خطبة: الثقة بالله تعالى - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         رمضان شهر الصدقات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          رؤية هلال رمضان .. قصص من التاريخ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          السياسة الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 58 - عددالزوار : 5037 )           »          جمهورية القرم الإسلامية .. وتاريخ من المعاناة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          المخدرات كارثة…تهدد بنيان المجتمع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          المسير إلى عرفة والوقوف بها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 17 )           »          الاستفادة من الأطفال في الدعوة إلى الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          معاناتي مع القولون العصبي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          تعبت من مرض الذهان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          أريد إعادة بناء شخصيتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 21-08-2022, 08:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,704
الدولة : Egypt
افتراضي خطبة: الثقة بالله تعالى

خطبة: الثقة بالله تعالى
إبراهيم الدميجي


الحمد لله مستحقِّ الحمد بلا انقطاعٍ، ومستوجبِ الشكر بأقصى ما يُستطاع، الوهَّابِ المنَّان، الرحيمِ الرحمنِ، المدعو بكل لسان، المرجو للعفو والإحسان، الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدنه، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، الجميلُ العوائدِ، الجزيلُ الفوائدِ، أكرمُ مسؤول، وأعظم مأمول، علَّام الغيوب، مفرِّج الكروب، مجيب دعوةِ المضطر المكروب، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسولُه، وحبيبُه وخليلُه، الوافي بعهده، الصادقُ في وعده، الواثقُ بربه، ذو الأخلاق الطاهرة، المؤيدُ بالمعجزات الظاهرة، والبراهين الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيه بإحسان، وسلِّم تسليمًا، أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى كما أمر، واتركوا الفواحش ما بطَنَ منها وما ظَهَرَ، وأعلموا أن الدنيا دارُ ممرٍّ، وأن الآخرة هي دار المقرِّ.

عباد الله، أمرٌ من أمور الدين ينتظم كل أعمالِ القلوب وأقوالِها، ولا تخلو سورةٌ من سور القرآن المجيد بدون بنائه في قلب المؤمن التالي للقرآن.

عبادةٌ قلبية هي حصن السابقين، ومنتجعُ العابدين، ومهيع السالكين، وهي مزيجٌ من قول القلب وعملِه، ولها علاقة بأقوال وأعمال القلب الأخرى، فهي ثمرة العلم بالله، ومن ثمارها حسن الظن والتوكُّل، وبردُهَا باليقين، أتدرون ما هي؟ إنها الثقة بالله تعالى، وبصدق وعده ولقائه، ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5].

الثقة بالله هي عمودُ التوكُّلِ، فلا توكُّلَ بدون ثقة، وعلى قدر الثقة تكون قوَّةُ التوكُّل، فلهذا العمل القلبي العظيم علاقةٌ مطردة طردًا وعكسًا بالتوكُّل، وبحسن الظن؛ بل بالتوحيد والعبودية ذاتها، فهي لبَابُ السكينة، وبلسمُ الانشراح، ودواءُ القلق.

ومعنى الثقةِ بالله: اليقينُ الثابت بكمال الله بصفات الجلال والجمال، وبصدق وعده، وعظيمِ قدرته، وإحاطة علمه بكل شيء، فإذا استقر هذا اليقينُ بهذه الصفة في قلب عبدٍ فلا تسل عن كبير الثقة وتمامها في هذا القلب المؤمن الواثق بربِّه سبحانه وبحمده.

اعلم يا عبد الله أن الثقة بالله هي السلك الناظم لأمور التديُّن بعامة، وهي الجدارُ الحافظ بإذن الله لقلب المؤمن من قواصف الشبهات، وعواصف الشهوات، فهي الميدان الذي يجري فيه فؤاد المؤمن، ويستن بطولِه في أنحائه، ويستظل متنعمًا في أفيائه، إن الثقة بالله هي سفينةُ نجاة المتقين، وحبلُ وصولِ المقربين، وسلاحُ الصابرين في دار الابتلاء، والامتحان المبين.

ومَنْ تدبَّرَ آيات القرآن وجد منها آياتٍ هي مثل قُلَلِ الجبال للمسافر في تخوم السهول والحزون، إنها آيات لها قرعُها الشديد لانتباه التالي والسامع، ففيها إيقاظٌ وتنبيهٌ، وإرشاد لقِبلة التوجُّه القلبي، مع بلسم سكينة لا يصفُهُ الواصفون، ووقودٌ تامٌّ لمحرِّك مركبة المهاجر لربِّه، وزادٌ وافٍ لمن حَمَلَ هَمَّ إصلاح نفسه وأمته، فهي شاطئ أمان العُبَّاد والدعاة والعلماء والمربِّين، وليس لمؤمن ولا مؤمنة غُنيةٌ عن فقهها علمًا وعملًا، وكم من عامِّيٍّ لا يُؤبهُ له مدفوع بالأبواب يقف أمامَ فتنِ الدنيا بثبات يبزُّ به الجبال الرواسي؛ بينما يقعُ حاملُ أسفارِ العلوم تحت جناح أهونِ فتنة؛ ذلك لأنَّ العلمَ النافعَ هو العلمُ بالله قبلَ العلم بشرعه، وإن اجتمعا في قلب فواهًا له! لذا فلم يكن الحبر الحكيم ابن مسعود رضي الله عنه مبالغًا حينما قال فيما رواه أحمد في الزهد: ليس العلم بكثرة الرواية؛ إنما العلم الخشية، وأولى بنا قول ربنا: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5]، فإن مررت على تلك الآيات فردِّدْها وتدبَّرها، وتفكَّر فيها؛ ففيها نداءٌ لروحك، وخطابٌ لفؤادك، وطَوْقُ نجاةٍ لمصيرك، ومنشورُ فلاحٍ لنشرك ومعادك.

كثيرٌ من الناس يبدأ صلاحه فتيًّا، وتنبت أزاهير قلبه، ويفوح أرجُ ربيعِ فؤادِه؛ ولكن ما أن تَهُبَّ رياحُ القيظِ بابتلاءٍ لا بد منه في نفسه أو أهله أو ولده، أو ماله، أو ما يحب من علائقه الفانية؛ ذَبَلتْ زهورُ الهمة، وتساقطت أوراق العزيمة، وخبا نور المحبة، وضياء اليقين، أتدري لماذا؟ إنه ضعف الثقة بالله، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]، ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 10]، بلى وعزةِ ربي، إنه الابتلاء الذي لا مفر منه لمؤمن، وعلى قدر براءتِه من أوضاره في الدنيا تكونُ براءتُه عند عبور الصراط يوم الدين، ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72].

قد يُعطى الإنسان بسطةً في العلم؛ لكنَّ سوس حبِّ الدنيا يأكلُ ثمار علمه حتى تكونَ معرفتُه جهلًا، وعلمُه وبالًا، ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ ﴾ [الأعراف: 175، 176]- أعوذ بربي من حاله- أما أهلُ العلمِ النافع فتستغفرُ لهم الملائكة في سماواتها، والحيتانُ في بحورها، والنملُ في جحوره، ويُحشرُ يوم القيامة مع الصدِّيقين، وهذا البائسُ كالكلب عياذًا بالله.

فراجِعْ عِلمَكَ لا يكن مدخولًا، وحاسب خطراتِك لا تكن شِراكًا لسرقة كنز قلبك، وهو العلم النافع، وأعني به العلمَ بالله أولًا، ثم العلمَ بشريعته ثانيًا.

قفْ عند الآيات التي تبني في قلبك حصنَ الثقة بربِّك، وكلُّ القرآن كذلك لمن وفَّقه الله لتلاوته حق التلاوة، ولكنَّ هذا القرآن شفاءٌ لعِلَل القلوب، وأغراض النفوس، فيقرأ الجماعةُ الموضعَ الواحدَ، أو يستمعون له؛ فتداوي مرض شهوةِ هذا، وتهتكُ شبهةَ ذاك، وتقوِّي عزم ثالث، وتُزهِّدُ قلبَ رابع، وتعظِّمَ رجاءَ خامس، والآيات هي الآيات، وهذا من أسرار القرآن العزيز، ولا عجب، فالقرآن من كلام الله، وكلامُ الله من صفاته، وفضلُه على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه.

ولئن كان تأثير القرآن على الجبال الصُّمِّ الصِّلاب بالخشوع والتصدُّع، فأولى لقلبِ الإنسان أن يخشعَ ويحيا ويوقنَ، ويثقَ الثقةَ المطلقةَ بوعد ربِّه، إن القرآن مليء بوعود الكريم الوهَّاب سبحانه، وبعضها مشروط بالإيمان، والعمل الصالح.

بل إن الدينَ كلَّه مبنيٌّ على وعدِ غيبٍ لم نره حسًّا، وهنا يكون محكُّ الإيمانِ، وبرهانُ التصديق، ودليل التسليم، وعلى قدر الثقة بالله تعالى، بوجوده وبربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته وأفعاله؛ تكون الثقةُ به وبوعده، ومِن هنا افترقت الخليقة؛ فمنهم من يثق الثقة المطلقة التي لم تتزعزع ولم تضطرب مهما عصفت بها زلازلُ الخطوب، وبلايا الفتنِ والكروب، وهذا مقامُ المرسلين، وتدبر كل قَصص الأنبياء بلا مثنوية، تجد أن عنوانَ الثقة بالله وبوعده موجودٌ باضطراد في تضاعيف أحداث القصص، ولو تأمَّلت السلك الناظم، والخيطَ الجامع لقصص الصالحين من المرسلين فمن دونهم لرأيت أن الذي ينتظم ذلك هو الثقةُ بوعد الله ولقائه.

فآدمُ عليه السلام تاب من فوره؛ لثقته بكمال ربِّه، وعظيمِ حسن ظنِّه به، وكبيرِ خشيته منه، وجليلِ حيائه منه، فقال مباشرةً كلماتِه التي تلقاها من فضل ربِّه: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23].

ونوحٌ عليه السلام قال رافضًا دعوة الكفرة طَرْد ضعفاءِ المؤمنين عنه: ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 114]، فرزقِي وكفايتي وإياهم ليست عليكم؛ بل على الله، وبنى السفينة في الصحراء، حتى كان مدعاةً للسخرية، وما أشد وقعها على الدعاة!﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾ [هود: 38]؛ لكنَّ الواثقَ بربِّه ليس كغيره ممن ينظرون إلى ظواهر الأمور دون النفاذِ لبواطنها، ولم يكن يلهيهم بهرجها عن حقائقها، فقال: ﴿ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ﴾ [هود: 38، 39].

وخطيبُ الأنبياء شعيبُ عليه السلام قال لقومه بعدما استهزأوا به، واتهموه بالسحر، وتحدَّوه أن يسقط عليهم السماء إن كان صادقًا، ووصموه بالضعف، وتهدَّدوه بالرجم وغيره، فقال- وقد ملأ الله قلبه ثقةً ويقينًا-: ﴿ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 188]، فكان عذابهم أسرع وأشد مما تصوروه ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 189].

عباد الرحمن، لقد ذكر الله عز وجل في سورة الشعراء آيةً كافية لملء القلب ثقةً بالله دون سواه، مهما أجلبت عليه الخطوب، وادلهمَّت الحتوف، وقد قدَّم الله تعالى قصة موسى في هذه السورة على غيرها من القصص، وقد اشتملت على تلك الآية الفذَّة الجامعة المانعة، إنها قول موسى عليه السلام فيما ذكره عنه ربه سبحانه، حينما خرج بقومه من فرعون وجيشه اللجب الكثيف، ﴿ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ* فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 60- 62]، لقد نظر أصحابه للحسابات المادية الأرضية، فالبحر أمامهم قد حجزهم لعدوِّهم الغاضب الباطش الحاذر من خلفهم؛ ولكِنْ لأنبياء الله تعالى كلمة أخرى، ولأرواحهم موردٌ لا كموارد البشر، ولقلوبهم تعلُّق وثقةٌ مطلقةٌ تامةٌ، وافية بحفظ الله أوليائه، ونصره دينه، ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 21]، فصرخ بها الكليم عليه السلام فيهم: ﴿ كَلَّا ﴾؛ أي: ليس الأمر كما ظننتم بخذلان الله لكم، وتحدثتم بكسرةِ حمَلةِ دينِ الله وفنائهم، ﴿ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، وفي هذا المعنى الإيماني والشعور الوجداني قمةُ مرتقى الواصلين لتمام الثقة بربِّ العالمين سبحانه وبحمده، ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21].

وفي هذه السورةِ العظيمةِ المبينة لمصارع الأمم المكذِّبة، وحفظِ الله ونصره لأوليائه ورسله وأتباعهم بإحسان ذكر الله تعالى- خبرُ خليلِه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد تضمَّنت قصتُه معنًى شريفًا وعلمًا منيفًا في الثقة بالله تبارك وتعالى، حينما قال مادحًا ربَّه، وحامدًا إلهه الحق، ومتبرئًا من الثقة بغيره: ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 75 - 82]، وتأمل لحظة إلقائه في النار وتسليمه أمره لله تعالى ثقة به، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ))، قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: ﴿ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [آل عمران: 173].

أما هود عليه السلام فقد تحدَّى جَمْع الكفرة، فقال بكل ثقة وتوحيد لربِّه القوي ذي الركن الشديد: ﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ﴾ [هود: 55]، لماذا هذا التحدي، وما هو اللطف الذي ينتظره؟ قال: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 56، 57].

أما رسول الهدى صلوات الله وسلامه وبركاته عليه فلا تكاد تمرُّ على صفحة من سيرته الجليلة حتى ترى براهينَ الثقة بربِّ العالمين في حاله ومقاله، قف مع قوله لصَدِيقه وصِدِّيقه: ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] ((يا أبا بَكْرٍ، ما ظنُّك باثنينِ اللهُ ثالثُهما))؛ متفق عليه، وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه: أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوةً قِبَلَ نَجْدٍ، فلما قَفَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قَفَلَ معه، فأدركتهم القافلة في وادٍ كثير العِضاهِ- أي: الشجرِ الكبير- فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرَّق الناس يستظلُّون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة،ٍ فعلَّق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابيٌّ فقال: ((إن هذا اخترطَ عليَّ سيفي وأنا نائمٌ، فاستيقظتُ وهو في يده صَلْتًا، فقال: مَنْ يمنعك منِّي؟ فقلت: اللهُ)) ثلاثًا، ولم يعاقبه وجلس؛ متفق عليه.

وفي تبليغه لقريش حين نزل قول ربِّه تعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ [الحجر: 94]، وفي بَدْر حين قابل المشركين بجيش بلا عدد ولا عتاد حسي، وفي أُحُد حين ثبَتَ ثباتَ أُحُدٍ، وفي الأحزاب حين كانت يديه تعمل وقلبه معلَّق بربِّه، واثقٌ بنصره ووعده، وهو يُبشِّر أُمَّته بكنوزِ فارس والشام واليمن، وفي حنينٍ حين صاح في الناس بكل ثقة: ((أنا النبيُّ لا كَذِب))، صاح بها مع علمه بأنها ستدلُّ سهامَ وسيوفَ المشركين عليه، وقد أدبر عنه جيشُه، وكاد أن يُحاطَ به؛ ولكن مَن كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فمعه القوةُ التي لا تُغلَب، والحارسُ الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل، ومَن أوَى إلى الله فقد أوَى إلى ركن شديد.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وعليكم بالثقة التامة بالله تعالى، وبوعده ولقائه، فلا دين ولا إيمان ولا فلاح لمن لا يثقُ ثقةً مطلقةً بربِّ العالمين سبحانه.

أيها المؤمنون، ذكر البخاري في صحيحه في سياق قصة الحديبية، وفيه: إذ جاء بُدَيلُ بنُ ورقاءِ الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة، وكانوا عَيْبةَ نُصْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تِهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا أعْدادَ مياهِ الحديبيةِ، ومعهم العُوذُ المطافيل- أي: الإبلُ معها صغارُها- وهم مقاتلوك وصادُّوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّا لم نجِئْ لقتالِ أحدٍ؛ ولكنا جئنا مُعتمرين، وإنَّ قريشًا قد نَهِكَتْهُم الحرب، وأضَرَّت بهم، فإن شاءوا مادَدْتُهم مُدةً، ويُخَلُّوا بيني وبين الناس، فإنْ أظْهَرْ، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعَلُوا، وإلا فقد جَمُّوا- أي: استراحوا وأخذوا وقتًا كافيًا لاستعدادهم للحرب- وإن هم أبَوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنَّهُم على أمري هذا حتى تنفَرِدَ سالِفَتي، وليُنْفِذَنَّ اللهُ أمرَه))، فتأمَّل يا عبد الله هذه الثقة بالله، فإنها من ناصع الأمثلة بمكان، وانظر كيف أخذها صاحبُه الأولُ عنه، فقال في حروب المرتدِّين وقد خُوِّف بهم: لأقاتلنَّهم حتى تنفرد سالفتي، وتأمَّل ثقتَهُ بالله في إنفاذ جيش أسامة، وقد أقبلت جموعُ الأعراب على المدينة تريد نَهْبَها، وقد أكثر عليه كبار الصحابة أن يحبس جيش أسامة حتى يكون حاميةً لبيضة المسلمين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى الواثق بربِّه إلا إنفاذه، وكان الخيرُ كُلُّه في ذلك.

وتأمَّل حال أبي بكر أيضًا حينما أتى بكل ماله صدقةً لله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أبقيتَ لأهلِكَ؟))، فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله؛ رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني.

وتأمَّل حروب الرِّدَّة وثقة الصحابة بربهم وموعوده، كذلك تأمَّل حال عمر منذ إسلامِه، وتدبَّر دعوته العجيبة لربِّه، فعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال: اللهم ارزُقْني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولِكَ صلى الله عليه وسلم؛ البخاري، وفي رواية عن حفصة رضي الله عنها قالت: فقلت: أنَّى يكونُ هذا؟ فقال: يأتيني به الله إذا شاء، فاستجاب الله له، وتذكَّر مواقف علي وشجاعته، وعثمان وإنفاقه، والحسن السبط، وزهده في الرئاسة، والصحابةِ في نشرهم الدين وبلائهم العظيم.

تأمَّل حال الصحابة رضوان الله عليهم في بَدْر وأُحُد، والأحزاب ومؤتة والرِّدَّة وغيرها، وثباتهم العظيم في تلك المواقفِ المزلزِلة، حتى استحقُّوا أن يُخلَّد ذكر ثنائِهم في سِفْر الخالدين، قال سبحانه: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، نعم، هذا وعد الله ورسوله لهم حينما قال الله في سورة البقرة: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، إن هذه الثقة الشامخة هي التي أهَّلَتْهم بتوفيق الله تعالى إلى أن يكونوا كما قال الله فيهم: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23].

معاشر الموحِّدين، إن مورد عيشِ أرواح الصالحين في كل زمن هو الثقة بالحافظِ المدبِّر المتصرِّف، الصادقِ وعده، فثق بالله أيُّها الموحدُ الحنيف، وأبشِرْ بألطافه التي لا يحيطها فكر، ولا يقترب منها خيال.

لقد كان إمامُ الواثقين بربهم رسولُ الهُدَى صلوات الله وسلامه عليه يحيي زرع الثقةِ في قلوب أصحابه حتى إذا زلزلتهم الخطوب وجدوها أحوج ما كانوا إليها، فعن خَبَّاب بن الأرَتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظل الكعبة- فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ، يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ ما دون لحْمِه وعَظْمِه، ما يصدُّه ذلك عن دِينِه، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخَافُ إِلَّا اللهَ؛ ولكِنَّكم تستعجلون))؛ متفق عليه.

فهل عرفتَ الآن معنى قولِ الله جل وعز: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، نعم فالله حقٌّ، ووعدُه حقٌّ، فلا يستخفنك أيها المؤمنُ، ويزعزعُ ثقتَكَ في مولاك أقوامٌ لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا.

وتأمَّل قول العلي الكبير سبحانه حينما قال: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ [الحج: 6]، فكل ما سواه مما يتعلق به باطل، وكل ما يوثق به دونه ضعيف زائل.

وتدبَّر قوله سبحانه: ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ ﴾ [العنكبوت: 5]، فلا إله إلا الله! كم في هذا الوعد الصادق الكريم من تثبيت لعزائم المؤمنين، فيا ذا الجلال والإكرام، املأ قلوبنا ثقةً بكَ وإيمانًا وبرًّا وإحسانًا، يا حي يا قيوم، يا رب العالمين، اللهم صلِّ على محمد.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 62.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 60.93 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]