|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#261
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (256) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [2] الجهاد عمل جماعي تقوم به جماعة المسلمين، ومثل هذه الأعمال الجماعية لابد فيها من وجود مرجعية تنظم هذا العمل وترتبه حتى لا يحصل الخلل والاضطراب، ولهذا كان من الواجب طاعة الإمام والصبر معه، وكان من واجبه إزالة جميع أسباب الخلل والاضطراب في هذا العمل العظيم آداب المسير إلى الجهاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويتفقد الإمامُ جيشَه عند المسير] شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بآداب المسير للجهاد في سبيل الله عز وجل تفقد الإمام لجيشه فقال رحمه الله: (ويتفقد الإمام) أي: يتفقد الجيش عند الغزو، وهذا التفقد المراد به النظر في مصلحتهم، فما كان من نقص كمله، وما كان من خلل سده، فإن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله عز وجل، فقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فأمر سبحانه وتعالى بالإعداد، ومِن الإعداد: تفقد الجيش قبل الغزو في سبيل الله عز وجل. وكانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فكان يتفقد أصحابه قبل الخروج. وكانت هذه سنة للخلفاء الراشدين من بعده، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه لما بعث جيش أسامة رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج أبو بكر يشيع أسامة وهو على فرسه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّره على ذلك الجيش، فقال أسامة: (يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم اركب، فقال: إني أريد أن أغبر قدمي في سبيل الله عز وجل)، فكانت سنة لمن بَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتفقد المجاهدين في سبيل الله، وهذا التفقد -كما ذكرنا- تشحذ به الهمم لطاعة الله ومرضاته، فيوصي الإمام بالوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، حتى يخرج المجاهدون وهم على بصيرة من طاعة الله عز وجل ومرضاته، وما ينبغي أن يُتَّقى من سخطه وغضبه. وكان عليه الصلاة والسلام يوصي أمير الجيش في خاصته بتقوى الله عز وجل، التي هي جماع كل خير، وأساس كل فلاح وصلاح في الدنيا والآخرة، ويأمر أفراد الجيش أن يغزوا باسم الله ليقاتلوا مَن عادى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت هذه الوصايا تقوي من همم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشحذ عزائمهم على الخير. فيتفقد الإمام الجيش قبل المسير، فإذا رأى أخطاءً أو رأى نقصاً فإنه يقوم بسد ذلك النقص، وتصويب ذلك الخطأ، ومن هذا أنه إذا رأى مَن لا يصلح للخروج منعه، كصغار السن الذين لا حاجة إلى خروجهم، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعرض الصحابة يوم الخندق، ويوم أحد، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعن أبيه: (عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني) فقوله: (عرضت) يدل على أن المجاهدين يُعرَضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأى من لا يصلح للغزو؛ لضعفٍ، أو لصغر سنٍّ، أو جنونٍ، أو نحو ذلك من الآفات والموانع، فإنه يمنعه، ويجب على ذلك الرجل أن يمتنع طاعةً لله وطاعةً لرسوله صلى الله عليه وسلم وطاعةً لأولي الأمر، فإنه لا صلاح للأمور إلا بذلك؛ لأنه إذا كُسِر أمام العدو قوَّى من عزمهم على المسلمين، فيمنع أمثال هؤلاء الضعاف، وإذا وجد إنساناً ضعيفاً في زاده، أو غير مستعد، أمره بأخذ العدة، وأوصاه كذلك بما فيه الخير له في دينه ودنياه وآخرته منع المخذلين والمرجفين من الخروج إلى الجهاد قال رحمه الله: [ويَمْنَع المخذِّل والمرجف] [ويمنع المخذِّل] التخذيل: من أعظم الآفات في الجهاد في سبيل الله عز وجل، والتخذيل هو شأن أهل النفاق -نسأل الله السلامة والعافية- فتجدهم يُضْعِفون عزائم المسلمين لجهاد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيهوِّنون الأمر، ويجعلونه أمراً يسيراً لا يحتاج إلى قوة وإعداد، فأمثال هؤلاء يُمْنَعون؛ لأن المصلحة في عدم خروجهم، والمفسدة في خروجهم، والشرع جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] والإيضاع: ضرب من السير، وهذا يدل على أنهم يريدون الشر والبلاء بالمسلمين، فمن عرف أنه يخذل عن الجهاد في سبيل الله، فهذا مريض القلب ضعيف الإيمان، لم يتشرب الإيمان في قلبه، فمثل هذا لا مصلحة في خروجه، وقد منع الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يأذن لأمثال هؤلاء، {قُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوَّاً} [التوبة:83]. وأما النوع الثاني فهم المرجفون: وهم الذين إذا سمعوا الأخبار أرجفوا بها، فإذا سمعوا قوة العدو، أخذوا ينشرون بين المسلمين تلك الأخبار، فيجعلون المسلمين في قلق وخوف وفزع، فيفقدون الإعداد المعنوي؛ لأن الجهاد في سبيل الله عز وجل -كما ذكر العلماء- يحتاج إلى نوعين من الإعداد: النوع الأول: الإعداد الروحي. والنوع الثاني: الإعداد الحسي. فأما الإعداد الروحي فهو: قوة الإيمان، وقوة الشكيمة والعزيمة، وحب الشهادة في سبيل الله عز وجل، وجعل الآخرة أحب إليه من الدنيا، ولذلك كان أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم يخرجون وقلوبُهم متلهفة للشهادة، وكان يقول قائلهم: (إنها لحياةٌ طويلةٌ إن عشتُ حتى آكل هذه التمرات)، فيرمي بها حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج الإنسان بهذه الروح المعنوية، فإنه تقوى عزيمته للجهاد في سبيل الله، ويقوى كَلَبه على أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق لمثله أن يشهد ساحة الوغى، فللوغى رجاله، وللقتال في سبيل الله أهله، وليس كل إنسان يستطيع أن يصبر ويصابر ويرابط على طاعة الله ومرضاته في مثل هذه المواقف العظيمة، ولذلك وصف الله يوم الخندق فقال: {وإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11]. فلا بد من الإعداد المعنوي، والإعداد المعنوي -كما قلنا- يحتاج إلى شيء من العلم والبصيرة بما أعد الله من الثواب، وحسن العاقبة والمآب إذا فاز الإنسان بالشهادة في سبيل الله عز وجل، وقد سطر التاريخ الإسلامي للسلف الصالح لهذه الأمة مواقف عظيمة تدل على كمال إعدادهم روحياً، وبذلك كسروا أعداء الله وانتصروا عليهم بقوة النفس وقوة الإيمان بالله عز وجل، وكان الرجل إذا رجع من الغزو ولم يقتل بكى، فكان يُفْجَع بعدم القتل أكثر من فجيعته بأن يُقْتَل أو يؤذَى في سبيل الله عز وجل. فالإعداد المعنوي هو الذي أشار الله إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45]، فأمر الله بالثبات، ولا يمكن للمسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل وقلوبهم خاوية، ونفوسهم ضعيفة، فهذا الإعداد المعنوي يفسده المخذِّل والمرجف، فكل منهما يحطم معنوية المجاهد، ويخذِّله عن لقاء العدو، ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أنه يجب على الأئمة ونحوهم إذا أرادوا الغزو في سبيل الله عز وجل أن يمنعوا هذين الصنفين من الناس، فلا خير في خروجهم، ولا مصلحة في شهودهم للغزو في سبيل الله عز وجل. وأما الإعداد الحسي فهذا ما يتعلق بأخذ القوة من الرمي ومعرفة أساليب القتال والجهاد في سبيل الله عز وجل. فلا بد من الأمرين، وقد أشار القرآن إلى أساس الإعداد المعنوي فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، وقال سبحانه أيضاً: {وحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84]، فالتحريض إعداد معنوي؛ ويفسده ما يشتت القلوب، وهو النزاع والخلاف في الرأي، فهذا يفسد الإعداد المعنوي؛ لأن اتحاد وجهة الناس واتحاد هدفهم ومقصودهم يقوي شكيمتهم على الأعداء، وتكسر به شوكة الأعداء أيضاً، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، فقوله سبحانه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46] يدل على أن الأصل أن يكون الناس على وجهة واحدة، فإذا جاء المخذِّل والمرجف فإنهم يجعلون الناس أشتاتاً، فقسم منهم يقول: العدو أقوى منا، ولا نستطيع قتاله، وقسم منهم يقول: العدو ضعيف، ونحن بإذن الله غالبون، و: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] كما قص الله علينا ذلك في كتابه. فهؤلاء المرجفون يفسدون ولا يصلحون للجهاد في سبيل الله، فيُمنَعون، والمصلحة في عدم شهودهم للغزو، ولذلك قال المصنف: (ويمنَع المخذِّل والمرجف)، وكلا الوصفين -التخذيل والإرجاف- لا خير فيه حتى في حال السِّلم، لما يُحدِث من الفتنة، وشتات القلوب، وتفريق الصفوف. وهذا الإرجاف غالباً ما يكون في المصالح العامة للمسلمين، وقد يقع في النيل من أئمة المسلمين وولاتهم والطعن فيهم، وكذلك الطعن فيمن يلي أمرهم، وتتبع العثرات والعورات، كل ذلك بقصد تشتيت شمل المسلمين وزعزعة الثقة بينهم، وقد يفعل البعض ذلك عن جهل وعدم قصد؛ ولكنه يفضي إلى ما لا تحمد عقباه. ولذلك لا خير في المرجف والمخذِّل، وإنما على المسلم أن يتوكل على الله، وأن يحسن الظن بعباد الله، وأن تقوى عزيمته على الخير، ولذلك كان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (إذا سمعتم بالعائبة أو الفضيحة التي تكون فلا تنشروها؛ فإنها ثلمة في الإسلام)، فنشر مثل هذه الأمور يجعل الناس في شيء من الشتات والضيعة. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف أمام الأحزاب، وهم فوق العشرة آلاف -على خلاف بين أهل السيَر في عددهم يوم الخندق- وكانت غزوة الأحزاب من أشد الغزوات على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، فلما رأى عليه الصلاة والسلام، ورأى المسلمون ما عليه أعداء الله من العدد والعدة، واجتماع كلمتهم على رمي الإسلام بقوس واحدة، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني قريظة قد خانوا العهد ونكثوه، فازداد البلاء على المسلمين، حيث إنهم لم يصابوا بمواجهة العدو بقوة فقط، بل إنهم أيضاً يُطعنون من الخلف من يهود بني قريظة، عَظُم الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل نعيم بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، لكي يتتبع الخبر، فكان من وصيته له، أنه أمره إذا وجد الخبر صحيحاً ألَاّ يصرِّح بما أقدم عليه يهود بني قريظة من نكث العهد، فقال له: (إن كان القوم كما زعموا، فالحن لي لحناً، ولا تفت في عَضُدنا)، فقوله: (فالحن لي لحناً) أي: قل لي كلاماً أفهم منه أنهم قد غدروا ونكثوا، (ولا تفت في عضدنا). فإذا كان الإنسان في جماعة المسلمين في سلم أو حرب فعليه أن يتقي الله عز وجل فيهم، فبعضُ الأمورِ نشرُها والإرجافُ بها وحملُها والتحدثُ بها يُحدِث شتات الشمل، وفرقة الصفوف، وهذا من أعظم ما يكسبه أعداء الإسلام من المسلمين. وكان علماء الإسلام يوصون الناس بعدم تفرق كلمتهم فيما بينهم، خوفاً من طمع العدو فيهم، فكلما كان المجاهدون في سبيل الله على قلب واحد، وعلى رأي واحد، كلما استقامت الأمور، وهذا هو هدي السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم أجمعين من الصحابة ومن تَبِعهم، فإن عمر رضي الله عنه لما اختلف مع أبي بكر في قتال مانعي الزكاة وكان عنده نص وعند أبي بكر نص، فما كان منه إلا أن سمع وأطاع لـ أبي بكر، فجعل الله الخير في رأي أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، مع أن لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه دليله وحجته، ولكن استقامة الكلمة واتحاد الصفوف في وجه أعداء الله أمرٌ مطلوب. والإرجاف كما يكون بالأقوال يكون بالأفعال. فإرجاف الأقوال: كنقل الأخبار، وأعظمَ ما يكون الإرجاف -كما ذكر العلماء وهو أشد ما يكون ذنباً على الإنسان- أن لا يكون على بينة من نقلها فينقلها، دون تَرَوٍّ فيها ولا تثبُّت. وإرجاف الفعل: كالاضطراب والخوف والقلق وظهور علامات الفزع، فهذا من إرجاف الفعل. ولذا يُمنَع هذا الصنف من الناس لمصلحة الجهاد في سبيل الله عز وجل النفل أحكامه وأنواعه قال رحمه الله: [وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس] (وله) أي: للإمام. (أن ينفِّل) شرع رحمه الله بهذه الجملة في بيان الأحكام المتعلقة بالغنيمة. فإن الجهاد في سبيل الله عز وجل وعد الله أهله بإحدى الحسنيين: - إما الشهادة في سبيل الله عز وجل. - وإما الغنيمة ونيل ما نالوا من أجر الدنيا. وقد ثبت الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: (ما مِن سرية تغزوا في سبيل الله ويغنموا، إلا كان هذا فيه نقص لأجرهم) أي: أن أجر الدنيا يُنقِص عظيم ثواب الآخرة؛ لأن الأعظم والأكمل لهم ثواباً أن يُقتَلوا ويستشهدوا في سبيل الله عز وجل، فإذا خرج المجاهدون وأصابوا العدو فإنه يَرِد السؤال عن حكم الغنائم التي تُكْتَسب من الجهاد في سبيل الله عز وجل. وهذا من ترتيب الأفكار، فبعد أن بيَّن رحمه الله على مَن يجب الجهاد، وما الذي ينبغي من الإعداد المعنوي للجهاد في سبيل الله عز وجل، كأن سائلاً سأل: لو وقع الجهاد في سبيل الله وغنم المسلمون فماذا يُفعَل بما غنموه؟ أقسام الغنائم والجواب أن الغنائم تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: المنقولات. والقسم الثاني: العقارات. فما يناله المسلمون من الأعداء: - إما أن يكون أرضاً ودوراً ونحوها، فهذه تسمى: العقارات. - وإما أن يكون من الأموال كالذهب، والفضة، والدواب، والسلاح، والكراع، ونحو ذلك، فهذا يسمى بالمنقول. فأما العقارات كالأراضي والدور، والمزارع، وغيرها، -كما لو دخلوا بلاد العدو وغنموها، وفتحوها- فلها حكم بينته السنة، وكان له هدي عليه الصلاة والسلام في ذلك، وكذلك عن الخلفاء الراشدين مِن بعده. وأما النوع الثاني: وهو المنقولات من الذهب، والفضة، والسلاح، والكراع، والدواب ونحوها مما يُغْنَم، فشرع المصنف رحمه الله في بيانه أقسام التنفيل فيُعطى الإمامُ أو القائد أو مَن له النظر في مصلحة الغنائم، والمنهج المعتبر في تقسيمها أنها تكون على أحوال: - قسم منها يكون سَلَباً، ويُستَحق لمن قتل قتيلاً ومعه بينة على ذلك. - وقسم منها يكون رضخاً وعطاءً، ويعطيه القائد على حسب المصلحة التي يقصدها من وراء العطاء. - وقسم منها يستحق بالشرط، كأن يشترط القائد ويقول: مَن فعل كذا وكذا فأعطيه كذا وكذا مَن فتح الباب، ومَن كسر كذا أو مَن أحدث الثغرة الفلانية، فإن له كذا وكذا، فهذا يسمى الاستحقاق بالشرط. وبطبيعة الحال أنه إذا غزا المجاهدون في سبيل الله، فالأحوال تختلف: فتارة يغزو الجيش بكامله، ويدخل بلاد العدو، أو يواجه العدو بقوته الكاملة، فحينئذ يواجه المسلمون الأعداء بيدٍ واحدة، وتكون الغنيمة لا نَفَلَ فيها للسرايا، أي: ليست هناك سرايا تُبعَث، وإنما يقابل الجيشُ الأعداء مرةً واحدةً. وتارة يبعث الإمامُ بعوثاً ويرسل سرايا، أو يرسل العيون لأخذ الأخبار، ثم يرسل بعدها السرايا، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبعث السرايا للجهاد في سبيل الله عز وجل كيفية تنفيل السرايا والسرايا تنقسم إلى قسمين: السرية القبلية: أي: ما يكون قبل القتال، والجهاد، وقبل إتيان العدو، وهذا النوع من السرايا يمهد الطريق للجيش، ويستطلع حال الأعداء، ويستكشف أمرهم. السرية البعدية: وهي التي تكون بعد خروج الجيش، وانتهاء المعركة. فما كان مِن السرايا قَبْلُ فهذا بلاؤه أعظم، والضرر الذي يتعرض له والخطر أشد؛ لأنه يذهب في قوة العدو، فحينئذ قد يواجه جيش العدو، ولذلك يكون حظه من النَّفَل أكثر من حظ الذي يُبعَث بعد خروج المسلمين أو رجوعهم. أما السرية البَعْدية فهي التي يبعثها الإمام للاطمئنان من أن العدو قد كُسِرت شوكته، وأنه ليس له ظهير، وأنه قد انقطع أمرُه بانتهاء القتال؛ لأنه لا يأمن في بعض الأحيان أن يكون هناك كمين، يفاجئ المسلمين من حيث لا يشعرون. فلذلك فُرِّق بين السرية القَبْلية والسرية البَعْدية، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاًّ من الأمرين، فكان يبعث السرايا القَبْلية ويبعث السرايا البَعْدية، ولذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في حديث حبيب بن مسلمة: (أنه كان ينفِّل الربع والثلث) فيعطي ربع الغنيمة أو ثلثها للسرية القَبْلية، لعظيم بلائها كما ذكرنا، والعلماء رحمهم الله يقولون: إعطاء الثلث والربع يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده وعلى حسب بلاء السرية، فإذا -بفضل الله عز وجل ثم بهذه السرية- فعلت فعلاً تمكن به المسلمون من كسر العدو ربما زادهم، حتى أوصلهم إلى الثلث، وإذا كانت مهمة السرية يسيرة، فله أن يعطيهم الربع، وهذا أمر يرجع إلى اجتهاد الإمام. وقد جاء في حديث حبيب بن مسلمة رضي الله عنه ومعاذ بن جبل رضي الله عنه عند أحمد وأبي داود في السنن: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل الثلث والخمس، فكان إذا أرسل السرية قَبْلُ نفَّلها الثلث -يعني: قبل القتال- وإذا أرسل بَعْدُ نفَّلها الخمس) وهذا كله -كما ذكرنا- راجع إلى نظر الإمام ومعرفته بعظيم بلاء هذه السرايا تنفيل القاتل سلب قتيله وقوله: (أن ينفِّل) النَّفَل في اللغة: الزيادة، فإذا زاد الشيء على الأصل فإنه يقال: هذا نافلة، أي: شيء زائد، ومنه سميت نافلة الصلوات؛ لأنها زائدة على الفريضة التي أوجب الله، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سأله الأعرابي: (هل عليَّ غيرها -أي: غير الخمس- قال: لا. إلا أن تطَّوَّع) أي: تتنفل، ولذلك يسمى الحفيد بالنافلة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء:72] فالنافلة تقال لولد الولد؛ والأصل أن الوَلَدَ للإنسان، وأما وَلَدُ وَلَدِه فزيادة. فالنَّفَل هو: زيادة على حظ الإنسان في الغنيمة، فإذا غزا المجاهدون في سبيل الله عز وجل، فلهم سهم من الغنيمة، وهذا القسم قد بينته السنة: للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، والأصل في الغنائم أن الإمام يفعل بها ما يلي: إذا انتهت المعركة واستقر الأمر، يقوم الإمام بأخذ الأسلاب، وإعطائها لأصحابها. وهذا النوع الأول مما يؤخذ من الغنيمة، وهو وأول ما يُفْعَل فيها، أي: أن يعطي سَلَب المقتول لقاتله، ومسألة سَلَب المقتول صورتها أو حقيقتها: أن كل مَن قتل رجلاً بعينه فإنه يستحق سَلَبه، والسَّلَب: هو ما هو عليه من سلاح -سلاحه الشخصي- وكذلك ثيابه ودابته، وكل ما عليه، فهذا الشيء يستحقه، وله أخذه، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه)؛ لكن بعض العلماء -رحمهم الله- يقولون: سَلَب المقتول يُستَحق إذا أعطاه الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل الغزوة: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه) فإن لم يقل ذلك فإنه لا يستحقه، وبعضهم يقول: يُستَحق السَّلَب مطلقاً؛ لكن يُفَرَّق بين الجيش الذي له عطاء -وهو الذي يُسمَّى بالراتب- والجيش الذي لا عطاء له، فالجيش الذي له عطاء قالوا: لا سَلَب له، وليس له شيء لا من السلب ولا من الغنيمة؛ لأن عطاءه يرجع للإمام، وأما الجيش الذي لا عطاء له، وهم المتطوعون، فهؤلاء هم الذين فيهم الخلاف بين العلماء رحمهم الله، وللعلماء فيهم الوجهان اللذان ذكرناهما. فإذا قتل قتيلاً وله عليه علامة أي: بينة، فإن من حقه أن يأخذ سلبه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفَّل السَّلَب إخراج كلفة النقل من الغنيمة أما النوع الثاني من النَّفَل: فيكون لنوع خاص فبعد أن ينتهي الإمام من إعطاء السَّلَب للقاتل، يقوم بعد ذلك بسحب أموال الغنائم من أرض المعركة، فيأمر الحمَّالين ونحوهم أن يقوموا بجمع الغنائم وحيازتها وحفظها ورعايتها، فإذا قام بذلك يقوم قبل قسمتها وقبل الرضخ منها بإعطاء أجرة أو تكاليف هذه الحيازة، وهذا نص عليه العلماء وذكروه: أنها لا تقسم الغنائم حتى يؤخذ منها كُلفَةُ حيازتها تنفيل أهل البلاء في القتال بعد حيازة الغنيمة يقوم الإمام بالنظر فيمن له بلاء أثناء المعركة، وهم الأقوام الذي أبلوا إما بالشرط، وإما بدون شرط. فالنوع الأول: الذين أبلوا بشرط: كأن يقول الإمام -كما مَثَّل العلماء في القديم- فيما لو أن العدو تحصَّن من وراء كثبان رمل، أو من وراء سور فقال: مَن نَقَب هذا السور أو فَجَّر هذا السور فله كذا وكذا، فهذا يسمى العطاء المستحق بالشرط، فحينئذ يعطي مَن وعده عطاءً معيناً ذلك العطاء الذي وعده، سواءً تعين ذلك العطاء أو كان العطاء مبهماً بالنسبة، كأن يقول: لك الربع، لك الثمن،. إلخ، ومِن هذا: إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم سواري كسرى لـ أبي معبد رضي الله عنه وأرضاه. فإذا أبلى إنسان معين فمن حق القائد أو الولي أن يخصه بعطاء معين، وهذا هو النوع الثالث من النَّفَل. فأصبح عندنا ثلاثة أشياء: - أولاً: سَلَب المقتول وهو لقاتله. - ثانياً: مَن كان مستحقاً بالشرط، وهو الذي اشترط له الإمام فعلاً فقام به. - والثالث: مَن له بلاء أثناء المعركة، كإنسان أثناء المعركة فَعَل فعلاً دمر به العدو، أو كسر به شوكته، أو فتح به ثغرة كانت سبباً في نصر المسلمين، فهذا يُعْظِم له الجزاء ويخصه بعطية معينة يتبع
__________________
|
#262
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (257) صـــــ(1) إلى صــ(20) الأدلة على تقسيم الأنفال وكيفية توزيعها وهذه الثلاثة لها أصول: فالنوع الأول الأصل فيه: قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن قتل قتيلاً فله سَلَبُه). وأما النوع الثاني -وهو الاستحقاق لعظيم البلاء- فالأصل فيه: حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه -وكان من أرمى الصحابة- فإنه في يوم ذي قَرَد -كما ثبت في الصحيحين- أبلى بلاءً عظيماً، فنفَّله النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أبلى بلاءً حسناً في جهاده، فنفَّله أبو بكر رضي الله عنه أمةً من الإماء، وأعطاه إياها لعظيم بلائه، فهذا يُستحق بدون شرط. فهذه ثلاثة أنواع. النوع الرابع مما يؤخذ من الغنيمة أو يقوم الإمام بأخذه: كلفة وأجرة حمل الغنيمة، وهذا ذكرناه في الأول. بعد هذا يقوم بقسم الغنائم بالصورة التي سيذكرها المصنف رحمه الله: (للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم). وأما مكان قسمة الغنائم للعلماء فيها قولان: - بعض العلماء يقول: تقسم في أرض المعركة، ولا بأس أن تقسم في أرض العدو. - وقال بعض العلماء: إنما تقسم بعد الحيازة -أي: بعد أخذها- ولا تقسم في دار الحرب، والسبب في هذا هو خشية أن يهجم الأعداء على المسلمين، وكأنهم يرون أنها لا تُستَحق ولا تُملَك إلا بعد رجوعهم إلى ديار المسلمين. والصحيح مذهب الجمهور: أنه يجوز للإمام أن يقسم الغنيمة في أرض المعركة، ولا بأس أن يقسمها حتى في أرض العدو؛ لأن النصوص دالة على ذلك، كما ثبت من هدية صلى الله عليه وسلم. قول: (وله أن ينفِّل في بدايته الربع بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث بعده) كان الحكم بالنسبة لأهل الكتاب ومَن قبلنا أنهم لا يأخذون الغنيمة، وإنما كانوا يجمعون غنائم الحرب، ثم يرسل الله عليها ناراً من السماء، فإن كانت مقبولة حُرِقت، وإن كانت غير مقبولة لا تُحرق، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (غزا نبي من أنبياء الله. وفيه: ثم جمعوا الغنيمة فأتت النار ولم تحرقها فقال: فليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد أحدهم بيده، فقال: فيكم الغلول، ليبايعني من كل بطن منكم رجل، فلصقت يده بيد رجلين منهما، فأمر بهما فأحرق رحلهما)، فصارت سنة في إحراق الرحل، وقالوا: إن الغلول لما وقع، كان من العقوبة لهم حرق الغنيمة. والثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله خص هذه الأمة بالغنائم، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي)، وهذا من رحمة الله بهذه الأمة، ومن تيسيره لها، ومن عظيم فضله وإحسانه إليها، فإن الله سبحانه اختصها بالخصائص التي منها: وضع الآصار عنهم. فالغنائم كانت لا تقسم، وإنما كانت تحرق، كما كان في بني إسرائيل وغيرهم من أهل الكتاب ممن مضوا لزوم طاعة ولي الأمر قال رحمه الله: [ويلزم الجيش طاعته والصبر معه] أي: يلزمهم أن يطيعوا إمامهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور أصل وقاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة، فلا بد للمسلم أن يكون مع جماعة المسلمين وإمامهم، وألا يشذ عنهم، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وعظ الصحابة وذكرهم بالله عز وجل قال: (عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي) فأمرهم وألزمهم بالسمع والطاعة؛ لأن الله أوجب ذلك على عباده المؤمنين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] يقول العلماء: إن الله ناداهم باسم الإيمان؛ لأن الذي يطيع الله ورسوله إنما هم المؤمنون، والذين يستجيبون لأمر الله ورسوله إنما هم المؤمنون السعداء الموفقون، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فقرن سبحانه وتعالى طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل طاعة ولاة الأمر تابعة لطاعة الله سبحانه وتعالى وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني -وفي رواية-: من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني). والسبب في ذلك: أن مصالح المسلمين تفتقر لمن يقوم بالنظر فيها، وهذا هو الذي جعل الحكمة في الشرع أن يكون لهم من ينظر في مصالحهم، فيرعى تلك المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، فإذا اجتمعت الكلمة عليه، فإنه يجب على المسلم أن يسمع ويطيع لولي أمره، في غزوٍ أو غير غزو؛ لأن الله أوجب عليه ذلك، وفرضه عليه، وإنما تكون السمع والطاعة في المعروف أي: فيما وأمر الله به أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا سمع ولا طاعة إذا أُمِر عبدٌ بمعصية الله عز وجل. فنبه المصنف رحمه الله على لزوم طاعة أمير الجيش، فإنه لا يستقيم أمر الجهاد في سبيل الله إلا بطاعته، فإذا أصبح الجند يتفرقون عنه، وكل له رأيه، وكل له قوله، فإن أمرهم إلى ضياع وإلى خذلان، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أن السنة قضت بلزوم الجماعة خوفاً من المفاسد والشرور، فقد يرى بعض الناس رأياً يختلف به مع جماعته، فإذا خالفهم وانفرد برأيه، وأصر عليه، فإنه مظنة أن يشتت الأمر، ويفرق الجماعة؛ لكنه إذا دخل في جماعة المسلمين وسمع وأطاع، فإن الله يثيبه على رأيه إن كان صواباً، وإن كان خطأً دفع عن المسلمين شر رأيه، وإلا جمع بين السوأتين: الخروج عن الجماعة، وفساد الرأي. ولذلك عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمر السمع والطاعة، وأخبر أن صلاح الأمة في السمع والطاعة؛ خوفاً مما يترتب على الخروج والفرقة من البلاء العظيم. ولذلك لما قال الصحابة: (أفلا نناجزهم) وذلك عندما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفساد الأئمة، قال عليه الصلاة والسلام: (لا. ما أقاموا فيكم الصلاة، لا. ما أقاموا فيكم الصلاة) فهذا نص صحيح صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج عن الأئمة، حتى ولو كان الإنسان في سفر مع رفقة وفيهم أمير، فلا يخرج إذ من السنة أن كل ثلاثة في سفر ينصبون أميراً عليهم، وهذا يدل على حرص الإسلام على الكلمة الواحدة، وعلى الجماعة الواحدة، وما دخلت الشرور على الأمة إلا بتفرق الكلمة ووجود الحزبيات وتفرق الآراء والجماعات. وكلما فُتِح باب النقد فُتِحَت أبواب الأهواء على الناس، وذهبت مكانة أئمتهم، ومكانة علمائهم، ومكانة ذوي الرأي والوجاهة فيهم، فإذا وجدت الناس على كلمة واحدة يحترمون أهل العلم، ومن له الأمر، وجدتهم على خير، وعلى استقامة وبر؛ ولكن إذا دخلت الدواخل، تَشَتَّتَ الشملُ وعظُمت الفتنة، حتى يصبح الإنسان حائراً لا يدري ما الذي يفعل. فالمقصود: أنهم إذا خرجوا للجهاد في سبيل الله في جماعتهم فلا يجوز أن يخرجوا عن القائد، أو يعصوا أمره؛ لأن هذا يُذْهِب هيبته، ويذهب قوة المسلمين على عدوهم. وتنبيهه رحمه الله على لزوم الطاعة يعتبرونه من آداب الجهاد في سبيل الله، وهذا من الأدب الواجب، فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأمير وإن جلد الظهر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (اسمع وأطع وإن جلد ظهرك وأخذ مالك) أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد ورد عن الصحابة أنهم قالوا: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأثرة علينا) فبين الصحابة رضوان الله عليهم أن بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت على المنشط والمكره، أي: على ما يحبون وما يكرهون، ولذلك أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من هذا حاله، فقال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه، إن قيل: في المقدمة ففي المقدمة، وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) وهذا الحديث فيه حكمة عظيمة، توضيحها: أن هذا الرجل استحق الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومه للسمع والطاعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (طوبى) قيل: هي الجنة، وقيل: شجرة في الجنة لو سار الراكب تحتها مائة سنة ما قطعها، (طوبى لعبد آخذٍِ بعنان فرسه) هذا في الجهاد في سبيل الله، (إن قيل: في المقدمة) المقدمة: مظنة الخوف، ومظنة الهلاك، فلو قال له الإمام: تقدم، وقال له: كن في المقدمة، فإنها أماكن القتل، وأماكن الهلاك، فيتقدم ولا يتأخر، (وإن قيل: في الساقة ففي الساقة) فقد يكون شجاعاً، فلو قيل له: في الساقة، يتألم؛ لأنه يريد الشهادة، ويريد أن ينكي بالعدو، ومع ذلك لا يقول: أنت لا تفقه أو لا تعلم أو كان ينبغي أن يضعني في الأمام، أو يجلس مع أصحابه لكي يخذِّل في رأي القائد، ويكون بذلك نزع الثقة من قلوبهم، وأفسد ما في نفوسهم، وحينئذ يتشتت شملُهم، وتذهب قوتهم. فالمقصود أنه لا بد من السمع والطاعة إذا كانت بالمعروف، لما فيها من صلاح أمور الناس في دينهم ودنياهم لزوم الصبر مع القائد والصبر عليه (ويلزم الجيش طاعته) طاعة القائد والوالي وولي أمره. (والصبر معه) لأن الجهاد في سبيل الله يقع فيه امتحان وابتلاء للناس، ولذلك وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، فإن الصحابة يوم حنين ابتلوا ابتلاءً عظيماً، ومن ذلك ما ابتلي به الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فإن من تأمل غزوة حنين، وجد كيف أن الله ابتلى أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على حكم الشرع، فعندما انتهت غزوة حنين قسم عليه الصلاة والسلام الغنائم، فأعطى أبا سفيان مائة من الإبل، وأعطى عيينة بن حصن الفزاري مائة، وأعطى الأقرع بن حابس مائة كذلك، فقال بعض الأنصار: (أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم) أي: نحن الذين قاتلنا، ونحن الذين أبلينا، ثم يذهب ويعطي هؤلاء؟! فـ أبو سفيان حديث عهد بالإسلام، وكذلك الأقرع بن حابس، فكأنهم وجدوا في أنفسهم شيئاً، فانتشرت الأخبار حتى بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بلغ ببعضهم -والعياذ بالله- وهو رأس الخوارج أن قال: (إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله). نسأل الله السلامة والعافية! أي: إن هذه القسمة حابى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه! فلما قال هذه الكلمة، وبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، فلما كثر كلامهم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وقال له: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ -أي: عن الأنصار، وكانوا لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! أما أهل الحلم والعلم منا فلم يقولوا إلا خيراً، وأما سفهاؤنا -أي: الشباب أحداث السن- فقالوا: يعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم -أي: نحن الذين أبلينا وكان ينبغي أن يكون العطاء لنا-، فقال عليه الصلاة والسلام: أين أنت يا سعد؟ -هنا الابتلاء، إذا كان قومك قالوا هذا القول، فأين أنت؟ فما كان ليكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: المرء مع قومه) وهذا من كمال الأدب، فلم يقل: ضدك، أو لست معك، وإنما قال: (المرء مع قومه)، وجاء بقاعدة عامة، يحتمل أن يكون قائلاً بها، أو ليس بقائل؛ لكن السياق دال على أنه يجد في نفسه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن جمعهم في القصة المشهورة. إلى آخرها. فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وصحابته كيف ابتلوا! ففي الجهاد تقع أشياء من الابتلاءات والتمحيص، ليهلك مَن هلك عن بينة، ويحيا مَن حَيَّ عن بينة، ويظهر مَن أراد الله والدار الآخرة، ويظهر مَن يريد الدنيا، يقول الله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152]، والله سبحانه وتعالى يبتلي في مثل هذه المواقف، فالمجاهد في سبيل الله عز وجل ينبغي عليه أن يصبر على مَن ولاه الله أمره، وإذا صبر عظم أجره، وحسن بلاؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (إنكم ستجدون بعدي أثرة، قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: اصبروا وإني فرطكم على الحوض) لأن الإمام ربما اجتهد في شيء، فحمَّلك أن تقوم به، فلا تقل: كان ينبغي أن يأمر غيري وكان ينبغي أن يقوم به غيري. أو يعطي غيرك ويمنعك، فلا تقل: لماذا أعطى غيري ومنعني؟ إنما عليك أن تصبر؛ لأنك تريد الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فلا بد من الصبر. ومراده بـ (الصبر معه) أي: في حال الابتلاء، وقد يأمر الأمير بأمر ثقيل، فتصبر وتتحمل؛ لأن هذا من كمال الإيمان، وهذا من قوة إيمان الإنسان، أنه يصبر على أميره، ويسمع له ويطيع، وإذا طلب منه أمراً قام به على أتم الوجوه وأكملها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الحق الذي لكم). فلابد من الصبر مع الأمير على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وما يكون منه من النظر والاجتهاد، قال صلى الله عليه وسلم: (يصلُّون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم). قال رحمه الله: [ولا يجوز الغزو إلا بإذنه] أي: بإذن الأمير، فلا بد من السمع والطاعة لولي الأمر وللأمير، فإذا قال له: اغزُ، غزا، وإذا قال له: لا تخرج، يسمع ويطيع، فلا يخرج بدون إذنه، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله: أن الغزو لا يكون لكل من هب ودب، بل ينبغي أن يكون تحت راية الإمام وبإذنه. قال رحمه الله: [إلا أن يفجأهم عدوٌ يخافون كَلَبَه] (إلا) أداة استثناء، والاستثناء: إخراجٌ لبعض ما يتناوله اللفظ، فلما بيَّن رحمه الله أن السمع والطاعة لازمان شرع في بيان الأحوال المستثناة، التي يجوز للإنسان أن يجاهد فيها ولا ينتظر الإذن، وهذه الأحوال ذكر العلماء منها: أن يفجأ عدوُّ يخافون كَلَبَه، فلو أن العدو هجم بغتة، فلا ينتظر حتى يأمره الإمام بالجهاد؛ وإنما يجاهدهم ويقاتلهم مباشرة، وهذه الأحوال المستثناة سبق الكلام عليها، وهي إحدى الحالات الثلاث التي يصير فيها الجهاد فرض عين، فيقاتل الرجلُ وتقاتل المرأةُ ويقاتل الصغيرُ، ويقاتل الكبيرُ. (يخافون كَلَبَه) الكَلَب بالفتح: هو الشر والضر. ومراده بـ (يخافون كَلَبه) أي: شرَّه وضرَّه، بمعنى: أن يكون قوياً ويغلب على ظنهم أنهم إذا لم يقاتلوه الآن، فإنه سيحصل بلاء وأن العدو سيفتك بهم، فحينئذ يجوز لهم أن يقاتلوه مباشرة ولا ينتظروا الإذن من الإمام الأسئلة معنى قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) السؤال إذا مر قوله تعالى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فهل المقصود به الجهاد؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فـ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إذا أطلق في الكتاب والسنة، فيراد به أحد معنيين: - إما أن يراد به المعنى الخاص، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهذا هو الشائع والأكثر. - وإما أن يراد به عموم الخير والطاعة والبر، فتقول للإنسان: أنفق مالك في سبيل الله، أي: في طاعته ومرضاته؛ لأن السبيل المراد به: طريق الله، فالذي ينفق ماله في تفريج كربات المسلمين وستر عورات المعسرين والمحتاجين، فإن هذا السبيل الذي طرقه في إنفاق ماله هو سبيل الله؛ لأن الله يحبه، ودعا إليه، وهدى إليه، ورغَّب فيه، فتقول: هذا أنفق ماله في سبيل الله، ومن أمثلة ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين: (مَن أنفق زوجين في سبيل الله، نودي يوم القيامة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من باب الصلاة نودي من باب الصلاة) إلى آخر الحديث. والأكثر والأشهر أن يُطلق سبيل الله ويراد به الجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى أن العلماء رحمهم الله يقولون: من فوائد الجهاد: أن الله سبحانه وتعالى سَمَّى الجهاد سبيلاً له، لما فيه من عظيم المكرُمات، وجزيل الفضائل والحسنات، فجعله بهذه المثابة، ولذلك وصف القرآن بأنه طريقه فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، قال جمعٌ مِن السلف مِن الصحابة ومَن بعدَهم: إن قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} [الأنعام:153] يعني: القرآن، ووصف القرآن بأنه هو صراطه، وأنه هو الصراط المستقيم، تعظيماً للقرآن، ووصف الجهاد بكونه سبيلاً لله عز وجل؛ لأنه الطريق الذي ينتهي بصاحبه إلى الله سبحانه وتعالى. ومن هنا: إذا أطلق (سبيل الله) فالمراد به: الجهاد في سبيل الله، وهذا هو السبب الذي اختلف من أجله العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] فإن قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة وعلى أن المراد بهذا الصنف السابع إنما هم المجاهدون في سبيل الله، أي: أن الزكاة تصرف في الجهاد في سبيل الله. وقال طائفة من العلماء: إن المراد بقوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ): أوجه الخير والبر، وهذا ضعيف من وجهين: الوجه الأول: أن العرب لا تعطف العام على الخاص، ويليه بعد ذلك الخاص، وإنما تعطف العام على الخاص أو الخاص على العام، أي: تأتي بالعام أولاً ثم تخصص، لمزية في هذا الخاص، كقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر:4]، فإن الروح -وهو جبريل- يعتبر خاصاً، فحينئذ ذكره على الخصوصية تفضيلاً له وتشريفاً. وإما أن تذكر الخاص أولاً، فتقول: ليأتني محمد والناس، فحينئذ يكون ذكرك لمحمد من باب التفضيل له، أو تقول لابنك: اعزم خالك وعمك وسائر القرابة، فلما ذكرت الخال والعم بينت أن لهما مزيةً وفضلاً، أو تقول: اعزم الناس وخالك وعمك، كأنك تؤكد عليه أن الخال والعم له حق آكد من الناس، فالعرب إما أن تقدم العام وتعطف الخاص عليه، أو تقدم الخاص وتعطف العام عليه؛ ولكن لا تدخل عاماً بين خاصين، فلو كان المراد بقوله: (في سبيل الله)، العموم لقال الله تعالى: (إنما الصدقات في سبيل الله للفقراء والمساكين ... ) إلى آخره، فيعطف الخاص على العام، وإما أن يقول: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. إلى قوله:. وابن السبيل وفي سبيل الله)، هذا هو المعروف من سياق القرآن ومن لغة العرب؛ لكن أن تدخل العام بين خاصين، فهذا خلاف الأصل، ولا فائدة من هذا؛ لأنه يكون فيه شيء من اللغو الذي ينزه عنه القرآن، ففيه ركاكة في التعبير، كأن تقول: ليأتي محمد وعلي والناس وزيد وعمرو، وهذا لا يستقيم، إذاً: لا بد من ذكر الخاص قبل العام، أو العام قبل الخاص. الوجه الثاني: أنه لو كان المراد بقوله تعالى قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] العموم، لكان قال الله عز وجل: (إنما الصدقات في سبيل الله)، وما الفائدة أن يخص الأصناف الثمانية؟ قالوا: إنما خصت لأنها تنفرد من المعنى العام لسبيل الله، أي: تنفرد من سبل الخير، حتى تتميز الصدقة الواجبة عن الصدقة النافلة، فالصدقة النافلة تكون في أوجه البر والطاعة عموماً؛ ولكن الصدقة الواجبة تكون لأقوام مخصوصين، ولذلك لم يكل الله قسمة الزكاة لِمَلَك مقرب ولا لنبي مرسل، إنما قسمها من فوق سبع سماوات سبحانه وتعالى: {يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57]. فالمقصود أن (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) المراد به: - إما الجهاد. - وإما عموم الخير والطاعة والبر. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (مَن صام يوماً في سبيل الله). قال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله) المراد به: في الجهاد. وقال بعض العلماء: (يوماً في سبيل الله): أي: أنه يصومه في غير فرض، تنفلاً وبراً، ولهذا يختلف العلماء في المسائل التي ذكرناها؛ لأن معنى: (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يتردد بين هذين المعنيين، والأصل حمله على الجهاد كما ذكرنا؛ لأن الله شرف هذه العبادة وفضلها. والله تعالى أعلم التعزير بالمال السؤال هل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحراق رحل من غل دليل على جواز التعزير بإتلاف مال المعزَّر المذنب؟ الجواب استدل به من قال بجواز التعزير بأخذ المال، وقال: يجوز أن توضع الغرامة والعقوبة المالية من باب التعزير، واستدلوا على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: (لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) وتحريق البيوت إتلاف لها، وهذا تعزير بإتلاف المال. كذلك أيضاً استدلوا بما جاء عنه عليه الصلاة والسلام فيمن منع الزكاة، قال عليه الصلاة والسلام: (إنا آخِذوها وشطرَ مالِه) فعزره بالمال، وذلك لتضييعه الحق الواجب. وكذلك حرَّق عليه الصلاة والسلام على سبيل التعزير وذكر التحريق فيمَن قبلَنا وأقر، وشرع مَن قبلَنا شرعٌ لنا على سبيل التعزير. فقالوا: إن هذا يعتبر أصلاً في جواز التعزير بإتلاف المال. والله تعالى أعلم أنواع الرباط السؤال ذُكِر النوع الأول من الرباط فما النوع الثاني؟ الجواب هناك نوعان من الرباط: - الأكمل: أن يكون أربعين يوماً. - ودون الأكمل: أن يكون دون الأربعين. لكن الذي دون الأربعين: - إما أن يكون لحاجة، فانتهت الحاجة دون الأربعين، فصاحبه على فضل. - وإما أن يكون من الشخص نفسه، فإذا كان من الشخص نفسه فإنه يحرم الأجر. وأما تقسيم الرباط من حيث الضدين: - فهناك رباط في الثغر. - ورباط في غير الثغر، الذي هو في داخل المدن. فالرباط الذي يكون في الثغر: هو الذي يكون على الحد بين المسلمين والكفار. والرباط الذي يكون داخل المدن، أو على أسوار المدن كما كان في القديم، يدخل في هذا الفضل. وكل ذلك يعتبر من الرباط في سبيل الله، ويتفاوت أجره على حسب تفاوت البلاء؛ لأن الأكثر تعباً أعظم أجراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثوابُكِ على قَدْر نَصَبُكِ) معرفة حال العدو في الجهاد والمصلحة في ذلك السؤال هل معرفة أعداد العدو وعتاده يعتبر من الإرجاف، فقد أشكل علي كون النبي صلى الله عليه وسلم سأل غلمان المشركين عن عددهم يوم بدر؟ الجواب أما بالنسبة لمعرفة حال العدو فهذا أمر يرجع إلى ولي الأمر، ومن يلي قيادة الجيش في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فإن كان من المصلحة أن يُطْلع الناس على ذلك لكي تقوى عزائمهم أن العدو ضعيف، وأنه لا عداد له ولا عدة، أخبرهم بذلك، وأما إذا كان عددهم كبيراً، أو أن لهم قوة وشكيمة، وأن إخبارهم بذلك سيضر بمصلحة الجهاد، فإنه لا يخبرهم، ويمنع من نقل هذه الأخبار، تحقيقاً للمصلحة أو درءاً للمفسدة. والله تعالى أعلم معنى قوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) السؤال في قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] هل قوله: (فَعَلَيْكُمُ) يدل على الوجوب العيني؟ الجواب ( فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ): عليك كذا، أي: يلزمك، ومنه قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وفي قراءة بعض العلماء يقف عند قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام:151] ويقولون: إن (عَلَيْكُمْ) تدل على الإلزام، عليك كذا، بمعنى: أنه يلزمك. وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] أي: يلزمكم النصر، وهذا في حال وجود حاجة إلى المسلمين، وتكون النصرة واجبة على المسلمين عموماً، وليست عينية، وإنما ذكر العلماء الواجب العيني في النصرة في حال الاستنفار، أي: إذا توقف إنقاذ إنسان على نصرتك له، بحيث لا يحتمل التأخير، فيلزمك أن تنصره دون أن تحتاج إلى إذن، وهناك أحوال مستثناة ذكرها العلماء، وإلا فالأصل أن مواجهة الأعداء إنما تكون راجعة إلى نظر الإمام فيما يراه من المصلحة، إذ لو فتح هذا الباب فإنه ربما أقدم إنسان على عدو فأضر بفرد منهم، فحمل العدو على جماعة المسلمين وأضروا بهم، ولذلك ينظر الإمام إلى ما فيه المصلحة، فإن كانت المصلحة لجماعة المسلمين أن يسكتوا عن العدو أمَدَهم، فإنه يسكتهم، حتى يرى الفرصة سانحةً للقيام بأمر الله وأداء الواجب الذي فرض الله، فيقوم بذلك على وجهه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
__________________
|
#263
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (258) صـــــ(1) إلى صــ(21) شرح زاد المستقنع - كتاب الجهاد [3] الغنائم ثمرة من ثمار الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهي خصيصة من خصائص هذه الأمة، فإنها لم تحل لأحد قبلها. وقد جاء الشرع ببيان هذه الغنائم من حيث كيفية تقسيمها، ومن هم الذين يستحقونها، وما هي مصارفها، وما هي المخالفات التي ينبغي اجتنابها فيها، والعقوبات المترتبة على هذه المخالفات، وهكذا الحال في الأموال التي تؤخذ من المشركين كالجزية والعشر والفيء أحكام الغنيمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال فيُخِرج الخمس] من عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم إذا تكلموا على مسائل الجهاد، بينوا الأحكام المترتبة على الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن ذلك: ما يتعلق بالغنيمة، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الغنيمة حقاً للغازين في سبيله، وللغنيمة جملة من الأحكام والمسائل، ولذلك يعتني العلماء بذكرها في باب الجهاد، وبينا فيما تقدم من هم الذين يستحقون أن يقسم لهم من الغنيمة، وهم: الذين شهدوا الوقعة من المقاتلين الذين أبلوا، ويستوي في هذه الغنيمة الشجاع والجبان، على حد سواء ثم بين -رحمه الله- أن الغنيمة يخرج منها الخمس. فالحكم الشرعي أنه إذا انتهت الوقعة يقوم الإمام بجمع الغنائم، فيأمر المكلفين بجمعها وحيازتها، فإذا حيزت وضمت وجمعت قام أولاً بدفع تكاليف حمل الغنيمة وجمعها وما يلزم من حفظها وحراستها ورعايتها، إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها لحفظ هذه الغنائم. الأمر الثاني: أن يقوم بعد ذلك بإعطاء الأسلاب والأنفال، وقد بينا أحكام الأنفال وقلنا: تعطي الأسلاب لمن قتل قتيلاً وله علامته، ثم بعد ذلك يقوم الإمام بإعطاء الأنفال، فيعطي بالشرط، كأن يقول: من فعل كذا أعطيه كذا، ويعطي أيضاً من باب التشجيع، ويعطي أيضاً تنفيل السرايا متى تملك الغنيمة قال رحمه الله: [وتُمْلَك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب] (وتُمْلك الغنيمة): بالجهاد في سبيل الله. (بالاستيلاء عليها في دار الحرب) وهذه مسألة خلافية: إذا غنم المسلمون في الجهاد في سبيل الله، فهل يشترط في قسمة الغنيمة حيازتها، أم أن الغنيمة تقسم في أرض العدو؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على جواز قسمتها بأرض العدو، والحنفية على أنه لا بد من حيازتها، والصحيح مذهب الجمهور لثبوت السنة به المستحقون للغنيمة قال رحمه الله: [وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال] (وهي) أي: الغنيمة. (لمن شهد): (اللام) للاختصاص، أو للمِلْك؛ ولكن الظاهر أنها للاختصاص، أي: وهي مختصة بمن شهد الوقعة. (لمن شهد الوقعة): أي: شَهِد القتال، وهذا له أصل في السنة، حيث دلت عليه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن تُكُلِّم في بعضها. وعلى هذا: فإنه لا يستحق من الغنيمة المريض الذي تخلَّف ولم يشهد الوقعة، حتى ولو كان تخلفُه لمرضٍ أو كِبَر سن، مع أن نيته أنه لو كان صحيحاً لغزا؛ ولكنه مرض فامتنع من الغزو، فإنه لا يستحق، ووجود عُذْر لا يوجب أخذه للغنيمة، ولذلك يقول العلماء: مِن المواطن التي يفترق فيها أجر الآخرة والدنيا -أي: غنيمة الدنيا وأجر الآخرة- في الجهاد في سبيل الله: هذا الموطن، فإن المريض أجره في الآخرة كامل، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، وشاركوكم الأجر) فهم في أجر الآخرة يشاركون الغازين؛ ولكنهم في أجر الدنيا -وهو الغنيمة- لا يأخذون منه، فالغنيمة مختصة بمن شهد الوقعة، إلا إذا كان هذا المريض له بلاء، كأن يكون خطط للمعركة، أو خطط للجهاد في سبيل الله، أو استعان به القائد، فأشار عليه برأي، فللإمام أن يكافئه وأن يدخله في الغنيمة؛ لأنه كالمجاهد، إذ برأيه وبمشورته كان له هذا البلاء. وكذلك النساء لا يأخذن من الغنيمة، فلا حق لهن فيها؛ وإنما يرضخ لهن، والرضخ: أن يأخذ الإمام شيئاً من الغنيمة ويعطيه لهن، إذا داوين الجرحى، وعالجن المرضى. كذلك أيضاً: المجنون والصبي، فإنهما لا يستحقان من الغنيمة، ولو شهدا الوقعة. فالمرأة، والصبي، والمجنون، هؤلاء الثلاثة لو شهدوا الوقعة فإنهم لا يأخذون سهماً من الغنيمة. وأما من تخلف عنها لعذر كما لو قال القائد لرجل: اذهب وانظر لي كذا وكذا، فأرسله لمهمة، وبسببها تعطل عن شهود المعركة أو شهود الوقعة، فإنه يأخذ من الغنيمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب سهماً لـ عثمان رضي الله عنه في بدر؛ لأنه تغيب لعذر وثبت عنه عليه الصلاة والسلام إعطاؤه الحق للغائب بعذر، فقال العلماء: إن مَن تخلف بعذر من الإمام، كأن يرسله عيناً يتحسس الأخبار، أو يرسله لكي يحضر زاداً، أو يحضر عتاداً، أو يحضر الذخيرة، أو نحو ذلك مما يستعان به على الجهاد في سبيل الله، فهؤلاء في حكم من شهد الوقعة، ويأخذون من الغنيمة، فيعتبرون مستثنَون من الاختصاص في قوله: (لمن شهد الوقعة). اختصاراً: لا يعطى من الغنيمة: - النساء على أن لهن سهماً معيناً، وإنما يُعْطَين رضخاً. - ولا يعطى منها الصبيان. - ولا يعطى منها المجانين. - ولا يعطى منها كذلك المرضى، إلا مَن أرسل في حاجة لمصلحة الجهاد والقتال، أو في مصلحة الجيش، أو كان مريضاً وكان هناك نفعٌ من رأيه ومشورته، فهؤلاء لهم حق بالصفة التي ذكرنا الخمس ومن يستحقه ثم بعد أن ينتهي من هذه الأمور، يقسم الغنيمة إلى خمسة أقسام، أو خمسة أجزاء متساوية، وهذا ما يسمى (بالتخميس) والخمس هو الواحد من الخمسة، وأول ما يبدأ به هو أن يحوز الخمس الذي لله ولرسوله ولليتامى والمساكين وابن السبيل ولذي القربى، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، فإن خمسها يساوي مائتي ألف، وتبقى ثمانمائة ألف، وهذه هي حظ المجاهدين، وهذا في المنقولات، أي: الحق المنقول؛ لأن الغنيمة في الغزو تنقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالمنقول هو الذي نتكلم فيه الآن، أما العقار فسيأتي حكمه، فيقوم بضم الخمس ويقسمه كالآتي: 1 - الخمس الذي لله وللرسول: والمراد بالخمس الذي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: أن يوضع في مصالح المسلمين، وتهيئة المجاهدين في سبيل الله عز وجل، ويصرف في مصالحهم في الطرقات والأطعمة والمستشفيات، ونحوها مما يحتاج إليه من مصالح المسلمين العامة. 2 - ثم الخمس الثاني: لذي القربى، وهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك بني هاشم وبني المطلب على التفصيل الذي بيناه في كتاب الزكاة، وقد بينا فروعهم وأصولهم ومَن الذين يستحقون الخمس، وهم الذين لا يأخذون من الزكاة، وفصلنا هذه الأحكام في موضعها، وذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على هذه المسائل. 3 - وخمس لليتامى. 4 - وخمسٌ للمساكين. 5 - وخمسٌ لابن السبيل. وقد بينا هذه الأصناف كلها في كتاب الزكاة، فبينا مَن هم الفقراء؟ ومَن هم المساكين، ومَن هو ابن السبيل، وبيَّنَّا ضوابط كلٍّ، فيعطى هذا الخمس للأصناف التي نص الكتاب على قسمتها عليهم. وفي قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: اختلف العلماء في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: قيل: إن قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41]، المراد به: الاستفتاح، فالله عز وجل مالك كل شيء، وإنما استفتح الله عز وجل بنفسه تشريفاً وتكريماً. وقيل: إن المراد بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]: هو السهم الواحد، الذي هو خمس الخمس. (وَلِذِي الْقُرْبَى) وهم آل البيت. (وَالْيَتَامَى) اليتيم هو: الذي فقد أباه وهو دون سن البلوغ، أما إذا فَقَدَ أباه بعد البلوغ فلا يسمى يتيماً، ويُعطى هؤلاء اليتامى على تفصيلٍِ عند العلماء: بعض العلماء يقول: يستوي في ذلك غنيهم وفقيرهم. ومنهم من يقول: يختص بفقراء اليتامى، فيشترط في اليتيم: - أن يكون دون البلوغ حين يفقد أباه. - وأن يكون محتاجاً، أي: فقيراً أو مسكيناً. (وَالْمَسَاكِينِ) وقد بينا أن المسكين هو الذي لا يجد تمام كفايته، وأن الفقير أشد منه حالاً، وعلى هذا يمكن صرف هذا السهم للفقراء؛ لأنه إذا أعطي المسكين فمن باب أولى الفقير؛ لأن الفقير فيه وصف المسكنة، ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يحييه مسكيناً، واستعاذ بالله من الفقر؛ لأن الفقر أشد من المسكنة، فيمكن أن تصف الإنسان بكونه مسكيناً مع أنه يملك، كما قال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79]. (وَابْنِ السَّبِيلِ) ابن السبيل: هو المسافر المنقطع، واختلف العلماء في ضابطه -كما بيناه في باب الزكاة- هل يشترط أن يكون معدِماً في سفره وفي بلده، أم أنه يُعطى ولو كان غنياً في بلده؟ ذكرنا هذين الوجهين كيفية توزيع الغنائم على المقاتلين بعد هذا يقوم الإمام بصرف الأربعة الأخماس وتوزيعها على المجاهدين أو المقاتلين، وهذا ينبني على ما ذكره المصنف: [للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم]. والفارس: هو الذي يقاتل على الفرس، ويكون له ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، والسبب في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح من حديث ابن عمر وغيره (أنه أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهماً واحداً) وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وقضى به عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وكذلك قال به من أئمة التابعين: محمد بن سيرين والحسن البصري، وقضى به الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وهو مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة، والصاحبَين، وأهل الحديث، أن للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له، وأن للراجل سهماً واحداً؛ ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يكون له سهمان: سهم له، وسهم لفرسه، واحتج بحديث ضعيف. والصحيح: مذهب الجمهور؛ لدلالة السنة عليه. فإذا قلنا: للراجل سهم، ولكل فارس ثلاثة أسهم، فمن ناحيةٍ عقلية لا يخلو الجيش من ثلاثة أحوال: الحالة الأولى: أن يكون جميعهم فرساناً، فحينئذ تكون القسمة قسمة الفرسان، بمعنى أن تحسب عدد رءوس المقاتلين، فلو فرضنا أنهم ألف، فتضربهم في ثلاثة، فحينئذ يكون المجموع ثلاثة آلاف، فلو أن الغنيمة تسعمائة ألف، فمعنى ذلك أنك تقسمها على ثلاثة آلاف، فيكون كل سهم تسعمائة ريال، فتعطي كل واحد منهم ثلاثة أضعافها، فتضرب التسعمائة في ثلاثة، فيصير المجموع (3×900=2700)، فتصبح ألفين وسبعمائة لكل واحد منهم. وهذا القسم ثابت دلت عليه السنة. الحالة الثانية: العكس؛ أن يكون جميعهم من الرجَّالة، وهذه غالباً ما تقع في الدفاع عن الحصون، فإذا كانوا رجَّالةً وقاتلوا فإن الغنيمة تقسم على عدد الرءوس، فلو فرضنا أن الغنيمة بلغت مليوناً، وهم ألف مقاتل، فمعنى ذلك أن سهم كل واحد منهم يكون ألفاً. الحالة الثالثة: أن يكون فيهم من يقاتل على فرسه وفيهم من يقاتل راجلاً، ففي هذه الحالة يحسب عدد الرجالة ويُحسب عدد الفرسان، ثم تضرب عدد الفرسان في ثلاثة، فلو كانوا ألفاً نصفهم رجَّالة ونصفهم فرسان، فمعنى ذلك أن الفرسان خمسمائة، فتضرب الخمسمائة في ثلاثة؛ فيصبح المجموع ألفاً وخمسمائة، ثم تضيف عدد الرجَّالة فيصبح المجموع ألفين، فتقسم الغنيمة على ألفين، والناتج من ذلك تعطي الفارس ثلاثة أضعافه، وتعطي الراجل عين الناتج، فلو فرضنا أنهم غنموا مليوناً، فالمليون تقسمها على ألفين، فيكون الناتج خمسمائة، يكون منها للفارس ألفاً وخمسمائة، ويكون للراجل خمسمائة. وقد ذكر العلماء هذه المسائل وبينوها في كتاب الجهاد في الكتب المطولة، والمصنف -رحمه الله- بيَّن تراكيب قسمة الغنائم لتعلقها بكتاب الجهاد كما ذكرنا. فالمجاهد على فرسه، إن كان الفرس له، فقال بعض العلماء: يستحق للفرس. فلو كان معه فرساً ثانياً؟ فبعض العلماء يرى أنه لا يعطى لأكثر من فرس. ومنهم من يرى أن الحد فَرَسان، فإن زاد عليهما لا يعطى، والسبب في هذا: أنه يقاتل على فرس، ويحمل متاعه وسلاحه على فرس آخر، فقالوا: إنه يعطى في حدود الفرسين، وفي هذا حديث تكلم العلماء رحمهم الله فيه، وعلى القول بثبوته فإنه يُعطى لكل إنسان في حدود الفرسَين، فإن كان عنده ثلاثة أو أربعة أفراس أو أكثر فلا يعطى عليها. وقوله ![]() قال رحمه الله تعالى: [ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت، ويشاركونه فيما غنم] هذا من السنة، وهو مذهب الجمهور، فجماهير العلماء رحمهم الله يقولون: إن الجيش إذا بعثت منه سرية لأمر، كأن يبعث السرية لطلب أو لنجدة من يحتاجون إلى من ينجدهم ويسعفهم، أو يجعلونها كميناً للعدو، ثم فوجئوا بالعدو أمامهم، فلم تشهد السرية الوقعة -والأصل في الغنيمة أن تكون لمن شهد الوقعة- فحينئذ تشارك السريةُ الجيشَ في الغنيمة، فكأنهم حضروا؛ لأنهم غابوا فيما يعين على الوقعة، وفيما يقصد به حماية الجيش، والعكس، فلو أن هذه السرية ذهبت وقاتلت وغنمت، فإن الغنائم توزع على الجيش جميعاً، فيشارك الجيشُ سراياه، والسرايا تشارك الجيش فيما غنم الغلول وأحكامه قال رحمه الله: [والغال من الغنيمة يُحرق رحلُه كلُّه، إلا السلاح والمصحف وما فيه روح] الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، وهو أشبه بالسرقة والعياذ بالله! فبعد أن بيَّن رحمه الله أحكام الغنائم؛ لأنها مترتبة على الجهاد، شرع في بيان الأخطاء التي تقع فيها، ومن ذلك الغلول، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] والغلول من كبائر الذنوب، فإنه -والعياذ بالله- ما غل عبدٌ شيئاً إلا اشتعل عليه ناراً في قبره -نسأل الله السلامة والعافية- وعذبه الله به في برزخه، وفضحه به على رءوس الأشهاد، ويأتي يوم القيامة يحمل على ظهره ما غل، ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعيرٌ له رغاء، فيقول: يا محمد! فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً)، (يا محمد!) أي: كن لي، واشفع لي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أملك لك من الله شيئاً) أي: إنني أعذرت وبينت أن هذا لا يجوز، وأن هذا خيانة لله ولرسوله ولعامة المسلمين ولأئمتهم، ولذلك يُعَد الغلول من كبائر الذنوب، ونص العلماء رحمهم الله على فسق صاحبه، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قُتِل رجل يوم خيبر، هنأه بعض الصحابة بالشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم (كلا والله! والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلَّها يوم خيبر لتشتعل عليه ناراً) فهذا يدل على فظاعة أمر الغلول، نسأل الله السلامة والعافية! واستَشْكل العلماء رحمهم الله مسألةَ أن الشهيد يغفر له كل شيء، ومع ذلك تشتعل عليه الشملة؟ قيل: إنه ترجم بهذا الأخذ عن قصده للدنيا، فتكون شهادته ناقصة وفيها شبهة؛ لأنه إنسان مريض القلب، وحظه الدنيا دون الآخرة، وقال بعض العلماء: لا تعارض بين عام وخاص، فالغلول له عقوبة خاصة، ولذلك يعتبر مستثنىً من الأصل، أنه يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدين إحراق رحل الغال إلا ما استثني قوله: (يُحرَق رحلُه كلُّه إلا السلاح والمصحف وما فيه روح) هذا الفعل يسمى بالتعزير، والغال -والعياذ بالله- له حالتان: الحالة الأولى: أن ينكشف غلوله في الدنيا، فحينئذ يعاقب بالعقوبات التالية: أولاً: يجب عليه ضمان ما غل. ثانياً: أنه يُحرق رحلُه. ثالثاً: يعزره الإمام بما يردعه ويردع غيره عن فعله. أما العقوبة الثانية: وهي حرق الرحل، فقد جاءت به السنة، واختُلِف في رفعِ الحديث ووقفِه، ولكن ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أحرقا متاع الغال، وهذا يسميه العلماء: العقوبة بالمال، أو التعزير بالمال، ومن الغرامات المالية ما ورد في السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تحريق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وأخذه عليه الصلاة والسلام لضعفي الزكاة ممن منعها، فهذا كله يسمى بالعقوبات المالية، وهي تفعل لمن خالف، أو فعل أمراً فيه معصية، أو فيه تعريض لنفسه أو لغيره للخطر، وهذا يراه ويختاره جمع من الأئمة، ومنهم شيخ الإسلام رحمه الله، والإمام ابن القيم في الطرق الحكمية، وغيرهم من العلماء، ذكروا أن السنة ثابتة بجواز التعزير بالمال، ومنه: إحراق رحل الغال من الغنيمة؛ وهذا الإحراق من باب الترهيب والمنع للغير أن يسلك سبيله، أو يرتكب جريمته. (إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح) (إلا السلاح) للحاجة إليه في الجهاد في سبيل الله، فلا يُحرق. (والمصحف) لأن له حرمة، فلا يحرق كتاب الله عز وجل، وبعض العلماء يجعل في حكم المصحف كتب العلم فلا تحرق؛ لأن إحراقها فيه ضرر؛ لأنه يفوت العلم الذي فيها. (وما فيه روح) فلا تُحرق دوابُّه، أي: ما كان في رحله من الدواب، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان، فلا يجوز قتل الحيوان بالحرق أحكام الخراج قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) قال رحمه الله: (وإذا غنموا أرضاً). هذه الجملة قَصَد المصنف منها أن يبين أحكام الخراج، أي: الأراضي التي تُمْلَك بعد الجهاد في سبيل الله، وقد قلنا: إن الغنيمة تنقسم إلى قسمين: الأول: إما أن تكون منقولات، كالذهب، والفضة، والدواب، والأسلحة، والأطعمة ونحوها مما يكون في الجهاد في سبيل الله. النوع الثاني: العقارات، فإذا دخل المسلمون بلاد الكفار، فإنهم يغنمون أموالهم وديارهم، ولذلك أورث الله الصحابة وامتنَّ عليهم في كتابه بأنه أورثهم أموال بني قريظة وديارهم. فهذه الغنيمة التي غنموها وهي أراضي الكفار، تحتاج إلى نظر، فإن المسلمين قد قاتلوا العدو فاستحقوا هذه الأرض، فيرد السؤال هل نقسم هذه الأرض بين المجاهدين في سبيل الله الذين شهدوا الوقعة فقط، مثلما نقسم الأموال العينية؟ أم أن هذه الأرض تبقى وتُسْتَصْلح ويقام عليها العدو من أجل أن يعمرها ويقوم عليها من باب الإجارة، فهل يجوز أن نبقيها في يده، ثم نأخذ مصالحها، ونضعها في بيت مال المسلمين؟ هذا هو الذي يبحثه العلماء في مسائل الخراج، والأرض الخراجية أقسام الخراج قال رحمه الله: [وإذا غنموا أرضاً فتحوها بالسيف، خُيِّر الإمام] قوله: (خُيِّر الإمام) التخيير: النظر في خيري الأمرين، أن ينظر الإنسان في الشيء طلباً لخيري الأمرين فيه، والتخيير للإمام، أي: أن الإمام والقائد ينظر المصلحة، فإن كانت المصلحة أن يبقي الكفار في هذه الأرض لكي يستصلحوها ويزرعوها، ويكون نتاجها للمسلمين، ويعطيهم أجرتهم، فعل ذلك، وحينئذ تكون الأرض خراجية بالمقاسمة؛ لأن الخراج ينقسم إلى قسمين: النوع الأول: خراج المقاسمة وهو أن يقول لهم: ابقوا في هذه الأرض، وازرعوها، وقوموا عليها؛ لأنهم قد يكونون أعلم بمصلحة هذه الأرض، فيزرعونها ويقومون عليها، على أن لهم النصف وللمسلمين النصف، والأصل في هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بشطر مما يخرج من أرضها) وهو أشبه بالمساقاة، ولذلك بعض العلماء يعتبره أصلاً في المساقاة، ويُعْتَبر أيضاً إجارةً، ويعتبر خراجاً بالمقاسمة، فتُقسم الأرض أي: نتاج الأرض، أما الأرض بذاتها فتصبح ملكاً للمسلمين، فحينئذ ما ينتج منها يقسم نصفين، نصفها لهم ونصفها للمسلمين، وهذا هو الذي كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع يهود خيبر، وقد أخبرهم كما في كتاب العقد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يبقيهم فيها ما شاء الله، فلما جاء عمر أجلاهم عنها رضي الله عنه وأرضاه، فدل على أن الأرض ملك لبيت مال المسلمين، ففي هذه الحالة تكون الأرض ملكاً لبيت مال المسلمين، ويُبقي الإمامُ الكفارَ يعملون فيها لمصلحة بيت مال المسلمين، ويأخذون أجرة ما يقومون به من عمل، وهذا يحتاج إلى الرجوع إلى أهل الخبرة وأهل النظر، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم في كل سنة يبعث إليهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، من أجل أن يخرص نخل خيبر، وينظر كم فيه، ثم يفرض عليهم النصف، فيأخذه إلى بيت مال المسلمين، وهذا هو الذي يسميه العلماء رحمهم الله: خراج المقاسمة. النوع الثاني: خراج الوظيفة: وهو أن يقال له: تبقى الأرضُ بيدِك وكلُّ جريد منها، أو كل هكتار، أو فدان، أو كل مساحة معينة عليك فيها -مثلاً- ألف درهم، أو ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال كل سنة، فهذا يسمى الخراج الوظيفي، وله ضوابط، وأصول، وله مباحث طويلة، تكلم العلماء رحمة الله عليهم عنها في كتب المطولات، وقد ألف الإمام القاضي أبو يوسف رحمه الله كتابه المشهور: الخراج، وتكلم عليه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه النفيس: الأموال، وكذلك ابن زنجويه في كتابه النفيس أيضاً: الأموال. وهذه ضوابط ترجع إلى تراكيب مالية تُعرَف في بيت مال المسلمين، فيُعطى فيها قدر معين يُرجع فيه إلى أهل الخبرة، فهم الذين يحددون هذا القدر، ويكون القدر سنوياً. لكن الخراج الوظيفي وخراج المقاسمة مرتب على مسألة بقاء الأرض دون قسمة يتبع
__________________
|
#264
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (259) صـــــ(1) إلى صــ(21) تخيير الإمام في الأصلح في شأن الخراج فإذاً: يقول المصنف رحمه الله: [خُيِّر الإمام] أي: ينظر الإمامُ الأصلحَ، هل المصلحة أن تبقى خراجية، ويؤخذ منها الخراج لبيت مال المسلمين، كما حدث مِن فعل عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في الفتوحات، فكان هناك ما يسمى بالأرض الخراجية؛ والسبب في هذا الخراج أو الأصل فيه: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما فتح المشرق، ودخل المسلمون بلاد فارس وتوغلوا فيها، كان رأي عمر رضي الله عنه وأرضاه أن يُبقي الأرضَ لكي ينتفع بها المسلمون في عصرهم ومن يأتي بعدهم، فترك أراضي الحيرة في العراق، وكذلك أراضي فارس، فأبقاها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين، حتى يبقى لبيت مال المسلمين خراج، يُدَرُّ عليه سنوياً، فيستقر بيت مال المسلمين، فهذا قضاء عمر بن الخطاب، وقد اختلف هو وبلال وعبد الرحمن بن عوف، وكان رضي الله عنه يقول: (اللهم أعني على بلال)، والسبب في هذا أنه كان بعيد النظر، فقد تأوَّل آية الحشر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فإن هذه الآية جاءت بعد آية الفيء: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر:7] فهذه الآية: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] يقول: إن الخَلَف الذين يأتون من بعدُ يترحمون على مَن قبلهم بما تركوا لهم من الخير في الجهاد في سبيل الله، فكان هذا من فقهه رضي الله عنه، فقضى بذلك، واستقر عليه العمل، ووافقه الصحابة بعد، ورجع بلال وعبد الرحمن إلى قوله. لأن بلالاً وعبد الرحمن لما فُتِحت العراق، وفارس، كانا يقولان: (اقسم على الجند أرضهم)، فامتنع عمر رضي الله عنه وأرضاه وأبقاها خراجية، فبقي حكم الخراج سنة عمرية، ومضت على ذلك جماعة المسلمين، فأصبح أصلاً عند العلماء رحمهم الله: أن الأرض يُرجَع فيها إلى نظر الإمام، فإن نظر أن من المصلحة أن تقسم قسمها، وإن رأى أن من المصلحة أن تبقى خراجية، أبقاها خراجية. وقد فعل عمر رضي الله عنه كلا الأمرين في فتحه بالمشرق، فإنه اختط الكوفة، وقسمها بين المجاهدين، والسبب في هذا: أنه ما كان يريد مخالطة المجاهدين للناس الذين كانوا بالعراق خشية أن تفسد أخلاقهم، فهذا يسمى بالإقطاع، وله أصل في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قسمها وأخذ كل مجاهد -مثلاً- قطعة من الأرض فباعها أو تصرف بها فهي ملك له، كما أنه إذا ملك الماء إن شاء انتفع به لنفسه، وإن شاء باعه على الغير. (خُيِّر الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين) (بين قسمها) أي: على الجند وعلى مَن شهد الوقعة، بالطريقة التي ذكرناها. وبين (وقفها على المسلمين) أي: تبقى وقفاً لمصلحة بيت مال المسلمين، فتبقى خراجية إلى الأبد. (ويضْرب عليها خراجاً مستمراً، يؤخذ ممن هي بيده) هذا على ما ذكرناه، ولذلك ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنَعَت الشام مُدَّها، ومَنَعَت العراق قفيزَها) وهذا يعتبره العلماء أصلاً في الخراج الذي يؤخذ على الأرض؛ لأن المراد بالمُدِّ والقفيز، الإشارة إلى الفتوحات، وما يكون منها من خراج، فلما قال: (وعدتم مِن حيث بدأتم، وعدتم مِن حيث بدأتم) أي: أنه في آخر الزمان ينقطع هذا الأمر، وقد كان ما كان، وهو من معجزاته -بأبي هو وأمي- صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين. قال رحمه الله: [والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام] أي: كم يكون مقدار الخراج والجزية؟ وهذه مباحث ومسائل وأحكام تكلم العلماء عليها في كتب الخراج، وكتب الأموال، وهي تتعلق بمصلحة بيت مال المسلمين، ولا يمكن للإمام أن يقدم على مثل هذه الأمور إلا بالرجوع إلى أهل الخبرة، فإن كانت الأرض زراعية سأل عنها أهل الزراعة، وإن كانت الأرض تعمَّر أو يستفاد من عمرانها رجع إلى أهل المعرفة بذلك وهكذا. وكذلك الجزية: وهي الفريضة التي تفرض على أهل الكتاب إذا أبقاهم المسلمون في ديارهم، وسيأتي إن شاء الله بيان عقد الجزية وأحكامه ومسائله، والجزية تفرض بضوابط معينة على أشخاص معينين، من أهل الكتاب ومن في حكمهم، ويكون مقدار هذه الجزية راجعاً إلى نظر الإمام، ويختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وهناك حد أعلى، وحد أوسط، وحد أدنى للجزية، مثلاً: لو فرضنا أن الحد الأعلى: ثمانية وأربعون ريالاً، فيكون الحد الأوسط: أربعةً وعشرين، ويكون الحد الأدنى: اثني عشر، فعلى هذا التقدير ينظر الإمام في حال الإنسان، فإن كان من أعلى الناس فرض عليه: ثمانية وأربعين، وإن كان من أوسطهم فرض عليه أربعة وعشرين، وإن كان من أدناهم فرض عليه اثني عشر، على تفصيل سيأتي إن شاء الله بيانه في كتاب الجزية حكم من عجز عن عمارة أرضه الخراجية قال رحمه الله: [ومن عجز عن عمارة أرضه أُجْبِر على إجارتها، أو رفع يده عنها] قال رحمه الله: (ومن عجز عن عمارة أرضه): إذا كانت الأرض خراجية فمعنى ذلك أن المطلوب تحصيل المصلحة منها لبيت مال المسلمين، وهذا يسميه العلماء: موارد بيت مال المسلمين، فلا بد أن تبقى موارد بيت مال المسلمين ثابتة، حتى يمكن الصرف من هذه الأموال على مصالح المسلمين، فهذه الموارد ينبغي أن يحافظ على بقائها، فإذا كان الذي أخذ الأرض الخراجية لا يستطيع أن يقوم عليها، لعجز، أو لكِبَر سن، أو لمرض، أو نحو ذلك، فيُجبَر على إجارتها لمن يعمرها، أو تنقل وتؤخذ منه إلى غيره ممن يقوم على استصلاحها ونفع المسلمين منها. (أُجْبِر على إجارتها) الإجارة: عقد على منفعة بعوض. والعقود المالية تكون أحياناً على الذات وأحياناً على المنافع. فأنت إذا جئت إلى رجل وقلت له: بعني هذه الدار أو هذه العمارة بعشرة آلاف، فقال: قبلت، فإذا أخذ العشرة آلاف، فمعنى ذلك أنك تملك عين الدار التي هي العمارة، وعين الأرض، وتستطيع أن تسكن فيها، فالدار ومنافعها ملك لك، فإن شئت أن تنتفع بها في السكنى سكنت، وإن شئت أن تنتفع بأجرتها أجَّرتها على الغير وأخذت الأجرة، وإن شئت أن تهدمها فلا أحد يمنعك؛ لأنها ملكك، فقد ملكتَ العين والمنفعة. في الحالة الثانية: أن تقول: أجرني هذه الدار شهراً بألف، فمعنى ذلك أنك تملك المنفعة فقط وهي: السكنى فيها، فلا تستطيع أن تهدم هذه الدار، ولا أن تبيعها للغير، ولا أن تهبها، ولا أن تتصدق بها؛ لأن الذي تملكه هو السكنى فيها فقط. فالإجارة هي المنفعة، فمعنى ذلك: أن الأرض الخراجية ملك لبيت مال المسلمين، لكن منفعتها من زراعتها وحراثتها والقيام عليها وما يكون منها من نتاج هذا هو الذي يستأجر، وإجارة الأرض للزرع فيها خلاف بين العلماء، وجماهير العلماء على جواز ذلك خلافاً للظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأن ما كان بشيء معلوم فلا بأس) أي: في إجارة الأرض، فدل هذا على مشروعية إجارتها للزراعة مثل مسألتنا، لكن يشترط في إجارة الأرض للزراعة أن يكون فيها ماء؛ لأنه إذا استأجرها للزراعة ولا ماء فيها، فهذا من إجارة الغرر، وحينئذ لا يصح، إلا إذا كان يجلب الماء إليها، كأن يحمل الماء إليها، أو يجريه بقنطرة، أو غير ذلك. فالمقصود: أن الإجارة تكون على الأرض الخراجية، أي: أن يترك الغير ينتفع بها لأجل مصلحة بيت مال المسلمين كما ذكرنا. (أُجْبِر على إجارتها أو رفع يده عنها) (أو رفع يده عنها) حتى تعطى للغير ويقوم باستصلاحها ونفع المسلمين منها. (ويجري فيها الميراث) فإذا كانت هذه الأرض خراجية، وقام عليها إنسان ثم توفي، وجاء ورثته وقالوا: نريد هذه الأرض لنقوم عليها مثلما كان أبونا يقوم عليها، وندفع ما كان يدفع، فإنهم يرثونها وينزلون منزلة أبيهم؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله الأموال التي تؤخذ من المشركين لبيت مال المسلمين قال رحمه الله: [وما أخذ من مال مشركٍ كجزيةٍ وخراجٍ وعُشْرٍ وما تركوه فزعاً وخمس خمس الغنيمة ففيء يصرف في مصالح المسلمين] قال رحمه الله: (وما أخذ من مال مشركٍ) يريد المصنف أن يبين حكم الأموال التي تؤخذ في الجزية، وفي العشور والضرائب، وتؤخذ من الحربي ونحوهم، فهذه الأموال لمن تكون؟ فبعد أن بين أحكام الغنيمة وأحكام الخراج -وهذا مسلك الفقهاء رحمهم الله، أنهم يذكرون المسائل المشابهة في أماكن المناسبة- وأن الغنيمة فيها الخمس يرد إلى بيت مال المسلمين، وكذلك الفيء، إذا لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فإنه يرد إلى بيت مال المسلمين، فيرد السؤال كيف يكون حكم هذا المال؟ فقال: (وما أخذ من مال مشركٍ) بعض العلماء يقول: يُمْلَك مالُ الحربي بمجرد أخذه، وهذا يميل إليه طائفة من العلماء من أصحاب الإمام أبي حنيفة وغيرهم، وقال بعض العلماء: بل إنه يكون لبيت مال المسلمين، وبيت مال المسلمين تكون مصارفه مصارف الفيء، بمعنى: أنه يصرف في مصالح المسلمين، وهذا هو الذي عبر عنه المؤلف بقوله: (يصرف في مصالح المسلمين): المصالح: جمع مصلحة، مثل: بناء المساجد، وبناء القناطر للشرب، وإجراء المياه، وبناء المستشفيات للعلاج، ونحو ذلك من المصالح العامة بحسب ما يراه ولي الأمر مصلحة المسلمين. فهذه الأموال التي لا يعرف أصحابها، كأموال الغُيَّب، تُدْخَل إلى بيت مال المسلمين وتُصْرَف في عموم مصالح المسلمين، وهذا يعتبره العلماء رحمهم الله حينما يكون المال لغائب مسلم لا يعرف، فإنه يدخل إلى بيت المال، فكأن المسلمين كلهم لهم حق في ماله؛ لأن أخوة الإسلام نُزِّلت منزلة أخوة النسب، لأننا لا نعرف من صاحب هذا المال حتى نعطيه لقرابته، فحينئذ يشترك المسلمون في هذا المال، ويصرف في مصالحهم العامة. ففي بيت مال المسلمين ما يسمى بالموارد، وفيه ما يسمى بالمصارف، ويذكر العلماء في كتاب الجهاد، في باب الغنائم المسألتين: موارد بيت المال. ومصارف بيت المال. فهذا من باب ذكر الشيء عند مناسبته. فيبين رحمه الله مصارف الخمس (خمس الخمس الذي ذكرناه)، ومصارف العشور -العشور سيأتي بيانها- ومصارف الجزية، ومصارف أموال الغُيَّب التي لا يعرف مَن أصحابها، وبين أن كل هذا يصرف في مصالح المسلمين العامة. (وما أخذ من مال مشركٍ كجزية وخراج) الجزية (كجزية) الجزية: هي المال المقدر المفروض على الكافر إذا أقر في بلده على دينه من أجل حمايته، بقدر معين يحدده ولي الأمر، شريطة أن يكون من أهل الكتاب، وتكون مفروضة عليه في السنة، أي: الحول، ومن العلماء من يقول: تؤخذ منه مسبقاً، أي: في بداية الحول، ومنهم من يقول: تؤخذ عند تمام السنة، وهذا مذهب الجمهور: أنها تؤخذ بعد استكمال السنة، وهو أقوم. والجزية تفرض إذا دخل المسلمون إلى بلاد الكفار أو أرادوا غزو الكفار فيخيرون بين: أولاً: الإسلام، أي: أن يسلموا، فيكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. ثانياً: أن يعطوا الجزية، فإذا قالوا: نعطي الجزية، فهذا له شروط وضوابط منها: أن يكونوا من أهل الكتاب؛ لأن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الدين السماوي، فلو كانوا مشركين أو وثنيين لا دين لهم، فلا تفرض عليهم الجزية؛ لأنه أشبه بإقرار الشرك؛ بخلاف أهل الكتاب فإن فيهم شبهة من وجود الدين، وهذا من رفق الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، ففرَّق بين أهل الكتاب وبين المشركين والوثنيين. فإذا أخذت الجزية إلى بيت مال المسلمين، فقد بين المصنف أنها تصرف في مصارف المسلمين العامة، كما ذكرنا الخراج والعشر وما تُرك فزعاً (وخراج) الخراج قد ذكرناه، سواء كان خراج مقاسمة أو كان خراج وظيفة، فإذا أخذ هذا الخراج فإنه يقسم أو يصرف في مصارف المسلمين العامة. (وعشر) العشر هو الواحد من العشرة، والعشر يؤخذ من الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين، إذا كانوا حربيين، فإن الكفار ينقسمون إلى أقسام: النوع الأول: الحربيون، أي: بيننا وبينهم حرب، فهؤلاء يسمون عند العلماء بالكفار الحربيين، حتى ولو كانوا في هدنة مع المسلمين، فحكمهم حكم الحربيين على تفصيل في مسائلهم. النوع الثاني: الذميون، وهم الذين لهم ذمة من أهل الكتاب ممن تؤخذ عليهم الجزية، فهؤلاء لهم حكم خاص. النوع الثالث: المستأمَن، وهو الكافر الحربي الذي يدخل بلاد المسلمين بالأمان، من أجل أن يتاجر أو من أجل إبرام عقد أو لمصلحة معينة، عامة أو خاصة، فيؤمِّنه ولي الأمر أو يؤمِّنه أي مسلم، فالأمان يكون من أي مسلم ممن هو أهل كما سيأتي، ويأخذ حكم أمان المسلمين كلهم، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) ولذلك لما جاءت أم هانئ في فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره بثوب، وذلك حين أراد علي أن يقتل رجلاً من بني عمها، وكان من عادة العرب أنه إذا دخل المستجير إلى بيت إنسان فإنه يؤمِّنه كما يؤمِّن نفسه، وهذا من شيم الكرام، ومن علامة كمال الإنسان وفضله، أنه لا تُخْفَر له ذمة، ولكن بشرط ألا يكون مرتكباً لحدود الله عز وجل، ومرتكباً للحرمات؛ فمثل هذا -والعياذ بالله- لا يؤمَّن؛ لأن الشرع له حق عليه، فإذا أُمِّن أعين على الإثم والعدوان، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وكانوا في الجاهلية إذا دخل الرجل على الرجل ووطئ بساطه أو دخل بيته وقال: إني مستجير بك، أو مستعيذ، أو يطلب منه الأمان، فإنه لا يخفره؛ لأنه لما دخل بيته صار بمثابة الضيف، والضيف يُكرَم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع، فكان يؤمِّنه ويكون دونه في خير أو شر، فجاء الإسلام بتهذيب هذه الأمور، إن كان في خير فخير، وإن كان في شر فشر، فإذا كان في شر كان شريكاً له في الإثم والعياذ بالله! فالمقصود: أن المستأمِن إذا دخل إلى بلاد المسلمين واستجار بمسلم فأجاره، فإنه في جوار المسلمين كلهم. وقد روي أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه من الشام: أن الروم إذا دخلوا بلاد المسلمين لم يأخذوا عليهم شيئاً، وإذا دخل المسلمون بلادهم متاجرين أخذوا عليهم العشر، فأمره عمر أن يأخذ منهم العشر إذا دخلوا، وهذا ما يسمى (بالتعشير)، فهي ضريبة تؤخذ للمتاجرة في بلاد المسلمين، معاملة بالمثل، ومثل ما يسمى في زماننا: (بالجمرك) فهذا يُعتبر كالضريبة على الكافر، كما يعامَل المسلمون إذا تاجروا في بلادهم، فتكون مقابلة بالمثل، ففعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفعله بعده الخلفاء الراشدون، وأصبحت سنةً مُجْمَعاً عليها: أن الكفار إذا تاجروا في بلاد المسلمين أو كان لهم وكيل مسلم يورِّد سلعهم جاز أن يؤخذ عليهم كما يأخذون على المسلمين إذا ورَّدوا السلع إليهم، وهذا يسمى (بالتعشير) وله ضوابط معينة، وينظر فيه الإمام بضوابط المصلحة، فيفرض العشر على الحربي، ونصف العشر على الذمي، وربع العشر على المسلم إذا تاجر من بلادهم. (وما تركوه فزعاً): وهو الذي لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهذا يعتبر فيئاً، ويؤخذ إلى بيت مال المسلمين، ويصرف في مصارف المصالح العامة حكم خمس خمس الغنيمة والصفي (وخمس خمس الغنيمة) نحن قلنا: إن الغنيمة تقسم إلى خمسة أقسام، والخمس منها يقسم أيضاً إلى خمسة: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] قيل: هذا للاستفتاح، {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] هذا تقسيم، فلما قال: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال:41] كأنه يُحال من الغنيمة، وهذا يسميه العلماء: خمس الغنيمة، وهذا يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهو الذي عناه الله بقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] فللرسول عليه الصلاة والسلام خمسه، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في الغنائم شيء يسمى (الصفي)، وكان من عادة الناس في الجاهلية أنهم إذا قاتلوا وكان لهم من يقودهم للقتال من شجعانهم، أنه يصطفي له ما شاء، ويأخذ من الأموال والنساء ما شاء عند الغنيمة، فهذا يسمى الصفي، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفي، والاصطفاء أن يأخذ من الأموال ما شاء، صلوات الله وسلامه عليه، ويضعه حيث شاء، ولذلك في غزوة بدر اختصم المسلمون في هذه الأنفال فأنزل الله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]. قيل: إن سببها أنه لما انتهت وقعة بدر اختصم كبار السن وصغارهم، فالصغار قالوا: نحن الذين أبلينا، وقال الكبار نحن الذين كانت لنا حمايتكم، فهؤلاء حموا وهؤلاء قاتلوا، فكان الشباب يقولون: الغنيمة لنا، والكبار يقولون: بل لنا، نحن الذين أعناكم؛ لأن حماية الظهر في بعض الأحيان تكون أعظم من غيرها، فوقعت بينهم الخصومة فنزلت الآية. وقيل: إنهم انقسموا إلى قسمين: قسم منهم كان يحرس النبي صلى الله عليه وسلم، وقسم منهم كان يقاتل، فكان الذين يقاتلون يقولون: الغنيمة لنا، والذين يحرسون الرسول صلى الله عليه وسلم يقولون: الغنيمة لنا؛ لأن حراسة النبي صلى الله عليه وسلم أعظم، فوقع بينهم الخلاف فنزلت الآية. وقد اختصم سعد رضي الله عنه مع رجل من الأنصار في سيف، فقال سعد: لي، وقال الأنصاري: بل لي، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ليس لك ولا له، إنما هو لله والرسول) فلما أخذه نادى سعداً، وأعطاه إياه، وقال: (هو لي وهو لك) فأعطاه إياه، وكان سعد رضي الله عنه عظيم البلاء. ومن الصفي: صفية بنت حيي رضي الله عنها وأرضاها، فقد اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر، وأعتقها وتزوجها. ومن الصفي أيضاً: أمواله في فَدَك بجوار خيبر، وهي من الحصون التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه، قال بعض العلماء: هذه الأموال التي نُصَّ على أنها للرسول ترجع إلى بيت مال المسلمين. فأصبح لبيت مال المسلمين الخمس {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، وقال بعض العلماء في قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال:41]: إن المراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكرنا- وهو الصحيح، فالله حجب عنهم الزكاة وأعطاهم حظهم من خمس الخمس، وقال بعض العلماء: بل الخمس لقرابة الإمام، ويشكل على هذا فعل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنهم لم يصطفوا هذا الخمس لقرابتهم. ومنهم من قال -وهذا القول الثالث وهو الذي نريده- الخمس الذي للقربى يرد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مال المسلمين، فيصبح لبيت مال المسلمين كم؟ خُمُسان، فيكون في بيت مال المسلمين العشر، وهذان الخمسان يصرفان في مصالح المسلمين العامة. يقول رحمه الله: (ففيء يصرف في مصالح المسلمين) جواب الشرط، أي: حكمه حكم الفيء، يصرف في مصالح المسلمين كبناء المساجد، وعمارة الطرق، وغير ذلك من المصالح العامة، التي ينتفع بها المسلمون الأسئلة سهم الفرس إذا تعاقب عليه أكثر من واحد السؤال إذا كان الجند يتعاقبون على ركوب الفرس فكيف تقسم الغنيمة؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فالحكم في ذلك أن العبرة بالوقعة، فإذا كانت الوقعة شهدها آخر رجل منهم، فيكون سهم الفرس له، مثال ذلك: تعاقب على الفرس ثلاثة، والثالث منهم هو الذي قاتل عليه، فيكون السهم له، هذه صورة. الصورة الثانية: أن يتعاقبوا أثناء القتال، فهذه المسألة اجتهد بعض العلماء فقال: يعطى للفرس السهمان، ثم تقسم بينهم على حسب البلاء، والله تعالى أعلم قياس البغال والجمال وغيرها على الفرس في سهم الغنيمة السؤال هل تقاس البغال والجمال أو غيرها من الدواب على الأفراس، وذلك بأن تعطى سهمان؟ الجواب لا يُعطى إلا للفرس، ولا يشمل هذا ما ذكر من الحمير والبغال، والسبب في هذا: أن للفرس والخيل معنى يخصُّها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) فالقتال عليها بركة، ولذلك خُصَّت، مع أنه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانت الإبل والبغال موجودة، ولكن الفرس فيه شيء ليس في غيره من الدواب، وكأنه مهيأ للقتال، بخلاف البغال والحمير والإبل، فالفرس يكر ويفر ويتعرض صاحبه للخطر أكثر، ولذلك عَظُم بلاؤه أكثر من غيره، ومن هنا قال: (وللفارس) فخصه بالفرس، ولا يركب الخيل ويقاتل عليه إلا الشجاع القوي الذي يحسن الكر والفر، ومن هنا اشترطوا أن تكون من الخيول العربية الأصيلة التي يكون بلاؤها أعظم، حتى يكون أقرب للسنة، وإن كان بعض العلماء خفف في هذا الشرط، وأخذ بعموم قوله: (وللفارس ثلاثة أسهم) الفرق بين الغنيمة والفيء السؤال هل الغنيمة والفيء بمعنى واحد؟ الجواب الغنيمة والفيء بينهما عموم وخصوص، فالفيء أحياناً يدخل تحت الغنيمة وأحياناً ينفرد عنها، فالفيء يكون من غير قتال، كأن يأتي المسلمون إلى موضع فيه كفار فيسمع الكفار بالمسلمين فيفرون، ويتركون أموالهم وديارهم، فهذا يعتبر من الفيء، كما وقع في جلاء بني النضير وغيرهم، بخلاف الغنيمة، فإنها لا تكون إلا من وقعة، والغالب أنها تكون بالجهاد ومقابلة العدو وقتاله، فالغنيمة هي نتاج الغزوة، وبعض العلماء يقولون: الغنيمة تشمل الفيء، فكأن الغنيمة أعم من الفيء، فإن أصل الغنيمة من الغُنْم، والغُنْم: هو أخذ الشيء بلا بدل، والغنيمة: أخذ الشيء بلا عوض، فقالوا: يشمل بهذا المعنى ما كان بقتال، وما كان بدون قتال، فهو غنيمة؛ لأنه بغير بدل. وعلى هذا ينفرد الفيء بحكم خاص وهو: مصارفه وأحكامه الخاصة، وتبقى الغنيمة على الأصل العام. لكن أيَّاً ما كان فالمعروف في كتب الفقهاء رحمهم الله أنهم يجعلون الغنيمة أصلاً عاماً لهذا كله، والفيء فرع من الغنيمة، وعلى هذا دَرَج مصطلح الجمهور رحمهم الله. لكن الفيء له أحكام خاصة غير أحكام الغنيمة، منها أن له مصارف الخمس التي ذكرناها، بخلاف الغنيمة فإنها تخمَّس، فللمجاهدين أربعة أخماس، والخمس الأخير هو الذي يصرف في مصارف الفيء فقط، فمن هنا يقول بعض العلماء: إن بينهما عموماً وخصوصاً من هذا الوجه المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم في انتظار الصلاة: (خذلكم الرباط) السؤال ما المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر بعض الأعمال الفاضلة فقال: (فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) وهل يعادل أجر الرباط في الجهاد؟ الجواب مادة: ربط، دائماً تكون للملازَمة، ولذلك إذا ربطت الشيء وعقدته، فإن هذه العقدة يُلزَم بها الشيء ويبقى، ومنه تقول: ربطت الفرس، وربطت الدابة، فإنها تلزم هذا المكان ولا تنفك عنه. والرباط له معنيان: رباط عام: وهو الرباط على الطاعة. ورباط خاص: وهو رباط الثغر في الجهاد في سبيل الله عز وجل. فأما الرباط العام على طاعة الله فهو الذي عناه الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران:200] أي: يا من آمنتم بي وصدقتم بكتابي ورسولي صلى الله عليه وسلم (اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) والمصابرة: غاية الصبر، وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، غاية الصبر، (وَرَابِطُوا) أي: إذا صبرتم فابقوا على هذه الطاعة ورابطوا عليها، واجعلوا هذا دأباً لكم، فإن من صبر ظفر، وقد قرن الله عز وجل الخير بالصبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي عبد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر) أي: ما أعطي عبد عطاء خيراً وأفضل من الصبر، وهذا يدل على أن الرباط على الطاعة من أعظم الأعمال، ولهذا يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر). فالصبر على الطاعة والثبات عليها لا يكون إلا لأهل الكمال ولأهل الفضل، وهذا هو الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أحب الأعمال إلى الله قال: (ما كان ديمة، وإن قل) أي: ما دام عليه الإنسان، وإن كان شيئاً قليلاً. فالمرابطة على الطاعة من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى. ولما كانت الصلاة هي أعظم الطاعات، وأجل القربات بعد توحيد الله عز وجل، فلا يحافظ عليها إلا مؤمن، ولا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها إلا سعيد موفق في الدنيا والآخرة؛ لأن الله قرن بها الفلاح في الدنيا والآخرة، وصلاح حال العبد في دينه ودنياه وآخرته، وهي كذلك عماد الدين، والركن الثاني من أركان الإسلام، وكانت ولا زالت من أعظم ما يتمسك به الإنسان في دينه، فمن حفظها حفظه الله، فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فاعلم أن أكمل المؤمنين إيماناً من أحبها ورابط عليها، وتتفاوت مراتب الناس في صلاتهم: فمنهم من لا يصلي مع الجماعة وإنما يصلي لوحده، فهذا من أحرم الناس لأجرها. ومنهم من يصلي مع الجماعة؛ لكنه يأتي قبل التشهد بقليل. ومنهم من يصلي مع الجماعة فيدرك الركعة أو الركعتين أو الثلاث، فيدرك نصف الصلاة أو ربعها أو ثلثها، ولَمَا فاته منها خير من الدنيا وما فيها. ومنهم من لا يؤذن إلا وهو في المسجد. فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فالحفاظ عليها والصبر عليها من أعظم الرباط، فإذا ملأ الله القلب الزكي التقي النقي، وأحب صاحبه وأراد أن يوفقه في الدنيا والآخرة، جعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية سؤله ومطلبه، فأصبح لا يفكر إلا في هذه الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (يا بلال أرحنا بالصلاة) فإذا صلى -مثلاً- صلاة العصر، قال: إلى أين أخرج؟! إلى دنيا فانية، مليئة بالأمور اللاغية، فالخير لي أن أجلس، فنظر في دنياه ونظر في آخرته، فإن خرج ربما خرج إلى أمر يفوت به دينُه، وقد يخرج إلى فتنة، فقال: سأنتظر صلاة المغرب، فجلس بعد صلاة العصر ذاكراً لله، ومثنياً عليه، محباً ومؤثراً لمرضاة الله عز وجل، فإذا به قد رابط على خيرٍ مِن أحَبِّ الخيرِ وأعظمِه أجراً عند الله سبحانه وتعالى. فلما كان هذا النوع من الصبر على الطاعة، دخل في مسمى الرباط، فقال صلى الله عليه وسلم: (فذلكم الرباط) ثم انظر فإنه لم يقل: (ذلك) وإنما جاء بصيغة الجمع، ولم يقل: (هذا) أو: (هو الرباط) بضمير الغائب، لا. وإنما قال: (فذلكم) فأولاً: استخدام (ذلكم)، و (ذا) إشارةٌ إلى البعيد، وإذا أدخلت عليها الكاف، قلت: (ذاك) للبعيد، فعبر بصيغة البعيد؛ لعلو المرتبة والشرف، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2] إشارة إلى علو مكانته وعظيم منزلته عند الله جل جلاله. فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلكم)، ثم قال: (الرباط) ما قال: (ذلكم رباط)، أو: (مِن الرباط)، إنما قال: (الرباط) و (ال) هنا تدل على الكمال، أي: أنه أكمل الرباط وأعظمه؛ لأنه في أكمل الطاعات، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وهي الصلاة. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يلهمنا فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات. ونسأل الله العظيم أن يَمْنُنَ بالعافية غدوَّنا وآصالَنا، وأن يختم بالسعادة آجالَنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
__________________
|
#265
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (260) صـــــ(1) إلى صــ(22) شرح زاد المستقنع - باب عقد الذمة وأحكامها [1] ميَّز الله سبحانه الأديان السماوية حتى بعد وقوع التحريف فيها، فكان من هذا أن أجاز عقد الذمة مع أهل الكتاب ومن أخذ حكمهم، وهذا فيه أسرار وحكم عظيمة، وهذا العقد لابد فيه من التزامات بين المسلمين وأهل الكتاب، ولابد له من أركان لا يصح إلا بها أحكام عقد الذمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها] هذه الترجمة قصد المصنف -رحمه الله- بها أن يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الذمة، والأصل في ذلك أن المسلمين إذا غزوا العدو، فإنهم يخيرونهم بين ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أن يسلموا، ويقومون بدعوتهم إلى الإسلام. الخصلة الثانية: أن يدفعوا الجزية، وهو الخيار الثاني، وهذا الخيار -وهو الجزية- يختص بنوع خاص من الكفار، وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، وأما غيرهم من الوثنيين والمشركين والملحدين، فإنه لا تؤخذ منهم الجزية، وإنما يخيَّرون بخيارين: - إما الإسلام. - وإما القتال. الثالثة: إن أبوا فإنه ينتقل معهم بعد ذلك إلى الخيار الثالث وهو القتال، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيارات الثلاث، وثبت ذلك أيضاً من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما كان يفتي به الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- أمراء الأجناد حينما بعثوهم للجهاد في سبيل الله عز وجل، وجاءت السنة مطلقة في حديث بريدة؛ ولكن قيدها القرآن في الجزية كما سيأتي. فلما كان الجهاد في سبيل الله عز وجل يحتاج إلى بيان الجانبين: الجانب الأول: كيف يجاهَد الكفار؟ وما هي الأمور والمسائل والأحكام المترتبة على شرعية الجهاد؟ والجانب الثاني: وهو الذي يتعلق بقبول الجزية، فإذا قبلوا دَفْع الجزية، فحينئذ تحقن دماؤهم، ويكونون أهل ذمة، على التفصيل الذي سنبينه. فكأن هذا الباب مرتب على الباب الذي قبله؛ لأن مَن يجاهد في سبيل الله، فإنه يحتاج إلى معرفة نوع خاص من الكفار، وهم أهل الذمة، فقال رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالذمة وما يترتب عليها تعريف عقد الذمة قوله رحمه الله: (باب عقد) العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، ومنه: عقد الحبل، ويطلق العقد على المحسوسات، كما تقول: عقدتُ الحبل إذا جمعتَ بين طرفيه وعقدتَه وأوثقتَه، وقد يطلق على المعنويات، فتقول: هذا عقد بيع، وينبني على الإيجاب والقبول، وقد ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والمراد به المعنوي. وإذا قال العلماء: عقد النكاح، عقد الإيجار، عقد الرهن، عقد الشركة، عقد المضاربة، فمرادهم بهذا اللفظ: الإيجاب والقبول على هذه الأمور، فإذا كان الإيجاب: بعتك، والقبول: قبلت واشتريت، فهو عقد بيع، وإن كان الإيجاب: أجرتك، وقال الآخر: قبلت واستأجرت، فهو عقد إجارة، وإن كان على نكاح فعقد نكاح، وهلمَّ جرَّاً. لكن لما قال المصنف هنا: (باب عقد الذمة) خصص عموم هذا اللفظ وبيَّن أن المراد به نوع خاص من العقود وهو عقد الذمة. والذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأما في الاصطلاح: فهو أمان مخصوص، لطائفة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وهذا الأمان المخصوص المراد به: أن يؤمَّن من أعطي هذا العهد على نفسه وماله وأهله وعرضه، فالكافر إذا جرى بينه وبين المسلمين عقد الذمة فله ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ثبتت بذلك الأخبار، فلا يسفك دمه، ولا ينتهك عرضه، ولا يؤخذ ماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين. وأما قولهم: (لطائفة مخصوصة) فالمراد به: أهل الكتاب، ومن في حكمهم وهم المجوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسن بهم سنة أهل الكتاب، وذلك في الجزية، كما قرره الأئمة رحمهم الله. و (على هيئة مخصوصة) المراد بها: ضوابط عقد الذمة، وذلك بالصورة التالية: فالعقد في الأصل يستلزم جانبين: الجانب الأول: المسلمون. الجانب الثاني: الكفار أنواع الذمة أما بالنسبة للمسلمين فيلي العقد عنهم إمامهم، كما سيبين لنا المصنف رحمه الله، وهذا أصل في قول جماهير العلماء: أن عقد الذمة لا يبرمه إلا الإمام؛ لأنه تتعلق به مصالح الأمة، وحينئذٍ لا يتأتى أن يقام على وجهه إلا عن طريق الإمام، أو من ينيبه؛ لكن هناك نوعان من الأمان، أو من الذمة: النوع الأول: الذمة الخاصة، وهي التي تكون لأفراد الناس، كأن يستجير مشرك أو كافر بمسلم، فيقول له: أنا في جوارك، وفي أمانك، وفي ذمتك، فإن قال له: أنت في ذمتي، فحينئذ يكون هذا الجوار والأمان خاصاً، فعلى المسلم أن يؤمنه حتى يسمع كلام الله، فإذا قبل الإسلام فالحمد لله، وإذا لم يقبل أبلغه مأمنه، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فهذا يسمى بالذمة الخاصة، أو العهد الخاص، أو الأمان الخاص، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الكافر إذا دخل في جوار مسلم واحد فإنه في جوار المسلمين كلهم، ولا يجوز لأحد أن يتعرض له بسوء حتى يسمع كلام الله، أو يُبْلَغ مأمنه، ولذلك ثبت في الصحيح أنه لما دخل المشرك على أم هانئ وهي امرأة واستجار بها، وأراد علي قتله، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، فقال: (من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! زعم فلان أنه قاتل فلاناً، وقد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، فدل هذا على أن ذمة المسلمين واحدة، وأن العهد إذا أخذ من مسلم لكافر، فهو عهد على جميع المسلمين لا يجوز لأحد أن ينقضه، أو ينكثه، حتى يكون الكافر على بينة. النوع الثاني من الذمة: الذمة العامة التي تكون مؤبدة، والفرق بينهما: أن الذمة الأولى خاصة مؤقته، أما الذمة التي نبحثها هنا فهي الذمة العامة المؤبدة، أي: التي تبقى إلى الأبد، فإذا أراد المسلمون فتح مدينة، وقالوا لأهلها: أسلموا فقالوا: لا نريد الإسلام، فقيل لهم: ادفعوا الجزية، فقالوا: ندفع الجزية وكانوا من أهل الكتاب ومن في حكمهم، فإنهم يبقون ما أبقاهم الله عز وجل، ويكون هذا العهد ذمة لهم إلى الأبد، ما لم يحدث النكث أو النقض، بالصورة التي سيبينها المصنف رحمه الله. فإذاً: عندنا ذمة عامة، وذمة خاصة. فالذمة الخاصة ينبغي حفظها ورعايتها، ولا يجوز لمسلم أن يقدم على قتل كافر في بلاد المسلمين، إذا كان قد دخل بأمان من واحد منهم، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو دخل في أمان صبي، أو دخل في أمان امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ). وعقد الذمة يكون بين المسلمين والكفار، فأما المسلمون فيعقد عنهم وليهم، أو من ينيبه، وأما الكفار فإنه يعقد عنهم أهل الحل والعقد، ومن يتولى أمورهم، فإذا جرى العقد بينهما فإن الأركان في العقد تستلزم: أولاً: العاقدان، فإذا قيل: عقد، فمعنى ذلك أن هناك عاقدين. ثانياً: المحل، وهو مورد العقد الذي يتعاقدان عليه، فمثلاً: البيع أركانه: البائع، والمشتري، ومحل يَرِد عليه البيع وهو السيارة مثلاً ما يلتزم به المسلمون في عقد الذمة فعندنا محل ورد عليه عقد الذمة، وهو التزامات من الطرفين، من المسلمين التزامات، ومن الكفار التزامات، فيرد عقد الذمة على هذين الجانبين. فيلتزم المسلمون: أولاً: بحقن دمه، فلا يُقتَل بدون حق. ثانياً: بحفظ عرضه، فلا يؤذى في عرضه. ثالثاً: بحفظ ماله. رابعاً: بحفظ أهله وعياله. فيدخل الأولاد والذراري بالتبع لآبائهم؛ لأنهم تابعون لآبائهم في هذا الحكم، كما ثبت من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كتب في الكتاب جعل الذراري تابعة للأصول، آباء وأمهات. ثم أيضاً يلتزم المسلمون بالدفاع عنهم، فإذا فتحت بلاد الكفار فنزلوا على حكم المسلمين بالذمة، فيجب على المسلمين نصرتهم وحفظهم، ولذلك لما نزل الروم بالشام -وكان أبو عبيدة رضي الله عنه قد فتح مع خالد أطراف الشام، وأخذ الجزية على بعضها- في معركة اليرموك، كتب أبو عبيدة إلى أمراء الأجناد، أن يردوا الجزية إلى أهلها حتى يقع النصر، فكانوا لا يلتزمون بالجزية إلا مع الالتزام بالنصرة، فيكون هذا الذمي له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، فهو يلتزم بأمور، والمسلم يلتزم بأمور، فمن هذه الأمور التي يلتزم له بها المسلم: حفظ دمه -كما قلنا- وماله، وعرضه، وأهله، وولده، وكذلك أيضاً يكون له حق النصرة، فإذا اعتدى عليه الكفار، وجب على المسلمين نصرته ومنع الكفار من أذيته، كذلك أيضاً لا يعتدي عليهم المسلمون، فهم كالمسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا فيه حكم وأسرار عظيمة، ذلك أن الذمة لا يصح إعطاؤها إلا لأهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فيكون حسابهم في الآخرة، فإذا رضوا بإعطاء الجزية يكونون مستثنين؛ لأن الله نص على ذلك، فأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فإذا بقوا بين المسلمين ورأوا تعاملهم، ورأوا دين الإسلام وسماحته، وما عليه المسلمون من التواصل والتراحم والتعاطف، أحبوا دينهم، ولربما نشأت ذراريهم وقد رأوا عزة الإسلام فيتأثرون به، حتى حفظ في البلدان التي فتحت على هذا الوجه أنه لم تمض ثلاثة أجيال إلى أربعة أجيال بالكثير إلا وقد أسلم منهم الكثير، فهذا نوع من الاستدراج للدخول في الإسلام ولو بعد حين. فالمقصود: أن يلتزم المسلمون بهذا، فإذا رأى الذمي أن له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وإذا وقف في المواقف المحرجة ورأى نصرة الإسلام له أحب هذا الإسلام، فإن النفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وهذا الإحسان من المسلم فيه نوع من الاستمالة لقلبه والتأليف له للإسلام، وكل هذه أسرار عظيمة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فهو نوع من الحكمة البالغة في إقناع الناس بهذا الإسلام؛ فهم إذا لم يسلموا عن طريق مواجهتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ربما أثر فيهم تعامل المسلمين ووقوف المسلمين معهم ونصرتهم لهم، فيكون سبباً في دخولهم في دين الإسلام، ورضاهم به ما يلتزم به أهل الذمة الأمر الثاني: الذي يلتزم به أهل الذمة: يلتزمون بأمور كثيرة يجمعها أصلان: الأصل الأول: دفع الجزية. الأصل الثاني: التزام أحكام الإسلام، وعدم التعرض للإسلام أو أهله بضرر أو سوء. فهنا جانبان: الجانب الأول: دفع الجزية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. وأما الجانب الثاني: فهو تعظيمهم للإسلام، فيحفظون حرمة الإسلام، ويحفظون حق الإسلام، فلا يتعرضون لسب الله، ولا لسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سب الإسلام، ولا يطعنون في القرآن، ولا في السنة، ولا يستهزئون بشيء من الإسلام، ولا بالمسلمين، مع أمور أُخر هي من لوازم عقد الذمة، حتى يستقيم عيشهم تحت الإسلام في ذلة وصغار، لا في عزة وقوة واستكبار، حتى لا تكون لهم شوكة على المسلمين، فيكون الأمر محقِّقاً لخلاف ما قصده الشرع أو عناه من هذا الحكم التشريعي أركان عقد الذمة إذاً: أركان العقد: أولاً: عاقدان. ثانياً: محل العقد. ثالثاً: ولا بد من توفره: الصيغة، أو ما يدل أو يقوم مقامها. فهناك صيغة اللفظ: كأن يقول ولي الأمر للكفار أو من ينوب عنهم: (عاهدناكم على كذا وكذا)، فيقول الكافر: (قبلنا)، فإذا قال: عاهدناكم، وقال الطرف الثاني: قبلنا، فقد تمت الصيغة؛ الإيجاب والقبول. أيضاً: قد تكون هناك أمور أخرى تدل على الرضا، مثلاً: لو أن كافراً من أهل الكتاب دخل مع أهل الذمة الذين هم تحت حكم المسلمين، فإن هذا الدخول يعتبره العلماء دلالة ضمنية على الرضا بدفع الجزية للمسلمين، فيكون عقداً ضمنياً، كذلك إذا شب الصغار، وبلغوا سن الرشد والتمييز، فحينئذٍ لا يحتاجون إلى تجديد العقد؛ لأن سكوتهم ينزَّل منزلة تجديد العقد، وهذا أصح قولي العلماء: أن من نشأ من صغارهم، وسكت على العهد الذي كان عليه كبارهم، فإن هذا يعتبر إقراراً، وينزَّل منزلة الصيغة، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بالصيغة التي اتُّفِق عليها بين آبائهم وبين ولي أمر المسلمين، حينما كانوا صغاراً الجزية وأحكامها يقول رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] في هذا الباب يحتاج المصنف عند بيانه لأحكام الذمة لجملة من المسائل منها: المسألة الأولى: أن يبين من الذين يجوز لك أن تعقد معهم عقد الذمة؟ والسبب في ذلك: أن الكفار ينقسمون إلى أقسام -سنبينها إن شاء الله- فهل كلهم يجوز أن تأخذ منهم الجزية، أم من بعضهم دون بعض؟ المسألة الثانية: من الذي له حق عقد الذمة، وهل يمكن أن يقع من أفراد المسلمين، أم أنه خاص بولي الأمر ومن ينيبه؟ المسألة الثالثة: ما هي الشروط التي ينبغي توفرها لضرب الجزية على الفرد من أفراد الكفار؟ وإذا وقع عقد الذمة العام، فهناك أمور فرعية خاصة تتعلق بهذا العام، وهي: هل نضرب الجزية على صغارهم، وكبارهم، وذراريهم، ونسائهم، وشيوخهم، وضَعَفَتهم، والمسلمين منهم، ورهبانهم، وأحبارهم، أم أن الحكم يختص ببعضهم دون بعض؟ كذلك أيضاً ما الذي يترتب على قضية أخذ الجزية منهم، من وجوب النصرة، وحقن دمائهم؟ فهذه كلها مسائل تتعلق بالعقد من حيث هو شرعية أخذ الجزية أولاً: ما هو الدليل على شرعية عقد الذمة وأخذ الجزية؟ دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك. أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فدلت هذه الآية الكريمة على مسائل: الأولى: الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك لإعلاء دين الله، وكف أعداء الله، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة. الثانية: أن الله سبحانه وتعالى خص هذا بأهل الكفر، فقال: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، والذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر هو كافر، حتى ولو قال شخص: أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالرسول وأؤمن بكل شيء إلا اليوم الآخر -والعياذ بالله- فلا أعتقد أن هناك يوماً آخراً، كما تقول الفلاسفة -والعياذ بالله- من ضلالاتهم: إنها أمور خيالية وليس لها حقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا يعتبر كفراً بإجماع المسلمين، فمن لا يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، فخص الله ذكر اليوم الآخر زيادة في بيان كفرهم والتغليظ عليهم، ثم قال: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] ثم خصص العموم فقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] وهذا يدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وأنها ليست بعامة لجميع الكفار، وهذا له حكمة؛ لأن أهل الكتاب لهم دين سماوي، فهم في الأصل يتفقون مع المسلمين من حيث تعظيم الله عز وجل، ووجود الله عز وجل، فبيننا وبينهم قواسم مشتركة، ولذلك قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] وقال: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:84]، فهناك قواسم مشتركة، والدين الذي له أصل، ليس كالدين الذي لا أصل له. وقول الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] قال بعض العلماء: (مِن): للتبعيض، فدل على أن المراد أن الجزية لا تؤخذ إلا من قوم خاصين، وهم أهل الكتاب، ثم قال الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أن الجزية تُحقن بها دماؤهم؛ لأنه قال في أول الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية فلا يجوز استباحة دمائهم إلا بحق، ثم قال الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وسنبين معنى الصَّغار، وما هو المقصود منه، كما سيبينه المصنف -رحمه الله- في آخر هذا الباب. إذاً: فهذه الآية دلت على مشروعية أخذ الجزية. ثانياً: السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث بريدة أنه بعثه في سرية وأمره صلى الله عليه وسلم عندما ينزل بدار الكفر أن يدعوهم بدعاية الإسلام: شهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وأمره أن يخيرهم بين الإسلام، ثم أخذ الجزية، ثم قتالهم، فدل هذا على مشروعية أخذ الجزية، والحديث في الصحيحين، ومطلقه مقيد بالقرآن، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. ثالثاً: الإجماع وقد ثبت إجماع السلف رحمهم الله، وهو فعل الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم، أخذوا الجزية من أهل الكتاب، وذلك في فتوحات الشام وغيرها، ولم ينكر عليهم أحد، وفرضها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، ثم ما زال ذلك في عصور الإسلام كلها، ومن هنا أجمع المسلمون على شرعيتها من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل، فهناك خلاف في بعض المسائل، كما سنبينه إن شاء الله تعالى حِكم وفوائد الجزية أما الحِكَم التي تستفاد من شرعية الجزية، فهناك حِكَم عظيمة: أولها: التفريق بين الكفار، وبيان حرمة الأديان السماوية دون غيرها، فإن الأديان السماوية لها أصول، ولذلك تفضل على غيرها، كما أن الله سبحانه وتعالى بيَّن ذلك في سورة الروم، فقال سبحانه وتعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5] قال العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل قسم الناس في هذه الآيات الكريمات إلى حزبين، وطائفتين: طائفة لهم دين سماوي وهم الروم، قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] ومعهم المسلمون في قوله آخر الآية: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] فجعل نصرة الروم من نصرة الله عز وجل لهم. وطائفة في ضدهم وهم طائفة المجوس، والوثنيين الذين يعبدون النار. فكان كفار قريش يفرحون بغلبة المجوس على أهل الكتاب وهم الروم؛ لأنهم يعبدون الأوثان، فكانوا مشتركين معهم في الوثنية، وكان المسلمون يفرحون بغلبة الروم على المجوس؛ لأنه دين سماوي، فكان هذا من باب التمييز بين الأديان. فجُعِل للدين الذي له أصل سماوي فرق عن الدين الذي ليس له أصل، فهناك الدهري الذي ليس له دين، وهناك الملحد الذي لا يعترف بالأديان أصلاً، وهناك الوثني الذي يقر بالله عز وجل؛ ولكن يعبد معه غيره، فيعبد وثنا أو صنماً، أو غير ذلك. المقصود: أن هذه النحل والملل والطوائف المشركة الوثنية ليست كالأديان التي لها أصل سماوي، فَفُرِّق بينهما. ثانياً: من حكم الجزية وفوائدها: أنها سبب في دخول الإسلام، فإن الكفار إذا نزل بهم المسلمون قد يكونون على جهل بشرائع الإسلام، ولا يعلمون حقيقة الإسلام، فينقسمون إلى طوائف: فمنهم من إذا ناقشته وناظرته اقتنع بالإسلام وأحبه وأسلم، فهذا تقنعه بالحجة والبرهان. ومنهم من لا يقتنع بالإسلام إلا إذا عاشر أهله -أهل الإسلام- ورأى الإسلام على طبيعته، وتطبيقه وواقعه، فلما يراه ويرى المسلمين على حقيقتهم يتأثر. وهناك من لا يرضى بالإسلام أصلاً، فحكمه أن يُجاهَد. فجعل الله لكل شيء قدراً، فإذا جاء المسلمون إلى أرضٍ فيها أهل كتاب، وأرادوا غزوهم، وقالوا لهم: اقبلوا بالإسلام، فقالوا: لا نقبل، فقالوا: ادفعوا الجزية، فقالوا: قبلنا، فإنهم سيعاشِرون المسلمين وسيَرَون محاسن الإسلام ومآثره وأحكامه وكيف أن الإسلام ينصفهم، فيكون هذا سبباً لإسلامهم. ولذلك أُثِر عن علي رضي الله عنه في القصة المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء، وتروَى مسنَدَة، أنه لما أخذ اليهودي منه درعاً وقيل في بعض الروايات: أنه أخذ منه فرساً واستعاره، وكان من أهل الذمة، ثم جاء يطلبه الفرس فامتنع، وقال: بيني وبينك قاضيك الذي نصَّبته على الناس. فانطلق معه إلى قاضيه شريح، فقال له: هذه فرسي. فأنكره اليهودي. فقال له القاضي: بيِّنَتُك يا أمير المؤمنين. فعجب اليهودي، وقال: أمير المؤمنين ولا يستطيع أن يأخذ حقه مني إلا ببَيِّنة؟! فوجد سماحة الإسلام، وأن شرعه على الكبير والصغير، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. فمن خلال التعامل يقع هؤلاء الذميون في معاملات مالية مع المسلمين، فيحتكمون إلى قضاء الإسلام، فيجدون سماحته ويجدون حسنه وما فيه، مع ما للمسلمين عليهم من فضل النصرة، فيكون سبباً في قبولهم للإسلام، ورضاهم به. ثالثاً: من حكم الجزية: أنها مورد من موارد بيت مال المسلمين، وهذا المورد يُصرف في مصالح المسلمين العامة، ويكون فيه نفعٌ للمسلمين عامِّهم وخاصِّهم، على ما ذكرناه في أحكام قسمة الفيء عقد الذمة للمجوس وقوله رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس] (لا تُعْقَد) أي: لا يصح ولا يجوز أن تكون الذمة وعقد الذمة إلا للمجوس. والمجوس: هم طائفة من أهل الأديان يعبدون النار، ويعتقدون أن للكون إلهين -تعالى الله عما يقولون- إله الظلمة وإله النور، ويرون أن الخير منسوب إلى إله النور، وأن الشر منسوب إلى إله الظلمة، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]! وهذه النحلة، بعض العلماء يقولون: إنهم كان لهم أصل من دين سماوي، ثم رُفع كتابهم؛ ولكن هذا لم يصح، والصحيح أنهم وثنيون؛ ولكنهم أُلحقوا بأهل الكتاب، لورود السنة المخصِّصة لذلك. أما الدليل على جواز عقد الذمة مع المجوس: فما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ الجزية من مجوس هجر)، وكذلك أيضاً ما ثبت في حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فدل على أن المجوس يعامَلون معاملة أهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، وعلى هذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع. ولذلك تؤخذ الجزية من المجوس بإجماع العلماء رحمهم الله عقد الذمة لأهل الكتاب قال رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم]. أهل الكتابين المراد بهم: اليهود والنصارى، ووصفوا بذلك لأن لهم كتاباً سماوياً في الأصل، قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، وعندما قال بعض العلماء: إن المجوس أهل كتاب، رُدَّ عليهم بهذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} [الأنعام:156] فدَلَّ على أن (أهل الكتاب) يختص حكمهم باليهود والنصارى، واختُلف في الصابئة، فقيل: إنه كان لهم كتاب، وهو الزبور. وقيل: إن شريعة يحيى كانت لهم، ويختلف العلماء فيهم، وهم على طوائف سنبينها. أما بالنسبة لليهود والنصارى، فهم أهل كتاب بالإجماع، ويدخل فيهم من تبعهم، (فالسامرة) يتبعون اليهود ويأخذون حكمهم، وهم يعبدون الكواكب، وللعلماء فيهم بعض التفصيل، وإن كان الصحيح أنهم يتبعون اليهود، وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكده أنهم يسبتون ويعظمون السبت كما تعظمه اليهود. كذلك أيضاً النصارى بجميع طوائفهم ومللهم، كما يوجد في زماننا: (الكاثوليك)، و (البروتستانت)، و (الأرثوذكس)، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم أهل الكتاب، ويسري عليهم ما يسري على أهل الكتاب، كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله؛ لأنهم في الأصل لهم كتابهم، سواءً كان: (إنجيل يوحنا)، أو (إنجيل برنابا)، أو (إنجيل لوقا)، أو غيرها من الأناجيل الأخرى، فكلها تعتبر من حيث الأصل على دين سماوي، ولذلك لم يفرق الصحابة رضوان الله عليهم بين طوائفهم، وإنما عاملوهم معاملة أهل الكتاب على الأصل العام الذي ذكرناه حكم عقد الذمة للصابئة وأما بالنسبة للصابئة فقد اختلف فيهم، والصابئة ينقسمون إلى طوائف: فطائفة منهم توجد بحران، في أقصى بلاد الشام، من جهة جزيرة العرب، وهؤلاء اختلف فيهم، فبعض العلماء يقول: إنهم أهل دين سماوي حرفوا دينهم وغيروه، كاليهود والنصارى، ورُفِع كتابهم، وهذا القول هو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ولكنه لم يصح. وقال بعض العلماء: إنهم تابعون لليهود والنصارى، وقد روي عن ابن عباس القول: بأنهم يتبعون النصارى، وهذا القول اختاره الإمام أحمد في رواية عنه، ومنهم من قال: إنهم يعتبرون في حكم اليهود؛ لأنهم يسبتون، فقد كانت بعض طوائفهم تعظم السبت كما يعظمه اليهود، فأعطوا حكم اليهود. والصحيح أن الصابئة ينقسمون إلى قسمين: فقسم منهم يتبعون اليهود والنصارى -خاصة الذين هم في جهة حران- وعليه يُحمل أثر ابن عباس رضي الله عنهما. وأما القسم الذي يعبد الكواكب، ويعتقد في الكواكب منهم، فهذا على قسمين: قسمٌ منهم يعبد الكواكب في أزمة مخصوصة معتقداً أن المؤثر هو الله، فهذا قيل: إن استقباله للكوكب واعتقاده فيه لا يوجب كونه آخذاً حكم الوثنية؛ لأن لهم أصلاً من الدين السماوي، فقال طائفة من العلماء: إنهم يأخذون حكم أهل الكتاب من هذا الوجه؛ ولكن الصحيح أن عبدة الكواكب منهم كلهم يعتبرون في حكم الوثنيين، ولا يجوز عقد الذمة معهم. وهذا القسم الذي يعبد الكواكب يوجد في أطراف العراق، وهذا القسم هو الذي توعده المأمون، وكان قد نذر على نفسه إذا لم يدخلوا الإسلام أن يرجع فيقتلهم، وذلك حينما ذهب إلى الغزو، ولكنه مات قبل أن يدركهم، وهذا القسم هو الذي يعنيه طائفة من العلماء بأنهم يأخذون حكم الوثنيين. أما بالنسبة لبقية الطوائف فهناك الكفار الذين هم مشركون وعلى الوثنية كمن يعبد الأشجار والأحجار والنيران، وهناك من لا دين له، وهم الملحدون، الذين ليس لهم دين ولا يعبدون إلهاً، وإنما يعتقدون أن الحياة نشأت من الطبيعة ووجدت صدفة، وأن الكون هذا أوجد نفسه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وهكذا بالنسبة للمرتدين الذي ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء كلهم لا يجوز عقد الذمة معهم الدليل على عقد الذمة لأهل الكتاب والمجوس فقط أما الدليل على تخصيص الحكم بما ذكره المصنف من أهل الكتاب والمجوس؛ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فخصص حكم الجزية بنص الكتاب بأهل الكتاب، ثم إننا وجدنا في السنة أن: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما احتك بالمجوس ونزلوا على حكم الإسلام، قال: (ما أدري ما أصنع بهم). فاحتار رضي الله عنه في أمرهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، فـ عمر رضي الله عنه على فقهه وعلمه بالكتاب، فهم من آية القرآن تخصيص الحكم بأهل الكتاب، ولذلك لما جاء المجوس توقف فيهم واحتار فقال: (ما أدري ماذا أصنع بهم)، وكان معه الصحابة، فلم يُحْتَجَّ له بنص، وإنما قيل له: إن هؤلاء مستثنون من الأصل العام في الكفار، فدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من خصوص أهل الكتاب، ثم إننا إذا نظرنا إلى حكمة التشريع، فإن الله شرع الجهاد لكي يبقى التوحيد، فقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] قال جمع من السلف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: لا يكون شرك، وأكد ذلك بقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: تكون العبودية خالصة لله عز وجل، فدل على أن أصل الجهاد إنما المراد به أن يبقى دين التوحيد، فلما اصطدمت الأديان والنحل والملل في الجهاد فُرِّق بينها، فما كان أصله ديناً سماوياً، فإن أهله عندهم قابلية لقبول الدين السماوي الآخر، والتنازل عن دينهم، عندما يجدون دين الإسلام لا يجرح عيسى بن مريم، ولا يجرح كذلك موسى بن عمران، وأن المسلمين يؤمنون بعيسى بن مريم، وموسى بن عمران عليهما السلام، فهم أدعى أن يقبلوا هذا الدين؛ لكن إذا جئت إلى المشرك الوثني الذي لا يدين بدين، أو الملحد الذي لا يدين بدين، فإنه لا يقبل الإسلام، وليس عنده أصلٌ أو قاسم مشترك بينه وبين المسلمين، فكان من الحكمة أن يفرق بين هذا وهذا، وأن يعطى كل ذي حقٍ حقه، فكأننا لو قبلنا من المشرك الوثني ذلك فقد أقررناه على شركه ووثنيته؛ لكننا إذا أقررنا أهل الكتاب فإننا نقر بأصل دينهم، وهو الدين السماوي، ففُرِّق بينهم لهذه الحكمة، ولذلك لو قيل بأخذ الجزية من الوثنيين فإن هذا يعين على بقاء الوثنية، ومقصود الإسلام أن لا تبقى الوثنية. لكن يبقى الإشكال في أهل الكتاب وقد صار منهم مشركون؟ قيل في هذا: إن الحكم على قسمين في الكفار: حكم الدنيا. وحكم الآخرة. فحكم الدنيا بالنسبة للوثنيين: أنهم يُقْتَلون أو يُسْلِمون، {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، وهذا هو الذي دلت عليه آيات الجهاد. وأما من عداهم ممن له دين سماوي، فإنه يكون حكمه في الآخرة، وأما في الدنيا فيبقى على دينه في الإسلام؛ لأن دينه له أصل سماوي، وهو أحرى إذا عاشر المسلمين أن يرى سماحة الإسلام فيقبل بدينهم، كما شهدت التجربة بذلك في عصور المسلمين، حينما عاهدوا أهل الذمة. فالذي يظهر: تخصيص الحكم في أهل الكتاب والمجوس؛ لأن النص خصَّهم فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم)، قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا في الجزية خاصة، أي: سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية فقط، ولذلك منع من أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم، ولم يبح مخالطتهم للوثنية التي فيهم، فدل على أن مقصود الإسلام أن يُفَرَّق بين الوثنية وما له أصل سماوي. إذاً: الذي يترجح -والعلم عند الله- أنه لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بعد نصه شيء حينما قال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] بعد تعميمه لقتال المشركين، وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخير أثناء الجهاد، فهذا -كما لا يخفى عند الجميع- يعتبر من المطلق المحمول على المقيد، فإن آية القرآن وردت في قضية الجزية بعينها، واشترطت أن يكونوا أهل كتاب، وأما بالنسبة لحديث بريدة، فإنه مطلق، ولذلك يقيد إطلاقه بالكتاب، وكم من أحاديث مطلقة قيدها الكتاب! وكم من أحاديث عامة خصصها الكتاب! وحمل المطلق على المقيد مذهب معتبر في الأصول، ولذلك مما نرى من مقاصد الإسلام العامة أنه لا يقر المشرك على شركه، ولا يقر الوثني على وثنيته، فيُنْصَر ويُعان على ذلك، بل إنه حينما كُتِب كتاب عمر في الشروط العمرية بينه وبين أهل الكتاب، مُنعوا من ضرب الناقوس، ومن إظهار شعائر دينهم، كل ذلك حتى يكون أبلغ في قبولهم للإسلام، فكيف بالوثني الذي ليس له أصل من دين سماوي، فإنه بعيد منه أن يقبل بدين الإسلام أو يرضاه. [ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه] هذه هي الجزئية الثانية: مَن له حق عقد الذمة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه. وهناك قول عند الحنفية: أنه يجوز أن تعقد الذمة بالأفراد، فلو أن مسلماً تعاقد مع ذميين، وأمَّنهم بأمانهم العام، فإنه يمضي عقده. والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يعقدها إلا ولي الأمر أو من يقوم مقامه يتبع
__________________
|
#266
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (261) صـــــ(1) إلى صــ(22) شروط وجوب الجزية قال رحمه الله: [ولا جزية على صبي، ولا امرأة، ولا عبد، ولا فقير يعجز عنها]. قوله: (ولا جزية على صبي) بعد أن عرفنا من الذي تعقد له الذمة، ومن الذي يلي عقدها يَرِد السؤال الثالث: من الذي تجب عليه الجزية؟ إذا نزل المسلمون بالكفار من أهل الكتاب، وعقدوا بينهم عقد الصلح وعقد الذمة، فإنهم يكتبون أسماءهم ويعد بذلك سجل، حتى تؤخذ الجزية منهم، بنص الكتاب: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] ويحتاج هذا إلى كتابة أسمائهم، وهذا له تراتيب إدارية معروفة في كتب التراتيب الإدارية، وكذلك أيضاً في كتب الاحتساب، وذكرها العلماء -رحمهم الله- في المطولات في الفقه، كالإمام ابن قدامة في المغني، فتسجل أسماؤهم، وحليتهم، وما يتميزون به، وأنسابهم، حتى تضبط بالكيفية، وحرفهم، وأعمالهم، حتى يُعْرَف من الذي تُضْرَب عليه الجزية ومن الذي لا تُضْرَب عليه الجزية، فحينئذٍ نقسمهم إلى قسمين: قسم منهم: توضع عليه الجزية. وقسم منهم: توضع عنه الجزية. فقسم يطالَب بها، وقسم لا يطالَب. فأما الذين يطالبون بالجزية فتشترط فيهم شروط: الشرط الأول: البلوغ. الشرط الثاني: العقل. الشرط الثالث: الذكورة. الشرط الرابع: الحرية. الشرط الخامس: القدرة المالية. الشرط السادس: ألا يكون من الرهبان، على خلاف فيه، وإن كان الصحيح أنه تجب الجزية حتى على الرهبان، وسنبين هذا. هذا بالنسبة لمجمل الشروط التي ذكرها العلماء في إيجاب الجزية على الذمي. الشرط الأول: البلوغ: فلا تضرب الجزية على الصغار والصبيان، ويدل على هذا حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الجزية من نصارى نجران: (أمره أن يأخذ من كل حالم ديناراً) فقوله: (من كل حالم) الحالم: اسم فاعل من المحتلِم، وهو الذي بلغ الحلم، ومفهوم الصفة، أنه إذا لم يكن بالغاً -وهو الصبي- فلا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع العلماء، أن الصبيان لا تضرب عليهم الجزية، وقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه، كتاب الذمة لأهل الحيرة، فأسقط الجزية عن الصبيان، وكتب إلى أبي بكر رضي الله عنه بذلك، فأقره على هذا، وهذا يدل على سماحة الإسلام. كذلك مما يدل على أن الصبيان لا تؤخذ منهم الجزية: أن الله تعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] والصبي لا يقاتِل، والجزية إنما جعلت عوضاً عن قتالهم، فدل على أنه ليس من جنس من تجب عليه الجزية. الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً: فالمجنون لا تجب عليه الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن مجانين أهل الكتاب لا تجب عليهم الجزية، وهم غير مكلفين، فلا يكلفون بها. الشرط الثالث: الذكورة: فلا تجب على النساء، فالنساء لا تفرض عليهن الجزية، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، فإن المرأة لا تقاتل، والجزية عوض عن القتال، وهذا ما كتبه خالد رضي الله عنه في كتابه، وفي الشروط العمرية أيضاً: (أن النساء لا تؤخذ منهن الجزية)، فالمرأة لا تكتسب غالباً، وهذا يدل على سماحة الإسلام ورفقه بالمرأة، فإنه أسقط الجزية عن نساء أهل الذمة. الشرط الرابع: القدرة المالية: بمعنى أن يكون قادراً على أداء الجزية، وهذا من ناحية المادة والمال، والأصل أن أهل الذمة تجب عليهم الجزية، ثم يصنفون: هناك الغني، وهناك الوسط، وهناك ضَعَفَة الحال، وينقسمون إلى قسمين: الضعيف الذي لا يجد شيئاً، كالمسكين والفقير. والضعيف الذي يجد قوام عيشه، وشيئاً زائداً على فضل قوته. فهذه ثلاث طبقات، فتفرض الجزية على الطبقة العليا بما يتناسب مع حالها، ويرجع هذا إلى اجتهاد الإمام وتقديره، وكان عمر رضي الله عنه له في ذلك ضوابط، فكان يفرض (48) ديناراً على الغني، و (24) ديناراً على المتوسط، و (12) ديناراً على الضعيف أي: على من كان دون المتوسط في معيشته. وهذه الثلاث المراتب قد فصلها العلماء في كتب الأموال، ككتاب الأموال لـ ابن زنجويه، وكتاب الأموال لـ أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله، وكذلك ذكرها الإمام ابن قدامة في المغني. فهذه الثلاث المراتب للقادر. ويبقى غير القادر. وغير القادر ينقسم إلى أقسام، منها: من لا يقدر لكبر السن، والخور، كالشيخ الكبير الفاني، الذي لا يستطيع أن يعمل، وليس عنده مال، وقد يكون شيخاً كبيراً وعنده أموال وتجارات، فإذا كان كذلك فرضت عليه، كأغنيائهم، أما بالنسبة للشيخ الهرم، الذي لا مال عنده ولا تجارة، فإنه تسقط عنه الجزية، وقد فعل ذلك خالد بن الوليد وكتبه في كتاب الصلح لأهل الحيرة: أنه ما من كبير سن يفتقر، ويتصدق عليه أهلُه -أي: وصل إلى حد الحاجة والعوز حتى تُصُدِّق عليه- إلا أدخله في عيال بيت مال المسلمين -أي: يدخله حتى مع ضَعَفَة المسلمين- وينفق عليه من بيت مال المسلمين. وهذا من سماحة الإسلام أيضاً، وهو يدل على سمو منهج الشريعة الإسلامية، وكيف أنها عاملتهم بنوع من المرونة، فالرفق في موضعه والشدة في موضعها؛ لأنه لا يصلح للكافر أن يرفق به مطلقاً، ولا يصح أن يشد عليه مطلقاً، وإنما الأمور تكون بالوسط الذي جاء به شرع الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] أي: عدولاً، والعدل هو المستقيم، الذي بين الإفراط والتفريط. فتُسْقَط الجزية عن الشيخ الهرم الذي لا مال له ولا تجارة. ويبقى النظر في الفقير: فلو كان هناك فقير؛ ولكنه يستطيع أن يعمل وأن يتكسب، لكنه جلس في بيته وافتقر، فهل تسقط عنه الجزية؟ الفقير ينقسم إلى قسمين: الأول: من كان منهم يستطيع العمل لكنه قعد وتقاعس، فهذا يُلزم بدفع الجزية، ويعتبر تقصيره لنفسه؛ لأنه هو الذي قصر، ويُلزَم بعاقبة تقصيره. الثاني: من كان منهم فقيراً، لا يجد الكسب فللعلماء فيه وجهان: جمهور أهل العلم على أن الجزية تسقط عنه مطلقاً، أداءً وقضاءً، بمعنى: أن هذا الفقير لا نطالبه بالجزية حال فقره، ولا نطالبه بالقضاء بعد يسره وغناه. وذهب بعض الفقهاء -كما هو عند الشافعية رحمهم الله- إلى أن هذا النوع من الفقراء نتركه، ولا نطالبه في الحال، فإن اغتنى بعد ذلك طالبناه بقضاء السنين التي مضت. والصحيح مذهب من ذكرنا، وهم الجمهور: أنه إذا سقطت عنه في الأداء سقطت عنه في القضاء، ولا يطالب بقضائها، وأن العبرة بحال أدائه. هذا بالنسبة للشروط العامة حكم أخذ الجزية من الرهبان وأما الرهبان ففيهم قولان مشهوران للعلماء، فمن أهل العلم من قال: لا تؤخذ من الرهبان والقساوسة، ونحوهم، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه حينما بعث يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه لفتح الشام، قال له: (وستجد أقواماً قد حبسوا أنفسهم في صوامعهم، فدَعْهم وشأنهم، حتى يميتهم الله على ضلالتهم) أي: لا تتعرض لهم بشيء، فأخذ منه بعض العلماء سنةً عن أبي بكر رضي الله عنه أن هؤلاء لا يُتَعرض لهم بشيء، والواقع أن الرهبان ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول: يقاتل، ويشارك في مواجهة المسلمين برأي أو مكيدة، أو يكون قائداً لهم، أو يحرضهم على جهاد المسلمين وقتالهم، فهذا يُقتل، وكذلك أيضاً تُضْرب عليه الجزية. والقسم الثاني: الذين انحصروا في صوامعهم، وأماكن عبادتهم، فللعلماء فيهم وجهان -كما ذكرنا- فمنهم من يقول بضرب الجزية عليهم، وهذا هو الصحيح؛ لعموم الأدلة؛ ولأن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، -وهو وإن لم يكن من الصحابة، لكنه خليفة راشد- ضرب الجزية على الرهبان، وعمل بعموم الآيات، وهذا هو الصحيح. (ولا عبد) العبد لا تجب عليه الجزية؛ لأنه لا يملك المال، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ومن أهل العلم من قال: تجب الجزية على سيده إن كان كافراً، كما في حديث ضعيف رواه البيهقي في سننه، والصحيح أن العبد لا تؤخذ منه الجزية لما ذكرناه زوال موانع الجزية بعد انقضاء وقتها قال رحمه الله: [ومن صار أهلاً لها، أخذت منه في آخر الحول] (ومن صار أهلاً لها) تقدم من الذي تُضْرب عليه الجزية، ويبقى السؤال لو أن هؤلاء الصبيان والمجانين والفقراء زال عنهم الوصف أثناء الحول، وكما تقدم: الجزية تؤخذ كل سنة، ومن أهل العلم من يرى تقسيطها، والأقوى أنها تؤخذ كل سنة، وللعلماء وجهان في وقت أخذها: بعضهم يقول: تؤخذ معجَّلة، أي: يبرم معهم العقد، ثم تؤخذ قبل استتمام السنة، وهذا أقوى، ويدل عليه كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، حينما صالح في بداية الفتوحات في الشام. ومن أهل العلم من يقول: تؤخذ في آخر السنة. والأقوى هو القول الأول، لكن لو أننا أخذناها في بداية السنة، ثم بلغ الصبي واغتنى الفقير أثناء السنة، أو أفاق المجنون أثناء السنة، فما الحكم؟ قال بعض العلماء: زوال الموانع فيه تفصيل: فمثلاً: المجنون إذا كان يجن تارة ويفيق تارة: فمنهم من يقول: العبرة بأكثر الحول، فإن أفاق أكثر الحول أخذنا منه الجزية كلها، وإن كان يجن أكثر الحول، لا تؤخذ منه الجزية. ومنهم من يقول: تقسط على حسب إفاقته. وهذا هو الأقوى والصحيح، أنه ينظر إلى مدة إفاقته، وتقسط، وكذلك بالنسبة للصبي، فإذا بلغ -مثلاً- في الشهرين الأخيرين من السنة، فإنه يدفع قدر الشهرين، وإذا بلغ في منتصف السنة، أخذ منه نصف الجزية، وقِسْ على هذا. إذاً: مسألة زوال الموانع يفصل فيها على حسب المدة التي يدركها بالأهلية، فالمدة التي يدركها بالأهلية يجب أخذ الجزية بحسابها وقدرها. قال رحمه الله: [ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم] الجزية تتعلق بالآثار المترتبة على عقد الذمة، فمتى أعطوا الجزية لزم قبولها، أي: يجب على الإمام أن يقبل الجزية، وهناك قول شاذ يقول: إن للإمام أن يمتنع من أخذ الجزية، والصحيح الأول لحديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أعطوها فاقبلها منهم)، فأمره بقبول الجزية، فدل على وجوب قبولها حقناً لدماء من يُحقن دمه من أهل الكتاب. فإذا أعطوها ما الذي يترتب عليه؟ قال رحمه الله: (ومتى بذلوا الواجب عليهم لَزِم قبولُه وحَرُم قتالُهم) (لَزِم قبولُه) هذا للوجوب. (وحَرُم قتالُهم) حَرُم أن يقاتلوهم، وهذا في بداية الأمر. تبقى الآثار المترتبة بعد ذلك، وهذه لها تفصيلات سيذكرها المصنف -رحمه الله- فيما بعد. فتقرر أن الجزية يلزم الإمام قبولها إذا عُرِضت عليه من أهل الذمة، ولا يجوز أن يقاتلهم وقد أدوا الجزية؛ لثبوت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك امتهان أهل الذمة عند أخذ الجزية ومقاصده الشرعية قال رحمه الله: [ويُمْتَهنون عند أخذها، ويُطال وقوفُهم، وتُجَرُّ أيديهم] (ويُمْتَهنون عند أخذها) المهانة ضد الكرامة، والله تعالى أهان أهل الكفر، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، وهذا نصٌّ في كتاب الله عز وجل، خبرٌ بمعنى الإنشاء، أي: من أهانه الله فلا تكرموه، ولذلك حرم إكرام الكفار وتبجيلهم وتعظيمهم، على الأصول المقررة في التعامل مع الكفار؛ لأن الله أهانهم بالكفر، وهذه الإهانة موضوعة موضعها، فلا كرامة للإنسان إلا بالإسلام. فقوله: (يُمْتَهنون عند أخذها) لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، وينبغي أن يُعلم أن الإسلام دين الله عز وجل الذي ينبغي أن تُعْلَى كلمتُه، ويُرْفَع منارُه، ويُعَزَّ شأنُه، ولا يجوز أن يُقْرَن به غيرُه، كائناً ما كان ذلك الدين، بل كل ما عداه دونه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يعلو ولا يُعلَى عليه). فمن مقاصد الإسلام أنه إذا قُبِلت الجزية من أهل الكتاب، فينبغي أن يشعروا في بلاد المسلمين بالذلة والحقارة، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولا ينبغي أن يسوَّوا بالمسلمين ولا أن يفضَّلوا عليهم، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله. فقوله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] هذا نص، وهذا النص ورد في كتاب الله مطلقاً كما يقول الفقهاء والعلماء، وينبغي على طالب العلم أن يتأمل ذلك، فإن الله عز وجل قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فجملة: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) حالية أي: والحال أنهم في صغار، فنصَّ كتابُ الله على أن إعطاءهم يكون بهيئة تدل على ذلهم وصغارهم، فإذا كان صغارهم بإطالة الوقوف، فهو من شرع الله؛ لأن هذا منصوص عليه على وجه العموم، وترك الله الخيار لولي الأمر أن يمتهنهم بالصيغة التي يراها؛ لكن بطريقة لا تفضي إلى استباحة دمائهم ولا أعراضهم، فإذا أوقفناهم عند إعطاء الجزية، أو جاء يعطي الجزية فتشاغلت عنه، فهذا له مقاصد، ذكرها العلماء رحمهم الله وأشاروا إليها، وهو أنه إذا جاء يدفع المال لك، فإنك تشعره أنه لا يشتريك بهذا المال، وأنك لا تريد هذا المال منه، وأنه أعز من المال الذي يبذله، فلما جاء نص القرآن: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] دل على أنه ينبغي أن تكون الحالة والهيئة، دالة أن هذا ليس لطمع أو رغبة في ماله، حتى يعطي المال كما يعطيه المستأجر لمن يؤجر له؛ لأنه لو لم يكن بذلةٍ وصغار لصار كأنه يشتري المسلم، وكأنه يتعاقد مع المسلم على إجارة، أي: أنك تحميني وتصونني بهذا المال، لكن الله قال: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، أي: الحال أنهم في صغار وذلة، ثم ترك الله الصغار بالخيار، ولذلك يقول العلماء: إن هذا من المطلق المقصود، أي: أنه ترك إلى اجتهاد الحاكم، فعندما نجد الفقهاء -رحمهم الله- ينصون في كتبهم على ألوان من الصغار لهم، فإن هذا كله راجع إلى الاجتهاد والتقدير، وليس لأحد أن يتعقَّد في ذلك، كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين فيقولون: إن هذا من الاجتهادات القديمة أو كذا، فهذا لا ينبغي؛ لأن هذا له أصل في كتاب الله عز وجل، وله مقصد شرعي، وكان العلماء في القديم يقصدون من هذا تحقيق النص المطلق في قوله سبحانه وتعالى: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فقال رحمه الله: (يُمْتَهنون عند أخذها) أي: لا تؤخذ منهم بكرامة. يقول بعض أهل العلم: ومن الامتهان عند أخذها: أنه إذا جاء يدفعها إلى المسلم فلا ترتفع يده، أي: لا يعطيها بيدٍ عالية؛ لأن اليد العليا خير من اليد السفلى، وإنما يعطيها بطريقة لا تُشْعِر بالكرامة، ومن هنا نص المصنف على كلمة: (وتُجَرُّ أيديهم) فما معنى (تُجَرُّ أيديهم)؟ فَهِم البعض أن معنى تُجَرَّ أيديهم أي: حتى تُخْلَع. ولا يقول أحد من أهل العلم أنها تُخْلَع أبداً. وإنما (تُجَرُّ أيديهم) لها معنى ومغزى دقيق، وهو أنك إذا جاء الكافر ليعطي الجزية بيده، فأخذت يده أثناء الإعطاء أشعرته بأنه ملك لك، وأن هذا الذي في يده مستحق تحت القهر والذلة، وهذا نوع من الإشعار بأنه لا منة له على المسلمين، وليس المراد بـ (تُجَرُّ أيديهم) أنهم يجرون كما تُجَر الدواب، لا. بل تُجَرُّ أيديهم -كما ذكر العلماء- لمعنى مقصود، وهو أنه قد يأتي يستفضل على المسلمين بإعطاء المال، فإذا جاء يرفع يده أرخيت يدُه، ثم إذا جاء يعطيها تمسك يده، كأنك تقول له: مالُك وما في يدك ملك لي، ثم لا يأخذها مباشرة، وإنما يمسكها بما يشعر بالذلة والصغار حين تؤخذ. إذاً: معنى: (تُجَرُّ أيديهم)، أي: أنهم يُشْعَرون بأنهم بهذا لا فضل لهم على الإسلام والمسلمين، وإنما المنة والفضل لله ولرسوله وللمؤمنين. والله تعالى أعلم الأسئلة أحكام أهل البلاد المفتوحة عنوة السؤال إذا فتح المسلمون بلداً بها أهل كتاب ومشركون، فكيف يكون العمل؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فالديار لها حكمان: الحكم الأول: ما يسمى بالفتح عنوة. الحكم الثاني: ما يكون صلحاً. فأما ما فتح عنوة -كما ورد في السؤال- فإنه يجوز أن يصالِح الإمام أو نائبه من في هذه الديار على دفع الجزية، وهذا يكون أشمل بالمؤقت، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فقد فتحها عنوة، ثم صالح أهلها على أن يساقوا الزرع ويكون لهم شطر ما يخرج منها، أما بالنسبة للوثنيين في هذه الحالة، فيخيرون بين أمرين: إما أن يسلموا. وإما أن تضرب رقابهم. وللإمام أن يضرب عليهم الرق على حسب ما يرى المصلحة فيه؛ لأنهم يكونون في حكم الأسرى، فيجتهد، فإن رأى مصلحة المسلمين في الفداء فادى، وإن رأى مصلحة المسلمين في استرقاقهم استرقهم، وإن شاء ضرب رقابهم فعل، حتى يخوف أعداء الإسلام {فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] إذاً: يخير الإمام وينظر فيهم إذا كان الفتح عنوة، ويكون هذا راجعاً إلى اجتهاد الإمام بما يرى فيه مصلحة المسلمين. والله تعالى أعلم أقسام الشهداء وأحكامهم السؤال ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الغريق شهيد، وأن المطعون والمبطون شهيد) ولكن هل يأخذ حكم الشهيد في تغسيله وتكفينه؟ أم ما المقصود بالحديث؟ الجواب الشهادة تنقسم إلى قسمين: الشهادة الخاصة بشهيد المعركة. والشهادة بالمعنى العام الذي وردت به النصوص، كالمبطون، والغرقى، والهدمى، والنفساء، وصاحب الطاعون، وصاحب ذات الجنب، ونحوهم ممن ورد الخبر فيهم. وشهيد المعركة ينقسم أيضاً إلى قسمين والأفضل منهما شهيد البحر فهو أفضل من شهيد البر، في قول طائفة من العلماء لحديث أم حرام بنت ملحان في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها وفيه: قالت: فاستيقظ وهو يتبسم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! ما بك؟ فقال: أناس من أمتي ملوك على الأسرَّة أو كالملوك على الأسرة، يغزون ثبج هذا البحر، فقلت: يا رسول الله! ما أضحكك؟ فذكر لها ذلك، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم) ثم إنها ركبت البحر رضي الله عنها وأرضاها في خلافة عثمان، ولما نزلت إلى شاطئ البحر، وَقَصَتْها دابتُها، فصدقت فيها معجزة النبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة للشهادة بالمعنى العام: الغرقى، والهدمى، والحرقى، والمبطون، والنفساء، فهؤلاء لهم منزلة الشهيد، والشهداء لهم منازل، وأعلى منزلة للشهيد: الفردوس، وهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وذلك يوم أحد، حين استشهد عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (يا رسول الله! أخبرني عن أبي، إن كان في الجنة صبرت، وإن كان في غيرها كان لي شأن، فقال صلى الله عليه وسلم: يا جابر إنها جنان، وإن أباك قد أصاب الفردوس الأعلى منها)، وهذا يدل على أن من الشهادة ما يصيب الإنسان بها الفردوس الأعلى من الجنة. نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبلغنا إياه بفضله وكرمه، وهو أرحم الراحمين. فهذا أعلى مراتب الشهادة، إذا كان شهيد المعركة. أما بالنسبة للشهداء: المبطون، والغرقى، والحرقى، فهؤلاء لا يعاملون معاملة الشهيد من حيث التغسيل والتكفين؛ إلا الحرقى، فالمحروق لا يغسَّل؛ لأن التغسيل يضرُّه ويؤثر على لحمه وما تبقى من حرقه، ولذلك يُجمع بحالته، ويرى بعض العلماء أنه يُيَمَّم، ويأخذ حكم من عجز عن استعمال الماء، حيث إنه لما كان الواجب تغسيله وعُجِز عن تغسيله فإنه يُيَمَّم، ومثله مَن به مرض مُعْدٍ كالجدري ونحوه، فإنه إذا جاء يغسله الغير تضرر، فحينئذ هؤلاء لا يغسلون إذا قال أهل الخبرة: إن تغسيلهم فيه ضرر، أو أن مَن به جدري، إذا جاء يغسل فإنه ينتفخ، أو مَن به حساسية شديدة بحيث لو غُسِّل ينتفخ جلده، فهؤلاء كلهم لا يغسَّلون. فالشاهد أن الحرقى لا يغسلون لعلةٍ أخرى، وليست لعلة الشهادة. وأما بالنسبة للهدمى والغرقى وغيرهم ممن ذكرنا، فهؤلاء حكمهم حكم الشهداء من حيث الفضل؛ لكن من حيث الأحكام الشرعية من عدم تغسيلهم وتلفيفهم في ثيابهم فهذا يختص بشهيد المعركة، حتى لو أن إنساناً دخل في معركة وقاتل وجرح، ثم خرج من المعركة، ثم مات بعد ذلك، فإنه يغسَّل ويكفَّن، ولذلك اختص الحكم بمن قتل على أرض المعركة، وأما من لم يقتل على أرض المعركة، فإنه يفعل به كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بـ سعد رضي الله عنه وأرضاه، حينما رمي في أكحله فانفجر عرقه ومات رضي الله عنه، وهذا يدل على أن أحكام الشهيد تختص بشهيد المعركة. والله تعالى أعلم فضل العين التي تغض عن محارم الله السؤال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية يوم القيامة، واستثنى منها عيناً غضت عن محارم الله) فمن قارف ذنباً ثم تاب إلى الله فهل يحصل له هذا الفضل؟ وهلا تفضلتم بوصية حول هذا الأمر؟ الجواب هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية -أو دامعة- يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله)، والعين إذا غضت عن محارم الله، فإنما غضت بتوفيق الله عز وجل، وبقوة الإيمان في القلب، فلا يغض عما حرم الله عز وجل إلا المؤمن، وغَضُّ البصر عن محارم الله كمال في الإيمان ودليل على خشية الله سبحانه وتعالى، خاصةً إذا كان الإنسان لا يراه أحد، ويستطيع أن يرى إلى الحرام، ويستمتع به، فيخاف الله عز وجل، ويغض، فإن الله سبحانه وتعالى يُنِيْلُه هذا الفضل. واختلف العلماء في قوله عليه الصلاة والسلام: (كل العيون باكية أو دامعة) قيل: المراد بذلك أن هذه العين لا يمكن أن يصيبها سوءٌ حتى تدخل الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة، إلا ثلاثة أعين) فمعناه: أنها لا تحزن، وإذا كانت لا تحزن فمعنى ذلك: أنها لا يصيبها سبب الحزن وسبب البكاء، وهو العذاب، فدل هذا على أنها تُؤمَّن إلى دخول الجنة، وهذا فضل عظيم، وكأنه يشير بهذا إلى قوة الإيمان في القلب، فإن الإنسان إذا وصل إلى هذه الدرجة، أي: غَض البصر عن محارم الله، بحيث لا تقع عينه عليها، فإن هذا لا يكون إلا بقوةٍ إيمانه، والغالب أن من بلغ هذه الدرجة أنه يكون من السعداء الذين يدخلون الجنة. وقال بعض العلماء: (كل العيون باكية) إن عرصات يوم القيامة مختلفة، فهناك عرصات تأتي فيها أنواع من العذاب والبلايا، كما في طول الموقف، وانتظار الحساب، وكثرة العرق، وذهابه في الأرض سبعين ذراعاً من طول موقف الناس يوم القيامة في عرصاتها، ومن هذه المواقف موقف البكاء، وهذا الموقف يحفظ الله عز وجل صاحب هذه العين من البكاء فيه، فلا تحزن عينه ولا تبكي في هذه العرصة من عرصات يوم القيامة، وفي هذا الحديث دليل على فضل الطاعة بالعين. فإن الإنسان كما يطيع الله عز وجل بيده: - فينفق بها في سبيل الله. - ويضرب بها في الجهاد في سبيل الله. - ويكتب بها في طاعة الله. ويطيع الله عز وجل بقدمه: - بخروجه إلى المساجد. - وصلة الأرحام. - وعيادة المريض. - وتشييع الجنائز. ويتعبد الله عز وجل بقلبه: - بوجود الإيمان. - ومحبة الله. - وخشيته. - والخوف منه. - واعتقاد ما يجب اعتقاده. - والإيمان به. كذلك يتقرب إلى الله بعينه. فالعين لها طاعة، ومن طاعتها: - أنها تبكي من خشية الله. - وأنها تغض عن محارم الله. - وأنها تسهر في طاعة الله عز وجل، وفي سبيله. فدل هذا الحديث على طاعة العين، وأنها: - تكون بالبكاء. - وتكون كذلك بالسهر على طاعة الله. - وقيل: على الجهاد في سبيل الله، كسهر عين المرابط وهو يحرس الثغر. ومن أهل العلم من يرى في قوله عليه الصلاة والسلام: (وعين سهرت في سبيل الله) أنها شاملة لكل عين، فمن سهر وهو يتلو كتاب الله، أو سهر على طلب العلم وكتابته والجد والاجتهاد فيه، فإنه ينال هذا الفضل. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يلهمنا طاعته، وأن يوفقنا لمرضاته. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
__________________
|
#267
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (262) صـــــ(1) إلى صــ(20) شرح زاد المستقنع - باب عقد الذمة وأحكامها [2] من الحكم والأسرار في عقد الذمة: أن يتأثر أهل الكتاب بالمسلمين، فيكون هذا سبباً في إسلامهم، وتحقيقاً لهذه الغاية فلا ينبغي أن يشعروا أنهم فوق المسلمين؛ بل ينبغي أن يشعروا أنهم أدنى منهم وأقل شأناً، سواء في لباسهم، أو مراكبهم، أو مساكنهم، حتى في عباداتهم وطقوسهم الدينية، ولا يسوى بينهم وبين المسلمين أبداً كيفية تعامل الإمام مع أهل الذمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام؛ في النفس والمال والعرض] شرع المصنف رحمه الله في هذا الفصل في بيان جملة من المسائل والأحكام التي تترتب على عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب ومن في حكمهم، وذلك أنه إذا وقع عقد الذمة بين المسلمين وأهل الكتاب، فهناك أمور يلتزم بها المسلمون، وهناك أمور يلتزم بها أهل الذمة، وقد بينا فيما تقدم جملة من تلك المسائل والأحكام، وشرع المصنف هنا في بيان ما الذي ينبغي على الإمام تجاه أهل الذمة في تصرفاتهم حينما يكونون في بلاد المسلمين؟ فقال رحمه الله: (ويلزم الإمام) أي: يجب عليه، وهذا من فرض الله الذي أوجبه أن يأخذهم بحكم الإسلام؛ لأن الحكم لله عز وجل، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فالحكم لله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يكون هؤلاء ملزَمون بحكم الإسلام في أمور وضوابط معينة، وعليهم أن يتقيدوا بها، وهي قد تتعارض مع شريعتهم وملتهم؛ لكن كونهم داخل بلاد المسلمين فهم ملزمون بشرعة الإسلام، وبما عليه المسلمون، ولهذا في عقد الذمة يكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، والمسلمون يقومون بالدفاع عنهم وحفظ عوراتهم وأعراضهم ودمائهم، كأنهم في منزلة المسلمين، فيجب عليهم أن يلتزموا بما يلزم المسلمين. ولو أننا فتحنا لهم أن يفعلوا ما شاءوا وأن يتصرفوا كيفما أرادوا -ولو كان ذلك في دينهم ونحلتهم- لانتشر الفساد بين المسلمين، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إنهم لو مُكَِّنوا من فعل بعض الأمور المحرَّمة -وإن كانت جائزة في دينهم- وإظهارها فإن هذا قد يدفع بالفَسَقَة لمجاراتهم والعمل بدينهم والميل إلى ما هم عليه، ولذلك وجب حفظ بلاد المسلمين وأهل الإسلام من منكراتهم ومحرماتهم التي يرتكبونها كيفية الحكم بين أهل الذمة (ويلزم الإمام أخذهم) ويلزم الإمام أن يأخذهم. (بحكم الإسلام) وإذا وقع الإخلال من الذمي، فإما أن يقع بشيء يوافق دينه، أو بشيء يخالف دينه، فهناك حالتان: الحالة الأولى: أن يفعل شيئاً نحن نعتقد حرمته، ولكن دينه وشريعته تقره على ذلك. الحالة الثانية: أن يفعل فعلاً نتفق نحن وهم على تحريمه وعدم جوازه. فأما ما كان من الأمور التي نتفق على تحريمها، فمن أمثلتها: - قتل النفس المحرمة. - الاعتداء على أموال الناس بالسرقة، أو الغصب، أو قطع الطريق. - الاعتداء على الأعراض بالزِّنا. فهذه اتفقت الشرائع على تحريمها وأنه لا يجوز ارتكابها، فهي محرَّمة عند أهل الكتاب وعندنا. وحينئذ لا تأويل له، فهو حينما يقدم على هذا الفعل فإنه يفعل فعلاً يعتقد حرمته، ونعتقد نحن حرمته، فإذا وقع منه -مثلاً- القتل، فلا يخلو قتلُه من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قتلاً لمسلم. الحالة الثانية: أن يكون قتلاً لغير مسلم. فإن قتل مسلماً فإنه يُقتل به، وهذا بإجماع أهل العلم رحمهم الله، أن الكافر يقتل بالمسلم إذا قتله، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأنصارية التي قتلها يهودي على أوضاح لها كان يريد أن يسرقها منها، فأبت وأصرت فاختلسها منها، فلما دافعت رض رأسها بين حجرين، فوُجدت في آخر رمق وهي مشرفة على الموت، فقيل لها: (مَن فعل بكِ هذا؟ فلان؟ فلان؟ فلان؟) حتى ذكروا اسم اليهودي، فأشارت برأسها: أن نعم، كما ثبت في الصحيح، فأُخذ اليهودي فأقر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوضع رأسه بين حجرين، وأن يُرَضَّ كما رُضَّ رأسُها، وهذا يدل على عدة مسائل: المسألة الأولى: أن أهل الذمة وأهل العهد ومن يعطَون الأمان إذا سفكوا دم مسلم فإنه ينتقض عهدهم ويستباح دمهم، ويؤخذون به. المسألة الثانية: مسألة التدمية البيضاء، وهي من فوائد هذا الحديث، والتدمية البيضاء يقول بها بعض أئمة السلف، كإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فإنه يقول: إن من وجد في آخر رمق من الحياة، وهو مُشْفٍ على الموت، وقيل له: مَن قتلك؟ فقال: فلان، يقول: إن هذا لوث، ويوجب القسامة، ويوجب أخذ هذا المتهم، فإن أقر قُتِل به، وفقه مالك رحمه الله في هذا: أن من يُشْفِي على الموت يكون أقرب إلى الآخرة وأبعد عن الدنيا، فهو أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب، فشهادته على أن فلاناً قتله تكون قوية، وقرينة قد تقارب البينة بقتله. وذهب الجمهور إلى أن هذا يوجب التهمة فقط، وهذا هو الصحيح؛ لأن اليهودي حينما أُخِذ أقر، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره لا بمجرد قول المرأة، فينبغي أن يفرق بينهما. وأياً ما كان: ففي الحديث دليل على أن الذمِّي والمعاهَد والمستأمَن إذا غدر وقتل وسفك دم المسلم، فإنه يقتل القاتل بمن قتله؛ لكن السؤال لو أن كافراً قتل مسلماً، ثم قام الذميون ومنعوه، أو قاموا بحفظه والتلبيس وحفظه، والتمويه على جريمته بحيث لا يعرف، فكانوا معينين له على الجريمة أو مساعدين له، فإنه ينتقض عهدهم جميعاً، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في قصة عبد الله بن سهيل رضي الله عنه حينما قتلته يهود بخيبر: (أو تؤذنكم يهود بحرب، فإما أن يدفعوا رجلاً منهم، وإما أن تؤذن يهود بحرب) فكأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل سفك دم المسلم على هذا الوجه، الذي فيه التواطؤ أو يشعر بالتواطؤ مؤذناً بزوال العهد والذمة لهم. إذاً: يُفرَّق في مسألة القتل: فإذا قتل القاتل منهم فإنه يُقتَل، إذا كانت جريمة منفردة. أما إذا كانت جريمة عن تواطؤ، وكانوا ينظمون لذلك، أو يهيئون له، فإنهم حينئذ يتحملون جميعهم مسئولية ما أتى من جرم، ويكون هذا نقضاً للعهد، لما فيه من الخيانة والغدر بالمسلمين، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حينما غدر به اليهود وأرادوا أن يرموا الحجر عليه، حينما أمروه أن ينتظر، فعد ذلك ناقضاً للعهد بينه وبينهم. وأما إذا قتل الذمي كافراً، فإن أصل العقد حينئذ أننا نقرهم على دينهم، فإذا وقع القتل فيما بينهم فلا يخلو أمرهم من أحوال: الحالة الأولى: أن يترافعوا إلينا، فيأتون عن طواعية ويقولون: هذا قتل فلاناً، فيرفعون أمره إلى القضاء، بحيث يُحكم فيه بحكم الإسلام. الحالة الثانية: ألَاّ يترافعوا إلينا، بل يترافعون إلى حكامهم وقضاتهم. الحالة الثالثة التي تقتضيها القسمة العقلية: أن يترافع بعضهم ويمتنع البعض. فأما إذا رضي الجميع وترافعوا إلينا وجاءونا عن طواعية منهم، وقالوا: هذا قَتَل رجلاً أو قتل امرأةً منا، فنريدكم أن تحكموا بحكم الإسلام، فللعلماء في هذه المسألة خلاف مشهور: القول الأول: قال بعض أهل العلم: إن ترافع إلينا أهل الذمة، وجب علينا أن نطبق عليهم حكم الشرع، ولا نميل إلى دينهم، وإنما نحكِّم فيهم حكم الله عز وجل في عباده المسلمين. القول الثاني: أنه يخير القاضي، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. القول الثالث: التفصيل في هذه المسألة. أما بالنسبة للقول الذي يقول: إنه يجب عليه أن يحكم بينهم بحكم الإسلام فهو أصح الأقوال، فإذا ترافعوا إلينا وجب على القاضي أن يحكم بينهم بحكم شريعة الإسلام وذلك بدليل الكتاب والسنة. أما دليل الكتاب: فإن الله عز وجل قال في كتابه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فهذه الآية الكريمة محكمة ناسخة للتخيير الذي في قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} [المائدة:42] فخيره الله عز وجل بين الحكم بينهم والإعراض عنهم، ثم نسخها قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49] وقد قال مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح، وطائفة من أئمة السلف وأئمة التفسير رحمهم الله: إن التخيير في آية المائدة منسوخ، ومن هنا قال بعض العلماء: إن هذه السورة الكريمة -أعني: سورة المائدة- كلها مُحْكَمة إلا آيتين: الآية الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]. والآية الثانية: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} [المائدة:2]. فالمقصود أن أصح الأقوال: أنه يجب عليه أن ينفذ فيهم حكم الشرع؛ لكن المشكلة أنهم حينما يحتكمون إلينا في جرائمهم فإنه سيكون الشهود منهم؛ لأن المعاملات والحوادث التي تقع بينهم غالباً لا يشهدها إلا كفار منهم ومن نحلتهم، فهل تقبل شهادة بعضهم على بعض؟ هذا فيه تفصيل: فإما أن تكون شهادة بعضهم على بعض مع اتحاد الملة، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، ومجوسي على مجوسي، فلا إشكال، والصحيح أنه تقبل شهادتهم لوجود الضرورة، ومن هنا قَبِل الله عز وجل شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم إذا حضره الموت لوجود الضرورة، وهذا يختاره جمع من الأئمة والسلف رحمهم الله. الحالة الثانية: شهادة بعضهم على بعض مع اختلاف الملة، كشهادة اليهودي على النصراني، والنصراني على اليهودي، أو يشهد بعض أهل المذاهب المختلفة عندهم والتي بينها عداوة، فإذا شهد أهل ملة على أخرى، فإن هنا شبهةً، وذلك لوجود العداوة بين المذهبين وبين الملتين، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في باب الشهادات. الحاصل: أنه يجب على الحاكم أن يحكم بينهم بحكم الإسلام. ودليل السنة: حديث البراء بن عازب في قصة اليهوديين اللذَين زَنَيا وهما محصنان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِما، فحكم بينهم بحكم الإسلام، ولم يجعل ذلك على التخيير ولم يُعرِض عنهم عليه الصلاة والسلام، فدل على أنه تلزمهم أحكام الإسلام، وأنه يجب على الحاكم أن يقضي بينهم بشريعة الله فقط، دون غيرها من الشرائع والملل. أما إذا لم يترافعوا إلينا، فإننا نتركهم على دينهم وملتهم، وقد قرر العلماء والأئمة ذلك، فإننا حينما عقدنا معهم عقد الجزية وعقد الذمة، فإن هذا يستلزم ترك قضاتهم وأحكامهم، ولذلك تركوا على شرب الخمر، وأكل الخنزير، والصلاة في كنائسهم، وهي من أمور دينهم وملتهم، فلما كانوا يتعبدون ويتقربون إلى ربهم، ويعتقدون أن قضاتهم هم الذي يحكمون بينهم في شريعتهم، فإن المرد إلى حكامهم وقضاتهم؛ لأننا لو تدخلنا فيهم في هذه الحالة، فمعنى ذلك أننا جعلناهم كالمسلمين سواءً بسواء من كل وجه، وليس المراد أن يكونوا كالمسلمين من كل وجه، بدليل أنهم أقروا على دينهم، والله تعالى أمر بأخذ الجزية منهم من أجل أنهم تُرِكوا على دينهم يفعلون ما يعتقدونه في شريعتهم. وعلى هذا: إن ترافعوا إلينا حكمنا فيهم بحكم الإسلام على الصحيح. وإن لم يترافعوا تركناهم ودينهم. وإن رضي بعضهم بالترافع وامتنع البعض، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إنه في هذه الحالة يُرْجع إلى الأصل من عدم التدخل في شئونهم، حتى تتفق كلمتهم على نقل الحكم إلى الإسلام. هذا إذا حصل القتل، فقد اتفق بين الشرائع على أنه لا يجوز سفك الدم الحرام، وكذلك أيضاً الاعتداء على الأنفس بالضرب والجرح، كأن يعتدي يهودي على آخر، فيقطع يده، أو يجرحه أو يطعنه، ولا يموت، فهذا اعتداء على الأنفس، فحينئذ يقتص منهم ويلزم الإمام أن يأخذهم بحكم الإسلام في هذا. فقوله رحمه الله: (ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام) أي: يلزمه أن يطبق وينفذ فيهم شريعة الإسلام الحالات التي يعاقب فيها أهل الذمة قوله: [ويلزم الإمام أخذهم بحكم الإسلام في النفس والمال والعرض] (في النفس والمال): النفس تطلق على معانٍ: - النفس بمعنى الروح. - وتطلق على الجسد والروح معاً. - تطلق ويراد بها: الدم، ومنه سمي النفاس نفاساً لوجود الدم فيه. - وتطلق النفس بمعنى: العين، تقول: رأيت محمداً بنفسه، أي: بعينه وذاته. فالمقصود أن قوله: (في النفس) يشمل هذا نوعين من الجرائم: النوع الأول: ما فيه إزهاق للأرواح. النوع الثاني: ما فيه إتلاف للأعضاء، كأن يطعن، أو يقطع اليد، أو يقطع الرجل، أو يفقأ العين، أو يفعل فعلاً يعيق مصالح البدن، فهذا من الاعتداء على الأبدان، وحينئذ يُقْتَصُّ منهم، وينفذ فيهم حكم الله عز وجل على التفصيل الذي ذكرناه. هذا بالنسبة للاعتداء على الأنفس. (والمال) الاعتداء على الأموال، كأن يسرق الذمي أو يغتصب المال، فإذا سرق مال مسلم، فحينئذ ينفذ فيه حكم الإسلام، وإن اغتصب حق مسلم نُفِّذ فيه حكم الإسلام، وإن فعل الحرابة وقطع الطريق وأخاف السبل، طلباً للأموال، فإنه حينئذ ينقض عهده ويباح دمه، ويصبح حكمه حكم الحربي، من وجده قتله، وهذا بالنسبة لحال نقضه للعهد في جمعه بين أخذ المال، وإخافة السبل. (والعرض) الاعتداء على الأعراض، كأن يعتدي على العرض بالزِّنا، فإن الزِّنا مجمع على تحريمه بين الشرائع، وحينئذ لا شبهة للذمي ولا تأويل له إذا فعل الزِّنا، سواء كان بمحرم أو بغير محرم، فالزِّنا متفق على تحريمه، فيؤاخَذ به، والدليل على ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حينما رجم اليهوديين الزانيين. إذاً: الخلاصة: إن وقع الذمي في محرم من المحرمات أو فعل جريمة من الجرائم، فإما أن تكون متفقاً على تحريمها بين المسلمين والذميين، فنفصِّل، ونقول: إن كانت على مسلم أقمنا حكم الإسلام عليه، وإن كانت بين بعضهم البعض فننظر: إن ترافعوا إلينا، حكمنا عليهم بحكم الإسلام، وإن لم يترافعوا إلينا تركناهم وشريعتهم، وما رضوا بحكمه فيما بينهم. هذا بالنسبة للذي اتُّفق على تحريمه. النوع الثاني: الذي فيه شبهة في دينهم، كأن يفعلوا من المحرمات ما فيه شبهة في دينهم، كشرب الخمر، فشرب الخمر محرم في ديننا، ومباح في دينهم، وحينئذ يَرِد السؤال هل نؤاخذهم بديننا أم نؤاخذهم بدينهم؟ فيه تفصيل: فما يفعله الذمي متأولاً لدينه ينقسم إلى قسمين: الأول: ما يكون بأصل سماوي، كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، فهذه فيها أصل سماوي بإباحتها، فحينئذ يفعلها اليهود والنصارى، ونقول فيمن فعل ذلك من أهل الذمة: - إن فعلها في بيته مستتراً فلا إشكال، فقد تدين بما يعتقد حله ولا يؤاخَذ. - وإن ظهر أمام الناس ففعلها في السوق -مثلاً- أو شرب الخمر وخرج إلى الخارج، فحينئذ يطبق عليه حكم الإسلام، ويؤاخذ بذلك على تفصيل: فبعض العلماء يرى أنه يعزَّر، وبعض العلماء يرى أنه يُجْلد، كالمسلم إذا شرب الخمر. هذا بالنسبة للحالة الأولى، وهي: أن يفعل ما هو جريمة في ديننا دون دينه. الثاني: ما ليس له أصل سماوي، كمجوسي يطأ مَحْرَمه، فعند المجوس -والعياذ بالله- أنه يجوز نكاح المحارم، فيتزوج الرجل منهم بِنْتَه، وأمَّه، وأختَه والعياذ بالله! وهذا الفعل ليس لهم فيه أصل سماوي، ومن هنا فإن هذا الفعل -مع أنهم يعتقدون جوازه- لا نقرهم عليه، ولو كان في بيوتهم أو في أنكحتهم، ويدل على ذلك: أنه جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد في الأمصار: أن يفرقوا بين كل مجوسي ومجوسية من ذوات المحارم فلا يقر المجوسي على نكاح ذات المحرم. فالخلاصة فيما يفعله أهل الذمة مما يتأولون فيه: أولاً: إما أن يتأولوا بما له أصل من دين سماوي، كشرب خمر، وأكل لحم خنزير، ونحو ذلك، فهذا نفرق بين أن يكون ظاهراً ومستتراً: - فإن كان مستتراً عذرناهم. - وإن كان ظاهراً آخذناهم. لكن هل نؤاخذهم بالحد كما يحد المسلم، أم أننا نؤاخذهم بالتعزير ويرجع الأمر إلى اجتهاد القاضي والحاكم؟ قولان للعلماء. ثانياً: إذا فعلوا ما يعتقدون حله مما ليس له أصل في دين سماوي، كوطء المجوسي لذوات المحارم، فإنه ليس له أصل سماوي، والسبب في هذا عندهم: أنه كان لهم عظيم من عظمائهم شرب الخمر، ووطئ ابنته أو أخته -والعياذ بالله- وهو سكران، فلما وطئها، انكشف أمره بعد أن صحا، فأرادوا قتله، فلما أرادوا قتله، قال الخبيث: ألا هل تعلمون شريعةً أفضل من شريعة آدم؟ قالوا: لا، قال: إن آدم كان ينكح الأخت من أخيها، فلما قال لهم ذلك، انقسموا إلى طائفتين: - طائفة أقرته. - وطائفة أنكرت، وبقيت على الإصرار على قتله، فاقتتلوا. وقد ورد في هذا أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه مُتَكَلَّمٌ في سنده. لكن أياً ما كان، فقد بقي هذا في دينهم، وبقي عندهم أن وطء المحارم جائز، وإذا فعل مسلم ذلك، واعتقد حله، وقال: إن وطء المحارم أو الزواج بهن مباح، فإنه يكفر بإجماع العلماء رحمهم الله. قال رحمه الله: [وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه، دون ما يعتقدون حله]. أي: يلزمه أن يقيم الحدود عليهم، فيما يعتقدون تحريمه، لا ما يعتقدون حله، فيقام عليهم حد الزِّنا؛ لأنهم يعتقدون أنه حرام، ولا يقام عليهم حد الخمر؛ لأنهم يعتقدون أن الخمر حلال. هذا الذي جعل المصنف -رحمه الله- يفرق بين ما يعتقدون حله، وبين ما يعتقدون حرمته لزوم تميز أهل الذمة عن المسلمين قال رحمه الله: [ويلزمهم التَّميُّز عن المسلمين] أي: يلزم أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين، وهذه الأمور شرع المصنف في بيانها، ووردت في كتاب أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين المهديين -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- عمر بن الخطاب، وهذا الكتاب وقع في عدة حوادث في عصره رضي الله عنه وأرضاه، فقد كتب عبد الرحمن بن غنم كتابه في الصلح بينه وبين أهل الذمة، وكذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه مع أهل الحيرة، وغيرهم من أمراء الأجناد، كتبوا كتباً أقرهم عليها عمر رضي الله عنه وأرضاه، فصارت أصلاً في معاملة أهل الذمة. وهذه الكتب فيها شروط بين المسلمين وبين أهل الذمة. والقاعدة التي ينبغي وضعها في الحسبان: أنه يتفق أهل العقول المستقيمة على أنه لا يمكن أن يُقَر من يخالفك إذا أعطيته أماناً وعهداً لكي يفعل ما يشاء؛ لأنه لم يحدث بينك وبينه ما حدث من عداوة وشحناء إلا بسبب ما بينك وبينه من الخلاف، فإذا رضي العدو لعدوه أن يبقى عنده، فهذا خلاف الأصل، فإن أراد أن يبقيه عنده على هواه، وعلى فكره وعلى عداوته، كان ذلك أشبه بالخَرَق والجنون، إذ ليس هناك إنسان له عقل وحكمة يأتي بمن يخالفه ويعاديه، ويتركه في حضنه وحجره، يدفع عنه ويقوم بحقوقه، مع أنه يدعو إلى خلافه وإلى أذيته والإضرار بكرامته ودينه. ومن هنا فإن أهل الكتاب في الأصل أعداء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يمكن أن يقرهم الإسلام على ما فيه ضرر بالإسلام أو بالمسلمين، والعقد الذي بينهم وبين المسلمين إنما يقوم على أن يحفظوا لنا حقوقاً، ونحفظ لهم حقوقاً، وتكون هذه بمثابة الذمة بيننا وبينهم، فإن أخلوا بها، فهناك ما يوجب انتقاض عهدهم، وهناك ما فيه تفصيل وخلاف بين أهل العلم رحمهم الله. وهذا الأمر واقع إلى الآن، فإن الأمم والشرائع والدول كلها ترى أن من حقها أن من وطئ أرضها أو نزل على محلها، أن تلزمه بما ترى، وأن تقيده بما تحس أن مصالحها مرتبطة به، وأن درء المفسدة عنها متوقف عليه، فتلزم كل من أتى إليها بذلك، فليس من الغريب أن نقول هذا الكلام، حتى نرد شبهة من يطعن في المسلمين حين ترد هذه الكتب، فيقال: انظروا كيف يتشدد المسلمون؟! حتى نجد بعض كتاب المسلمين يتسامح في هذه الشروط، بل تجد بعض كتب الشروط العمرية يعلق عليها مَن يشكِّك في صحة هذه الكتب، ويقول: إنها لا تتفق مع سماحة الإسلام، وكأنه يريد أن يجلس أهل الذمة مع المسلمين، لا فرق بينهم وبين المسلمين، فنصير بين أمرين: - إفراط. - وتفريط والقسط والعدل لا بد منه، فأهل الذمة نحفظ حقوقهم، ونحس أن لهم علينا حقاً علينا أن نحفظه، وذمة بيننا وبينهم لا ينبغي أن تُخفَر؛ لكن كذلك ينبغي أن يشعروا ما هو الإسلام، وأن يشعروا من هم المسلمون، وأن يكونوا على ذلة وصغار، وهذا هو الذي عناه الله بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فلم يقل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] وسكت، فليس الإسلام بجائع حتى يُطْعَم، ولا بفقير حتى يستَغْنِي بهذا المال، فهو في عزة من الله وكرامة من الله وغنى منه سبحانه وتعالى، وإنما فُرِضت هذه الأمور حتى يكونوا تحت طواعية الإسلام وتحت قهره. فإذاً: لا بد من الوسطية، فنلزمهم بحفظ حقوقٍ يشعرون معها بذلتهم وعزة المسلمين، ويشعرون معها بمهانتهم وكرامة الإسلام، ترغيباً لهم في دين الله، وإشعاراً لهم بكلمة الله، فيصير أهل الأرض حينئذٍ يدينون لله، وتحت كلمة الله من هذا الوجه، أما أن يبقى الذمي في بلاد المسلمين يفعل ما يشاء، ويفعل ما يريد، فهذا أبداً لا يمكن أن يكون، فأهل العقول في حياتهم وفي ظروفهم وفي معايشهم لا يمكن أن يتركوا لإنسان يعادي دينهم أو نحلتهم أو فكرتهم أن يفعل ما يشاء. ومن هنا: إذا بقي الكفار تحت سطوة المسلمين، فينبغي أن يُحفظ الإسلام من كيدهم ومكرهم وأذيتهم، وهذا يستلزم أمناً فكرياً وأمناً ذاتياً، والأمن الفكري يستلزم أن توضع شروط وضوابط يُمنع فيها أهل الكتاب من فتنة المسلمين عن دينهم، ويُمنع فيها أهل الكتاب من إحداث أمور تدعو المسلمين إلى متابعتهم أو الرضا بشريعتهم، هذا بالنسبة لما يكون من جهة الفكر. أما من جهة التصرفات والأفعال فهناك أمور سُنَّتْ سُنَّةً، وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبقيت في عهود الإسلام والمسلمين أُشْعِر فيها أهل الذمة بما ينبغي أن يُشْعَروا به، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل في قوله: (لا تبدءوا أهل الكتاب بالسلام) فنهى عليه الصلاة والسلام عن بداءتهم بالسلام، إشعاراً لهم بالصغار والذلة بين المسلمين، وحتى يتميز الفريقان، إذا لو نشأ الكفار بين المسلمين دون هذه الضوابط فستنشأ أجيال المسلمين ترى أنهم مع المسلمين كالشيء الواحد، وحينئذ لا يؤمَن أن يختلطوا، ولا يؤمَن -نسأل الله السلامة والعافية- أن ينجرف بعض المسلمين إلى دينهم، ويحصل خلاف مقصود الشرع، إذ أن مقصود الشرع من عيشهم بين المسلمين أن يأتي اليوم الذي يرون فيه سماحةَ الإسلام ومِنَّتَه وفضلَه ويدَه، فيدخلون فيه، ويكون سبباً في نجاتهم في الآخرة. يقول رحمه الله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) هناك أمور فكرية سينبه عليها المصنف مثل: ألا يظهروا كتبهم، سواءً بالقراءة أو بغيرها، فلا يقرءون كتبهم جهرةً، وتُسمع قراءتهم بين المسلمين، ولا يقرءون بها في مجامع المسلمين، إنما يقرءون بها في كنائسهم وفي بِيَعهم وفي صلواتهم، ولذلك في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40]، قال بعض المفسرين: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} [الحج:40] لولا دفع الله بالمؤمنين، ومن هنا أقر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن بعده من الخلفاء الراشدين كنائس أهل الذمة في بلاد المسلمين بضوابط معينة، وأصول معينة؛ لكي يقرءوا فيها، ويقوموا فيها بأذكارهم وصلواتهم، داخل هذه الصلوات والبِيَع والكنائس، ولا يظهرون شيئاً من دينهم، فهذا من جهة الفكر؛ لئلا يتأثر المسلمون. - كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من عقائدهم، فلا يظهرون شركياتهم كقولهم: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ، وقولهم: إن المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً! فلا يُظهِرون شيئاً من شركهم، حتى يأمَن المسلمون في عقيدتهم، فإنه لا بد من الأمن في العقيدة. - كذلك أيضاً لا يُظهِرون شيئاً من منكراتهم -كما ذكرنا- من شرب الخمر، وأكل الخنزير وإظهار الصليب، ونحو ذلك من الأمور التي فيها دلائل يتميزون بها بدينهم. - كذلك أيضاً لا تكون لهم صولة وعزة في بلاد المسلمين؛ لأن الله نفى ذلك، فقال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة:29] ثم وصفهم بحالة واحدة، فقال: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فمعناه: أن عيشهم ووجودهم بين المسلمين موصوف بالصغار، وهذا يستلزم ألَاّ يعلو بناؤهم على بناء المسلمين، وألَاّ تكون لهم صدارة المجالس، وغير ذلك من الأمور التي وردت في الشروط العمرية، وكذلك في كتاب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لأهل الحيرة، وفي غيرها من العهود التي عقدت بين المسلمين وبين أهل الذمة. وقوله: (ويلزمهم التميز عن المسلمين) أولاً: في أبدانهم. ثانياً: في ثيابهم. ثالثاً: في بيوتهم، ومساكنهم. رابعاً: في مراكبهم يتبع
__________________
|
#268
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب الجهاد) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (263) صـــــ(1) إلى صــ(20) تميز أهل الذمة في شعورهم وذواتهم أما تميزهم في شعورهم وذواتهم: فإنه مما ورد في كتاب عمر رضي الله عنه وأرضاه، وجرى عليه العمل، فتُجَزَّ نواصيهم، أي: مقدمة رءوسهم، لأجل إذا رآهم المسلم لا يظنهم من المسلمين، فيُعرَفون ويتميزون، فتُجَز لهم النواصي، ولا يُفْرَق شعرهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سَدَل وفَرَق، وكان الفَرْق آخر ما كان من عهده عليه الصلاة والسلام وسنته، وفَرْقُ الشعر: أن يَفْرِق الشَّعَرَ من نصفه فيقسمه إلى فرقتين، خاصةً إذا طال الشعر، وقد كانوا في القديم لا يحلقون شعورهم غالباً، فأهل الكتاب لا يَفْرِقُون كالمسلمين، حتى يكون هذا تمييزاً لهم، ولا يجوز للمسلم أن يوافقهم في هيئاتهم في الشعر، ومن الأمور التي تميزهم: حلق أطراف الشعر، وكان هذا من شعار اليهود، فالحلق الموجود الآن الذي يُحْلق فيه طرف الشعر من جهة اليمين، وطرفه من جهة اليسار، وهو الذي يسمى بالقَزَع، أو تخفيف الشعر من الطرفين وإسداله من وسطه، هذا مما كان لأهل الذمة بين المسلمين، ويفعله اليهود، فيتميزون في شعورهم تميز أهل الذمة في مراكبهم ويتميزون في مراكبهم: فلا يركبون الخيل؛ لأن ركوب الخيل عزةٍ وكرامة، لذلك قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] وقد جاء في بعض كتب الشروط العمرية، منعهم من ركوب الخيل، فيركبون الحمير وغيرها من المراكب الأُخَر تميزاً لهم؛ لأنهم إذا ركبوا الخيل كانت لهم عزة وكرامة، والله يقول: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فهم بين المسلمين لا بد أن يصْغُروا، فإن قال قائل: إن عندهم مصالح وحوائج، نقول: إن البغال والحمير وغيرها من الدواب تقضي هذه المصالح، والخيل إنما تكون غالباً للجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد جعلها الله عز وجل من متاع الدنيا ومن زينتها، فإذا تزيَّنوا تميَّزوا وعزُّوا وبزُّوا، وكان لهم شيء من الصولة على المسلمين تميز أهل الذمة في بيوتهم يتميزون في بيوتهم: فلا تكون بيوتُهم عالية على بيوت المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه) وسنبين التفصيل في هذه المسألة بين أن يكون بناؤهم بين المسلمين وبين أن يكونوا منفردين ومنعزلين عن المسلمين تميز أهل الذمة في مجالسهم ويتميزون في مجالسهم: فلا يكون لهم حق الصدارة في المجلس، ولا يجلسون في صدر المجلس؛ لأنه موضع إكرام، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وجُعِل الصغار على من خالفني) فثبت في السنة الصحيحة أن مَن خالف ملة الإسلام، فينبغي أن يكون في صغار، فإذا جلس في صدر المجلس فإن هذا إكرام له، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه) والتكرمة: هي صدر المجلس، فإذا كان المسلم لا يجوز له أن يجلس في صدر المجلس إلا بإذن صاحب المجلس، فكذلك أيضاً لا يجوز إجلاس أهل الذمة من باب أولى وأحرى. لكن لو أن صاحب الدار أجلسه في صدر المجلس! لا يُجْلَس، ولو أذِنَ صاحب الدار؛ لأن الحق للإسلام وليس له هو، فليست قضية الجلوس في صدر المجلس قضية شخصية، وحتى لو أنه أراد أن يعلي بناءه وأذِنَ له جارُه المسلم، فليس من حقه؛ لأن هذا من حق الإسلام وليس من حق الشخص، فالحقوق تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون شخصياً، فإذا تنازل عنه صاحبه فلا إشكال. ومنها ما يكون حقاً عاماً. ولذلك فإنهم إذا قطعوا الطريق، وأخافوا السبل بالحرابة، فقال أولياء المقتولين: سامَحْناهم، وقال الإمام: يقتلون، فإن من حقه أن يقتلهم؛ لأنه انتقل من الحق الخاص إلى الحق العام. ففي هذه المسائل التي ذكرناها الحق فيها للإسلام، لقوله عليه الصلاة والسلام: (وجُعِل الصَّغار على من خالفني) فكأن هذا الصَّغار مرتبط بمخالفة الإسلام، وليس بمرتبط بحق شخصي حتى يُبْحَث عن كونه يؤذَن له أو لا يؤذَن له، أو يتنازل شخص فيجلسه في مكانه في صدر المجلس أو نحو ذلك، إنما هو حق عام يرجع إلى الإسلام، فلا يُنْظَر فيه إلى التنازل عدم ركوب أهل الذمة الخيل المسرجة قال رحمه الله: [ولهم ركوب غير خيل بغير سرج بإكاف]. (بغير سرج بإكاف) وهو البرذعة، والمقصود من هذا: أن يكون لهم تميز، بحيث إذا رأيته في مركبه تعرفه، وكل هذا -كما ذكرنا- جاء في سنة عمر رضي الله عنه، وجرى عليه عمل أئمة الإسلام مع أهل الذمة، أنه لا بد من تميزهم في مشيهم؛ لأنهم إذا مشوا على مراكبهم كالمسلمين لم يتميزوا، فلا بد أن يتميزوا في دورهم، ولا بد أن يتميزوا في سيرهم على دوابهم، ولا بد أن يتميزوا حتى إذا دخلوا حمامات المسلمين للاغتسال، وقد ذكر هذا غير واحد من الأئمة، كالإمام ابن قدامة رحمه الله، والإمام الشيرازي رحمه الله من الشافعية، وغيرهم من الأئمة؛ لأن المراد أنهم إذا خالطوا المسلمين لم يشعر المسلمون أنهم منهم. وتطبق السنة عليهم؛ من عدم السلام عليهم، واضطرارهم إلى أضيق الطريق، وكل ذلك لا يكون إلا بعلامة مميزة، وهذا هو الذي جعل العلماء يجتهدون في تطبيق السنة بالتميز؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بلازمِه، فإذا كنت لا تستطيع أن تطبق السنة في الذمي إلا بمعرفته، فلا بد من وجود علامة يتميز بها، ومن هنا قيل بلبس الغيار، وشدِّ الزِّنَّار، والمراد بلبس الغيار: أن يكون لهم لبس خاص غير لبس المسلمين، فيتميزون به، ويُعرفون، وهذا دَرَجَ عليه المسلمون رحمهم الله في القرون الأُوَل، فكانوا يلزمونهم بلباس معين، حتى لا ينخدع المسلم إذا رآهم فيظنهم من المسلمين تصدير أهل الذمة في المجالس والقيام لهم قال رحمه الله: [ولا يجوز تصديرهم في المجالس]. [ولا يجوز تصديرهم] تصديرهم: من الصدر، وصدر المجلس يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون في وجه عورة البيت، وهو مدخل المضيف من داخل بيته، فيستقبله ذلك الصدر، وهذا يسمى بالتكرمة والصدر، وهذا لا يجوز أن يجلس فيه الإنسان إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يجلس فيه الذمي. الصورة الثانية: أن يكون متميزاً بالفضل في الهيئة كالفراش ونحوه، أو في الحال، فصدر المجلس مثلاً: إذا كان الموضع هو أبرد وأفضل موضع في المجلس والفراش فيه وفير، فهذا هو صدر المجلس، ولا يجوز أن يُجلس فيه إلا بإذن صاحب الدار، ولا يجوز أن يُجلس فيه الكافر. فصدر المجلس فيه مسألتان: المسألة الأولى: أنه لا يَجلس فيه المسلم إلا بإذن صاحب الدار. المسألة الثانية: أنه لا يجوز إجلاس الذمي فيه. قال رحمه الله: [ولا القيام لهم] أي: للكفار؛ لأن القيام إجلال، والقيام للمسلم مشروع، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة مشروعية القيام عند السلام، وأما كراهيته عليه الصلاة والسلام للقيام، فهذا ثابت به النص الصحيح، ولكنه القيام المخصوص الذي يقوم فيه الغير دون أن يسلِّم، كما يفعله بعض الناس إذا دخل إلى المجلس حيث يقومون له دون سلام، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال عنه: (لقد كدتم تفعلون فعل الأعاجم) فقد كانوا يفعلونه من باب التعظيم، ونُهي عن ذلك لما فيه من الغلو، وسداً لذريعة الغلو. وعلى هذا: فإن النهي الوارد منه عليه الصلاة والسلام إنما هو عن القيام المجرد عن السلام، أما القيام للسلام أو القيام للضيف، وللعالم، أو لذي الحق، فإنه من شيم الكرماء، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة: أنه كان إذا دخل على فاطمة قامت له فقبلت يده، وأجلسته مجلسها، وإذا دخلت عليه قام لها عليه الصلاة والسلام وأجلسها مجلسه، إكراماً لها، فقد قام عليه الصلاة والسلام لبنته، وهذا قيام الرحمة، وقامت البنت لأبيها، وهذا قيام الإجلال والإكرام، فشمل النوعين: - أن يكون القيام بسبب الرحمة، كقيام الوالد لولده، وقيام الكبير للصغير. - والقيام بسبب الإكرام والإجلال، كقيام الابن لأبيه، وقيام صغير المسلمين لكبيرهم؛ لأن هذا من إجلال ذي الشيبة المسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله: إجلال ذي الشيبة المسلم) وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقر طلحة رضي الله عنه حينما قام لـ كعب بن مالك -كما في صحيح البخاري- حينما نزلت توبة الله على كعب، قال: (فقام لي يَجُرُّ رداءه، فحفظتها له) ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على طلحة قيامه. وكذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال للأوس عندما جاء سعد: (قوموا إلى سيدكم) وقوله: (فأنزلوه) لا يقتضي التخصيص، كما لا يخفى في الأصول، فإن قوله: (فأنزلوه) إنما هو علة التشريك، وليس المراد به محض الحكم؛ لأن قوله: (قوموا إلى سيدكم) إشعار بالحق وإشعار بالفضل، فلما قال: (فأنزلوه) إشعار بالحاجة، فجمع بين الحاجة وبين الحق. وكذلك أيضاً يُقام لحَفَظَة كتاب الله عز وجل، ويقام للضيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). والنفوس تستهجن أن يدخل ذو الشيبة المسلم على صغير من صغار المسلمين فيسلم عليه، وإذا به جالس والآخر قائم على رأسه، فهذا لا يمكن أن ترتاح له النفوس، بل إن الطباع تنفر من هذا الفعل، وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يظهر- أنه إذا دخل ذو الحق كالعالم، وحافظ كتاب الله، وكبير السن، ومن له فضل أن يصافحه الإنسان وهو جالس، فهذا من الصعوبة بمكان، خاصة وأن النص حينما ورد بالنهي عن القيام جاء ما يخصصه، وجاء عندنا في الشرع الأمر بإكرام الضيف مطلقاً، يقول العلماء: إن ما ورد من الشرع مطلقاً كإكرام الضيف ونحوه، فإنه يؤذَن به بما جرى به العرف والعادة واستقر الناس عليه، أو جرى تعامل الناس عليه، فهذا يعتبر من إطلاقات الشرع، ولا بأس على الناس في فعلهم وقيامهم به. وعلى هذا: فإنه لا يجوز القيام للذمي، ومن هنا كان سلامك على الذمي وأنت جالس احتقاراً له، وانتقاصاً له، وصغاراً له، ولا يجوز فعل الصغار بالمسلم؛ لأنه ليس من العدل، يقول الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] فأمر الله عند التحية بأحد أمرين: - إما أن نكافئ من حيانا بمثل ما حيانا به وزيادة. - وإما أن نرد بالمثل. فإذا جاءك يسلم عليك وهو قائم، فقد حياك قائماً، فتحييه قائماً كما حياك قائماً، فإن حييته جالساً فحينئذ لم ترد له تحيته كما حياك، وعلى هذا: إذا جاء الذمي حييته بما يشعره بالصَّغار، وإذا جاء المسلم حييته بما أمرك الله عز وجل وهو رد تحيته بالمثل، أو ردها بما هو أفضل، لعظم الأجر في ذلك حكم السلام على الذمي قال رحمه الله: [ولا بداءتهم بالسلام]. ولا يجوز أن نبدأهم بالسلام، والنص في ذلك صريح: (لا تبدءوهم بالسلام) والسبب في ذلك: أنه إعزاز لهم وإكرام لهم، واستُثْنِي من هذا، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى) في كتبه عليه الصلاة والسلام للملوك؛ لأن المراد بها الاستعطاف، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سلام على من اتبع الهدى) وهم لم يتبعوا الهدى، وإنما قال العلماء: هذا خاص ولا تعارض بين عام وخاص. بالنسبة للسلام: قيل للإمام أحمد رحمه الله: يقولون للذمي: كيف حالك؟ كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ قال: هو أشد عندي من السلام؛ لأنه نوع من الاعتناء والاحتفاء، وأن حاله يوجب أن يشفق عليه حتى يسأل عن حاله وكيف أصبح وكيف أمسى، وكل هذا سداً لذريعة الموالاة لمن عادى الله ورسوله؛ لأنه لا بد أن يتميز المسلم عن الكافر منع أهل الذمة من بناء الكنائس وترميمها قال رحمه الله: [ويُمنعون من إحداث كنائس وبِيَع، وبناء ما انهدم منها ولو ظلماً]. (ويُمنعون من إحدث كنائس وبيع). ويُمنع أهل الذمة من إحداث الكنائس في بلاد المسلمين، وهذا نص عليه كتاب الشروط العمرية، الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه المفيد (أحكام أهل الذمة)، وبين أنه لا يجوز لهم أن يحدثوا الكنائس في بلاد المسلمين، ولا أن يعيدوا بناء ما انهدم منها، وهذا يدل على أن المراد من عقد الذمة بيننا وبينهم أن يألفوا الإسلام، فلا تمضي فترة من الزمن إلا وقد دخلوا فيه، وهذا هو الذي قُصِد من إيجاد العقد بيننا وبينهم: أنهم يرضون بالإسلام؛ لأن بيننا وبينهم قواسم مشتركة، فدينهم أصله دين سماوي، ومن كان ذا دين سماوي فإنه إذا رأى سماحة الإسلام ويُسره وشريعته، فإنه أحرى أن يتبع ذلك وأن يلتزم به. (وبناء ما انهدم منها) أي: لا يجوز لهم بناء ما انهدم من الكنيسة. وهنا مسألة: إذا انهدمت الكنيسة، فلا تُجَدَّد، ولا يجوز إحداث كنيسة في داخل بلاد المسلمين، وقال أئمة الشافعية: إنهم إذا بنوها في الخراب، أي: بعيداً عن المساكن، وبعيداً عن المدن، فلا بأس وقد سكت عنه بعض العلماء، وقال: إنما يكون المنع إذا كان في داخل بلاد المسلمين، فيُمنعون من إحداثها ومن تجميلها وتزويقها، فلا يكون لهم بها شعار يتميزون بها في الظاهر، ولا تُجَدَّد ولا ترمم في الظاهر، حتى تكون جاذبةً للغير إليها، أو يكون لهم بها عزة، وقد أمر الله عز وجل أن يكونوا في صغار، فلا بد أن يكون الصغار شاملاً حتى لأمور طقوسهم وأمورهم التي يتعبدون بها. وهنا مسألة وهي: إذا آل الجدار إلى السقوط، وأرادوا أن يحفظوا كنيستهم فماذا يفعلون؟ قالوا: يبنى الجدار من داخل الكنيسة؛ لأن هذا ليس بتجديد، ولا يعتبر تجديداً لما انهدم، فيهدم الجدار الأول، ثم يبنى الثاني من داخله، ثم ينهدم الذي بعده، فيبنى من داخله، وهذا ذكره غير واحد من العلماء رحمهم الله، كل ذلك منعاً للإحداث، فيتقاصر أمرهم حتى يضيق عليهم، وكل هذا -كما ذكرنا- إعمالاً لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فيكون الصَّغار في دينهم كما كان الصَّغار في أمور دنياهم. (ولو ظلماً) إشارة إلى خلاف مذهبي، أي: ولو هدمت ظلماً، فبعض العلماء يرى أنها إذا هدمت ظلماً فإنه يُسمح لهم أن يعيدوها، وهذا القول في الحقيقة له وجه من النظر والقوة، يقول بعض العلماء رحمهم الله: لأن بيننا وبينهم عقد عهد وذمة، وينبغي أن ننصفهم، فهم التزموا بأداء جزيتهم، وقاموا بالحق الذي يجب عليهم، فينبغي علينا أن نحفظ كنائسهم، فنترك لهم كنائسهم، ونترك بِيَعهم وصلواتهم، وهذا هو الوسط، فلا نقدم على هدمها بدون حق، فإذا هُدِمت بدون حق، فهذا يقوى فيه أنها تعاد لهم، وهو قول بعض العلماء، وأشار المصنف إلى هذا الخلاف بقوله: (ولو ظلماً) منع أهل الذمة من رفع بنيانهم على المسلمين قال رحمه الله: [ومن تعلية بنيانٍ على مسلم، لا من مساواته له]. (ومن تعلية بنيانٍ على مسلم) لا يجوز أن يكون بناء الكافر الذمي فوق بناء المسلم، وإنما يكون بناؤه مساوياً له أو دونه، وهذا إذا كان جاره مسلماً، أما لو كانوا في حي للكفار أنفسهم أو لأهل الذمة، فتطاول بعضهم على بعض في البنيان، فهذا لا بأس به، ولا حرج فيه، ويُتركون على هذا؛ لأنه لا تنكشف به عورة المسلم، ولا يكون لهم به فضل على المسلمين، ومن هنا فُرِّق بين أن يكون بنيانهم بين المسلمين، وبين أن يكون بنيانهم لهم في داخل أحيائهم، أو مدنهم أو قراهم، فإنه حينئذ لا يكون فيه مخالفة للنص في قوله عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يَعْلُو ولا يُعْلَى عليه) فإن فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون المسلم أعلى من الكافر. (لا من مساواته له) في حكم مساواة الكافر للمسلم في البنيان قولان: قال بعض العلماء: ينبغي أن يكون أدنى من بناء المسلم. وقال بعض العلماء: يجوز أن يساويه، وهذا هو الذي صححه غير واحد من العلماء، واختاره المصنف رحمه الله منع أهل الذمة من إظهار المحرمات والجهر بدينهم قال رحمه الله: [ومن إظهار خمرٍ وخنزيرٍ وناقوسٍ وجهرٍ بكتابهم] قوله رحمه الله: (ومن إظهار خمر) التقدير: ويُمنعون من إظهار خمر، كما ذكرنا، والخمر مأخوذ من خمَّر الشيء إذا ستره، وسميت الخمر خمراً لأنها تسكر العقل وتغيِّبه، والعياذ بالله! (ومن إظهار خمر): أي: أنهم إذا شربوا الخمر فيشربونها في بيوتهم، ولا يشربونها بين المسلمين، فإذا فعلوا ذلك فإنه حينئذ يكون الحكم فيهم ما سبق بيانه، من أنه يطبق عليهم ما يطبق على المسلمين على تفصيل؛ هل يقام عليهم الحد أو يعزرون؟ (وخنزير) فلا يظهرون الخنزير، وكذلك أيضاً لا يتظاهرون بأكله، وإذا كان لهم مطاعم يدخلها المسلمون فلا يجوز أن يكون فيها لحم الخنزير، فإن فعلوا ذلك أوخذوا عليه، وإن أظهروا الخنزير بين المسلمين وأظهروه علانيةً فإنه تسقط حرمة الخنزير، فلا ضمان عليه. (وناقوس) وهو الذي يضرب به لصلواتهم؛ فيضرب بالناقوس داخل بِيَعهم وكنائسهم فقط، وهذا هو الذي تضمنه كتاب الشروط العمرية، وكذلك غيره من الكتب الأخرى، فقد أُذِن لهم أن يضربوا بالناقوس داخل الكنائس لا خارجاً عنها. (وجهرٍ بكتابهم) التوراة والإنجيل، فكونهم يقرءونها، أو يجهرون بأفكارهم بين المسلمين كل هذا من الممنوع والمحظور عليهم، وإذا فعلوا ذلك فتنةً للمسلمين فإنه ينتقض عهدهم، كما سيأتي. قال رحمه الله: [وإن تهوَّد نصراني، أو عكسه لم يُقَر، ولم يُقْبَل منه إلا الإسلام أو دينه] أي: انتقل النصراني إلى اليهودية، أو اليهودي إلى النصرانية، تهوَّد نصراني، أو تنصَّر يهودي، فالحكم واحد أنه لا يُقَر، فإما أن يبقى على دينه، وإما أن يرجع إلى الإسلام، وإلا انتقض عهده ما ينقض عهد أهل الذمة قال رحمه الله: [فصل: وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ، أو التزامَ أحكامِ الإسلام، أو تعدَّى على مسلم بقتلٍ، أو زِناً، أو قطعِِ طريقٍ، أو تَجَسَّسَ، أو آوى جاسوساً، أو ذَكَرَ الله أو رسوله أو كتابه بسوء، انتقض عهدُه دون نسائه وأولاده، وحل دمُه ومالُه] عدم التزام الذمي بالجزية أو أحكام الإسلام ينقض عهده يقول المصنف رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: أبى أن يدفع الجزية، فهناك أمران لا بد من وجودهما في عقد الذمة، وهما: - دفع الجزية. - والالتزام بأحكام الإسلام. فإذا امتنع الذمي من هذين الأمرين لم يصح أن تُعْقَد معه الذمة، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله؛ لأن عقد الذمة يقوم على هذين الأساسين: أولهما: دفع الجزية، وهذا بنص كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والثاني: الالتزام بأحكام الإسلام، فلا يأتي بما يعارض الإسلام أو يتسبب في الأذية والإضرار بالمسلمين، من حيث الأصل والجملة، فبيَّن رحمه الله في هذا الفصل الأمور العظيمة التي إذا فعلها الذمي انتقض بها عهده، وصار حكمه حكم الأصل. فقال رحمه الله: (وإن أبى الذمي بذل الجزيةَ) أي: وَقَع العقد بيننا وبين أهل الذمة، ثم فوجئنا بهم أنهم قالوا: لا نريد أن ندفع الجزية، فإذا قالوا ذلك فقد انتقض عهدهم؛ لأن بيننا وبينهم التزامات، فهم ملزمون بدفع الجزية، والعقد أصلاً قائم على الجزية، فإذا منعوها فحينئذ ينتقض ما بيننا وبينهم من عقد الذمة. وإن أبى أحدهم وقال: لا أدفع الجزية، أو ماطل فيها على وجهٍ يريد به إضاعتها على المسلمين، يكون حكمه كذلك، فيطلبهم الحاكم، ثم يستوثق منهم، فإما أن يدفعوا، وإما أن يبقى في حل من ذمتهم. (أو التزام أحكام الإسلام) إذا قال: أدفع الجزية؛ ولكني أقول ما أشاء، وأفعل ما أشاء، وليس لأحد أن يتعرض لي -ويقع هذا أحياناً حينما يؤخذ ويقال له: كيف تجهر بكتابك؟ فيقول: أنا أفعل ما أشاء- فحينئذ كأنه خرج عن الالتزام بحكم الإسلام، وكأنه نقض ما بينه وبين المسلمين من الالتزام بالإسلام، إذ من الالتزام بالإسلام أن يتقيد بالحرمات والضوابط، وألَاّ يخل بها. وهذا يقع عند الشروط، فإن المسلمين إذا أرادوا أن يعقدوا بينهم وبين أهل الذمة عقداً، فقال أهل الذمة: نعقد ما بيننا وبينكم ونلتزم بحكم الإسلام؛ ولكن لا ندفع لكم الجزية، فلا يصح عقد الذمة، وهذا في قول جماهير العلماء، أنهم إذا قالوا: لا ندفع الجزية، فلا يجوز لأحد أن يعقد معهم الذمة. أما حديث أم هانئ فهذا أمان خاص، فقوله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) هذا يسمى بالجوار، والجوار غير الذمة، فينبغي أن يفرق؛ لأن جوار أم هانئ لا عوض فيه ولا جزية، فلا يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر على الأمان بدون عوض؛ لأننا نقول: هذا شيء وذاك شيء، فهناك الذمة وهناك العهد والأمان، وكل منهما له حكمه الخاص. ولذلك العهد والأمان يبقى مقيداً إلى سماع القرآن، فإذا سمع القرآن فإنه يُبْلَغ إلى مأمنه إذا لم يسلم، أما بالنسبة للذمي إذا سمع القرآن فلا يلزم به، ولذلك قال الله تعالى في الأمان والعهد: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فجعل الأمان مقيداً بالسماع، ثم قال بعد ذلك: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] أي: إذا أصر على كفره فليس له أمان عندنا، وإنما ينبغي أن يرد إلى مأمنه. وأما بالنسبة للذمة فإنه يبقى، ولا بد أن يلتزم بالأمرين. فإن قالوا: ندفع الجزية، ولكن نسميها: ضريبة، أو تسمى باسم آخر، فهذا لهم؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعل ذلك مع المجوس حينما امتنعوا وقالوا: لا تسمِّها جزية، قال: (سموها ما شئتم)، ثم فرضها عليهم رضي الله عنه وأرضاه، وهذا من باب المصلحة، وفيه بُعْد نظر منه رضي الله عنه، طلباً لما هو أعظم، ودفعاً لما هو أبلى اعتداء الذمي على المسلم ينقض عهده قال رحمه الله: [أو تعدى على مسلم بقتلٍ أو زِناً] (أو تعدى على مسلم بقتلٍ): فإذا قتل الذمي مسلماً، فحينئذ يخفر دَمُه، يصبح دمُه هدراً، ويقتل بالمسلم الذي قتله، كما لو قتل المسلم مسلماً عمداً وعدواناً. أما لو قتل مسلماً خطأً، فإنه لا يعتبر موجباً لانتقاض عهده، فهناك فرق بين قتل الخطأ وقتل العمد؛ لأن قتل الخطأ جاء بدون اختياره، ولا يوجب هذا نقض العهد له. (أو زِناً): إذا زَنا الذمي بمسلمة، وفَجَر بها، سواءً عن طواعية -والعياذ بالله- أو عن غصب، ففي كلتا الحالتين يُخْفَر دمُه، وينتقض عهدُه، وهذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه إذا فَجَرَ الذمي بالمسلمة، فإنه حينئذ ينتقض عهده، ويُقتل، وبعض العلماء يرى أنه يقام عليه الحد، كالمسلم سواءً بسواء، ولا يرجم وإنما يُجلد، ولكن الصحيح ما ذكرناه؛ لأنها سنة راشدة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له مخالف من الصحابة، وقد كتب بذلك رضي الله عنه وأرضاه في كتبه. (أو قطعِ طريقٍ): إذا قطع الطريق على المسلمين فإنه في هذه الحالة ينتقض عهده، ويرجع إلى حاله الأصلي، ويصبح مهدر الدم تجسس الذمي أو إيواؤه الجواسيس ينقض عهده قال رحمه الله: [أو تجسَّسَ أو آوى جاسوساً] (تجسَّسَ) أي: تتبَّعَ أخبار المسلمين، فكان عيناً للكفار على المسلمين، وهذا فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي داود وغيره، أنه لما جلس مع أصحابه، فجاء عين من المشركين، فجلس يسترق الحديث، ثم قام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أطلبوه واقتلوه) فأمرهم بطلبه وقتله، فإذا ثبت عليه ذلك، يصبح ضرراً على الإسلام والمسلمين، ويكون قد أراد بعهده وذمته خديعة الإسلام والمسلمين، فيؤاخذ بذلك. وهكذا إذا آوى العين أو الجاسوس؛ فإنه يؤاخذ على ذلك، ويكون حكمه كحكم الأول. (أو ذكر الله أو رسوله أو كتابه بسوء) كأن يسب الله -والعياذ بالله- أو يسب الإسلام، أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها ينتقض بها عهدُه، على أصح قولي العلماء، وهما: الأول: قول الجمهور: يرون أنه إذا سب الله وسب الإسلام وسب المسلمين، أي: سب دينهم وقصد بذلك المساس بالدين وعقيدة المسلمين، فإن هذا يوجب انتقاض العهد بينه وبين المسلمين. الثاني: وقول الإمام أبو حنيفة: لا ينتقض عهده؛ لأنه كافر، وليس بعد الكفر ذنب، فإذا كان من حيث الأصل يعتقد التثليث ويعتقد أن عيسى ابن لله، فإن هذا لا يمنع أن يُتْرَك على ما يعتقده من الكفر. والصحيح: مذهب جمهور العلماء، أنه إذا فعل هذه الأمور فإنه ينتقض عهده؛ لأن هناك فرقاً بين دينه الذي ورد الشرع باستثنائه، وبين غيره الباقي على أصل العموم؛ مع أن الأصل أنه يؤاخذ على الكل؛ لكن جاء الاستثناء في دينه وما يعتقده مما فيه شبهة الكتاب، لوجود التحريف في كتبهم، ويبقى ما عداه على الأصل من المؤاخذة. (انتقض عهدُه دون نسائه وأولاده): (انتقض عهدُه) أي: أصبح لا ذمة له. (دون نسائه وأولاده): وهذا من عدل الإسلام، والإسلام دين عدل ودين رحمة، فلم يؤاخذ أولاده وذريته ونساءه بما فعل من جريمة: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] فلذلك يقولون: ينتقض عهده، وأما أولاده وذريته فإن بقوا بين المسلمين ورضوا أن يبقوا بينهم فبها وأنعِمْ، وإن لم يبقوا بين المسلمين فحينئذ يُخرَجون إلى ديار الكفر ولا تبقى لهم ذمة ولا يبقى لهم عهد. فكونه يُقْدِم على هذه الأمور التي فيها إضرار بالإسلام والمسلمين، هذا موجب لزوال العهد وانتقاضه فيما بينه وبين المسلمين. (وحَلَّ دمُه) أي: أن الإمام يقتله؛ لأنه أصبح كافراً حربياً، إعمالاً للأصل، وإنما أُمِّن لوجود الذمة، فإذا تسبب في إزالة الذمة عن نفسه فقد خُفِر دمُه، وعاد إلى الأصل الموجب لحل سفك دمه، فيفعل به الإمام ما يرى فيه النكال به وبمن على شاكلته من أهل الكفر خلاصة أحكام أهل الذمة ودلائلها بهذا نكون قد انتهينا من أحكام أهل الذمة، وهي في مجملها تدل على أمور مهمة: أولها: لطف الله عز وجل ورحمته بعباده في هذا الدين الذي جعله الله رحمة للعالمين، حتى إن الكفار يعيشون بين المسلمين لهم أمان ولهم عهد، ولا يجوز للمسلم أن يقدم على خيانتهم وخَتْلهم وأذيتهم. ولا يجوز لهم أيضاً أن يقدموا على المساس بحرمة الإسلام وحرمة المسلمين. الأمر الثاني: أن هذا العهد الذي بينهم وبين المسلمين مقيد بأهل الذمة من أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، فلا يشمل المشركين وعبَّاد الوثن، ولذلك يقول الله في كتابه: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:7] فاستثنى الله الذين عاهدهم الرسول عند المسجد الحرام، وأما غيرهم من أهل الشرك والأوثان فلا، فإن الله ساق هذا السياق للذم والاستبعاد، وعلى هذا فليس للمشركين من عباد الوثن هذا العهد الخاص والذمة الخاصة، وإنما هي خاصة بأهل الكتاب كما ذكرنا. الأمر الثالث: إن هذا العهد، وهذا العقد، وهذه الذمة مبنية على أصول وضوابط شرعية تدل على حكمة الله، وعلمه بخلقه، وهي أن أهل الذمة يعيشون بين المسلمين ويلتزمون بأمور وبحقوق وواجبات تفرض عليهم. وكذلك يلتزم لهم المسلمون بحقوق وواجبات يؤدونها إليهم، فلا يُظْلَم كلُّ ذي حق في حقه، فعلى المسلمين أن يقوموا بحفظهم، وحقن دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، فلا يُقتلون، ولا تغتصب أموالُهم، ولا تسرق، وكذلك أيضاً لا تستباح بدون وجه حق، ويكون لأعراضهم ما لأعراض المسلمين من الحرمة، فلا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، ولا أن يؤذيهم فيها. وهم يلتزمون بدفع الجزية التي تفرض عليهم في زمانها بالقدر المفروض على الصفة التي ذكرناها، والتفصيل الذي ذكرناه. فإذا التزموا بها، والتزم المسلمون بما عليهم على الصورة التي ذكرناها، يكون الإسلام قد حقق الأمرين: الرحمة. ووضعُها في موضعها. فهي رحمة؛ ولكنها وُضِعت في موضعها، وليس من الحكمة أن يأتي الإنسان بالرحمة ويضعها في غير موضعها؛ لأن هذا هو شأن الضعيف المتخاذل، وإنما توضع الرحمة لمن يستحقها، ويكون ذلك في الحدود والضوابط الشرعية التي ذكرناها. ومن الخطأ ما يفهمه البعض ممن يكتب عن حال المسلمين أو في تاريخ المسلمين، عما كانوا عليه مع أهل الذمة، فيحاول أن يجعل الأمور كلها نوعاً من المسامحة ونوعاً من التقارب ونوعاً من الرضا، وهذا ليس بصحيح، فإن الله سبحانه وتعالى حكم من فوق سبع سماوات بأنه لا بد من تميز المسلم عن الكافر، وأنه ينبغي للمسلم أن يحفظ حق دينِه، وأن يراعي هذا التميز الذي فرضه الله عليهم من فوق سبع سماوات، وليست هذه العقود التي بين المسلمين وأهل الذمة مشعرةً باتحاد الأديان، من جهة أنها كالشيء الواحد، فهي وإن كانت في أصلها من أصل واحد؛ لكنها متفاوتة ومتباينة، حتى في العقائد والأصول، فتجد عقيدة التثليث لا يمكن أن تجتمع مع عقيدة التوحيد، فيأبى الله ويأبى رسوله صلى الله عليه وسلم ويأبى المؤمنون أن يجتمع من يقول: (هو الله أحد)، ومن يقول: (إنه ثالث ثلاثة)، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة:73] فالله عز وجل حكم بتباين هذه العقائد، وعدم اتفاقها. فينبغي للمسلم ألَاّ يفهم من هذه الأمور أن معناها أنه وهو والكافر كالشيء الواحد، بل إنها أمور مقيَّدة، ومقنَّنة، ومحدَّدة، وقُصِد منها مصالح الإسلام أولاً وأخيراً، وقُصِد مِن عيش هؤلاء بين المسلمين أن يرضوا بالإسلام، وأن يألفوا الإسلام، لعل الله أن يهديهم من ضلالتهم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وعلى آله وصحبه
__________________
|
#269
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (264) صـــــ(1) إلى صــ(11) شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [1] البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكهما، وفصل في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم جملة من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلّ أن يمر على الإنسان يوم إلا وهو بائع أو مشتر، أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر البيع مما تعم به البلوى، وعلى ذلك فيلزم المسلم أن يعرف ما أحل الله له من البيوع فيتعامل بها، وما حرمه الله عليه منها فيجتنبها أهمية كتاب البيع بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع]. هذا الكتاب يعتبر من أهم الكتب المتعلقة بالمعاملات، ومن عادة أهل العلم رحمهم الله في كتب الفقه والحديث أن يبدءوا بما ورد في أحكام العبادات، ثم بعد ذلك يذكرون أحكام المعاملات. والمصنف رحمه الله ابتدأ بكتب العبادات، فبين أحكام الطهارة والصلاة وأحكام الزكاة والصوم والحج، ثم بعد ذلك ذكر كتاب الجهاد، ثم قال رحمه الله: [كتاب البيع]، فكأن المصنف أراد أن يربط بين المعاملات المالية وبين العبادات؛ والسبب في ذلك أنه من الصعوبة بمكان أن ينتقل الإنسان من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة؛ لأن كتاب البيع فيه جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالأموال وبالدنيا، من بيع وشراء وأخذ وعطاء، ولكن كتب العبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج تتعلق بما بين العبد وربه في غالب صورها، ولهذا احتاج المصنف رحمه الله أن يربط بين العبادات والمعاملات، فلا ينقلك من الصلاة والزكاة والصيام والحج إلى البيع مباشرة، فمن فقهه وعلمه أدخل كتاب الجهاد؛ لأن كتاب الجهاد معاملة بين الخالق والمخلوق ومعاملة كذلك بين المخلوق والمخلوق، فجعل كتاب الجهاد وسطاً بين العبادة المحضة والمعاملة المحضة؛ لأن الفقيه وطالب العلم لو أنه بعد انتهائه من العبادات دخل في المعاملات لكان هناك شيء من التضاد، بعد أن كان في باب مليء بالنصوص إلى باب مليء بالاجتهادات والقياس على النصوص؛ ولذلك ربط رحمه الله بينهما بكتاب الجهاد. البيع معاملة من المعاملات التي بين الله حكمها، وفصل في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم جملةً من قواعدها، فهي معاملة مهمة، وقلَّ أن يمر على الإنسان يوم من الأيام إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء، ولهذا يعتبر مما تعم به البلوى، أي: أن الناس قلَّ أن يسلموا من هذا التعامل، والله تعالى أمرنا وشرع لنا نوعاً معيناً من البيع نتعامل به، وحرَّم علينا نوعاً آخر، فينبغي للمسلم أن يعلم ما الذي أحل الله فيفعله، وما الذي حرم الله عليه فيجتنبه. ومن هنا كان لزاماً أن تقرأ أحكام البيع، فهي من العلوم التي ينبغي لطلاب العلم أن يتعلموها إذا لم يوجد من يقوم بالكفاية، خاصةً في هذا الزمان الذي قلَّ أن تجد من يتقن مسائل المعاملات، وبالأخص مسائل المعاملات المالية، فقد تجده يتقن أحكام الصلاة وأحكام الصيام وأحكام الحج، وقد يبتلى بطعمة الحرام والتعامل بالبيع المحرم وهو لا يدري، فقد يكون من خيار عباد الله؛ ولكن الجهل يوقعه في الحرام؛ ولهذا ينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه، ولطالب العلم أن يسد الثغر لأمته؛ فيرعى هذا الأمر العظيم، ويتعلم هذا الباب، حتى يحسن إلى الناس ببيان الأحكام الشرعية. والله جل وعلا جبل الناس على حب المال والافتتان به وزين لهم ذلك، فإذا كان الناس لا يجدون من يبين لهم الأحكام انهمكوا في الحرام، وأصبح الحلال ما حل بأيديهم، والحرام ما بعد؛ وعندها لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً إلا ما أشربوا من هواهم، فتنتشر بينهم المعاملات التي يظنون جوازها؛ لأنها سائدة ومعروفة والناس ألفتها، وقد تكون فيها أرباح تغر الناس حتى يألفوها، فيظنون أنه الحلال، وما هو إلا الحرام الذي يعذَّب الإنسان بطعمته، خاصة إذا فرَّط بمعرفة حكمه. يقول أهل العلم: يتعين على الإنسان تعلم مسائل البيع إذا كان يتعاطى التجارة ويبيع ويشتري، فيجب عليه أن يتعلم ما الذي أحلَّ الله له بيعه فيبيعه، وما الذي حرم الله عليه بيعه فيجتنبه ويتقيه، ومن هنا كان لزاماً على طلاب العلم أن ينتبهوا لهذه المسائل، فهو باب مهم جداً، وكان العلماء رحمهم الله إذا أرادوا أن يعرفوا فقه الرجل نظروا إليه في باب المعاملات، وإن كان باب العبادات له شأنه ومنزلته، ولكنهم يتميزون ويظهر الفرق فيما بينهم في باب المعاملات؛ لأنه يحتاج إلى شيء من الدقة وشيء من التركيز، يبرز فيه فقه الفقيه، وفضل الله عز وجل على عباده، والله فضل بين العلماء، ورفع بعضهم على بعض درجات، فإذا أحب طالب العلم أن يعظم أجره في هذا العلم فليتقن مثل هذه المسائل ومثل هذه الأبواب، وليتعب وليجتهد وليصبر على عنائها؛ لأنها قد تمل وقد تحدث عنده شيئاً من السآمة، لكنه يصبر ويصابر، ويعلم ما أعد الله من الثواب لمن أحسن وجد في طاعته ومرضاته، خاصة فيما يعظم فيه النفع للمسلمين. والعلماء رحمهم الله ذكروا أن البيع مما يحتاج المسلم إلى معرفته، ويتعين عليه ولو في آحاد الصور، فإذا كنت تتعامل بنوع من أنواع البيع، فيجب عليك أن تسأل عن هذا النوع، فهذا أقل ما يجب عليك، فلو فرضنا أن الإنسان يتبايع بالذهب والفضة، فعليه أن يسأل ما هي أحكام صرف الذهب والفضة، وما هي أحكام بيع الذهب والفضة، وكيف يمكنه أن يتقن تلك الأحكام، أو على الأقل عليه أن يلم بأصولها التي ينبني عليها بابها تعريف (كتاب البيع) لغةً واصطلاحاً يقول المصنف رحمه الله: [كتاب البيع]، عبَّر (بالكتاب) لسعة هذا الباب وعظيم ما فيه من المسائل الكثيرة والفروع المشتهرة. وقوله: (البيع) مصدر مأخوذ من قولهم: باع الشيء يبيعه بيعاً ومبيعاً فهو بائع، وهو مأخوذ من الباع؛ لأن كلاًّ من البائع والمشتري يمد باعه، فأنت -مثلاً- لو مررت على إنسان تريد أن تشتري منه كتاباً فقلت له: بعني هذا الكتاب بعشرة ريالات، فقال: بعتكه بعشرة، أو قبلت، فقدَّم لك الكتاب وأعطيته العشرة، فإنك تمد الباع بالعشرة وهو يمد الباع بالكتاب، فقالوا: سمي البيع بيعاً من هذا. أما في اصطلاح أهل العلم رحمهم الله، فهناك تعاريف كثيرة للبيع. وبالمناسبة: تجد العلماء يعتنون دائماً بمسألة التعريف الاصطلاحي، أو التعريف الشرعي، أو الحقيقة الشرعية، وقلَّ أن تجد باباً من الفقه إلا وله تعريف اصطلاحي، فالصلاة تعَرّف لغة واصطلاحاً وكذلك الزكاة الرهن الإجارة الشركة المضاربة، إلى غير ذلك من الأبواب والكتب، فما السبب في ذكر هذه التعاريف؟ السبب: حتى تتميز المعاملات بعضها عن بعض، فربما يأتيك شخص فتقول له: بعتك هذه السيارة بكذا فيقول: قبلت، فيقول شخص آخر: هذه إجارة، فتقول له: لا؛ لأن البيع حقيقته مبادلة المال بالمال تمليكاً بالتراضي، ولكن الإجارة مبادلة المال بالمنفعة، فتستطيع أن تعرف ما هو المراد بكلمة (بيع) فأنت تنتقل في كتب العلماء بأفكار مرتبة وعلوم متقنة، فإذا عرفت ما هو البيع يرد السؤال ما موقف الشرع من هذا البيع؟ ثم يرد السؤال: إلى كم قسم ينقسم؟ بيع حلال وبيع حرام. فما هي أوصاف الحلال، وما هي أوصاف الحرام؟ ثم يرد سؤال آخر: ما الذي يترتب على البيع الحلال؟ وما الذي يترتب على البيع الحرام؟ وعندها تكتمل الصورة في هذا الباب من أبواب المعاملات. فنحن نحتاج أولاً إلى معرفة مقدمات البيع، ومقدمات البيع تستلزم منك أن تعرف حقيقته لغة، وقد بيناها، وحقيقته اصطلاحاً، وثانياً: أن تعرف موقف الشرع من هذه المعاملة هل هي جائزة أم محرمة؟ ثم إذا كانت جائزة فهل هي جائزة على سبيل اللزوم أو على سبيل التخيير، أو على سبيل الفضيلة؟ ثم بعد ذلك تعرف ما هي أركان هذه المعاملة، وتعرف المقدمات التي يمكن أن تتصور من خلالها المعاملة، ثم تدخل بعد ذلك في التفصيلات والأحكام. وأكرر الوصية لطلاب العلم ألا يملوا ولا يسأموا؛ لأننا سندخل من هذا الكتاب إلى مباحث دقيقة ومسائل قد تكون بعض الشيء عويصة، وإن كنا لا زلنا في المقدمات، لكن ينبغي على طالب العلم أن يصبر وأن يأخذ من مجلس العلم ما استطاع أن يتوصل إليه من الفائدة. البيع في الاصطلاح: مبادلة المال بالمال تملكاً وتمليكاً، وبعض العلماء يقول: بالتراضي، وسنشرح هذا التعريف عند ذكر المصنف رحمه الله للجملة الأولى في كتاب البيع مشروعية البيع أما بالنسبة لمشروعية البيع وما موقف الشريعة من هذا النوع من المعاملات، هل هو حرام، أو هو جائز؟ و الجواب أن البيع جائز ومشروع، وأن الله عز وجل أذن بالبيع، وأقوى الأدلة على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فإن كلمة: (أحلَّ) كما يقول علماء الأصول: تعتبر من صيغ الإباحة، فإذا قال الله (أحلَّ) بصيغة البناء للمعلوم أو بصيغة البناء للمجهول كقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة:96] فهذه الصيغ تدل على الجواز والإباحة. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] نسب سبحانه التحليل له؛ لأنه هو الذي يحلل وهو الذي يحرم، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]. {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] هذه الآية يقول العلماء: إنها أصل في جواز البيع، فما معنى قولهم أصل؟ يقول بعض العلماء إن هذه الآية عامة، بمعنى أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] الأصل أن كل بيع جائز، حتى يدل الدليل على حرمته وعدم جوازه، فأنت إذا جئت إلى أي بيع فإن من حقك أن تقول: لي الحق أن أتعامل بهذا البيع حتى أسمع دليلاً من الكتاب أو دليلاً من السنة يقول: إن هذا البيع حرام. هذا معنى قولهم: إنها أصل في البيوع، أو أصل في حلِّ البيع وجوازه. ثانياً: وبعض العلماء يقول: إن الآية مجملة. ومعنى قولهم: (مجملة): أنه يتوقف في الاستدلال بها حتى يرد البيان، وهذا الإجمال فيه خلاف بين العلماء، وهي مسألة أصولية، والصحيح أنها آية عامة، وأنها مبينة وليست بمجملة، والذين يقولون إنها مجملة -من باب الفائدة لطلاب العلم- اختلفوا في سبب الإجمال: فبعضهم يقول: أجملت لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] فلما قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] الربا: أصله الزيادة، فأحل شيئاً وحرم شيئاً، فكانت الآية دالة على جواز البيع، لكن لما قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] لم ندر أي الربا المحرم، وأي الزيادات المحرمة، فأصبحت الآية فيها شيء من الإجمال، وتحتاج إلى تفصيل وبيان من السنة. هذا الوجه الأول. الوجه الثاني: إن الإجمال لم يأت من الآية، وإنما جاء من شيء خارج عن الآية، وهو دليل السنة، والسبب في ذلك: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (أنه نهى عن بيع الغرر)، فلما ثبت عنه ذلك احتجنا أن نعرف ما هو الغرر؛ لأن الغرر أصله المخاطرة، بمعنى: أنه لا يجوز لك أن تتعامل مع أخيك المسلم ببيع فيه تغرير له، كأن تقول له: (اسحب هذا الرقم وادفع خمسين ريالاً)، وقد يخرج لك ما قيمته ألف ريال، وقد يخرج ما قيمته عشرة ريالات، فأنت تغرر به، فلا يجوز هذا النوع من البيع، والغرر بابه واسع، ومن هنا أصبح قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] مستثنىً منه نهيه عن الغرر، فاحتجنا أن نعرف ما هو الغرر المحرم، وما هو الغرر المعفو عنه؟ فمثلاً: حين تبيع البيت ينبغي أن يكون المبيع معلوماً، ولكنك لا تدري ما هو أساس البيت وهل قواعده سليمة، أم بها عطل؟ فأنت تبيع شيئاً مجهولاً، نقول: هذا غرر معفو عنه؛ لأن الشرع لو جاء يدقق في هذا لأحرج الناس، والشرع لا حرج فيه، فيغتفر مثل هذا الغرر. إذاً: عندنا غرر معفو عنه، وعندنا غرر محرم، فتصبح الآية محل إجمال من هذا الوجه. الخلاصة: أن الآية الكريمة: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] أصل في حل البيع وجوازه. الدليل الثاني: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} [النساء:29] فإن هذه الآية الكريمة دلت على جواز البيع؛ لأن الله حرم أكل المال وأخذه، واستثنى وقال: أي: إلا أن يكون الأكل للمال بالتجارة فلا حرج، فدل على جواز التجارة، ومن هنا قال بعض العلماء: (أفضل المكاسب مكاسب التجارة)؛ والسبب في ذلك: أن التجارة فيها منفعة لكثير من الناس؛ فالتجار يجلبون الأرزاق للناس، ولولا الله ثم التجار لهلك الناس، فيجلبون أرزاق الناس وأقواتهم، ويجلبون ما فيه صلاح لأبدانهم، وقد يجلبون تجارة فيها معونة لطلاب العلم، كالكتب ونحوها من الأوراق والأقلام، فمن هنا فقالوا: التجارة أفضل. وقال بعض العلماء: الزراعة أفضل. المهم: أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء:29] يعتبرونه أصلاً في جواز البيع وحلِّه. الدليل الثالث: قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:9 - 10] فحرم الله البيع عند أذان الجمعة؛ وتحريم الله للبيع قد يكون لأسباب عديدة، منها: ظلم المسلم، كبيع الغش وبيع النجش. ومنها: ما يسبب قطع أواصر الأخوة، كبيع المسلم على بيع أخيه المسلم وسومه على سومه. ومنها: البيع في الوقت المستحق لما هو أهم، فهناك أوقات مستحقة لما هو أهم، كأوقات الصلوات المفروضة، فلما كان الوقت في يوم الجمعة مستحقاً لما هو أهم وآكد، وهو فريضة الله عز وجل بصلاة الجمعة حرَّم الله البيع، فقال: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] ثم قال بعدها: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] (وَابْتَغُوا) أي: اطلبوا، و (مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)؛ لأن البيع والتجارة والأرزاق كلها من فضل الله سبحانه وتعالى، والأمر للإباحة، وقد كان بعض العلماء وبعض السلف يحب للمسلم أن يؤخر حوائجه ويشتريها بعد صلاة الجمعة؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ). إذاً فقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) دال على حلِّ البيع؛ لأنه نهى ثم أمر، والأمر بعد النهي يرجع إلى ما كان عليه، فإذا كان الشيء واجباً ثم نهي عنه، ثم أمر به رجع واجباً، وإذا كان الشيء مباحاً ثم نهي عنه ثم أمر به رجع حلالاً مباحاً مثلاً: حرَّم الله الصيد على المحرم: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فعلمنا أن هذا الأمر ليس للوجوب، وإنما هو دال على الإذن السابق للنهي، وعلى هذا قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] لا يدل على وجوب البيع والشراء بعد صلاة الجمعة، وإنما المراد به حل البيع والشراء. الدليل الرابع: قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] والآية نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، فأذن الله ورخص لهم في ذلك. والسنة دلت أيضاً على حلِّ البيع وجوازه: وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا)، وكقوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى) وهذا من دلالة السنة القولية. أما السنة الفعلية: فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم تعامل بالبيع، فاشترى من اليتيمين الحائط الذي بنى فيه مسجده وحجراته صلوات الله وسلامه عليه. وكذلك أيضاً: اشترى من جابر بعيره، وشرط جابر حملانه إلى المدينة. إذاً: تعامل النبي صلى الله عليه وسلم بالبيع، بقي عندنا السنة التقريرية، وهي النوع الثالث من السنة: فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم جاء والسوق قائم في المدينة، وهي مكان التشريع، ومع ذلك سكت، وأقر الناس على البيع والشراء، ولم يحرم عليهم إلا ما حرم الله، فدل على حلِّ البيع وحلِّ التجارة وجوازها. إذاً دلَّ دليل السنة بالقول وبالفعل وبالتقرير. وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على أن البيع جائز ومشروع، وأنه مما أذن الله به ووسع به على عباده أنواع البيع البيع ينقسم إلى نوعين: بيع مأذون به شرعاً. وبيع غير مأذون به شرعاً. فأما البيوع التي أذن الله بها فهي لا تنحصر، وأما البيوع التي حرمها الله فهي منحصرة ومعدودة، والدليل على ذلك من الكتاب قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] فما قال سبحانه: (وأحل الله بيع السلم، وأحل الله بيع الخيار، وأحل الله بيع المرابحة)، وإنما عمم وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]، ثم لما جاء إلى التحريم قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] وما قال: (وحرم البيع)، فلما جاء إلى الحلِّ عمم، ولما جاء إلى التحريم خصص وعين، فأصبح الذي أحلَّه أكثر مما حرمه، ومن هنا جاءت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤكد هذا المعنى، فأنت إذا تأملت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجدها في النهي، ولذلك تجد المحدثين -وهذا من فقه علماء الحديث- يقولون: (باب البيوع المنهي عنها شرعاً)، ولم يقولوا: (باب البيوع المأذون بها شرعاً)؛ لأنها لا تنحصر، والذي ينحصر المحرم، ولذلك قالوا: باب البيوع المنهي عنها شرعاً، باب البيوع المحرمة: بيع الملامسة المنابذة الحصى حبل الحبلة بيع الغرر بيعتين في بيعة. إلخ. فهذه البيوع معدودة محدودة، وأما البيوع الجائزة التي لا تنحصر فمنها بيع السلم، والخيار، والمرابحة، والصرف، وبيع المقايضة من حيث الأصل، فهذه من حيث الجملة بيوع مأذون بها شرعاً، وسنبينها إن شاء الله ونتكلم عليها. وهناك ضوابط وضعها العلماء للبيوع المحرمة قلَّ أن تخرج عنها: الضابط الأول: أن يكون المبيع محرماً عيناً؛ كبيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، والنجاسات، ونحوها مما حرم الله عز وجل بيعه. الضابط الثاني: أن يكون من باب الربا؛ كأن يبيع الريال بالريالين، أو يصرف الريال بالريالين ورقاً كان أو حديداً، فهذا يعتبر من الربا، وسنبينه إن شاء الله ونذكر وجه تحريمه من اشتماله على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل. الضابط الثالث: أن يكون من باب بيع الغرر، وبيع الغرر أن يعطيه الشيء وهو في الظاهر يحتمل السلامة ويحتمل عدم السلامة، كبيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وبيع المجهولات، كبيع الأرقام والنصيب، ونحوها، فهذه بيوع تدفع فيها مالك ولا تضمن ما الذي تأخذه أو لا تدري ما هو، فقد يكون شيئاً غالياً وقد يكون شيئاً بخيساً لا يستحق المال الذي دفعته، فهو من أكل المال بالباطل، وسنبين جميع هذه الضوابط أو جلَّها، إن شاء الله تعالى. إذاً: عندنا بيع مأذون به شرعاً، وعندنا بيع محرم شرعاً. كذلك هناك مسألة مهمة: إذا كنا قد عرفنا أن الذي أحل الله أكثر مما حرم، ندرك سماحة الشرع ويسر الشريعة، وأنه إذا جاءك من يطعن في هذه الشريعة ويقول: أنتم تحرمون على الناس، فقل له: يا أخي! أخطأت، إن الذي حرم هو الله والذي أحل هو الله، والذي حرمه الله شيء مخصوص، والذي أذن الله لك أن تتعامل به وأن تأكله وأن تأخذه لا ينحصر، ولكننا نقول: هذا الشيء المعين حرمه الله فاتركه. فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى حينما حرم لنا فخصص، وأباح لنا فعمم، دل هذا على سماحة الشريعة ويسرها، وأن الله يريد التوسعة على عباده. ثم إن الله ما حرم شيئاً إلا لعلة، فقد يكون البيع سبباً في إفساد الأخوة بينك وبين أخيك المسلم، فقد يبيع المسلم أخاه شيئاً مغشوشاً، فإذا باعه شيئاً مغشوشاً لم يسكت المشتري، فيطالب بحقه فيصر البائع فتحدث بينهما الخصومة، ثم يدخل الإنسان إلى السوق منتزع الثقة، ولذلك تجد في البلاد غير الإسلامية عندما تدخل السوق لا تضمن شيئاً؛ لأنك تدخل على شيء لا تعرف ما هو، بيوع مختلفة، وكلها وسائل لأكل المال بطرق ملتوية، لكن في الإسلام تجد الشريعة توقفك على مبيع معين، وتشدد في الشروط وتضيق عليه من أجل الرحمة بك وبمن يعاملك؛ لأن الله يريد العدل بينك وبين المشتري، فلم يظلم الله البائع ولم يظلم الله المشتري، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وإنما أعطى لكل ذي حق حقه، فإذا مد لك أخوك المال، فينبغي أن تعطيه حقه وترضيه، {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، فلا يؤخذ المال باللعب ولا بالغش ولا بالتزوير، ولكن يؤخذ بحقه، فتبقى مطمئن النفس للمال الذي أخذته والكسب الذي اكتسبته، ويبقى أخوك مطمئن النفس مرتاح البال للسلعة التي أخذها، وكل منكم يُبارك له في سلعته كما في الحديث: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما). وإن من الحكم المستفادة من شرعية البيع: أن الله سبحانه وتعالى جعل فيه جلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد، فأنت إذا احتجت إلى شيء، وهذا الشيء موجود بيد أخيك وأنت لم تستطع أن تطلبه ذلك الشيء وهو لا يستطيع أن يعطيكه إلا بعوض، فشرع الله البيع حتى تحصِّل المصالح لنفسك وتدرأ المفاسد عن نفسك، ويحصل أخوك المصالح لنفسه ويدرأ المفاسد عن نفسه، ولذلك مما يعتبر دليلاً عقلياً ما ذكره الإمام ابن قدامة رحمه الله في المغني حيث يقول: إن المسلم أو الإنسان تتعلق نفسه بحاجة عند أخيه -كأن تحتاج إلى سيارة مثلاً؛ لقضاء حوائجك والقيام على مصالحك- وأخوك لا يعطيك هذا الشيء من عنده، ولا يمكنك أن تأخذه بالغصب والقهر، فانظروا إلى حكمة التشريع، فالمشرع سبحانه شرع البيع عدلاً بين العباد، وهذا يدل على الحكمة، وأن البيع موضوع في موضعه؛ لأنه إذا تعلقت نفسه بهذا الشيء كالطعام مثلاً: قد يتعرض للموت إذا لم تعطه الطعام، أو قد يضطر إلى القتل حتى يصل إليه، وحينئذٍ شرع الله البيع لكي يدرأ عن الناس المفاسد، فإذا شرع الله البيع فقد رحم البائع بأخذه لحقه ورحم المشتري لتحقيق مصلحته، وعلى هذا انتظم البيع في تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وقوله رحمه الله: [كتاب البيع] بعض العلماء يقول: (كتاب البيوع)، وكلاهما له وجه، فمن يقول: (كتاب البيوع) ينبه على الشمولية لأنواع البيوع المحرمة والجائزة، وأما من يقول: (كتاب البيع) فقد عبر بالمصدر بعض أحكام ومسائل كتاب البيع المصنف رحمه الله حين قال لنا: [كتاب البيع]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بمعاملة البيع. ويستلزم هذا: أن يعرف البيع كما ذكرنا، وأن يذكر شروط البيع، وأن يذكر بعد ذلك أنواع البيوع الجائزة والمحرمة. فهناك أمور ينبغي أن نضعها في الحسبان: الأمر الأول ما يسمى (بالمقدمات)، وهذا ما يتعلق بالتصور، والجزئية الثانية (بالأحكام) والقاعدة عندنا: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، فلابد أن تتصور الشيء ثم تحكم عليه، فإذا تصورت الشيء وعرفته حكمت عليه، سلباً أو إيجاباً. فأولاً: تعرف ما هو البيع، ثم بعد ذلك ما هي أحكام البيع، وإذا أردت أن تعرف البيع فعليك أن تعرّفه لغة وتعرفه اصطلاحاً، وتتعرف على موقف الشرع منه، وهذا كله انتهينا منه، وهذه جزئية التصور. والبيع نوعان: بيع مأذون به شرعاً، وبيع محرم شرعاً، وقد عرفنا هذا في المقدمة، فمعنى ذلك أن الكلام ينصب على جانبين: الجانب الأول تعرف فيه البيع الحلال، والجانب الثاني تعرف فيه البيع الحرام. ثم إذا عرفت البيع الحلال والحرام تسأل: ما الذي يترتب على هذا الحلال؟ وما الذي يترتب على هذا الحرام؟ بناءً على ذلك: تجدهم يتكلمون على أنواع البيوع المحرمة والجائزة، وإذا فرغوا منها يتكلمون على شروط الجواز وشروط التحريم، أو علامات الجواز وعلامات التحريم، فكأن الجزئية عندنا الآن أن يفرقوا بين البيع الحلال والبيع الحرام، حتى يتم بحث ما الذي يترتب على البيع الحلال وما الذي يترتب على البيع الحرام. فهذا ما يسمى بالشروط. والبيع من حيث هو يقوم على عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به، فأما العاقد: فهما طرفا العقد البائع والمشتري، وأما المعقود عليه: فهو المحل الذي ورد عليه البيع، سيارة كتاب عمارة مزرعة إلخ، كأن تقول: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف، فيقول: قبلت، نقول: وقع البيع، ومحل البيع (سيارة) في مقابل عشرة آلاف ريال، وهذا يسمى محل العقد، وسمي محلاً؛ لأن الصيغة وردت عليه، فعندنا العاقدان، وعندنا المعقود عليه، وعندنا المعقود به، والمعقود به: هي الصيغة التي تم بها عقد البيع، (بعتك) بعشرة آلاف، (قبلت) (رضيت) ونحو ذلك مما يدل على الرضا. بناءً على هذا: يضع العلماء شروطاً للبيع، وشروط البيع معناها العلامات والأمارات التي نصبها الشرع للحكم بجواز البيع، فإذا قالوا: شروط صحة البيع فمعنى ذلك: أنهم يضعون لك كطالب علم علامات وأمارات إذا سئلت عن هذا البيع هل هو جائز أم لا؟ فمثلاً: سألك رجل فقال: بعت هذا الصندوق بعشرة ريالات، فهل يصح البيع أم لا؟ تقول: عندي علامات وأمارات لصحة البيع، فتستذكر: الشرط الأول -مثلاً-: أن يكون المبيع معلوماً، فتنظر في محل العقد، فإذا به يقول: صندوق مقفل، تقول: ما الذي بداخله؟ يقول: لا أدري، تقول: إذاً المبيع مجهول، فالبيع في الشرع غير جائز حتى يعلم المشتري ما الذي بداخل الصندوق؛ لأن هذا من بيع المجهول، وبيع المجهول غرر، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولذلك حرم بيع الجنين في بطن أمه؛ لأننا لا ندري أحي هو أو ميت؟ وإذا كان حياً هل هو كامل الصفات أو ناقص الصفات؟ ثم إذا كان حياً لا ندري أيخرج حياً أو ميتاً؟ فإذاً عندي علامة لأحكم بصحة البيع ينبغي أن تتوفر، فإذا كانت ليست بموجودة في هذا البيع فالبيع غير صحيح. وهناك شروط تتعلق بالعاقد، فلو جاءك رجل وقال: بعت سيارة بعشرة آلاف، تسأله: هل تملك السيارة؟ قال: لا، السيارة لأخي، ولكنني أعلم أن أخي سيرضى، تقول: هل وكلك أخوك؟ قال: لا، إذاً تصير فضولياً، ثم تنتقل إلى أخيه وتقول: هل أذنت له؟ قال: لا، هل ترضى بالبيع؟ قال: لا، تقول: البيع فاسد؛ لأن عندي قاعدة في العاقد: وهي أن يكون مالكاً للذي في يده. وكذلك لو أنك في القضاء واختصم إليك رجل، وقال: اشتريت من هذا الصغير بيته بعشرة آلاف، وهذا الصغير ورث البيت عن أبيه، فجاء أولياء الصغير وقالوا: لا نريد البيع، ولا نوافق عليه، تقول: من البائع؟ قالوا: الصغير، الصغير هذا هل يملك؟ نعم يملك، لكن هل هذا الصبي أهلاً للتصرف؟ ليس أهلاً للتصرف، إذاً: هل شرط الصحة توفر، أو لم يتوفر؟ لم يتوفر، فترجع إلى ولي الصغير وتقول له: هل تقر هذا البيع؟ وهل هو من مصلحة هذا اليتيم؟ فإن قال: لا، ليس من مصلحته، بل من مصلحته أن يؤخر البيع إلى سنة أو في شهر الموسم رجاء ارتفاع السعر، فتقول: البيع فاسد؛ لأن العاقد ليس أهلاً للتصرف. يتبع
__________________
|
#270
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب البيع) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (265) صـــــ(1) إلى صــ(11) هذا بالنسبة للشرط الذي يتعلق بالعاقد. بقي المعقود به أي: الصيغة، أيضاً لها شروط ولها ضوابط، فلو قال له: أتبيعني؟ قال: نعم، فالاستفهام عند بعض العلماء لا ينعقد به البيع، وسنبين هذا في الصيغة. إذاً تحتاج أولاً إلى معرفة علامات الصحة وعلامات الفساد، وهذا هو الذي سيذكره المصنف في الباب الأول، فأنا أحب من طالب العلم أنه عندما يقرأ هذه الكتب أن يكون عنده إلمام، فينبغي ألا نقرأ كتاب البيع هذا حتى نعرف ما الذي يراد من العبارات وما الذي يراد من الجمل؛ لأن أبواب المعاملات صعبة، وتحتاج إلى شيء من التركيز، فلابد أن تعلم إذا جاءك الشرط هل هو يتعلق بالعاقد أو المعقود عليه أو المعقود به، فتصنف الشروط ثم تحفظها، ثم بعد ذلك لن تسأل عن بيع إلا وجدته له علامات للصحة وعلامات للفساد، فتحكم بالصحة بالدليل وتحكم بالفساد بالدليل. لكن لو أننا عرفنا حقيقة البيع، وتصورنا ما هو البيع، ثم عرفنا ما هي علامات الصحة وعلامات الفساد، وعرفنا البيع الصحيح والبيع الفاسد، بعد هذا هل ينتهي كتاب البيع، أم أن هناك أموراً مهمة؟ نقول: هناك أمور مهمة، فكونك تعرف أن هذا البيع صحيح أو هذا البيع فاسد لا يكفي، بل لابد أن تعرف ما يسمى بالأثر المترتب على البيع الصحيح والبيع الفاسد، مثلاً: إذا باع رجل سيارة بعشرة آلاف، فأنت لو قضيت بأن هذا البيع صحيح، فما الذي يترتب على حكم الشرع بالصحة لهذا البيع؟ تقول: يجب على البائع أن يسلم المبيع، ويجب على المشتري أن يدفع الثمن، فمعنى ذلك: أنه لابد من وجود أثر يترتب على حكمك بالصحة وحكمك بالفساد، كذلك لو كان البيع فاسداً، فمثلاً: اشترى رجل مزرعة بمليون ريال، ثم بعد عشر سنوات تبين أن المزرعة مزور صكها، أو أن هذه المزرعة مغتصبة، أو تبين أن فلاناً يملكها، أو أن ورثة فلان يملكونها من مائة سنة، وظهر أن هذا البيع الذي وقع بيع لما لا يُملك، وأنت حكمت من الشرط أن يكون مالكاً للمبيع، والرجل أخذ هذه الأرض قبل عشر سنين وهي ميتة فزرعها وبنى فيها، أو أخذها مزروعة فهدمها، أو غير فيها فزاد أو نقص، فما الذي يترتب؟ لا يكفي كونك تقول: هذا البيع صحيح، أو هذا البيع فاسد، فلابد أن تعرف آثار الصحة وآثار الفساد. وبهذا: إذا عرفت ما هي البيوع الصحيحة وما هي البيوع الفاسدة، وذلك بمعرفة علامات الصحة وعلامات الفساد، بعد ذلك تتكلم على القواعد العامة المترتبة على صحة البيع وفساده. تبقى جزئية أخيرة وهي التي يسمونها البيوع الخاصة، مثلاً: بيع السلم، وبيع الصرف، وبيع الخيار، وبيع المرابحة، وبيع المواضعة؛ هذه كلها بيوع جائزة وخاصة، وهذه البيوع لها شروط خاصة، فبيع السلم -مثلاً- له شروط غير بيع الخيار، وبيع الخيار له شروط غير بيع المرابحة، فهناك شروط عامة للبيع، وهناك شروط خاصة للبيع، قال صلى الله عليه وسلم: (من أسلم -وفي رواية: من أسلف- فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) هذا بيع السلم، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه بشروط: (فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم)، لكن هذه الشروط تتعلق بماذا؟ بنوع خاص فقال: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم) إلخ. وهذا ليس بشرط متعلق بالبيوع العامة وإنما هو متعلق بالبيوع الخاصة. كذلك أيضاً عندنا مسألة بيع الثمرة فقد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، قالوا: يا رسول الله! متى يبدو صلاحها؟ قال: حتى تحمار أو تصفار). إذاً: عندنا بيع خاص وهو بيع الثمار، وبيع ثمرة النخيل لا يصح إلا إذا بدا الصلاح فيه، فما هو بدو الصلاح؟ ما هي الشروط المعتبرة لحكمنا بهذا النوع؟ إذاً: عندنا شيء عام وعندنا شيء خاص. فإذا انتهيت من البيوع الخاصة، سواء كانت مباحة أو محرمة تكون قد انتهيت من مادة البيوع. وهذا إن شاء الله سنتكلم عليه، ونسأل الله العظيم أن يرزقنا فيه السداد، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم موجباً لرضوانه تعريف البيع اصطلاحاً وشرحه يقول المصنف رحمه الله: [وهو مبادلة مال ولو في الذمة أو منفعة مباحة]. (وهو): الضمير عائد إلى البيع، وهذا -كما ذكرنا الجزئية الأولى في البيع- هو تعريف البيع، كأنه يقول: البيع عندنا معشر الفقهاء: مبادلة المال. فما معنى مبادلة؟ المبادلة: مفاعلة من البدل، ووزن مفاعلة في لغة العرب يطلق على الشيء الذي يستلزم شخصين فأكثر، مثلاً تقول: مقاتلة، مخاصمة، مشاتمة، فكم يوجد؟ رجلان يتشاتمان، أو يتضاربان، أو يشتركان في شركة مضاربة، فهذا كله يسمى بالمفاعلة؛ لأن الشخص لا يقاتل نفسه ولا يخاصم نفسه. وحينما قال رحمه الله: (المبادلة) معنى ذلك أن عندنا بائع ومشترٍ (مبادلة) مفاعلة من البدل، والبدل أصله العوض، تقول: هذا بدل عن هذا، أي: عوض عنه وقائم مقامه، فهذه هي المبادلة. وبعض العلماء يقول: البيع معاوضة، والمعاوضة والمبادلة معناهما واحد. والمبادلة تكون على صور: قد أبادلك سيارة بسيارة، فهذا له معنى. وقد أبادلك شيئاً على سبيل الهدية، فأعطيك ساعة فتعطيني بدلاً منها قلماً، فأكون أهديتك ساعة وأهديتني قلماً، فصار مبادلة. كذلك أيضاً: لو أن رجلاً جاء لرجل وقال له: زوجني بنتك، قال: قبلت، والمهر عشرة آلاف ريال، إذاً: تزوج لقاء عشرة آلاف {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فالنكاح فيه معاوضة. كذلك: لو جئت وقلت: يا فلان! أجّرني بيتك سنة بعشرة آلاف، فدفعت عشرة آلاف لأجل السكنى سنة، فهذا فيه مبادلة. فقال المصنف: (البيع مبادلة) والمبادلة هنا أهي عامة، أو خاصة؟ إذا تأملتها وجدتها عامة. فقال المصنف: [وهو مبادلة مال]، بعض العلماء يقول: (مال بمال)، فنريد أن نعرف ما معنى مال؟ وكيف تتم مبادلة المال بالمال في البيع؟ المال أصله من الميل، وسمي المال مالاً لأن النفوس تميل إليه وتهواه، قال الشاعر: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال لأنه زين للناس حب الشهوات، فهم يميلون إلى المال، ولذلك قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ولذلك شحت بالمال، بل وسفكت الدماء من أجل المال، فالمال له مكانة في النفوس. وفي اصطلاح الشريعة إذا قيل: (مال) فهو كل شيء له قيمة، لكن في عُرف الناس وما يسمى بالاصطلاح الوضعي إذا قيل: مال، فهو يختص بالذهب والفضة وبالنقود، فتقول: هذا مال، وتعني النقود، لكن في اصطلاح الشريعة المال يشمل كل شيء له قيمة، سواء كان نقوداً أو غيرها، والدليل على أن الشريعة تسمي كل شيء له قيمة مالاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الإبل والغنم والبقر مالاً، فهل الإبل والغنم ذهب وفضة؟ ليست من الذهب ولا من الفضة، فقال كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الإبل والبقر والغنم. فقوله: (ما من صاحب مال) وأطلقه على الإبل، ثم ذكر البقر، ثم ذكر الغنم، ثم ذكر الذهب، ثم ذكر الفضة، فدل على أن المال هنا عام. ثانياً: جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأقرع والأعمى والأبرص الذين ابتلاهم الله عز وجل وأُعطوا المال، قال صلى الله عليه وسلم في الأعمى لما جاءه الملك وقال: (ابن سبيل، منقطع، قال: كنتُ فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله عليَّ بصري، فدونك الوادي فخذ منه ما شئت، فوالله لا أرزؤك منه شيئاً -أي: لا أمنعك منه شيئاً، فماذا قال له الملك؟ -قال: أمسك عليك مالك قد نجوت وهلك صاحباك) فسمى الغنم مالاً، فهذا يدل على أن المال لا يختص بالذهب وبالفضة. فقول المصنف: (مبادلة مال) بناءً على هذا، فلو أن رجلاً عنده شاة وآخر عنده قلم، فقال: بعني هذه الشاة بالقلم، نقول: هذا بيع؛ لأنه بادل المال بالمال، كذلك أيضاً لو أنه بادله مزرعة بمزرعة، أو بادله عمارة بعمارة، أو سيارة بسيارة، أو قلماً بقلم، أو كتاباً بكتاب، كل هذا نعتبره بيعاً؛ لأنه بادله المال بالمال. فلما قال المصنف رحمه الله: (مبادلة مال)، قصد أن المال إما أن يكون ذهباً وفضة، وإما أن يكون غير الذهب والفضة. وهذا اصطلاح ينبغي أن تحفظوه من الآن؛ لأننا سندخل في تفصيلات البيوع والمعاملات وكلها قلَّ أن تخلو من هذه المسألة. وغير الذهب والفضة ينقسم إلى قسمين: إما عقار، وإما منقول، فالذي يبيع الأرز تقول: هذا يبيع المنقولات، وكذلك الذي يتاجر في السكر أو الأودية أو السيارات، هذه كلها تسمى منقولات، والعقار: وهو كل ما يتعلق بالأراضي تقول: هذا عقار، وسمي العقار عقاراً من العقر؛ لأنه معقور في مكان لا تستطيع أن تنقله إلى مكان آخر، كالمزرعة والبيت، إلا البيوت الجاهزة الموجودة الآن، فهذا شيء آخر، وتعتبر منقولاً؛ لكنه يسمى عقاراً تجوزاً، لكن الأصل والغالب والشائع في العقار أنه يكون ثابتاً، فمن دقة العلماء رحمهم الله أنهم يقولون: يجوز هذا في بيع العقارات، فتفهم من هذا أنه في بيع الأراضي والدور والمزارع، وإذا قال لك: لا يجوز هذا في المنقولات، أي: في غير العقارات وغير الذهب والفضة، وهذه كلها مداخل نريد أن نتصور بها البيع. لما قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة مال) والبعض قالوا: (مبادلة مال بمال)، إذا بادلت المال بالمال فمعنى ذلك أنك ستبادل كالآتي: الذهب، الفضة، المنقولات، العقارات. فأما الذهب والفضة فلهما اسم خاص وهو: الثمن أو الأثمان، وأما العقارات والمنقولات فاسمهما: المثمن، فعندما يقول العلماء رحمهم الله: باب زكاة الأثمان، نفهم أن هذا خاص بالذهب والفضة فقط، فلا يتكلمون على زكاة الخارج من الأرض، ولا يتكلمون على زكاة السائمة او غيرها من المنقولات، وعلى هذا عندنا الثمن وعندنا المثمن، فلو سألك سائل: المبيعات -أي: الأشياء التي يقع عليها البيع- إلى كم تنقسم؟ أو الأموال التي يقع عليها البيع إلى كم تنقسم؟ تقول: تنقسم إلى قسمين: ثمن، ومثمن، أما الأثمان: فهي إما ذهب وإما فضة، والمثمونات: إما عقارات وإما منقولات. فلما قال المصنف رحمه الله: (وهو مبادلة مال)، يقول أهل العلم رحمهم الله: تنقسم هذه المبادلة إلى ثلاثة أنواع: فإما أن يبادل ثمناً بثمن. أو مثمناً بمثمن. أو ثمناً بمثمن. النوع الأول: الثمن بالثمن: كبيع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، مثال على ذلك رجل عنده طقم ذهب يريد أن يبادله بطقم ذهب، فهذا يسمى بيع ثمن بثمن، أو عنده جنيهات ذهب فأراد أن يبادل مثلاً الجنيه الإنجليزي بجنيه مصري، أو يبادل الفضة بالفضة، سواء كانت من النقد، كأن تكون دراهم بدراهم، أو ريالات بريالات؛ لأن أصل الرصيد الريالات ورقاً كانت أو حديداً -وسوف نتكلم على هذه المسألة في باب الصرف- فحينما يصرف الريال بالريال ورقاً أو حديداً فإنما يصرف الفضة بالفضة في الأصل، ولذلك وجبت الزكاة فيها، والله لم يوجب زكاة الورق ولا زكاة الحديد (النيكل)، وإنما وجبت فيها الزكاة لأن رصيدها من الفضة، فإذا بادل الريال بالريال أو صرف الريال بالريال مثلاً بمثل يداً بيد، فيكون هذا بيع فضة بفضة، أو كان عنده طقم فضة وأراد أن يبادله بطقم فضة آخر، فهذا أيضاً يسمى بيع الفضة بالفضة، أما بيع ذهب بفضة فكأن تذهب الآن إلى بائع الذهب وتقول له: بكم هذا الطقم من الذهب؟ يقول لك: بعشرة آلاف، تقول: خذ، فأصبح الذهب في مقابل الفضة وهي العشرة آلاف ريال، وعلى هذا يكون من حقه أن يسمي بيع الثمن بالثمن: بيع الصرف، وهو يشمل جميع الصور الثلاث: الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة، فإذا قال العلماء: لا يجوز هذا في بيع الصرف، فمرادهم مبادلة ماذا؟ الثمن بالثمن، أي: مبادلة الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، أو الذهب بالفضة. النوع الثاني: مبادلة المثمن بالمثمن، والمثمن ينقسم إلى قسمين: منقولات، وعقارات، فإذا بادل المثمن بالمثمن تكون عندنا ثلاث صور: عقار بعقار، منقول بمنقول، عقار بمنقول. الصورة الأولى: عقار بعقار: كأن تقول: أبيعك بيتي ببيتك بيتي بأرضك أرضي التي في المخطط الفلاني بأرضك مزرعتي بمزرعتك. الصورة الثانية: منقول بمنقول: مثل: سيارة بسيارة كتاب بكتاب قلم بقلم ساعة بساعة إلخ. الصورة الثالثة: العقار بالمنقول: مثل أبيعك مزرعتي بسيارتك أبيعك أرضي التي في المخطط الفلاني بسيارتك. إذا بعت العقار بالعقار، والمنقول بالمنقول، والعقار بالمنقول، فيسميه العلماء: بيع المقايضة، فإذا قال العلماء: ويجوز هذا في بيع المقايضة، نفهم أنه يشمل ثلاث صور: إما بيع عقارات بعقارات، أو منقولات بمنقولات، أو عقارات بمنقولات. النوع الثالث: وهو مبادلة الثمن بالمثمن، وهذا هو البيع الغالب السائد بين الناس، وهو أن يقع بثمن (ذهب أو فضة) في مقابل مثمن (عقار أو منقول) فمثلاً: إذا اشترى الأرض من المخطط بمائة ألف ريال، تقول: المائة ألف تعتبر الثمن والأرض المثمن، فهذا من بيع الثمن بالمثمن، وهذا يسمى بيعاً مطلقاً، فإذا قال العلماء: يجوز هذا في البيع المطلق، فاعرف أنه في الثمن بالمثمن، ولماذا سموه مطلقاً؟ لأن البيع إذا أطلق انصرف عليه، فهو الغالب والأكثر والأشهر في بيوعات الناس. إذاً: عندنا ثلاثة أنواع من البيوع: بيع الصرف: وهو الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والذهب بالفضة. وبيع المقايضة: وهو العقار بالعقار، والمنقول بالمنقول، والعقار بالمنقول. والبيع المطلق: وهو إما عقار بذهب، أو عقار بفضة، أو منقول بذهب، أو منقول بفضة، فأصبحت أربع صور في هذا النوع. فهذه ثلاثة أنواع ذكرها العلماء في مسألة مبادلة المال بالمال الأسئلة الفرق بين قولهم: (تملكاً) و (تمليكاً) في تعريف البيع السؤال هل هناك فرق بين قولكم في تعريف البيع: (تملكاً) و (تمليكاً)، أم أن معناهما واحد؟ أثابكم الله. الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فهناك من العلماء -كما نص عليه بعض فقهاء الشافعية رحمهم الله في تعريف البيع- من قالوا: معاوضة المال بالمال تمليكاً، فلما قالوا: (تمليكاً) خرج من هذا المعاوضة على سبيل العارية، وكذلك أيضاً قصد من هذا بيان ثبوت اليد على المبيع من الثمن مع المثمن، أو المثمن مع المثمن، أو الثمن مع الثمن، قالوا: ملك الشيء يملكه مَلكاً ومِلكاً ومُلكاً مثلث الميم، المراد به: ثبوت اليد؛ لأن البيع إفادته أنه يفيد ثبوت اليد له، فمثلاً: لو قال لك: بعتك أرضي هذه بعشرة آلاف، لو اشتريتها بعشرة آلاف من حقك أن تحفرها، ولا يقول لك أحد: لا تحفرها، إلا إذا كان حفرها فيه ضرر على الغير، ومن حقك أيضاً أن تبني فيها، وأن تزرعها، ومن حقك أن تفعل فيها ما تشاء؛ -كأن تهديها أو تتصدق بها- إذاً: معنى ذلك أن يد التصرف ثابتة لك على هذه الأرض، فهو يراد به إثبات الملكية بالمعاوضة. ولما قالوا: (تمليكاً) أُخرج عقد النكاح؛ لأن المعاوضة فيه والمبادلة لا يقصد بها التمليك، وإنما يملك فقط المنفعة ولا يملك الذات، فيملك منفعة الاستمتاع بالمهر؛ لأن الله قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء:24] فجعل المعاوضة على المنافع ولم يجعلها على الذات، لكن إذا اشترى رقيقاً فإنه يملك ذواتهم، فله أن يبيعهم، وله أن يهبهم، وله أن يعتقهم إلخ. فالمقصود: أن التمليك يقصد منه إثبات اليد، وليس بخالٍ عن معنى، وبعض فقهاء الحنابلة -كما في كشاف القناع وغيره- يقولون: (تملكاً) و (تمليكاً)، وهذا من باب التقسيم، تمليكاً بالنسبة لك لما تعطيه، فأنت إذا قلت للشخص: بعتك هذا بعشرة آلاف، فأنت تتملك العشرة آلاف وتملك الشيء الذي تبيعه، فيكون تملكاً بالنسبة لما تأخذ وتمليكاً بالنسبة لما تعطي، بائعاً كنت أو مشترياً. فهذا معنى قولهم: (تملكاً) و (تمليكاً). والله تعالى أعلم حقيقة الاختلاف في تعاريف البيوع السؤال ما صحة هذا التعريف للبيع، وهو: أنه مبادلة دين أو عين أو منفعة بمثل أحدهما على سبيل التأبيد غير رباً وقرض، هل هو سالم من النقص؟ أثابكم الله. الجواب حقيقة تعاريف البيوع مختلفة، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، والتعريفات لها ضوابط، وقد تكلم العلماء على الطريقة التي تعرَّف بها الأشياء، وتعبت أذهان أهل العلم في سبيل ذلك، ومن قرأ كتب السلف وكتب الأئمة يعرف مقدار ما بذله هؤلاء العلماء الذين لا يستطيع أحد أن يكافئهم إلا الله جل جلاله، ويعلم علم اليقين أنه لا أعظم من هذه الشريعة، ولن يستطيع أن يبين للناس ما فيه مصالح دينهم ودنياهم وآخرتهم إلا هذا الشرع الحكيم المتقن؛ لأنه إذا كان الأصل صحيحاً فما انبنى على صحيح فهو صحيح، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} [التوبة:109]، فالعلم مؤسس على تقوى من الله ورضوان، تلك القلوب التي صقلتها روحانية الكتاب والسنة، وسهرت عيونهم وكلّت أجسادهم ونحلت في طاعة الله ومرضاته، وكانوا يتعبون للتمحيص والتدقيق، حتى ذكر عن بعضهم أنه ربما أراد النوم من شدة العناء والتعب، فيتذكر الحكمة ويتذكر الفائدة فيضيء مصباحه لأجل أن يكتبها لمن بعده، حتى يكتب الله له ثوابها ويعظم الله له أجرها، فهذه التعاريف لم تأت من فراغ، ننظر إلى تعريف يذكره عالم له قدم راسخة في العلم، ثم يبقى القرن والقرنين والثلاثة والأربعة، بل قد تستمر أحد عشر قرناً ككتب المتقدمين، وخاصة القرون المفضلة، وهي تمر على أجيال تلو أجيال وهي تشرح وتنقح وتوضح، ولذلك لما قادت هذه الشريعة الأمة وقادت العالم من المحيط إلى المحيط لم يعجز الفقه الإسلامي يوماً من الأيام عن قضية أو نازلة، فتتقلب جميع النظم وما يستقر على وجه الأرض من التشريعات إلا تشريع الإسلام، وكلمة الله سبحانه وتعالى تامة {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] فهي صدق وهي عدل {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115]. فهذه التعاريف لا يستهان بها، فينبغي لطالب العلم ألا يحقّر من هذه الأشياء؛ لأن هذ االفقه موزون وبدقة، فمثلاً: لما تأتي إلى علم السيارات تجدهم يبحثون أدق شيء في السيارة ويفتخرون بهذا، وقد تجد أبناء الإسلام يشيدون بهذه المعارف الدنيوية ويتحدثون بها، ويقولون: وجدنا من يدرس الهندسة والكيمياء ويفعل ويفعل، ويدقق وينقح ويفصل، ولو نظروا إلى تراث السلف وعلموا ما في بطون هذه الكتب وهذه الكنوز مما فيه سعادة الدنيا بأسرها وليست الأمة وحدها، لعجبوا وما انتهوا من العجب، واعجب فما تنفك من عجائب. فلا يستهان بهذه العلوم وهذه الأمور التي يذكرها العلماء، والفقه إذا أردت أن تشعر بقيمته فادخل إلى عمقه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)، ومعنى ذلك: أنه دقة في الفهم وغوص في الأعماق، ولذلك تجد النص ينتزع منه أكثر من دليل وأكثر من حكم وأكثر من مسألة، ففي آية المائدة يقول الإمام ابن العربي رحمه الله: (اجتمع لها علماء من فاس -وكانت زاخرة بأهل العلم- فاستخرجوا منها ثمانمائة مسألة) هذه آية واحدة، لكنها من كلام الله الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي غرائبه وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر الخلق، وتراث السلف هذا ينبغي أن يعتنى به، وأن يحاول الإنسان أن يعتني به بعيداً عن الغلو، فلا يعتقد أن هذه النصوص وحي، وإنما يمحص ويدقق ويرجع إلى الأصول والأدلة، حتى يجد لذة هذا الفقه وحلاوته ويعرف ما الذي قدمه له هؤلاء العلماء والأئمة، ومن ذلك مسائل التعاريف. فتعاريف البيوع كما ذكر الإمام الزركشي رحمه الله في شرحه: إن جميع التعاريف لم تخل من نظر ومن اعتراضات، ولذلك تجد الحنفية يقولون: البيع مبادلة المال بالمال بالتراضي. والمالكية يقولون: عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة، بمكايسة أحد عوضين، غير ذهب ولا فضة معين غير العين فيه. هذا بالنسبة لتعريف ابن عرفة رحمه الله في الحدود. وتجد الشافعية يقولون: معاوضة المال بالمال تمليكاً. وتجد الحنابلة يقولون: تملكاً وتمليكاً. كتعريف الشافعية. وكل هذه التعاريف شبه متقاربة، لما قال: مبادلة المال بالمال، أولاً قال: مبادلة المال، فمعنى ذلك: أنه يدخل عقد النكاح وعقد الإجارة وعقد البيع وعقد الشركات؛ لأنك تدفع نصف الشركة وغيره يدفع نصف الشركة، وعقد المضاربة، والهدية، فعندما يعطيك ترد عليه بهدية أحسن منها، وهذه تسمى هبة العوض، التي كانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أتى العلماء بقيد: فقالوا: مبادلة المال بالمال. فلما قالوا (بالمال)، خرج مبادلة المال بالبُضع، الذي هو النكاح، وخرج مبادلة المال بالمنفعة وهي السكنى أو ركوب الدابة أو الإجارة، وخرج مبادلة المال بالمال لا للتمليك كالشركات، هذا بالنسبة للشافعية والحنفية والحنابلة. لكن المالكية قالوا: (عقد معاوضة على غير منافع) والمعاوضة عام، فأرادوا أن يخرجوا الإجارة، فقالوا: (على غير منافع) ثم أرادوا أن يخرجوا النكاح فقالوا: (ولا متعة لذة) كذلك أرادوا أن يخرجوا الشركة والمضاربة فقالوا: (ذو مكايسة)، أي: بالمخاطرة؛ لأن العقود منها ما فيه خطر، ومنها ما فيه الرفق، ومنها ما يجمع ما بين الرفق والخطر، أي: أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ما كان ضرراً محضاً أو غبناً محضاً. ما كان رفقاً محضاً. ما كان جمعاً للأمرين. فالغبن المحض: مثل البيع والإجارة، كأن يقول لك: أبيعك السيارة بعشرة آلاف، فتقول: لا، بتسعة آلاف بثمانية آلاف، كأن هناك ألفاً تريد أن تضع غبنها عليه، وهو يريد أن يضع غبنها عليك، أو تقول: أجرني دارك بألف، يقول: لا، بألف ومائتين، أو تقول: بعني هذه الشاة بستمائة، يقول: لا، بستمائة وخمسين بسبعمائة. إذاً فيه شيء من الغبن المحض، فكل منهم يريد أن يغبن صاحبه بالنسبة لعقد البيع وعقد الإجارة. أما الرفق المحض: كما لو جاءك وأعطاك ساعة هدية، فتذكرت أن من صنع إليك معروفاً تكافئه، فاشتريت له قلماً، هذه معاوضة، والهدية نوعان: - هدية يعطيها من أجل أن تعطيه أكثر، كأن يأتيك إنسان فقير ويقول لك: هذا القلم هدية مني لك، فهذا معناه أنه إنسان فقير يريد أن يلفت نظرك إليه، فتعطيه أكثر من هذه الهدية، فهذه يسمونها: هبة الثواب، وكانت محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تنقص من مكانة صاحبها، وفيها نوع من السؤال، فجعل الله فقر نبيه صلى الله عليه وسلم إليه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، أي: لا تفعل المنة لكي تأخذ ما هو أكثر، وتمتن على الناس بالهدية تريد ما هو أكثر. فالشاهد أن هذا معاوضة، يعطيك وتعطيه، ولكنه يراد به الرفق المحض، ولا يراد به الغبن. - هناك عقود جامعة بينهما، كالشركات: كأن تعطي عشرة آلاف ويعطي عشرة آلاف، فتجتمعون في شركة وتكونونها، فأنت تريد أن تربح ماله وهو يريد أن يربح مالك، لكن تقول له: الربح بيننا بالأثلاث، ثلثان لي وثلث لك، يقول: لا، الثلثان لي والثلث لك، وقد يقول: ثلاثة أرباع لي وربع لك، إذاً فيه غبن وفيه رفق. كذلك عقد المضاربة الذي يسمى (الضراب): كأن تعطي العامل عشرة آلاف وتقول له: اضرب بها في الأرض والربح بيني وبينك، يقول: لا، لي الثلثان ولك الثلث، أو تقول أنت: لي الثلثان ولك الثلث لي ثلاثة أرباع ولك الربع، وقس على هذا. فلما يقول المالكي: (ذو مكايسة)، فمعنى ذلك ذو غبن وضرر، أو يحتاج إلى حذر، فأخرج عقد الشركة والمضاربة والهبة إلخ. إذاً تجد في تعاريف العلماء الألفاظ مختلفة لكن المضامين شبه متفقة؛ لأن الكل يريد نتيجة واحدة ويريد مضموناً واحداً، فهي وإن اختلفت عباراتها ولكنها غالباً تدور حول معنى متقارب. والله تعالى أعلم وصايا لطلاب العلم السؤال نظراً لأهمية كتاب البيوع، هلا تفضلتم بذكر السبل المعينة على ضبطه؟ أثابكم الله. الجواب أولاً: أوصي طلاب العلم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله فتح الله عليه، وإذا كان الإنسان مليء القلب من خشية الله سبحانه وتعالى، ومعمور القلب بحب الله وإرادة وجهه، دله الله على سبيله وهداه إلى طريقه، ومن تولى الله هدايته سلم من الضلالة وأمن من الغواية، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62]، فأهم شيء أن تتقي الله عز وجل، ولا تخرج من بيتك إلى مجلس العلم إلا نقي القلب تريد ما عند الله عز وجل، فإذا أردت وجه الله فتح الله عليك، فإنه لا شيء أعظم ولا أجلَّ من إخلاص العمل لله، بل ما خلق الله الخلق إلا من أجل هذا وهو التوحيد، فهو أساس الدين، فهذا خير ما يوصى به طالب العلم. ولو أننا في كل مجلس نتواصى بهذه الوصية، والله! لا تملها أذن مؤمن ولا يسأم منها قلب؛ لأنها تحيي في القلوب حب الله وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فلا تقصد بها الرياء والسمعة. واعلم أن الله معك إذا اتقيته، وأن الله يفتح عليك إذا أردته، ومن أراد الله كان الله له، فكن مع الله عز وجل يكن الله معك، قال الله تعالى: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [المائدة:12] فالله معك ما أقمت حقه، وأعظم حق لله الإخلاص. ثانياً: الذي أوصيك به أخي الكريم: أن تحاول قدر المستطاع أن تركز وأن تضبط؛ لأن العلم ثقيل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فالعلم لا يأتي بالتشهي ولا بالتمني ولكنه يحتاج إلى تعب وعناء وشيء من الكدح، ولذلك أخذ جبريل رسول الأمة صلى الله عليه وسلم فغطه حتى رأى الموت: (فقال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)؛ لأنه ابتدأ تعليمه وتفهيمه، وعلمه الله ما لم يكن يعلم؟ قال بعض العلماء: فيه دليل على أن العلم لا ينال إلا بشق الأنفس، والعلم لا ينال بالتمني والتشهي، وموسى بن عمران عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما أراد العلم قال الله له: (إن في مجمع البحرين عبداً علمناه من لدنا علماً) هل قال له: سيأتيك؟ وهو موسى عليه الصلاة والسلام، الذي كلمه الله، وقربه نجياً، وفضله وكرمه وشرفه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (وأكون أول من أفيق، فإذا بموسى واقف عند ساق العرش، فلا أدري أكان أول من أفاق، أم جوزي بصعقة الطور) صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، فرغم هذا الفضل وهذه المكانة التي شرفه الله عز وجل بها إلا أنه جعله يذهب على قدميه ليبحث عمن يعلمه، وهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي أن يجتهد ويحرص على طلب العلم، فما اغتر موسى عليه السلام أنه نبي يوحى إليه، بل لما أخبره الله وأعلمه أن هناك من له علم أو عنده علم سعى إليه، وتعب من أجله. ثالثاً: بعد الجد والاجتهاد يحتاج العلم منك إلى كثرة مراجعة، وكثرة متابعة، وإلى أن تتواضع له، وما الذي عندنا حتى نتواضع للعلم! ولكن العلم هو الذي له الفضل، وهو فضل الله عز وجل، والله يفضل العبد بالعلم، فليس بيننا وبين الله حسب ولا نسب، فمقام العلماء بعد مقام الأنبياء، فإذا أردت أن تكون من طلاب العلم متقناً لهذا الباب أو غيره فعليك أن تجد وتجتهد وتتعب، وتقدم الثمن الغالي، فتحضر إذا غاب الناس، وتشهد إذا ذهبوا، وتسمع إذا لم يسمعوا، وتجلّ وتعظم العلم إذا احتقروه، وهذا أبو هريرة رضي الله عنه الذي ما أسلم إلا في يوم خيبر، وحاز من العلم حتى قيل له: حافظ الصحابة، فما هو السبب؟ السبب أنه لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطنه، حتى كان يصرع رضي الله عنه وأرضاه عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجوع، قال: (فيأتي الرجل ويضع قدمه على صفحة عنقي، يظن أن بي الجنون، وما بي الجنون، ما بي إلا الجوع)، فترك الدنيا وأقبل على الآخرة وجدّ واجتهد، حتى كان عنده من السنن ما لم يكن عند غيره، وحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يقل عن أربعة آلاف حديث، وقلّ أن تجد باباً من العلم إلا له فيه حديث، وهو الآن في قبره يتنعم بهذه الأحاديث وبهذه السنة، نسأل الله العظيم أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يجعله في الفردوس الأعلى من الجنة بما كان له من الخير على الأمة، مما حفظ وشهد. يذهب الناس يمنة ويسرة وأنت تذهب إلى مجالس العلم، وتحرص على حفظها ولزومها، والله يبتليك فتجد التجارة وتجد مشاغل الدنيا، لكن تضحي للعلم، ووالله لن تقدم القليل إلا كافأك الله بالكثير، وما أعرض أحد عن العلم فأفلح، خاصة إذا كان الإنسان بحاجة إلى هذا العلم ويعرض عنه ولا يبالي فإن الله لا يبالي بمن لا يبالي بهذا العلم، فليس بيننا وبين الله إلا هذا الوحي، ومن علم فإن الله يفضله. رابعاً: التركيز على الأصول والضوابط، فكل درس تلخصه، وتحاول أن تلتقي بمجموعة من الشباب وطلاب العلم أسبوعياً لتراجع معهم الدروس، ثم تجعل أسئلة على كل باب وتجيب عنها، حينئذٍ يصبح كل درس عندك مهذب منقح بأسئلته وأجوبته متى ما رجعت إليه وجدته. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |