ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كيف تصنع ب"لا إله إلا الله" يوم القيامة؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          رأس المنافقين ( عبد الله بن أُبَيّ بن سلول) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          الإسراء والمعراج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الأخوَّة.. تلك الحلقة المفقودة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          محمد بن القاسم الثقفي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 25 )           »          الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاق وتشريع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          معركتنا مع الشيطان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          أويس القرني (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          الصاحب الناصح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          انت أخي في الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 28 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 24-08-2023, 03:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,786
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة


إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدَروا
ألا تُفارِقَهمْ فالرَّاحلونَ هُمُ


فتأمَّل كيف يُحذِّر ويُلقِي المسؤولية على عُنُق الأمير في ثقةٍ بالنفس وإدلال بالصداقة التي كانت تَربِطه به بَلَغَا الغاية القصوى، وتأمَّلِ البيتَ الأخير وما فيه مِن لفتةٍ ذهنية ونفسية لا تَخطِر على هذا النحو، ولا تَسكُن هذه الصياغة إلا في خيالِ شاعر عبقري!

وتمعَّن بعد ذلك في البيت التالي الذي يريد أن يقول فيه: «إنك أيها الأمير، إذا لم تُغيِّر موقفك مني، وتَعُدْ إلى سالف ودادِك وصداقتك معي، فما الذي يا تُرى يُغريني بالبقاء في بلادك؟ إنها حينئذٍ لشرُّ البلاد»، تُرى مَن يَقدِر على هذا الكلام غيرُ المتنبي وأمثاله من ذوي النفوس الكبيرة؟!
شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ *** وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ
ثم يَكُرُّ المتنبي مرة أخرى على منافسِيه الذين يَشُون به عند الأمير، فيتهكَّم بهم وبما يَنظِمون من شعرٍ، «ولا بد هنا من أن نذكُرَ أن أبا فراس الحمداني الفارس النبيل والشاعر الملهم، كان أحد هؤلاء الخصوم، على أن ذلك ينبغي ألا يكون سببًا في نَيْلنا من المتنبي أو مِن خَصمِه، فليس الكمال من طبيعة النفس البشرية»:
بأي لفظٍ تقولُ الشعرَ زِعْنِفَةٌ *** تَجوزُ عندَك لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ

وفي نهاية القصيدة يعودُ المتنبي من حيث ابتدأ، فيُعاتِب ويشكو ويتودَّد، مضيفًا بذلك النغمةَ الأخيرة في فخرِه بأدبِه وما أُلْهِمَه مِن حكمةٍ:
هذا عتابُكَ إلَّا أنَّه مِقَةٌ *** قد ضُمِّنَ الدُّرَّ إلَّا أنَّهُ كَلِمُ

فمعاتبةُ رجلٍ كسيف الدولة هذا النحو مِن العتاب، هو من الشعر العالي - «وأكاد أن أقول: المُعجِز» - فانظر كيف رقَّ المتنبي واشتدَّ، وتَجَهَّم وتبسَّم، وهدَّد وتودَّد، كلُّ ذلك وهو يَلتَفِتُ مِن حينٍ إلى آخرَ ناحيةَ أعدائه يَكُرُّ عليهم من القول بما هو أنكى وأشدُّ وقعًا مِن عَضْبِ السيوف، وكل ذلك في أثوابٍ مِن التعريض والتلويح ساحرةٍ باهرةٍ.

ومما يُلاحظ على أسلوب هذه القصيدة - بل على كل قصائد المتنبي عامةً، ويضفي عليها قوةً على قوة - فحولةُ الصياغة وعُنفُ التعبير، تأمَّل مثلًا كيف يُعبِّر عن ألَمِه من فتور سيف الدولة نحوه:
واحرَّ قلباهُ ممَّن قلبُه شَبِمُ
ومَن بجسْمي وحالي عنده سَقَمُ
ما لي أُكتِّمُ حبًّا قد بَرَى جسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدولةِ الأُمَمُ


فقد توجَّع متشكيًا مما يَتلظَّى في قلبه من نيرانٍ، ومما صار إليه حاله جمعيه مِن سقمٍ قد برَى جسمه، كما تَبري المُوسَى سنَّ القلم، ولا تتوهَمَنَّ أن هذا نفاقٌ، فقد ظهَر مما استعرضناه من أبيات القصيدة بما لا يَدَعُ مجالًا للارتياب - أن نفسية المتنبي هي أبعد ما تكون من النفاق، وبخاصة مع سيف الدولة؛ إذ لم تكن العلاقةُ بينهما هي علاقة المولى بالتابع، بل علاقة أمير في ميدان السياسة والحكم بأميرٍ في حقل الشعر والحكمة.

وفضلًا عن ذلك أُحِبُّ أن تتنبَّه لِما أجراه مِن مقارنة بين حال قلبِه وحال قلب ممدوحِه، فإذا كان قلبُه يتلظَّى مِن الألم، فقد وصف سيفَ الدولة - «وإن لم يُسمِّه، مكتفيًا بالتلميح الذي لا يمكن أن يُخطِئه أحدٌ» - بأن «قلبه شَبِمُ»؛ أي: بارد، فهل هذا - مهما يُقَلْ في توجيهه - كلامٌ يَصدُر عن منافقٍ؟!

ومِن عنيف تعبيره الصورةُ التي ورَدتْ في نهاية البيت التالي:
قد زُرْتُه وسيوفُ الهند مُغمَدةٌ *** وقد نظَرتُ إليه والسيوفُ دَمُ

فإن قوله: «والسيوف دمُ» قد نقل المعنى مِن كون السيوف مُلطخةً بالدماء - وهو معنى عاديٌّ جدًّا - إلى كونها هي نفسها قد أصبحت دمًا من كثرة ما أَراقَت مِن دماء خضَّبتْها وغطَّتها إلى الحد الذي لا يستطيع أحدٌ معه أن يراها ويتعرَّف عليها.

ومثل هذه الصورة - عنفًا وجمالًا - الصورةُ الأخرى التي يقول فيها عن حصانِه:
رِجلاه في الرَّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ *** ................ إلخ

فلقد بلَغ مِن سرعة هذا الحصان الكريم أن أصبحت رِجلاه ويداه كأنها يدٌ واحدة، ورِجلٌ واحدة، فهو بهذا يختصرُ إلى النصف الوقتَ الذي يُنفِقه أيُّ حصان آخر بالغًا ما بلَغت مَقدِرتُه على العَدْوِ.

وانظر كذلك إلى افتخارِه بنفسه في عبارة تكادُ أن تتفجَّر مِن شدة ما تَحمل من معانٍ ومشاعر:
كم تَطلُبونَ لنا عيبًا فيُعْجِزُكمْ
ويَكرَهُ اللهُ ما تأتون والكَرَمُ
ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي
أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ


فهو أولًا يتحدَّث عن نفسه؛ كما سبقت الإشارة إلى ذلك بضمير الجمع، واضعًا نفسَه مع ممدوحه على قدمِ المساواة تمامًا، وهو ثانيًا يتحدَّى سيف الدولة أن يذكُرَ له عيبًا واحدًا «أي عيب»، وما أكثر ما حاوَل ذلك، ولكنه عجَز! وهو ثالثًا يلومُ الأمير على موقفِه منه، «وإن صاغ ذلك في عبارة ملفوفة»، ويذكر له أن ذلك يُبغِضه الله، ولا يَرضاه الخُلُق الكريمُ.

وهو رابعًا لا يكتفي بذلك، بل يضع نفسَه في أعلى عِليِّين، فكيف مِن ثَمَّةَ يجدُ العيبُ أو النقصُ إلى شرفِه سبيلًا؟! هل سمِع أحدٌ أن الثُّريَّا قد شابَت وهَرِمَتْ؟

ولاحظ أنه قال: «ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي!»، ولم يقل: «مِن خُلُقي»، فكلمة «الخُلُق» هي كلمة محايدة؛ إذ مِن الخلق الطيب والرديء، أما الشرف فلا يكون إلا خُلقًا كريمًا نبيلًا.

ويتَّصِل بهذا العنف في التعبير والفخامة فيه ما يُكلِّل قصائد المتنبي من حِكَم تأتي كلُّ حكمة منها في موضعها، فتُكسِبه ويُكسِبها نارًا وضِرامًا، وتَقتحمُ به ويَقتحم بها القلوبَ اقتحامًا، وهذه بعضُ أمثلة مما ورَد مِن هذه الدررِ في القصيدة التي بين أيدينا، وشاع على ألْسنة الكاتبين والمتكلمين: «فيكَ الخصامُ وأنت الخَصْمُ والحَكَمُ!»، و«لا تَحسَبِ الشَّحْمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ»، و:
إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً *** فلا تَظُنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتَسِمُ
و:
إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا *** فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ
.... إلخ، إلخ.

وإذا كان بعض خصومه - على ما يذكر لنا تاريخ الأدب العربي - قد انتقد بعضَ هذه الحِكَم ورمى الشاعرَ بأنه سرَقها مِن هذا الشاعر أو ذاك، ومسَخها، فإن أبسط ردٍّ على هذا اللون من الانتقاد - لو صحَّ - هو أن أحدًا لا يَحفَظُ إلا أبيات المتنبي؛ مما يدل على أن هذه الحِكَم لم تَكتسب قيمتَها وحلاوتها في الآذان، وحُسن موقعها في القلوب، إلا على يد المتنبي الصنَّاع، ومثالانِ اثنان لا غير خيرُ كفيلٍ بتبيانِ ما أقول:
قال مَعقل العجلي:
إذا لم أُميِّز بين نورٍ وظُلمةٍ *** بعيني فالعينانِ زُورٌ وباطِلُ

وقال المتنبي:
وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرِهِ *** إذا اسْتوَتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ

وقال ابن الرومي:
إذا ما الفجائعُ أكسَبْنَني *** رِضاك فما الدهرُ بالفاجعِ

وقال المتنبي:
إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا *** فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ

كذلك فإنه لو صحَّ أنه اقتَبَس هذه الحِكَم من كتب الفلاسفة، فالعِبرة بجمال الصياغة وقوة التعبير التي يَخلعها الشاعرُ على شِعرِه مِن حرارة قلبه.

ويتَّصِل بعنف التعبير كثرةُ المدَّات في هذه القصيدة؛ مما يَجعَلُ إيقاعَ الكلام فخمًا رنَّانًا يُناسِب الموضوع والجوَّ الشعوري، وذلك إلى جانب الميم الممدودة التي ينتهي بها كلُّ بيت، وكأنها عصفُ الريح.

كلمة أخيرة أحبُّ أن أقولها في هذه القصيدة العصماء، فإنها متماسكة الأبيات كأنها قطعة واحدة من الصخر لا تستطيع أن تُفتِّتَها، أو حتى تَكسِرَها، فأنت تأخُذُها إذا أخذتَها كتلةً واحدة أو تدَعُها، لقد تصرَّف المتنبي كما رأينا في تحليلنا للقصيدة في معاتبة سيف الدولة في فنونِ القول بما سحَر وبهَر، ولكنه لم يَخرُج قطُّ عن خُطة سَيْره، وكلُّ ذلك في اعتزاز بالنفس، وإدلالٍ بالمكانة، وافتخارٍ رجولي كريم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 55.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 53.60 كيلو بايت... تم توفير 1.70 كيلو بايت...بمعدل (3.08%)]