رد: دراسة للخطب في الجاهلية
دراسة للخطب في الجاهلية (2)
د. إبراهيم عوض
ثم قام عمرو بن معد يكرب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجعة الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ (اجتذب) طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحِلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا؛ فإنا أناس لم يوقس صفاتنا (أي لم يخدش صخرتنا)، قراع مناقير من أراد لنا قضمًا، ولكن منعنا حمانا من كل مَن رام لنا هضمًا.
ثم قام الحارث بن ظالم المري فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملَق، ومِن خطل الرأي خفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن الائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، فما أنت لقبول لك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأتِ من قبلك ميل أو زلل، قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم، قال: إن في أسماء آبائك لدليلًا على قلة وفائك وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر، قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل، ولن يستوجب أحد الحِلم إلا مع القدرة، فلتُشْبه أفعالك مجلسك، قال كسرى: هذا فتى القوم.
ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم ولم يحكم أمركم وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طباعكم لم أُجز لكم كثيرًا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحب هو إصلاح مدبركم وتألف شواذكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم، فأحسنوا مؤازرته، والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم؛ فإن في ذلك صلاح العامة".
وأول شيء يلفت النظر هو: كيف استطاع النعمان أن يجمع هؤلاء الرجال من كل أرجاء بلاد العرب، وهو الذي لم يكن له سلطان إلا على منطقة الحِيرة في شمال شرق الجزيرة العربية؟ وكيف ورد في كلامه مصطلحا "الوزن والقافية" الشعري، وهما لفظان لم تكن العرب تعرفهما في ذلك المعنى آنذاك؟ ثم إن خطبة أكثم بن صيفي ليست في الواقع خطبة، بل مجموعة من الأمثال التي تنسب إليه وصل بعضها ببعض وصلًا متعسفًا؛ إذ ليس لها محور واحد تدور عليه، بل كلمة من الشرق، وكلمة من الغرب، وإن كنا لا نقلل من قيمة كل كلمة في حد ذاتها، لكننا نستغرب أن تكون هذه هي الخطبة التي انتدب النعمان بن المنذر أكثم لإلقائها في حضرة كسرى تنبيهًا له على فضل أمة العرب، على حين لا علاقة بينها وبين هذا الموضوع بتاتًا، كما وردت في الخطبة عبارة لم يعرفها العرب، فيما نتصور، إلا عندما تقدمت العلوم عندهم ونشأ علم البلاغة وحاول النقاد تقنين الكلام البليغ، ألا وهي عبارة "البلاغة الإيجاز"، كذلك هناك كلمة "شريعة" التي استعملها النعمان للإشارة إلى أحكام الوثنية، والسؤال هو: أكان العرب يستعملون هذه الكلمة فيما أصبحت تستعمل له بعد الإسلام؟ وهل كان العرب أصلًا يسمون ما هم عليه من تقاليد جاهلية: "شريعة"؟ لقد بحثت في "الموسوعة الشعرية" الضوئية عن شواهد في الشعر الجاهلي لهذه الكلمة فلم أجد إلا بيتًا واحدًا لا علاقة له البتة بهذا المعنى، ثم هل تواتي نفس أي عربي في محضر كسرى أن يدعو الفرس بـ: "الأعاجم" مثلما فعل الحارث بن عباد البكري، وهي كلمة مسيئة في حقهم كما نعرف؛ إذ تسوي بينهم وبين العجماوات؟
وبالمثل، هل من السهل قبول ما جاء في القصة من أن عمرو بن الشريد قد جبه ملك الفرس بهذا الكلام الجافي الذي يحمل من التحدي الساطع ما يحمل: "لم نأتِ لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك، إن في أموالنا منتقدًا، وعلى عزنا معتمدًا؟ أو أن يقرع الحارث بن ظالم المري كسرى بهذه الكلمات التي تنصحه بالارتفاع إلى مستوى السلوك اللائق بالملوك: "إن في الحق مغضبة، والسَّرْو التغافل، ولن يستوجب أحد الحِلم إلا مع القدرة، فلتُشبه أفعالك مجلسك"؟ أو أن يهدده عامر بن الطفيل بما لوح له به من إمكان انتقاض العرب عليه وحربهم إياه حتى ليغضب كسرى مما قال، بينما هو غير مبالٍ، وكأنه لم يقل شيئًا؟ وإن خفف من ذلك تنبيه النعمان للعاهل الفارسي منذ البداية إلى خشونة رسله وتعليق كسرى في النهاية بأنه إنما يصفح عما في كلامهم من جفاء وخشونة لِما يعلمه عنهم من قلة خبرتهم بمخاطبة الملوك، وبالمناسبة فخطب أشراف العرب في قصتنا هذه قد صُبت في لغة أقرب إلى الترسل منها إلى السجع، وهذا هو الأقرب أن يكون في مثل ذلك الموقف وتلك الظروف، وفي نهاية التحليل نقول: إنه ليغلِب على الظن أن يكون لهذه القصة أصل تاريخي وأنها قد وصلت المدونين في العصر العباسي في خطوطها العامة ثم توسع فيها الرواة فيما بعد، فأضافوا إليها كثيرًا من التفاصيل، وجهدوا أن يردوا، من خلال ما أضافوه، على ما كان الشعوبيون يتنقصون به العرب في العصر العباسي ويقللون من شأنهم؛ لفتحهم بلادهم وبسطهم سلطانهم عليهم، ولا شك أن إشارة القصة في بدايتها إلى وجود الترجمان في تلك المناسبة لتشكل لمسة واقعية تزيد مصداقيتها، كما أن ذكر القصة لمعايب العرب وبعض من اشتركوا في هذا الموقف من خطباء هو مما يعضد الاقتناع بأنها قد وقعت فعلًا على نحوٍ من الأنحاء.
على أن ثمة نصوصًا أخرى من الخطب والأحاديث يغلِب عليها التكلف في هندسة العبارة والاستقصاء في المعنى والتشقيق في التفاصيل بحيث لا يكاد المتكلم يترك شاردة ولا واردة دون أن يذكرها، مما يجعلنا لا نثق في جاهليتها، كوصف عصام الكندية لأم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني في النص التالي: "لما بلغ الحارثَ بن عمرو ملك كندة جمالُ أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني وكمالها وقوة عقلها أراد أن يتزوجها، فدعا امرأة من كندة يقال لها: عصام، ذات عقل ولسان وأدب وبيان، وقال لها: اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف، فمضت حتى انتهت إلى أمها أمامة بنت الحارث فأعلمتها ما قدمت له، فأرسلت أمامة إلى ابنتها وقالت: أي بنية، هذه خالتك أتت إليك لتنظر إلى بعض شأنك، فلا تستري عنها شيئًا أرادت النظر إليه من وجه وخُلق، وناطقيها فيما استنطقتك فيه، فدخلت عصام عليها فنظرت إلى ما لم ترَ عينها مثله قط بهجة وحسنًا وجمالًا، فإذا هي أكمل الناس عقلًا، وأفصحهم لسانًا، فخرجت من عندها وهي تقول: ترك الخداع من كشف القناع، فذهبت مثلًا، ثم أقبلت إلى الحارث فقال له: ما وراءكِ يا عصام؟ فأرسلها مثلًا، قالت: صرَّح المَخْضُ عن الزبد، فذهبت مثلًا، قال: أخبريني، قالت: أخبرك صدقًا وحقًّا...." (إلخ...).
إن هذا لبكتابة تقرير فني في مسابقات العَهْر (التي يسمونها زورًا بـ: "مسابقات ملكات الجمال") يضع نصب عينيه تقديم وصف تفصيلي لكل ملمح أو عضو من أعضاء الفتاة المشتركة في تلك المسابقات أشبه منه بحديث خاطبة إلى ملك من ملوك العرب في تلك العصور، وبخاصة أن الوصف لم ينتزه عن تناول أشد مناطق الجسد حساسية، مما من شأنه إثارة غيرة الرجل الكريم حتى لو كان المقصود هو البحث له عن زوجة تمتعه وتسره! وفضلًا عن ذلك فإني لا أظن أن امرأة عربية في تلك العصور كانت ترضى بأن تتجرد من ملابسها وتذهب فتستعرض مفاتنها الداخلية على هذا النحو ولا حتى أمام أمها! والطريف أنه، بعد كل ما قالته المرأة الكندية في وصف جمال الفتاة، تعود فتقول: "فأما ما سوى ذلك فتركت أن أصفه، غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر"، فهل تراها تركت شيئًا لم تصفه مما يحتاج الرجل معرفته عن المرأة التي يبغي خطبتها؟ ثم إن مقدمة النص تقول: إن "الحارث بن عمرو ملك كمندة قد بلغه جمال أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني وكمالها وقوة عقلها"؛ أي إنه كان على علم بجمالها وكمالها، فما معنى كل هذا الوصف الدقيق المفصل الذي لا يدل إلا على شيء واحد: أنه لم يكن يعرف عن الفتاة شيئًا؟ وإلى جانب هذا لا ينبغي أن ننسى أن تعبيرات مثل "خلف ذلك ظهر كالجدول ينتهي إلى خصر، لولا رحمة الله لانبتر"، "فتبارك الله مع صغرهما، كيف تطيقان حمل ما فوقهما؟" لا تصدر غالبًا إلا عن مسلم في العصر العباسي فنازلًا، حين كان الأدباء يستخدمون مثل هذه العبارات الماجنة التي يُوهم ظاهرها بالتدين رغم ذلك، وهو مجون تشفُّ عنه العبارة التالية بدورها أحسن شف: "تحته كفل يقعدها إذا نهضت، وينهضها إذا قعدت"، فضلًا عما فيها من ترف في تذوق الجمال النسائي لم يكن يعرفه الجاهليون، إلى جانب التلاعب البديعي المعقد الذي لم يكن لهم به عهد؛ إذ فيها موازنة ومقابلة وسجع وتورية وردٌّ للأعجاز على الصدور في وقت معًا، وهناك أيضًا المقابلة بين "النظم والنثر" في الجملة التالية التي وردت قرب نهاية النص: "غير أنه أحسن ما وصفه واصف بنظم أو نثر" بما يدل على الشمول مما لم يكن الجاهليون يعرفونه في تعبيراتهم، بل إنني لا أظنهم كانوا يستخدمون هاتين الكلمتين بالمعنى الاصطلاحي الذي عُرفتا به في دنيا الأدب والنقد فيما بعد!
كذلك من حق الباحث أن يتساءل فيما يخص هذه القصة ذاتها في مرحلتها اللاحقة قائلًا: أمن المعقول أن أمًّا من الأمهات حين تريد أن تنصح بنتها في ليلة زفافها تلجأ إلى مثل هذه العبارات المسجوعة المجنَّسة المتوازنة (رغم ما في السجع والجناس والتوازن هنا من بساطة)، كما في النص التالي الذي تخاطب فيه أمامة بنت الحارث بنتها أم إياس التي مر بنا آنفًا وصف عصام الكندية العجيب لها؟: "أي بنية، إن الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهن خلق الرجال، أي بنية، إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلَّفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبًا ومليكًا، فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكًا، يا بُنية، احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذكرًا: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة، والتعهد لموقع عينه، والتفقد موضع أنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشَمُّ منك إلا أطيب ريح، والكحل أحسن الحسن، والماء أطيب الطيب المفقود، والتعهد لوقت طعامه، والهُدُو عنه عند منامه؛ فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والإرعاء على العيال والحشم جميل حسن التدبير، ولا تفشي له سرًّا، ولا تعصي له أمرًا؛ فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، ثم اتقي مع ذلك الفرح إن كان ترحًا، والاكتئاب عنده إن كان فرحًا؛ فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له إعظامًا، يكن أشد ما يكون لك إكرامًا، وأشد ما تكونين له موافقة، يكن أطول ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك"، لا أظن أن الأم، حتى لو كانت أديبة، يمكن أن تنهج في حديثها الشفوي المباشر مع ابنتها هذا النهج، بخلاف ما لو قصدت أن تخلف وراءها عملًا من الأعمال الأدبية التي تبقى على مدى الزمان، فإنها حينئذ تحتشد لذلك وتجتهد في كتابة نصيحة محبرة موشاة لبنتها ولكل بنات العالمين، وكذلك للقراء والأدباء أيضًا، على مدار الدهر، لكن هذا شيء آخر غير ما نحن بسبيله الآن، أم ترى هناك من يقول معترضًا: ومن أدراك بأن تلك الأم لم ترد ذلك ولم تفعله، وبخاصة أننا هنا إزاء ملك وزوجته وحماته لا ناس من عرض الطريق؟ على كل حال، فإني معجب إعجابًا شديدًا بكلام الأم، وأجده يرن في سمعي رنين الذهب، ويهش قلبي إليه هشاش الأرض العطشى لوابل الغيث المحيي!
والواقع أن انشغالي بمسألة بروز السجع والجناس وما إليه في كثير من خطب الجاهليين سببه افتقادي لذلك في نظيراتها من خطب الرسول والخلفاء الراشدين، اللهم إلا ما جاء عفوًا بين الحين والحين، فلماذا كان كثير من الخُطب التي وردتنا عن عصر ما قبل الإسلام على هذا النحو من الاهتمام بالسجع والجناس والتوازن بخلاف ما عليه الخطب في صدر الإسلام بوجه عام، فضلًا عن أن السجع والمحسنات البديعية فيها كانت، كما يُفهم من الرواية، أمرًا ارتجاليًّا؟ فهل يستطيع الخطباء، وبالذات في ذلك العصر قبل أن يلتفت العرب إلى هذه التزاويق ويصبح الحرص عليها جزءًا من التركيبة الذهنية الإبداعية عندهم، أن يرتجلوا كلامًا محسنًا بالبديع على هذا النحو الذي نراه في عدد من الخطب الجاهلية؟ هذه هي النقطة التي تحيك في صدري بالنسبة لصحة نصوص الخطب الجاهلية، أما ما سوى ذلك من ملاحظات فما أسهل التعامل معها والخروج منها بالنتائج التي يؤدي إليها المنطق كما رأينا فيما مر، أيكون المسلمون الأوائل قد نفروا من الجري خلف السجع بسبب ارتباطه بالكهان؟ أتراهم كانوا يُلقون بكل ثقلهم وراء المضمون والوصول به إلى الإقناع وتحويله إلى واقع تطبيقي بدلًا من المتعة الفنية المتمثلة هنا في البديع في حد ذاتها؛ إذ كانوا بصدد تكوين دولة تضم العرب جميعًا لأول مرة في تاريخهم المعروف، ثم بصدد صراع ضارٍ مع القوى العالمية الكبرى حولهم، صراع حياة أو موت، فلم يكن لديهم الوقت ولا البال للاهتمام بالسجع والمحسنات البديعية؟ أترى الجاهليين، وهم الأميون، كانوا يعولون على موسيقا السجع والجناس والتوازن لتسهيل حفظ النصوص النثرية كالخطب والمنافرات؟ مرة أخرى أجدني أقول: هذه هي النقطة التي تحيك في صدري بالنسبة لصحة نصوص الخطب الجاهلية، أما ما سوى ذلك من ملاحظات فما أسهل التعامل معها والخروج منها بالنتائج التي يؤدي إليها المنطق كما رأينا فيما مر، ومع ذلك فها هو ذا الجاحظ يقرر أن العرب في جاهليتهم كانوا يعتمدون السجع في بعض ضروب الخطابة؛ كالمنافرة والمفاخرة، والترسل في بعضها الآخر؛ كما هو الحال في خطب الصلح والمعاهدات؛ (الجاحظ/ البيان والتبيين/ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر/1/289 - 290، و3/6)، وهو ما يدل على أنه لا يجد فيها شيئًا مما يحيك في صدري تجاه هذه المسألة، وأحسب أن موقف الجاحظ أحرى بالقبول من موقفي؛ لأنه كان أعرف بالأدب العربي قبل الإسلام من واحد مثلي؛ لقربه من عصر الجاهلية ومعرفته الموسوعية بالثقافة العربية وآدابها، كما هو معلوم للجميع، فوق أنه كان أديبًا كبيرًا، وبلاغيًّا عجيبًا، وناقدًا ذواقة للكلام، ودارسًا ومحللًا للنصوص والأساليب من الطراز الأول، ومتكلمًا يصعب أن يوجد له نظيرٌ مسامت.
هذا، وقد وردَتْنا عن الجاهليين ضروب من الخطب المختلفة الموضوعات، صحيحة كانت أو مصنوعة: فمنها الخطب الوعظية؛ كخُطَب قُس بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ، وخطب الصلح بين المتخاصمين؛ كخطبة مرثد الخير في الإصلاح بين سبيع بن الحارث وميثم بن مثوب، ومنها خطب التعزية؛ كتلك التي عزَّت بها وفود العرب سلامة ذا فائش في موت ابنه، وكان من بين المتكلمين يومها الملبب بن عوف وجعادة بن أفلح، وكذلك خطبة أكثم بن صيفي في تعزية عمرو بن هند في ابن أخيه، ثم خطب النكاح؛ كالخِطبة التي ألقاها أبو طالب في خِطبة خديجة لمحمد ابن أخيه، وتلك التي قالها عامر بن الظرب حين خطبت ابنته، ومنها خطب المنافرات؛ كتلك التي تُبودلت بين علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، ومنها خطب السفارات؛ كما هو الحال في مجموعة الخطب التي خطبها بعض رؤساء العرب في حضرة كسرى في إيوانه، ومنها خطب الكهَّان والكواهن التي يتنبؤون فيها بالغيب حسبما كانوا يعتقدون، ومنها خطب الوصايا؛ كتلك الخطبة التي ألقاها ذو الإصبع العدواني على ابنه، ونظيرتها التي ألقاها قيس بن زهير على بني النمر بني قاسط، وكذلك الخطبة الرائعة التي يقال: إن أمامة بنت الحارث قد وصَّت بها ابنتها أم إياس عند زفافها على الحارث بن عمرو ملك كندة... إلخ، وكان العرب يخطبون في الأسواق والمجالس والقصور الملكية وعند الكعبة وعلى نشَز من الأرض وفي الحرب، كما كانوا يخطبون وقوفًا، وعلى الرواحل، أو مسندين ظهورهم إلى الكعبة... وهكذا، وكان من عادتهم في الخطابة، كما ألمعنا من قبل، لُبس العمامة والإمساك بالعصا، تلك العادة التي عمل الشعوبيون على التنقص منها والإزراء على العرب بسببها، فتصدى لهم الجاحظ مبينًا فضل العصا في صفحات طويلة انثال عليه الكلام فيه انثيالًا في كتابه: "البيان والتبيين"، وقد مر بنا أثناء دراستنا لهذا الفن عند الجاهليين طائفة من مشاهير خطبائهم، وهذه أسماء طائفة أخرى منهم: سهيل بن عمرو وعتبة بن ربيعة وقيس بن الشماس وسعد بن الربيع وهانئ بن قبيصة وزهير بن جناب وربيعة بن حُذار ولبيد بن ربيعة وهرم بن قطبة الفزاري وعمرو بن كلثوم التغلبي وحنظلة بن ضرار الضبِّي.
والآن أترك القارئ مع هذه النصوص الخطابية التي وصلتنا عن ذلك العصر: فمنها خطبة مرثد الخير التي سلفت الإشارة إليها آنفًا، وهذا نصها: "إن التخبط وامتطاء الهجاج (أي العناد وركوب الرأس)، واستحقاب اللجاج، سيقفكما على شفا هوة في تورُّدها بوار الأصيلة، وانقطاع الوسيلة، فتلافيا أمركما قبل انتكاث العهد، وانحلال العقد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة (أي القرابة)، وأنتما في فسحة رافهة، وقدم واطدة، والمودة مثرية، والبقيا معرضة، فقد عرفتم أنباء من كان قبلكم من العرب ممن عصى النصيح، وخالف الرشيد، وأصغى إلى التقاطع، ورأيتم ما آلت إليه عواقب سوء سعيهم، وكيف كان صُبُور أمورهم، فتلافوا القرحة قبل تفاقم الثأي (أي قبل انتشار الفساد) واستفحال الداء، وإعواز الدواء، فإنه إذا سفكت الدماء، استحكمت الشحناء، وإذا استحكمت الشحناء، تقضبت عرى الغبقاء، وشمل البلاء".
ومنها خطبة قُسِّ بن ساعدة الإيادي في سوق عكاظ يلفت أنظار السامعين إلى صروف الدهر وما ينبغي أن يعتبر به العاقل: "أيها الناس، اسمعوا وَعُوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراة، إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعبرًا، ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضُوا فأقاموا أم تركوا فناموا؟ يقسم قسٌّ بالله قسمًا لا إثم فيه، إن لله دينًا هو أرضى له وأفصل من دينكم الذي أنتم عليه، إنكم لتأتون من الأمر منكرًا"، ويروى أن قسًّا أنشأ بعد ذلك يقول:
في الذَّاهبينَ الأوَّلي 
نَ مِن القرونِ لنا بصائِرْ 
لمَّا رأَيْتُ مواردًا 
للموتِ ليس لها مصادِرْ 
ورأَيْتُ قومي نحوَها 
تَمْضي الأكابرُ والأصاغِرْ 
لا يرجِعُ الماضي إليْ 
يَ ولا مِن الباقينَ غابِرْ 
أيقنتُ أني لا محا 
لةَ حيثُ صار القومُ صائِرْ 
ومنها كذلك خطبة هاشم بن عبدمناف يحث قريشًا على إكرام حجاج البيت الحرام: "كان هاشم بن عبدمناف يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها فيخطب قريشًا فيقول: يا معشر قريش، أنتم سادة العرب: أحسنها وجوهًا، وأعظمها أحلامًا، وأوسطها أنسابًا، وأقربها أرحامًا، يا معشر قريش، أنتم جيران بيت الله: أكرمكم بولايته، وخصكم بجواره دون بني إسماعيل، وحفظ منكم أحسن ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزوارَ بيته؛ فإنهم يأتونكم شُعثًا غُبرًا من كل بلد، فورب هذه البنية لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتكموه، ألا وإني مخرجٌ من طيب مالي وحلاله بما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فواضعه، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل، وأسألكم بحرمة هذا البيت ألا يخرج رجل منكم من ماله لكرامة زوار بيت الله ومعونتهم إلا طيبًا: لم يؤخذ ظلمًا، ولم يُقطع في رحم، ولم يغتصب".
ومنها هذه الكلمة التي نفَّر فيها نفيل بن عبدالعُزَّى (جدُّ عمر بن الخطاب) عبدالمطلب (جَدَّ الرسول) على حرب بن أمية: "تنافر عبدالمطلب بن هاشم وحرب بن أمية إلى النجاشي ملك الحبشة فأبى أن ينفر بينهما فجعلا بينهما نفيل بن عبدالعزى بن رباح، فقال لحرب: يا أبا عمرو، أتنافر رجلًا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك ملامة، وأكثر منك ولدًا، وأجزل صَفَدًا (أي أكثر عطاءً)، وأطول منك مذودًا (أقوى لسانًا)، وإني لأقول هذا، وإنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب، جلد المريرة، جليل العشيرة، ولكنك نافرت منفَّرًا، فغضب حرب وقال: إن مِن انتكاس الزمن أن جُعلت حكَمًا".
ومنها وصيَّة ذي الإصبع العدواني لابنه عند إشرافه على الموت، "يا بني، إن أباك قد فني وهو حي، وعاش حتى سئم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: ألِنْ جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسوِّدوك (أي يجعلوك سيدًا عليهم)، وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم، يكرمك كبارهم، ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، واحمِ حريمك، وأعزز جارك، وأعن مَن استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ؛ فإن لك أجلًا لا يعدوك، وصُن وجهك عن مسألة أحد شيئًا، فبذلك يتم سؤددك".
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 25-11-2022 الساعة 07:10 PM.
|