معركة القادسية الخالدة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         انفعالات المراهق- عندما ننظر للمراهق على أنه إنسان.. عندها فقط نعرف ما يريد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 4 - عددالزوار : 861 )           »          أسس النهوض لأهل السنة والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 75 )           »          إضاءات سلفية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 2045 )           »          العــربيـــة صــــوت القــــرآن وصــــورته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 74 )           »          الغزو العسكري والغزو الفكري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 70 )           »          العدائية في الشخصية اليهودية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 82 )           »          ظلمة المعصية .. وشقاء الدارين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 71 )           »          أثر النية في العمل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          علاقة التلميذ بالشيخ أبي القاسم الفوراني والجويني نموذجاً (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 50 )           »          أضرار القات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 109 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 28-08-2024, 11:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 139,809
الدولة : Egypt
افتراضي معركة القادسية الخالدة

معركة القادسية الخالدة 1/2



شريف عبدالعزيز



ترتيب أحداث وعرض وقائع


مقدمة
إنها واحدة من أكبر المعارك في تاريخ الإسلام ، إن لم تكن أكبرها تلك المعارك التي خاضها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخصم التاريخي واللدود للعرب والمسلمين -الفرس- والتي أظهرت المعدن الحقيقي لهذا الدين ولهذه الأمة، ولجند الإسلام، وأوجز عبارة، وأبلغ وصف لهؤلاء الجند ما قاله الصحابي الجليل جابر بن عبد الله) رضي الله عنهما عندما سئل عن القادسية:"والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة" فهلم بنا نقترب من أحداث تلكك المعركة الخالدة نقتفي ما فيها من دروس وعبر وما أعظمها وأكثرها!
الأمر الذي هيج القادسية

بعدما استطاع المسلمون إعادة ترتيب أنفسهم عقب حادثة الجسر الطارئة -والتي قتل فيها كثير من المسلمين- أستطاع القائد الخبير المثنى بن حارثة) أن يقوم بضربات قوية وسريعة حقق بها عدة انتصارات باهرة على الفرس في "البويب" و"الأنبار" وغيرها من البقاع العراقية ، واستعاد المسلمون السيطرة على منطقة السواد مرة أخرى، وذلك كله بجيش صغير أقل من عشرة آلاف مقاتل.
على الطرف الآخر من الصراع كانت الجبهة الفارسية تموج باضطرابات داخلية شديدة، وكان الصراع على أشده بين القائدين الكبيرين "رستم" و"الفيرزان", وكان لكل واحد منهما أتباع وأعوان يحرضونه ضد الآخر بسبب التنافس علي الشرف والزعامة ، فاجتمع أهل العقل والحكمة من الفرس برئاسة "بوران بنت كسرى" -وكانت هي الملكة عليهم- لمقتل كل أبناء كسرى الذكور في الفتنة التي وقعت في البلاط الفارسي أيام "شهر زاد بن كسرى" والتي وقعت استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم على كسرى وملكه عندما قال: "مزق الله ملكه" ، وقال مجلس الحكماء لرستم والفيزران: "لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما عدوهم، والله لتجتمعان، أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت، ثم نهلك وقد اشتفينا منكما"، وأمام هذا التهديد الخطير اتفق رستم والفيرزان وذلك على ما بينهما من شحناء وبغضاء وأحقاد قديمة ، اتفقا على الوقوف صفاً واحداً أمام المسلمين .
((لو قلبنا أنظارنا في أحداث التاريخ نجد أن أعداء الإسلام على مر العصور يعرفون جيداً طريق الانتصار وأسبابه، وعوامل نجاحه، التي من أولها وأهمها الإتحاد والاتفاق، وفي نفس الوقت الذي تقلب فيه بصرك في أحداث التاريخ تجد أن المسلمين لم يهزموا قط في معركة إلا عندما تختلف الكلمة، ويتفرق الصف، وتعدد الآراء، بل أن الحقيقة الثابتة أن المسلمين يهزمون عادة قبل وقوع القتال؛ لأن التشرذم والتحزب والاختلاف قرين الفشل والهزيمة))
المرأة وعرش كسرى الممزق

بعد أن اتفق رستم والفيرزان كان أول ما فعلا أن بحثا عن رجل من ذرية كسرى لينصبوه عليهم؛ لأنه لا يصلح لقيادتهم امرأة، هذا رغم أن "بوران" كانت حادة الذكاء، شديدة العقل والدهاء، حكيمة في معظم أعمالها إلا أنهم أصروا على تعيين رجل للمنصب الكبير، وبعد بحث طويل وجدوا شاباً في الحادية والعشرين من العمر من ولد كسرى اسمه "يزدجرد"؛ قد نجا من مذبحة عمه "شهرزاد" لذكور كسرى، وظل مختبئاً عند أخواله؛ فأحضروه وجعلوه ملكاً عليهم، وتبارى الجميع في خدمته وإظهار الولاء له، ولأول مرة منذ فترة طويلة تجتمع كلمة الفرس؛ فاستبشروا بذلك خيراً، وحميت نفسهم لقتال المسلمين.
((عجيب جداً أمر أعداء الإسلام، والأعجب منه أمر المسلمين في هذه الأيام؛ فأعداء الإسلام يرفضون بكل قوة أن تقودهم امرأة مهما كانت قادرة ومؤهلة لذلك، ويصرون أن يتولى الإمامة رجل مهما كان صغيراً في السن، والمسلمين الآن تجد منه الكثير تقودهم النساء، وتحكمهم وتسوسهم امراة: كما حدث في بنجلاديش وباكستان وأندونيسيا؛ كأن أعداء الإسلام سمعوا وفهموا وطبقوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة", صحيح الجامع 5225 ، وكأن مسلمي هذا الزمان ما سمعوا ولا فهموا ولا علموا)).
الفرس وسياسة الأرض المحروقة

فوض كسرى "يزدجرد" القائد الكبير رستم في التحضير لمعركة فاصلة مع المسلمين تستهدف طردهم نهائياً من العراق ومواصلة المطاردة حتى عقر دارهم بشبه الجزيرة العربية؛ فبدأ رستم في تنفيذ الخطة بإثارة القلاقل والاضطرابات بالمناطق المفتوحة من قبل المسلمين، والترويج لفكرة الثورة ضدهم؛ بدعوى أن الفرس قد اتحدوا واجتمعوا، وسيأتون بحدهم وحديدهم من أجل إفناء المسلمين أجمعين، وبالفعل آتت الخطة أكلها، واستجاب أهل السواد، وسائر المناطق المفتوحة لدعم رستم، وخلعوا طاعة المسلمين، ونقضوا عهدهم، واستقووا على المسلمين الذين كان يقودهم وقتها المثنى بن حارثة، وكان عددهم ثمانية آلاف فقط، في حين نقلت الاستخبارات الإسلامية للقائد المثنى أخبار اجتماع الفرس، وتولية يزدجرد، وأن رستم قد أعد جيشاً جراراً يتجاوز مائتي ألف مقاتل، فكيف يواجه ثمانية آلاف هذه الحملة الجبارة، فأسرع المثنى الخبير العسكري المحنك ونفذ انسحاباً عسكرياً ماهراً، قبل أن يهلك جيشه، ونزل إلي حدود العراق، وأرسل للخليفة عمر بن الخطاب يخبره بصورة الأمر وخطورته؛ وذلك لسرعة التحرك.
ملوك العرب تحت قيادة جديدة

وصلت رسالة المثنى للخليفة (عمر بن الخطاب)؛ فقال مقولته الشهيرة: "والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب", ولم يدع رئيساً, ولا ذا رأي، ولا ذا شرف وبسطة، ولا خطيباً، ولا شاعراً إلا رماهم به، فاجتمع عنده الأبطال والشجعان والفرسان فيما يشبه النفير العام, ولأول مرة يعلن الخليفة التجنيد الإلزامي للمسلمين في قبائل معينة؛ وهي قبائل "ربيعة" و"بجيلة" و"النخع" وحصل استنفار للهمم, وكان الخليفة عمر قد رفع الحظر المفروض على المرتدين، والذي سبق وكان الخليفة أبو بكر قد فرضه عليهم، وهذا الرفع أدى لزيادة الروح المعنوية عند المسلمين؛ حيث توافد الناس على المدينة، وعزم الخليفة عمر بن الخطاب على أن يقود الجيوش بنفسه،ولكن كبار الصحابة اثنوه على ذلك؛ لحاجة الأمة له في هذا المكان، وأشاروا عليه أن يبعث رجلاً من السابقين الأولين مكانه لقيادة الجيش؛ فوقع الاختيار على الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، وكان وقتها عاملاً على "هوزان"؛ فاستدعاه الخليفة، وعينه قائداً عاماً للجيوش الإسلامية المتجهة ناحية العراق، وأوصاه بوصايا نافعة، ورسم له خطة الهجوم على أفضل ما يكون، كأن الخليفة عمر يرى أرض العراق ويعرفها جيداً, رغم أن قدماه لم تطأ العراق قط.
النصيحة حيا وميتا


اجتمع عند سعد بن أبي وقاص قرابة الثمانية والعشرين ألفاً، وقام الخليفة نفسه باستعراض الجيش؛ كي يطمئن بنفسه على سلامة الاستعدادات، وسار الجيش المسلم تحدوه آمال عريضة في نشر دين الإسلام بكل أرجاء العالم، حتى لا يعبد على الأرض سوى الله عز وجل، ووصل الجيش إلى منطقة "ذي قار"؛ حيث معسكر جيش المسلمين بالعراق، وكان قائده المثنى بن حارثة رضي الله عنه قد قضى نحبه من جراح ألمت به في إحدى المعارك السابقة، واندملت ثم نغرت عليه مرة أخرى؛ فمات منها هذا البطل الجسور واستمعوا إلى ما قاله المثنى بن حارثة في آخر حياته العامرة بالجهاد في سبيل الله، وهو يوصي المسلمين القادمين بالجهاد فيقول: "أوصي المسلمين وقائدهم سعداً بأن يقاتلوا عدوهم -الفرس- على أدنى حجر من أرض العرب، وعلى أول حجر من أرض العراق، فإذا كان النصر أخذهم المسلمون ومن ورائهم، وأن كانت الأخرى كانوا أدرى بأرضهم، وعادوا سالمين". فلما سمع القائد العام سعد بن أبي وقاص نصيحة (المثنى) ترحم عليه، ودعا له، وعمل بهذه النصيحة الغالية.
((أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمونا في مواطن كثيرة كيف يكون التطبيق العملي لما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالمثنى رحمه الله يعلمنا معنى الدين الصحيح كشعار يحيى المسلم عليه ويموت، فهو ظل ينصح للأمة حتى آخر رمق في حياته؛ ذلك لأن قضية الإسلام كانت تشغل حياته كلها، ولا يفكر بسواها؛ فهي مسئولية على عقله وفكره حتى آخر لحظة في حياته؛ فلا عجب إذاًأن يفتح الله عز وجل لهم البلاد، وقلوب العباد))
يوم الأباقر وكرامة المجاهدين

بعد انضمام جيش سعد وجيش "المثنى" أصبح تعداد المسلمين قرابة الستة والثلاثين ألفا، وعسكر هذا الجيش الكبير قريباًمن القادسية, وذلك في شهر صفر سنة 15 هـ، وظل الجيش مرابطاً في المنطقة بناء على أوامر الخليفة عمر بعدم تعجل الصدام مع الفرس، ولكن واجهت هذا الجيش مشكلة: ألا وهي مسألة المؤن اللازمة لإطعام هذا الجيش الكبير، والذي يحتاج يومياً لحوالي ستة وعشرين جملاً، هذا غير الحبوب و التمر، وازدادت المشكلة تعقيداً بسبب غدر أهل السواد والمناطق المفتوحة، والذين خلعوا طاعة المسلمين، ونقضوا عهدهم؛ لما علموا بقدوم جحافل الفرس الجرارة، وتآمروا معهم على المسلمين؛ بأن فرضوا حصاراً اقتصادياً علي المسلمين، وقطعوا عنهم المؤن والطعام، وأخفوا قطعان الماشية كلها في غابة من الغابات الكثيفة؛ فأرسل القائد سعدُ عاصمَ بن عمرو ليحصل لهم على الطعام بسيوف المسلمين، طالما أن الغادرين قد منعوا عن المسلمين الطعام، واستطاع عاصم أن يأسر أحد الغادرين، وسأله عن قطعان الماشية التي كانت تملأ الوديان؛ فقال الراعي الغادر: "لا أدري", وهنا تحدث كرامة هائلة؛ إذ صاح ثور من قطعان الماشية داخل الغابة بصوت عربي فصيح مبين: "كذب عدو الله ها نحن أولاء" فدخل عاصم الغابة، واستاق قطعان الماشية، وصارت غنيمة للمسلمين ، وسموا هذا اليوم بيوم الأباقر.
((ولا يستبعد أحد حدوث هذه الكرامات والخوارق للمسلمين في وقتنا الحاضر، ولا يستكثر المسلمون على ربهم عز وجل وعلا أن يغير نظام الكون طالما كانوا على حق، وينصرون الله ورسوله، بل إنا نقول إن جند الإسلام المخلصين في أيامنا تلك سيرون من الله عز وجل كرامات وخوارق أكبر وأكثر من سابقيهم؛ لأنهم في حاجة للتأييد والعون الإلهي أكثر من سابقيهم؛ لأننا في عصر غربة الإسلام، الذي قل فيه من ينصر دين الله، وهذه الكرامات تكون آية على صحة الطريق، وسلامة القصد وحسن الخاتمة))
الإنذار قبل الإعصار

ولأن المسلمين لا يحاربون من أجل الدنيا، ولا من أجل مكاسب زائلة، ولأن حربهم في سبيل الله وحده، ومن أجل مرضاته بنشر الإسلام، ولأن حربهم عادلة، فلقد أرسل الخليفة عمر بن الخطاب لقائده الميداني سعد بن أبي وقاص يأمره أن يرسل من عنده وفداً لعرض رسالة الإسلام، وشرح أهداف الحرب على "يزدجرد", فأرسل سعد وفداً مكوناً من عشرة من كبار الصحابة وقادة المسلمين، تم اختيارهم بعناية فائقة؛ حيث تجمعهم صفات القيادة والهيبة و, وروعة المنظر وبسطة الجسم، والذكاء والفطنة والحكمة؛ بحيث كانوا خير تمثيل لدعوة أمة الإسلام، وجعل عليهم النعمان بن مقرن المزني أميراً، فذهب الوفد إلي المدائن، ودخلوا على كسرى "يزدجرد" وحاشيته، وأخذ أميرهم النعمان في عرض رسالة الإسلام بمنتهى الوضوح واليسر، ثم تكلم بعده "يزدجرد", وكان شاباً طائشاً وسفيهاً في كلامه، طفولياً في أسئلته؛ حيث سألهم عن ملابسهم وسلاحهم، وأسواطهم ونعالهم، ومعنى كل كلمة بالفارسية؛ حيث كان يتشائم ويتفائل من الألفاظ، فأعاد عليهم صحابي آخر وهو المغيرة بن زرارة، رسالة الإسلام، وبصورة قوية، وهنا أساء "يزدجرد" الأحمق الكلام والأدب مع الوفد، وسخر منهم، فرد عليه المغيرة بن زرارة بكل قوة وعزم، وخيره بين الإسلام، أو الجزية، أو الحرب؛ فاستشاط "يزدجرد" غضباً، وهم بقتلهم، ثم أمر بوقر من تراب أن يحمل على رأس أشرف رجل منهم؛ فانتدب لذلك عاصم بن عمرو، ولم يكن أشرفهم، ولكنه بادر بنفسه صيانة لإخوانه؛ فحمل الوقر على رأسه، ثم انطلق الوفد مسرعاً، ودخلوا على القائد سعد، بعد أن وضعوا وقر التراب بين يديه: "أبشر أيها الأمير؛ فقد أعطانا الله أقاليد ملكهم، وهذا هو تراب أرضهم". فانقلب السحر علي الساحر ورد الله كيد الفرس ، وفرح المسلمون بما جاء به عاصم بن عمرو ، وكان رستم غائبا لم يشهد هذا الموقف ، فلما عاد وعرف الخبر تشاءم بشدة ، وأرسل في طلب المسلمين ليأخذ منهم وقر التراب ، ولكنه لم يدركهم ، واستطاع عاصم بن عمرو بفطنته وذكائه وحسن سياسته أن يعمق من جراحات الفرس النفسية.
واحد ضد ربع مليون


لم يجد رستم بداً من الخروج للقتال رغم كرهه الشديد لذلك ، فأخذ في الاستعداد للحرب، وحشد أكثر من مائتين وأربعين ألفاً من المقاتلين الأشداء، ومنهم المسلسلون لكي يقاتلوا حتى الموت، هذا غير سلاح المدرعات المكون من ثلاثة وثلاثين فيلاًعملاقا، والجيش مجهز بأفضل وأحدث الأسلحة المعروفة وقتها، وأثناء السير للقاء المرتقب مع المسلمين خطف الفرس جندياً مسلماً؛ فلما علم رستم بذلك طلب منهم إحضاره فأتي به، وأوقف بين يدي القائد رستم، ثم دارت هذه المناظرة - القصيرة في ألفاظها العظيمة في معانيها - بين رستم الذي يقود أكثر من مائتي ألف مقاتل، وبين جندي مسلم لا يعرف أحد اسمه:
قال رستم: ما جاء بكم وماذا تطلبون ؟
قال المسلم: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا.
قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك ؟
قال المسلم: في موعود الله أن من قتل منا قبل ذلك ادخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا قلت لك، فنحن على يقين من موعود الله.
قال رستم مستهزئاً: قد وضعنا إذاً في أيديكم، وضحك هو وحاشيته.
قال المسلم: ويحك يا رستم إن أعمالكم وضعتكم؛ فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك؛ فإنك لست تجاول الإنس، إنما تجاول القضاء والقدر.
عندها استشاط رستم غضباً، وأمر بقتل المسلم؛ فقتل رحمه الله.
((ذلك الموقف الفريد في التاريخ الذي لا يعرف له نظير ليذكرنا بموقف الصحابي عبد الله بن حذافة مع ملك الروم ، ورفضه للإغراءات الكثيرة التي عرضت عليه ، ومثل هذه المواقف المتشابهة كثيرة في حياة الصحابة الذين كانوا علي يقين راسخ وإيمان شامخ بدينهم وبما وعدهم به الله ورسوله من نصر وتمكين ، وهذا الجندي الواحد الذي لم تذكر المراجع اسمه لخص رسالة الإسلام بأقل كلمات أمام هذا الطاغية المجوسي ، ولم يهتز أو يتلعثم أو يتردد أو يهادن ، بل كان مثل الطود العظيم ، حتى أنه قد صمد وحده أمام ربع مليون مقاتل من الأعداء الحاقدين))
الرسل الثلاثة


كان رستم كما أسلفنا شديد الكره للقاء المسلمين؛ لذلك فقد كان يعمل على تطويل المدة قبل الصدام المرتقب والوشيك بشتى الوسائل؛ لذلك طلب من القائد سعد بن أبي وقاص أن يرسل له من طرفه رسولاً للتشاور والتفاوض معه عسى أن يرجع عنه المسلمون، فأرسل لهم سعداً ثلاثة من الصحابة الواحد تلو الآخر، أولاً: ربعي بن عامر، ثم حذيفة بن محصن، ثم المغيرة بن شعبة، وكان رستم خبيثاً ماكراً؛ فقد رمى من هذه السفارة هدفاً شريراً ألا وهو إصابة المسلمين بالهزيمة النفسية؛ حيث أمر رستم عظماء الفرس وقادة الجيش بإظهار الزينة في أبهى حللها، وفرش مجلسه الذي سيلاقي فيه الرسل بالحرير والبسط والنمارق، والذهب، والجواهر، لإظهار القوة والسيطرة والأبهة، حتى إذا ما رأى المسلمون كل هذه القوة والزينة أصيبوا بالهزيمة النفسية المروعة، فيعودون إلي باقي المسلمين بقلوب منهزمة منكسرة، فينقلون هذه الهزيمة النفسية إلي باقي الجيش، ولكن الأمر العجيب أن رد فعل الرسل الثلاثة وجوابهم جاء واحداً متطابقاً؛ كأنهم رجل واحد, له قلب واحد، فلم ينبهر منهم أحد، ولم يهتز منهم أحد، وكانوا فوق كل هذه البهارج والزينات، واستعلوا بدينهم على كل هذه المحاولات الرخيصة لفتنتهم وهزيمتهم، فواحد خرق البسط برمحه وقطع الوسائد بسيفه ، ورفض أن يجلس عليها ، والثاني لم ينزل أساسا من فوق ظهر جواده ، والثالث دخل في مناظرة ضرب أمثال مع رستم أفحمه فيها ، وذلك بعد أن مشي حتى جلس علي سريره ، فانقلب كيد الفرس في نحورهم، ووقعت على رءوسهم الهزيمة النفسية عندما وجدوا الفارق الشاسع بين أقزامهم وعمالقة المسلمين.
((المدرسة التي تخرج منها الثلاثة واحدة: وهي مدرسة النبوة العليا، والمعلم الأستاذ واحد: وهو معلم البشرية كلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهج التربية واحد: وهو المنهج السماوي من قرآن وسنة ، وهو المنهج الذي نفتقده في أيامنا هذه التي تشهد تطويرا للتعليم يضعه اليهود والصليبيون ليدرس في بلاد المسلمين، ونحن في أمس الحاجة للعودة إلي المنهج النبوي في التربية وإعداد الرجال ، نظرا للكم الهائل من الانحرافات السلوكية والأخلاقية التي تعصف بأبناء المسلمين)).
سحر الشخصية الجهادية


قبل اشتعال القتال بصورة شاملة اعتمد القائد سعد بن أبي وقاص على سلاح الاستطلاع؛ ليأتيه بالأخبار عن تحركات الجيش الفارسي، وكان أفراد سلاح الاستطلاع من خلاصة أبطال الجيش الإسلامي، وكانوا يتصفون بالشجاعة والقوة والإقدام وحسن التصرف، وكان من أهم فرسان هذه الكتيبة الخاصة هو طليحة الأسدي, والذي سبق وأن ادعى النبوة أيام الردة، ثم تاب وعاد إلي الإسلام، وحسن إسلامه، وكان من أبطال المسلمين الكبار، ولم يترك غزوة بأرض العراق إلا واشترك فيها تكفيراً عن ذنبه، وطلباً للشهادة - التي نالها في أحداث معركة نهاوند - وكان طليحة فارساً يعد بألف في القوة والشجاعة، قاد مجموعة من الفرسان لاستطلاع الخبر عن موقع الجيش الفارسي،و كان المسلمون يظنون أنه على مسافة بعيدة، فإذا بالكتيبة تكتشف أن موقع الجيش أقرب مما يظن المسلمون، فأرادوا الرجوع لإخبار القائد سعد ولكن طليحة يصر على القيام بهجمة جهادية على المعسكر الفارسي؛ لبث الرعب في نفوس العدو، ويحجم باقي فرسان الكتيبة عن ذلك؛ إذ كيف بعشرة أن يهجموا على مائتين وأربعين ألفاً، ولنا أن نتخيل هذا الموقف الفريد الرائع: فارس واحد يقتحم معسكر الفرس الضخم، ويغير عليه بمفرده؛ وهو يصيح ويكبر بأعلى صوته الذي أرعب الفرس بصورة كبيرة، واستطاع أيضاً طليحة أن يغنم من المعسكر الفارسي فرساً أبيض لا يقدر بثمن، ولما حاول بعض أبطال الفرس حفظ ماء وجه الفرس، ولم كرامتهم المهانة والمبعثرة تخت أقدام المسلمين قتل طليحة اثنين منهم وأخذ الثالث أسيراً، ووصل طليحة هو وأسيره إلي معسكر المسلمين، وعندما سأل القائد سعد الأسير الفارسي عن وضع الجيش الفارسي وخبره، كان هذا الأسير أول ما تكلم سأل عن طليحة: من هو ؟! وكيف هو ؟! وظل يتحدث عن بطولة طليحة وشجاعته وقوته وفروسيته مثل المسحور تماماً بهذه الشخصية الجهادية، ثم ما لبث أن أعلن إسلامه فوراً، وسمى نفسه مسلماً وطلب أن يلتحق مع كتيبة البطل طليحة إعجاباً بهذه الشخصية الجهادية.
((وهكذا كانت تتحدث الأفعال لا الأقوال، فتنجذب القلوب، وتسحر النفوس، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً لما يرونه من أخلاق وأفعال المسلمين؛ تماماً مثلما يحدث الآن ولكن بصورة عكسية وللأسف الشديد)).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 04-09-2024 الساعة 01:40 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 04-09-2024, 01:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 139,809
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معركة القادسية الخالدة

معركة القادسية الخالدة 2/2



شريف عبدالعزيز


المعركة الخالدة وأيامها الثلاثة

كانت الأيام تمضي ورستم يحجم ويتثاقل عن لقاء المسلمين، ويرى كل يوم أية وعبرة على حتمية الهزيمة, وحاول إثناء رأى "يزدجرد" عن القتال ففشل، وحاول أيضاً إقناع قادة الفرس بالدخول في الإسلام أو دفع الجزية، لتجنب لقاء المسلمين في الحرب، ولكنهم أبوا واستكبروا، وكانوا من الكافرين، وحاول الاعتذار عن قيادة الجيش، ولكن "يزدجرد" أصر على أن يتولى هو قيادة الجيش، وضاقت الأرض على رستم بما رحبت، فلم يجد مناصاً من بدأ القتال؛ فجهز الجيش، واستعرض قواته، ثم ركب على حصانه، وقال كلمة يريد أن يشجع بها نفسه وجيشه؛ لانهيار معنويات الكثير منهم، قال: "غداً ندقهم دقاً"؛ فقال له أحد خواصه: "إن شاء الله"؛ فرد رستم بكفر فارسي وإلحاد مجوسي معروف: "وإن لم يشأ فإنما ضغا الثعلب عندما مات الأسد". وقطعاً لا ينصر جيشاً هذا قائده، وهذه عقيدته!!
وربما لا يعلم كثيراً من المسلمين أن معركة القادسية كانت عدة أيام وليست يوماً واحداً، وتغيرت فيها كفة القتال من طرف إلي أخر، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين في نهاية الأمر، وهذه الأيام كالآتي:


اليوم الأول: يوم أرماث (الخميس 13 شعبان)


كان جيش المسلمين مكوناً من ستة وثلاثين ألفاً يقودهم الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، وجيش الفرس يتكون من مائتي وأربعين ألفاً ومعهم ثلاثة وثلاثون فيلاً، واستعد الجميع للصدام، وكان القائد سعد وقتها مريضاً بعرق النسا، ودمامل وقروح بفخذيه وإليته بصورة سوف تمنعه من ركوب الخيل، أو حتى التحرك بصورة سليمة فعين مكانه نائباً عنه في قيادة الجيوش الإسلامية هو الصحابي الجليل خالد بن عرفطة, وهنا واجه القائد سعد أول موقف خطير في المعركة؛ حيث تذمر العديد من الفرسان والقادة من هذا الاختيار، ولم يعجبهم؛ لأن خالد بن عرفطة لم يكن له كبير ذكر في معارك العراق من قبل، وحاول بعض المسلمين الاعتراض على ذلك؛ فتصرف القائد سعد بسرعة، وأمر بالقبض على هؤلاء المعترضين والمشاغبين، وحبسهم في قصره؛ فقضى على الفتنة في مهدها، وكان ذلك من حسن تصرفه وقراراته الصائبة؛ لأن الظرف لا يحتمل أي شغب وعدم انضباط.
وضع سعد وسادة على سطح قصره، واتكأ عليها بصدره مما يدل على شدة مرضه، وخطب في الجيش خطبة بليغة: حثهم فيها على الصبر والثبات، ونصرة دين الله عز وجل، وأمرهم أن يحملوا بعد سماع التكبيرة الرابعة، وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسل برفقة الجيش غلام حسن الصوت؛ ليقرأ على الجيش سور وآيات الجهاد؛ فبدأ في الترتيل؛ فقويت النفوس، ونزلت عليهم السكينة، واستوثقت النفوس على الجهاد حتى النصر والشهادة.
كانت صفوف المسلمين على أهبة الاستعداد في انتظار التكبيرة الرابعة من القائد العام، ولكن حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان؛ حيث هجم الفرس بكل قوتهم فبل التكبيرة الرابعة، وركزوا هجومهم الكاسح على قبيلة "بجيلة"؛ حيث كانت تمثل خمس الجيش تقريباً وعددهم حوالي ثمانية آلاف مقاتل، فهاجم الفرس باثنين وخمسين ألفاً وتسعة أفيال، وكان السر وراء ذلك أن رجل من قبيلة ثقيف خان المسلمين في أحرج ساعاتهم، وارتد عن دين الإسلام ويلتحق بالفرس، ودلهم على مكمن القوة في جيش المسلمين؛ وهي قبيلة "بجيلة" الكبيرة.
((إن المتتبع لكثير من الانكسارات والابتلاءات التي تعرضت لها أمة الإسلام يجد أن الخيانة تقف وراءها؛ فالخائن على استعداد تام أن يبيع كل شيء: من دين، أو عرض، أو أرض، أو حتى من هم من بني جلدته؛ وكل شيء عنده مباح وقابل للبيع، وهذا يقودنا لأولوية في غاية الأهمية - خاصة في أوقاتنا هذه - وهي التأكد من خلو الصف المسلم من هذه العناصر الفاسدة الضارة، وبالأخص عندما تكون الأمة في حالة استنفار ومواجهة مع أعدائها، وما أكثرهم!)).
كانت الهجمة الفارسية قوية وسريعة ومفاجئة، ومركزة أيضاً كادت أن تبيد قبيلة بجيلة بأسرها؛ فأصدر القائد العام سعد بن أبي وقاص أمراً سريعاً لقبيلة أسد وقائدها طليحة الأسدي أن يدفع الهجمة الفارسية عن قبيلة بجيلة، ثم أمر قبيلة بني تميم وقائدهم عاصم بن عمرو بمساندة قبيلة أسد وبجيلة، وكان لهذه المساندات العاجلة أكبر الأثر في رد الهجمة الفارسية العنيفة.
كان لسلاح الفيلة الفارسي أثر بالغ في جيوش المسلمين؛ ذلك لأن خيل المسلمين لم تكن قد رأت من قبل هذا المخلوق الضخم؛ فكانت تفزع منها، وتفر هاربة عند رؤيتها؛ فأثر ذلك على سير القتال، وعندها أصدر القائد سعد - والذي كان يراقب المعركة من على سطح قصره - أمر بقطع حبال الفيلة؛ كي تتكسر التوابيت المقامة فوق ظهور الفيلة، وانتدب لتلك المهمة عاصم بن عمر التميمي مع كتيبة خاصة، ونجحوا في مهمتهم، وسارت الفيلة بلا سائسين؛ فخرج سلاح الفيلة من ميدان القتال، ولقد كان القتال في يوم "أرماث" تقريباً لصالح الفرس؛ بسبب الخيانة، وكذلك الفيلة، وتحملت قبيلة أسد عبء هذا اليوم، واستشهد منهم حوالي خمسمائة شهيد تقريباً.


اليوم الثاني: يوم أغواث (الجمعة 14 شعبان)


أصدق وصف لهذا اليوم أنه يوم الخدع الحربية - وسيتضح ذلك أثناء العرض - وكان الفاروق عمر قد أصدر أوامره لجند المسلمين في الشام أن يتحرك منهم فيلق لمساندة المسلمين في "القادسية"؛ فتحرك ستة ألاف مقاتل يقودهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص -ابن أخي القائد سعد- بمنتهى السرعة، وكان في مقدمة هذا الجيش البطل الشهير القعقاع بن عمرو الذي كان لا يجارى ولا يبارى في فروسيته؛ فأسرع في السير قبل باقي الفيلق، فوصل مع كتيبته الخاصة لأرض المعركة صباح يوم "أغواث", وكانت الكتيبة مكونة من ألف مقاتل؛ فلجأ القعقاع لحيلة حربية بارعة، حيث قام بتقسيم الكتيبة لعشرة فصائل، كل فصيلة تتكون من مائة مقاتل، وأمرهم أن يخرجوا لأرض المعركة فصيلة تلو الأخرى على أن يقوموا بإثارة أكبر قدر من الغبار مع التكبير العالي عند الخروج؛ حتى يظن كل من المسلمين والفرس معاً أن إمدادات هائلة قد جاءت للمسلمين: فترتفع الروح المعنوية للمسلمين وتنخفض عند الفرس، وبالفعل كلما دخلت فصيلة كبرت وكبر معها المسلمون، وارتفع التكبير لعنان السماء؛ فتزلزلت قلوب الفرس.
لم يمنع طول السفر ومشقته البطل الجسور القعقاع بن عمرو أن ينزل لأرض المعركة فور وصوله ويطلب المبارزة؛ فأحجم أبطال عن مبارزته لفرط شجاعته، ولمعرفتهم السابقة به أثناء معارك القائد الكبير خالد بن الوليد, عندها أضطر قائد الفرس الكبير "بهمن جازوية" - المعروف بذي الحاجب ــ لأنه كان يعصب حاجبيه إعجاباً وتكبراً ــ لمنازلته، وكان "بهمن" هذا هو قائد معركة الجسر المعركة الوحيدة التي انهزم فيها المسلمون بسبب غلطة تعبوية من القائد أبي عبيد رحمة الله؛ فما أن رآه القعقاع بن عمرو حتى صاح قائلاً: "يا لثارات أبي عبيد وسليط وشهداء الجسر", ثم انقض عليه كالأسد الضاري، وذبحه كالنعجة، وكانت هذه بداية رائعة للمسلمين في هذا اليوم، ودارت رحى المسلمين على الفرس، خاصة في ظل اختفاء سلاح الفيلة المرعب، الذي غاب لإصلاح التوابيت المكسورة في اليوم السابق، وأنزل الله عز وجل نصره على عباده المؤمنين في هذا اليوم، وقتل معظم قادة الفرس، وكان بطل هذا اليوم بلا منازعة هو القعقاع بن عمرو الذي استطاع أن يقتل بمفرده ثلاثين رجلاً كراً وفراً غير من قتلهم مبارزة.
ومن الخدع الحربية التي استخدمها القعقاع بن عمرو في هذا اليوم أن استطاع أن يبعد سلاح الخيل الفارسي من ميدان القتال؛ ذلك أنه عمد إلي الجمال العربية فألبسها خرقاً، وبرقعها بالبراقع، فصار لها منظراً مخيفاً عندما رأتها خيل الفرس نفرت وفرت هاربة، وركب المسلمون أكتاف الفرس .
و كانت في هذا اليوم أيضاً بطولة أبي محجن الثقفي؛ والذي كان في محبس سعد بن أبي وقاص لتذمره على تعيين خالد بن عرفطة ، (وليس لشربه الخمر كما راج ذلك بين أوساط الناس) ولما رأى القتال على أشده توسل لزوجة سعد أن تفك قيوده ليلتحق بالقتال، ولكنها رفضت فأنشد أبياتاً من الشعر رائعة يتحسر فيها على منعه من الجهاد؛ فرقت له زوجة سعد، وأطلقت سراحه شريطة أن يعود إلي محبسه مرة أخرى بعد الانتهاء من القتال، وبالفعل التحق أبو محجن بأرض المعركة ولعب بالسيف والرمح حتى ظن الناس أنه من ملائكة السماء من شدة قتاله ، ولما عرف سعد حقيقة أمره أطلق سراحه ليواصل جهاده في سبيل الله، وكانت هذه الليلة واليوم لصالح المسلمين، وأدركوا ما فاتهم من خسائر في أول يوم للقتال ، واستبشروا بقرب نزول النصر.


اليوم الثالث: يوم عماس (السبت 15 شعبان)


في يوم عماس قرر البطل الجسور القعقاع بن عمرو ــ والذي تحول فعلياً للقائد الميداني للمعركة ــ القيام بخدعة حربية جديدة؛ فعمد إلي كتيبته الخاصة والتي جاءت معه من الشام فسربها في ظلام الليل إلي خارج أرض المعركة، وأمرهم مع الصباح أن يعيدوا الكرة مرة أخرى كما فعلوا أول مرة؛ ليظن المسلمون أن إمدادات جديدة قد وصلت إليهم؛ فيزدادوا حماسة وحمية وقوة، وبالفعل تم للقعقاع ما أراد، ومع آخر فصيلة داخلة من كتيبته لأرض المعركة تصادف وصول القائد هاشم بن عتبة بالإمدادات الشامية؛ فكبر هاشم وكبر المسلمون معه، ودب الرعب والفزع في قلوب الفرس.
في هذا اليوم نزل سلاح المدرعات الفارسي - الفيلة - لأرض المعركة بعد إصلاح التوابيت مع حراسة قوية من جانب الفرس لهذه الفيلة، وبدأ الوضع يتغير لصالح الفرس، وعندما رأى سعدُ معاناة المسلمين من الفيلة سأل بعض الفرس الذين أسلموا وصاروا مع المسلمين عن نقاط ضعف الفيلة؛ فقالوا له: "المشافر والعيون"، فكلف القائد سعد كلاً من القعقاع وأخاه عمرو بقتل الفيل القائد؛ وهو فيل "سابور" الأبيض، وكلف حمال بن مالك ومعه الربيل بن عمرو بقتل الفيل القائد الثاني؛ وهو الفيل "الأجرب", وخرجت الكتيبة الفدائية في مهمة بطولية، لا يقدم عليها إلا أبطال المسلمين العظام، إذ كيف سيقتل رجلان فيلاً عظيماً، ضخم الحجم كالبيت ؟! ولكن أبطال المسلمين لا يعرفون المستحيل؛ لأنهم يعتمدون على ربهم عز وجل ويخافونه وحده، ولا يخافون أحد إلا الله عز وجل، وبالفعل استطاع أبطال الإسلام خرق عيون الفيلين؛ ففرا هاربين من أرض المعركة وتبعهما باقي الفيلة، وعندها احتدم القتال بين الفريقين، وحدث التحام كامل بين الجيشين، حتى قام البطل الهمام طليحة الأسدي باختراق صفوف الفرس في بطولة نادرة، حتى صار خلفهم، وكبر ثلاث تكبيرات هائلة أرعبت الفرس، وكانت هذه التكبيرات سبباً لتوقف القتال حتى الليل.


ليلة الهرير


فهذه الليلة اشتعل القتال بين المسلمين والفرس حتى قبل أن يأذن القائد سعد بالبدء، وتصافح الناس بالسيوف، وحمي الوطيس جداً، ولم يسمع ليلتها صوتاً سوى هرير الناس، وصليل السيوف، وتقاتل الناس قتالاً لم يسمع بمثله في التاريخ، حتى صارت هذه الليلة - ليلة الهرير - مضرب الأمثال بعد ذلك من شدة القتال، وأصبحت مقياساً للحروب فيما بعد، وهدأت الأصوات، وانقطعت الأخبار عن القائد سعد الذي ظل طوال الليل يدعو ويصلي طلباً لنصر الله عز وجل وبرز أبطال الإسلام أمثال القعقاع, وأخيه عاصم، وطليحة الأسدي, وسلمان وعبد الرحمن بن ربيعة, وزهرة بن الحوية, وقيس بن هبيرة, وحمال, والربيل, وغيرهم من الذين يعد الواحد فيهم بألف، وشدوا على قلب الجيش الفارسي حتى أنصدع تحت ضغط الهجمات الإسلامية المتتالية، ونادي البطل المقدام القعقاع بن عمرو في المسلمين: "إن الدائرة على الفرس بعد ساعة لمن بدأ القوم؛ فاصبروا ساعة، فإن النصر مع الصبر", فشد المسلمون في القتال كالأسود الضارية التي لا يقوم لها أحد، ومع ذلك لم ييأس الفرس، بل ظلوا يقاتلون هم أيضاً في منتهى الضراوة، حتى إن الذي قتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفين وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ستة آلاف، مما يوضح قسوة وعنف القتال يومها من الجانبين.


مقتل رستم


ظل الفرس يقاتلون في منتهى الضراوة، حتى حانت اللحظة التي انهارت فيها معنويات الجيش الفارسي، وذلك عندما استطاع أحد الفرسان المسلمين وهو هلال بن علفة أن يصل لمكان القائد الفارسي "رستم", وينقض عليه كالصاعقة، ويقتله بعدما حاول رستم أن يهرب بإلقاء نفسه في النهر، وحاول الفرار سباحة ولكن هلال أقتحم وراءه النهر، وجره مثل الذبيحة خارج النهر وقتله، ورفع رأسه عالياً وهو يصيح: "قتلت رستم ورب الكعبة"؛ فطاش صواب الجيش الفارسي، وحاول الفرار في كل مكان وأخذهم المسلمون وأمعنوا فيهم القتل، لدرجة أن الثلاثين ألفاً الذين قيدوا أنفسهم بالسلاسل للقتال حتى الموت ماتوا قتلاً بسيوف المسلمين، ولم يفلت منهم مخبر.
أمر القائد (سعد بن أبي وقاص) قائد فرسان المقدمة زهرة بن الحوية أن يطارد المنهزمين من فلول الفرس؛ حتى لا يعيدوا تجمعهم مرة أخرى، وكان الفرس قد صنعوا حاجزاًمائياً لعرقلة تقدم ومطاردة المسلمين لهم؛ فعبره (زهرة) وثلاثمائة من خواص فرسانه، وانقضوا على المنهزمين الذين ظنوا أنهم في مأمن من مطاردة المسلمين لهم، وقتلهم جميعاً، وعلى رأسهم القائد الثاني للجيوش الفارسية بعد مقتل "رستم", واسمه "الجالينوس" ولم تكد شمس يوم 16 شعبان ترتفع حتى أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين، ووقع الخزي والهوان على الفرس، حتى أن الشاب اليافع من المسلمين كان يسوق ثمانين رجلاً أسرى من الفرس، ويشير المسلم إلي الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما يأخذ سلاحه الذي عليه ويقتله به، وربما رجلين من الفرس فيقتل أحدهما بصاحبه.
((إننا لنقرأ هذه الأخبار فنرى عزة وقوة المسلمين من الجيل الفريد والنادر: جيل الصحابة والتابعين، وكيف أن هيبتهم قد ملأت قلوب أعدائهم حتى صاروا كما قرأنا، ثم نقرأ أخبار المسلمين الآن وقد وقعت عليهم الذلة، وصاروا كغثاء السيل بعدما نزع الله عز وجل مهابتهم من قلوب عدوهم، وألقى في قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت، وصدق أبو بكر عندما قال: " احرص على الموت توهب لك الحياة ".


بشارة النصر


لقد كان الناس من العرب والعجم ينتظرون ما تنجلي عنه هذه الوقعة بين المسلمين والفرس بـ "القادسية", ويرون فيها المعركة الفاصلة بين الفريقين، حتى إن الرجل ليهم بالأمر فيقول: "لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية", فلما كان يوم النصر العظيم أرسل القائد سعد بن أبي وقاص للخليفة عمر بن الخطاب ببشارة النصر، وقد سارت الجن بخبر الفتح قبل وصول البشارة للمدينة، وسمع الناس أشعاراً بالنصر - بين جنبات المدينة - لا يعلمون من قائلها، وكان الخليفة يسأل الركبان من حين يصبح إلي انتصاف النهار عن أهل القادسية، ثم يرجع إلي أهله ومنزله، فوافق مجيء الرسول بالشارة عند ارتفاع الشمس، وعمر قائم ينتظر الخبر؛ فلما جاء الرسول سأله عمر عن أخبار المسلمين، والرسول راكب ناقته مسرع بها، وعمر يجري خلفه يسأله وهو يجيبه بالبشارة والفتح، ولا يعرف أنه أمير المؤمنين؛ فلما دخل المدينة رأى الناس يسلمون عليه بالإمارة؛ فقال الرسول: "هلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين" ؟! فقال عمر: "لا بأس عليك يا أخي".
((لله درك يا أمير المؤمنين، يا من هدم الله بك إمبراطورية الفرس والروم، تقول لحظة بلوغك خبر النصر العظيم بمنتهى التواضع: "لا عليك يا أخي", وهكذا تكون أخلاق السادة والقادة، لا أخلاق العبيد الأذلاء، والطغاة المتجبرين ، ومن أجل هذه الأخلاق ارتفعت هامتهم حتى ناطحوا الجبال، وتوجت رءوسهم السماء، ودانت لهم الأرض من مشرقها إلى مغربها))
كان يوم القادسية من أعظم أيام الإسلام التي كتب الله عز وجل النصر فيها لجند المسلمين, وكانت نقطة فاصلة في تاريخ الصراع بين المسلمين والفرس على الجبهة الشرقية وما بعدها.


أهم الدروس والعبر


دروس وعبر القادسية تصلح أن تكون كتابا مستقلا بذاته لكثرتها وشموليتها وعظمتها ، وسوف نذكر أشهر تلك الدروس والعبر:
1- الاختلاف والتفرق سبب للهزيمة وتكالب الأعداء ، وهو الأمر الذي أدركه أعداء الأمة جيدا فحشدوا كل جهودهم ، ووحدوا راياتهم ، ونبذوا خلافاتهم من أجل محاربة المسلمين ، وهو ما فعله الفرس عندما تصالح رستم والفيرزان من أجل محاربة المسلمين علي الرغم من خلافاتهم الكثيرة.
2- المرأة رغم كرامتها في الإسلام ومكانتها السامية فيه إلا إنها لا تصلح أن تكون حاكما أو زعيما للأمة، وذلك لأسباب كثيرة ، وأعداء الأمة منذ القدم وهم يعلمون عدم صلاحية المرأة لهذا المنصب ، الفرس عندما ولوا يزدجرد وخلعوا أخته بوران من قيادة الفرس.
3- النوازل والبلايا العامة والمحن الكبرى تحتاج من المسلمين حشد كل طاقاتهم لمواجهتها ، وهذا ظاهر من حشد الخليفة عمر بن الخطاب لكل أبطال المسلمين وقادتهم في كل المجالات من أجل معركة القادسية.

4- النصح في الإسلام من أهم صفات المسلمين الصادقين ، فإن الدين النصيحة كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ولن تتقدم الأمة أبدا إذا عدمت النصيحة أو كتمها الناس ، فبما يعرف الناس عيوبهم ، ويصلحوا أخطاءهم إلا بالنصيحة ، وقد نصح المثني بن حارثة حيا وميتا.
5- خرق الله عز وجل نواميس الكون وتسخير كل ما في السموات والأرض لصالح نصرة الدين وأهله ، لهي من السنن التي يغفل عنها الناس في هذه الأيام ، فكرامات جند الله ثابتة بالكثير من المواقف والمشاهد ، أمثال ما حدث مع عاصم بن عمرو عندما كان يبحث عن طعام المسلمين ، وصياح الثور الحيوان البهيم بلسان عربي مبين.
6- لا يعلم المرء من أين يأتي النصر ، فإنه لا يعلم جنود ربك إلا هو ، فقد يكون النصر علي يد أصغر جندي وبأقل سبب ، والمنامات المفزعة التي كان يراها رستم كانت خير دليل علي أثر تلك الأمور البسيطة في هزيمة أعداء الله.
7- المدرسة النبوية في تربية وإعداد القادة والأبطال أخرجت لنا جيلا فريدا من الأفذاذ والأعلام في شتى الميادين ، وإن المرء ليعجب كل العجب من ردود أفعال أبطال المسلمين في القادسية ، رد فعل السفراء الثلاثة ، ورد فعل عاصم بن عمرو عندما حمل التراب وما قاله للقائد سعد بعد أن عاد به ، ورد فعل الجندي المجهول علي رستم ، تشعر أنك أمام رجل واحد وشخصية واحدة وقلب واحد وفكر واحد ، فنفس العزة ونفس الرد القوي ونفس اليقين وحسن التصرف ونفس الشجاعة والبطولة ، فأي رجال هؤلاء الذين رباهم الرسول صلي الله عليه وسلم.
8- القائد الواعي الفطن لابد أن يكون ملما بما يجري حوله وعلي دراية كاملة بأحوال جنوده ورعيته ، تحسبا لحدوث ما لا يحمد عقباه ، ولابد أن يتصرف سريعا عند حدوث أي مشكلات لأن السكوت أو التجاهل أو حتى التغافل قد يورثوا ما أعظم وأشد ، وهذا مأخوذ من تصرف القائد سعد السريع مع المعترضين علي تعيين خالد بن عرفطة في قيادة الجيوش.
9- الصبر والثبات والشجاعة واليقين وحسن التصرف والإيمان العميق بعدالة القضية كلها أمور تبلورت في شخصيات قادة الفتح الإسلامي ، فكانوا أساطير بمعني الكلمة -القعقاع نموذجا-.
ـــــــ

المراجع/
1- فتوح البلدان.
2- البداية والنهاية.
3- المنتظم.
4- الكامل في التاريخ.
5- التاريخ الإسلامي.
6- تاريخ الخلفاء.
7- تاريخ الرسل والملوك.

8- القادسية وفتوح العراق.
9- محاضرات الأمم الإسلامية.
10- موسوعة التاريخ الإسلامي.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع



مجموعة الشفاء على واتساب


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 88.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 86.79 كيلو بايت... تم توفير 2.17 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]