|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (28) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً لا يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم؛ فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: العرصة والعرصات هي مواقف القيامة، والقيامة على أرض الشام، لكنها أرض كالزلفة، ليس فيها هضاب، ولا أودية، ولا مرتفعات، ولا منخفضات، وإنما صعيد واحد ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48]، وفي هذا الموقف العظيم تحصل هذه الأهوال، هذه العرصات. الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ: وفي ذلك الموقف من مراحله الحوض المورود، والحوض مجمع الماء، والمورود الذي يرده الواردون، ولكل نبي حوض كما جاء في الحديث: ((وَحَوْضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُهَا، وَحَوْضُ صَالِحٍ حَوْضُ نَاقَتِهِ)). الحوض جاء في القرآن في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، والكوثر نهرٌ أعطاه الله نبيَّنا في الجنة، يصب منه ميزابان عظيمان إلى حوضه، وجاءت السنة المتواترة، حتى إن أحاديث الحوض نافت على ستين حديثًا، عُنِيَ بها علماء السلف، وجمعوها، وحققوها، جاء من أوصافه: أَنَّ مَاءَ حَوْضِهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَشَدُّ حَلاوَةً مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَرْدًا مِنَ الثَّلْجِ مِنْ غَيْرِ مَا ضَرَرٍ، وَأَنَّ عَلَى الْحَوْضِ كؤوسًا وكيزانًا، لا إِحْصَاءَ لِعَدَدِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((بِعَدَدِ نُجُوم السَّمَاءِ))[1] ؛ أيْ: كَثرةً؛ لئلا يظنَّ الظانُّ أنه سيُشاحُّ في هذه الكؤوس والكيزان، وأن هذا الحوض طويلٌ مربع، طوله كعَرضه، جاء في الروايات: ((طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بُصْرَى)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَيْلَةَ))[2] ؛ إلى بيت المقدس، وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُمَانَ، أَوْ إِلَى صَنْعَاءَ)). كل الأحاديث التي جاءت فيها متفاوتة في ذكر الحدود، لكن تفيد أنه حوض طويل واسع، وهذا مما تواترَت به السُّنة، وأجمع عليه أهلُ السنة، ولكن في ذلك المقام الذي هو أشد ما يكون رهبة، وخوفًا، ووجلاً، وعظمة، وعطشًا، يَرِدُ الناسُ الأحواض، أقوامٌ مِن هذه الأمة سيُذادون؛ بمعنى أنهم يُمنعون مِن وُرود الحوض، جاء في الصحيحين قولُه صلى الله عليه وسلم: ((فَيُذَادُ بِأَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))؛ أي: غيَّروا، وبدلوا من دينك، وسُنَّتك، ((فَأَقُولُ: بُعْدًا بُعْدًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي))[3] ، فأفاد الحديث أن المبتدع بأي: إنواع البدع سواء بالقول، أو بالاعتقاد، أو الفعل، أو في المكان، أو في الزمان، أو في الحال، أو الهيئة أنه متوعد بأنه لا يرد حوضه صلى الله عليه وسلم ويُمنع منه؛ لتبديلِه سُنةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تحقيقٌ قاعدة: الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ وذلك أنه لَمَّا بدَّل أو غيَّر في سُنته صلى الله عليه وسلم ما بدل وغيَّر إلاَّ اتباعًا لهواه وشهوته، واتباعًا لجماعته وحزبه كان الجزاء أن يُمنع أن يرد حوضه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يرده إلا المستمسك بسنته. وقد زعمَت الرافضة أن هذا الحديث دليلٌ على أن الصحابة كفروا؛ لأنه جاء في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي، أَصْحَابِي))[4] ، وجاء في أكثر الألفاظ في الصحيحين - بعد تتبُّعي -: ((أُمَّتِي، أُمَّتِي))، فظَنوا بذلك - مِن قبيح مذهبهم - أنَّ الصحابة كفَروا، وهم أولى وأخلَقُ أن يكونوا ممن يُمنَعون ويُذادون عن الحوض؛ لأنهم أعظم الناس تغييرًا وتبديلاً لدينه وسنته صلى الله عليه وسلم. وقوله في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي أَصْحَابِي)) هذا اللفظ لا يردُّ اللفظ الآخر، فيُفهم بمجموعه؛ لأن الإطلاق العام في صحبة الأتباع، فأصحاب الرجل أتباعه، سواء ممن أخذوا عنه، أو ممن أخذوا عمن أخذوا عنه، كما أن الشيعة أتباعه؛ ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 83]، على أنَّ أكثر الألفاظ في الصحيحين قوله: ((أمتي أمتِي)). الحوض والأحواض التي تكون في العرصات، والميزان والوزن الذي يكون فيها مما أنكرته الجهمية والمعتزلة، حتى قال قائلهم - ويا سُخفَ ما قال، وسذاجتَه، وبلادته! -: إن الميزان لا يَحتاج إليه إلا الفوَّالُ والبقال! وكذَّبوا ما جاء عن اللهِ وعن رسول الله، وهذا نتاج تدخل العقول في الغيبيات، كما أنكروا عذاب القبر ونعيمَه، فقالوا: إذا فتحنا القبور ما وجَدنا لا عذابًا ولا نعيمًا. فأنكروا هذا العالَم الغيْبِي، الذي هو غير محسوس لنا إلا ما أظهره الله لنا، قال تعالى في عذاب القبر ونعيمَه: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، الدنيا والآخرة وبينهما البرزخ وهو القبر، ففي الدنيا يكون العذاب والنعيم على الأبدان، والأجساد، وقد يلحق الروحَ شيءٌ من ذلك، وفي القبر يكون العذاب والنعيم على الروح، وقد يصيب الجسدَ بعضٌ من ذلك، أمَّا الدار الآخرة فهي أكمل الأدوار، والعذاب والنعيم على الروح والجسد جميعًا؛ لأنها أكمل الحياة: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: لهي الحياة الكاملة، التي لا نقص فيها. فهؤلاء منكِرون لما يكون في البرزخ. وممن أنكره مِن الفلاسفة، الذين أنكروا أن يكون البعث كله، كذلك أنكره المشركون والملاحدة، فلاسفة المسلمين؛ كابن سينا، والفارابي، والكِنْدي وأضرابِهم؛ قالوا: إن البعث للأرواح لا للأجساد؛ ليقربوا بين الفلسفة وبين الشريعة، وأنى لهم ذلك؟! أما أهل الإثبات - أهل السنة، أهل القرآن - فإنهم مُصدِّقون بما جاء في كتاب الله، وما صح عن رسول الله من أمور المعاد، لا ينكرونه وإن لم تَبلُغه عقولهم ومَداركهم؛ شأنهم سمعنا وأطعنا، وحالهم أسلَمْنا وأذعَنَّا، وكانوا بهذا أحسنَ دينًا مِن أولئك. وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ: مِن مراحل اليوم الآخر: الصراط، وهو ذلك الجسر المنصوب على متن جهنم، الذي هو أدقُّ مِن الشعر، وأحدُّ مِن السيف، وهو معوجٌّ ومظلم، ودَحضٌ، وعليه كلاليبُ أُمِرَت بخطف أقوام، والناس يمرون عليه كما نطقَت بذلك الأخبار الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرون بحسب أعمالهم؛ أي: بحسب إيمانهم. وأحاديث الصراط من أدلة أهل السنة في أن العمل مِن الإيمان؛ لأن في غالب الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ))، فدل على أن العمل من الإيمان؛ ولهذا عبَّر بالعمل عن الإيمان. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ: أي: سرعة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ: مثل أجاويد الخيل؛ الخيلُ الجياد السريعة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم[5]: ومنهم من يمر مثلَ أجاويد الركاب؛ أي: الإبل. ومنهم من يمر يَعْدو عدْوًا، ومنهم من يمر يَسعى سعيًا - والعدوُ أعظمُ من السعي وأسرعُ - ومنهم من يمر يمشي، ومنهم من يمر يحبو - والحبو جاءت فيه بعض الأحاديث - ومنهم من يمر يُقدِّم رجلاً ويؤخِّر أخرى، وهذا أضعف مَن يمر على الصراط، وقد ذكر النبيُّ في الحديث عند أحمد وغيره: ((أَقَلُّهُمْ رَجُلٌ إِذَا أَضَاءَ لَهُ فِي إِبْهَامِهِ نُورٌ قَدَّمَ رِجْلاً، فَإِذَا أَخْفَتَ وَقَفَ))؛ لأن الصراط مُظلِم؛ حيث إنه على متن جهنم. فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ[6]: وعلى الصراط حسَكٌ وكلاليبُ، والحسَكُ أصله نوعٌ من أنواع الشوك، يُشبه شوك السَّعدان، الذي يَكثُر الآن في الصَّحاري والبراري من نتاج الربيع، والكلاليب معروفة، وهي ما تُقَيَّد به الأرجل، وما يُصاد به الصيد، قد أُمِرَت بخطف رجال؛ بخطف أناس، والنبي عند أدنى الصراط رافعٌ يديه، يقول: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَكْدُوسٌ مُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)). والصِّراط (الجَسر المنصوب على متن جهنم) جاء ذِكرُه في القرآن في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]؛ أي: يَجْثون على رُكَبِهم، وهو مذكورٌ على سبيل الإشارة لا التصريح فيما يقَع بين المؤمنين والمنافقين يوم يُضرَب بينهم بسُور؛ ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]؛ وذلك أن المنافقين يَتبعون المؤمنين في عرَصات القيامة حتى إذا أقبَلوا على الصراط سبَقهم المؤمنون سبقًا. وبعضُهم استدل على الصراط بقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وهذا الاستدلال ليس بالقويِّ من عدة جهات: أُولاها: أن الصراط المستقيم في آية الفاتحة هو دين الله القويم، وهو الإسلام الذي مَن استمسَك به فهو مهديٌّ لأنه قال في بدله بعد ذلك: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، فدلَّ على أن الصراط المستقيم هو صراط الإسلام، غير طريق اليهود وغير طريق النصارى بعد التبديل. ثانيها: هناك مَن يعبر على الصِّراط فيَنجو، وهناك مَن يمر على الصراط فيَكْبو وهو مِن المؤمنين، لكنه أكباه ضعفُ عمَلِه، وطالِحُ كسبِه، ومعلومٌ أن المهديَّ الصراطَ المستقيمَ لو كان المراد به الجَسْر على متن جهنم لكان عابرًا، ومن المؤمنين من أصحاب الذنوب مَن يخبو ويكبو، فيكون في جهنَّم على قدر سيئته، فدل على أن الصراط المستقيم هو الإسلام، وليس الجسر على متن جهنم. ثالثُها: أن الصراط على متن جهنم ليس مُستقيمًا وإنما مُعوجٌّ ودحض. رابعُها: أن مَن هُدِيَ إلى الصراط المستقيم - وهو دين الله القويم - فسيُهدى على الصراط برحمة أرحم الراحمين، وبسبب ما يُقدِّمه من عملٍ صالح. وأما آية مريم فقد استدل بها السلف - عائشةُ وأبو هريرة وجابرٌ وغيرهم رضي الله عنهم - على أنَّ المراد به هو الجَسْر على متن جهنم؛ ولهذا كان كثيرٌ من السلف - من الصحابة ومن التابعين ومَن بعدهم - إذا مرَّ على هذه الآية يخشع لِمَا قام في قلبه من الخشية، ويقولون: "أَنَّى لَنَا الصُّدُورُ بَعْدَ الْوُرُودِ!" الورود في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71]؛ أي: وُرودُهم على متن جهنم؛ لأن الصراط على مَتنِها، وهذا دليلُ أهل السنة على أن الصراط على متن جنهم، جَسْر على متنها، فيقولون: "مَنْ يَضْمَنُ لَنَا الصُّدُورَ"؛ أي: النجاة "بعد الورود"؛ فإنَّ الله ذكَر الورودَ وأنَّ كلاًّ سيَرِدُها، لكن لم يَضمَنْ سبحانه وتعالى بالورود إلا للمؤمنين: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا ﴾؛ أي: محتومًا ﴿ مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]؛ مبرَمًا في قضائه القدَريِّ والشرعي، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، وهذا يدل على ما كان عند السلف من كمال الخشية لله تعالى، وعدم الاغترار بأعمالهم وإن عَظُمَت، في مُقابل الخلَف الذين أُعجِبوا بأعمالهم القليلة، وتفريطهم الكثير، وعَظُم عندئذ رجاؤهم في رحمة الله[7]. والصِّراط دلت عليه الأحاديث المتواترة فيه تواترًا معنويًّا، وأجمع عليه أهل السُّنة، وخالف فيه طوائفُ من الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم خالفوا في هذا الصراط، وعمدُة هؤلاء المنكِرين له أن الصراط لم يُذكَر في القرآن وإنما جاء في أخبار الآحاد، وهذه مطيَّتهم العَفِنة في ردِّ الأمور الغيبية التي لا توافق مَعقولاتهم، وإلا فإنه قد تواترَت فيه الأحاديثُ تواترًا معنويًّا، وليست على شرطِهم بأنها أخبارُ آحاد. ومما جاء في وصف الصِّراط أنه دقيق؛ أحَدُّ مِن الشعر، وأدقُّ من السيف، وأنه دَحْض، وأنه مُظلِم، وأن الناس يَعبُرون عليه على قدر إيمانهم. ومما يجب أن يُنْتَبه له أنَّ مِن أسباب الجُثِيِّ مِن على الصراط على وجوههم كما قال الله: ﴿ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، إنَّ مِن أسباب ذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه الطويل، لما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفَرٍ، ثم قال في آخِر حديثه: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَنْكَ هَذَا)) وَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِلِسَانِ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ إِنَّا مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَقُولُ؟ قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))؛ فقوله: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - وهذا من باب التعبير بالبعض عن الكل - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) أفاد ذلك أنَّ من أسباب الجُثيِّ في النار - على وجهه وعلى مَنخِره - نِتاجَ لسانِه إذا صار مشذارًا مهذارًا، سابًّا، لعَّانًا، شتَّامًا، مغتابًا، نمامًا، قادحًا في أعراض الناس، قادحًا في شرفهم؛ لأن العِرْضَ يشمل عِرض الدين في أن يُتَّهم في دينه، أو يُتهم في عقيدته، أو يُتهم بنِسْبته إلى منهج فاسد، أو يُتهم في شرَفه وهو عِرضه النَّسَبي؛ فإن هذا من أسباب الجثي على وجوههم في نار جهنم. والصراط جديرٌ بمن أنكره أن يكون ممن لا يَعبُرَه؛ كمَن أنكر رؤية الله ألا ينالَها، وكمَن أنكر ما يكون في البرزخ أن يُصيبه ضدُّ ما أنكَر؛ طردًا على القاعدة الشرعية: الجزاء من جنس العمل: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ ولهذا فإن الذين أنكَروا هذه الأشياء جديرون بأن يَخسَروا، ويرسبوا فيها، ويُرديَهم فيها سيِّئ اعتقادهم، وسيئُ قصدهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله. فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ: أي: إنه في الجملة يدخل الجَنَّة؛ فمِنهم مَن يدخلها مباشرة، ومنهم مَن يبقى على الجَسر؛ على القنطرة بعد الصراط، وهي قنطرةٌ قبل الجنة، يُقتصُّ فيها للمؤمنين بعضِهم مِن بعض مما يكون بينهم من أسباب الخصومات التي لم تُستوفَ بالعرَصات. وقوله: "ومَن عبر الصراط دخل الجنة"؛ أي: إنه نَجا من النار؛ لأن النار تحت الصراط، فالصراط جَسر عليها وهي تحتَه، ولو لم يكن مِن عرَصات القيامة وأهوالِها وشدائدها إلا العبور على الصراط الذي هذه صفته؛ دقيق، ومزلة، ومظلم، ودحض، وعليه حسَكٌ وكلاليبُ، وتحته نارُ جهنمَ سوداءُ مظلمة - لكفى بهذا نذيرًا ووعيدًا، وتخويفًا للمؤمنين ولغير المؤمنين. فَإِذَا عَبَرُوا وُقِفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ: هذه القنطرة - وهي مرحلة بين الصِّراط وبين الجنة - هي للمؤمنين فقط خاصَّة، فلا يَعبُرها كافر، وقد يَعبرها مسلمٌ عليه ظُلامةٌ لإخوانِه، فيكون الاقتصاص في ذلك المكان، ومن المؤمنين مَن سيَسقط من على الصراط على جهنم، وهذا بحسَب ذنبه وكبيرته، لا على جهة الخُلود؛ ولهذا في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72] لم يَقل: نُنجِّي الذين آمنوا؛ لأن مِن المؤمنين مَن يقع فيها، ولم يقل: ونذَر الكافرين فيها جثيًّا؛ لأن وصف الظلم يَطول الكافرَ - وظُلمُه الظلمُ الأكبر - ويَطول الفاسقَ - وظلمه ظلم الأصغر - ولهذا في القرآن إذا جاء وصفُ الظلم والكفر والفسق والنفاق فإنه يُراد به إما الأكبر أو الأصغر، ويُحدِّد ذلك السياقُ والآياتُ الأخرى التي يُرجع لها في تفسير هذا النصِّ وهذه الآية. في القنطرة يُقتصُّ للمؤمنين بعضِهم من بعض، مما لم يُستوفَ قبل ذلك في مراحل الآخرة؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم - ونقَله الشيخُ بلفظ الحديث، وحديث القنطرة حديثٌ في الصحيحين -: ((فَإِذَا هُذِّبُوا، وَنُقُّوا))؛ أي: لم تقم عليهم سيئة، ولم تبقَ عليهم ملامة هُذِّبُوا من آثار الذنوب وأسبابها، ونُقُّوا من ملامات الخلق ((أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ))[8] ، والإذن لهم بعد الإذن للنبي؛ لأنَّ مِن الشفاعات الخاصة به أنه يستفتح له وللمؤمنين بدخول الجنة إذا أخذ بحَلقَةِ باب الجنة. وهذا فيه تشبيهٌ للمؤمنين بالذَّهَب؛ فإن المؤمن كالذهب، والذهب كلما زِيدَ في صِليِّه النارَ نَقِيَ وصَفا مِن الشوائب، شوائبك - يا أيها المؤمن - هي ما تَحمَّلتَه من أسباب الذنوب والمعاصي، والتفريط؛ إن كان في حق الله، أو في حق عباد الله، وهكذا المؤمن تَزداد عليه البلايا والمِحَن، وصِلِيِّه النار إلى أن يتخفف من هذه الذنوب، ولهذا لن يدخل أحدٌ الجنة وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة، فإما أن يُجازى بها بأنواع الجزاءات - وهي الأسباب العشرة المسقِطة للذنوب - أو أن يشمَله الله برحمته، وهو أرحمُ الراحمين، فلن يدخل أحدٌ الجنةَ إلا مؤمن، ولن يدخلها مؤمنٌ وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة. [1] رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص. [2] رواه أحمد (3/ 230). [3] رواه البخاري (6582) ومسلم (2304)، من حديث أنس بن مالك. [4] تقدم تخريجه. [5] لما رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري. [6] نفس السابق. [7] رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، والإمام أحمد (5/ 231)، من حديث معاذ بن جبل. [8] رواه البخاري (7439)، من حديث أبي سعيد الخدري.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (29) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنَ الأُمَمِ أُمَّتُهُ، وَلَهُ فِي الْقِيَامَةِ ثَلاثُ شَفَاعَاتٍ: أَمَّا الشَّفَاعَةُ الأُولَى: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ، بَعْدَ أَنْ يَتَرَاجَعَ الأَنْبِيَاءُ: آدَمُ، وَنُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى ابْنُ مَريَمَ عَنِ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ: فَيَشْفَعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ، وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ: فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ. وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَيَشْفَعُ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَلاَّ يَدْخُلَهَا، وَيَشْفَعُ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا. شيخ الإسلام رحمه الله أخَّر الكلامَ عن الشفاعة إلى هذا الموضع - مع أن حق الكلام عن الشفاعة أن يُقدَّم إذا قام الناس من قبورهم في أول عرصات القيامة - وذلك لثلاثة أمور: أولاً: إن هذا المتن مختصَر، وقد علَّقه مِن غير تحضير، ولا ترتيب، بل جاءه وليُّ الدِّين الواسطيُّ القاضي، وطلب عقيدته أن يكتبها له؛ ليدين بها هو وأهله، فكتبها له بين العصر والمغرب، وما وضع لها مخططًا، ولا عرَضه على الأقسام ليفحَصوه، وما ذهب، ولا أتى، وإنما أملاها من قلبه؛ ولهذا فإن ما يحصل فيها من التقديم والتأخير فإنه رحمه الله معذور. ثانيًا: ها هنا جاء ذِكرٌ لنوعٍ مِن الشفاعة الخاصةِ به (وهي الشفاعة بدُخول الجنة)، والشفاعات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الاستقراء أربع، أو خمس، والشفاعات كلُّها ثَمان، ونَذكُرها هنا تفصيلاً؛ لأن الشيخ لم يُرِد الاستيعاب وإنما ذكَرها لنا من باب ذِكْر أشهَرِها: أُولى الشفاعات الخاصة به: الشفاعة العظمى، التي أشار إليها الشيخ، وهي شفاعةٌ إلى الله ليَجيء إلى فصل القضاء، يوم يتخلَّى عنها كلُّ عباد الله ومُصطفَيْه، فيأتي الناسُ آدمَ وهم في عرَصات القيامة وشدتها، فيَعتذِر بأن الله غَضِب اليوم غضبًا لم يغضب مثلَه قط، ولن يغضَب مِثله قط - وهذا فيه إثباتُ الغضب لله تعالى - وأنه قد عَصى الله بأكلِه من الشجرة، ثم يأتون نوحًا فيعتذر كذلك بهذا العذر؛ بأن الله غضِب غضبًا لم يغضَب مثله قط، ولن يغضبَ مثله قط، وأنه سأل الله ما ليس له به عِلم، وهو نجاة ابنه كنعان، فنوحٌ له أربعةُ أبناء: كبيرهم كنعان، والثلاثة: سام، وحام، ويافث. وكنعان هو الذي كان مِن المغرَقين؛ لأنه كان كافرًا، ثم يأتون إبراهيمَ فيعتذر كذلك، ثم موسى، فعيسى، وعيسى لا يعتذر بذَنب، وإنما يعتذر بغضَب الله، ويقول: ((اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ؛ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ)). فيَأْتُون نبيَّنا صلى الله عليه وسلم فيقول: ((أَنَا لَهَا، أَنَا لَهَا))[1]، فيذهب، فيَخِرُّ ساجدًا تحت العرش، ويفتح الله عليه أنواعًا مِن مَحامِدِه؛ أي: مِن الثناء عليه، وتمجيدِ ربِّه، لم يكن قد فتَحها عليه في الدنيا، فلا يزال ساجدًا هكذا، حتى يأتيَ الإذنُ مِن الله عز وجل: ((يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ))[2]، وهذا قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 79]، وهذا المقام المحمود الذي يَغبِطه عليه الأولون والآخِرون، وهو الشفاعة إلى الله في الموقف العظيم؛ ليجيء لفصل القضاء، ويُريحَ الناسَ مما هم فيه من الهمِّ العظيمِ والبلاء. والشفاعة إلى الله مِلكٌ لله تعالى في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 44]، ولا تنفع الشفاعة إلا بشرطين: الأول: إذن الله للشافع بالشفاعة: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 255]، ملوكُ الدنيا مهما عَظُم مُلكهم يُشفَع عندهم بغير إذنهم، إلا مَلك الملوك جل جلالُه؛ فلَن يشفَع أحدٌ عنده إلا إذا أَذِن له. الثاني: رضا الله عن المشفوع له؛ ولهذا فإن الكافرين والمنافقين لا ينفعهم الشافعون ولو شفعوا. وهذه الشفاعة العُظمى - مع أنها تَطول المؤمن والكافر، والكفار تبعٌ للمؤمنين - لكنها لا تنفَعهم هذه الشفاعة، وإنما تُعَجِّلُ بعَذابهم وسعيرهم، وصِليِّهم النارَ وجَزائهم، فالرسول مع أن شفاعته طالت هؤلاء إلا أنها لا تنفعهم، والله تعالى قال: ﴿ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر: 48]، ولم يقل: ولا يَشفع فيهم الشافعون. الشفاعة الثانية الخاصةُ به صلى الله عليه وسلم: ما أشار إليها الشيخُ من قولِه: ((فَيَشْفَعُ إِلَى اللهِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ))؛ وذلك أنه جاء في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ آخُذُ بِحَلْقَةِ الْبَابِ، فَقَالَ: أَنَا، فَأَسْتَفْتِحُ، فَيُقَالُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمَّدٌ))، فيُفتَح له؛ لأنَّه يَشفَع إلى الله بدخول الجنة، فهو أول الداخلين إلى الجنة من بني آدم، ومن المكلفين إنسًا وجنًّا، وأمته أول الأمم دخولاً إلى الجنة، وهذا كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((نَحْنُ الآخِرُونَ - أي: زَمانًا - السَّابِقُون يوم القيامة))[3]؛ أي: السابقون إلى الجنان. وأمته في الجنة، ذُكِر أنهم يَبلغون شطرَ، بل ثُلثَي أهل الجنة؛ وذلك أنه جاء في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان مع أصحابه فقال: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَكَبَّرَ الصَّحَابَةُ كَانُوا فِي سُرَادِقٍ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلْثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَعَظُمَ تَكْبِيرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَكَبَّرُوا حَتَّى ارْتَجَّ السُّرَادِقُ، ثُمَّ قَالَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)). وهذه كرامة لهذه الأمة وخَصِيصَةٌ من الله لها على سائل الأمم. الشفاعة الثالثة: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب؛ فقد جاء في صحيح مسلم من حديث العباس رضي الله عنه أنه قال: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَبُو طَالِبٍ فَعَلَ، وَفَعَلَ، وَفَعَلَ - يعدد مآثره وحميته على رسول الله - وَقَدْ حَدَبَ عَلَيْهِ ظَهْرَهُ، فَهَلاَّ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟"، وأبو طالب هو الذي ربَّى النبي، وقد حدب أبو طالب ظهره على رسول الله ثلاثًا وأربعين سنة من عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أن كان عمر النبي ثمانيَ سنوات إلى وفاة أبي طالب بعد البَعْثة بعشر سنين؛ ثلاث وأربعون سنة وأبو طالبٍ حادبٌ ظهرَه على رسول الله، وما كانت قريشٌ ولا غيرُها يستطيعون أن يَنالوا من رسول الله شيئًا وأبو طالب حي، أبو طالب كان شأنه عجَبًا مع رسول الله، وكان دافِعُ ذَلك الحميَّة، مع أنه صرَّح بصِدْق رسول الله، وصحة دينه بلِسانه، لكنه لَمَّا أبى أن يقول: لا إله إلا الله. كان كفرُه كفرَ إباءٍ، وهو أحد أنواع الكفر الخمسة، وأبو طالب هو القائل: وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ![]() مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا ![]() لَوْلاَ الْمَلامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ![]() لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينَا ![]() فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ![]() وَابْشِرْ فَقَرَّ بِذَاكَ مِنَّا عُيُونَا ![]() أليس هذا القول قولَ مَن آمن بالرسول؟ بلى، هذا قوله، لكنه أبى أن يقول: لا إله إلا الله. وهو الذي قال في لاميته: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ![]() ثِمَالِ الْيَتَامَى عِصْمَةٍ لِلأَرَامِلِ ![]() تَلُوذُ بِهِ الْهُلاَّكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ![]() فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ ![]() حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ ![]() يُوَالِي إِلَهًا لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ ![]() فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ ![]() تُجَرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ ![]() لَكُنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ ![]() مِنَ الدَّهْرِ طُرًّا غَيْرَ قَوْلِ التَّخَاذُلِ ![]() لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ ![]() لَدَيْنَا وَلا يُعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ ![]() ومع ذلك لم يؤمن؛ أَبَى أن يقول: لا إله إلا الله، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه يسعى وهو يعالج السكرات، فقال: ((يَا عَمَّاهُ، قُلْ كَلِمَةً أُحَاجَّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، قُلْ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ))، واستدل بها طوائف المرجئة على أن مجرد قول: "لا إله إلا الله" يكفيه وينفعه، وهذا من جهلهم بحال أبي طالب وبحال النبي معه، بل مِن جهلِهم بتوحيد الله والإيمان به؛ لأن أبا طالب صدَّق بشِعره، لكنه أَبى أن يَقولها، فلما أَبَى أن يقولها لم ينفَعْه ذلك؛ لأنه أبى مع قدرته، وهذا دليلٌ عند أهل السنة على أن الإيمان لا بد فيه مِن النطق باللسان مع اعتقاده ومع قوله. فالعبَّاس يقول للنبي صلى الله عليه وسلَّم: أَبُو طَالِبٍ هلاَّ نَفَعْتَهُ بِشَيْءٍ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((نَعَمْ، يُخْرِجُهُ اللهُ بِي مِنْ دَرْكِ النَّارِ فَيَجْعَلُهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ))[4]، والضَّحضاح في اللغة: هو الماء إذا مَشى على الأرض، وبلَغ أسفَل القدَم، ولم يُجاوِز الكعبين يُسمَّى ضحضاحًا، سواء كان يَسيل أو كان راكدًا. قال النبي: ((فَيُوضَعُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ))؛ أي: إن النار لا تلبسه جميعًا، وإنما إلى كعبيه يَغلي منهما رأسه؛ يَظنُّ أنه أشدُّ الناس عذابًا، وهو في الحقيقة أقَلُّهم عذابًا، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَلَوْلايَ لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))؛ أي: لولا شَفاعتي فيه لكان في الدرك الأسفل من النار. وجاء في الحديث الآخَر: ((إِنَّ أَقَلَّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا رَجُلٌ يُلْبَسُ نَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا نَفُوخُهُ، يُرَى أَنَّهُ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا، وَهُوَ أَقَلُّهُمْ عَذَابًا))! فأبو طالب لم تنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه من النار. الشفاعة الرابعة: شفاعته في السبعين ألفًا: وفيها خلاف بين أهل العلم. الشفاعة الخامسة: شفاعته في أهل الأعراف، وهم - على الراجح - مَن تَساوَت حسَناتُهم وسيئاتُهم، يشفع فيهم في دخولهم الجنان، وهذه فيها خلافٌ بين أهل العلم. الشفاعة السادسة - وهي ليست خاصة به، بل هي له ولغيره من الأنبياء، والشهداء، والملائكة، والصالحين -: شفاعته في رفع درجات المؤمنين في الجنان؛ بأن يكونوا في درجات دنيا، فيُرفَعون إلى درجات عليا، ومن ذلك شفاعة الآباء في أبنائِهم، وعكسها من شفاعة الأبناء لآبائهم. الشفاعة السابعة: شفاعته لأهل الكبائر: وقد ادَّخر صلى الله عليه وسلم شفاعته إلى يوم القيامة لأمته: ((شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي))[5]، وهذه التي يُنكِرها المعتزلةُ والجهمية (المسمَّون بالوعيديَّة)، بل الواقع أنهم لا يُقِرُّون إلا بشفاعةٍ واحدة، وهي العظمى، ويُنكِرون ما سواها. الشفاعة الثامنة: شفاعته في أقوام قد دخلوا النار، وذاقوا صليَّها وعذابها، فيشفع هو والأنبياء عليهم السَّلام، والشهداءُ والصالحون إلى الله في خروجهم منها. وفي شفاعته الثامنة يحدُّ له الله أربعةَ حدود كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه، وفي الصحيحين فيَحُدُّ الله له حدًّا، ويقول: ((يَا مُحَمَّدُ، أَخْرِجْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيُخْرِجُهُمْ، ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا ثَانِيًا: أَنْ أَخْرِجْ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا ثَالِثًا فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنَ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. ثُمَّ يَحُدُّ لَهُ حَدًّا رَابِعًا، فَيُخْرِجُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ))[6]؛ أي: إنهم لم يعمَلوا خيرًا ينفعهم، وقوله: ((قَطُّ)) على جهة التغليب، وأن سيئاتهم العظيمةَ غلبَت حسناتهم غلَبةً، حتى كادت الحسنات تضمحلُّ مع هذه السيئات، وليس معناها أنهم لم يَعمَلوا أعمالاً أبدًا؛ لأنَّ هذا الدليل استدل به المرجئة على نفيِ العمل عن الإيمان، ومعلومٌ أن العمل يَشمَل عملَ القلب وعمل الجوارح؛ فإن قالوا: إنه لم يعمَل عملاً، لا عمل قلب، ولا عمل جوارح. صار مذهبُهم مذهبَ غُلاة المرجئة، ومعلوم أنه لا إيمانَ لمن لا عمل له، سواء بالعمَلَين عمل القلب وعمل الجوارح؛ فإن فصَّلوا فأثبتوا عمل القلب دون عمل الجوارح فقد تحَكَّموا على دليل بغير مستَدَلٍّ. نقول: من أين بالدليل قال: ((لم يعمل عملاً قط)) - أي: عمل الجوارح - إما أن تنفوا الجميع، أو تثبتوا الجميع. وليس لهم مَناصٌ عند السَّبْر والتقسيم إلا هذا؛ ولهذا فإن هذا الحديث في هذا الباب يعدُّ مشكِلاً إذا نُظِرَ إِليه بمجرَّده، أما إذا ضمَمتَه إلى بقية نصوص الوعد والوعيد يَزول الإشكال والاشتباه، كما عليه محقِّقو أهل السنة من أن هذا نَصُّ وعدٍ يُرجَع فيه إلى بقية نصوص الوعيد، فعندئذ يلئتم الأصل، ويجتمع عليه الشمل، ولا يختلف عليه قول أهل السنَّة. ((ثُمَّ يَأْخُذُ اللهُ تَعَالَى بِيَدِه غَرْفَةً مِنَ النَّارِ، فَيَقُولُ: هَؤُلاءِ إِلَى رَحْمَتِي، وَلا أُبَالِي)). وهذه ليست شفاعةً، وإنما هي محضُ تفضُّلٍ من الله. انحرف في الشفاعة أقوام، وممن انحرف فيها الوعيدية من الخوارج، والمعتزلة، وهم كادوا لا يثبتون إلا العظمى، وبعضهم يثبت شفاعة النبي في التنقُّل في الجنة، والتدرُّج فيها، وغلاةُ المرجئة يُنكِرونها؛ لأن الشفاعة إنما جاءت في الأحاديث، وهي عندهم مظنَّة الآحاد! وهي خارمةٌ لأصلهم؛ فإن مِن المرجئة مَن يقول: إن مَن عرَف الله مؤمن! فإذا كان العارف مؤمنًا فلا حاجةَ له إلى شفاعة، ومن قال: "لا إله إلا الله" وهو مؤمن كما هو مذهب الكرَّامية، فلا حاجة له إلى شفاعة، وهذا نتاج أصولهم الفاسدة، وعقائدهم في الإيمان الكاسدة. وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ؛ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ: أي: إنه يبقى في الجنة فضلٌ لم تمتلئ الجنة، والنار - وهي أقل مِن الجنة - لا تمتلئ حتى يضَع الرحمنُ فيها رِجلَه وقدَمَه، فتقول: قَدْني، قدْني. الجنة إذا دخلها كلُّ أهلها - ممن كتَب الله لهم دخولها، ومَن شفع فيهم الشافعون - يَبقى في الجنة فضلٌ؛ أي: مكانٌ لم يَدخله أحد، فيُنشئ الله لها أقوامًا يخلقهم لها، فيُدخلهم الله الجنة رحمةً منه؛ لأن الخلق خلقُه، والملك ملكُه، ولا يُسأل عما يَفعل، وهم يُسألون. وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الآخِرَةُ - مِنَ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالْأَثَارَةِ مِنَ الْعِلْمِ الْمَأْثُورِةِ عَنْ الأَنْبِيَاءِ. وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ مَا يَشْفِي وَيَكْفِي، فَمَنْ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ: الأصناف هي الأنواع؛ أي: أنواعُ مَن يدخل الجنة، وما يقَع في اليوم الآخر من أنواع المواقف في العرَصات؛ مِن تطايُر الصحف، والحساب، والحوض، والميزان، والشفاعات، والصراط، والقنطرة بعد الصراط، والجَسْر على متن جهنم، وما يكون فيها من إقرار الإنسان بعمله... فكل هذه الأصناف (الأحوال) مذكورة في كتب الله المنزلة، ومذكورة فيما أوحاه الله على رسُلِه من أثَارة العلم (العلم المأثور) عن أنبياء الله. هذا حكاية من الشيخ لإجماعِ المرسَلين على الإيمان بهذه التفاصيل، تفاصيل اليوم الآخر؛ لأنها كما ذُكِرَت لنا ذُكِرَت له، لكن جاء في شريعة نبِّينا - من التفاصيل وذِكْرِ آحاد الأمور وأفرادها - ما لم يأت فيمن قبلنا؛ لأن شريعتنا هي الخاتمة، ومحمد هو خاتم المرسلين؛ ولهذا أبان من تفاصيل اليوم الآخر إبانة تفصيلية ما لم يذكرها نبي قبله، ولهذا جاء في الصحيحين: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الْغَدَاةَ (الْفَجر)، ثُمَّ وَقَفَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، وَلَمْ يَنْزِلْ حَتَّى زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَمَّ خُطْبَتَهُ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَمَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ إِلاَّ وَأَخْبَرَهُمْ مِنْهُ خَبَرًا، قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ؛ أي: نسيه من نسيه. فإن الجهل هاهنا بمعنى النسيان؛ دلالة على أنه أبان لهم ذلك إبانة واضحة لا مرية، ولا التباس فيها. [1] رواه البخاري (4712)، ومسلم (194)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. [2] نفس السابق. [3] رواه البخاري (6624)، ومسلم (855)، من حديث أبي هريرة. [4] رواه البخاري (3883)، و (6208)، ومسلم (209) عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه. [5] رواه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (3/ 213)، من حديث أنس بن مالك. [6] رواه البخاري (7510)، ومسلم (193، و326)، وأحمد (3/ 116).
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (31) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانيَةُ: فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلا سُكُونٍ إِلا بِمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، لا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلا مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ؛ سُبْحَانَهُ لا خَالِقَ غَيْرُه، وَلا رَبَّ سِوَاهُ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلا يُحِبُّ الْفَسَادَ. وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، واللهُ خَالِقُ أَفْعَالَهُمْ. وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ. وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أفْعَالِهِمْ وَلَهُمْ إِرَادَةٌ، وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ، وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا. ♦ ♦ ♦ وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانيَةُ: فَهِيَ مَشِيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ. وَهُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلا سُكُونٍ إِلا بِمَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ، لا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلا مَا يُرِيدُ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ، فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ إِلا اللهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ، لا خَالِقَ غَيْرُه، وَلا رَبَّ سِوَاهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُحْسِنِينَ، وَالْمُقْسِطِينَ، وَيَرْضَى عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَلا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ، وَلا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، وَلا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَلا يُحِبُّ الْفَسَادَ: المرتبة الثانية وفيها درجتان: مرتبة الإرادة والمشيئة، وهذه مرتبة واحدة؛ أن ما شاءه الله وأراده واقعٌ، وكل مقدَّرٍ فقد شاءه الله وأراده كونًا، الدرجة الرابعة خلقُ الله لأفعال العباد؛ فكلُّ مقدَّرٍ فإن الله خالقُه، قال تعالى في المرتبة الثالثة: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]. فمَشيئة الله سابقةٌ ومحيطةٌ بمشيئة العبد، وإرادتُه نافذة، وهذه الإرادة هي الإرادة الكونية العامَّة الشاملة القدرية، لها أربعة أسماء: إرادة شاملة، وكونيَّة، وقدَرية، وعامة. هي بمعنى المشيئة؛ ولهذا فإن مشية الله تأتي بمعنى الإرادة العامة، ولا تأتي بمعنى الإرادة الخاصة وهي الإرادة الدينية، وكل شيء مقدَّرٍ من المقدرات ومقضيٍّ فقد شاءه الله وأراده، ودليل العقل ما أشار إليه الشيخُ أنه لا يمكن أن يقع في ملك الله ما لم يشَأْه ولم يُرِده، وهذا يَقدَح في ربوبيته من جهة قدحِه في مُلكِه. وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً، واللهُ خَالِقُ أَفْعَالَهُمْ. وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ. وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أفْعَالِهِمْ وَلَهُمْ إِرَادَةٌ. وَاللهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28، 29]: المرتبة الأخرى: خلق الله أفعالَ العباد؛ فالله هو خالق العباد، خالق الخلق، وأفعال الخلق هي خلقٌ لله؛ لأن المخلوق وما فعَل كلَّه لله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقال: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، فعمَلُه - مِن صومه وجهاده، وبنائه وإفساده - اللهُ خلَقَه، لكن الثواب والعقاب يَنزل عليه هو؛ لأنه فعَل ذلك بمحضِ إرادته واختياره، والثوابُ والعقاب على ما يَختاره العبد ويفعله، وليس على مَحضِ القدَرِ وما يَمضي به القدَرُ مما عَلِمه الله وكتبه وشاءه وخلَقَه؛ وذلك لأن الثواب والعقاب رُتِّبا على اختياره. فالله أبانَ لنا الخير، وأبان لنا الشرَّ، وجعل لنا الخير، وفي طريقه مرغِّبات محفزات، وجعل لنا في الشر منغصِّات ووعيدًا، وهنا وعد، وهنا وعيد، وترك لنا الخيار، فما نفعله بمحض اختيارنا يَكون عليه الثواب أو العقاب؛ ولهذا فإن الأفعال غيرَ الاختيارية لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب؛ فالنظرة الأولى معفيٌّ عنها لأنها ليست باختيارنا، وأما النظرة الثانية فعليها ثواب وعقاب؛ لأنها متعلقة بإرادتنا واختيارنا، كما أن الحركة الكثيرة مبطِلة للصلاة، فلو صلى المرتعِش فإن صلاته لا تَبطُل؛ لأن حركته بغير اختياره، وجرَيان الدم في عروقه بغير اختياره، فلم يرتِّب عليه ثوابًا ولا عقابا، أما ما نفعله بمحض الاختيار والإرادة فعليه الثواب والعقاب. وأي فعل فعلناه مهما كان لن يخرج عن دائرة قضاء الله وقدره؛ لأنَّ علم الله تام وقدرته شاملة، وملكه كامل غير ناقص، ولا يمكن أن يقع في ملكه وفي إرادته ما لم يسبق به علمه ولا إرادته، ولا اختياره ولا خلقه، فإذا عرفنا هذا الأصل يَنحلُّ عندنا إشكال هؤلاء القدرية، والمعتزلة، والجهمية بأنواعهم. المرتبة الرابعة: الخلق؛ دل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم - وأصله في مسلم ولفظه في السنن -: ((إِنَّ اللهَ خَالِقٌ كُلَّ صَانِعٍ وَصَنْعَتَهُ))؛ ولهذا فالثواب والعقاب يكون على ما يفعله الإنسان بمحض اختياره، وهذه المرتبة التي فيها الدرجتان - درجة الإرادة، ودرجة الخلق - يُنكِرها عامة القدرية (المعتزلة) الذين سمَّاهم النبي مجوسَ هذه الأمة، والحديث رُوِي عن خمسةٍ من الصحابة؛ عن ابن عمر، وجابر، وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم، قال صلى الله عليه وسلم: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِذَا مَاتُوا فَلا تَشْهَدُوهُمْ، وَإِذَا مَرِضُوا فَلا تَعُودُوهُمْ))[1]، وتشبيههم بالمجوس وجهُه أن المجوس أثبتوا خالقَينِ اثنين: النور يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر. وهؤلاء القدرية أثبتوا خالِقِينَ كثيرين فقالوا: العباد يخلقون أفعالهم من غير إرادةٍ من الله، ولا خلقٍ لله لها. وفي مقابلهم الجبرية الذين غلَوا في إثبات القدر، وقالوا: إن العبد مجبور على فعله، لا قدرة له ولا اختيار. وهذا ما سيأتي له مزيدُ بيان. مذهب القدرية مذهبٌ متهافت في الفِطَر والعقول السويَّة، أما العقول المريضة بعلم الكلام ومرض القلوب فإنها تستَسيغه، وأقربُ شواهد ذلك ما ذكَره العلماء أن أعرابيًّا دخل البصرة، فسُرِقَت ناقته، فبحث عنها، وطلبها، ولم يجدها، فدخل الجامع فإذا فيه شيخ له لحية، وعنده طلاب، فاغترَّ به - وقد أحسن به الظن، وكان هذا الشيخ في جامع البصرة هو عمرو بن عبيد القدَري إمام المعتزلة - فقال له: يا شيخ، أنا أتيت من الأعراب (البر) وقد سُرِقت ناقتي، فادع الله أن يردها علي. أي: إنه لا حيلة لي أن أرجِعَ إلا بهذه الناقة، فرفع عمرو بن عبيد يديه قال: اللهمَّ إنك لم تُرِد - أي: لم تُقدِّر - أن تُسرَق ناقته فسُرقَت، اللهمَّ رُدَّها عليه. فقال الأعرابي: مَهْ؛ إذا كان الله عز وجل لم يُقدِّر، ولم يُرِد أن تُسرق ناقتي فسُرِقَت، فأخشى أن يُقدِّر أن ترجع لي ولا ترجع؛ إذا كان يقَع في ملكه ما لا يُقدِّره ولا يريده. فخَصَم الأعرابيُّ وحَجَّ بفِطرته ذلك القدريَّ بمذهبه الفاسد الكاسد. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ الْقَدَرِ: الدرجة المتضمنة لمرتبتين: مرتبة الإرادة والمشيئة، ومرتبة الخلق. يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ، الَّذِينَ سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَجُوسَ هَذِهِ الأُمَّةِ: أي: عامة المعتزلة؛ فالمراد بالقدرية هاهنا المعتزلة، وكما قلنا: إن وصف القدرية يُطلق على غلاة الإثبات وهم الجبريَّة، ويُطلق على غلاة النفي، ونفاة القدر وهم المعتزلة، وإن إطلاقه على المعتزلة في استعمال العلماء أكثرُ وأشهر. وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ: وهم الجبرية، والجبرية هم الجهمية، والعجيب أن الجهمية اشتركوا مع المعتزلة في نفي الصفات، فالجهمية شيوخهم، والمعتزلة لهم تبع، فمذهبهم في الصفات مذهب واحد، بل حتى في الأسماء عند التحقيق؛ لأن المعتزلة موقفهم من أسماء الله على قولين: فغلاتهم ينفون أسماء الله تعالى كما ينفون الصفات، وعامتهم يقولون: إن الله تعالى له أسماء لا تدل على ذات، ولا على معنى، بل هي أعلام محضة مجردة. والعلم المحض المجرد الذي لا يفيد صفة، فبالتالي أثبتوا الاسم ظاهرًا، ونفوا معناه وحقيقته، وأما الجبرية الجهمية والمعتزلة في باب القدر فهم على ضدَّين، وقولهما متناقض، فالقدرية المعتزلة ينفون القدر، والجهمية الجبرية يغلون في إثبات القدر، حتى أفضى بهم ذلك إلى سلب قدرة العبد، وأن العبد ليست له قدرة، وإنما هو كريشة في مهب الريح، مثل ورق الشجر إذا حركته الرياح، وكالميت بين يدي مُغسِّله لا قدرة له ولا اختيار، فجعلوا العبد مسلوب القدرة؛ ولهذا سُمُّوا جبرية؛ لأنه بزعمهم أن الله قد أجبره على هذا الفعل، وهذا من أقبح الأقوال وأشنعها؛ أن يُعْتَقد أن الله أجبر خلقه ثم عذبهم، وهذا هو الظلم الذي لا يليق أن يُنسب إلى خلق الله، فكيف بنسبته إلى الله عز وجل؟! وهؤلاء الذين سلبوا العبد قدرته واختياره جعلوا أفعال العباد كلها أفعالاً اضطرارية غير إرادية، وأفعال العباد على نوعين: الأول: أفعال اضطرارية؛ كحرَكة الدَّمِ في العروق، والنفَس، وارتعاش المرتعش، والنظرة الأولى... فهذه كلها غير إرادية، وكل فعل غير إرادي لم يُرتَّب عليه لا ثواب ولا جزاء. والنوع الثاني: الأفعال الاختيارية الإرادية التي يَفعلها الإنسان بمحض إرادته واختياره؛ فهذه التي يُرتَّب عليها الثواب إن أحسن، أو الجزاء إن أساء، وهذه المشكلة لم تتبيَّن لهؤلاء، ولا لأولئك؛ لا للجبرية ولا للقدرية، وإن كانت قد تبينت لهم، لكنهم عاندوا وكابروا؛ اتباعًا لأصولهم الفاسدة ومذاهبهم الكاسدة. وممن شابه الجبريةَ الأشاعرةُ فقالوا بالكسب، والكسب يَؤول إلى القول بالجبر، ولهذا قال العلماء إن هذه الاصطلاحات: لا حقيقة لها: كسب الأشعري، وطفرة النظامي، وأحوال أبي هاشم تُسمى (الأحوال البهشمية)، والطفرة والأحوال من مذاهب المتكلمين الفلاسفة، كسب الأشعري - منتسب إلى المذهب الأشعري لا إلى الحسن، هذا الكسب الأشاعرة أنفسهم مختلفون في حَدِّه ومعناه، وأقرب ما يُقرب به إلى أذهاننا أن الكسب عندهم وقوع القدر عند المقدور لا بالمقدور، وضربوا له أمثلة، فقالوا: النار من صفاتها أنها حارة تحرق، والإحراق حصل عند النار لا بالنار، القطع حصل عند السكين لا بالسكين. هذا هو الكسب، وحقيقته ومآله إلى الجبر أن الإنسان ليس له قدرة، ولا إرادة، ولا اختيار؛ ولهذا فالأشاعرة في باب القدر أقرب إلى الجبرية، وكذلك هم في باب الإيمان أقرب إلى الجبرية، فكلاهما من المرجئة كما سيأتي. ويستدلون بآيات في القرآن؛ ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، فقالوا: إن الله سلَب محمدًا الفعلَ وأثبته لنفسه، وهذا مِن أبطَلِ الباطل، وأسفَهِ السَّفِه، والآية: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]؛ النبيُّ صلى الله عليه وسلم باشَرَ الرمي، فحَمل التراب تراب بدر، ثم رمى به وجوههم، وقال: ((شَاهَتِ الْوُجُوهُ)). فعَل الأسباب فرمى، ولكن الله تعالى أوصل هذا التراب إلى وجوهِ المشركين جميعًا، وليس معناه: سلب فعله صلى الله عليه وسلم. والعجيب أن هؤلاء الجبرية ومن كان على طريقتهم لا يَنفون الفعل... وإنما يستدلُّون بالقدر في باب المعاد، بمعنى أن هذا الجبريَّ لو أتيتَ وضربتَه على وجهه لا يقول: هذا مجبورٌ فدَعوه. بل ينتقِم لنفسه، ولا يُعوِّل في هذا الباب على القدر، بينما في باب الطاعات، أو ترك المحرمات يبرِّر لنفسه فِعلَه بأنه مجبور، ينتج من ذلك نفيُ الحكمة والتعليل عن أفعال الله تعالى، ولهذا قال: وَيُخْرِجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا: الجبريَّة - ومعهم الأشاعرة - يَنفون الحكمة والتعليلَ عن أفعال الله، ويترتَّب عليها مسألةُ التَّحسين والتقبيحِ المشهورةُ عند الأصوليِّين، وهي لها علاقة بمذهب المعتزلة والأشاعرة، وهي مِن بِدَعِهم في باب أصول الفقه، وفي باب القضاء والقدَر؛ فهُم ينفون الحكمة والتعليلَ عن أفعال الله. القدرية يَغلون في إثبات الحكم والتعاليل حتى إنَّهم يجعلون لكل شيء حكمة، وأفعال الله كلها لحكم، بعضها عَلِمناها بإعلام الله لنا، وبعضها لم نعلمها؛ قال تعالى: ﴿ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ﴾ [القمر: 5]، ومن أسمائه سبحانه وتعالى الحكيم؛ أي: الذي له الحكمة التامة في أقواله، وأفعاله، وأوامره، وفي قضائه وقدره. ويَنفون التعليل، والتعليل في الأحكام على نوعين: تعليلٌ في القدَر؛ فهذا مما أبان الله لنا فيه الحكمة، ومنه أنه لا يتأتى الأولاد إلا بالزواج، ولا يتأتى الزرع إلا بالحرث؛ أي: ببذل أسبابه. وقد تأتي خوارقُ على غير هذا؛ كآدم، وحواء، وعيسى عليهم السَّلام. وهناك تعليلات في أوامره تعالى، منها ما هي مبيَّنة؛ كعِلَّة الإسكار في تحريم الخمر، وعلة التعبُّد في كثيرٍ مِن الأحكام، وعلَّة النجاسة في لحم الخنزير والحمار، وهناك من أوامر الله ما لا نعلم حُكمَه؛ كعدد ركعات المغرب ثلاثًا، والفجر ركعتين فهذه لا نعلم حكمتها. فالأشاعرة والجهمية (وهم الجبرية) في هذا الباب ينفون عن الله تعالى الحكمة في أفعاله، والحكمة في قضائه قدره، وفي أوامره. التحسين والتقبيح هذان المذهبان الخبيثان في هذه المسألة على طرَفَي نقيض؛ فالقدرية المعتزلة يرَون أن التحسين والتقبيح عقليٌّ فقط، والأشاعرة يرون أن التحسين والتقبيح شرعي فقط، وأهل السنَّة وسط في هذا الباب، فالتحسين والتقبيح، ومعرفة حُسن الأشياء وقُبحها يكون بالشرع ويكون بالعقل، وهذا هو التوسُّط. [1] رواه أحمد (2/ 86)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه أبو داود (4691) عن حذيفة رضي الله عنه.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (32) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فَصْلٌ: وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الدِّينَ...: الدين ما يُتَديَّن به، ويُطلق الدين على الحق وعلى الباطل؛ ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]. والمراد بالدين هنا ما يُتعبد لله به. وَالإِيمَانَ: وهذا من باب عطف الشيء على نفسه؛ لأن الدين الحقَّ هو الإيمان، ولنعلم أن الواو العاطفة أصلها لمطلق الجمع، وقد تُفِيد أحيانًا المغايرة؛ إما المغايرة المعنوية، أو اللفظية بحسب السياق، فقوله: "أن الدين والإيمان" هذا لِمُطلَق الجمع، وهما شيء واحد. قَوْلٌ وَعَمَلٌ؛ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ. وَأَنَّ الإِيمَانَ: يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ: هذا مذهب أهل السنة أن الإيمان والدين قول وعمل، والقول يشمل قول القلب، وهو الاعتقاد باعتقاده بالله، وأسمائه وصفاته، وما له، وقول الجوارح بلا إله إلا الله، والتسبيحات، والتهليلات، والذكر، والأذان. والعمل عملان: عمل القلب بالنية والتوكل والرجاء، وعمل الجوارح بالجهاد والصوم والحج وغيرها. هذا على جهة الإجمال، أما على جهة التفصيل فالإيمان عند أهل السنة والجماعة يقوم على خمسة أسُس فهو: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يَزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان. وعلى هذا أجمعَ السلف؛ على أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وهذا محل إجماع لا يتخلَّف. هذا المذهب لأهل السنة في الإيمان له أثره، وهو الذي أشار إليه قبل ذلك: "وهُم في باب أسماء الإيمان والدين وسط بين الوعيديَّة من الخوارج والمعتزلة، وبين المرجئة"، هذه الوسطيَّة تتبيَّن لنا بعد أن عرَفنا أن الإيمان عند أهل السنة قولٌ واعتقادٌ وعملٌ، يزيد وينقص. أهل السنة والجماعة في هذا القيد بالإيمان خالفوا الوعيدية، والوعيدية هم الخوارج والمعتزلة، فالإيمان عند الخوارج والمعتزلة - ومسماه وحدُّه عندهم - هو قول واعتقاد وعمل، لكنه لا يَزيد ولا ينقص، فزيادته إيمان، ونقصانه كفر، وتفلسَف متأخِّروهم فقالوا: الزيادة في الصحة، والنقص في الذهاب. وهذا ليس تحته كبيرُ طائل، فهُم وافقوا أهل السنة في بعض مسمَّى الإيمان لكن خالفوهم في حقيقته، فالإيمان عندهم إذا ذهب إما أن يذهب جميعه أو يبقى جميعه. وسُمُّوا بالوعيدية لأنهم غلَّبوا نصوصَ الوعيد، وأهملوا وردوا وتركوا نصوص الوعد. وهم على مذهبين، يظهر مذهبهما في الفاسق، في صاحب الذنب: فجمهور الخوارج أن صاحب الذنب كافرٌ ليس بمؤمن، وهذا اسمه في الدنيا، وحكمه في الآخرة خالد مخلد في النار، وهذا قول جمهور الخوارج من الأزارقة، والنجدات، والصفرية. وقالت الإباضية: إن صاحب الذنب كافرٌ كفرَ نعمة، لا كفر ملة؛ فالكافر كفر الملة هو الذي خرج من الإسلام، أما كفرُ صاحبِ الذنب فَيعدونه نعمة؛ لئلا يُجْروا عليه أحكام الكافر؛ مِن قتلِه، وعدم الصلاة عليه، وعدمِ توريث أولاده منه، والتفريق بينه وبين زوجته... فسمَّوه كافرًا كفرَ نعمة، وهذا المذهب قريبٌ من مذهب المعتزلة؛ لأن الإباضية تأثروا تأثرًا كبيرًا بالمعتزلة؛ فالمعتزلة يقولون: صاحب الذنب في منزلة بين المنزلتين، ليس بالمؤمن ولا بالكافر، بل في منزلة بينهما، خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر. ويسمونه اصطلاحًا عندهم بالفاسق الملِّي، والفاسق الملي هو مَن كان في منزلة بين منزلتين، وهذا اسمه في الدنيا، فلا يسمونه مؤمنًا، ولا ناقصَ الإيمان، ولا يسمونه كافرًا، وفي الآخرة اتفقت الوعيدية كلُّهم - من الخوارج والإباضية والمعتزلة - على أن صاحب الذنب في الآخرة خالد مخلد في النار. ومن هذا الباب أطلقَ العلماء على المعتزلة لفظًا - وليُنْتَبه له؛ لأن أهل الزمان يطلقون هذا اللفظ على معنى سيِّئ، وأهل العلم يطلقونه على معنى عِلمي - وهو المخنَّث، فالمخنث هو المتشبِّه بالنساء أو الذي يُؤتى فيُفعل فيه الفاحشة، والمخنث عند الفقهاء هو الذي ما تُميِّز هل هو ذكَر أو أنثى، له عضوان: عضو الذكورة، وعضو الأنوثة. فإن كان عنده عضوان ويبول منهما جميعًا يُسمى بالخنثى المشكل، وهذا عند الفقهاء الخنثى المشكل الذي ما تبينَت فيه ذكوريته ولا أنوثته. والعلماء قالوا: إن المعتزلة مَخانيثُ الخوارج؛ وذلك أنهم في اسمهم في الدنيا خالَفوا الخوارج في الاسم، فالخوارج جعلوه في الدنيا كافرًا، وهم جعَلوه في الدنيا في منزلة بين منزلتين، واتفقوا معهم في حُكمه الأخروي على أنه خالد مخلَّد في النار، ولهذا اختلفوا في الاسم في الدنيا، واتفقوا في النتيجة والحكم في الآخرة، ولهذا سُمُّوا مخانيث الخوارج، وسبب ذلك هو جُبن هذا المذهب (مذهب المعتزلة والإباضية)؛ لأنهم لم يُكَفِّرُوا صاحب الذنب كفر ملة، فيلزمهم أن يُجْروا عليه هذه الأحكام، أحكام الكفر؛ كفر المعيَّن، المشتهرة عند التكفيرين قديمًا وحديثًا. ولهذا يقول الشيخ: وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ: أي: أهل السنة؛ لَمَّا جعلوا الإيمان قولاً باللسان، واعتقادًا بالجنان، وعملاً بالأركان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان. لا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ: وهم مع ذلك لا يُكَفِّرُون أهل القبلة، فلا يَحكمون على مسلمٍ مُصلٍّ، يَستقبل القبلةَ - بالكفر بمُطلَق المعاصي والكبائر، فإنَّ أهل القبلة - وهو وصفٌ للمصلين المسلمين، الذين استقبَلوا القبلة للصلاة، وهذا فيه أصلُ اتفاق السلف على أن الصلاة فيصلٌ بين المسلمين والكافرين - المصلُّون، ومن ليس مصليًا فليس من أهل القبلة؛ لأنه لم يصل، ولم يجعل الفيصل الفارق بينه وبين أهل الكفر وأهل الشرك. أهل السنة لا يُكفِّرون المسلمين بمطلق المعاصي والكبائر، فإذا أتى الإنسانُ معصيةً أو كبيرة لا يُكَفِّرُونه كما يفعله الخوارج، ولم يقل الشيخ: كما يفعله الوعيدية؛ لأن الوعيدية يختلفون في اسمه في الدنيا؛ فالخوارج جمهورهم يكفِّره، والإباضية يكفِّرون كفر نعمة، والمعتزلة لا يحكمون بكفره ولا يحكمون بإيمانه، وأهل السنة يُسمون صاحب المعاصي عاصيًا، وصاحب الكبيرة فاسقًا. الأصل أن المعصية هي الكبيرة، والكبيرة هي المعصية، لكن إذا اجتمَعتا جميعًا فيراد بالمعاصي الصغائر، وبالكبائر الكبائر، أهل السنة لا يكفِّرُون مسلمًا بمجرد المعصية، أو بمجرد الكبيرة. وأما الحد بين الكبيرة والصغيرة فقد ذكر العلماء فيه أقوالاً كثيرة؛ فمِنهم من أبلغها إلى عشرين أو ثلاثين قولاً، أصحها وأضبطها ما حققه شيخ الإسلام ومحققو العلماء أن الكبيرة ما جمعت وصفًا من الأوصاف السبعة: الأول: كل ذنب رُتِّب عليه حد في الدنيا؛ كالسرقة، والقذف، والقتل. الثاني: أو رُتِّب عليه وعيد في الآخرة بالنار؛ ((مَا أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ))[1]. الثالث: أو وعيد في الآخرة باللعنة؛ ((لَعَنَ اللهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ))[2] ؛ فالرِّشوة كبيرة؛ لأنه تُوُعِّد عليها باللعنة. الرابع: أو تُوُعِّد عليه في الآخرة بالغضب؛ كقول الله - في المرأة الملاعَن منها - ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 9]. الخامس: أو تُوُعِّد بنفي الإيمان عنه؛ ((وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَخَابَ وَخَسِرَ))، قَالُوا: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ ((الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). وسيأتي حديث: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[3] ؛ فدل على أن هذه الأفعال كبائر؛ لأنه نفى الإيمان عن صاحبه. السادس: أو تُبُرِّئَ منه؛ ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا))[4] ، وفي لفظ: ((مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا))[5] ، وكِلا اللَّفظَين في الصحيحين، فقوله: ((مَن غش)) يشمل المؤمنَ وغير المؤمن، وقوله: ((من غشنا)) يَخصُّ المسلمين، ومن الأمثلة كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا))[6] ، ((وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ خَطَبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، وَلا زَوْجًا عَلَى زَوْجَتِهِ)). السابع: لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. فالكبيرة ما جمعَت أحدَ هذه الأوصاف السبعة، وما دونها صغيرة. والسلف يؤكِّدون في هذا الباب على قاعدة مهمة؛ أنه قد يحتفُّ بالكبيرة - من الندمِ وعظيمِ المراقبة، والقلقِ في النفس مِن مؤاخَذة الله عليها - ما يُصَيِّرُ هذه الكبيرةَ عند الله في حقِّ هذا العبد صغيرةً؛ لِمَا احتفَّ بها من هذه الأحوال، وعكسها أنه قد يحتف بالصغيرة من الاستهتار، وعدم المبالاة، وقلة الخشية ما يُصيِّر هذه الصغيرة عند الله في حق العبد كبيرةً، وهذا كثير؛ ومِن الناس مَن إذا مر عند هذه المسألة لا يشيد بها، أو لا يشير إليها، والسلف كانوا يُعنَون به جدًّا. صاحب الصغيرة يسمى عاصيًا، وصاحب الكبيرة يُسمى فاسقًا، وقد يُطلق هذا على هذا عند الافتراق وعدم الاجتماع، وهذا مذهب أهل السنة. وفي مُقابلِ الوعيدية طائفة وهم المرجئة، والمرجِئَةُ عدَّهم العلماء - كأبي الحسن الأشعري صاحب (المقالات في مقالات المسلمين) - اثنتي عشرة فرقة، لكن نحن نكتفي منها بأربع طوائفَ شهيرة، وهي: الطائفة الأولى - وهي أولها ظهورًا -: الوعيديَّة، أول ما ظهر بظهور الخوارج، فقابلَتهم المرجئة في أواخر المائة الأولى، وكان أول أمر الإرجاء إرجاءَ أمر المتقاتِلين من الصحابة رضي الله عنهم في موقعتَي الجمل وصفِّين، ثم من لحقهم بأنهم يُرجون إلى الآخرة، فالله أعلم بهم، فتطور الإرجاء إلى إرجاء أصحاب الذنوب. والمرجئة أربع طوائف كبار، وأشدُّهم إرجاء وغُلوًّا في الإرجاء - ويُسمون بالمرجئة الخالصة - هم الجهمية، وهذه هي المسألة الثانية التي افترق فيها الجهمية عن المعتزلة، والأصل الثاني الذي تبايَنَ فيه قولُ المعتزلة مع الجهمية: الإيمان، فالجهمية المرجئة المحضة الإيمان عندهم معرفة الله، فمن عرف الله فهو مؤمن، والكفر عندهم الجهل، فقالوا: مَن جهل بالله فهو كافر. فيلزم على مذهبهم - وهذا مِن أقبح اللوازم - أن يكون فِرعونُ مؤمنًا؛ لأن فرعون يَعرف الله، قال الله في موسى أنه قال في حقه في آخر سورة الإسراء: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]، وقال في آية النمل: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]، بل أقبح من هذا أنه يلزم على ذلك أن يكون إبليس على مذهب الجهمية مؤمنًا؛ لأن إبليس يعرف ربه؛ ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ﴾ [الحجر: 39]، وقال: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82]؛ فالكافر عند الجهمية مَن جهل ربَّه، قال شيخ الإسلام: "ولا أحد أجهل بالله مِن جهم؛ فإنه نفى عن الله الأسماء والصفات، والوجود، فلم يجعل لله وجودًا إلا وجودًا مطلقًا، بشرط الإطلاق، وليس له وجود إلا في الذهن". فبالتالي يكون الجهم على مذهبه كافرًا؛ لأنه جهل ربَّه تعالى، وهذا يُسمى بقَلْب الحجة، وقَلب الدليل، وقلب الدَّعوى على المدعي. الطَّائفة الثانية: الأشاعرة، والإيمان عند الأشاعرة هو التصديق فقط، وربما استدلوا بقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 17]، وليس معنى الإيمان في اللُّغة تصديقًا فقط، بل تصديقًا مع إقرار؛ ولهذا فإن معنى الآية: ما أنت - يا يعقوبُ - بمُقِرٍّ لنا على دَعوانا؛ لما جاؤوا على قميص يوسف بالدم، وزعموا أنه دمُ يوسف وأنَّه أكلَه الذئب، وهو دمُ شاة؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾، ولكن قلبك ما اطمأنَّ، وما أقرَّ لنا بهذا القول، وهذا الواقع مِن يعقوب عليه السَّلام أنه ما أقرَّ لهم؛ ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. يتبع
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() فالإيمان عندهم هو التصديق، أما الكفر فهو التَّكذيب، وكلُّ مَن حصَر الكفر في التَّكذيب فهو قائلٌ بقول الأشاعرة؛ دَرى أو لم يَدرِ، عَلم أو لم يعلَم؛ ولهذا مَن حصَر الكفر وقال: الكفر لا يكون إلا بالتكذيب، وما هو أبلغُ مِن التكذيب كالجحود؛ فإن الجحود تكذيبٌ وزيادة، فمن حصر الكفر في التكذيب أو بالجحود فهو قائلٌ بقول الأشاعرة؛ شعَر أو لم يَشعُر، درى أو لم يدرِ. وهذا وقَع فيه بعض المنتسبين للسُّنة؛ جهلاً منهم، ثم كابَروا، وعاندوا، وهم لا يدرون أنهم وقَعوا في قول الأشاعرة، ثم لما نُبِّهوا أبَوْا أن يعترفوا، فحافوا حيفة حمُر الوحش، وأتوا بالتأويلات، واللَّف والدوران، ولو أنهم أقرُّوا بخطئهم لما احتاجوا لمثل هذا كله، وهذا مستقِرٌّ عند أهل العلم، وعند طلبة العلم؛ أن هذا قول الأشاعرة الذي ردَّ عليهم فيه أهلُ السُّنة. الطائفة الثالثة: الكرَّامية؛ أتباع محمد بن كرَّام السِّجستاني، ومحمد بن كرَّام توفي عام (255ﻫ)، وهو مشبِّهٌ في باب الصفات، وهو مرجئٌ في باب الإيمان، قالت الكرَّامية: إن الإيمان هو النُّطق باللسان، فمَن قال: لا إله إلا الله، فهو مؤمن وإن لم يُصلِّ، وإن لم يؤدِّ أركان الإسلام، فما دام أنه نطَق فهو مؤمن! ولهذا فأقبَح ما يَلزم على مذهبِهم من فَسادِ اللوازم أن يكون المنافقون مؤمنين، والله تعالى حكَم على المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار. الطائفة الرابعة: مرجئة الفقهاء: ودخل فيهم الماتوريدية أتباع أبي منصور الماتوريدي، الذين قالوا: إنَّ الإيمان نطقٌ باللسان، واعتقادٌ بالجَنان. واختلفوا في النطق؛ هل هو ركنٌ أصلي، أو ركن زائد؟ فعِند أهل العراق أتباعِ أبي حنيفة هو ركن أصلي، وعند أبي منصور الماتوريدي وأتباعه هو ركن زائد، والفرق بينهما فرقٌ يسير، لا نُطيل الكلام عليه، فأخرَجوا العمل عن الإيمان. هذه أشهَر طوائف المرجئة، وهم موجودن في زماننا وجودًا كثيرًا؛ عامة الصوفية وعامة الأشاعرة على الصنف الثاني من أصناف الإرجاء؛ ولهذا نلاحظ الإرجاءَ عندهم في أعمالهم، فإذا أُمِرُوا بالمعروف، أو نُهُوا عن المنكر قالوا: يا هؤلاء! دعونا؛ الإيمان في القلب! وهذا مِن أثر الإرجاء؛ لأن الإيمان عندهم التصديق فقط، بلا قول ولا عمل. بِل الأُخُوَّةُ الإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي: المعاصي تشمل الصَّغائر والكبائر، فمَن فعل معصية أو كبيرة وهو مؤمن، تَبقى له الأخوَّة الإيمانية، والدليل: كَمَا قَالَ - سُبْحَانَهُ - فِي آيَةِ الْقِصَاصِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178]. أَخُوه هم أولياء الدَّم، فجعل أولياء الدَّم إخوانًا للقاتل، مع أن القاتل أتى بأعظمِ الذنوب بعد الشِّرك بالله، ولنتأمَّل في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ﴾؛ أي: ماكثًا فيها مكثًا طويلاً، ولهذا لم يَقُل: أبدًا، ﴿ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]؛ خمسةُ أنواع من الوعيد، واحدةٌ منها تَكفي أن يكون ذلك كبيرة؛ ولهذا عُدَّ قتلُ المؤمن ظلمًا وعدوانًا أقبحَ ذنبٍ بعد الشرك بالله. فأقبحُ ذنب بعد الشرك بالله قتل النفس المؤمنة المعصومة، وأقبح أنواع الذنوب من قتل النفس المعصومة قتل المؤمن، وأقبح أنواع قتل المؤمن أن يَقتل ذا رَحِم، وأقبح أنواع قتل ذي الرَّحم أن يقتل أبوَيه، وأعظم ذنب من قتل الأبوين قتل الأم، وهذا تدرُّج بأعظم الذنوب بعد الشرك بالله تعالى. قال: "فالأخوة الإيمانية ثابتة لمن أتى هذا الذنب"؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178] فعدَّ القاتل أخًا لأولياء المقتول، وقال تعالى: وَقَالَ: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ﴾: فعد الطائفتين من المؤمنين. ﴿ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى ﴾: تعدت، وظلمت، وبغت. ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾: حتى ترجع فتترك عنها هذه الكبيرة. ﴿ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]: أي: احكموا بالعدل. فالقاسطون هم العادلون. ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10]: جعَل الطائفةَ المقاتلة للأخرى إخوةً لها، فأبقى بينهما الأخوَّة الإيمانيَّة. وَلا يَسْلِبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّيَّ اسْمَ الإِيمَان بِالْكُلِّيَّةِ: ذكَر أهل السُّنة أنهم لا يَسلبون الفاسق المليَّ اسمَ الإيمان، والفاسق المليُّ عند أهل السنة هو المؤمن الذي على الملة لكنَّه أتى ذنبًا، فسَق به فصار عاصيًا، أو فاسقًا، ولا يسلبون الفاسق المليَّ اسم الإيمان بالكلية، فصاحب الذنب عند أهل السنَّة لا يَكفُر، ولا يقال: إنه غير مؤمن. وإنما يُقال: مؤمنٌ بإيمانه، فاسقٌ بكبيرته، أو عاصٍ بمعصيته. أو قالوا: مؤمنٌ ناقص الإيمان. والنقص جاء مِن هذه الكبيرة التي أتاها، والإيمان من التوحيد الذي عنده. وَلا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَة: أي: إنهم في الدنيا لا يسلبونه اسم الإيمان، فلا يقولون: هو غير مؤمن. إنما يقولون: مؤمن ضعيفُ الإيمان، ناقص الإيمان. مؤمن بإيمانه، فاسق بذنبه وكبيرته. وفي الآخرة لا يُخلِّدونه في النار كما تقوله المعتزلة والخوارج، فالمعتزلة في الدُّنيا يَسلبونه اسمَ الإيمان، فيسمونه بالفاسق الملي على اصطلاح المعتزلة، وهو مَن كان في منزلة بين المنزلتين، والمنزلة بين المنزلتين هي أولُ بِدعِ المعتزلة، فأوَّلُ بدعة ابتدعتها المعتزلة القول: بين المنزلتين؛ وذلك أنه دخل رجل البصرة، فإذا بجامعها - وكان مخاضُ الناس وقيلُهم وقالُهم في ذلك الزمان عن أصحاب الذنوب، أما مخاضهم الآن في زماننا عن: فلانٌ حزبيٌّ أو غيرُ حزبي، مبتدعٌ أو غيرُ مبتدع، إخواني أو غير إخواني، تبليغي، أو سلَفي... هذا هو مخاض أكثرِ الناس في زماننا، مخاضهم في زمن الحسَن البصري، في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم وأول التابعين - فلان مؤمن أو غير مؤمن، مِن جَرَّاء ما دخل من الفتن - الحسن البصري، فدخَل رجلٌ مع طلابه، فقال: صاحبُ الذَّنب يا إمام! أمؤمنٌ أم كافر؟ فتَطفَّل واصل بن عطاء، فقال: أنا أقول: إنه ليس بمؤمن، ولا بكافر - والمسؤول هو الحسن البصري، وهذا أجاب جوابًا تطفليًّا - فتطاول على شيخه، وعلى هذا السَّائل، فقال: أنا أقول لا مؤمن ولا كافر. ثم اعتزل هو وعمرُو بن عُبيد حلقةَ الحسن في جامع البصرة، فصاروا في ناحية، فسمَّاهم الناس معتزلة؛ أي: إنهم اعتزلوا حلقة إمام أهل السُّنة - إمام المسلمين في زمانه - بهذه البدعة، أنهم سمَّوه لا مؤمن ولا كافر؛ في منزلة بين المنزلتين، وهذه أول بدعهم. وأيضًا الخوارج - في اسمه في الدنيا - يَسلبونه اسمَ الإيمان، فيسمون الفاسق المليَّ في منزلةٍ بين المنزلتين، أما الخوارج فسموه في الدنيا كافرًا. بَلِ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ﴾ [النساء: 92]: لو أنَّ هذا صاحب الرقبة مؤمن لكنَّه يَسرق، أو يزني، أو يشرب الخمر، أو يأكل الرِّبى؛ فإنه يصح إعتاقه حتى عند هؤلاء المعتزلة، ومما يُناسب ذِكرُه أن المعتزلة أكثرهم في القرن الثالث على مذهب الإمام أبي حنيفة؛ يُمضون أن هذا مؤمن فيُعتق، خلافًا لمذهبهم في الأصول، يخالفونه في مذهبه في الفقهيات والعملية. وَقَدْ لا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الإِيمَانِ الْمُطْلَقِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]. عندنا إيمانٌ مطلَق، وعندنا مطلقُ الإيمان، ومطلق الإيمان هو الإيمانُ العامُّ الذي يَشمل كاملَ الإيمان، وضعيفَ الإيمان، والمؤمنَ الفاسق، والمؤمنَ العاصيَ، أمَّا الإيمان المطلقُ فهو الإيمان الكامل، وقد لا يدخل صاحبُ الكبيرة عند أهل السُّنة في اسم الإيمان المطلق (الكامل)، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]؛ فإن المؤمنين في هذه الآية هم المؤمنون إيمانًا كاملاً، أصحاب الإيمان المطلق الكامل، ولا يُدخِل أهلُ السنة صاحبَ الذنب في الإيمان الكامل؛ فقد نقَص إيمانُه بكبيرته وذنبه، ولا يُدخِلونه في الإيمان الكامل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يُسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَنْتَهِبُ نَهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[7]: أي: إنَّه في هذه الكبائر يُنْفَى عنه الإيمانُ المطلق، الإيمانُ الكامل، ولا يُنفى عنه أصلُ الإيمان عند أهل السُّنة، أما عند الوعيدية فإنَّهم يَنفون عنه أصل الإيمان، أما المرجئة فيعدون هذا كامل الإيمان وإيمانه مطلق؛ لأن الإيمان عندهم لا يؤثِّر فيه الذنوب، ولا يؤثر فيه تَركُ العمل. وَيَقُولُونَ: هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الإِيمَانِ، أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ؛ فَلا يُعْطَى الاسْمَ الْمُطْلَقَ، وَلا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الاسْمِ بِكَبِيرَتِهِ: هذا قولُ أهل السُّنة والجماعة في أنه لا يُسلب الإيمانَ الكامل، ولا يُسلب مطلقَ الإيمان؛ أي: مجرَّدَ اسم الإيمان. أما أدلة أهل السنة والجماعة على أن الإيمان يَزيد وينقص فكثيرة جدًّا في القرآن والسنة، وفي الآثار السلفيَّة، وأدلة أهل السنة على إدخال العمل في الإيمان كثيرة جدًّا؛ منها قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [البقرة: 277]؛ فإنَّ عطف العمل على الإيمان مِن باب عطف البعض على الكل؛ عطف الخاصِّ على العام، وهذا يَعني مُطلَقَ الجمع، خلافًا لمن أخرج العمل عن الإيمان بأن جعل الواو للمغايرة، فالواو هنا لمطلق الجمع؛ كما قال تعالى: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]؛ لا شكَّ - بإجماع المسلمين - أنَّ الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر مِن الإيمان بالله. وقال تعالى لما حوَّل القِبلة في آخر الآيات: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، والمراد بإيمانكم بالاتفاق الصلاة، فيمن صلَّوا ستةَ عشَر شهرًا إلى بيت المقدس، ثم تحولت القبلة وماتوا قبل تحوليها؛ فإن الله لا يُضيع صلاتَه؛ حيث قال - متفضلاً ممتنًّا -: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 143]، فسمى الصلاةَ إيمانًا مع أن الصلاة عمل، إلا أنه وللأسف خيض فيها في الأزمان المتأخرة، ووقف لها علماؤنا - كالشيخ ابن باز، والشيوخ أعضاء اللجنة الدائمة - موقفًا ثابتًا، فما تزحزَحوا، وأبانوا فيها غلط الغالطين، وأصدروا فيهم البيانات؛ لعلهم أن يرجعوا، فمن رجع منهم فقد أصاب، ومن كابر فإنما فضح نفسه، ودل على مخالفته مذهب أهل السنة في هذا الأصل. ولكنه لما أُخِذ العلم عن غير أهله، وتُلُقِّي عن غير أصحابه أصبح مخاضُ الناس المتعالمين: هل العمل شرطُ كمال، أو شرط صحَّة؟ وهل العمل مِن الإيمان أو ليس من الإيمان؟ فلو أن هؤلاء حَفِظوا هذه العقيدة، وتلقَّوها كما تلقاها العلماء عن أشياخهم لَما طرَأ هذا الطارئُ على قلوبهم، لكن هؤلاء علومهم من الكتب ومن الصحف لا مِن ثَنيِ الرُّكَب عندَ أهل العلم، ومن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه؛ يَفهم الشيء على غير معناه، ويظنه حقًّا وهو على غير معناه! [1] رواه البخاري (5787)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [2] رواه أحمد (2/ 164، 190)، وأبو داود (3580)، والترمذي (1337)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [3] رواه البخاري (6016)، من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (2475)، ومسلم (57). [5] رواه مسلم (102)، من حديث أبي هريرة. [6] رواه البخاري (7070، 7071)، ومسلم (98، 100)، من حديث عبدالله بن عمر، وأبي موسى. [7] تقدم تخريجه.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (32) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل .. وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ. وَيَقُولُونَ: إِنَّ هَذِهِ الآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مَسَاوِئِهِمْ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ، وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحُ مِنْهُ مَا هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ؛ إِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ: هذا موقف أهل السنة مما جرى بين الصحابة؛ وهو الإمساك والكف، وعدم الخوض فيه باللسان، والقيل والقال، والتحليلات والشائعات، وتصويب فلان على علان، ومثالبهم التي تُرْوَى في كتب التاريخ، وشُحِنَت بها كتب الأدب؛ يتبرؤون منها، ويُنَزِّهون الصحابة منها، قال القحطاني في نونيته[1]: دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَغَى ![]() بِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى الْخَصْمَانِ ![]() فَقَتِيلُهُمْ مِنْهُمْ وَقَاتِلُهُمْ لَهُمْ ![]() وَكِلاهُمَا فِي الْحَشْرِ مَرْحُومَانِ ![]() وَاللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ يَنْزِعُ كُلَّ مَا ![]() تَحْوِي صُدُورُهُمُ مِنَ الأَضْغَانِ ![]() وهذه الأخبار والمرويات عند السبر هي على أنواع؛ فهي إما أنها كذب وهو أكثرها؛ ولهذا فإن أكثر روايات الفتنة التي جرت بين الصحابة من رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الرافضي الشيعي الغالي، وهو غير مُعْتَبر، أو أنهم منها بُرآء، أو أنهم مما يُذكر في الحوادث التي هي مثالب معذورون، ولهذا يَذمُّ أهلُ السنة من يخوض في أمر الفتنة بالتفصيل؛ اعتمادًا على كتب التأريخ غيرِ المحرَّرة ولا المحقَّقة، ولا الْمُفَتَّش في أسانيدها، وما قد يصح من ذلك فإنهم رضي الله عنهم معذورون؛ بين مجتهد مأجور، وبين مجتهد مخطئ، فمن اجتهد وأصاب فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة. ومَن اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد، وهو أجر الاجتهاد؛ ولهذا فإن أهل العلم ما زالوا يعيبون على مَن يخوض في تفاصيل ما جرى بين الصحابة مدحًا أو ذمًّا، نفيًا أو سلبًا، تجريحًا أو تعديلاً، ويعيون بمذمته ونقيصتِه[2]، ومنهج التحقيق في الروايات وتصويبها هي طريقة علماء أهل السنة المحققين، الذين وقفوا على هذا العلم، فنقدوه نقدَ الرواية؛ بقَبول صحيحها ورد سقيمها. وَهُمْ - مَعَ ذَلِكَ - لا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ: لَمَّا ذكَر هذه المكانةَ أتى بهذه الفقرة حتى لا يَتصوَّر متصوِّر، أو يَظنَّ ظانٌّ أن أهل السنة يعتقدون بعصمة الصحابة؛ سواء من الكبائر، أو الصغائر، وبهذا يَردُّ ما قد يأتي من إيراد؛ فإن الروافض لَمَّا أحبُّوا آل البيت غلَوْا فيهم، واعتقدوا في أئمتهم أنهم معصومون مِن الخطأ، ومِن الكبيرة، بل جعلوا لآل البيت مقامًا ومنزلة لم يبلغها نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وأهل السنة ليسوا كذلك؛ فهُم يَعرفون لهؤلاء الفضلَ، لكن لا يُقدِّسون الأشخاص، وينزهونهم عن الذنوب والكبائر، فهم بشَر يُخطئون ويصيبون ما يُصيب البشَر، وهذا مقتضى الحديث مِن قوله: ((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))[3]، وفي رواية: ((كُلُّكُمْ خَطَّاءٌ)). ويقول النبي لأصحابه: ((لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لأَتَى اللهُ بِأَقْوَامٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ))[4]. وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إِنْ صَدَرَ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ لأَنَّ لَهُمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْس لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ: السوابق هي الفضائل والمكارم والمناقب التي سبقت لهم ولم تكن لغيرهم، وقد عُنِيَ أهل السنة ببيانها، بل صنَّفوا فيها المصنفاتِ المفرَدةَ والمجموعة؛ المفردة كفضائل الصحابة للإمام أحمد، وفضائل الصحابة للنَّسائي وغيرها، والمجموعة كما في الصحيحين مِن كتاب المناقب، وكتاب الفضائل يُعنون فيها بفضائل الصحابة ومَناقبهم وسَوابقِهم، وإن وقع منهم ذنوبٌ ومَعاصٍ لكنها تَضيع في بحر سوابقهم وفضائلهم وحسناتهم. ومِن ذلك أنهم صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا معه، ونزلَت عليهم الأحكام، وتلَقَّوها منه إلينا، وحملوها منه إلينا، وحسبُنا بهذا فضائل، كيف وقد جاء فيهم فضائلُ متنوعة؟! ومنها قوله: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي)). فجعلهم خير الناس، ومنها ما جاء في الفضائل في مجموعهم في سابقتِهم: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 100]، ومنها ما جاء في بعضهم في أهل بدر في أهل الشجرة: ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾ [الفتح: 18]، وفي الصحيح يقول النبي: ((لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)). ومنها ما جاء في الفضل الخاص لبعضهم على بعض. وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ أَحَدُهُمْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ إَذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتٍ تَمْحُوهُ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَةٍ: موقفنا من ذنوبهم إما أنه قد تاب منه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإما أنه ضاع في بحر حسناته، ومن أعظم حسناته صُحبته وسابقته، وجهده وجهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم، أو يُغفر له بسبب سابقته التي حصلَت له. أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ: وهذه الرابعة؛ فإنه إن لم يُغفر له بالأسباب الثلاثة الماضية تبقى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأولى من تطوله شفاعته أصحابه رضي الله عنهم. أَوْ ابْتُلِيَ بِبَلاءٍ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ: حصل له بلاء في الدنيا؛ إما بفقر، أو بغيبة، أو بمقتَلَة، فتكون هذه البلايا من مكفرات الذنوب، ولهذا لما قيل لعائشة رضي الله عنها: إِنَّ قَوْمًا يَنَالُونَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، وَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ: "مَهْ، وَمَا تَكْرَهُونَ مِنْ ذَلِكَ؟! قَوْمٌ انْقَطَعَ عَنْهُمُ الْعَمَلُ، فَمَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْطَعَ عَنْهُمُ الثَّوَابَ والأَجْرَ بِمَا يَنَالُهُمْ مِنَ الأَجْرِ النَّاشِئِ مِنْ كَلامِ مَنْ بَعْدَهُمْ فِيهِمْ بِالسُّوءِ وَالْمَذَمَّةِ))[5]. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ: إذا كان في الأمور المحققة التي تحققنا أنها ذنب، أنها تُغفر؛ إما برحمة الله، أو بشفاعة الشافعين، أو أنها تضيع في بحر الحسنات، أو في مقابل ما يُصاب به الإنسان في الدنيا من أنواع الفتن، والمحن، والملمات، فكيف بما هم فيه مجتهدون؟! قد يكون مذنبًا، وقد يكون مخطئًا، وقد لا يكون مخطئًا. إِنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ: هذا مبناه على الحديث الْمُخَرَّج في الصحيحين، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابِ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرُ الاجْتِهَادِ، وَأَجْرُ الإِصَابَةِ. وَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ))[6] ، وهو أجر الاجتهاد، ويذهب عنه أجر الإصابة. ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ، مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ؛ مِنَ الإِيمَانِ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالنُّصْرَةِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: هذه قاعدة: القدر الذي يُذكر في مَثالبهم، أو في النقد عليهم قدرٌ يَسير إذا صحَّ إلى بعضهم؛ من خطأ في قول، أو في فعل، أو في تصرفٍ فإنَّه يَضيع في بَحر حسناتهم وسابقتِهم وفضائلهم، لكن الشأن من ذلك الأعور، الذي لا يَنظر إلا إلى هذا النزر اليسير، وتَعْمى عينُه عن هذه الفضائل الكثيرة، كما هو شأن الروافض والنواصب جميعًا؛ فإن الروافض لم يَنظروا إلى هذه الفضائل في القرآن والسنة والسوابق، وما حصل لهم من كريم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وعشرين سنة، وإنما جحَدوها، وتتبعوا أشياءَ فردية أكثرها هم فيها معذورون، إذا لم يكن جلها وكلها. والخوارج مذهبهم من الصحابة أنهم يترضَّون عن أبي بكر وعمر ومَن مات في عهدهما، ويَسبُّون ويُكفِّرون عثمانَ وعَليًّا ومن رضي بحُكمِهما، ولهذا لو قال قائل: إن الخوارج يسبون الصحابة جميعًا. نقول: هذا خطأ على الخوارج، فلا بد من هذا التفصيل. وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الأَنْبِيَاءِ، لا كَانَ وَلا يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَأَنَّهُمْ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الأُمَّةِ، الَّتِي هِيَ خَيْرُ الأُمَمِ، وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ جَلَّ شَأْنُهُ. هكذا يصل الإنسان إلى هذه النتيجة بالنظر فيما قاله الشيخ رحمه الله بعلم البصيرة وعين العلم، لا بعَين الهوى والبغي أو الشَّنَآن، أو بعين الغِلِّ وقضاء المآرب، فمَن نظر في سِيَرهم المرويَّةِ عنهم بعين البصيرة والعلم عرَف ما لهؤلاء القوم من المكانة، التي ما كان ولا يكون في أتباع الأنبياء مثلهم، وهذه النتيجة لو ضُرِبَت إليها أكباد الإبل لما كان يَسيرًا أن يَصِل إليها المؤمن، وهكذا الآن فيمن ضعف إيمانه، أو حصل عنده خمول، أو قصورٌ أو فتور، ثم رجع إلى سير الصحابة، فنظر إلى الإيمان وآثاره فيهم، ونظر إلى جهادهم وقتالهم، وتضحيتهم وفدائهم، نظر إلى هجرتهم، نظر إلى ما سبقوا فيه من العلم، والفقه، والإمامة في الدين، والله إن ما معه من النقص يَزداد بذلك، وهذه مِن الأسباب التي يزداد بها الإيمانُ بعد قراءة الوحيَيْن؛ قراءة سيرته صلى الله عليه وسلم، ثم سيرة زوجاته وأصحابه، وما كان لهم من الفضائل والسوابق. [1] نونية القحطاني. [2] ولهذا فإن أشرطة الفتنة للدكتور طارق السويدان هو اعتمد على كتب التاريخ كالبداية والنهاية، وتاريخ ابن جرير التي هي روايات مبنية في الجملة على روايات أبي مخنف لوط بن يحيى وأضرابه، وقد أجمعت اللجنة الدائمة بمصادرة هذه الأشرطة، وعدم سماعها، وعدم حِلِّ بيعها وتوزيعها ؛ لأنها تنشر المثالب من غير تحقيق، ولا تمحيص، وفيها إيغار الصدور على أولئك الجلة، الذين هم في مجموعهم أهل عدالة لصحبة النبي صلى الله عليه زسلم. [3] رواه أحمد في المسند (3/ 198)، والترمذي (2499)، وابن ماجه (4251)، والحاكم (4/ 244)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. [4] رواه أحمد، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (1951): حسن لغيره من حديث.. أنس رضي الله عنه. وورد عند مسلم نحوه (2748)، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. [5] رواه ابن الأثير في جامع الأصول (8/ 554)، وعزاه لرزين. [6] رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (36) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل فصل: ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِنًا وَظَاهِرًا: لَمَّا ذَكر لنا طرَفًا مِن أصولهم أعاد الحديثَ مرة ثانية في طريقتهم (مِنْهاجهم)؛ فإن المراد بالطريقة المنهجُ الذي يَسيرون عليه، أصولهم في تَلقِّي العقيدة، والاستدلال عليها، ومنهجهم في الديانة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا. أهل السنة إذا نظرت إليهم في كل زمان، وطالعت تراجمهم، ونظرت إليهم في زمانك وإذا أليق الناس، وأحرص الناس، وأولى الناس بهديه صلى الله عليه وسلم؛ إن كان في عباداتهم، إن كان في أقوالهم، إن كان في أفعالهم، إن كان في عقائدهم؛ ولهذا تدور بينهم وفيهم أحاديث صلى الله عليه وسلم فلا تجدهم يرفعون رؤوسًا، ولا يعظمون ولا يُجلُّون بعد كلام الله إلا كلام رسوله. وقول الشيخ: "باطنًا وظاهرًا"؛ باطنًا في الأمور الباطنة؛ كمسائل الإيمان والاعتقاد، وفي العبادات عبادات الخلوات، تجده يتحرى السنة، يتحرى هديه صلى الله عليه وسلم فيستقيم عليه ويقدمه، وربما أفنى وقته يتحرى، ويبحث عن هذا الهدي، يفتش عنه في الكتب، ويسأل عنه العلماء، يتلمسه في دراسته ليتمثل به؛ كما يُعنَون به ظاهرًا. وللأسف فإنه قد وُجِدَ بعض المنتسبين للسنة في هذه الأزمان وقبلها من يُعنَى بالسنة ظاهرًا لا باطنًا أمام الناس، لا في خلواته، وهذا ضربٌ من أضرُب النفاق، وضربٌ من أضرُب الرياء، وهو بِضاعةُ إبليسَ التي درجَ بها على هؤلاء، شعروا أو لم يشعروا، ولهذا ربما يأتيه من هذا الجانب؛ إذ يرى فيه حُبًّا للسُّنة، وتعظيمًا لها، وتطبيقًا لها، فيَزيدها في قلبه وهو لا يشعر فيما يكون أمام الناس؛ في عبادته، في صلاته، في ذِكْره في غير ذلك، أما في خلواته فإنه لا يُعنى بها، وهذا مدخلٌ عظيم من مداخل الشيطان، يفترس فيه أولياءه وهم لا يشعرون، فليُفطَن لهذا. ومن هذا الأصل، ومن هذا المظهر - ظهَر ما نراه من عناية الكثيرين بالسنَّة المستحبة، في مقابل تَضييعِهم الفرضَ الواجب؛ في رمضان نجد من الناس من يُعنى بالتراويح، بتتبع الأصوات والمساجد، وإذا نظرت إليه في الفريضة إذا هو مفرط فيها، ومن النساء مَن تخرج إلى صلاة التراويح في المسجد متعطِّرة متزينة، تُحَصِّلُ سنة في سبيل ارتكاب المحرَّم! وهذا من مداخل الشيطان. وأحسنُ ما رأينا في بيان هذه المداخل، ونجاة الناس منها كتاب ابن القيم "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان"؛ فإنه نوَّع في أنواع المصائب التي يصيب بها الشيطان، ويلقي شباكه على الناس وهم لا يشعرون. وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ومن طريقة أهل السنة والجماعة اتباعُ آثارِ الصحابة، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ممَّن لهم السابقة؛ سابقة الإيمان والهجرة والجهاد، وصُحبةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرَّ معنا بيانُ مَراتب الصحابة في الفضل، ورتَّبناها إلى مراتب، فأهل السنة يعظمون آثار الصحابة، بل يتلمسون معانيَ القرآن، ومعانيَ الأحاديث بآثار الصحابة؛ لأنهم هم الذين شهدوا التنزيل، وعليهم نزلَت الأحكام، وهم رضي الله عنهم أول من خُوطِب في الكتاب والسنة في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 104]؛ ولهذا يُعنى أهل السنة بآثارهم، لكن لا يدعون لآثارهم المكانة التي يجعلونها لمكان النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإن مَجالسهم وعلومهم، وتصانيفهم وتدريسهم محشوَّةٌ بآثار الصحابة مع آيات القرآن وأحاديث النبي، ويفعلون ذلك لأن هؤلاء هم أهل النجاة، وهم الذين أُمِرنا باقتفاء طريقتهم؛ كما في حديث العِرْباض بن سارية رضي الله عنه، الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنَّة، قال: وَعَظَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجَلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا. قَالَ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا))[1]، وقد وقع ما أخبَر به صلى الله عليه وسلم، والاختلاف يزداد وينتشر، ويتفرَّع ويكثر، كلما بعد الناس زمانًا وحالاً عن زمن النبوة، فالافتراق في زماننا أكثر منه في الزمان الماضي، والزمن القادم أكثر منه في الزمن الحالي، فقال: حَيْثُ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)): ذكر الْمُستْعَصْمَ من هذا الاختلاف والافتراق، والنجاة من هذا التشرذم، فقال: ((عليكم بسنتي))؛ أي: ديني وطريقتي التي علمتكم إياها. ((وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي)): الخلفاء هم الذين يخلفون النبي، ويَخلُف بعضُهم بعضًا، والراشد الذي عمَلُه صائب موفَّق؛ لأنه قائم على ما جاء عن الله، وعن رسوله، والمهديُّ الذي يعمل بهدى من الله، وهذا نوع من أنواع الكرامة في العلوم، وفي التأثير، وفي القدرة. وقد اتفق العلماء على أن الخلفاء الأربعة أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم هم أعظم الخلفاء الراشدين، وألحقوا بهم عمرَ بن عبدالعزيز، وجاء النصُّ في أبي بكر وعمر بالذات في قوله صلى الله عليه وسلم: ((اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ))[2]، وقوله: ((بعدي)) يُخرِج الخلفاء الراشدين قبلَه في الملوك السابقين قبله. ((تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ)): أي: تمسكوا بهذه السنة والطريقة. والنواجذ هي الأنياب، أو الأضراس، وهذه مبالغة وكنايةٌ عن شدة التمسك، وعدم المجاملة في أمر الاستمساك بالسنة، بل تكون عندك مستمسكًا كأنك عاضٌّ عليها بنواجذك. ثم ذكَر ضدَّ السنن، فقال: ((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ)): كل أمر محدَث مبتدَع مخترَع في الدين فاحذَرْه واتَّقِه وتجنَّبْه، بل وفي أمر الدنيا مما يتوقف عليه أمر الدين؛ كأمر الاجتماع، والولاية، والإمارة، فالأمر المحدث اجتنبه؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ((فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ)): (كل) مِن ألفاظ العموم، وهذا الصادق المصدوق يقول: ((كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ))؛ فلا يمكن أن يتأتى ما يقوله بعض الناس، وخصوصًا المبتدعة أن هناك بدعًا حسنة، وبدعًا قبيحة، بل هذا اعتراض على تعميمه صلى الله عليه وسلم، ثم منهم من يقول: إن البدع تنقسم بحسَب أقسام الحكم التكليفي أنها قد تكون: واجبة، ومكروهة، ومحرَّمة، وسنة، ومباحة. وممن قال ذلك العزُّ بن عبدالسلام، وتبعه عليه بعض الحفاظ، وهذا غلط؛ لأنه تقسيم للبدعة على غير تعميم النبي صلى الله عليه وسلم، ودل على أن أعظم ما ينافي ويناكف طريقة الرسول هي البدع؛ ولهذا فإن أهل السنة أشد الناس تحذيرًا من البدع. وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ: أي: ويعلم أهلُ السنة أن كلام الله أصدقُ من كل أحد. وحتى من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلام النبي نوعان: كلام خاص به من نفسه، وكلام هو وحي يوحيه الله إليه. والكلام الذي يوحيه الله إليه هذا مِن كلام الله، أما كلامه الذي من نفسه كما كان في أمرِ تأبير النخل، وأمثال ذلك، فكلامُ الله أصدقُ منه، ولا يَضير ذلك رسولَ الله؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [آل عمران: 95]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ويقول: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122]. وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَيُؤْثِرُونَ كَلامَ اللهِ عَلَى كَلامِ غَيْرِهِ مِنْ كَلامِ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ؛ وَلِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: خير الهدي هو خير الطرق والمنهاج والمناهج، فخير طريقة ومنهاج هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رُوِي فيها بضبطين: ((وَأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ))[3] ((وَأَنَّ خَيْرَ الْهُدَى))[4] هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وكلاهما بمعنى متفق، فالْـهَدي والْـهُدى هو الطريقة؛ أي: السنة. ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يؤثِرون أن يقدموا ويعظموا كلام الله على كلام غيره من أصناف الناس؛ بَرِّهم وفاجرِهم، صالحهم وطالحهم، رَسولهم والمرسَل إليهم، ويقدمون هديه صلى الله عليه وسلم على كل هدي، وطريقتَه وحكمه على كل حكم؛ ولهذا يعتقدون في نواقض الإيمان أن مَن اعتد أن طريقة غير الرسول أحسنُ من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه فقد كفر. ولهذا فالدساتير التي يُحكَم بها هي تنظم أمور الناس في المعاش، بمعنى أنها طريقة ومنهاج لهم، أما نحن فاكتفينا بهذا وكُفِينا بطريقة النبي وحكمه وهديه، فلا أحسنَ ولا أكمل من هديه وحكمه، وبهذا سُمُّوا أهل الكتاب؛ لتعظيمهم واتباعهم الكتابَ، وسموا أهلَ السنة؛ لتعظيمهم واتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فتسميتهم بأهل الكتاب والسنة لأنهم الذين عظموا سنَّته وهديه؛ ولهذا في حديث الافتراق لما ذكر: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً))، قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قاَلَ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))[5]؛ أي: إن طريقته تطابق طريقة سنته صلى الله عليه وسلم. وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ؛ لأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِي الاجْتِمَاعُ: وسموا الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الافتراق، فاجتمعوا على الحق ولم يَفترقوا، وليس القصدُ بالجماعة كثرةَ العدد كما يظنُّه الناس، فالجماعة والحق الذي معها لا يُناط بالكثرة أبدًا، والدليل أن الله تعالى قال: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]؛ فأكثرُ الناس غير مؤمنين، وليست الجماعة مَنوطةً بالكثرة، وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 116]، بل ذكر الله تعالى عبدًا من عباده، وهو إبراهيم الخليل عليه السلام بأنه أمَّة في آخر سورة النحل: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120]؛ قالوا: ولم يكن مؤمنًا موحِّدًا في زمنه إلا هو، لكن لَمَّا كان إيمانُه بهذا الثَّبات وهذه العَظَمة جعلَه الله كإيمان الأمة، فالحق لا يُعرف بكثرة أتباعه، ولا بكثرة المنتسِبين إليه، ولا بكثرة العدد، وإنما الحق بقوة ما هو عليه، والجماعة المجتمعون على الحق الموروث عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا قِلَّة. وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ: ضد الاجتماع: الافتراق، فالافتراق كله مذموم، والاجتماع ممدوح، والاختلاف منه ما هو مذموم ومنه ما هو ممدوح: فالاختلاف المذموم كل خلاف أوصل إلى فرقة، أو إلى تعصب، أو إلى مذمة الغير، أو اختلاف في مقابل الأدلة والحجج الصحيحة - فهذا مذموم؛ يُذم عليه فاعله، وعلى هذا تُنَزَّل النصوص والأدلة التي فيها مذمَّة الاختلاف. ويأتينا اختلاف ممدوح وهو الاختلاف بتلمس الحق من الدليل، ويدخل فيها اختلاف التنوع؛ كاختلاف العلماء وغيرهم في تفسير الآيات على ما تقتضيه اللغة، وتحتمله معانيها، فهذا اختلاف ممدوح، وهو المسمى باختلاف التنوع، وأما الأول باختلاف التضاد. لَمَّا ذكَر الاجتماعَ وأنه ضد الافتراق، وأن أهل السنة سُمُّوا الجماعةَ أو أهلَ الجماعة؛ لاجتماعهم على الحقِّ وإن قل عددهم، ونأَت ديارهم، فقال: وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ: أي: إنه صار يُطلق في نفسه على القوم المجتمعين، فيُقال للجماعة: جماعة المسجد، وجماعة الأقارب، وجماعة المجتمعين في مكانٍ ما، ثم نُوِّع في الجماعات.. كجماعة الإخوان المسلمين، وجماعة حِزب التحرير، وجماعة كذا وكذا، فيُصبح لفظ الجماعة مُضافًا إلى وصفٍ يُقيِّدها، وليس هذا هو المرادَ بالجماعة، وإنما المرادُ بالجماعة جماعةُ المسلمين المجتمعون على الحق، الذي هو السُّنة. وفي الغالب الأعمِّ المطَّرِد لا بد لهؤلاء الجماعةِ مِن إمام لهم، في أعناقهم له بيعة، يَسمعون له بها ويُطيعون، لكن قد يَأتي زمانٌ في آخِر الزمان، أو في بعض الأطراف البعيدة تكون جماعةٌ مجتمعون على الحق وليس لهم إمام، بل مستضعفون تحت حُكم غيرهم، وهذا يقع، ووقوع هذه الحالة لا يُخرج هؤلاء من وصف الجماعة الحقَّة؛ لاجتماعهم على الحق، لكن عنوان هذه الجماعة وأساسها، وعلامتها الصحيحة أن يكون لهم إمامٌ قد أعطَوه صفحَة أعناقهم بالسَّمع له والطاعة. ولَمَّا ذكر هذا وذكر الأصلين وهما الكتاب والسنة قال: وَالإِجْمَاعُ: هُوَ الأَصْلُ الثَّالِثُ: الإجماع هو الأصل الثالث لمصادر تلقي العقيدة، والاستدلال عليها. الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ: الدين يَعتمد على الكتاب العزيز، وعلى السُّنة الصحيحة، وعلى الإجماع، وكذلك العلم، و(أل) في (العلم) أي: العلم المعهود في فَضلِه، والحرص عليه، وهو علم الشريعة. يقوم على هذه الثلاثة، وهي مصادر تلقي العقيدة. وفي التشريع يُضاف على الكتاب والسنة والإجماعِ: القياسُ، ويدخل في القياسِ مسائلُ الاجتهاد. وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ: الضمير (هم) يعود على أهل السنة، وأنهم يَزِنون الناسَ بمعنى يَحكُمون عليهم، ويُخطِّئون المخطِئ ويُصَوِّبُون المصيبَ، ويُعَدِّلُون ويجرحون؛ بناء على هذه الأصول الثلاثة. فهذه المعاييرُ الثلاثة - الكتاب، والسنة، والإجماع - هي معايير تقويم العباد في أسمائهم، وأحكامهم، أما أهل البدعة وأهل الأهواء فإن ميزانهم الذي يزِنون به الناس هو الهوى، ويزِنون الناس بأصولهم التي تلقَّوها عن أشياخهم، وعن أحزابهم، وعن جماعاتهم، وللأسف فإن هذه المعايير تغيب عند الناس فيُظهرها قولاً، ثم يُخالفها بفِعله وتطبيقِه، وربما يدَّعيها ثم يخالفها بتطبيقه وعمله، وربما ينتسب إليها في أول الأمر، ثم يسترسل مع هواه ورغبته وشيطانِه، وأهواءِ جَماعته وجُلَسائه، إلى أن يكون وَلاؤه وبَراؤه وزِنَة الناس به على أصول جماعته التي تلقَّاها عن شيخه، وعن رُبعه، وعن حِزبه، وهذه من الدواخل العظيمة، وهي من أعظم الصَّوارف عن السنَّة، وإن زعَم أهلُها أنهم يتبعونها، فالعبرة ليست بمجرد الدعوى، وإنما العبرة والاعتبار في حقيقة الانتماء، وحقيقة إظهار اتباع طريقة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه. جَمِيعَ مَا عَلَيهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ بَاطِنَةٍ وَظَاهِرَةٍ: فأقوالهم يَعرضونها على هذه الأصول؛ فإن كانت عبادةً قولية؛ هل جاء بها الشرع؟ هل جاءت بها السُّنة؟ هل عليها الإجماع؟ فإن كان كذلك فالحمدُ لله، وإلا ردُّوها، وإن كان فعلاً كذلك، وإن كانت اعتقادًا (الأعمال الباطنة) كذلك، فالميزان هذه الأصولُ الثلاثة من أقوالٍ وأعمال ظاهرة وباطنة. مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ: أي: مِن أمور الدين، ويَدخل "مما له تعلُّق بالدين" في السياسات الشرعيَّة، أما أمور الدنيا المحضَةُ؛ كالصِّناعات، والزراعات، والاختراعات، والمصالح الدنيوية المحضة، التي لا تعلق لها بالدين فإنَّهم لا يَربِطونها بالكتاب والسنَّة والإجماع؛ لأن الكتاب والسنَّة والإجماع فيما له علاقة بأمر الدين، أو ما له تعلُّق بالدين، وإنشاء المصانع إذا أراد شخصٌ أن يَأخذ رخصةَ مصنع فإننا لا نقول له: أعطِنا الدليل من الكتاب والسنة والإجماع؛ لأن هذا ظلم، فهذه من أمور الدنيا المحضة، وكذا إشارة المرور لا تعلُّقَ لها بالدين، إلا فيما يتعلَّق بالسمع والطاعة ومَصالح الناس، أما هي فأمور دنيوية محضة، وهكذا. وَالإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ: الإجماع هو الأصل الذي يُعتمد عليه في العلم والدين، والإجماع كثيرٌ مَن يدَّعيه، والإجماع المنضبط الذي يُمكن أن يُفتى به إجماعًا ما كان عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين، وتابعي التابِعين؛ أي: إلى القرن الثالث. هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ: هؤلاء يُجمِعون، ويُضبَط إجماعهم؛ لأنهم مَحصورون في الزمان والمكان؛ فزمانهم القرونُ الثلاثة، وأماكنهم في أمصار المسلمين؛ مكة، والمدينة، وبلاد الشام، والعراق، ومصر، وما انتشر بعدُ في الآفاق. إِذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الاخْتِلافُ وَانْتَشَرَتِ الأُمَّةُ: بعد هؤلاء القرون المفضلة كثر اختلاف الناس، وكلما ابتعَدوا زمانًا عن زمان النبوة وزمان الصحابة كَثرَت الاختلافات، وانتشرَت الأمة حتى بلَغوا أقاصيَ الدنيا وأدانيَها، هذا هو الإجماع المنضبط؛ ولهذا فالإجماع ينضبط في أصول الدين، وأصول الإيمان، وأركان الملة، أما إذا حكى إنسانٌ إجماعَ المتأخرين في المجامع الفقهية مثلاً على مسألة فلا ينضبط ذلك؛ فقد يأتي مَن يُخالفه، أو يُبحث في التصانيف عمَّن يخالف، ولهذا قال الإمام أحمد: "مَن يدَّعي الإجماع فهو كاذب"؛ أي: في غير مسألةٍ اسْتُقِرَّ على الإجماع فيها، وضُبِط في القرون المفضلة. وكان مِن أحفظ الناس، وأكثرِهم عنايةً بالإجماع في القرن الثالث محمدُ بن نصرٍ المَرْوزيُّ، الملقَّب بالشافعي الثاني، توفي عام 294ﻫ، له كتاب اسمه (اختلاف الفقهاء)، وهو مِن أضبَطِ الناس في حكاية الإجماع، وبعده يأتي شيخُ الإسلام ابن تيميَّة، وابن المنذر، وابن عبدالبر، حكاياتهم للإجماع تحت النظر والدراسة، فأحيانًا يَذكرون الإجماع ويُريدون به إجماعَ المذاهب الأربعة، أو قولَ جماهير الفقهاء. والوزير ابن هُبيرة مِمَّن له عناية بالإجماع في كتابه (الإفصاح)؛ فإنه إذا ذكَر وقال: "اتفقوا"؛ أي: الأئمَّة الأربعة، وإذا قال: أجمعوا فإنَّه يَعني علماءَ المسلمين، فالمرادُ بالإجماع إجماعُ العلماء الذين لهم الاجتهاد في الحكم، وفي الفتيا في هذا الذين؛ فهؤلاء إجماعُهم معتبَر، والرعايا وعامَّةُ الناس لهؤلاء تبع، يتبعون هؤلاء العلماء. [1] رواه الترمذي (2676)، وأبو داود (4603)، وابن ماجه (42)، ورواه أحمد (4/ 126، 127). [2] رواه أحمد (38215)، والترمذي (3662)، وابن حبان (6902)، والحاكم (3/ 75)، من حديث حذيفة رضي الله عنه. [3] رواه مسلم (867)، من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. [4] نفس السابق. [5] تقدم تخريجه.
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (37) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل أهل السنة والجماعة - كما أن لهم عناية بأمر المعتقد وتصحيحه وتنقيته من الشوائب والبدعِ والأخطاء، ولا سيما توحيد العبادة، ويليه توحيد الأسماء والصفات، ويليه توحيد الربوبية، ويُنافحون عنه، ويَردُّون على المنحرفين فيه والمخالِفين له - لا يُغفِلون الشعائر الأخرى مِن شعائر الإسلام، بل يَعتقدون العمل بها، وإظهارَها دينًا؛ لأن عقيدتَهم أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، لا يؤدِّي بهم أمرُ الاعتقاد إلى إهمالِ وتهميشِ أمر العمل، كما ظهر ذلك عن بعض المتأخرين ممن يَنتسب إلى أهل السنة والجماعة، وهذا الظهور ناشئٌ مِن جهلهم بحقيقة اعتقادِ أهل السنة، وجهلهِم بحقيقة مَنهجهم وطريقتهم، فكما أنهم يُعنَون بأمر الاعتقاد، ويولونَه العناية الفائقة، فإنَّهم لا يهملون أمور العبادات وأمور العمل؛ لأنها هي المتمِّمة والمطبِّقة لأمر الاعتقاد، فلا يفصلون بين الاعتقاد والعمل، ولا بين القول والعمل؛ كما هو آثار مذاهب الإرجاء، أو من تأثر بالمرجئة. ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذِهِ الأُصُولِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ: مِن أصول المعتقَد عند أهل السُّنة أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وهذه الشعيرة العظيمة مِن آكَدِ الشعائر؛ ولهذا جعَلها مَن جعَلها مِن العلماء في مكانتها ورتبتها كالرُّكنِ السادس من أركان الدين، ونلاحظ أن الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر تقوم عليه كلُّ أركان الدين؛ كما قال تعالى في آل عمران: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]، فقَدَّم الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر - على الإيمان بالله؛ مِن باب الاهتمام، وهي من باب عطف العامِّ على الخاص، فالخاصُّ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعام هو الإيمان على ما توجبه الشريعة ليس على ما يوجبُه الأهواءُ والعاداتُ والأعراف، ورغباتُ الناس واستحساناتهم وأذواقهم، وإنما على مُقتضى الشريعة؛ ولهذا فالقيام بهذا الأمر يُسمَّى عند العلماء قديمًا بالحِسْبة، وكانت مهمَّة العلماء أنهم يَحتسبون على الناس؛ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مجامعهم في الأسواق، وفي المجامع العامة في المساجد، وهي وظيفة الشُّرَط، ووظيفة جهاز الهيئات الآن؛ ولهذا فإن مِن أخص خصائص هذه البلاد التي وفَّقها الله لها - وبها تَظهر على غيرها مِن الدول، مع تحكيم الشريعة وقيامها بها - أنها تُولي الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر المكانةَ اللائقة، ولهذا فإنَّ هذا الجهاز وهذا المرفق بمثابة وزارة في هذه الدولة المباركة؛ الدولة السعودية، وليس هذا مِن باب الخيرة، وإنما هذا أمرٌ أوجبَتْه الشريعة، وقام بذلك وُلاتها، فصار ذلك مِن خصائصهم التي يُمْدَحون بها على الملأ، ويَمتازون بها عن غيرها من الدول. وَيَرَوْنَ إِقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ: هذه مِن الشعائر العامة: الحج والجهاد، كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن الشعائر العامة الظاهرة، والحج هو الحجُّ إلى بيت الله العتيق، وأنه ركنُ الإسلامِ الخامسُ، والجهاد الذي هو ذِروةُ سَنَام الإسلام، والجهاد مشروعٌ في ديننا؛ سواء جهاد الدفع، أو جهاد الطلَب، لكن بضوابطه وأصوله، وقواعدِه المقرَّرةِ في جميع كتب العلماء؛ سواء الفقهاء أو المحدِّثين، وكلهم يَجعل كتابًا مُستقلاًّ في الجهاد، كما يجعلون كتابًا مستقلاًّ في الحج، والزكاة، والصيام، والصلاة. وَالْجُمَعِ وَالأَعْيَادِ: الجُمَع جمع جمُعَة، وهي صلاة الجمعة في الأسبوع، والأعياد صلاة العيَدين، إذ لا ثالثَ للعيدين عند المسلمين. مَعَ الأُمَرَاءِ؛ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا: أي: الذين يُقيمون الجُمَع والأعياد؛ لأنها شعائرُ عامة تحتاج إلى الإيمان، وكل هذه العبادات - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - تَفتقر إلى إذنه، وكذلك إقامة الجُمَع؛ أي: تعيين المسجد الفلاني بإقامة الجُمَع يَفتقر إلى إذنِ الإمام، لا أن الصلاة والشعيرة يُفتقَر في إقامتها إلى إذنه، وهذا أمرٌ التبَس على كثيرٍ مِن الناس وعلى بعض الطَّلَبة؛ فالعُلماء إذا قالوا: الجُمَع تَفتقر إلى إذنِ الإمام؛ فإنَّهم يَعنون: تعيين المسجد الذي تُقام فيه الجمعة. أما الشعيرة بذاتها فلا تَفتقر إلى إذن الإمام، ومثال ذلك أنه لو عيَّن الإمامُ في بلدٍ ما لهم خطيبًا يُصلِّي بهم؛ فإنهم لا يَتركون الصلاة ويُصلونها ظهرًا، بل يُقيمونها، وإذا لم يُعيِّن فإنَّ هذا مِن تقصيره وتقصيرِ نُوَّابه. وكذلك الأعياد وهي صلاةٌ مَشهودة يُقيمونها مع الأمراء؛ لأن الأمراء هم الذين كانوا يُقيمون هذه الشَّعيرة، يُصلُّون بالناس بها ولو كان عندَهم فُجورٌ أو نقصٌ أو ضعف، يصلونها معهم؛ لأن هذا مِن دَواعي الاجتماع ودَواعي الائتلاف، فيتَحمَّلون ما يكون مِن فُجور هذا الإمام وضعف إيمانه ونقصه مقابل المصلحة العليا في الاجتماع، ويتركون الصلاة معه إذا أتى الكفر البواح، الذي لهم فيه من الله برهان؛ ولهذا صَلَّى ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه خلفَ الوليدِ بن عُقبة، صلَّى بهم الفجرَ أربعَ ركعات[1]؛ لأنه كان سكرانًا، ومع ذلك صلَّوا خلفه، وهذا عُنوان يجب أن يُظهَر ويُعلم ويُعرف، ويُعرَّف به الناسُ - مِن طريقة ومِنهاج أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يحافظون على الجماعات. وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ: وقال الشيخ رحمه الله: "على الجماعات" عطفًا على "الجُمَع"، ولم يقل: على طريقةِ الجماعة؛ وذلك لأنَّ الجماعات متنوِّعة، فمنها: جَماعة الفريضة، وجماعة الجمعة، وجماعة العيد، وجماعة الحج، وجماعةُ الجهاد، وجماعةٌ هي الاجتماع حول الإمام الأعظم، الذي له على الناس ولايةٌ بالسَّمع والطاعة، فقال: جماعات؛ أي: إن أهل السنة أشد ما يكونمحافظة على هذه الجماعات بإقامتها، وهم بالتالي أشد ما يكون تحذيرًا وتنفيرًا وإنذارًا مما يثلب ويُفرِّق أمر الاجتماع، حتى ولو ترتب على ذلك بعضُ المعاصي والذنوب والكبائر، يحتملونها في مقابل المصلحة. نعم لا يتَغاضَون عن هذه المنكرات، ولا يَسكُتون عن إنكارها، ولا يُهملونها، وإنما لا يترتب على هذه المعاصي خروجٌ على هؤلاء الوُلاةِ لأجل هذه المعصية الدُّنيا، التي يترتب عليها مفسدة عُظمى، وهذه مِن أصولها العامة التي بها صلاحُ دُنياه، وصلاح دينهم ودنياهم. وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلأُمَّةِ: أي: إن مِن دينهم الذي يتقرَّبون به لربهم ويتعبدون به إلى الله: النصيحة؛ أي: نُصْحَ مَن ولَّاهم الله أمرَهم، وليست النصيحةُ لفئةٍ دون فئة، بل للأمة جميعًا، وهذا كما جاء في حديث أبي رقيَّة تَميمِ بن أوسٍ الداري رضي الله عنه - عند مسلم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدّينُ النَّصِيحَةُ))، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((للهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))[2]. النصيحة لله بالقيام بدينه، وعدم التعبُّد بغير ما تعبَّدَنا به، والنصيحة لكتابه القرآن بتَعلُّمه وحفظه، والعمل به، وتعليمِه ونَشرِه بين الناس، والنصيحة للرسول باتباعه، وألا يُقدَّم هَديُ غيرِه على هَديِه، والنصيحة لإمام المسلمين بالسمع والطاعة له بالمعروف، والنصيحة لعامَّتِهم بحَملِه على هذه الأصول الثلاثة - الكتاب والسنة والإجماع - وما دلَّت عليه. في حديث جَريرِ بن عبدالله رضي الله عنه وهو في الصحيحين قالت: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ[3]. وكلُّ مسلم - مَهما عَلا في رتبته أو نقَص - له على إخوانه حق النصيحة. وهناك فرقٌ بين النصيحة وبين التَّعيِير، واقرؤوا بسنَدِ الحافظ ابن رجب الفرقَ بين النصيحة والتعيير؛ فإنَّ مِن الناس مَن يُعيِّر غيره ويسمِّيها نصيحة، وهذه ليست نصيحة، وتُعْرَفُ تعييرًا عند أولي الأفهام وأولي الغير، الذين يَعرِفون النصيحة ومُؤدَّاها، والتعييرَ والتشهيرَ وبَواعِثَه وآثارَه. وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))،وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ[4]: أي: إن هذا اللفظ كما أنه لفظٌ يتعبَّدون لله به فإنَّهم أيضًا يعتقدون معناه، وهو معنى الأخوة الإسلامية، وأن حال المسلمين يجب أن يكون بعضهم مع بعض كالبنيان الذي يشتد بعضه ببعض، وإن نأَت ديارُ المسلمين بعضهم مع بعضهم، وإن تباينَت ألوانهم، وتفرَّقَت لُغاتهم، لكن يجب أن يَكون في قلوبهم من المودة والرحمة والموالاة تُجاه بعضهم البعض ما مَثَّله النبيُّ بهذا مثلاً عظيمًا، فقال في حديثه الآخر: وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ))[5]: توادهم: محبتهم، وتراحمهم: رحمة بعضهم بعضًا، وتعاطفهم: بعطف بعضهم على بعض؛ كمَثَل الجسد الواحد، فلننظُرْ إلى روعة هذا المثال النبوي: ((إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ))؛ إذا انجرح إصبعك الصغير في رجلك فإنك تجد ألَمَه في رأسك! وهكذا يجب أن يكون حالُ المسلم مع إخوانه - وإن نأت ديارهم، وابتعدوا عن عَينه، ولم يَسمع بهم، أو صاروا بَعيدِين عنه - يجب أن يكون قلقُه لقلَقِهم، وحزنُه لحزنهم، وفرحُه لفرحهم؛ كهذا المثل الذي ضرَبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى وإن كان يَخبو ويَضعُف فإن خُبوَّه وضعفه مرتبطٌ بضَعف الإيمان، فإذا ضَعف الإيمانُ ضَعفت هذه الآثارُ؛ النصيحة، ورحمة المؤمنين، وموالاتهم، وظهر ضدها بآثار ضعف التوحيد، وضعفِ الإيمان. وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ: ومِن طريقة أهل السُّنة أنهم يَأمرون بالصبر عند البلاء؛ لأن البلاءَ لا بد منه وهو الابتلاء، وقد يكون البلاءُ في الدنيا، وقد يكون في المال، وقد يكون في الدِّين، وأشدُّه وأعظمُه البلاءُ في الدين؛ فالبلاء في الدين هو أشد أنواع البلاء، والبلاء مَنوطٌ بقوة الإيمان؛ يَزيدُ كلَّما زاد الإيمان، قال تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]، وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: لَمَّا سأله سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه: أيُّ الناس أشَدُّ بلاءً؟ قال: ((الأنبياءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثمَّ] الأَمْثَلُ فَالأَمثْلُ، مِنَ النَّاسِ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ زِيدَ فِي بَلائِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ خُفِّفَ عَنْهُ، وَمَا يَزَالُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ]))[6]. والبلاء متنوِّع بتنوُّع الفتنة؛ فتكون أحيانًا بالسراء، وأحيانًا بالضرَّاء: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35]؛ أي: إنه يُنوَّع البلاء؛ ليكون شأنُ المؤمن مع ذلك الصبرَ، والصبرُ هو شِعار أهل السُّنة الذي يَستقبِلون به مُرَّ الحياة وأسبابَ البلاء فيها، يقول الإمام أحمد: "ذَكَر الله الصبر في القرآن في نيِّفٍ وتسعين آيةً؛ من باب التنويه، والتأكيد على شأنِه وعِظَمِه"، وكل أمرٍ وكل بلاءٍ ما عُولجِ بعلاجٍ أنفعَ ولا أنجعَ من الصبر. وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ: ويأمرون الناس بالشكر، وهو الاعتراف بالمنعم باللسان وبالقلب والجوارح، والشكر عند الرخاء، وذلك عندما يصيبهم الرَّغد وتَتوالى عليهم النِّعم يأمرون الناس بشكر الله وحَمدِه؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]، ((إِنَّ اللهُ يُحِبُّ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الأَكْلَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا شَرِبَ الشَّرْبَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا))[7]، ومما أَذكُر أنَّ شيخَنا ابنَ باز عزمَنا على العشاء، فلاحظتُ أنه كلما أكل أكلةً أو أكلتَينِ حَمِد الله، وإذا شرب من الماء شربة، ثم وقف للنَّفَس حمد الله، فسألتُه وقلتُ له: يا سماحة الشيخِ، ما الدليل على هذا؟ فقال: الحديث: ((إِنَّ اللهُ يُحِبُّ إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الأَكْلَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، وَإِذَا شَرِبَ الشَّرْبَةَ أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَيْهَا))؛ ولهذا فالمؤمن شأنُه أعظم شأنًا مِن غيره مِن المكلَّفين؛ فهو حامدٌ شاكرٌ لله في الضرَّاء وفي السراء؛ ولهذا كلما كان حمده وشكره أعظمَ بقلبه قبل جوارحه كان شأنه في الإيمان وعند الله تعالى أعلى. وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ: مُرُّ القضاء بالنسبة لما يقع على الناس، أما بالنسبة لفعل الله فكلُّ أفعال الله كاملةٌ وجميلةٌ وجليلة، وذاتُ حِكَم عظيمة، لكن هذا القضاء المرَّ بالنسبة لك - يا أيها الإنسان - بموت صديق، أو حبيب بابتلائه بالمرض، بالنقص، بالهم، بالغم، بأنواع البلايا... هذا مُر، وقد جاءت الشريعة بتسمية هذه كما في حديث أصول الإيمان عند مسلم؛ قال: ((وَأَنْ تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حُلْوِهِ وَمُرِّهِ مِنَ اللهِ عز وجل))[8]، فالحلو والمرُّ باعتبار مَن يقع عليهم القضاء، لا باعتبار مجرَّدِ ومَحضِ أفعال الله وأقداره. وَيَدْعُونَ إِلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَمَحَاسِنِ الأَعْمَالِ: ومِن منهجهم، ومن أصولهم التي تُضاف إلى تلك الأصول: أنَّهم يَدْعون الناسَ إلى مَكارم الأخلاق ومَحاسن الأعمال، فلَيسوا جُفاة، ولا قُساة، ولا مُتعالين، ولا مُتغطرِسين، وإنما أهل السنة مِن آثار استمساكهم بالكتاب والسنة أنَّهم أولى بالناس بمَكارم الأخلاق ومَحاسن الأعمال، يَدْعون إليها بأنفُسِهم تطبيقًا وقدوة، وإلى غيرهم بألسنتهم وبأفعالهم. وهذا الجانب قد يَخبو ويخفت عند من يَنشغِل بالرد على المخالفين، فيغفل عن هذه المعاني، وربما يستطيل على هذه المخالف، أما علماء أهل السُّنة الذين تمثَّلوا هذا المنهجَ فتجدهم أرحَمَ الناس على مُخالِفيهم وإن كانوا مِن أشَدِّ الناس بِدَعًا وضلالاً، فموسى وهارون عليهِما السَّلام رَسولا ربِّ العالمين أرسَلَهما الله إلى أطغى بَني آدم؛ إلى فرعون، فقال تعالى: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]؛ وذلك لأنَّ المقصود الهداية، وليس المقصودُ مجرَّدَ بَراءةِ الذمَّة؛ فأهل السنَّة هم أليَقُ بذلك، فإذا وُجِدَ عند بعض أهل السنة قَسوة أو شدَّة في جانبٍ مع إغفال هذا الجانب فإن هذا دليلٌ على تشدُّدهم في أنفسهم، وعلى ضيق أفقِهم، وضعف فقههم، وقلة علمهم، رد على أهل السنة؛ لأنهم يدعون الناس إلى مكارم الأخلاق؛ إلى الكرم، إلى الشجاعة، إلى الإيثار، إلى المحبة، إلى الصبر، وإلى محاسن الأعمال؛ وذلك لأنهم: وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا))[9]: يَعتقدون معنى مدلولِ ومضمونِ قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا)). وهذا من أدلة أهل السنة على أنَّ العمل يؤثِّر في الإيمان؛ لأن الخلُق عملٌ؛ إما باللسان، وإما بالجوارح، أما الخلُق في القلب فلا أحدَ يعلمه حتى يَظهر أثرُه على اللِّسان بالأقوال، وعلى الجارحة بالأفعال. وإذا حَسنَت أخلاقه عَلا إيمانه، ولو كان العمل لا يؤثر في الإيمان لم يزدَدِ الإيمان بحُسنِ الخلق، فمِن آثار هذا أنَّ أهل السنة والجماعة هم أعدل الناس في أحكامهم تجاه الناس، أهل عدل، أهل إنصاف، وليسوا أهل غَمْط وظُلم، ومن كان عِندَهم غمطٌ لغيرهم وظلمٌ لغيرهم فهو راجع على نفسِه بالنقيصة، لا على مذهب أهل السنة بفعلته. [1] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (6/ 398)، وفي معرفة السنن والآثار (13/ 51)، وليس فيهما ذكرُ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. [2] رواه مسلم (55)، من حديث تيم بن أوس الداري رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (57)، ومسلم (56)، من حديث جرير بن عبدالله رضي الله عنه. [4] رواه البخاري (6026)، ومسلم (2585)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. [6] أخرجه أحمدُ في مسنده (1481)، والنَّسائي في السنن الكبرى (7638)، وابن ماجه في سننه (4023)، والترمذي (2398)، وغيرُهم، من حديث سعد بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه. [7] رواه مسلم (2734)، من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: ((إن الله ليرضى)). [8] تقدم تخريجه. [9] رواه أحمد (2/ 250)، والترمذي (2612)، وأبو داود (4682)، وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (38) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك: يَندبون؛ أي: أهلُ السنة والجماعة، وهذا الندب في استخدام اصطلاح الفقهاء والأصوليين؛ فإن المندوب في هذين الفنَّين هو المستحَب، وهو ما يُثاب فاعله ولا يُعاقَب تاركه؛ أي: إن هذه المندوبات مِمَّا يَزيدُ الإيمان بإتيانها، أما تركها فإنه لا يَنقُص الإيمانَ إلا باعتِبار التَّفاضُل، فمَن أتى بها فهو أكملُ ممن لم يأتِ بها، لا أن مَن لم يأت بها يكون ناقصَ الإيمان بإتيانه ذنبًا، وإنما هو أقل إيمانًا بالنسبة لمن أتى بهذه المندوبات. إِلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ: فهذه الخصال الثلاث مندوبةٌ ليست واجبةً، والقطيعة هاهنا؛ أي: إنها في أولي الأرحام فهي أيضًا في الأصحاب، والزملاء، والعشراء؛ مَن تعاشرهم، والجلساء، وفي صلة الرحم؛ القطيعة واردة؛ لأنها من أخلاق الجاهلية، ومن مداخل الشيطان على الناس؛ قال تعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ﴾ [محمد: 22]، فعَدَّ قطيعة الأرحام نوعًا وضربًا من أضرُبِ الإفساد في الأرض. وقطيعة الرحم على مَراتب؛ أشنعُها قَطيعة الوالدَين بالعقوق بهما، ويليها قطيعة الرحم التي يجب أن تُوصل، وكلما قرُبَت الرحم منك عظم أمرها، على أن الرحم التي يجب أن تُوصل هي ما كان إلى الجد الرابع؛ ومأخذ ذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصى ببني هاشم، وبنو هاشم هم أبناء جَدِّه الرابع، واستئناسًا بما جاء عن عمر أنه أمَر عبدَالله بنَ عمر رضي الله عنهما أن يَنظر في وَفاء دَينه في مالِ آل عُمر؛ فإن لم يَفِ به فآل الخطَّاب، ثم قال: "فِي آلِ عَلِيٍّ، وَلا تَعْدُهُمْ إِلَى غِيرِهِمْ"، وهو جَدُّه الرابع، وهذا من جهة صِلة الرحم التي تجب، وهذا تقديمٌ لها، وإلا فإنه سيأتي في قوله رحمه الله: ويأمرون ببر الوالدين وصلة الرحم. إذا قطعك الرحم بأن أساء إليك، وابتدأ الظلامة منه فإنك لا تُؤمر بوصلِه، وإنما تُندب إلى وصله، وألاَّ تُقابلَه بالقطيعة، وهاهنا أصلٌ يَفهمه بعضُ الناس فهمًا خاطئًا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَإِنَّمَا الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))[1] ، ومعناها أنه ليس الواصل الذي إذا وصَله أرحامُه كافأَهم بهذا الوصف؛ فإن هذا يَردُّ جَميلَهم، ويردُّ مَعروفهم، والواصل حقيقة هو الذي يَبتدئ الرَّحِمَ الذين قطَعوه فيَصِلُهم بعدما قطعوه، ولهذا - في صحيح مسلم - لما شكا رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي أَبْنَاءَ عُمُومَةٍ أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونَنِي، قَالَ: ((إِنْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ - وهو الرماد الحارُّ - وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ))[2]. وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ: ويندبون إلى أن تُعطيَ مَن حرمك؛ سواء من أقاربك، أو من جيرانك، أو ممن كان رئيسًا عليك، ثم أصبحتَ رئيسًا عليه، فتعطيه وقد حرَمك؛ إما مالاً، أو حقًّا، أو نصيبًا، وتعفو عمَّن ظلمك؛ فإن العفو عمن تعدَّى عليك من الكمالات، أما إذا لم تعف، ولم تَطِب نفسُك بالعفو، وإنما أردتَ القصاص فهذا لك، قال تعالى في آخر سورة النحل: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ [النحل: 126]، ثم قال: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقد مدَح الله في آل عمران الكاظمين الغيظَ؛ ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]. ولنتأمَّل تفسيرَ آية النحل بآيةِ آل عمران؛ فالقرآنُ مَثانٍ، يُفسِّر بعضُه بعضًا، فهذه من الكمالات التي يعلو فيها مقام الإنسان عند الله وعند عباد الله عز وجل. وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَينِ: انتقل من النَّدب إلى الأمر والأمر، والندب ليس مِن محض اختيارهم، وتَشهِّي أهل السنة، بل مِن انصِياعهم، واستجابتهم لحُكم الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويأمرون ببر الوالدين لأنَّ الله عظَّم ذلك، وأمر به، فأمر ببر الوالدين والنصوص في هذا كثيرة، في آية الحقوق العشرة في النساء: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [النساء: 36]، وقال: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]. ونلاحظ أن الأمر ببرِّ الوالدين جاء أمرًا عامًّا بالإحسان إليهم والبرِّ بهم، وكل أمر جاء عامًّا يُرد في إنفاذه إلى ما تَعارف الناس عليه من البر، ففي بعض الأعراف مِن بِرِّ الوالدين أن تُقَبِّل رأسه، أو جَبينه، وفي أعرافٍ أخرى تُقَبِّل أنْفَه، وفي بعض الأعراف تقبِّل يده، وفي بعضها تقبل رِجلَه، وكل ما عُدَّ في العرف بِرًّا فهو كذلك، ولهذا إذا جاء أمرٌ مِن الشريعة لم تَتحدَّد أوصافُه، أو هيئاته أو مَعانيه، يُرجع فيه إلى العرف؛ يقول الناظم: والعُرْفُ مَعمولٌ بهِ إذا ورَدْ ♦♦♦ حُكمٌ مِن الشرعِ الشريفِ لم يُحَدّ وَصِلَةِ الأَرْحَامِ: وأعظم الرحم التي تُوصل الوالدان، ثم الأدنى، فالأدنى، والرحم التي يَجب وصلها إلى الجدِّ الرابع، وما زاد عن الجد الرابع فصِلتُها سُنَّة مستحَبَّة. وَحُسْنِ الْجُوَارِ: حسن الجوار، وإعطاء الجار حقَّه هذا من الأمور الواجبة، وليست من الأمور المستحبة؛ ففي حديث أبي ذر رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لا يُؤْمِنُ))، قَالُوا: مَنْ - يَا رَسُولَ اللهِ - خَابَ وَخَسِرَ؟! قَالَ: ((الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ))[3] ؛ أي: سيَجعله مع الورَثة. والجار أنواعٌ ثلاثة: النوع الأول: جار مسلِمٌ قريب؛ فله ثلاثة حقوق: حقُّ الجوار، وحق الإسلام، وحق القرابة. النوع الثاني: جار مسلم؛ وله حقان: حق الجوار، وحق الإسلام. النوع الثالث: جار غير مسلم؛ وله حق واحد، وهو حق الجوار. وحق الجوار عظَّمَته الشريعة جدًّا، وعُدَّ مِن مَحاسن ديننا، ومن مكارم الأخلاق التي يزكو فيه الإنسانُ بإحسانه إلى جيرانه، وأذيته جيرانه أعظمُ مِن أذيته غيرهم، والشيطان يَنزَغ دائمًا فيما بين الجيران وفي أمور قليلة جدًّا؛ كموقف السيارة، أو إزعاج الأطفال إذا تغاضبوا وتخاصموا، ونحوِ ذلك مِن أقلِّ الأشياء التي يوقدها الشيطان بين الجيران إلى أن تكون بينهم المشاكل والمخاصَمات، وربما وصَل الأمر إلى القتل، فكم سَمِعنا من إقامة حدود القصاص على مَن تعدَّى على جاره في مزرعته، أو في أرضه، أو في داره، ثم تشابكا إلى أن قَتل أحدُهما الآخَر! والزنى بحليلة الجار أعظمُ خَطرًا وجُرمًا من الزنى بغيرها؛ لأن الشريعة - وهذا من أصولها العامة - إذا أمنت جانب الشخص، وجاء الخراب من جهته فإنه تشتدُّ عليه عندئذٍ العقوبة؛ فالزنى بذوَات المحارم حَدُّه القتل؛ لأن الشريعة أمَّنت الإنسان على محارمه، فأباحت للمرأة أن تكشف له، فإذا جاء الخطر والنَّقص مِن جهته كان الجزاء فيه مغلَّظًا؛ يقول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ))، كذلك الجار المؤمن، والمظنون أن الجار سترٌ على جاره، فإذا جاء الأذى من الجار على حَليلةِ جاره كان شرًّا من عشر زنيات كما جاء بذلك الحديث. والجار أقربُ إلى الإنسان من كثيرٍ مِن أقاربه، فالجار أقربُ حتى مِن الإخوة البَعيدين، بل قد يكون أقربَ مِن الوالدين في الحوائج، وفي المصائب، وفي الأحزان، وفي الأتراح. وَالإِحْسَانِ إِلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ: الإحسان وصفٌ عام مِن أوصاف الكمال وأوصاف الفضائل، وفي الحديث: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ))[4]. والإحسان إلى اليتامى بعطفهم، والتربيت على رؤوسهم، حتى الفضل العظيم ((مَنْ رَتَّبَ عَلَى شَعْرِ الْيَتِيمِ كَانَ لَهُ بِعَدَدِ شَعْرِ رَأْسِهِ حَسَنَاتٌ))، بل قال صلى الله عليه وسلم: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ)) وَمَدَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى[5]، واليتيم هو مَن فقَدَ أباه، وجوَّز العلماء على أنه من فقد أمه ما لم يبلغ الْحُنْثَ، فإن بلغ انتقل مِن وصف الأيتام؛ فاليتيم إلى أن يبلغ. ينتشر الآن في الجمعيات كَفالة اليتيم، والكفالة المشهورة في هذه هي مِن الصدقة، وليست هي الكفالة التي نُصَّ عليها الأجر في هذا الحديث وفي غيرِه؛ لأن هذه كفالة ماليَّة، فتَدخل في الصدقة عليه، وأما الكفالة الكاملة أن تأخذه، وتربِّيَه مع أولادك وفي بيتك، فتجمع عليه المال - النفقة المالية - والحنان، والعطف، والتربية. وصفُ المسكين إذا أُطْلِقَ دخَل فيه الفقير، وإلا فإنَّ المسكين هو المقِلُّ، والفقير المعدِم إذا اجتمَعا، والفقهاء يقولون: إن الفقير من لا يجدُ قوت يومه، والمسكين مَن يجد قوت شهره ولا يجد قوت عامِه. ابن السبيل هو المسافر المنقطِع البعيدُ عن وطنه وأهله، وهذا ملاحَظ أنَّ مَن ابتعد عن وطنه وأهله يكون عنده نوعُ ذلَّة، ونوعُ ضعف، ويحتاج إلى مَن يعطف إليه، ويُحسِن إليه، ولهذا أباحت الشريعة لابن السبيل المنقطع أن يُدفَع له من الزكاة ولو كان في بلده غنيًّا؛ ولهذا جاء في الصحيحين، في خبر الثلاثة: الأعمى، والأقرع، والأبرص. أنه لما بُلُوا جاءهم المبتلَى على هيئاتهم قبل أن يُعافَوا، فيقول: ((مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ السُّبُلُ، فَلا بَلاغَ لِيَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ شَعْرَكَ (للأقرع)... أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ (للأعمى)... أَسْأَلُكَ بِالَّذِي آتَاكَ جِلْدًا حَسَنًا لِلأَبْرَصِ))[6]. والله تعالى عظَّم هذه الأمور، ونوَّه بها في قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ [البقرة: 177]. وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ: المملوك هو الرقيق، وأصل الرِّقِّ كان عند العرب له مَواردُ كثيرة؛ فمِنها السلب والنهب، فسَلمانُ رضي الله عنه كان ممن سُرِقَ، سرقه الأعرابُ ثم باعوه، فجاءت الشريعة، فسَدَّت أبواب الرقِّ إلا بابًا واحدًا، وهو باب الجهاد في سبيل الله، إذا كان المجاهدُ مِن الكفار. والرِّق عرَّفه الفقهاء بهذا التعريف الجامع بأنه: عجزٌ حُكمي، سببه الكفر بالله؛ ولهذا فإنه لا يجوز أن يُسترقَّ المسلم على الصحيح. هذا المملوك وما تناسل منه يجب أن يُرفَق به، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((حَقُّ الْخَادِمِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ مِمَّا طَعِمَ، وَأَنْ يَكْسُوَهُ إذا اكتسى، وَأَلاَّ يُكَلِّفَهُ مَا لا يُطِيقُ، فَإِنْ كَلَّفَهُ مَا لا يَطِيقُ فَأَعِينُوهُمْ))؛ الحديث بمعناه في الصحيحين[7]. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْفَخْرِ وَالْخُيَلاءِ وَالْبَغْيِ: وينهون عما نهى الله عنه ونهى عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم من كثيرٍ من الأخلاقِ والأقوال الفاسدة، ومنها الفخر؛ التفاخر على الناس والتعاظُم عليهم، والخُيَلاء وهو الكِبْر، والبغي وهو الظلم والاستطالة على الناس، والتعدِّي عليهم. الفخر والخيلاء من كبائر الذنوب، ومن الثلاثة الذين لا يَنظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ((مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ خُيَلاءَ))[8]، ولأن الخيلاء والْعُجْبُ والكبرياء والكبر مُنازَعة لخصيصة مِن خصائص الله تعالى. والبغي هو الظلم والاستطالة والاعتداء؛ ولهذا قال: وَالاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ: الاستطالة أن يأخذ حقه وزيادة يستطيل، يستعرض، يتطاول؛ فإن تطاول بحق فهذا حرام؛ لأنه أخذ ما زاد عن حقه، ولهذا في حديث عبد الله بن عمرو "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا)). قال منها: ((إِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))[9] أي: إنه زاد في الخصومة، وتعدى في أخذ حقه وزيادة، فإذا أخذ حقه فإن عفا عن حقه فهذا مندوب؛ فإن زاد فأخذ حقه وزيادة فهذه الاستطالة، وإن كان أصلها في حق لكن هذا الزائد نهي عنه، وأما الاستطالة بغير حق فهو البغي، والبغي ضرب من ضروب الظلم والعدوان. بعدَ أن ذكَر هذه الأمورَ المفصَّلةَ أتى بأمورٍ جامعة، فقال: وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الأَخْلاقِ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا: أهل السُّنة يأمرون بمعالي الأمور، والسموِّ بالنفس وبالدِّين وبالأخلاق، وينهَون عن سفاسفها (سواقطها ومراذلها) وهذا وصفٌ جامع يجمع الخير، ويجمع الشر. وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ: كل ما يقولونه من الأقوال التي يرشدون إليها، أو يأمرون بها. وَيَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ: من هذه المشار إليها بأعيانها، أو في غيرها مما لم تُذكر في هذا المختصر. فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: أي: إنهم لا يأمرون، ولا يَعملون بشيءٍ مما أَلِفوه أو اعتادوه إلا إذا كان قد جاء الدليل بالكتاب والسُّنة؛ لأنهم أهلُ طريقة أثر، فطريقتهم طريقةُ الأثر، واتباع ما جاء في الكتاب والسنَّة، فهُم مَحكومون في أخلاقهم، محكومون في تعاملاتهم، محكومون في أقوالهم، محكومون في عباداتهم، محكومون في عقائدهم - بما جاء في كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ إن كان أمرًا، أو ندبًا، أو تحريمًا، أو خبرًا، والأخبار هي باب العقائد، وأما الأمر والتحريم والنَّدب فهي مِن باب الشرائع؛ لأن الدين عقيدة وشريعة: فالعقيدة هي مقتضى الأخبار؛ أخبرَنا الله عن نفسه، عن أسمائه، عن صفاته، وعن الغيب، وواجب ذلك الإيمان به. وأخبرنا سبحانه عن شريعته؛ إما أمرًا به، أو ندبًا إليه، أو تحريمًا، أو كراهة، أو إباحة، وهذا بابه الباب الثاني: باب العمل. وَطَرِيقَتُهُمْ هِيَ دِينُ الإِسْلامِ: أي: إن منهجهم هو دين الإسلام؛ لأنه هو الصراط المستقيم الذي بيَّنه ورسمَه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فشريعتُه في ثلاثٍ وعشرين سنَة هي بيانٌ لطريقة الإسلام، ولما ضرب المثَل في حديث ابن مسعود رضي الله عنه خطَّ خطًّا مستقيمًا، وخط عن جنباته خطوطًا، فقال: ((هَذَا صِرَاطُ اللهِ))؛ أي: هذا دين الله، هذا المنهج الذي جاء في القرآن، وهذه سُبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، مَن أجابه إليه قذَفوه في النار. الإسلام إسلامان: إسلامٌ عام، وإسلامٌ خاص؛ فالإسلام العامُّ هو التوحيد الذي جاء به جميع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، كلُّهم جاؤوا بالإسلام العامِّ الذي هو التوحيد، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والخلوص مِن الشِّرك وأهله، كل الأنبياء جاؤوا به ولا سيما الرسل، والإسلام الخاصُّ هو شريعة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم المبنيَّة على التوحيد، وعلى الشعائر الخاصة بهذه الأمة؛ ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]؛ أي: جعلنا كلَّ أمة من الأمم على شريعة من الأمر ليتبعوها. الَّذِي بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم: لئلاَّ يأتيَنا آتٍ فيقول: ما دام أن الأنبياء كلهم جاؤوا بالإسلام فسوف أتعبَّد إلى الله بشريعة موسى أو بشريعة عيسى أو بشريعة داود عليهم السَّلام، وهذا لا يجوز، ولو أن شريعة موسى لم تُحرَّف ولم تُغَيَّر ولم تُبدَّل لا يجوز أن يتعبَّد بها؛ لأن شريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة إبراهيم وغيرِهم مِن الأنبياء والمرسَلين لو لم تُغَيَّر، ولم تُبدَّل لكانت منسوخة، منتهى أمَلها ببعثة وشريعة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن شريعة نبينا استوعبَتها؛ فإن كان أمرٌ قد مُنِعوا منه فقد رُفِعَ هذا الغُلُّ في شريعتنا؛ بمعنى أنها نُسِخَت؛ ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾ [الأعراف: 157]. كيف وهذه الشرائع والعقائد التي أُنْزِلَت على هؤلاء والأنبياء والمرسَلين قبل نبيِّنا قد حُرِّفَت وغُيِّرَت، وبُدِّلت، واشْتُرِيَ بها ثمنًا قليلاً، وعدم تصحيحنا لشرائعهم لا يَعني أننا نَظلِمُهم، أو نبغي عليهم، أو نقتلهم؛ وإنما نؤدي لهم حقَّهم، وهذا الجانب غُفِلَ عنه من جرَّاء الجهل الذريع بأصول الملَّة وقواعد ومقاصد الشريعة، حتى ظنَّ بعض الشباب ممن يتسمى بالجهاد - وهو في الحقيقة خارجي - ظنَّ أن قتل هؤلاء، وسفكَ دمائهم، وإذهابَ عِصمة أموالهم وأعراضهم أنه جهاد، وغفل عن هذه المعاني؛ فإن دمَ غير المسلم في الشريعة ينقسم إلى أنواع؛ فالكفار في دمائهم على ستة أنواع: الأول: الكافر المرتد، وهذا إذا كان مسلمًا ثم ترك الإسلام مرتدًّا عنه، فهذا قد أذهب عنه العصمة، والذي يقيم عليه الحدَّ والحكمَ الحاكمُ الشرعي؛ لأن المسائل ليست فوضى. الثاني - إلى السادس وهم الكفار الأصليون -: الكافر الذمي، وهو كل كافر أعطانا الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغر، وقبلها منه ولي أمر المسلمين؛ فإن له عصمة بقَبولنا الجزيةَ منه، حتى يُخلَّ بشرطٍ مِن شروطه التي جعلها عليه ولي الأمر. الثالث: الكافر الْمُعَاهَد، أعطاه ولي الأمر أو نوَّابه عهدًا، ومن العهد (الفيزا) بأنواعها، سواء (فيزا) إقامة، أو عمل، أو (فيزا) مرور، فهذا الذي أُعْطِيَ عهدًا له عصمة إلى أن ينتهي عهده، في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا - زَاد أحمد بإسناد صحيح - لَهُ عَهْدٌ لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ)). الرابع: الكافر الْمُستأمَن، أعْطِيَ أمانًا إمَّا أنه خائفٌ في بلده على نفسه على ماله، وعلى نفسه وعلى أهله، يُسمى بالآن بالعُرف (اللاجئ السِّياسي)، وأما إن كان خائفًا على مالِه فيُسمَّى باللاجئ الاقتِصادي، وهذا كان مُشتهِرًا وقتَ التأميم عند الشيوعيِّين لما أمَّموا الأموال والشركات، فإذا أُعْطِيَ أمانًا فهذا يَجب أن يُبلغ له أمانه إلى مدته، وهو معصومٌ في عقد الأمان؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6]؛ أي: إلى مُنتَهى أمانِه إن كان بزمانٍ أو بمكان، وهذا في الكافر المستأمَن، وبين المستأمن والمعاهد عمومٌ وخصوص. الخامس: الكافر الذي لم يَحمل علينا السِّلاح، ولم يقاتلنا؛ كالمرأة في بيتها، والراهب في صومعته وديره، والصغير، والمُزارِع، ومن لم يقاتلنا فلا يجوز لنا أن نسفك دمه ابتداء: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا ابتعَث سريَّة أمَرَهم: ((أَلاَّ يَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا، وَلا امْرَأَةً، وَلا رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ))، واسْتُثْنِي من ذلك مَن له دلالة وإعانةٌ للعدو؛ فإن هذه العصمة تَزول منه، كالشاعر المشهور دُريد بن الصِّمة أَذِن النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَتلِه في غزو الطائف؛ لأنه له رأي ودلٌّ يعين به الكفار. السادس: الكافر المحارِب، وهذا هو الذي يُجاهد ولا عصمة لدمه، وهو مَن حمل علينا السلاح. هذا الترتيب والتصنيف يَغيب بسبب الجهل، وبسبب الهوى، وبسبب التحزُّب، التحزب حول ربعه وجماعته الذين وثق بهم حتى أعمى عينَه من الحق، وإن كان بعضُهم فطرتُه أحيانًا تُنبِّه إلى أن هذا الفعل خطأ؛ لكن غلبة المعاشرين والجلساء من حزبه وجماعات تَغلب على ما تبقى من فطرته وعقله، تَغيب هذه المعاني عند هؤلاء المساكين؛ لأنهم أوتوا مِن جوانب الجهل والهواء، وغلَبة جلسائهم عليهم. فطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا دين يُقبل إلا دينه؛ ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85]، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ))[10] ، وقال: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي))[11]. [1] رواه البخاري (5991)، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما. [2] رواه مسلم (2558)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [3] رواه البخاري (6014)، ومسلم (2624)، من حديث عائشة رضي الله عنها. [4] رواه مسلم (57)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. [5] رواه البخاري (6005)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. [6] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [7] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه. [8] رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [9] رواه البخاري (34)، ومسلم (58)، من حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما. [10] رواه مسلم (153)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [11] رواه أحمد في مسنده (15156).
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() شرح العقيدة الواسطية (39) الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل لَكِنْ لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً: إذا كان الدين واحدًا، والطريقة واحدة، لكن أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق كَما افترقت الأمم التي قبلَها، والحديث في هذا قد بلغ مبلغ التواتر؛ إذ روى حديثَ الافتراق عن النبي صلى الله عليه وسلم ستَّةَ عشر صحابيًّا، وهو مُستفيضٌ إلى قوله: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً))، إلى هذا القدر متواترٌ؛ كما نص شيخ الإسلام في رسالةٍ شرح فيها هذا الحديث، ثم الروايات بعد ذلك مُتفاوتة، والمقصود من ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وفي رواية: مِلَّةً - وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وفي رواية: مِلَّةً - وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً))[1] وفي رواية: ((مِلَّةً))، الفرق بين قوله: ملة، أو فرقة: أن الفرقة في أولها فُرْقَة عن الجماعة، ثم لا تزال هذه الفُرْقَةُ تعظم، وتشتهر، وتترسَّخ في التاريخ، حتى تكون عند أهلها كالملَّة، كالدِّيانة، والآن بعض الناس يقول: أنا مسلمٌ شيعي! فأصبح الرَّفض والتشيُّع في حق أهله كأنه ملَّة، (ديانة) يتدينون بها. والحديث أفاد أنَّ افتراق النصارى أكثرُ مِن افتراق اليهود، وأن افتراق اليهود أقلُّ مِن افتراق النصارى، كما أفاد أن افتراق هذه الأمة أكثرُ من الأمتين قبلنا، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً)). مسألة: العدد هنا هل معناه أن هذه الفرقَ لم تتَجاوز الثلاث والسبعين، فيكون العدد مُرادًا منه حقيقةُ المعدود؟ أو أن العدد يُراد منه بيانُ الكثرة؟ قولان لأهل العلم، والأظهَرُ الثاني؛ لأن الأعداد في الشريعة تأتي على ضربَين، فتأتي أعدادٌ يُراد منها حقيقةُ المعدود، من نحو قوله تعالى: ﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾ [المائدة: 89]، فلو أطعم تِسعًا لا يكفي، بل لا بد مِن إتمام العشرة، وكذلك في فِدية الأذى في الإحرام إطعامُ ستَّة مساكين، أو صيامُ ثلاثة أيام، ولو أطعَم خمسةً لا يكفي، وكذلك في كفارة القتل، والظِّهار، وكفارة الوطء في رمضان في صيام شهرين مُتتابعَين؛ فإن لم يجد - وهذا بعد العتق - فإطعامُ ستِّين مسكينًا، لو صام شهرًا وثمانيةً وعشرين يومًا لا يُجزئ فلا بد من التتابع، ولا بد من شهرين، وكذلك في الإطعام، إذًا هناك أعدادٌ تأتي يُراد منها حقيقة المعدود، وهذا قليل، وليس كثيرًا في الشريعة. والضرب الثاني: تأتي أعداد يُراد منها بيانُ الكثرة، وأكثر الأعداد في الشريعة على هذا النحو، الأعداد التي في القرآن والسنة، ففي القرآن قال تعالى في المنافقين: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((وَاللهِ لَوْ أَنِّي عَلِمْتُ أَنِّي أَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ مَرَّةً أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فَيُغْفَرُ لَهُمْ، لاسْتَغْفَرْتُ لَهُمْ))! لو استغفر لهم النبي مليون مرة لا يُغفر لهم، فهنا أُرِيدَ مِن العدد بيانُ الكثرة؛ بمعنى أنك لو استغفرتَ لهم يا محمد مراتٍ كثيرة فلن يُغفَر لهم. ومِن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ كَذَّابُونَ ثَلاثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ)). لو استعرضنا مَن ادَّعى النبوة فإنهم على مرِّ التاريخ أكثرُ من ثلاثين، فدل على أن المراد هاهنا بيان الكثرة. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً)). وفي رواية: ((بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً))[2]، وهذا لا يدل على تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أراد بقوله السبعين والستين بيانَ كثرة خصال وشُعَبِ الإيمان؛ ولهذا لما عُنِيَ العلماء بجمع خصال الإيمان نوَّعوا فيها، حتى زاد بعضهم بها عن التسعين، وبعضُهم زاد بها عن المائة، فهذا العدد يُراد منه بيانُ الكثرة. ومن هذا - والله أعلم - حديث الافتراق؛ أي: إن هذه الأمة ستفترق افتراقًا كثيرًا أكثر من افتراق الأمتين قبلنا. لكن مما ينبغي أن يُعلم أن هذه الفِرَق كلَّها في النار، وهذا وَعيدٌ أنَّها في النار، والوعيد على قِسمين؛ فمِنها ما هي في النار خالدةٌ مخلَّدة، وهي الفرق المرتدَّة التي أتَت ناقضًا مِن النواقض، ومكفِّرًا من المكفرات، ومنها فرقٌ متوعَّدة بالنار على ضلالها لا على كفرها، وهي مَن أتت بِدعة مفسِّقة، وهذا أيضًا تقسيم للبِدَع من حيث الحكمُ؛ فبِدعٌ مكفِّرة، ومبدعٌ مفسِّقة. كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)). وهذه فرقة، وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فرقة، وهي الفرقة الناجية المنصورة التي مرَّ التنويه بها، وبأوصافها، وخصائصٌهم في أول شرح العقيدة، وهم الجماعة كما جاء في بعض الروايات، وفي بعضها: ((هُمُ السَّوَادُ الأَعْظَمُ)). وهذا يفسِّر الجماعة، وفي بعضها: ((هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي))[3]؛ أي: على سنَّتِه، فهَديُهم ومِنهاجهم هو طريقة وهديُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه. مسألة: ما هي أصول الفرق التي عنها تتفرَّق فرقٌ أخرى كثيرة، تَزيد عن السبعين؟ أصول الفرق بحسب ظهورها: أولاً: الخوارج، في أنفُسِها افترقت، وقادت الخوارجُ بدعة الروافض؛ فإن الرفض بدعةٌ نشأَت مقابل الخروج، ثم بدعة القدَرية؛ نُفاة القدر، وهم المعتزلة، قابَلتْها بدعةُ الجبرية؛ بدعة الجهم، والخامسة المرجئة وهي ردَّة فعل لمذهب الوعيديِّين؛ فإن مذهب أهل الوعيد الخوارج والمعتزلة الذي نشأ في القرن الأول قابله بِدَع المرجئة بأصنافهم. والفرقة السادسة فرقة الصوفية، وهي فرقٌ كثيرة: قادرية، وشاذلية، ورفاعية، ونقشبَنْديَّة، وتيجانية، وسهروردية، وسمارية، وختمية... إلى فرق كثيرة، البطائحية الذين مر أن شيخ الإسلام ناقشهم، وناظرَهم. طائفة البطائحية، وفرقة البطائحية هم فرقة الرِّفاعية المنسوبة إلى أحمد الرفاعي، ولم أسمع أن الجهميَّة صوفية، لكن يوجد مِن بعض أفراد الصوفية مَن يكون في باب الاعتقاد متجهمًا، أو في باب القدر جَبريًّا. إذا عرَفنا حديث الافتراق وهو حديثٌ عظيم، وأعجبُ مِن المتعالِمِين ممن يُضَعِّف هذا الحديثَ وهو متواتر، الروايات مختلفة في تعيين أوصاف الفرقة الناجية، وأكثر الروايات على أنها ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)). صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالإِسْلامِ الْمَحْضِ، الْخَالِصِ عَنِ الشَّوْبِ هُمْ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: المحض؛ أي: الخالص من الشوائب؛ ذهَبٌ محض؛ أي: لا شائب فيه. وسُنَّة محضة: لا بدعةَ فيها، صار المتمسكون بالإسلامِ المَحضِ السالم من الشوائب هم أهلَ السنة والجماعة، وأهلُ السنة والجماعة هذا وصفٌ، وأما الاسم فهو اسم الإسلام والإيمان؛ كما سمَّانا الله تعالى بذلك، فقال عن إبراهيم الخليل: ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ﴾ [الحج: 78]، أما الوصف فيُوصَفون بأهل السنة، ويُوصفون بالجماعة، وقد يغلب الوصف بكثرة استعماله حتى يكون في مؤدَّاه عَلمًا، لكن لا ينبغي أن تُحْدَث أوصافٌ عند المتأخرين تكون أعلامًا تُستبدَل بالأعلام والأسماء التي سمَّى الله عباده وأولياءه. وَفِيهِمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ: أهل السنة والجماعة فيهم الصدِّيقون وهم أعلاهم، لم يَذكر الأنبياء لأنه مُتَّفقٌ عليهم أنهم هم سادةُ هؤلاء، لكنْ فيهم الصديقون، وأولهم أبو بكرٍ رضي الله عنه، مَن بلَغ رتبة الصدِّيقية، وهو كمال الإيمان في القلب، وفيهم الشهداء وفيهم الصالحون. وَمِنْهُمْ أَعْلامُ الْهُدَى: وهم العلماء، الذين هم في أقوامهم وأزمانهم وأحوالهم أعلامٌ يُتأسى بهم يُقتدى ويُسترشد بهم، وأصل العلَم الجبَل، فيُسمى عَلمًا كما قالت الخنساء في أخيها صخر: "كَأَنَّهُ عَلَمٌ فِي رَأْسِهِ نَارُ"، أي: إنه جبل في رأسه نار. وَمَصَابِيحُ الدُّجَى: الدجى هي الليلة الظلماء؛ فإن المصباح فيها يُضيء لنفسه، ويضيء لغيره، فيُهتَدى به. أُولُو الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ: بما مدَحهم الله ومدحهم نبيُّه لاستقامتهم على دينه، وأنهم يهدون من ضل عن دين الله؛ ولهذا جاء في الحديث: ((إِنَّ اللهَ يَجْعَلُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ مَنْ يُبَيِّنُ لَهَا دِينَهَا، وَيَصْرِفُ عَنْهَا تَحْرِيفَ الْمُحَرِّفِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ)). وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ: فضائل العلم والابتداء، ولهذا فإن أعظم الأعمال إلى الله قُربةً هو العلم؛ تعلمًا، وتعليمًا، وبذلاً. وَفِيهِمُ الأَبْدَالُ: أي: في أهل السنة الأبدال. والأبدال هم الذين جاء فيهم الحديث: ((إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا أَمْرَ دِينِهَا))؛ ولهذا فإنه في كل قرن يبرز فيه علماءُ يَكونون مجدِّدين لهذا القرن، اصْطُلِحَ على تسميتهم بشيوخ الإسلام، هذا الوصف الذي اصطلح عليه العلماء - وصف شيوخ الإسلام - على من يجدد للناس أمر الدين، وليس لازمًا أن يأتي في رأس القرن، أو في أوله، أو في أوسطه، إنما في كل قرن، وهؤلاء هم الأبدال، وجاء فيهم الحديث: ((الْأَبْدَالُ يَكُونُونَ بِالشَّامِ، وَهُمْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللهُ مَكَانَهُ رَجُلًا...))؛ ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة أن العلماء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل؛ أي: إنَّ وظيفتَهم ودَورهم كدَور الأنبياء في بني إسرائيل؛ في إبانة دين الله عز وجل. في نسخةٍ من نُسخ الواسطية المخطوطة يقول الشيخ: "وفيهم الأبدال، ومنهم الأئمة". وهنا قال: "وفيهم الأبدال الأئمة"؛ على أن الأئمة بدلٌ مِن الأبدال؛ أي: إن هؤلاء الأبدالَ هم الأئمَّة العلماء، وفي النسخة الأخرى: "ومنهم العلماء"؛ أي: إن الأبدالَ ممكنٌ أن يَكونوا مِن غير العلماء؛ ففيهم صَلاحٌ سواء في الإمارة والسِّياسة، وسواء في البذلِ والعطاء، وسواء في إصلاح ذات البَيْن، قد لا يكون عالِمًا لكن له شأنٌ في سياسة الناس، أو في إصلاح ذات بينهم. الأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ: إذًا لا بد من هذا الوصف أن يُجمعوا على هدايتهم، وأنهم مَهديُّون، ليسوا أهلَ ضلالة ولا أهلَ بدعة ولا أهل خطأ. وعلى درايتهم؛ أي: على عِلمهم، وإن الدراية المراد بها العِلم والفقه، وهؤلاء المستمسكون بالإسلام المحض: وَهُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةِ: أي: إن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، ناجية من العذاب، والهلكةُ في الدنيا باتباع البدعة، والهلكة في الآخرة بأن يكونوا من أهل النار. وهي المنصورة التي وعدها الله بالنصرة فلا تُخذل كما جاء في الحديث: الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ))[4]: لا يضرهم مَن خذَلهم؛ أي: لم يُناصِرهم، ولم يُعِنهم. ولا مَن عاداهم مع كثرة الأعداء عليهم، ووصفِهم بالأوصاف القبيحة والشينعة، ومُحاربتهم، ومطاردتهم. هم مُستمسكون على الحق ظاهرون؛ أي: غير مقهورين على غيره. وإنما ظاهرون بالحق، مقتنعون به ديانةً وعقيدة، وهم أهل السنة والجماعة. ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)): أي: حتى قُربِ الساعة؛ جمعًا بين هذا الحديث وحديث نوَّاس بن سمعان الطويل، وفيه: ((أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَقْبِضُ الْمُؤْمِنِينَ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مَنْ يَقُولُ: اللهَ اللهَ. وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةِ)). لما بيَّن لنا هذا رحمه الله في أصولهم وطريقتهم ومَصادرهم، وبيَّن لنا أن الافتراق يقَع، وحثَّنا على معالي الأخلاق، ونهانا عن سفاسفها - دعا بهذه الدعوات المباركة فقال: فَنَسْأَلُ اللهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ: وهذا دعاء، ودعاء بعد تبيُّن الطريق وترسُّمه بما أبانه رحمه الله في هذه العقيدة؛ فإنه أبان في هذه العقيدة هذا الطريقَ، الذي مَن سلَكه انتسَب إلى هذه الطائفة الناجية، ولا يُعجَب بعمَله، ولا يغتر، وإنما يَسأل الله هداية أن يكون منهم؛ ليكون منصورًا غير مخذول. وأَلاَّ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً، إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ: وهذا تضمينٌ مِن آية في سورة آل عمران، في أوائلها: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]، وهذا الدعاء دعاءٌ عظيمٌ جامع، ينبغي ألا يَغيب عن طلب المؤمن؛ ولهذا كان الصديق رضي الله عنه مِن فقهه - وهو ذو الهدي الراشد المهدي الذي أُمِرْنَا باقتفائه - كان يدعو بهذه الآية، ويقرؤها في الركعة الثالثة في صلاة المغرب: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. وَاللهُ أَعْلَمُ: وهذا شأنُ العالم حقًّا؛ يَكِل العلمَ إلى عالِمه مهما أوتي من الفهم والحفظ، والتحقيق والسَّبر، ودقة البصيرة - يجب أن يَعرف أن الله أعلمُ منه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 76]، وكما هو منهج أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهم يَكِلون العلمَ إلى عالمه، وكان يُقرُّهم على ذلك رسولُه؛ ففي حياته كانوا يقولون: "اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ"، إِذا سُئِلُوا عن شيء لم يَعلموه، وبعد موته صلى الله عليه وسلم لا يَقولون إلا: الله أعلم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا: ثم ختمَها بما بدأها؛ بالصلاة والسلام الكثيرين على محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الذي هدانا الله به، ودلَّنا الله به طريق الهداية، وهو الذي رسم لنا هذا المنهاج، وهذا بعضُ حقِّه على أمته صلى الله عليه وسلم. وبها يتم الكلام في هذه العقيدة العظيمة الجليلة؛ "العقيدة الواسطية"، جعَلنا الله وإياكم مِمَّن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. [1] تقدم تخريجه. [2] رواه البخاري (9)، ومسلم (35)، من حديث أبي هريرة. [3] تقدم تخريجه. [4] تقدم تخريجه.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |