى الله عليه: «أفضلُ صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». ورواه الدارمي بإسناد صحيح، ولفظه: «فإنّ خيرَ صلاة المرء في بيته إلا الجماعة». ولما رواه أبو داود (1044): عن زيد بن ثابت رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةُ المرء في بيته، أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة». والحكمة في تفضيل ذلك كما قال النووي: كونه أخفى وأبعد من الرياء، وأصون من المحبطات، وليتبرك البيْت بذلك، وتنزل الرحمة فيه والملائكة، وينفر الشيطان منه. شرح النووي (6/68). وليس معنى هذا أن صلاة النافلة في المسجد غير مقبولة، وإنما المقصود أنّ أداءها والتعود على ذلك في البيت أفضل. وفيه: أنّ الفضيلة المتعلقة بنفس العبادة، أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها ؛ إذْ النافلة في البيت فضيلة تتعلق بها ؛ فإنه سببٌ لتمام الخشوع والإخلاص فيها، فلذلك كانت صلاته في بيته، أفضل منها في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم .
__________________
|
#86
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 87 ) باب: ليصل أحدكم نشاطه, فإذا فتر فليقعد الفرقان إنْ بلغ الإرهاق والتعب بالمصلي، إلى حدّ العجز عن القيام إلا بالاتكاء، فعليه أنْ يقعد، وحكمه مثل الحبل الممدود الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 379.عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟ «قَالُوا : لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فَإِذَا كَسِلَتْ أَو فَتَرَتْ، أَمْسَكَتْ بِهِ، فقال: «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسِلَ أَوْ فَتَرَ قَعَد».الشرح: قال المنذري: باب: ليصل أحدكم نشاطه, فإذا فتر فليقعد. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/539) وبوب عليه النووي: باب أمر منْ نعس في صلاته، أو اسْتَعجم عليه القرآن أو الذكر، بأنْ يرقد أو يقعد حتى يذهبَ عنه ذلك. وأخرجه البخاري في التهجد (1150) باب: ما يكره من التشديد في العبادة . قوله: «وحَبْلٌ مَمْدُودٌ بين سَارِيَتَيْن»، أي: مربوط بين عمودين بالمسجد . قوله: «مَا هَذَا ؟»، قَالُوا: لِزَيْنَبَ تُصَلِّي قال أكثر الشرّاح: هي زينب بنت جَحْش أم المؤمنين رضي الله عنها. قوله: «فَإِذَا كَسِلَتْ أَوْ فَتَرَتْ»: فَتَرَت بمعنى كسلت عن القيام في الصلاة . قوله: «حُلُّوه»، وفي رواية البخاري: «لا، حُلوه»، فقوله: «لا» يحتمل النفي، أي: لا يكون هذا الحبل، أو لا يستحب. ويحتمل: النّهي، أي لا تفعلوه. وقد اختلف أهل العلم في حكم التعلّق بالحبل عند الكسل والتعب من طول القيام في النوافل، والراجح منعه للحديث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حلَّ الحبل أو أمر بحلِّه. وإنْ احتاج إلى الاتِّكاء اعتمد على عصا، فقد روى مالك في الموطأ ( 1/115 ): عن السائب بن يزيد أنه قال : أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر. قال القاضي عياض رحمه الله: أما الاتكاء على العصي لطول القيام في النوافل، فما أعلم أنه اختلف في جوازه والعمل به، إلا ما روي عن ابن سيرين في كراهة ذلك اهـ . إكمال المعلم (3/149). لكن إنْ بلغ الإرهاق والتعب بالمصلي، إلى حدّ العجز عن القيام إلا بالاتكاء، فعليه أنْ يقعد، وحكمه مثل الحبل الممدود لزينب رضي الله عنها. قوله: «لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ» أي مدة نشاطه، أو ما دام نشيطاً. قوله: «فإِذا كَسِلَ أَو فَتَرَ قَعَدَ»، وفي رواية البخاري «فليقعد» يحتمل أن يكون أمراً له بالقعود عن الصلاة ثم النوم، أي: ترك ما كان عزم عليه من التنفل، كما في الحديث الآخر: عن أنس أيضا مرفوعاً: «إذا نعسَ أحدُكم في الصلاة، فلينمْ، حتى يعلم ما يقرأ». ومن حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إذا نعسَ أحدُكم وهو يصلي فليرقدْ، حتى يذهبَ عنه النوم، فإنّ أحدَكم إذا صلى وهو ينعس، لعله يذهبُ يستغفر فيسبّ نفسه». متفق عليه. ويمكن أنْ يستدلّ به على قطع النافلة بعد الدخول فيها . وفي الحديث : الحث على الاقتصاد في العبادة، وهو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط والنهي عن التعمق فيها، والأمر بالإقبال عليها بنشاط. وفيه : إزالة المنكر باليد واللسان ، وعناية النبي صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر الذي رآه، والجمع في التغيير بين اليد واللسان، وهو أعلى مراتب الإنكار. وفيه: جواز تنفل النساء في المسجد، إذا أمنت الفتنة ، ولم يكن فيه مفسدة. وفيه: بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم ورحمته بأمته، وسماحة شريعته؛ حيث أرشدهم إلى ما فيه صلاح دينهم، واستقامة عبادتهم وأمرهم بالتيسير في النوافل، ونهاهم عن التشديد فيها، ليمكنهم الدوام عليها بلا مشقة أو ملل. وهذا الحديث لا ينافي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجد والاجتهاد في العبادة، والإكثار منها، والمداومة عليها، وإن أضرَّ بنفسه فقد كان يصلي حتى تتفطر قدماه، ويواصل الصوم يومًا ويومين؛ لأنه أعطي من الجَلَد والصَّبر والقوَّة، ولذَّة العبادة بذلك، وقرة العين بذكره، ما لم يؤت غيره من أمته، ففارقهم في الحال والحكم. وقد كره كثير من السلف إحياء الليل كله بالصلاة ، ويتأكد النّهي لمن خشي أن يُضر قيامه بصلاة الفجر ، فينام عنها، أو يتأخر عن إدراكها، أو يأتيها وبه فتورٌ وكسل. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنةٌ، فقد قالت عنه عائشة رضي الله عنها: «ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتى الصَّباح» رواه مسلم (746) . وقد حذّر النبيصلى الله عليه وسلم من مخالفة هديه، والرغبة عن سنته، بمواصلة الليل في التهجّد، والغلو في النوافل، فقال: «أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصومُ وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوجُ النساء، فمنْ رغبَ عن سنتي فليس مني». رواه البخاري واللفظ له (5063) ومسلم (1401) . ومن مداخل الشيطان على العبد: فتح باب الغلو في الدين، والتعمّق في النوافل، ليشغله عن الفرائض وطلب العلم. فينهمك في أداء المستحبات ويأتي بصورتها الظاهرة مع فراغ القلب من تدبِّرها والخشوع فيها، وإعراضه عن مهمات الدين فيعتريه النقص؛ حيث ابتغى الكمال . فالغلو في العبادة إلى حدِّ الضجر والضرر، نذيرٌ بانقطاعها، أو بذلها بِكَلَفَةٍ دون خشوع وانشراح قلبٍ ، فيفوت بذلك خيرٌ عظيم. انظر إكمال المعلم (3/147)، المفهم (3/1337)، وفيض القدير (4/354) .
__________________
|
#87
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 89 ) باب: أحب الأعمال إلى الله أدومها الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 380.عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَ قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ.الشرح: قال المنذري : باب: أحب الأعمال إلى الله أدومها . والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/541) وبوب عليه النووي: باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره. والحديث رواه البخاري في الصوم (1987) باب: هل يخص شيئا من الأيام. علقمة هو ابن قيس بن عبدالله النخعي، ثقة ثبت فقيه عابد، روى له الستة. قوله : «هل كان يختص من الأيام شيئا؟ قالت: لا»، قال ابن التين: استدل به بعضهم على كراهة تحري صيام يوم من الأسبوع، وأجاب الزين بن المنير: بأن السائل في حديث عائشة، إنما سأل عن تخصيص يوم من الأيام من حيث كونها أياما - يعني لم يرد الشرع بتفضيلها - وأما ما ورد تخصيصه من الأيام بالصيام؛ فإنما خصص لأمر، لا يشاركه فيه بقية الأيام كيوم عرفة، ويوم عاشوراء ، وأيام البيض، وجميع ما عُين لمعنى خاص. (الفتح ). وقد ورد في صيام يوم الاثنين والخميس أحاديث صحيحة عدة، منها حديث عائشة رضي الله عنها ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه ابن حبان. فإنْ ثبت فيهما ما يقتضي تخصيصهما ، استثني من عموم قول عائشة: لا. وكذا غيرهما من الأيام. قولها: «كان عمله ديمة» بكسر أوله، أي: دائما، قال أهل اللغة: الدّيمة مطر يدوم أياما، ثم أطلقت على كل شيء يستمر. ويمكن الجمع بين تخصيصه لبغض الأيام وبين قولها: «كان عمله ديمة»، بأن قولها: «كان عمله ديمة»، معناه: أن اختلاف حاله في الإكثار من الصلاة والنوم أحياناً، والصوم ثم الفطر، كان مستداماً مستمرا، وبأنه[ كان يُوظف نفسه للعبادة دوما، فربما شغله عن بعضها شاغل، فيقضيها على التوالي، فيشتبه الحال على من يرى ذلك فقول عائشة: «كان عمله ديمة» منزل على التوظيف، وكذا قولها: «كان لا تشاء أن تراه صائما إلا رأيته» منزل على الحال الثاني. وقيل: معناه: أنه كان لا يقصد نفلاً ابتداء في يوم بعينه فيصومه، بل إذا صام يوما بعينه كالخميس مثلا داوم على صومه. (انظر الفتح 4/236) . والحديث فيه: الحث والترغيب في المثابرة على الطاعات، والمداومة على المستحبات، ومما يعين على ذلك وينشط له، الاقتصاد في النوافل، فالغلو في العبادة إلى حدِّ الضجر والضرر، نذيرٌ بانقطاعها، أو بذلها بِكَلَفَةٍ دون خشوع وانشراح قلبٍ، فيفوت بذلك خيرٌ عظيم. وقد ذمّ الله سبحانه من ألِفَ فعل البرِّ والطاعة ثم قطعه، بقوله تعالـى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿27﴾}(الحديد: 27). قال النووي رحمه الله : «القليل الدائم خيرٌ من كثيرٍ ينقطع، وإنما كان خيرًا؛ لأنّ به دوام الإقبال على الله سبحانه، بالطاعة والذكر والمراقبة، وإخلاص النية ، ويثمر القليل الدائم؛ بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرة». 177- باب : خذوا من العمل ما تطيقون 381.عَن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّ الْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، مَرَّتْ بِهَا، وَعِنْدَهَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ: هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه[: «لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؟! خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا». الشرح: قال المنذري: باب: خُذوا من العمل ما تطيقون. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/542) وبوب عليه النووي: باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن أو الذكر بأن يرقد أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك. الْحَوْلَاء بنت تُوَيْت صحابية مهاجرة قانتة، ذكرها ابن سعد في الطبقات وقال: أسلمت وبايعت. قولها: «أَنَّ الْحَوْلَاءَ بنتَ تُوَيْتِ، مَرَّتْ بِهَا، وعندها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقلْتُ: هذه الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ، وزعمُوا أَنَّها لَا تنامُ اللَّيلَ»، أي : كانت تُكثر من التهجد بالليل والصلاة، حتى أنها لا تنام، أو تكاد لا تنام. قوله: «خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ ما تُطِيقُونَ»، عام في الصلاة وغيرها من الأعمال الصالحة، من قراءة القرآن والذكر والصوم وغيره. قوله: «فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى تَسْأَمُوا». وفي الرواية الأخرى: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا»، هو من نصوص الصفات، على وجه يليق بالباري سبحانه، لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع والمكر، ولا يشبه أحدا من مخلوقاته. قال أبو يعلى في إبطال التأويلات (2/370) بتحقيقنا: اعلم أنه غير ممتنع إطلاق وصفه تعالى بالملل لا على وجه السآمة والاستثقال ونفور النفس، كما جاز وصفه بالغضب لا على وجه النفور، وكذلك الكراهة والسخط والعداوة». وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في «الفتاوى والرسائل» (1/209): «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملُّوا» : من نصوص الصفات، وهذا على وجه يليق بالباري، لا نقص فيه؛ كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر. قال أبو إسحق الحربي في «غريب الحديث» (1/338): قولـه : «لا يَمَلُّ الله حتى تملوا» : أخبرنا سلمة عن الفراء؛ يقال: مللت أمَلُّ: ضجرت، وقال أبو زيد: ملَّ يَمَلُّ ملالة، وأمللته إملالاً، فكأنَّ المعنى: لا يملُّ من ثواب أعمالكم، حتى تملُّوا من العمل» اهـ. قلت: وهذا ليس تأويلاً، بل تفسير الحديث على ظاهره؛ لأنَّ الذين أوَّلُوه كالنووي في «رياض الصالحين». (باب الاقتصاد في العبادة)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (فصل ما جاء في المِلال)، قالوا: معنى لا يَمَلُّ الله، أي: لا يقطع ثوابه، أو أنه كناية عن تناهي حق الله عليكم في الطاعة. وقال الحافظ في الفتح: قوله: «لا يمل الله حتى تملوا»: هو بفتح الميم في الموضعين، والملال استثقال الشيء، ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو محالٌ على الله تعالى باتفاق. وقال الإسماعيلي وجماعة من المحققين: إنما أطلق هذا على جهة المقابلة اللفظية مجازا، كما قال تعالى: {وجزاءُ سيئة سيئة مثلها} وانظاره . قال القرطبي: وجه مجازه أنه تعالى لما كان يقطع ثوابه عمن يقطع العمل ملالاً، عبر عن ذلك بالملال من باب تسمية الشيء باسم سببه. وقال الهروي: معناه لا يقطع عنكم فضله، حتى تملوا سؤاله، فتزهدوا في الرغبة إليه. وجنح بعضهم إلى تأويلها، فقيل معناه: لا يمل الله إذا مللتم، وهو مستعمل في كلام العرب، يقولون: لا أفعل كذا حتى يبيض القار، أو حتى يشيب الغراب، ومنه قولهم في البليغ: لا ينقطع حتى ينقطع خصومه؛ لأنه لو انقطع حين ينقطعون، لم يكن له عليهم مزية. وقد سئل الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في «مجموعة دروس وفتاوى الحرم» (1/152) : هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله تعالى؟ فأجاب: «جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قولـه: «فإنَّ الله لا يَمَلُّ حتى تملوا». فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله ، لكن ؛ ملل الله ليس كملل المخلوق؛ إذ إنَّ ملل المخلوق نقص؛ لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله؛ فهو كمال وليس فيه نقص ، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال، وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً. ومن العلماء من يقول: إنَّ قولـه: «لا يَمَلُّ حتى تملوا»؛ يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل؛ فإنَّ الله يجازيك عليه؛ فاعمل ما بدا لك؛ فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا، فيكون المراد بالملل لازم الملل. ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقاً؛ لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم، لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضاً: «لا يمل حتى تملوا»، لا يستلزم ثبوت الملل لله عَزَّ وجَلَّ. وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله تعالى مُنَزَّه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل؛ فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق. اهـ. وقد ورد عن عائشة أيضا أنها قَالَتْ: «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ شَهْرًا أَكْثَرَ مِنْ شَعْبَانَ، فإِنَّه كَانَ يَصومُ شَعبَانَ كُلَّهُ، وكان يَقُولُ: «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى النَّبِي[ مَا دُووِمَ عليه، وإِنْ قَلَّتْ، وكان إِذَا صلَّى صلاَةً دَاوَمَ عليها» رواه البخاري ومسلم ، واللفظ للبخاري. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة لأصحابه وأمته، في الاعتدال والوسطية، مثلما كان في الدّين والخلق، والسلوك والعبادة؛ فقد كان يصوم ويفطر وينام ويقوم ، ويأتي أهله ويجلس مع أصحابه، ويعطي كل ذي حق حقه ؛ فلا يطغى شيء على شيء، بل كل شيء بمقدار واعتدال, وكان عليه الصلاة والسلام يحض أصحابه على الاعتدال والوسطية، وعدم تعمد المشقة في العبادة ، وتكليف النفس ما لا تطيق، وأن يتقي المسلم ربه ما استطاع، فقليلٌ مستمر خير من كثير منقطع؛ فقد نهى عن الوصال في الصيام، وزجر من عزم على صيام الدهر، وكذا من رغب عن سنة الزواج، ومن عزم على قيام الليل كله؟! وقد روى أنس رضى الله عنه: أن ثلاَثَةَ رَهْطٍ جاءَوا إلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عن عبادةِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوها، فقالوا: وأَين نحنُ مِنَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ؟ قد غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّم من ذَنْبه وَمَا تَأَخَّرَ. قال أَحدُهم: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّى اللَّيْلَ أَبدًا، وقال آخرُ: أَنا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفطرُ، وقال آخرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فجاءَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكم للَّهِ، وَأَتْقَاكُم له، لَكِنِّى أَصومُ وأُفْطرُ، وَأُصلِّى وَأَرقُدُ، وَأَتَزوَّجُ النِّساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي» رواه البخاري. ومما ورد في القصد والاعتدال في العبادة، ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما؛ حيث قال: ذُكِرَ لَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رِجَالٌ يَنْصِبُونَ فِى الْعِبَادَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ نَصَباً شَدِيداً، قَال فَقَال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : «تِلْكَ ضَرَاوَةُ الإِسْلاَمِ وَشِرَتُهُ، ولِكُلِّ ضَرَاوَةٍ شِرَةٌ، ولِكُلِّ شِرَةٌ فَتْرَةٌ فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَلأُمٍّ ما هُوَ، ومنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى مَعَاصِى اللَّهِ؛ فَذَلِكَ الْهَالِكُ» حسنه الألباني في الصحيحة في حديث (2850) . وقوله: «فَلِأَمٍّ»، أي: قصد الطريق المستقيم . «النهاية». وفي معناه حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال: «إن للإسلام شرة، وإنّ لكل شرة فترة، فإنْ كان صاحبها سدّد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا ترجوه» (الصحيحة برقم 2850) .
__________________
|
#88
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 90 ) باب: في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 382.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ، فَأَتَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شِنَاقَهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءًا بَيْنَ الْوُضُوءَيْنِ، وَلَمْ يُكْثِرْ، وَقَدْ أَبْلَغَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى، فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَنْتَبِهُ لَهُ، فَتَوَضَّأْتُ، فَقَامَ فَصَلَّى فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ، فَتَتَامَّتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ، فَأَتَاهُ بِلَالٌ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَانَ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَفَوْقِي نُورًا، وَتَحْتِي نُورًا ، وَأَمَامِي نُورًا، وَخَلْفِي نُورًا، وَعَظِّمْ لِي نُورًا».قَالَ كُرَيْبٌ: وَسَبْعًا فِي التَّابُوتِ، فَلَقِيتُ بَعْضَ وَلَدِ الْعَبَّاسِ فَحَدَّثَنِي بِهِنَّ، فَذَكَرَ: «عَصَبِي وَلَحْمِي وَدَمِي وَشَعْرِي وَبَشَرِي» وَذَكَرَ خَصْلَتَيْنِ. الشرح: قال المنذري : باب : في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه. وقد أورد فيه حديثان: - الأول: حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما، وقد أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، وبوَّب عليه النووي: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. والحديث رواه البخاري في أول الوتر (992) وفي الدعوات (6316)، باب الدعاء إذا انتبه من الليل. - قوله: «بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ»، وهي ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وخالة ابن عباس رضي الله عنهم، أخت أمه لبابة بنت الحارث زوجة العباس رضي الله عنهم. قوله: «فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ اللَّيْلِ، فَأَتَى حَاجَتَه»، وفي الرواية الأخرى: «فبال». - قوله: «ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ»، قال النووي: هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذكر وغيره. اهـ . - قوله: «ثُمَّ قَامَ فَأَتَى الْقِرْبَةَ فَأَطْلَقَ شناقها»، الشناق بكسر الشين وتخفيف النون، وهو رباط القربة الذي يشد عنقها وهو الوكاء، فشبه بما يشنق به. وقيل: هو ما تعلّق به في الوتد، ورجح أبو عبيد الأول. - قوله: «وضوءاً بين وضوءين»، قد فسره بقوله: «لم يكثر وقد أبلغ»، قال النووي: يعني لم يُسرف ولم يقتر، وكان بين ذلك قواما. ووقع في رواية عند مسلم «وضوءاً حسنا». وهو يحتمل أنْ يكون قلّل من الماء مع التثليث، أو اقتصر على دون الثلاث . قوله: فَقُمْتُ فَتَمَطَّيْتُ» فتمطَيتُ: أي مدّ ظهره، والمطا هو الظهر، والمطية ما يُركب ظهره كالبعير. - قوله: «كراهيةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أَنْتَبِهُ لَهُ»، قال الحافظ: كأنه خَشي أنْ يترك بعض عمله، لما جرى من عادته صلى الله عليه وسلم أنه كان يترك بعض العمل خشية أن يفرض على أمته. وفي رواية البخاري: «كراهيةَ أَنْ يَرَى أَنِّي كُنْتُ أتقيه»، قال الخطابي: أي أرتقبه، وفي رواية « أنقبه» من التنقيب وهو التفتيش، وفي رواية: «أبغيه»، أي: أطلبه ، قال الحافظ: وللأكثر «أَرقبه»، وهي أوجه . - قوله: «فَقَامَ فَصَلَّى فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَأَدَارَنِي عَنْ يَمِينِهِ»، وهذا من العمل في الصلاة للحاجة، وهو تعليم منه صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه. قوله: «فتتامت»، أي: تكاملت. قوله: «ثم نام حتى نفخ، وكنا نعرفه إذا نام بنفخه»، وفي رواية البخاري: «فنام حتى نفخ وكان إذا نام نفخ»، والنفخ: صوتُ نَفَس النائم. قوله: «فَأَتَاه بلَالٌ فَآذنهُ بِالصَّلَاة، فَقَام فَصَلَّى ولَم يَتَوضَّأْ»، أي: أعلمه بصلاة الفجر، فقام فصلى صلى الله عليه وسلم ركعتي الفجر، ولم يتوضأ، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، فليس النوم ناقضاً للوضوء في حقه. قوله: «وكان في دعائه»، أي : في صلاته من الليل، وفيه إشارة إلى أن دعاءه كان كثيراً، وكان هذا من جملته. قوله: «اللهم اجعل في قلبي نوراً»، التنوين فيها للتعظيم، أي: نوراً عظيما، وقد اقتصر في هذه الرواية على ذكر القلب والسمع والبصر، والجهات الست. قوله: «وعظّم لي نورا» بتشديد الظاء المعجمة، وفي البخاري وأعظم»، أي: اجعله عظيما، وفي رواية للبخاري: وقال في آخره: «واجعلْ لي نوراً»، وفي رواية لمسلم: «واجعلني نورا». قال القرطبي: هذه الأنوار التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يمكن حملها على ظاهرها، فيكون سأل الله تعالى أنْ يجعل له في كل عضو من أعضائه نوراً، يستضيء به يوم القيامة في تلك الظُلم، هو ومن تبعه أو من شاء الله منهم، قال: والأولى أنْ يقال: هي مستعارة للعلم والهداية، كما قال تعالى: {فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}(الزمر: 22)، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}(الأنعام: 122)، ثم قال: والتحقيق في معناه: أنّ النور مُظْهر ما نسب إليه، وهو يختلف بحسبه، فنور السمع مظهر للمسموعات، ونور البصر كاشف للمبصرات، ونور القلب كاشف عن المعلومات، ونور الجوارح ما يبدو عليها من أعمال الطاعات. وقال الطيبي: معنى طلب النور للأعضاء عضوا عضوا، أنْ يتحلى بأنوار المعرفة والطاعات، ويتعرّى عما عداهما، فإن الشياطين تحيط بالجهات الست بالوساوس ، فكان التخلص منها بالأنوار السادة لتلك الجهات. قال: وكل هذه الأمور راجعة إلى الهداية والبيان، وضياء الحق، وإلى ذلك يرشد قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(النور: 35) إلى قوله: {نورٌ على نور يهدي الله لنوره من يشاء} انتهى ملخصا (الفتح). ووقع عند مسلم أيضا (1/529) أنه قال هذا الدعاء، وهو خارج إلى صلاة الصبح. قال كريب: «وسبعا في التابوت»، وقد اختلف في مراده بقوله: «في التابوت»؛ فجزم الدمياطي في حاشيته بأن المراد به الصدر ، الذي هو وعاء القلب، وكذا قال ابن بطال والداودي، وزاد ابن بطال: كما يقال لمن يحفظ العلم: علمه في التابوت مستودع، وقال النووي تبعا لغيره: المراد بالتابوت: الأضلاع، وما تحويه من القلب وغيره، تشبيهاً بالتابوت الذي يُحرز فيه المتاع، يعني: سبع كلمات في قلبي ولكن نسيتها. وجزم القرطبي في (المفهم) وغير واحد بأن المراد بالتابوت: الجسد، أي أن السبع المذكورة، تتعلق بجسد الإنسان، بخلاف أكثر ما تقدم، فإنه يتعلق بالمعاني كالجهات الست، وإنْ كان السمع والبصر من الجسد. وحكى ابن التين عن الداودي أن معنى قوله: «في التابوت» أي في صحيفة في تابوتٍ عند بعض ولد العباس. وكذا قال ابن الجوزي: يريد بالتابوت الصندوق، أي سبع مكتوبة في صندوق عنده، لم يحفظها في ذلك الوقت. وقيل المراد: سبعة أنوار كانت مكتوبة في التابوت الذي كان لبني إسرائيل فيه السكينة. قوله: «وذكر خصلتين»، أي تكملة السبعة، والخصلتان قيل: العظم والمخ. وقال الكرماني: لعلهما الشحم والعظم. الحديث الثاني: 383-عن عائشةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. الشرح: هذا الحديث الثاني في الباب، وقد أخرجه مسلم في الموضع السابق (1/532). قولها: «كان رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذا قَام مِنْ اللَّيْلِ لِيُصَلِّيَ، افْتَتَحَ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ»، وهذا الحديث يدل على مشروعية افتتاح صلاة الليل بركعتين خفيفتين، لينشط بهما لما بعدهما. وقد جاء الحث عليهما، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قام أحدُكم منَ الليل، فليصلّ ركعتين خفيفتين» رواه مسلم (1/532) ورواه أبو داود، وزاد: «ثم ليطوّل بعد ما شاء». وقد قيل: إنّ هاتين الركعتين، هو الجمع بين روايات عائشة رضي الله عنها المختلفة في حكايتها لصلاته صلى الله عليه وسلم : أنها ثلاث عشرة تارة، وأنها إحدى عشرة أخرى، بأنها ضمت هاتين الركعتين لصلاته من الليل. وقال في الأزهار: المراد بهما ركعتا الوضوء، ويستحب فيهما التخفيف لورود الروايات بتخفيفهما قولا وفعلا، والأظهر أن الركعتين من جملة التهجد، يقومان مقام تحية الوضوء؛ لأن الوضوء ليس له صلاة على حدة، فيكون فيه إشارة إلى أن من أراد أمراً، يشرع فيه قليلا ليتدرج. قال الطيبي: ليحصل بهما نشاط الصلاة، ويعتاد بهما، ثم يزيد عليهما بعد ذلك. (عون المعبود ح/ 1323) .
__________________
|
#89
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 91 ) دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل الفرقان قال النَّوويُّ: ومعنى سُؤَاله صلى الله عليه وسلم الْمغفرةَ، مع أَنه مَغْفُورٌ لَه، أَنَّهُ يَسأَلُ ذلك تَواضعًا وخُضُوعًا، وإشْفَاقًا وإِجْلَالًا، ولِيُقْتَدَى به فِي أَصل الدُّعَاء وَالْخُضُوعِ الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. باب : 384.عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَنْ فِيهِنَّ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَقَوْلُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ».الشرح : قال المنذري : باب : دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل . وقد أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/532-534)، وبوب عليه النووي: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. ورواه البخاري في كتاب التهجد (1120) باب التهجد بالليل، وقوله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً}(الإسراء: 79). قوْله: «كَانَ إِذا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ»، قَال الحافظ: ظاهرُ السِّيَاقِ أَنَّه كَان يقُولُه أَوَلَ ما يَقُومُ إلى الصَّلاة، وترجمَ علَيه ابنُ خُزَيْمَةَ الدَّليل عَلَى أَنَّ النبيَّ[ كان يقولُ هذا التَّحْميدَ، بعد أَنْ يُكَبِّرَ، ثُمَّ ساقَهُ منْ طَرِيق طاوُس عن ابنِ عبَّاسٍ قَال: كَان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِلتَّهَجُّدِ، قَالَ بعدما يُكَبِّرُ: «اللَّهُمَّ لَك الْحَمْد» انْتَهَى. وقوله: «لَك الْحَمْد» تَقْديمُ الْخَبَرِ فيه، يدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ . قوله: «أَنْتَ نُورُ السَّموَاتِ والأَرضِ» أَي: مُنَوَّرُهُمَا، وخالقُ نُورهما. و(النور) من أسماء الله تعالى وصفاته، وقد أضاف الله تعالى النور إلى نفسه، إضافة الصفة إلى موصوفها، في قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا}(الزمر : 69)، وكذا في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}(النور : 35). وقال ابنُ عباس: هَادِي أَهْلَهُمَا. وهو لا ينافي ما سبق، بل هو من معاني كونه نور السموات والأرض سبحانه وتعالى. وقَال أَبو الْعالية: «مُزَيِّنُ السَّمواتِ بالشَّمسِ والْقَمر والنُّجُوم، ومُزَيِّنُ الأَرضِ بالْأَنْبِياء والْعُلَماء والأَوْلياء». وَقَال ابنُ بَطَّالٍ: «أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» أَي: بنُورك يَهتَدي مَنْ في السَّمَاوات والْأَرضِ. قوله: «أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ والْأَرْضِ» وفي رِواية: «قَيِّمُ» وفي أُخرى «قَيُّومٌ» وهي من أَبنية الْمُبالغة، والياء أَصلها مِنْ الْواو: قَيْوَامٌ وقيوُومٌ، بوزن: فَيْعَالٍ وفَيَعُولُ. والقيومية من صفات اللَّه تعالى، و(الْقَيُّومُ) منْ أَسماء اللَّه تَعالى، وهو الْقَائمُ بنفْسه مُطْلَقًا لا بغيره، وهو مع ذلك يقَومُ بِهِ كُلُّ موجود، حتى لَا يُتَصوَّر وُجودُ شيءٍ، ولا دوامُ وُجوده إِلَّا بِهِ تعالى، كَذَا في النهاية. فهو سبحانه الْقَائمُ بأُمورِ الْخَلْق كلهم، ومُدبِّرُ هذا الْعالَم في جميعِ أَحواله وأزمانه. قوله: «أَنْتَ ربُّ السَّمَواتِ والْأَرضِ ومَنْ فيهِنّ»، الرَّبُّ يُطْلَقُ في اللُّغَة علَى: الْمالكِ، والسَّيِّد،ِ والْمُدَبِّرِ، والْمُرَبِّي، والْمُنْعِمِ، والْقَيِّمِ, وَلَا يُطْلَقُ غَيْرَ مُضافٍ إِلَّا على اللَّهِ تَعالى، وإذا أُطْلقَ علَى غيرِهِ أُضِيف، فَيُقال: رَبُّ كَذَا ، كرب الدار ورب المال ورب الأسرة. قوله: «أَنْتَ الْحَقُّ» أَيْ: الْمُتحَقِّقُ الْوُجُود، الثَّابتُ بلا شكٍّ فيه، الدَّائمُ الْبَاقِي ، وما سواهُ في مَعْرِضِ الزَّوال . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هذا الْوصفُ له سبحانه وتعالَى بالحقيقة، خاصٌّ بِهِ، لَا ينبغي لغيرِه، إِذْ وُجودُه بنفسه، فلم يسبقْهُ عدمٌ، ولَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ، بِخلَافِ غَيْرِهِ. وقال ابنُ التِّينِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: أَنْتَ الْحَقُّ بالنِّسبة إِلَى منْ يُدَّعى فيه، أَنهُ إِلهٌ أَو بمعنى: أَنَّ مَنْ سَمَّاك إِلَهًا، فقد قال الْحَقُّ (الفتح). قوله: «وَوَعْدُك الْحَقُّ» أَي: الثَّابتُ, وعَرَّفَ الْحقَّ في «أَنت الْحَقُّ، ووعْدُك الْحَقُّ»، ونَكَّرَ في الْبَوَاقي؛ لأنَّ وعْدَهُ مُخْتَصٌّ بالْإِنجاز، دُون وعدِ غيره، إِمَّا قصدًا، وإمَّا عجزًا، تعَالى اللَّهُ عَنْهُمَا، قاله الطِّيبِيُّ بنحوه. وَالتَّنْكيرُ أيضا في الْبَوَاقي للتَّفْخيم . قوله: «ولقاؤُك حقّ» اللقاءُ الْبَعثُ، أَو رُؤيةُ اللَّه تَعالى, وقيل: الْموت، وأَبطله النَّوويُّ, واللِّقَاءُ وما ذُكرَ بعدهُ، داخلٌ تحتَ الْوعدِ، لَكنَّ الْوعدَ مَصْدَرٌ، وَمَا ذُكر بعده هو الْموعودُ بِهِ، ويُحْتملُ أَنْ يكون من الْخاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ. قوله: «والْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌ» فيه: أنهما موجودتان الآن. قوله: «والساعة حقٌّ» أَي: يومُ الْقيامة, وأَصلُ السَّاعة الْقطْعةُ من الزَّمان، وَإِطْلَاقُ اسم الْحقِّ على ما ذُكِرَ مِنْ الْأُمُورِ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا بد من كونها، وَأَنَّهَا مما يجِبُ أَنْ يُصدَّقَ بها، وَتَكْرَارُ لَفْظِ حَقٍّ لِلْمُبَالَغَة في التَّأْكيد. قوله: «اللَّهُمَّ لك أَسلَمت» أَي: اسْتَسْلَمْت وانْقَدْت لِأَمْرِك وَنَهْيِك. قوله: «وَبِك آمَنْت» أَيْ صَدَّقْت بِك وَبِكُلِّ مَا أَخْبَرْت وَأَمَرْت وَنَهَيْت. قوله: «وعلَيك تَوَكَّلْت» أَي: فوَّضت الْأَمرَ إلَيك، واثقا بك، معتمداً عليك في أموري. قوله: «وإلَيك أَنَبْت» أَي: أطعتُ ورجعت إلى عبادتك، أَي: أَقبلْت علَيها, وقيل: معنَاه رجعت إِلَيك في تَدْبِيرِ أَمري، أَي فَوَّضْت إِلَيْك. قوله: «وَبِك خَاصَمْت» أَيْ بِمَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْبَراهين والْقُوَّة، خَاصَمْت مَنْ عَانَدَ فيك وكَفَرَ بك، وقَمَعْته بالْحُجَّة وبالسَّيْف. قوله: «وَإِلَيْك حَاكَمْت» أَيْ كُلَّ مَنْ جَحَدَ الْحَقَّ حاكَمْته إِلَيك، وجعلْتُك الْحَاكِمَ بيني وبينه لا غيرك؛ ممَّا كانت تَحاكمُ إليه الْجاهلِيَّةُ وغيرُهم، من صَنَمٍ وكَاهِنٍ ونارٍ وشَيْطَانٍ وغيرها، فلا أَرضى إلَّا بحُكمِك، ولَا أَعْتَمِدُ غَيْرَهُ, وقَدَّم صِلَاتِ هذه الْأَفْعَالِ علَيها، إِشعارًا بالتَّخصيص، وإِفادَةً للحصر. قوله: «ما قَدَّمْت» أَي: قبل هذا الْوقْت، وما أَخَّرْت عنه . قوله: «وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت» أَي: أَخْفَيْت وأَظْهرْت، أَو ما حَدَّثْت بِهِ نَفْسي، وما تَحَرَّك به لساني. قوله: «أنتَ إلهي لا إله إلا أنتَ» ثناءٌ على الله عزّ وجل، وإقرارٌ له بالتوحيد. وفي رواية البخاري «أنت المقدّم، وأنت المؤخر» المقدم لما شاء من الأمور، والمؤخر لما شاء منها. ومنه: أنه جعل الدنيا مقدمة للآخرة. قال النَّوويُّ: ومعنى سُؤَاله صلى الله عليه وسلم الْمغفرةَ، مع أَنه مَغْفُورٌ لَه، أَنَّهُ يَسأَلُ ذلك تَواضعًا وخُضُوعًا، وإشْفَاقًا وإِجْلَالًا، ولِيُقْتَدَى به فِي أَصل الدُّعَاء وَالْخُضُوعِ، وَحُسن التَّضَرُّعِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ الْمُعَيَّنِ. وفي هذا الْحديث: مواظبتُه صلى الله عليه وسلم في اللَّيْلِ علَى الذِّكْر وَالدُّعاء، وتعظيم اللَّه تعالَى، والاعْتراف بحُقُوقه، والْإِقْرار بصدقِ وَعْده ووعيدِه، والْبَعْث والْجنَّة والنَّار. واستحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء به صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك . (انظر الفتح).
__________________
|
#90
|
||||
|
||||
![]() شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري ( 93 ) باب: صـــــلاةُ الليـــــلِ قائمـــــاً وقاعــــداً الفرقان الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه تتمة الكلام على أحاديث كتاب (الصلاة) من مختصر صحيح الإمام مسلم للإمام المنذري رحمهما الله، نسأل الله عز وجل أن ينفع به، إنه سميع مجيب الدعاء. 387.عن عائِشةَ رضي الله عنها قالَتْ: ما رأَيْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا كَبِرَ قَرَأَ جَالِسًا، حَتَّى إِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّورَةِ، ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ آيَةً، قَامَ فَقَرَأَهُنَّ، ثُمَّ رَكَعَ. الشرح: قال المنذري: باب: صلاة الليل قائماً وقاعداً. والحديث أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1/505)، وبوب عليه النووي: باب جواز النافلة قائماً وقاعدا، وفعل بعض الركعة قائماً وبعضها قاعدا. وقد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتاب تقصير الصلاة، باب: إذا صلى قاعداً ثم صحّ، أو وَجد خفةً، تمّم ما بقى. وأورد الحديث عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: أنها لم تَـرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي صلاة الليل قاعداً قط، حتى أسنّ، فكان يقرأ قاعداً، حتى إذا أراد أنْ يركع، قام فقرأ نحواً من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع. وأورد في الباب أيضا: قول الحسن رحمه الله: إنْ شاء المريض صلى ركعتين قائماً، وركعتين قاعدا. قولها «ما رأَيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقرأُ في شيءٍ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ جالِسًا» أي: ما كان يقرأ في صلاة الليل جالساً، وهذا كان في أول حياته؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم يُحب تحقيق العبودية لله تعالى على أكمل ما يكون، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: إنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، حتى تتفطر قدماه، قالت فقلت: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غَفَر اللهُ لك، ما تقدّم منْ ذَنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أحبُ أنْ أكون عبداً شكوراً. قالت: فلما كثُر لحمُه صلى جالسا، فإذا أراد قام فقرأ ثم ركع. رواه البخاري. فهذا يدل على أنه ليس من المستحب أنْ يُصلّي المصلي جالسا، إلا إذا كان له عُذر، أو ثقل، أو كبُرٍ في السن. ولذا لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم صلى قاعداً. وروى أحمد وأصحاب السنن: عن عائشة أيضا قالت: ما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيءٍ من صلاة الليل جالسا قط، حتى دخلَ في السّن - أي كبُر- فكان يجلس فيها، فيقرأ حتى إذا بقي أربعون أو ثلاثون آية، قام فقرأها ثم سجد. وإذا استطاع المسلم أو المسلمة أن يصلي أول الصلاة قائماً، ثم تعب وأراد أن يقعد، فله ذلك. كما يصح التطوع من قعود مع القدرة على القيام، كما يصح أداء بعضه من قعود وبعضه من قيام، لو كان ذلك في ركعة واحدة، فبعضها يكون من قيام وبعضها من قعود، وسواء تقدم القيام أو تأخر، كل ذلك جائز من غير كراهة، ويجلس كيف شاء، والأفضل التربع. فعن علقمة قال قلت لعائشة: كيف كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين وهو جالس؟ قالت: كان يقرأ فيهما، فإذا أراد أنْ يركع، قام فركع. رواه مسلم. وإن صلى التطوع من قعود مع القدرة على القيام، فأجر القاعد حينئذ على النصف من أجر القائم؛ لما روى مسلم: عن عبد اللَّه ابن عمرو قَال: حُدِّثْتُ أَنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «صلَاةُ الرَّجُلِ قَاعِدًا نِصْفُ الصَّلَاةِ» قَالَ: فأَتَيْتُه فوجَدْتُهُ يُصلِّي جالسًا، فَوَضَعْتُ يدي على رأْسه، فقال: «ما لَكَ يَا عبد اللَّهِ بن عمرو»؟ قلتُ: حُدِّثْتُ يا رسولَ اللَّهِ، أَنَّكَ قُلْتَ: «صلاةُ الرَّجُلِ قاعدًا على نصفِ الصَّلَاةِ» وَأَنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا؟ قَالَ: «أَجل؛ ولَكنِّي لَستُ كَأَحدٍ مِنْكُم». أما إن قعد لعذر، كان له ثواب القائم؛ قال النووي رحمه الله: «معناه: أن صلاة القاعد فيها نصف ثواب القائم، فيتضمن صحتها ونقصان أجرها، وهذا الحديث محمولٌ على صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، فهذا له نصفُ ثواب القائم، وأما إذا صلى النفل قاعدا لعجزه عن القيام فلا ينقص ثوابه، بل يكون كثوابه قائما، وأما الفرض: فإن صلاته قاعدا مع قدرته على القيام لم يصح، فلا يكون فيه ثواب بل يأثم به. قال أصحابنا: وإنْ استحله كفر، وجرت عليه أحكام المرتدين، كما لو استحل الزنا والربا، أو غيره من المحرمات الشائعة التحريم. وإنْ صلى الفرض قاعداً لعجزه عن القيام، أو مضطجعا لعجزه عن القيام والقعود، فثوابه كثوابه قائماً، لم ينقص باتفاق أصحابنا، فيتعين حمل الحديث في تنصيف الثواب، على منْ صلّى النَّفل قاعداً مع قدرته على القيام. هذا تفصيل مذهبنا، وبه قال الجمهور في تفسير هذا الحديث». وقال: «وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «لستُ كأحدٍ منكم»، فهو عند أصحابنا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فجُعلت نافلته قاعداً مع القدرة على القيام كنافلته قائما، تشريفا له، كما خصّ بأشياء معروفة في كتب أصحابنا وغيرهم، وقد استقصيتها في أول كتاب «تهذيب الأسماء واللغات». شرح صحيح مسلم (6/14). وصلاة النافلة يُخفف فيها ما لا يُخفف في الفريضة. فيجوز أن تُصلّى على الراحلة أو السيارة حال السفر، ولا يُشترط حينئذٍ استقبال القبلة. ويجوز أنْ تُصلّى جالسا، وإذا صلاها المسلم جالساً من غير عُذر، فله نصف أجر من صلّى قائما، لقوله عليه الصلاة والسلام: «صلاةُ الجالس، على النصف من صلاة القائم». رواه الإمام أحمد. وقد سأل عمران بن حصين النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعدا، فقال: «صلاتُه قائماً أفضل من صلاته قاعدا، وصلاته قاعدا على النصف من صلاته قائما، وصلاته نائما على النصف من صلاته قاعدا». رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. وهذا في صلاة النافلة، يجوز أن تُصلّى النافلة جالسا، ولكن فرق بين أن يكون هذا الفعل جائزا، وبين أن يكون مُستحباً أو مكروها. أما ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صَلِّ قائما، فإنْ لم تستطع فقاعداً، فإنْ لم تستطع فعلى جنب». رواه البخاري. فهذا في الفريضة، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }(البقرة: 286). فإذا لم يستطع المصلي القيام، إما لثقل أو لكبر سن صلّى قاعدا، إما على كرسي أو على الأرض، فإن لم يستطع قاعدا، ُصلّى على جنب. وهذا في الفريضة، أما النافلة والسُّنة، فله أن يصلّيها قاعدا، ولو لغير عُذر، على التفصيل المتقدّم. وأما فعل بعض الناس من أنهم يُصلّون واقفين مع وجود المشقة، فإنْ كانت تلك المشقة يسيرة ولا تضر بهم، ولا تؤخّر البرء والشفاء، فلا حرج عليهم، بل هو أخذٌ بالعزيمة. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصلاة إلا منافقٌ قد علم نفاقه، أو مريض، وإن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة. رواه مسلم. بل قد حُمل النبي صلى الله عليه وسلم بين رجلين في مرضه الذي مات فيه، قالت عائشة رضي الله عنها: صلى أبو بكر بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله[ من نفسه خِفّة، فقام يُهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان في الأرض.. رواه البخاري ومسلم. وأما إذا كان ذلك الفعل يضرّ بهم، فليس هذا من البر ولا يحبه الله، فإن الله يُحب أن تُؤتى رُخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه. كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره. وإذا دخل المسلم أو المسلمة صلاة الفريضة قائماً، ثم تعب وأراد أن يقعد، فله ذلك ولا شيء عليه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |