|
|||||||
| ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
![]() |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
|
|
#1
|
||||
|
||||
![]() قصة مقتل القاضي عياض شريف عبدالعزيز الزهيري (26) ![]() الثبات حتى الممات هو شعار علماء الأمة الربانيين، الذين لا يتنازلون عن الحق، ولا يحيدون عنه قيد أنملة، مهما تقلبت بهم الأحوال، وعظمت عليه الخطوب؛ فهم حماة الدين، وحراس الشريعة، وجند الحق، يعلمون أن أعظم المهام المنوطة بهم هي الحفاظ على معالم الدين، والتصدي للمبتدعين، ومواجهة كل دخيل ومدعٍ بريد أن يحرّف مفاهيم القرآن والسنة؛ فكم من عالم رباني قضى نحبه تحت سياط الباطل، وفي سجون الطغاة، من أجل ثباته على الدين، ومحافظته على الحق، وكم من عالم طورد وشرد هو وأهله من أجل أنه لا يداهن ولا يجاري، وكم من عالم، وطمس تاريخه، وشوهت سيرته بين الناس، لأنه آثر مرضاة الله عز وجل على مرضاة المضللين والمحرفين، وهؤلاء العلماء كلهم شعارهم في الحياة قوله عز وجل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 23]، وصاحبنا هذه المرة واحد من علماء الأمة الربانيين الذي كانت حياتهم وخاتمتهم مثلا حيًا وواضحًا، وترجمة حقيقية لمعنى هذه الآية الكريمة. التعريف به: ![]() هو الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الأندلس والمغرب، وفريد عصره، شيخ الإسلام، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي الأندلسي ثم السبتي المالكي، وُلد 476هـ بمدينة سبتة المغربية (وهي ما زالت واقعة حتى الآن تحت الاحتلال الإسباني)، وكان جده عمرو قد هاجر من الأندلس إلى المغرب أيام ملوك الطوائف، وسكن مدينة سبتة، وبها وُلد القاضي عياض. لم يحمل القاضي عياض العلم في الحداثة كعادة كبار العلماء، بل طلبه بعد أن جاوز العشرين، وكان أول سماعه وطلبه للعلم إجازة مجردة من الحافظ أبي عليَّ الغسَّاني، ثم رحل إلى الأندلس سنة 503هـ، وسمع من شيوخها وعلمائها، وانقطع لطلب العلم، فاستبحر من شتى العلوم: الحديث والفقه، وعلوم اللغة، وتمر فيها حتى فاق معاصريه وشيوخه، وبذ الأقران، وجمع وألف، وناظر وأفتى، وسارت بتصانيفه الركبان، واشتهر اسمه في الآفاق، وتولى منصب القضاء في بلده سبتة مدة طويلة، حُمِدَتْ فيها سيرته، ثم نقل عنها إلى قضاء غرناطة، ومن شدة أهليته للمنصب ارتبط واقترن اسمه بقلب القاضي؛ على الرغم من صغر سنه، فلقد تولى القضاء وله خمس وثلاثون سنة فقط. ثناء الناس عليه: كان القاضي عياض من محاسن الدهر، وبركة العصر، وكلمة إجماع عند أهل العلم، رزقه الله عز وجل القبول عند الناس، فأنزلوه مكانه اللائق به في مصاف كبار علماء الأمة، وأثنوا عليه بما هو أهله، وهذه طائفة من أقوالهم: قال ابن بشكوال تلميذه: هو من أهل العلم والتفنن، والذكاء والفهم، استقضى بسبتة مدة طويلة، حمدت سيرته فيها، ثم نقل إلى غرناطة، فلم يطول بها، ثم قدم علينا قرطبة فأخذنا عنه، واستفدنا منه كثيرًا. قال الفقيه محمد بن حمادة السبتي: جلس القاضي للمناظرة وله نحو من ثمان وعشرين سنة، وولي القضاء وله خمس وثلاثون سنة، كان هينًا من غير ضعف، صليبًا في الحق، وقد حاز من الرئاسة في بلده والرفعة ما لم يصل إليه أحد قط من أهل بلده، وما زاده ذلك إلا تواضعًا وخشية لله تعالى. قال ابن خلكان في وفياته: هو إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو، واللغة، وكلام العرب، وأيامهم، وأنسابهم. قال المؤرخ الشهير محمد بن عبد الله: وكان القاضي عياض من أكابر الحفاظ، ومن أعظم أئمة عصره في الحديث، وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه، بارعًا في علم الأصول والكلام، حافظًا للمختصر والمدونة، متمكنًا من الشروط والأحكام، أبرع أهل زمانه في الفتيا، متقنًا للنحو واللغة، أديبًا كبيرًا، وشاعرًا مجيدًا، حسن التصرف في النظم، كاتبًا بليغًا، وخطيبًا مفوهًا، عالما بالسير والأخبار، ولا سيما أخبار العرب و أيامها وحروبها، وكان حسن المجلس، ممتع المحاضرة، فصيح اللسان، حلو المداعبة، بسامًا مشرقًا، جم التواضع، يمقت الإطراء والملق، معتزًا بنفسه ومكانته، محبًا لأهل العلم، معاونًا لهم على طلبه، جوادًا، سمحًا، من أكرم أهل زمانه، كثير الصدقة والمواساة. مصنفاته: ![]() يعتبر القاضي عياض من أكثر علماء المغرب تصنيفًا وترتيبًا، وله ثبت حافل بالمؤلفات النفسية والفائقة، كلها بفضل الله عز وجل موجود ومطبوع، وهو من الأعلام القلائل الذين لم يفقد مؤلفاتهم شيء، على الرغم من المحنة الهائلة التي تعرض لها عندما اضطهدته السلطة، وهذا الحفظ الذي حفظه الله عز وجل لمؤلفات القاضي عياض دليل على عظم هذا الإمام ومكانته، وتأييد الله عز وجل له، وإعلاء ذكره وعلمه بين العالمين، أما عن أهم كتبه ومصنفاته فمنها: • كتاب (الشفا في شرف المصطفى) وهو أجَّل كتبه وأنفعها وأشهرها، وقد أتى في الكتاب بالعجائب والفرائد والتأويلات البديعة، والمعاني الخفية اللطيفة، فجاء هذا الكتاب فريدًا بين كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شغف العلماء بهذا الكتاب، فوضعوا له الشروح والحواشي، وخرجوا أحاديثه، وحرروا ألفاظه، ولذلك الكتاب عدة طبعات بعدة شروح مختلفة، وبتحقيق أسماء مختلفة من أهل العلم، والكتاب لا يستغني عنه أي طالب علم، فضلا عن المتخصصين في السير والتاريخ. • كتاب ((ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك)). • كتاب ((العقيدة)) في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وقد شرح فيه عقيدته السلفية الصحيحة. • كتاب شرح حديث أم زرع، واسمه (بغية الرائد فيما في حديث أم زرع من الفوائد)، وقد ذكر فيه طرق الحديث، وما يتعلق بها، ثم ذكر على طريق الإجمال فيه من العربية والفقه والغريب، وما اشتمل عليه من ضروب الفصاحة، وفنون البلاغة والبديع، ويعد هذا الشرح من أعظم كتب البلاغة التطبيقية في الكتب العربية، وقد أثنى عليه الحافظ ابن حجر كثيرًا في الفتح. • كتاب ((مشارق الأنوار في اقتفاء صحيح الآثار)) وهو في تفسير غريب الحديث، وضبط ألفاظه رتب فيه الكلمات على ترتيب حروف المعجم المعروف ببلاد المغرب بحسب حرفها الأول، ثم الثاني وهكذا، وهو من الكتب العظيمة النافعة. • كتاب ((جامع التاريخ)) الذي أربى على جميع المؤلفات، جمع فيه أخبار ملوك الأندلس والمغرب، واستوعب فيه أخبار سبتة وعلمائها. • كتاب ((الإكمال في شرح صحيح مسلم)) أكمل به كتاب ((المعلم)) للإمام المازري. • كتاب ((الإلمام إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع)). • كتاب ((التنبيهات))، كتاب ((الإعلام بحدود قواعد الإسلام)). محنته: ![]() وُلد القاضي عياض كما ذكرنا سنة 476 بسبتة، التي كانت وقتها تحت حكم دولة المرابطين العظيمة، وهذه الدولة كانت من أعظم الدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب عبر عصورها جميعًا، فلقد كانت دولة مجاهدة من الطراز الأول، حققت في هذا المضمار الكثير من الفتوحات والإنجازات الخالدة، وكان لها الفضل في نشر الإسلام في غرب ووسط القارة الإفريقية، حتى إن راياتها الميمونة قد وصلت إلى منتهى نهر النيجر، وبلاد الكاميرون، وقلب نيجيريا، كما أنها كانت دولة بدوية ساذجة، غير متلوثة بأسباب الترف المهلك، والأهم من ذلك كله أنها كانت دولة سلفية المنهج والعقيدة، لا تعرف الطرق الكلامية، والمذاهب البدعية إلى أهلها سبيلا، وكان قادة وسلاطين وأمراء تلك الدولة يعظمون العلماء والفقهاء ويجلونهم، وما سقطت هذه الدولة العظيمة إلا عندما تسلل الترف والفساد إلى جنباتها. في ظل تلك الدولة المجاهدة السلفية، وُلد ونشأ وترعرع القاضي عياض، وفي ظلها أيضًا تعلم وتمهر، وتقدم في شتى العلوم، وفي ظلها أيضًا صار القاضي عياض من أعلام العلماء، وكبار القضاة، ولأن هذه الدولة لم تعمَّر طويلا فإن القاضي عياض قد شاهد هذه الدولة، وفي عنفوان شبابها، وأوج قوتها، وأقصى اتساعها، ثم رآها وهي تندحر شيئًا فشيئًا، وتظهر فيها علامات السقوط: مثل الفساد والترف، ورآها أيضًا وهي تهزم المرة بعد الأخرى أمام جيوش مدعي المهدية ابن تومرت، والملقبين بالموحدين، مما كان يؤذن بأفول شمس هذه الدولة، وخروجها من ساحة الأحداث إلى ثبت الذكريات. تولى القاضي عياض منصب القضاء سنة 510هـ في مدينته ((سبتة))، وكان في الخامسة والثلاثين، وكانت أولى علامات الفساد بدأت في الظهور في جنبات الدولة المرابطية، وكانت تلك العلامة هي الوساطة والشفاعة لبعض الناس، والمحسوبية لهم على حساب الآخرين؛ فتصدى القاضي عياض لتلك الآفة، وسار في ولايته بمنتهى النزاهة والأمانة، وأبدى حزمًا في تطبيق الحدود والأحكام، واشتهر بين الناس بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه، وحياديته الكاملة، حتى طارت شهرته في كل مكان. ![]() هذه الشهرة بكل خير جعلت أمير المسلمين - وهو لقب المرابطين ((عليٍّ ابن يوسف بن تاشفين)) - يوليه قضاء غرناطة بالأندلس، ليصلح من شأنها، نظرًا لانتشار المفاسد بين أهلها، وكثرة القلاقل والاضطرابات بها، فتولى القاضي عياض قضاء غرناطة في سنة 531هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وردع أرباب الولايات وأتباع السلطان عن الباطل، وعزل كل من ثبتت عدم أهليته وكفايته من منصبه، فشرد كثيرًا من حاشية والي الأندلس ((تاشفين بن علي)) عن أعمالهم ومناصبهم، فاستاء منه الأمير تاشفين بن علي، وضاق به ذرعًا، خاصة والقاضي عياض يرفض رفضًا تامًّا أي تدخل في عمله، وأية محسوبية أو وساطة، حتى ولو كانت من الأمير نفسه، فالقاضي عياض عالم ربانيٌّ، يؤثر الحق ومرضاة الخالق على ما سواهما، كائنًا ما كان، فسعى الأمير تاشفين بن علي عند أبيه أمير المسلمين (( علي بن يوسف))، حتى يصرف القاضي عياض عن منصبه، وبالفعل تم مراده، وعُزل القاضي عياض عن منصبه في رمضان سنة 532هـ. لم يَفُتُّ هذا العزل في عضد القاضي عياض، ولم ينل من مكانته ولا قدره، فعاد إلى مدينته سبتة، وعكف فيها على التدريس والفتيا ونشر العلم، ثم طلب منه أمير المرابطين ((تاشفين بن علي)) سنة 539هـ أن يلي منصب القضاء في سبتة، وكانت أحوال دوله المرابطين قد تدهورت بشدة، واكتسحت جيوش الموحدين معظم ولاياتها في المغرب؛ فأراد ((تاشفين بن علي)) رجالاً صالحين وأشداء في تلك المناصب الحساسة لوقف تدهور الدولة المرابطية أكثر من ذلك، وسبحان الله: كم لله عز وجل في خلقه من شئون؛ فتاشفين بن علي هو الذي اجتهد أول مرة لعزل القاضي عياض عن منصبه، وهو نفسه الذي اجتهد لإعادته لنفس المنصب، وذلك عندما احتاج لعلمه وزهده ونزاهته. بلغ الكتاب أجله، وسقطت الدولة المرابطية العظيمة المجاهدة، لما تخلت عن أسباب قوتها وبقائها، وأخلدت إلى الأرض والترف والشهوات، وحلت محلها دولة الموحدين، وتلك الدولة كانت على النقيض من دولة المرابطين، فمؤسسها رجل ادعى المهدية اسمه ((محمد بن تومرت))، وقد ابتدع لهم عقيدة خاصة بأتباعه أسماها ((المرشدة)): هي عبارة عن خليط من آراء المعتزلة والأشاعرة والجهمية، وقرر لهم الكثير من البدع والخرافات وقد سلك ذلك الرجل الدجال وأتباعه مسلك القسوة المفرطة، والوحشية القصوى في التعامل مع المرابطين، وسفكوا دماء مئات الآلاف من المرابطين، واستحيوا نساءهم، وأبادوا مدنًا بأكملها من على وجه الأرض، حتى إن الموحدين قد قتلوا قرابة المليون مسلم من أجل إقامة دولتهم. ![]() عندما رأى القاضي عياض تلك القسوة والوحشية الدموية المفرطة في تعامل الموحدين مع خصومهم، خاف على أهل سبتة من أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل مدينة ((سلا)) المغربية، الذين ذبحهم الموحدين عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ورأى أن من المصلحة أن يدخل هو وأهل سبتة في طاعة الموحدين، حتى تستقر الأمور، ويرى بهدوء وروِيَّةٍ ما يمكن عمله بعد ذلك، وبالفعل دخل القاضي عياض وأهل سبتة في طاعة الموحدين في سنة 540هـ، وأقره الموحدون على منصب القضاء. أخذ القاضي عياض في تسيير شئون سبتة حسب مقتضيات الشرع والعدل، وهو في نفس الأمر يفكر في كيفية التصرف مع هؤلاء الخوارج المبتدعين الضالين أتباع الدجال (ابن تومرت)، ثم وقت مذبحة ((مراكش)) المهولة، التي لم تعرف بلاد المغرب والإسلام قبلها من نظير؛ وذلك عندما قام الموحدون باقتحام مدينة ((مراكش)) عاصمة المرابطين، وآخر حصونهم، وذبحوا أهلها جميعًا، وكانوا بمئات الآلوف، واسترقوا النساء والأطفال، ثم قاموا بعد ذلك بهدم المدينة بالكلية؛ بدعوى أنها مدينة نجسة، وأهلها مشركون: (كان الموحدون يصفون المرابطين بالمجسمة والمشبهة، كما هي عادة أهل الزيع والضلال في العقيدة مع أهل السنة والجماعة، أتباع عقيدة السلف الصالح). فهدموا كل شيء، حتى الجوامع والزوايا والمدارس، وجعلوا المدينة قاعًا صفصفًا؛ فأثرت هذه المذبحة البشعة في نفسية القاضي عياض بشدة، أيقن أنه لا سبيل للتعامل مع هؤلاء الضُلال المبتدعة، وأن مصير ((سبتة)) سيكون كمصير ((مراكش)) و((سلا)) و((وهران))، وغيرهم من البلاد والمدن التي رفضت عقيدة ابن تومرت الضالة. ![]() قرر القاضي الاتصال بزعيم المرابطين (يحيى بن غانية)، وكان هو الوحيد الذي بقى من كبار قادة المرابطين، وقد استطاع أن يسيطر على جزر الأندلس الشرقية [ميورقة وأخواتها]؛ فاتصل به القاضي عياض، ونسق معه من أجل القدوم إلى مدينة ((سبتة))، وتسلميها إليه، على أن يعمل يحيى بن غانية على مجاهدة الموحدين، وتحرير مدن المغرب من نيرهم وضلالهم، وبالفعل وافق يحيى بن غانية على ذلك؛ فأعلن أهل سبتة خلع طاعة الموحدين؛ وذلك سنة 543هـ. سارت الأمور على غير مراد القاضي عياض؛ إذ تخاذل يحيى بن غانية عن القدوم إلى سبتة، في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة؛ فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، وقرر لهم أنه المسئول عما جرى، فحملوه إلى أمير الموحدين عبد المؤمن بن علي وكان وقتها في مراكش، فعفا عنه عبد المؤمن، وصفح عما جرى، ولكنه طلب منه أن يقر بعصمة ابن تومرت ومهديته، ويكتب بذلك كتابًا للآفاق كلها، فعلم القاضي عياض أن الموحدين قد طلبوا منه ذلك الكتاب ليكون حجة لهم، ودليلا على باطلهم، وصك شرعية من أكبر علماء المغرب والأندلس وقتها، وعلم القاضي عياض أن حياته على المحك، وأنه إذا رفض سيقتل ولا بد، وعلم أيضًا أنه لو أذعن وأعطاهم ما يطلبون لضل كثير من الناس، واتبعوا الموحدين في ضلالهم وعقيدتهم المبتدعة، بل وأهدر بكتابه ذلك دماء مئات الألوف من الأبرياء الذين قتلوا ظلمًا وعدوانًا بسيوف الموحدين. ![]() تراءت كل هذه المعطيات والنتائج في عقل القاضي عياض، فقرر التضحية بنفسه، وإيثار مرضاة الله عز وجل وحده، وإيثار الحق والعلم الذي قضى عمره كله يدعو إليه، ويقضي به، وينشره بين الناس، وأعلنها مدوية أمام الموحدين المبتدعين؛ أنه لا عصمة لابن تومرت، ولا مهدية له، وأنه دجال ضال في باب العقائد والأقوال والأفعال، وأن دماء الأبرياء في رقبته، وهو مسؤول عنها يوم القيامة، وذلك يوم 9 جمادى الآخر سنة 544هـ؛ فقام الموحدون بقتله بالرماح حتى قطعوه إربًا، ثم قاموا بجمع أشلائه ودفنوها في مكان مجهول بمراكش، بلا صلاة ولا غسل، كأنه واحد من غير المسلمين، بل وقاموا بعد ذلك بما هو أنكى من ذلك؛ فأقطعوا تلك المنطقة للنصارى؛ فبنوا بجوار قبره كنيسة وبعض الدور. ولأن الله عز وجل ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فقد عثر على قبر القاضي عياض سنة 712هـ في عهد الدولة المرينية السنية، والتي أسقطت دولة الموحدين الخبيثة، وفرح الناس والعلماء بذلك الأمر بشدة، وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر، وإشهاره وإظهاره، واجتمع الناس عنده، وصلوا عليه مرات كثيرة، وختموا القرآن عنده مرات كثيرة، [وهذا الأمر بخلاف السنة]، والخلاصة أن القاضي عياض أعظم حفاظ المغرب والأندلس وعلمائها في عصره، وسر عظمته ليس فقط علمه الغزير، وفضائله الجمة، ولكن ثباته على الحق، ورغبته في إصلاح الأمة، والتصدي للباطل والطغيان، حتى ولو كان ثمن ذلك الثبات هو روحه فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأجزل له المثوبة يوم الدين. ![]() المصادر والمراجع: • سير أعلام النبلاء: (20/ 212). • البداية والنهاية: (12/ 344). • الصلة: (2/ 453). • وفيات الأعيان: (3/ 483). • الإحاطة: (4/ 222). • الديباج المذهب: (2/ 46). • نفح الطيب: (7/ 333). • شذرات الذهب: (4/ 138). • النجوم الزاهرة: (5/ 285). • طبقات الحفاظ: (481). • تذكرة الحفاظ: (4 /1304). • دولة الإسلام في الأندلس: (4/ 461). ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009 م ![]()
__________________
|
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الإمام شهاب الدين الكوراني شريف عبدالعزيز الزهيري (27) ![]() العلاقة بين أئمة الدنيا وأئمة الدين دائمًا ما تكون علاقة حساسة، يشوبها الكثير من المخاطر، ذلك أن إمام الدنيا عادة ما يطلب من إمام الدين الغطاء الشرعي لأفعاله وأقواله وقراراته، بغض النظر عن مدى قربها أو بعدها من أحكام الشريعة، وإمام الدين عادة ما يطلب من إمام الدنيا أن يستجيب لنصحه وإرشاده، ويعمل بتوجيهاته، وعندما تصطدم الرغبات، ويختلف الإمامان، تقع المحن، وتنزل البلايا، وتبرز المخاطر، والتي عادة يكون لإمام الدين الجانب والحظ الأوفر من تلك المحن، وهذه محنة واحد من هؤلاء الأئمة الأعلام الذين كانوا بمثابة الحكام، ثم قام بهم سوق المحن، فتشردوا في البلاد، ولكن ظلوا على الثبات حتى الممات. التعريف به: ![]() هو الشيخ العلامة، مفتى الدولة العثمانية، مربى الملوك والسلاطين، الإمام شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الشهرزوري الهمداني التبريزي الكوراني ثم القاهري، عالم بلاد الروم (الدولة العثمانية). ولد سنة 813هـ بكوران من أعمال تبريز (الآن في إيران)، وبها تلقى علومه الأولى، وتضلع كما هي عادة أهل تلك البلاد في علم أصول الفقه والمنطق والكلام واللغة وعلومهما، وتوسع في العقليات، وبرع في المناظرات، وشارك في الفقه، حتى ضاقت بلدته الصغيرة على محصوله العلمي الغزير، فقرر الخروج إلى رحلة علمية كما هي عادة طلاب العلم فرحل إلى دمشق وهو دون العشرين، فاشتغل على علمائها، حتى نال مراده، وقطع مأربه منها، ثم توجه إلى القاهرة، وهي وقتها حاضرة العالم الإسلامي، وعاصمة دولة المماليك، وبها أساطين العلماء، وكبار الأئمة، وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر العسقلاني. وفي القاهرة أكب الكوراني على تحصيل العلم، وانقطع عن الاشتغال، ولازم حضور مجالس العلماء، ومازال صيته يعلو ويعلو، حتى طارت شهرته للسلطان المملوكي الظاهر جقمق، فاصطفاه لمجلسه، وقربه من بساطه، فصار من خواصه، وكان الكوراني ظريفًا مطبوعًا، طلق اللسان، بارعًا في البيان، عنده حدة، وشدة في المناظرة، لا ينافق سلطانًا ولا أميرًا، وهي خصال أحبها السلطان جقمق المملوكي، وإن كانت بعدذلك ستورثه سلسلة المحن المتعاقبة في حياته. ولم يكن للكوراني مؤلفات كثيرة، بل كانت جل أعماله العظيمة في مجال الدعوة والإرشاد والقضاء، وله شرح لصحيح البخاري، وتفسير للقرآن الكريم أكثر فيه من التعقب على جلال الدين المحلي في تفسيره (الجلالين)، وله قصيدة في علم العروض نحو ستمائة بيت، وقد أنشأ في إستنبول جامعًا كبيرًا ومدرسة، سماها دار الحديث. محنته في القاهرة: ![]() ارتفع شأن الكوراني في القاهرة، وصار من جلساء السلطان نفسه، وذلك في فترة وجيزة من الزمان، مما أوغر صدور بعض المشايخ، ومن ينتسب إلى العلم، وممن كان يحظى بعلمه عند السلطان، وقد وجدوا من الكوراني منافسًا لهم في مجالس السلطان، ويشاركهم في اهتمامات السلطان، فتحركت الأحقاد والحسد والغيرة المذمومة في صدورهم، وبدأوا في التحريض على الكوراني، والخوض في حقه، مستغلين حدته المشهورة. وجد خصوم الكوراني وحساده فرصة سانحة لا تفوت في الحادثة التي وقعت للكوراني مع أحد شيوخ الحنفية، وهو حميد الدين النعماني، وكان ذلك الرجل يدعي انتسابه للإمام أبي حنيفة النعمان، وقد تباحثا في مسألة فقهية، وطالت بينهما المناظرة، وعلت حجة الكوراني على حجة النعماني، فما كان رد فعل النعماني إلا أن شتم الكوراني وسب آبائه، فرد عليه الكوراني السباب والشتم، فذهب خصوم الكوراني وحساده إلى قاضي القضاة والسلطان المملوكي، واشتكوا أن الكوراني قد سب الإمام أبا حنيفة، وحرضوا على محاكمته وتأديبه، فعقد قاضي القضاة له مجلس تأديب، وحكموا عليه بالجلد ثمانين جلدة، وذلك بمحضر من السلطان نفسه، ثم أمر بنفيه خارج البلاد، على الرغم من أن الكوراني مظلوم، لا ذنب له، وإنما رد على من شتمه، كما أن نسب الشيخ حميد الدين مشكول فيه، ولم يقصد الكوراني أبدًا أن يسب أبا حنيفة، فالكوراني من أتباع المذهب الحنفي؛ فكيف يشتم إمامه وشيخه. ![]() المنح بعد المحن: خرج الكوراني من بلاد مصر مثقلاً بالهموم والأحزان جراء المحنة التي تعرض لها فلقد شُتِمَ وأهين وضرب، وفرقوا كرامته وعرضه، ثم نفوه خارج البلاد، مثل المجرمين، فقرر التوجه إلى الدولة العثمانية، لأنه سمع عن عدل سلطانها المجاهد مراد الثاني، والذي كان له اهتمام أيضًا بالعلم والعلماء والأدباء والشعراء، وكان كما وصفه يوسف أصاف صاحب كتاب تاريخ سلاطين آل عثمان: تقيًا صالحًا، وبطلا صنديدًا، محبًا للخير، ميالا للرأفة والإحسان. استقر الشيخ الكوراني في أدرنة عاصمة الدولة العثمانية، وذلك عام 840هـ، وأخذ في الاشتغال بالتعليم والتدريس، ونشر علوم اللغة العربية، فأخذ صيته ينتشر بين أهل أدرنة شيئًا فشيئًا؛ فتهافتوا على حضور دروسه ومجالسه، وتسابق الأغنياء على طلبه لتأديب وتربية أبنائهم، وقد لقبوه بالمولى الكوراني بسبب مهارته في تربية الأولاد، وقدرته الفائقة على تعديل سلوكياتهم، ورفع مستوياتهم العقلية والإيمانية. وصلت أخبار شهرة الكوراني إلى السلطان العثماني (مراد الثاني)؛ فطلبه لتربية ولده ![]() وولي عهده من بعده (محمد خان) الملقب بالفاتح، وكان صبيًا في العاشرة، أو الثانية عشرة من العمر، وكان السلطان مراد الثاني يهيئُ ولده محمدًا لمعالى الأمور وعظائمها، فعينه أميرًا على ولاية (مغنيسيا)، وانتدب له العديد من المعلمين والمربين لإعداده وتعليمه، ولكن الأمير محمدًا كان صبيًا مثل باقي الصبيان؛ مشغولا باللعب واللهو كعادة من هو في سنه، فلم يمتثل لأوامرهم، وهم بدورهم لم يضغطوا ويشتدوا عليه، خوفًا من هيبة أبيه، فلما رأى السلطان (مراد الثاني)، ولده الذي جعله ولي عهده وخليفته من بعده لم يتعلم شيئًا، ولم يقرأ أو يحفظ شيئًا، اشتد غضبه وسأل عن أفضل معلمي دولته؛ فقيل له رجل غريب من أهل تبريز اسمه (المولى الكوراني)؛ فأحضره مراد الثاني، ووضح له صورة الأمر، وطلب منه أن يشتد في تربية ولده محمد، وذلك سنة 844هـ. وصل الكوراني إلى مغنيسيا، ودخل على الأمير محمد، فوجده واقفًا أمام المرآة يرجل شعره، فقال له الكوراني - وكان في يده عصا غليظة -: أرسلني والدك للتعليم، والضرب إذا خالفت أمرى، فضحك الأمير محمد، وسخر منه، واستمر في ترجيل شعره، فما كان من الكوراني إلا أن ضربه ضربًا شديدًا، حتى خاف منه الأمير محمد بشدة، وأخذ في مذاكرة دروسه، وختم القرآن في مدة يسيرة، ولقد تأثر الأمير محمد بشيخه الكوراني بشدة، وأثر بالأخص في توجيهاته وأفكاره، ولقد أثمرت تلك التربية القوية على محمد خان، فصار بعد ذلك محمد فاتح القسطنطينية، أعظم سلاطين الدولة العثمانية. ظل خبر الكوراني في علو وارتفاع حتى تولى السلطان محمد الثاني قيادة الدولة ![]() العثمانية؛ فاختاره مع جلة من العلماء لتولي أهم مناصب الدولة؛ إذ عين الكوراني في منصب قاضي العسكر، وهو أعلى المناصب الدينية وأهمها في الدولة العثمانية، وقد اشترك مع السلطان محمد الثاني في فتح القسطنطينية سنة 857هـ، وكان الكوراني شديدًا في الحق، لا يهاب فيه أحدًا من الناس، مهما كانت درجته أو منصبه، حتى إنه كان يخاطب السلطان العثماني (محمد الثاني) باسمه مجردًا، ويصافحه ولا يقبل يده، بل بعزة العالم، وأستاذية المربي المعلم، يقبل السلطان هو يده، ولعل تلك المكانة العظيمة التي وصل إليها الكوراني قد جلبت عليه نفس المحن التي تعرض لها مع السلطان المملوكي جقمق. محنة الكوراني مع الفاتح: كان للكوراني منزلة عظيمة عند السلطان محمد الفاتح، وقد تبوأ الإمام أكبر المناصب الدينية في الدولة العثمانية: قضاء العسكر، ثم منصب الإفتاء، ومن شدة حب الفاتح للإمام الكوراني عرض عليه منصب الوزارة، أو الصدر الأعظم، وفوض إليه شؤون دولته كلها، ولكن الكوراني رفض واقتصر على منصب الإفتاء، والمرجعية الدينية لشؤون الدولة، بالإضافة لمنصب قضاء العسكر. كان الكوراني شديدًا، جريئًا، باذلا للنصيحة، غير مستتر بها، وكان شدته على السلطان، وذلك بسطوة المعلم على تلميذه، والوالد على ولده، فكان الفاتح إذا أصدر مرسومًا فيه مخالفة للشرع كان الكوراني يمزقه، ويشتد على الفاتح ويقول له: مطعمك حرام، وملبسك حرام، فعليك بالاحتياط، وكانت تلك الشدة تعمل في نفس الفاتح فعل السحر، ![]() ولكن مع تكرارها، وتصاعد وتيرتها، بدأ الفاتح يستثقل تلك الشدة والنصيحة، حتى حدث ذات يوم أن بعث الفاتح مرسومًا للكوراني كيما يصدق عليه، فوجد فيه الكوراني مخالفة للشرع، فمزقه وضرب الخادم الذي جاء به، فشق ذلك على السلطان محمد الفاتح، وغضب من فعل الكوراني، وأمره بعزله من منصب قضاء العسكر. وقعت الجفوة والنفور بين الكوراني والفاتح، وهجر الكوراني مجالس الفاتح، ولم يحضر عنده، وقابل الفاتح ذلك بالإعراض والتجاهل التام، وكما قيل: كثرة المساس تُفقد الإحساس، ولم يحتمل الكوراني تلك المحنة، بعد أن صار مهجورًا خامل الذكر؛ فقرر الرحيل إلى القاهرة حيث سلطانها المملوكي قايتباي، وكان محبًا للإمام الكوراني؛ فاستقبله خير استقبال، وأكرمه غاية الإكرام، وكان بين محمد الثاني وقايتباي نوع من المنافسة والحسد، باعتبار كليهما من أكبر زعماء العالم الإسلامي وقتها، فقابل قايتباي الكوراني تلك المقابلة العظيمة للنكاية من طرف خفي في السلطان محمد الفاتح، واستعمله في أكبر المناصب، وجعله من خاصة رجاله، وأقرب مستشاريه. الاختيار الصعب: ظل الشيخ الكوراني مقيمًا في كنف السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، على أفضل حال، وأكرم منزلة، ولكنه في نفس الوقت كان حزينًا لفراق الدولة العثمانية، ومجافاة السلطان الفاتح له، وكان للكوراني منزلة عظيمة جدًا عنده، فلما وقعت المحنة، واضطر الكوراني للرحيل كان ذلك شديد الوقع على قلبه ونفسه لذلك؛ فعلى الرغم من الإكرام الزائد، والإحسان الكبير الذي وجده الكوراني عند قايتباي، إلا إن ذلك لم يعوضه عما كان عليه عند الفتح. ![]() مضت الشهور على الشيخ الكوراني وهو في صحبة فايتباي وبلاطه، وهدأت نفسيته، وخفت أحزانه من جراء محنته، ومضى في دروسه ومجالسه العلمية، واشتغل عليه الطلبة، ولم يكن يعلم أن تلك الفترة الماضية لم تكن شديدة عليه وحده، بل كانت أشد أثرًا وإيلامًا على قلب السلطان الفاتح نفسه، حيث ندم على فعلته مع الشيخ الكوراني، وشعر بفقدان المربي والموجه، والناصح الأمين الذي كان بمثابة الوالد؛ لذلك قرر الفاتح أن يصحح غلطته، ويكفر عن فعلته مع الكوراني؛ فأرسل إليه بخطاب يفيض بالاعتذار والأسف، ويطلب منه على وجه الاستعطاف لا الاستعلاء أن يرجع إلى الدولة العثمانية. وصل الخطاب للشيخ الكوراني فقرأه وتدبر معانيه، ثم عرضه على السلطان المملوكي قايتباي ليأخذ رأيه، ويعرف مراده، وذلك من باب رعاية حق الإحسان الذي قام به قايتباي معه؛ إذ لا يصح أن يقطع الكوراني في ذلك الأمر وحده، ويتجاهل من آواه وأكرمه وأحسن إليه، فليس هذا من مروءة المسلمين؛ فما بالك بالعلماء العاملين، وعندما عرض الكوراني - وكان حريصًا على بقائه والانتفاع بعلمه وعمله - فقال له: لا تذهب إليه؛ فإني أكرمك فوق ما يكرمك هو. عندها أصبح الشيخ الكوراني بين خيارين صعبين: وماذا يفعل؟ فهواه ورغبته في العودة إلى الدولة العثمانية، التي كانت وقتها من أقوى وأفضل الدول الإسلامية، وفي نفس الوقت سلطان الدولة المملوكية حريص على بقائه، مؤثر لصحبته، وقد ذكره بالإكرام الذي لاقاه بعد المحنة، والعلاقات سيئة بين الفاتح وقايتباي، ومثل هذه القصة ستزيدها سوءًا، لذلك كان الاختيار صعبًا، والقرار مرًا. ![]() وبذكاء العلماء، وفطنة المربين والمعلمين الأذكياء، قال الكوراني لقايتباي عندما قال له: أنا أكرمك فوق ما يفعل هو، قال له: (نعم هو كذلك) ليستل ثورة الغضب من قلب قايتباي، ويشعره بقيمة إكرامه وإحسانه، فترضى نفسه، ويهدأ قلبه، ثم قال له شارحًا أسباب اختياره الرحيل إلى الدولة العثمانية: إن بيني وبين الفاتح محبة عظيمة كما بين الوالد والولد، وهذا الذي جرى بيننا شيء آخر، وهو يعرف ذلك مني، ويعرف أني أميل إليه بالطبع؛ فإذا لم أذهب إليه ظن وفهم أن المنع من جانبك؛ فتزداد العداوة بينكما وتستحكم؛ فاستحسن السلطان قايتباي هذا الكلام، وأذن له في الرحيل، وأعطاه مالاً جزيلاً يستعين به على رحلته الطويلة. عاد الكوراني إلى الدولة العثمانية؛ فاستقبله الفاتح بنفسه، وأظهر من مظاهر تعظيمه واحترامه ما لم يقع مثله مع الملوك والعظماء، وأعاده إلى مناصبه كلها - قضاء العسكر والإفتاء - فشغلهما قليلاً، ثم نزل عنهما رغبة منه في التفرغ للعلم، وفي تلك الفترة ألف الكوراني العديد من الشروح، فشرح جمع الجوامع، وعمل تفسيرًا للقرآن كثر تعقبه فيه لجلال الدين المحلي المفسر (صاحب تفسير الجلالين)، وشرح صحيح البخاري، وعمل قصيدة في عروض اللغة نحو ستمائة بيت، وانشأ بإستانبول جامعًا كبيرًا، ومدرسة علمية سماها دار الحديث، وأقبلت عليه الطلبة، وانتشر علمه وطريقته في التعليم والتربية بين الناس وتقلدوها، وظل في سعادة وأتم حال حتى مات على مكانته وجلالته سنة 893هـ، وصلى عليه السلطان بايزيد الثاني نفسه، ومعه رجال الدولة، وكبار الناس وعامتهم، وترحموا عليه وعلى علمه. ![]() المصادر والمراجع • الضوء اللامع: (1/ 241). • البدر الطالع: (1/ 39). • المختار المصون: (1/ 339). • الشقائق النعمانية: (50). • تاريخ الدولة العثمانية: (43). • الدولة العثمانية - عوامل نهوض وسقوط: (112، 115). ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الإمام ابن أبي العز الحنفي شريف عبدالعزيز (28) ![]() من أكثر الشخصيات العلمية إثارة للجدل في التاريخ الإسلامي؛ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -ذاك العالم الموسوعي الكبير الذي ترك أثراً بالغاً في الحياة العلمية والسياسية بآرائه وفتاويه ومواقفه العلمية والعملية في القرن الثامن الهجري، وجهاده في شتى الميادين، وجهوده التربوية والسلوكية والأخلاقية والاجتماعية والتي تبلورت في شكل مدرسة متميزة وخاصة جداً في التراث الإسلامي عُرفت باسم مدرسة " ابن تيمية " والتي صار لها أتباع وتلاميذ وأنصار في شتى بقاع العالم، تخرجوا على تقريراته العلمية وتحقيقاته التراثية واختياراته العقدية ومنهجه التربوي والسلوكي في إصلاح المجتمع والحفاظ على هويته وانسجامه، وكانوا في المحصلة النهائية ترجمة حية لفكر ابن تيمية وعلومه أبقت مدرسته ومنهجه حياً حاضراً متفاعلاً مع وسطه وبيئته ومؤثراً فيها حتى اليوم. ![]() وكما كانت حياة شيخ الإسلام ابن تيمية عبارة عن سلسلة متتالية من المحن والابتلاءات لأنه جعل من دعوته شعاراً جامعاً ودواءً شافياً لعلل الأمة بالعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة من عقائد ونظم وسلوكيات ومجتمعات، وهذا بطبيعة الحال قاد ابن تيمية لصراع مرير مع سدنة التقليد والجمود وحرّاس الخرافة وأرباب الكلام والنظر والفلسفة، فإن تلاميذه من بعده ومن تأثر بمنهجه وسار على دربه العلمي والعملي تعرض لنفس ما تعرض له الشيخ من محن وابتلاءات ومواجهات قوية وعنيفة وصلت لحد التنكيل والعزل من الوظائف والمنع من التدريس انتهاءً بالحبس والاعتقال حتى الموت. وهذه قصة واحد من أهم تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن كان له الفضل -بإذن الله- في الحفاظ على تراث الشيخ ونشره بين الناس على الرغم من كل التضيق والحصار المفروض على مؤلفات الشيخ وإنتاجه العلمي. قال الحافظ ابن عبد الهادي -رحمه الله-: "لما حُبس (ابن تيمية) تفرّق أتباعه، وتفرّقت كتبه، وخوّفوا أصحابه من أن يظهروا كتبه، وذهب كل أحد بما عنده وأخفاه، ولم يظهروا كتبه، فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه، أو يهبه، وهذا يخفيه ويودعه، حتى إن منهم من تسرق كتبه، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها". هذه قصة الإمام ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية الشهيرة ونشأته العلمية وحياته ومنهجه ومؤلفاته ومحنته التي جاءت استمراراً لحالة الاضطهاد التي مارسها أصحاب الطرق الصوفية والفرق الكلامية ضد أتباع المنهج السلفي عبر العصور إلى وقتنا الحاضر. ![]() مولده والتعريف به: هو الإمام الكبير صدر الإسلام أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شرف الدين أبي البركات محمد بن عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء الأذرعي أصلاً الدمشقي موطناً المعروف بن أبي العز؛ الحنفي مذهباً، السلفي الأثري عقيدة وعملاً. ولد في الثاني والعشرين من شهر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة من الهجرة بدمشق العامرة فترة حكم المماليك البحرية، وبعد ثلاثة سنوات فقط من وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. وُلد في أسرة علمية عريقة في العلم والتدريس والافتاء والقضاء، أسرة تولت زعامة المذهب الحنفي وصار أبناؤها مشايخ المذهب وأئمته، فأبوه وجده وأبو جده كلهم تولوا منصب القضاء والإمامة والخطابة والحكم والنيابة عن الولاة، وعلى رجال هذه الأسرة العلمية دارت الفتوى وأُسندت خلاصة المذهب الحنفي. لذلك كان من الطبيعي أن يكون الإمام ابن أبي العز الحنفي على درب أسلافه ونهج أسرته في طلب العلم والبراعة فيه، ناهيك عما أودعه الله-تعالى-فيه من استعداد فطري لافت للغوص في بحر العلم، وذكاء متوقد وحافظة قوية، ملكات التميز من حسن التصور والبناء والاستنباط، حتى ملك الآلة وبرع فيها، فجلس للإفتاء والتدريس، وقعد للتأليف والتصنيف، وتبوء المناصب من القضاء والنيابة، وقد أقر له علماء المذهب الحنفي بالرئاسة وزعامة المذهب حتى صار مفزعهم عند ملمات الفتوى وجسام النوازل، فلا يخرجون عن رأيه. تأثره بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية: ![]() على الرغم من انتماء ابن أبي العز للمذهب الحنفي الذي يميل معظم أتباعه إلى مدرسة أبي منصور الماتريدي في العقيدة، والتقليد التام للإمام أبي حنيفة -رحمه الله-إلا إن ابن أبي العز كان سلفي المعتقد على نهج القرون الفاضلة ومتأثراً بمدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التي غيرت شكل الحياة العلمية في بلاد الإسلام بعد سنوات طويلة من هيمنة المدراس الكلامية والطرق الصوفية على الساحة العلمية ومنابرها ومدراسها. وكان السبب في تأثر ابن أبي العز الحنفي بالاتجاه التيمي هو تتلمذه على يد الحافظ الكبير عماد الدين ابن كثير الدمشقي الشافعي صاحب البداية والنهاية والتفسير الشهير، وكان من خواص شيخ الإسلام ابن تيمية وممن امتحن بسببه وأوذي معه. فقد غرس ابن كثير -رحمه الله- في عقل تلميذه ابن أبي العز مبدأ الاتباع والتخلص من ربقة التقليد المذموم، وهو ما ظهر جلياً بعد ذلك في مصنفات ومؤلفات ابن أبي العز، مما جلب عليه عداوة سدنة التقليد وشيوخ المذاهب، على الرغم من كونه رأس الحنفية في زمانه. أهم مؤلفاته: ![]() 1- شرح العقيدة الطحاوية، وهو أهم ما كتب، وبه طارت شهرة ابن أبي العز ونال القسط الأوفر من القبول والاشتهار عبر العصور إلى وقتنا الحاضر، وأيضا هو الكتاب الذي بث فيه تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ووضعه في ثنايا شرحه على عقيدة الطحاوي، وهو أيضا الكتاب الذي جلب عليه التشنيع من مبتدعة الفرق الكلامية فاتهموه التجسيم والحشو والتشبيه إلى آخر لائحة الاتهامات التي وُجهت من قبل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-. 2- الـتـنـبـيـه على مـشـكـلات الـهـدايـة، وهو الكتاب الذي اعتبره سدنة التقليد جرحاً وليس شرحاً لكتاب الهداية للإمام المرغيناني وهو من أمهات كتب المذهب، وقد بان في هذا الكتاب نفس ابن أبي العز الفقهي واستقلاله بنصرة الدليل قبل أقوال المذهب. 3 - رسالة تتضمن الإجابة على مسائل فقهية منها: صحة الاقتداء بالمخالف، حكم الأربع بعد أداء الجمعة. 4- النور اللامع فيما يعمل به في الجامع-يقصد الأموي-من بدع ومخالفات. 5- الاتـبـاع، وهو من كتبه الهامة التي أظهرت اتجاهه السلفي في الاستدلال، وهو رد على الرسالة التي ألفها معاصره أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد البابرتي الحنفي المتوفى سنة 786 هـ، وكان رأس الحنفية في زمانه وذو حظوة كبيرة جداً عند سلطان الوقت؛ الظاهر برقوق، ورجح فيها وجوب تقليد مذهب أبي حنيفة، وحض على ذلك، وقد وجد فيها ابن أبي العز مواضع مشكلة، فأحب أن ينبه عليها خوفا من التفرق المنهي عنه، واتباع الهوى الردي، وقد كان موفقا كل التوفيق في هذا الرد. ![]() وقد قال في مقدمة رسالته: "أما بعد : فإني وقفت على رسالة لبعض الحنفية رجح فيها تقليد مذهب أبي حنيفة وحض على ذلك ووجدت فيها مواضع مشكلة فأحببت أن أُنَبِّه عليها خوفا من التفريق المنهي عنه واتباع الهوى المردي امتثالا لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) وقوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيئا) وقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) وقوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) زُبُراً : أي كتبا . وقوله تعالى: (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم). وقوله تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) ولقوله-صلى الله عليه وسلم-في حديث العرباض بن سارية-رضي الله عنه-: "فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأمثال ذلك في الكتاب والسنة كثيرة في النهي عن التفرق واتباع الهوى". ويتضح من هذه المقدمة سلفية ابن أبي العز واستقلاله الفقهي وميله لتقديم الدليل على أقوال المذاهب، وهو ما أوقعه في محنته الشهيرة التالي ذكرها. بداية المحنة ![]() قبل أن نشرع في الحديث عن محنة الإمام ابن أبي العز الحنفي يجب أن نعرف أنهالم تكن أول ولا آخر محنة تعرض لها أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ممن انتهج منهج السلف الصالح في العقائد والفقه من أنصار الاستقلال الفقهي وفقه الدليل. فهذه المحنة كانت فصلاً من فصول كثيرة ممتدة إلى وقتنا الحاضر، ومناكفات خرجت إلى طور استباحة الأذى والقتل والسجن من جانب الصوفية والأشعرية-ألد خصوم مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية-بحق تلاميذه والمتأثرين بمنهجه من أتباع هذه المدرسة. فالمحنة لم تكن خلافاً علمياً عقائدياً كان أم فقهياً، بل كانت تصفية حسابات ومحض انتقام ورغبة عارمة في الوأد والقضاء على هذا المنهج النقي. والسرد التاريخي لرواية فصول المحنة يكشف لنا عن حقيقة أبعادها ودلالاتها. قال الحافظ ابن حجر في حوادث سنة (784هـ) في كتابه (إنباء الغمر): "وفيها كائنة الشيخ صدر الدين على ابن العز الحنفي بدمشق، وأولها أن الأديب علي بن أيبك الصفدي عمل قصيدة لامية على وزن بانت سعاد وعرضها على الأدباء والعلماء فقرظوها ومنهم صدر الدين علي بن علاء الدين بن العز الحنفي، ثم انتقد فيها أشياء فوقف عليها علي ابن أيبك المذكور فساءه ذلك ودار بالورقة على بعض العلماء فأنكر غالب من وقف عليها ذلك وشاع الأمر فالتمس ابن أيبك من ابن العز أن يعطيه شيئا ويعيد إليه الورقة فامتنع، فدار على المخالفين وألبهم عليه، وشاع الأمر إلى أن انتهى إلى مصر، فقام فيه بعض المتعصبين إلى أن انتهت القضية ![]() للسلطان فكتب مرسوماً طويلاً، منه: بلغنا أن علي بن أيبك مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة وأن علي بن العز اعترض عليه وأنكر أموراً منها التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والقدح في عصمته وغير ذلك وأن العلماء بالديار المصرية خصوصاً أهل مذهبه من الحنفية أنكروا ذلك، فتقدم بطلبه وطلب القضاة والعلماء من أهل المذاهب ونعمل معه ما يقتضيه الشرع من تعزير وغيره. وفي المرسوم أيضاً: بلغنا أن جماعة بدمشق ينتحلون مذهب ابن حزم وداود ويدعون إليه، منهم القرشي وابن الجائي والحسباني والياسوفي، فتقدم بطلبهم فإن ثبت عليهم منه شيء عمل بمقتضاه من ضرب ونفي وقطع معلوم، ويقرر في وظائفهم غيرهم من أهل السنة والجماعة. وفيه: وبلغنا أن جماعة من الشافعية والحنابلة والمالكية يظهرون البدع ومذهب ابن تيمية فذكر نحو ما تقدم في الظاهرية، فطلب النائب القضاة وغيرهم فحضر أول مرة القضاة ونوابهم وبعض المفتين فقرأ عليه المرسوم، وأحضر خط ابن العز فوجد فيه قوله: حسبي الله، هذا لا يقال إلا لله، وقوله: اشفع لي، قال: لا يطلب منه الشفاعة، ومنها: توسلت بك، قال: لا يتوسل به، وقوله: المعصوم من الزلل، قال: إلا من زلة العتاب، وقوله: يا خير خلق الله، الراجح تفضيل الملائكة، إلى غير ذلك، فسئل فاعترف، ثم قال: رجعت عن ذلك وأنا الآن أعتقد غير ما قلت أولاً، فكُتب ما قال وانفصل المجلس، ثم طلب بقية العلماء فحضروا المجلس الثاني وحضر القضاة أيضاً، وممن حضر: القاضي شمس الدين الصرخدي، والقاضي شرف الدين الشريشي، والقاضي شهاب الدين الزهري، وجمع كثير، فأعيد الكلام فقال بعضهم: يعزر، وقال بعضهم: ما وقع معه من الكلام أولاً كاف في تعزير مثله، وقال القاضي الحنبلي: هذا كاف عندي في تعزير مثله، وانفصلوا ثم طلبوا ثالثاً وطلب من تأخر وكتب أسماؤهم في ورقة، فحضر القاضي الشافعي، وحضر ممن لم يحضر أولاً: أمين الدين الأتقى، وبرهان الدين ابن الصنهاجي، وشمس الدين ابن عبيد الحنبلي وجماعة، ودار الكلام أيضاً بينهم، ثم انفصلوا ثم طلبوا، وشدد الأمر على من تأخر فحضروا أيضاً وممن حضر: سعد الدين النووي، وجمال الدين الكردي، وشرف الدين الغزي، وزين الدين ابن رجب، وتقي الدين ابن مفلح، وأخوه، وشهاب الدين ابن حجي، فتواردوا على الإنكار على ابن العز في أكثر ما قاله ثم سئلوا عن قضية الذين نسبوا إلى الظاهر وإلى ابن تيمية فأجابوا كلهم أنهم لا يعلمون في ![]() المسمين من جهة الاعتقاد إلا خيراً، وتوقف ابن مفلح في بعضهم، ثم حضروا خامس مرة واتفق رأيهم على أنه لا بد من تعزير ابن العز إلا الحنبلي، فسئل ابن العز عما أراد بما كتب؟ فقال: ما أردت إلا تعظيم جناب النبي صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره أن لا يعطى فوق حقه، فأفتى القاضي شهاب الدين الزهري بأن ذلك كاف في قبول قوله وإن أساء في التعبير، وكتب خطه بذلك، وأفتى ابن الشريشي وغيره بتعزيره، فحكم القاضي الشافعي بحبسه فحبس بالعذراوية، ثم نقل إلى القلعة، ثم حكم برفع ما سوى الحبس من التعزيرات، ونفذه بقية القضاة، ثم كتبت نسخة بصورة ما وقع وأخذ فيها خطوط القضاة والعلماء وأرسلت مع البريد إلى مصر، فجاء المرسوم في ذي الحجة بإخراج وظائف ابن العز، فأخذ تدريس العزية البرانية شرف الدين الهروي، والجوهرية على القليب الأكبر: واستمر ابن العز في الاعتقال إلى شهر ربيع الأول من السنة المقبلة. وأحدث من يومئذ عقب صلاة الصبح التوسل بجاهالنبي صلى الله عليه وسلم، أمر القاضي الشافعي بذلك المؤذنين ففعلوه". ومن خلال هذا النص التاريخي لمحنة الإمام ابن أبي العز يتضح لنا عدة أمور: 1- أن المحنة بدأت بتأليب وتحريض أديب لم يقبل أن ينتقد أحد قصيدته على الرغم من أنه نفسه قد طلب من الإمام تقييمها وإبداء الرأي فيها، فكتب فيها ابن أبي العز كتابة حسنة من ناحية البلاغة والأدب والشعر وهو ما كان يفترض أن يُفرح الشاعر، ولكنه لما وجد انتقادات أخرى من ناحية العقيدة لم يعجبه الأمر، وشعر أن هذه الانتقادات سوف تتسبب في بوار قصيدته وكسادها في سوق الشعر، فدار بها على المخالفين لابن أبي العز من الصوفية والأشاعرة، ثم حاول مساومة الإمام وطلب منه ![]() مالاً نظير أن يعيد له الورقة التي كتب فيها الاعتراضات العقدية على القصيدة وهو ما رفضه الإمام بشدة، مما جعل الشاعر يعمل على تأليب الناس على الإمام وإشاعة الخبر في كل مكان حتى أدى لاستفحال الأمر ووصوله من دمشق إلى القاهرة!! فالمحنة بدأت لغرض دنيوي ونفسي محض، بدأت برفض النقد ثم محاولة المتاجرة واستغلالها في تحقيق منافع دنيوية محضة. 2- أن المحنة لم تكن قاصرة على ابن أبي العز الحنفي وحده، بل كانت محاكمة تفتيش لاتجاه ومنهج بأكمله، وهذا ظاهر من استدعاء آخرين للتحقيق معهم في القضية لا علاقة لهم بها سوى أنهم من تلاميذ وأتباع مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية!! من شتى المذاهب الفقهية ما ذكر ابن حجر في تاريخه. ولبيان الإصرار على المحاكمة تم عقد خمس مجالس متتالية استدعي فيها كل من حامت عليه شبهة الانتماء لابن تيمية ولو من بعيد، وتم تهديد الجميع بالعزل من الوظائف وقطع الأرزاق والحبس وربما القتل باسم التعزيز، حتى أنهم قد أجبروهم على كتابة خطوط بأسمائهم وبانتمائهم للعقيدة الأشعرية!! ![]() 3- أن العلماء والقضاة من المذهب الشافعي كانت لهم صولة وحظوة عند سلاطين المماليك، وجلّ الشافعية في ذلك الوقت كانوا أشاعرة يكرهون مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية ويسعون للقضاء عليهم قضاءً مبرماً، وقد ظهر ذلك من قيام اثنين من أكبر علماء الشافعية في هذا الوقت وهما سراج الدين البلقيني الملقب بشيخ الإسلام، والحافظ العراقي، وكلاهما من كبار علماء الإسلام ولهما جهود وسعي محمود في العلم والتصنيف، ومع ذلك سعى كلاهما في استغلال المحنة للنيل من أنصار العقيدة السلفية والقضاء تماماً على الاتجاه التيمي في العلم والفهم، حتى أن سراج الدين البلقيني قد أطلق عبارات الكفر واللعن بحق ابن أبي العز في هذه المحنة في رد طويل كتبه وانتشر هذا الرد في كل مكان. 4- على فرض خطأ ابن أبي العز في بعض مآخذه على القصيدة، فإن اعتراضاته كانت علمية محضة وليس فيها بمبتدع، بل سبقه علماء تكلموا في ذات المسائل واعترضوا عليها، وما تعرضوا لمثل ما تعرض له ابن أبي العز من التنكيل والعزل والحبس، مما يبين وجود نية مبيتة للثأر وتصفية الحسابات مع ابن أبي العز، وهو ما توضحه عبارات بعض المؤرخين كتغري بردي الذي وصف بعض من تحزب ضد ابن أبي العز بأن له غرض في التنكيل به وعزله من وظائفه ليثبوا عليه، وعلى الرغم من تراجع ابن أبي العز عن انتقاداته للقصيدة واعترافه-مضطراً ومكرهاً- أمام المجلس بهذا الخطأ، إلا إنهم اصروا على التنكيل به وعزله من وظائفه وتجريده من مناصبه وحبسه مع المجرمين في المطبق، بل وصل الأمر لئن يقوم أحد خصومه بتأليب أهل زوجته عليه حتى ألزموه طلاقها، ثم تزوجها هذا الخصم العدو بعد ذلك مما أصاب الإمام بحزن وغم كبير وأثر على نفسيته بشدة، مما يؤكد على أنها لم تكن محاكمة علمية فقط، بل ثأر وانتقام وتنكيل لا مبرر له. 5- ما قام به القاضي الشافعي في مصر بعد انتهاء هذه المحنة يؤكد على طبيعتها وغرضها الأصلي؛ فقط النكاية والسعاية في وأد الفكر السلفي واقتلاعه من بلاد الإسلام ولو بنشر البدع المنكرة. حيث أمر المؤذنين في صلاة الفجر بالتوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم-عقب الآذان في بدعة شنيعة في دلالة على انتصار التيار الصوفي الأشعري في هذه المحنة، وهي البدعة التي اقتلعت بفضل الله-عز وجل-من بلاد الإسلام فلم يعد لها ذكر ولا وجود. نهاية المحنة: ![]() ظل الإمام ابن أبي العز في مسجوناً عدة شهور وقد ضاقت عليه الدنيا، ففقد وظائفه، وتشوهت سمعته، وانصرف عنه الطلبة، وفارقته زوجته لتكون تحت ألد خصومه، ولكن فرج الله-تعالى-قريب، فقد خرج من محبسه بعد أربعة شهور، فانقطع في بيته عدة سنوات يعاني من مرارة المحنة حتى أذن الله-تعالى-في ردّ اعتباره سنة 791 هجرية على يد الأمير سيف الدين يَـلـبُـغـا بن عبد الله الناصري الأتابكى أحد كبار الأمراء فعاد إلى وظائفه، فخطب بجامع الأفرم على عادة أهل بيته أبيه وجده، ودرس بالمدرسة الجوهرية المخصصة للحنفية، ويشاء السميع العليم أن تأتيه الوفاة بعد ذلك بقليل في ذي القعدة من سنة 79هجرية ليموت معززاً مكرماً بعد أن تأذى كثيراً من محنة ظالمة جائرة أُريد بها محاكمة مدرسة واتجاه بأكمله وليس شخصاً بعينه. ![]()
__________________
|
|
#4
|
||||
|
||||
![]() محنة الإمام برهان الدين البقاعي شريف عبدالعزيز (29) ![]() لقد أثمرت دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مدرسة كان روادها من تلاميذه الأوائل وسارت تلك المدرسة على نهج زعيمها من تحمل المصاعب في سبيل المبدأ والاستمرار في إصلاح المجتمعات والتصدي للمنكرات ومحاربة الصوفية والفرق الكلامية والجمود والتعصب المذهبي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لهم أثر في الحياة العلمية والعامة في العالم الإسلامي، وذلك على مر العصور، تعرضوا لمثل تعرض له شيخهم من الابتلاء والأذى، منهم ابن القيم والحافظ المزي وابن كثير والإمام الذهبي وابن مري البعلبكي وابن سعد الشافعي وأبو بكر الهاشمي وابن أبي العز الحنفي صاحب الشرح الأشهر للعقيدة الطحاوية. ومن أشهر تلاميذ ابن تيمية في القرن التاسع؛ الإمام برهان الدين البقاعي صاحب التفسير والتصانيف الماتعة النافعة والذي تصدى للصوفية الاتحادية والحلولية في أواخر القرن التاسع، وكان قوي الحجة، ثابت الجنان، بارع البيان، أعاد للأذهان سيرة شيخه ابن تيمية؛ فكان من الطبيعي أن يمتحن ويتعرض لصنوف البلاء التي تعرض لها شيخه قدس الله سره؛ فمن هو برهان الدين البقاعي ؟ وما هي قيمته العلمية وجهوده الإصلاحية ؟ وما هي محنته التي تعرض لها ؟ ![]() مولده ونشأته. ولد إبراهيم بن عمر بن حسن بن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، في سنة 809 هـ، بقرية من قرى سهل البقاع في لبنان، ونشأ وترعرع بها، وطلب العلم منذ الصغر بحفظ القرآن وتلقى دروسه الأولى في علوم العربية والفقه والأصول والحديث والتفسير، وارتحل إلى دمشق طلبا للعلم والعلماء وسماع الحديث وعلوم الشريعة ودراسة الفقه من شيوخه وأعلامه، ودخل بيت المقدس وأخذ عن علمائها الثقات، وسافر الى القاهرة وقرأ على التاج بن بهادر في الفقه والنحو، وعلى الإمام الجزري في القراءات، وأخذ عن التقي الحصني، والتاج الغرابيلي، والعماد بن شرف، والسبكي الحفيد، والعلاء القلقشندي، والقاياني، وأبي الفضل المغربي، ولازم الإمام الكبير ابن حجر العسقلاني وتعلم على يديه، ولنبوغه نال إعجاب شيخه ابن حجر ورقاه وهو طالب وجعله قارئا للبخاري في حضور السلطان المملوكي جقمق. ![]() نبوغه وتقدمه العلمي برع الإمام البقاعي في جميع العلوم وفاق الأقران، وبلغ مكانة كبيرة ومنزلة عالية في علوم القرآن والتفسير وعلم الحديث والجرح والتعديل، وكان ممن يشد إليه الرحال لسماع كتبه وأسانيده، وقد اعترف له معاصروه ومن جاء بعده بالعلم والفضل والتقدم، قال الشوكاني -رحمه الله-: "إنه من الأئمة المتقين المتبحرين في جميع المعارف، وبرع في جميع العلوم وفاق الأقران وتصانيفه شاهدة"، ووصفه السيوطي-رغم خلافه العلمي معه- بأنه: "العلامة المحدث الحافظ، مهر وبرع في الفنون ودأب في الحديث ورحل، وله تصانيف حسنة"، وقال فيه داود الأنطاكي: "وحيد زمانه ورئيس أقرانه وواحد عصره ونادرة دهره"، وقال عنه ابن العماد الحنبلي: "المحدث المفسر الإمام العلامة المؤرخ، برع وتميز وناظر، وصنف تصانيف عديدة من أجلها المناسبات القرآنية، وبالجملة فقد كان من أعاجيب الدهر وحسناته". ![]() مؤلفاته العلمية خلَّف الإمام البقاعي مصنفات كثيرة في شتى العلوم يغلب عليها التصنيف في التفسير والتاريخ والحديث والقراءات والأدب، منها إظهار العصر لأسرار أهل المصر، و عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأعيان، ومختصر سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وثلاثة من الخلفاء الراشدين، والنكت الوفية بما في شرح الألفية، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، وضوابط الإشارة إلى أجزاء علم القراءة، والقول المفيد في أصول التجويد لكتاب ربنا المجيد، والإعلام بسن الهجرة إلى الشام، وتنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وهو الكتاب الذي سيجلب عليه محنته الكبرى، وتحذير العباد من أهل العناد. أما أشهر كتب الإمام البقاعي؛ فهو نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ويعرف بمناسبات البقاعي أو تفسير البقاعي، واعتبره العلماء من أعظم ما كتب، حيث أنشأ علما جديدا يتحدث عن المناسبة بين الآية القرآنية وما قبلها وبعدها، والمناسبة بين السورة وما قبلها وما بعدها، وهو علم يعتمد على فهم كامل للنسق القرآني وتدبر عميق للآيات وسور القرآن الكريم، اذ سبق فيه علماء عصره، الذين انصرف جهدهم الى تفسير القرآن نحويا ولغويا وإيراد الأقاويل ونقل الروايات حتى المتعارض منها واجترار ما قاله السابقون. أحوال العالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري ![]() مثل القرن التاسع الهجري ذروة التدهور السياسي في حكم دولة المماليك؛ فبعد قادتها الكبار سيف الدين قطز والظاهر بيبرس والناصر قلاوون آل الأمر إلى سلاطين ضعاف يتنافسون على الحكم، وانشغلوا بصراعاتهم الجانبية عن مصالح الأمة، فعمّ التدهور في شتى مناحي الحياة، وهذا هو شأن التدهور السياسي إذا وقع لابد أن يصاحبه تدهور في النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية، وهذا هو حال عصر الإمام البقاعي بالضبط. فقد انتشرت المظالم والمكوس، وظهرت الفواحش والمنكرات، وسيطر الجهل والخرافة على عقائد العامة، وشاع الإرهاب الفكري بسبب الجمود الفقهي والتمسك المقيت بالمذهبية، وسيطرت الفرق الصوفية المنحرفة بالأخص الاتحادية أتباع ابن عربي وابن الفارض على الحياة الدينية في الشام ومصر؛ فمال الناس على السلبية والاتكالية، وأصبح التجديد ومحاولة الاجتهاد والخروج بآراء فقهية وعلمية جديدة تهمة شنيعة يستحق صاحبها التشنيع والتنكيل والتبديع، وربما القتل. وهذه الأجواء المظلمة والقامعة للإبداع كانت السبب الرئيسي للمحن المتتالية التي تعرض لها الإمام برهان الدين البقاعي: ![]() أولاً: محنته مع المتعصبة والمقلدة. الناس أعداء لما يجهلون، لذلك تجدهم ينظرون بعين الشك والارتياب من كل جديد، ويسارعون باتخاذ مواقف سلبية وربما عدائية من كل شخص يطرح أفكاراً جديدة، ولقد عانى المجددون عبر العصور من هذه النزعة العقلية المتأصلة عند الكثيرين، فالتقليد ورفض الجديد صنوان الحياة العلمية في عصور الجمود والتخلف. عندما كتب الإمام البقاعي كتابه الشهير نظم الدرر، وبث فيه علماً جديداً هو علم المناسبة لم يستسغ متفقهة العصر وسدنة التقليد مثل هذه العلوم الجديدة، ورأوا أن هذا العلم من موروثات أهل الكتاب؛ فاتهموا البقاعي بالنقل من التوراة والإنجيل في التفسير، على الرغم من وجود الكثير من أهل العلم سابقاً مما استدل بنصوص من التوراة والإنجيل في تعضيد التفسير القرآني والتناسب مع آيات القرآن، ولكنه الحقد الذي ملأ القلوب والنفوس من كل مجدد وعبقري. أغرى المتعصبة والمقلدة الرؤساء بالإمام البقاعي فتعرض للاضطهاد، ويقول ابن الصيرفي: "وصنف كتابا في مناسبات القرآن فقاموا عليه وأرادوا إحراق الكتاب وتعصب عليه جماعة وأغروا به الأمير تمربغا"، ورموه بالكفر وأقاموا عليه دعوى عند القاضي المالكي، فعكف البقاعي على كتابة رسالة يجيب فيها على أباطيل خصومه، ويفند ادعاءاتهم ويثبت جواز النقل من الكتابين، فاقتنع بها القاضي الزيني بن مزهر، فعذره وحكم بإسلامه فرفعت عنه محنة التكفير. ![]() ثانياً: محنته مع الصوفية كائنة البقاعي كما قلنا من قبل عصر دولة المماليك شهد سطوة التصوف وهيمنته على الحياة العلمية والدينية، حتى أنه قد بلغ مثابة الدين الرسمي المعتمد عند سلاطين الدولة والهيئة العلمية في هذا الزمان، بحيث كل من يفكر أن يقترب أو ينال جاه وهيبة التصوف فكراً ومنهجاً وطريقة وشيوخاً يكون بمثابة المارق الذي خرج عن ربقة الإسلام. وعلى الرغم من أن الفارق الزمني بين البقاعي وابن تيمية أكثر من 150 سنة إلا إن البقاعي كان سائراً على درب شيخه ملتزماً طريقته ومنهجه العلمي والإصلاحي أيضاً، لذلك تعرض لنفس المحن والابتلاءات التي تعرض لها شيخه ابن تيمية -رحمه الله- مع متصوفة عصره. لم تكد تنتهي محنته مع المتعصبة والمقلدة بسبب كتاب نظم الدرر تنتهي حتى تعرض لمنحة أشد قوة بسبب تأليفه كتابين هاجم فيهما أكبر رمزين صوفيين في القرون الوسطى والأشهر على الإطلاق حتى كتابة هذه السطور، وهما ابن عربي شيح الحلولية، وابن الفارض شيخ الاتحادية، وأنكر أقوالهما في عقيدة الاتحاد الصوفية بالقول واللسان، في السر والعلن. فقد أعلن البقاعي دعوته لتكفير ابن عربي وابن الفارض في جامع الظاهر بيبرس الذي كان يلقي فيه دروسه، ولم يقبل أتباعهما من الصوفية والفقهاء الذين كان لهم سطوة ونفوذ لدى الحكام المماليك هجوم الامام البقاعي، فحدث ما يعرف بـ كائنة البقاعي سنة 874 هـ. فقد كتب الامام البقاعي رسالة علمية طويلة ومحكمة فند فيها أقوال عمر بن الفارض وتتضمن الحكم بفسقه وتكفيره بسبب ما قاله في قصيدة التائية الكبرى وسلمها الى كاتب سر السلطان قايتباي؛ كما أرسل منها نسخا لبعض علماء الزمان، ولما علم الصوفية بما ![]() حدث، احتالوا للاطلاع عليها وفشلوا، وعندما علم البقاعي بحيلتهم أذن لهم بنسخ الرسالة بشرط أن يردوا عليها ردا علمياً، فعجزوا عن الرد ولجأوا للمكر والتآمر، وألبوا عليه العوام والحكام ومعظم الفقهاء والطلبة بالجامع الأزهر، وتزعم الحرب ضده الشيخ عبد الرحيم الفارضي شيخ الطريقة الفارضية المنسوبة لعمر بن الفارض، واشتعل الجو بالغضب على البقاعي وتزايدت الشائعات والمؤامرات وكادت تخرج مظاهرات العوام لتحاصر بيته وينبهوه، ولم تفلح محاولات الامام البقاعي في الاتصال بالداودار الكبير يشبك بن مهدي، أو حتى بالداودار الثاني تنبك قرأ ليبين موقفه، ولم يقبل خصومه المجادلة واستمروا في تخويف الناس المتأثرين بالتصوف وتقديس أوليائه وتهديد العلماء لعدم نصرته، حتى استفتوا قاضي الحنابلة المعز بن نصر الله الكناني فكتب لهم بتكفير ابن الفارض وكل من تمذهب بمذهبه وأيده عدد من الفقهاء منهم البرهان بن العبري، وقاضي الحنفية ابن الشحنة وغيرهم. وبسبب ثبات البقاعي بدأت المشاعر تتجه نحوه وتميل عن الصوفية، وذلك هو الشأن في دعوات الحق التي تواجه العقائد الضالة، فتلك العقائد الضالة تستند إلى خرافات اكتسبت قدسية لمجرد أن القرون مرت عليها دون أن تجد من يتصدى لتنفيذها، فإذا وجدت عالماً شجاعاً يفعل ذلك ثار عليه المدافعون عن تلك الخرافات والأشياخ الذين يستفيدون منها وحاولوا إخافته بما ترسب في وجدانهم من خوف من الاعتراض على تلك الخرافات؛ فإذا ثبت صاحبنا على مبدئه ورأوا أنه لم تحدث له كارثة بسبب اعتراضه يبدأ الموقف يتغير لصالح، وذلك بالضبط ما حدث في كائنة البقاعي وما يمكن أن يحدث في أي حالة مماثلة. العوام في بداية الأمر كانوا ضد البقاعي حتى لقد كانوا يؤذون أتباعه في الطرقات، وحتى لقد فكر خصمه شيخ الفارضية عبد الرحيم أن يقودهم في مظاهرة لتقوم بقتل البقاعي وتنهب بيته، ثم بعد أن ظل البقاعي متماسكاً صامداً يقرر رأيه في المسجد جاءوا إليه يستمعون، وضجوا يؤمنون على دعواه على خصومه. ![]() ثم فكروا في حيلة أخرى فأشاعوا أن البقاعي قد أفتى بتكفير من يسكت عن تأييده، وبذلك جعلوا الشيوخ المحايدين ينقلبون على البقاعي، وكان منهم الشيخ زين الدين الاقصرائي، ونجحوا أيضا في إثارة طلبة الجامع الأزهر ضده حتى كان البقاعي يخشى أن ينفذوا تهديدهم ويحرقوا بيته. أحدثت حركة الإمام البقاعي هزة في حياة المسلمين الدينية والعلمية، وتكسر على يديه تابوه الصوفية الذي ظل صامداً منذ رحيل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وبدأت تظهر مجموعات من العامة وطلبة العلم والعلماء تنحاز لجانب البقاعي في حربه ضد الصوفية، غير أن هذه الحركة المباركة قد تم إجهاضها بسبب جهود واحد من أكبر فقهاء العصر وهو شيخ مشايخ الشافعية؛ الشيخ زكريا الأنصاري الملقب بشيخ الإسلام، وكان من أوعية العلم الكبار، ولكنه كان ضائعاً في العقائد، تابعاً للصوفية وعلى معتقدهم، بل كان ذيلاً لهم وليس برأس فيهم، يسمع لهم ويطيع في وقت لم يتمتع فيه السلطان عنده بهذه الحظوة. زكريا الأنصاري يعتقد في ولاية شيخ صوفي مجهول اسمه محمد الإسطنبولي، ولما وقعت محنة البقاعي في إنكاره على ابن الفارض أرسل السلطان إلى العلماء فكتبوا له بحسب ما ظهر لهم، وامتنع الشيخ زكريا الأنصاري في إبداء رأيه أولاً ثم اجتمع بالشيخ محمد ![]() الاسطنبولي فقال له: "أكتب وأنصر القوم، أي: الصوفية وبين في الجواب أنه لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم بشر، لأن دائرة الولاية تبتدئ من وراء طور العقل لبنائها على الكشف"، وقد بلغت المهزلة منتهاها عند تناسى زكريا ألأنصاري مكانته العلمية وروايته للحديث النبوي وافترى مناماً زعم فيه أنه قد رأي ابن الفارض على هيئة ملائكية في الجنة لتبرئة من تهمة الكفر والإلحاد التي وجهها أهل العلم له ومنهم البقاعي. وهذه أسطورة حيكت لتجعل ابن الفارض يخرج من قبره ليدعو على من أنكر عليه، ومن شأنها أن تخيف أولئك الذين يقدسون الأولياء ويعتقدون في نفعهم وضررهم، وبعض من يقرؤها في عصرنا قد يتأثر بها، فكيف بهم في عصر قايتباى. وبعد فترة من حرب الأعصاب والتهديد الذي وصل لدرجة التهديد بالقتل وحرق الدار، سكنت حركة البقاعي، وسكن خصومه عنه، وكان وقتها شيخاً كبيراً طاعناً في السن، ولكنه كان ذا عزم وافر وإقدام كامل وهمة عالية، لم ينقطع عن الدرس والإفتاء وبيان كفر الصوفية الاتحادية والحلولية، مما أدى في النهاية لعودة ظهور مصطلح أهل السنة للتميز عن الصوفية، وبمدرسة أهل السنة استطاع البقاعي أن يوقف الكثير من البدع، على رأسها وقف مولد البدوي في طنطا، وكان بمثابة أكبر أعياد الصوفية في وقتها. ![]()
__________________
|
|
#5
|
||||
|
||||
![]() محنة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي: شهيد الدفاع عن القرآن شريف عبدالعزيز (30) ![]() الثبات حتى الممات، والصدع بالحق، واحتمال الأذى في سبيل الله، وإدراك مكانة الأئمة وأهل العلم، ومعرفة حجم المسئولية الملقاة على عاتقهم، وإيثار مرضاة الله -عز وجل- على غيرها، والنصح وبيان أحكام الشرع، كلها صفات وخلال الربانيين من علماء هذه الأمة المباركة، فكم من عالم أُوذي في الله كثيراً، فضُرب وسُجن وحُوصر ونُفي وطُورد وخُوف وعُذب وهُدد ونُكل به حتى يرجع عن الحق وبيانه أو يسكت عن الباطل ويؤيده، ورغم ذلك كله ثبت على طريقه، وباع نفسه لله -عز وجل-، وجاد بأعز ما يملك أي إنسان؛ روحه ومهجته، في سبيل الله، ولم يبال بتهديد سلطان، ولا قهر طغيان، ولا تسلط جهلة ودهماء، حتى أتاه اليقين ونال أعز مطلوب، وأشرف موهوب؛ الشهادة في سبيل الله، فصارت أخباره وتضحيته مثلاً للعالمين وآية في الغابرين، ونوراً للسالكين. ![]() التعريف بالإمام ومكانه العلمية: هو الإمام العَلَم الكبير أبو عبد الله أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي، من أهل بغداد، كان من أهل العلم والدِّيانة والعمل الصَّالح والاجتهاد فِي الخير، وكان من أئمَّة السُّنَّة الآمرين بالمعروف والنَّاهين عن المنكر، قويَّ النفس، ثابت الجنان، شجاعًا، يقول كلمة الحق دون وجل ولا تردد، لا يخاف في الله لومة لائم، ينتهي نسبه إلى قبيلة خزاعة الكبيرة صاحبة التاريخ الكبير خاصة فيما يتعلق بالحرم المكي وأحداثه الكبرى. نشأ في بيت فضل وعلم ورئاسة وعلائق مذكورة بالبيت العباسي والدولة العباسية، فقد كان جده مالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس في ابتداء الدولة العباسية، وكان له الأثر المذكور في قيام الدولة، وأبوه هو نصر بن مالك من وجهاء الدولة ومن رجالاتها، وهو أيضاً من أهل الحديث وسماعه، وكان له رحبة (مكان متسع يشبه الأسواق) يسمى سويقة نصر بن مالك في بغداد، وفي هذا الجو المحتشم من الرئاسة والعلم والفضل نشأ صاحبنا الإمام أحمد بن نصر. أما عن علمه فقد تلقى العلم من كبار العلماء وسمع منهم الحديث وحمله عن كبارهم، فسمع من آدم بن أبي إياس، إسماعيل بن أبي أويس، إسماعيل ابن علية، سفيان بن عيينة، سليمان بن صالح المروزي، عبد الله بن المبارك، عبد الرزاق بن همام، على بن الحسن بن شقيق، على بن الحسين بن واقد، على ابن المديني، وكيع بن الجراح، يزيد بن هارون. وقد أثنى عليه علماء الزمان ومشاهير الأعيان، وشهدوا له بالفضل والخيرية وحسن الخاتمة، ذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال: -رحمه الله- ما كان أسخاه بنفسه لله لقد جاد بنفسه له. قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد، قال: سمعت يحيى بن معين، و ذكر أحمد بن نصر بن مالك فترحم عليه و قال: قد ختم الله له بالشهادة، قلت ليحيى: "كتبت عنه شيئاً؟ قال: نعم، نظرت له في مشايخ الجنديين، وأحاديث عبد الصمد بن معقل، و عبد الله بن عمرو بن مسلم الجندي، قلت ليحيى: "من يحدث عن عبد الله بن عمرو بن مسلم؟ قال: عبد الرزاق قلت: ثقة هو؟ قال: ثقة، ليس به بأس، قلت: فأبوه عمرو بن مسلم الذى يحدث عن طاووس كيف هو؟ قال: وأبوه لا بأس به، ثم قال يحيى: ![]() كان عند أحمد بن نصر مصنفات هشيم كلها، و عن مالك أحاديث كبار، ثم قال يحيى: كان أحمد يقول: ما دخل عليه أحد يصدقه يعني (الخليفة) غيره ثم قال يحيى: ما كان يحدث، كان يقول لست موضع ذاك يعنى "أحمد بن نصر بن مالك -رحمه الله-"، و أحسن يحيى الثناء عليه .قال النسائي: ثقة . عقيدته وأثره في أهل بغداد: كان أحمد بن نصر الخزاعي من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق.كما لم يكن الإمام أحمد من العلماء المنعزلين عن الواقع، المحجوبين من عامة الناس في أبراجهم العاجية وعلومهم النظرية ومسائلهم الافتراضية، بل كان رجل عامة، وكهف يأوي إليه الناس وقت النوازل لمعرفة الحق من الباطل، والخير من الشر. وقد ورث الإمام أحمد هذه الوجاهة الاجتماعية والمكانة الشعبية عن أبيه نصر بن مالك الذي بايعه أهل بغداد بيعة خاصة سنة 201 هـ عندما اضطربت الأمور في الخلافة العباسية بسبب وإجراءات الخليفة المأمون العباسي الثورية التي قام بها وزلزلت البيت العباسي عندما اختار أحد أئمة أهل البيت (علي الرضا)؛ ليكون ولي عهده، وخلع السواد شعار الدولة واتخذ اللون الأخضر بدلاً منه، وواكب هذه الإجراءات خروجه إلى خراسان، فاضطربت الأوضاع الأمنية في بغداد وانتشر العيارون والسراق وقاطعي السبيل، وعمت الفوضى، فلم يجد العامة أفضل من نصر بن مالك، ورجل آخر اسمه (سها بن سلامة) لمبايعتهما على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضبطا العاصمة ومنعا اللصوص والمفسدين وقطاع الطرق حتى عاد الخليفة المأمون سنة 202هـ من خراسان، وألغى قراراته السابقة. ![]() كانت عقيدة الإمام أحمد هي عقيدة أهل الحديث، يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة من غير تأويل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تشبيه، وكان يدعوا لذلك ليل نهار، فلما وقعت فتنة القول بخلق القرآن في أواخر عهد المأمون ثبت في الحق ولم يخضع للسلطة كما حدث من بعض أهل العلم وقتها، ولم يتحجج بالإكراه، وعصمة وجاهته الاجتماعية ومنزلة أسرته وأثرها في الدولة وأهل بغداد من أذى المعتزلة الذي أصاب غيره من أهل العلم مثل الإمام أحمد ومحمد بن نوح وسجادة وغيرهم ممن ابتلوا ابتلاء شديداً في عهد المعتصم العباسي خليفة المأمون. الواثق العباسي وفتنة المعتزلة: انشغل الناس في عهد المعتصم بالأحداث الكبرى التي وقعت في الدولة الإسلامية مثل ثورة بابك الخرمي، واعتداء الدولة البيزنطية على حدود الدولة الإسلامية في الشمال، وبناء المدن الجديدة، وبالتالي لم ينشغل المعتصم بفتنة القول بخلق القرآن التي أثارها المعتزلة في أواخر عهد أخيه المأمون إلا في بداية عهده بسبب وصية المأمون له بذلك، فلما وقعت الأحداث الجسام انشغل عنها بالجهاد ضد أعداء الإسلام، لذلك عفا الإمام أحمد بن حنبل عن المعتصم وتجاوز عن ضربه وسجنه إياه كما هو معروف تاريخياً. فلما جاء الواثق بالله بن المعتصم بالله ورث ملكاً ثابتاً واستقراراً عن أبيه جعله يلتفت إلى كلام المعتزلة بوجوب حمل الناس على القول بخلق القرآن، فكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان ولا حجة ولا بيان ولا سنة ولا قرآن. وبلغ درجة عظيمة من الغلو في هذا الباب تمثلت في عدة إجراءات قام بها من أبرزها: ![]() تعيين كل قضاة الدولة من المعتزلة وخلع أي قاضٍ يقول بأن القرآن كلام الله. إلزام المدرسين والمعلمين في الكتاتيب بتلقين الطلبة والأطفال عقيدة المعتزلة. اختيار الولاة وموظفي الدولة من محتسبين وأئمة ومؤذنين للتأكد من قولهم بخلق القرآن. قطع الأرزاق والتضييق على كل العلماء الرافضين للقول بخلق القرآن ومنعهم من التدريس والتحديث، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل قد اضطر للاختفاء في عهده المشئوم. وصل الغلو لدرجة لا تصدق باختبار أسرى المسلمين لدى الروم، فمن قال منهم بخلق القرآن فكوا أسره ودفعوا ديته، ومن رفض تركوه أسيراً لدى الروم. موقف الإمام أحمد بن نصر من انحراف الواثق العباسي: ولما بلغ الواثق هذا الشطط من القول بخلق القرآن وأصبح المسلمون على شفا هلكة وضياع في أعز ما يملكون؛ عقيدتهم ودينهم، انتصب الإمام أحمد لمواجهته، فصدع بالحق، وأعلن رفضه لإجراءات الواثق وشططه وعتوه، فوجد الناس فيه ضالتهم، واجتمعوا عليه بأعداد كبيرة يصغون إلى كلامه ويأتمرون بأوامره. ![]() وهنا تكرر نفس المشهد الذي حدث مع أبيه نصر بن مالك عندما بايعه أهل بغداد سنة 201 هـ بعد خلو بغداد من حاكم وانتشار المفسدين والمجرمين. فقد اجتمع أهل بغداد على الإمام أحمد بن نصر وبايعوه على الأمر بن المعروف والنهي عن المنكر. وكان من رؤساء أصحابه رجلان؛ أبو هارون السراج في الجانب الشرقي من المدينة، وطالب في الجانب الغربي من المدينة، وكانا من أنشط وأخلص أتباع الإمام أحمد، فاجتهدا في الدعوة إلى بيعته والانتظام في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مع الوقت انتظم عدة آلاف من أهل الحديث وأهل بغداد في بيعة الإمام أحمد بن نصر الخاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتصدي لفتنة القول بخلق القرآن، وكان رؤوس أصحاب الإمام أحمد يجتمعون عنده بانتظام مما لفت الانتباه لدى شرطة بغداد التي دست على مجلس الإمام أحمد من ينقل لها الأخبار، وكان الإمام أحمد شديداً في الحق ولا يخاف من سلطان ولا طغيان، فكان يشتد في انتقاد الخليفة الواثق ويصفه بعبارات شديدة، فتم رفع الأمر إلى إسحاق بن إبراهيم رئيس شرطة بغداد الذي أسرع بإبلاغ الواثق، فأمر بالقبض على الإمام أحمد ورؤوس أصحابه. ثبات الإمام أحمد ومقتله: تم إحضار الإمام أحمد مقيداً بأرطال الحديد إلى مجلس الواثق الذي عقده في مدينة سامرا خشية تفارط الحال وثورة أهل بغداد لو علموا بمآل الإمام أحمد، وكان كما قلنا قد بايعه ألوف منهم، وقد استدعي الواثق رؤوس المعتزلة وأئمتهم؛ لاستفتائهم فيما يفعله مع الإمام. فلما أُحضر الإمام أحمد أمام الواثق، لم يتوجه إليه بسؤال عن سبب إحضاره ولا قصة البيعة الخاصة، ولكن دار بينهما هذا الحوار العجيب: وقال الواثق: ما تقول في القرآن؟ فقال الإمام: هو كلام الله. قال الواثق: أمخلوق هو؟ قال الإمام: هو كلام الله. ![]() وكان الإمام أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ فقال: "يا أمير المؤمنين! قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله –تعالى-: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ". فنحن على الخبر. زاد الخطيب البغدادي في تاريخه: قال الواثق: "ويحك! أيرى كما يرى المحدود المتجسم؟ ويحويه مكان ويحصره الناظر؟ أنا أكفر برب هذه صفته". قلت - أي ابن كثير -: وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم. ثم قال أحمد بن نصر للواثق: وحدثني سفيان بحديث يرفعه: "إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك". فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويحك ! انظر ما تقول. فقال: أنت أمرتني بذلك. فأشفق إسحاق من ذلك وقال: أنا أمرتك؟ قال: نعم ! أنت أمرتني أن أنصح له. ![]() فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟ فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق – وكان قاضياً على الجانب الغربيّ -وكان حاضراً وكان أحمد بن نصر ودّاً له من قبل: يا أمير المؤمنين؛ هو حلال الدّم، وقال أبو عبد اللّه الأرمّني صاحب رأس المحنة أحمد بن أبي دؤاد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال أحمد بن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين كافر يستتاب؛ لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل – متظاهراً بكراهية قتله – فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومنّ أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه. ودعا بالصمصامة – سيف عمرو بن معد يكرب الزبيدي – فأخذ الواثق الصمصامة فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه. وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه، فحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فصلب في الجانب الشرقي أياماً وفي الجانب الغربي أياماً، ثم حول إلى الشرق؛ وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر؛ وكتب في أذنه رقعة: هذا رأس الكافر المشرك الضال؛ وهو أحمد بن نصر بن مالك؛ ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن وفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق؛ فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه. وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك؛ فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه. ![]() كرامات الإمام الشهيد: بعد مقتل الإمام أحمد على يد الواثق ومن معه بهذه الصورة الانتقامية وقعت له عدة كرامات بلغت من شهرتها حد التواتر بين المؤرخين والمعاصرين. فقد قال جعفر بن محمد الصائغ: بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه: لا إله إلا الله. عن أحمد بن كامل القاضي قال: حمل أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي من بغداد إلى سر من رأى، ونصب رأسه ببغداد، على رأس الجسر، وأخبرني أبي أنه رآه، وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، وأخبرني أنه وكل برأسه من يحفظه بعد أن نصب برأس الجسر، وأن الموكل به ذكر أنه يراه بالليل يستدير إلى القبلة بوجهه، فيقرأ سورة يس، بلسان طلق، وأنه لما أخبر بذلك طلب، فخاف على نفسه فهرب. وعن إبراهيم بن إسماعيل بن خلف قال: كان أحمد بن نصر خالي، فلما قتل في المحنة، وصلب رأسه، أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن، فمضيت، فبت بقرب من الرأس مشرفاً عليه، وكان عنده رجالة وفرسان يحفظونه، فلما هدأت العيون، سمعت الرأس يقرأ: (الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت:2]، فاقشعر جلدي، ثم رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق، وعلى رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله -عز وجل-بك يا أخي؟ قال: غفر لي، وأدخلني الجنة. إلا أني كنت مغموماً ثلاثة أيام. قلت: ولم؟ قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه و سلم-مر بي، فلما بلغ خشبتي، حول وجهه عني. فقلت له بعد ذلك: يا رسول الله، قتلت على الحق أو على الباطل؟ فقال: أنت على الحق، ولكن قتلك رجل من أهل بيتي، فإذا بلغت إليك، أستحيى منك. ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان سنة 231هـ إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة 237هـ، فجمع بين رأسه وجثته بأمر من الخليفة المتوكل على الله، ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية في جنازة مهيبة حضرها معظم أهل بغداد. أعظم كرامات الإمام: ![]() أما أعظم كرامة أظهرها الله -عز وجل- في محنة الإمام أحمد بن نصر هو ما جرى مع خصومه والمحرضين عليه، ممن زينوا للواثق قتله، واستباحوا دمه، فقد صدق فيهم قول الله -عز وجل-: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْح) [الأنفال:19]. فقد روى أصحاب التاريخ ومنهم ابن كثير والخطيب وغيرهما أن الإمام عبد العزيز الكناني صاحب كتاب (الحيدة) دخل على الخليفة العباسي المتوكل - وكان حسن العقيدة – فجرى ذكر الإمام أحمد بن نصر في ثنايا الكلام، فقال للمتوكل: يا أمير المؤمنين ما رأيت أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن. فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر". فقال:" يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً". ودخل عليه هرثمة بن أشرس (من رؤوس المعتزلة) فقال له في ذلك فقال: "قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً". ودخل عليه قاضي المحنة أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك فقال: "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً". فكيف كانت مصارعهم؟ قال المتوكل: فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار. وذكر ابن الأثير نهاية ابن الزيات بالتفصيل فقال: "لما ولي الخلافة المتوكل أمهل حتى كان صفرًا، فأمر إيتاخ التركي بأخذ ابن الزيات وتعذيبه، فاستحضره فركب يظن أن الخليفة يستدعيه، فلما حاذى منزل إيتاخ عدلا به إليه، فخاف فأدخله حجرة، ووكل عليه وأرسل إلى منازله من أصحابه من هجم عليها، وأخذ كل ما فيها واستصفى أمواله، وأملاكه في جميع البلاد، وكان شديد الجزع كثير البكاء والفكر، ثم سوهر وكان ينخس بمسلة لئلا ينام، ثم ترك فنام يومًا وليلة، ثم جعل في تنور عمله هو وعذب به ابن أسماط المصري وأخذ ماله، فكان من خشب فيه مسامير من حديد أطرافها إلى داخل التنور وتمنع من يكون فيه من الحركة، وكان ضيقًا بحيث إن الإنسان كان يمد يديه إلى فوق رأسه ليقدر على دخوله لضيقه ولا يقدر من يكون فيه يجلس، فبقي أيامًا فمات، وكان حبسه لسبع خلون من صفر وموته لإحدى عشرة بقيت من ربيع الأول. واختلف في سبب موته فقيل كما ذكرناه، وقيل: "بل ضرب فمات وهو يضرب، وقيل: "مات بغير ضرب وهو أصح، فلما مات حضره ابناه سليمان وعبيد الله، وكانا محبوسين وطرح على الباب في قميصه الذي حبس فيه، فقالا: الحمد لله الذي أراحنا من هذا الفاسق. وغسلاه على الباب ودفناه، فقيل: إن الكلاب نبشته وأكلت لحمه، قال: وسمع قبل موته يقول لنفسه: يا محمد؛ ألم تقنعك النعمة، والدواب، والدار النظيفة، والكسوة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة؛ ذُق ما عملت بنفسك، ثم سكت عن ذلك. وأما هرثمة فإنه هرب من مصير ابن الزيات، بعد أن رفع المتوكل المحنة وأمر بتتبع رؤوس المعتزلة ومحاسبتهم، فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال: "يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً، ثم أخرجوا جثته وألقوها في الخرابة فنهشتها الكلاب. ![]() وأما قاضي المحنة ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده – يعني: بالفالج –-ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً". أما الواثق نفسه فقد مات في شرخ شبابه بلا علة ظاهرة، فما كان من أهله إلا أن تركوا جثته بلا تحضير وانشغلوا بأمور البيعة لأخيه المتوكل، فدخل جرذ كبير فنهش لحم خده واستل عينه ومضى بها، فلما دخلوا عليه لتجهيزه وجدوه بهذه الصورة المشوهة. هل خرج الإمام أحمد على الخليفة الواثق؟ من الأمور التي أثارت جدلاً وفهمها الكثيرون بصورة خاطئة: هل خرج الإمام أحمد بن نصر على الحاكم الشرعي وقتها؛ الواثق العباسي؟! الخلاف إنما جاء من الاقتصار على رواية تاريخية دون غيرها، فجمع الروايات التاريخية في نفس الحدث تكشف القصة من جميع جوانبها، ومن اختصر في رواية، بُسط في الأخرى، وما أُبهم في راوية، بُيّن في أخرى، وهكذا. وخبر الخزاعي ورد بطرق ضعيفة مثل التي رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن الصولي، وسندها لا يحتجُ به: فإن محمد بن يحيى الصولي لم يدرك زمن هذه الواقعة، وليس له رواية عن أحمد بن نصر الخزاعي، وقد قُتِلَ أحمد بن نصر الخزاعي سنة 231هـ، فَبَيْنَ قَتْل أحمد بن نصر ووفاة الصولي خمس سنوات ومائة سنة، فمن المؤكد أنه لم يسمع منه، ولم يدرك هذه القصة، والصولي من جملة مشايخه أبو داود، وأبو داود نفسه لم يسمع من الخزاعي، إنما روى عنه بواسطة فما ظنك بتلميذه. ورواية الطبري هي أصح الروايات في خبر الإمام الخزاعي، فقد كان الطبري معاصراً للحدث على صغر سنه وقتها إلا إنه سمع ممن شاهدها ورآها رأي العين، وهذه الرواية كشفت عن حقيقة هامة: أن الإمام أحمد لم يخطط للخروج على الخليفة الواثق، إنما ذلك من صنع بعض أتباعه الذين أخذتهم الحمية والحماسة ممن بايعه على المر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد استوثقت النفوس وامتلأت غيظاً وكراهية من غلو الواثق وعتوه، لذلك فهموا بيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أنها بيعة عامة، وأعدوا العدة للخروج فعلاً على الواثق دون علم الإمام أحمد، وهو ما أوضحته وبينته رواية الطبري ، لذلك فالواثق لم يلتفت إلى اتهام الإمام بالخروج عليه، ولم يسأله عنه من الأساس. قال الطبري -رحمه الله- بعد أن أورد خبر الإمام أحمد وبيعة الناس له: "وأنّ الذي كان يسعى به في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهم وإن أبا هارون السّراج وطالباً فرّقا في قوم مالاً، فأعطيا كلّ رجل منهم ديناراً ديناراً، وواعدهم ليلةً يضربون فيها الطّبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان؛ فكان طالب بالجانب الغربيّ من مدينة السّلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقيّ فيمن عاقده عليه؛ وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرّقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذاً، واجتمع عدّة منهم على شربه، فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة؛ وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد. وكان إسحاق بن إبراهيم غائباً عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم غلاماً له يقال له رحش فأتاهم فسألهم عن قصّتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطّبل، فدلّ على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له عيسى الأعور، فهدّده بالضرب، فأقرّ على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم؛ فأخذ بعضهم، وأخذ طالباً ومنزله في الرّبض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السّراج ومنزله في الجانب الشرقيّ، وتتبّع من سمّاه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيّروا في الحبس في الجانب الشرقيّ والغربيّ، كلّ قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيّد أبو هارون وطالب بسبعين رطلاً من الحديد كلّ واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولّى إخراجهما رجلٌ من أعوان محمد بن عياش – وهو عامل الجانب الغربيّ، وعامل الجانب الشرقيّ العباس بن محمد بن جبريل القائد الخرساني – ثم أخذ خصىّ لأحمد ابن نصر فتهدّد، فأقرّ بما أقرّ به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمّام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي؛ فإن أصبتم فيه علماً أو عدّة أو سلاحاً لفتنة فأنتم في حلّ منه ومن دمي؛ ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيّين وابنين له ورجلاً ممن كان يغشاه يقال له اسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهليّ، ومنزله بالجانب الشرقيّ، فحمل هؤلاء ![]() الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرّا على بغال بأكفٍ ليس تحتهم وطاء، فقيّد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن أبي دؤاد وأصحابه، وجلس لهم مجلساً عاماًّ ليمتحنوا امتحاناً مكشوفاً، فحضر القوم واجتمعوا عنده ". فالرواية تشهد أن الإمام أحمد لم يكن على علم بالقصة، ولم يكن عنده سلاح ولا أعلام ولم يعثروا عنده على أي استعدادات توحي بالخروج، لذلك لم يسأله الواثق عن تهمة الخروج والتي كانت تكفي وحدها للتنكيل به وقتله. أيضاً معاصرو الإمام أحمد بن نصر من أهل العلم والأئمة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل لم يروا جواز الخروج على الخلفاء رغم ظلمهم وفسادهم لأسباب كثيرة، وحوار أحمد بن نصر مع الواثق ومخاطبته بإمرة المؤمنين دليل آخر على أنه لم يخرج على الخليفة. أما مناقشة أحمد بن نصر للواثق لا تُعدّ خروجًا، وإنما مخالفة في الرأي مع الواثق، وكان من الممكن لأحمد بن نصر أن يجاري الواثق وأن يوهمه بأنه مقتنع بكلامه في مسألة خلق القرآن، فيخلي سبيله، ولكنه لم يفعلْ، فجاد بنفسه عن أن يقول: إن القرآن مخلوق، وهذا هو معنى كلام الإمام أحمد الذي استدل من خلاله البعض على الخروج، فهو قد ضحَّى بنفسه وجاد بها كي لا يقول ما يُغضِب الله، وكان من الممكن أنْ يَعُدّ نفسَه مُكرَهًا على الاعتراف بخلق القرآن، ولكنه جاد بنفسه في سبيل الله. ![]()
__________________
|
|
#6
|
||||
|
||||
![]() محنة الإمام وكيع بن الجراح شريف عبدالعزيز الزهيري (12) ![]() بين يدي المحنة: من الأصول الثابتة عند أهل العلم عامة، وأئمتهم وكبارهم خاصة، أنهم لا يحدِّثون الناس إلا بقدر ما تفهم عقولهم، وتستوعب مداركهم، لأنهم إذا تجاوزوا هذا الأصل، وعمدوا إلى تحديث الناس بقدر أكبر من عقولهم ومداركهم كان ذلك سببًا مفضيًا لضلال بعضهم، فيكون بعض العلم والعلماء سببًا - من حيث لا يشعرون - إلى فتنة الناس، وعمدة هذا الأصل في الشرع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه معاذ بن جبل رضي الله عنه في حق الله على العباد، وحق العباد على الله، والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((حَقُّ العِبَادِ على الله عز وجل ألا يُعَذِّبُهُمْ إذا لَمْ يُشْرِكُوا بهِ شَيْئًا))، فقال معاذ: ألا أبشر الناس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا حَتَّى يَتَّكِلُوا)) وهذا من كمال حكمته صلى الله عليه وسلم، وخبرته بالناس أنهم إذا سمعوا هذه البشارة ربما اتكل بعضهم عليها، وترك العمل، ولم يخبر معاذ بهذا الحديث أحدًا قط إلا في مرض موته، إنما قاله خوفًا من إثم كتم العلم، وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟! وقد أخرجه البخاري تحت باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية ألا يفهموا، وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم، أخرجه مسلم في مقدمة كتابه، والعالم - خاصة إذا كان إمامًا متبوعًا - إذا خالف هذا الأصل ولم يلتزم ربما تسبب في الكثير من الفتن والمحن، ولربما كانت المحن من نصيبه هو، فيكتوي بنارها، ويشنع عليه بسببها، وهو ما جرى بالضبط لصاحبنا. ![]() التعريف به: هو الإمام المحدث، بحر العلم، وإمام الحفظ والسرد، العالم الجوال، والعابد المجتهد، راهب العراق، وزاهد المصرين [البصرة - الكوفة]، وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، محدث العراق، وأحد أئمة الأثر المشهورين، وأستاذ الأئمة: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، ولد سنة 129هـ في بيت علم ورياسة واحتشام، وأبوه كان من أعيان الكوفة وزعمائها، وكان ممن يتعانى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فوجه ولده وكيعًا لطلب العلم، وسماع الحديث منذ صباه، فسمع من الأعمش، وهشام بن عروة، والأوزاعي وابن جريج، وغيرهم، ثم انقطع إلى إمام الوقت، وبركة الزمان سفيان الثوري، فحمل عنه علمه، وسمع منه كل مروياته، حتى لقب براوية الثوري، وطاف البلاد، وسمع من الأكابر، فاجتمع عنده من أسانيد الأحاديث ورواياته المختلفة ما لم يكن لأحد من معاصريه، حتى إن أستاذه الثوري كان يدعوه وهو غلام حَدَثٌ؛ فيقول: يا رؤاسى! تعال، أي شيء سمعت؟ فيقول: حدثني فلان بكذا، وسفيان يبتسم، ويتعجب من حفظه، ويقول: لا يموت هذا الرؤاسي حتى يكون له شأن، حتى إن سفيان نفسه - على جلالة قدره، وعظم مكانته في الأمة - قد روى عنه الحديث، وصدقت فراسة سفيان رحمه الله؛ ذلك أنه لما مات سفيان الثوري سنة 166هـ جلس وكيع بن الجراح مكانه مجلس تحديثه. وكان وكيع بن الجراح آية من آيات الله عز وجل في الحفظ والإتقان، فلقد كان مطبوع الحفظ، لا يسمع شيئًا إلا حفظه، ولا يحفظ شيئًا فينساه، أبهر الناس بقوة حفظه، وكان يستعين على ذلك ![]() بترك المعاصي، سأله أحد تلاميذه يومًا وهو على خشرم عن دواء يأخذه حتى يقوى حفظه، فقال له: إن علمتك الدواء استعملته؟ قال: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ. وعلى الرغم من شهرة وكيع بن الجراح، وإقبال الطلبة عليه، وتصدره لمجلس تحديث الثوري، إلا أنه كان عابدًا زاهدًا، يديم الصوم في السفر والحضر، لا يتركه أبدًا، يختم القرآن في الأسبوع الواحد عدة مرات، مدمنًا لقيام الليل، مشتغلا بالأوراد والأذكار لا يضيع لحظة من وقته هدرًا، يقسم يومه على نفع نفسه والناس، فلقد كان يجلس لأصحاب الحديث بكرة إلى ارتفاع النهار، ثم ينصرف فيقيل، ثم يصلي الظهر، ويقصد الطريق إلى المشرعة حيث يتجمع الناس لسقيا دوابهم، فيعلمهم القرآن والفرائض، وسائر ما يحتاجونه من أمور دينهم إلى حدود العصر، ثم يرجع إلى مسجده فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن، ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله، يتناول إفطاره، وبعد صلاة العشاء يصف قدميه لقيام الليل، ثم ينام ويقوم، وهكذا حتى وقت السحر. ولقد عرض الرشيد منصب القضاء على وكيع عدة مرات فرفض بشدة، وكان منقبضًا عن السلطان ومجالسه مثل أستاذه الثوري، بل كان مجافيًا حتى لمن يتلبس بشيء من أمور السلطان، فلقد هجر أقرب أصدقائه - وهو حفص بن غياث - لما تولى منصب القضاء، وهكذا شأن العلماء الربانيين في كل زمان ومكان. ثناء الناس عليه: يتبوأ الإمام الكبير وكيع بن الجراح مكانة خاصة ومميزة في طبقات حفاظ الأمة، وثبت أعلامها، وعلى الرغم من أن العصر الذي كان يعيش فيه وكيع بن الجراح زاخر بالكثير من الحفاظ والأئمة الأعلام، إلا أن وكيعًا بن الجراح كان علمهم المقدم، وأوفرهم نصيبًا في الثناء والمدح، وهذه طائفة من أقولهم: قال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب، مع خشوع وورع. ![]() هذا على الرغم من أن الإمام أحمد قد شاهد الكبار: مثل هشيم، وابن عيينة، ويحيى القطان، وأمثالهم، ولكن كان أحمد يعظم وكيعًا ويفخمه، وكان أحمد يفضل وكيعًا على ابن مهدي، ويزيد بن هارون. قال ابن عمار: ما كان بالكوفة في زمان وكيع أفقه ولا أعلم بالحديث من وكيع، وكان جهبذًا، لا ينظر في كتاب قط، بل يملي من حفظه. قال عبد الرزاق بن همام: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرًا ومالكًا، ورأيت ورأيت، فما رأيت عيناي قط مثل وكيع. قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع، فقيل له: ولا ابن المبارك؟ قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم. سئل ابن المبارك: مَنْ رجل الكوفة اليوم؟ فقال: رجل المصرين - يعني الكوفة والبصرة - وكيعًا بن الجراح. سئل أبو داود: أيهما أحفظ: وكيع أو عبد الرحمن بن مهدي؟ قال: وكيع أحفظ وعبد الرحمن أتقن، والتقيا بعد العشاء في المسجد الحرام، فتواقفا حتى سمعا أذان الصبح. قال الحسين بن محمد: كان وكيع يكونون في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن انكسر من أمرهم شيئًا انتعل ودخل داره. ![]() قال سلم بن جنادة: جالست وكيعًا سبع سنين، فما رأيته بزق، ولا مس حصاة، ولا جلس مجلسًا فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله. قال مروان بن محمد: ما رأيت فيمن رأيت أخشع من وكيع، وما وصف لي أحد قط إلا رأيته دون الوصف إلا وكيعًا، رأيته فوق ما وُصِفَ لي. قال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قال وكيع فاستند، وحدث بسبعمائة حديث حفظًا. محنته: المحنة التي تعرض لها وكيع بن الجراح محنة غريبة، تورط فيها بمخالفته من حيث لا يدري للأصل الذي قررناه في مقدمة الكلام، ألا وهو مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفهومهم، وإن كان لم يُرِدْ إلا الخير، وأصل هذه المحنة يرجع إلى السنة التي حج فيها وكيع بن الجراح، فلما علم الناس في مكة بمجيئه، وهو حافظ العراق، اجتمعوا عليه، وعقدوا له مجلسًا في الحديث، فأخذ وكيع في تحديثهم، فلما وصل إلى الحديث الذي رواه عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي عن أبي بكر الصديق أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكب عليه، فقبله، وقال: بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك، ثم قال عبد الله البهي: وكان ترك يومًا وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه، وهذا الحديث قد حكم عليه أهل العلم بأنه منقطع ومنكر، وعلته عبد الله البهي، وهو مصعب بن الزبير، وهو لم يدرك أبا بكر الصديق رضي الله عنه. فلما سمعت قريش هذا الحديث هاجت وماجت، وظن أهلها أن الحديث ينتقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع رجالات قريش عند واليها - وهو العثماني - وقرروا طلب وكيع بن ![]() الجراح وقتله، وقد حبسوه استعدادًا لذلك، وقيل إن الخليفة هارون الرشيد كان حاجًا هذا العام، فلما علم بالخبر استفتى العلماء في شأنه، فأفتى ابن أبي رواد بقتله، واتهم وكيعًا بالنفاق، والغش للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الإمام سفيان بن عيينة قال: لا قتل عليه، رجل سمع حديثًا فرواه، فتركوا وكيعًا وخلوا سبيله. خرج وكيع من مكة متجهًا إلى المدينة، وندم العثماني والي مكة على تركه بشدة، وقرر أن يقتل وكيعًا بأي سبيل، فأرسل أهل مكة إلى أهل المدينة بالذي كان من وكيع، وقالوا: إذا قدم عليكم، فلا تتكلوا على الوالي، وارجموه حتى تقتلوه، فلما عرف بعض علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزم أهل المدينة على قتل وكيع - أرسل إليه بريدًا عاجلا أن لا يأتي المدينة - ويغير مساره إلى طريق الربذة، فلما وصل البريد إلى وكيع، وكان على مشارف المدينة، عاد إلى الكوفة. بعد هذه الحادثة لم يستطع وكيع بن الجراح أن يذهب إلى الحج مرة أخرى، وحيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض بعض الجهال في حقه، واتهموه بالتشيع والرفض، ولكنه تجاسر سنة 197هـ، وحج بيت الله الحرام؛ فقدر الله عز وجل وفاته بعد رجوعه من الحج مباشرة؛ فمات ودفن بفيد على طريق الحج بين مكة والكوفة. هذه المحنة التي تعرض لها وكيع بن الجراح، وكادت تودي بحياته، وأثرت على سمعته، وأدت لمنعه من إتيان مكة والمدينة سنوات كثيرة، إنما حدثت له بسبب زلة الإمام العالم نفسه، فما كان لوكيع بن الجراح أن يروى هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، والقائمون عليه معذورون، ولربما كانوا مأجورين، لأنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود انتقاصًا من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد ![]() كان وكيع يتأول هذا الخبر قائلا: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - منهم عمر بن الخطاب - قالوا لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يريهم آية الموت، ولو على فرض صحة الخبر فليس فيه قدح بمقام النبوة، فعند التأمل فيه نجد أن الحي قد يربو جوفه، وتسترخي مفاصله تحت تأثير الأمراض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوعك كرجلين من الناس، وكانت الشقيقة تأخذ رأسه فيمكث اليوم واليومين لا يخرج للناس من شدة الوجع، وكما جاء في الخبر الصحيح: ((أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبيَاءَ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَل))، والمحذور والممنوع في حق النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء تغير أجسادهم ورائحتهم، وأكل الأرض لأجسادهم بعد موتهم، بل هم في أطيب ريح من المسك، وهو وسائر إخوانه من الأنبياء أحياء في قبورهم. وما سقناه من دفاع في الاعتذار عن إمام من أئمة المسلمين، إنما نقلناه بتصرف من دفاع إمام الحجاز سفيان بن عيينة، والحافظ الذهبي في سيره، وهذا لا يغير من حقيقة ثابتة على كل إمام وداعية وعالم أن يراعيها عند احتكاكه مع الناس، وتصديه للدعوة والإرشاد، والإفتاء والتعليم وهي مراعاة عقول الناس عند الخطاب، لذلك كره أهل العلم رواية الأثار والأحاديث التي تؤدي إلى سوء فهم، أو تكريس بدعة عند أصحابها، فكرهوا رواية أحاديث الكبائر وسلب الإيمان عن مرتكبها عند الخوارج؛ لأنهم يفهمون الأحاديث على وجه الخطأ، ولا يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فيتخذون تلك الأحاديث ذريعة ودليلا على تكفيرهم للمسلمين، وكذا الأمر مع أحاديث الرجاء والمغفرة، وفضل كلمة التوحيد عند المرجئة، والأمثلة على هذه القاعدة كثيرة، والعالم عندما لا يلتزم بتلك القاعدة فإنه يجر على نفسه، وعلى غيره الكثير من المحن والبلايا. ![]() المصادر والمراجع: • طبقات ابن سعد: (6/ 394). • تاريخ خليفة: (467). • سير أعلام النبلاء: (9/ 140). • تاريخ بغداد: (13/ 466). • البداية والنهاية: (10/ 261). • حلية الأولياء: (8/ 368). • تذكرة الحفاظ: (1/ 306). • صفة الصفوة: (2/ 98). • النجوم الزاهرة: (2/ 153). • شذرات الذهب: (1/ 349). ترويض المحن: دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430 هـ، 2009م ![]()
__________________
|
|
#7
|
||||
|
||||
![]() الإمام البخاريُّ (1/2) حياتُه وأثرُه العلميُّ ومحنتُه شريف عبدالعزيز (13) ![]() التعريف به كبيرُ الحفَّاظ وإمام الأئمَّة, أمير المؤمنين في الحديث, الحافظ الحفيظ الشَّهير, المميز الناقد البصير, فخر الأمة, الإمام الهمام الذي شهدت بحفظه العلماء الأثبات, واعترف بضبطه المشايخ الثّقات, حجة الإسلام وعلمه المقدم, العالم العامل الكامل أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريِّ. وُلِدَ الإمام البخاريُّ يومَ الجمعة بعدَ الصلاة لثلاث عشرة ليلةٍ خلت من شوال سنة 194هـ بمدينة بخارى, وكان أسمرَ نحيف الجسد ليس بالطويل ولا بالقصير. بيئته العلمية وأثرها عليه البخاريُّ كما قال عنه القسطلانيُّ أحدُ شراح صحيحه: "قد ربا في حجر العلم، حتى ربا, وارتضع ثدي الفضل, فكان على هذا اللبا". فلا شكَّ أنَّ طيب أصل البخاريِّ وبيئته العلميَّة الخالصة كان له أثرٌ كبير وخطير في توجه البخاري في حياته, فأبوه إسماعيل بن إبراهيم كان من الثِّقات، سمع من مالك وحمَّاد بن زيد وابن المبارك, وأمُّه كانت من العابدات الصالحات, صاحبةَ كرامات عظيمة, فقد كفَّ بصرُ البخاريِّ وهو طفل صغير، فقامت تدعو وتُصلِّي وتبكي وتبتهل, حتى رد الله -عزَّ وجلَّ- بصر ولدها، وذلك من كمال حكمته -عزَّ وجلَّ- لما كان ينتظر هذا الصبيَّ من مستقبلٍ مبهر في سماء العلوم والمعارف. ![]() وقد مات أبوه وهو في ريعان شبابه, فنشأ البخاريُّ يتيماً في حجر أمه, وكانت أمه عاقلة صالحة فدفعت به إلى طريق العلم والحديث منذ نعومة أظافره, وقد لاحظت أمُّه أنه يمتلك حافظة فريدة, فدفعت به إلي حِلَق السَّماع وهو في سن السابعة, وقيل وهو في سن العاشرة, فكان يجلسُ إلى المعلم في الكُتَّاب حتى العصر، بعدها ينطلقُ إلي مجلس الإمام الداخليِّ من كبار محدثي بخارى، ليسمع منه الحديث ويكتبه. ظهرت أولى علامات نبوغه ونجابته المبكرة، وهو في سن الحادية عشرة عندما أصلح رواية حديثٍ لشيخه الدَّاخلي, ورجع الداخليُّ لقوله, ولما بلغ السادسة عشر كان قد حفظ كتبَ ابن المبارك ووكيع. رحلاته العلمية الرحلة في اصطلاح المحدِّثين: هي السَّفر الذي يَخرج فيه الطالبُ, لطلب حديث, أو علوِّ إسناد, وكان الصحابةُ هم القدوة في ذلك, فقد سافر جابرُ بن عبد الله -رضى الله عنهما- شهراً لطلب علوِّ إسناد حديث, من عبد الله بن أنيس, وعلى هذا الهدى سار التابعون, قال أبو العالية: "كنَّا نسمع الراوية من البصرة عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما نرضى حتى ركبنا إلي المدينة, فسمعناها من أفواههم", ومن آداب الرحلة أن يبدأ طالبُ العلم بشيوخ بلده فيكتبَ عنهم, حتى يُحكمَ حديثهم, ثم يرحلَ إلى الأمصار, يُشافه الشيوخ. البخاريُّ شأنه في طلب العلم شأن أهل عصره, فقد خرج لطلب العلم سنه 210هـ أي في السادسة عشرة, عندما خرج إلى الحجِّ مع أمِّه وأخيه, وعاد أخوه بأمِّه إلي بخارى, وبقي هو لطلب العلم, وظلَّ بمكة قرابة العامين؛ ليسمع الحديث من علماء مكة وشيوخها, ثم توجه إلي المدينة سنة 212هـ وسمع من علمائها, ثم توجه إلى البصرة, وقد تكررت رحلته إلي البصرة أربع مرات, ![]() وكذلك الكوفة دخلها عدة مرات ثم دخل بغداد ومنها إلى الشام ثم إلى مصر, قال الخطيبُ البغداديُّ: "رحل البخاريُّ إلي محدِّثي الأمصار, وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، والحجاز والشام ومصر، وورد بغداد دفعاتٍ". حتى وصل عددُ شيوخه الَّذين كتب عنهم زيادةً عن ألف شيخ, قسمهم في كتبه إلى خمس طبقات. براعته العلميَّة - تميّز الإمام البخاريُّ بالعديد من المواهب العلمية الفذَّة، التي جعلته أمير المؤمنين في الحديث، وأشهرَ علماء الإسلام فيه بلا منازعة، وصاحبَ الختم في صناعة الحديث كما قال المستشرقون, من أهمِّ هذه المواهب: قوةُ حفظه فلقد رزق الله -عزَّ وجلَّ- البخاريَّ حافظةً فريدة من نوعها ندر أن يُوجد مثلها بين البشر، فلقد كان يحفظ مئات الآلاف من الأحاديث الصحيحة وغير الصحيحة, وذلك وهو في صدر شبابه, فلقد قال عنه أقرانه في السَّماع: "كان البخاريُّ يختلف معنا إلى السماع, وهو غلام لا يكتب, حتى أتى على ذلك أيامٌ, وكنا نقول له فى ذلك, فقال: إنَّكم قد أكثرتم عليَّ, فاعرضوا عليَّ ما كتبتم, فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسةَ عشر ألف حديث, فقرأها كلَّها عن ظهر قلب, حتى جعلنا نُحكم كتبنا من حفظه, ثم قال: أترونَ أنِّي أختلف هدراً, وأضيع أيامي؟". ومن أوضح الأمثلة على قوة حفظه ما فعله مع خُذّاق المحدِّثين في بغداد، عندما اجتمع عليه عشرةٌ منهم، وقلب كلُّ واحد منهم أسانيد عشرة أحاديث، وأدخلوا المتون والأسانيد في بعضهما البعض, فقام البخاريُّ بإصلاح الأحاديث من حفظه, وردِّ الأسانيد الصحيحة إلى متونها الأصليَّة, والعجبُ لم يكن في أصلاحه للخطأ وردِّه للصواب, ولكن العجب في حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقَوه عليه مرةً واحدة, ثم إصلاحه للخطأ كله جميعاً في مجلس واحد، كأنَّه حاسوب ذو ذاكرة جبارة، وقد تكرر الموقف معه في سمرقند وكانوا هذه المرة أربعمائة محدِّث, وقاموا بإدخال ![]() إسناد الشام في إسناد العراق, وإسناد اليمن في إسناد الحجاز, فما تعلَّقوا منه بسقطة. وكان من قوة حفظه يسمعُ الحديث في البصرة ويكتبه في الشام, ويسمعه في الشام ويكتبه في مصر, وكان يأخذ الكتاب فيطَّلع عليه مرة واحدة فيحفظه عن ظهر قلب، وكان أهل المعرفة في البصرة يَعدون خلفه في طلب الحديث، وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه, ويُجلسوه في بعض الطريق, فيجتمعَ عليه ألوف، أكثرُهم ممن يكتب عنه, وكان وقتَها شاباً لم ينبت شعرُ وجهه. 2- براعته في معرفة العلل العلة اصطلاحاً: هي سببٌ غامضٌ خفيٌّ يقدح في صحة الحديث, مع أنَّ الظاهر السلامة منه, ومعرفة العلل من أشرف وأدقِّ علوم الحديث, ولا يقدر عليها إلا الجهابذة من العلماء, فهذا الإمامُ الكبير عبدُ الرحمن بن مهديّ شيخ الشافعيّ، يقول: "لئن أعرف علَّة حديث, هو عندي أحبُّ إليَّ من أن أكتب عشرين حديث ليس عندي". وهذا الفنُّ الدقيق من فنون مصطلح الحديث، لم يبرع فيه إلا قلة نادرة من العلماء, رأسُ هؤلاء الجهابذة؛ الإمامُ البخاريُّ الذي لم يُلحق شأوه في هذا المضمار. قال الإمام الترمذيُّ: "لم أرَ أحداً في العراق ولا بخراسان، في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد, أعلم من محمد بن إسماعيل". وقال أحمد بن حمدون الحافظ: "رأيت البخاريَّ في جنازةٍ، ومحمد بن يحيى الذُّهليُّ, يسأله عن الإسناد والعلل, والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السهم، كأنه يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الإخلاص:1]". وكان الإمام مسلم يقول له: "دعني أُقبِّلْ رجليكَ يا أستاذَ الأستاذين, وسيِّدَ المحدِّثين, وطبيب الحديث في علله". ![]() 3- احتياطه في نقد الرجال - نقد الرجال أو جرح الرُّواة من الأمور الصعبة في علم الحديث, إذ به ينقسم الحديث إلى صحيح وضعيف, وهو يحتاجُ إلى أقصى درجات التَّديُّن والتَّقوى والورع والتَّحرُّز والاحتياط والتَّجرُّد من الهوى, وعلم الجرح والتعديل من أهمِّ علوم الحديث وأكثرها شهرةً وإثارةً للجدل بين العلماء من السَّلف والخلف, والناس في غالب العصورلم يفهموا هذا العلم جيّداً, وعدُّوه من قبيل الاغتياب والخوض في الأعراض, قال ابنُ خلاد للإمام يحيى بن سعيد القطَّان: "أما تخشى أن يكونَ هؤلاء الَّذين تركت حديثَهم خصماءك عند الله يومَ القيامة, فقال: لئن يكونوا خصمائي, أحبُّ إلى من أن يكون خصمي رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لي: لِمَ لَمْ تذُبَّ الكذبَ عن حديثي؟!". - ولقد اتَّبع البخاريُّ منهجاً راقياً فريداً في نقد الرجال، دلَّ على منزلته العليا في الديانة والإخلاص والورع, فلقد كان ينتقي ألفاظ نقده بأدقِّ الكلمات التى تُحقق المراد، ولا تقدحُ في الهيئات, مثلُ أن يقولَ فيمن ترك الراويةَ عنه كلماتٍ من عينة: أنكره الناس, المتروك, السَّاقط, فيه نظرٌ, سكتوا عنه, تركوه، وهكذا. .. ومن النادر جداً أن يثبت عن البخاريِّ أنه قال عن رجلٍ بأنَّه وضَّاع, أو كذَّاب, ومن أشدِّ كلمات الجرح عند البخاريِّ أن يقول: مُنكر الحديث. وقد قال له محمد بن أبي حاتم الورَّاق: "إنَّ بعض الناس يَنقمون عليك في كتاب (التاريخ) ويقولون: فيه اغتيابُ الناس", فقال: "إنَّما روينا ذلك روايةً لم نقُله من أنفسنا, ولا يكون لي خصمٌ في الآخرة, فما اغتبتُ أحداً منذ علمي أنَّ الغيبة تضرُّ أهلها". ![]() 4- فقهه - الإمام البخاريُّ لم يكن مجرَّد صاحبِ حديثٍ فحسب, بل كان من فقهاء الأمة المعدودين، وتراجمُ كتابه الأشهر (الصحيح) خيرُ دليلٍ على فقهه, حتى اشتهر من قول العلماء: فقه البخاريِّ في تراجمه, والبعضُ ينسبه إلى مدرسة الشَّافعيِّ في الفقه, ولكن الحقَّ الذي لا مِراء فيه أنَّه مجتهدٌ مطلَق قد استكمل أدواته, واختياراتُهُ العلميَّة والفقهيَّة جديرة بأن تكون مذهباً مستقلاً في الفقه, ولكنها أُلحقت بمدرسة فقهاء الأثر وأصحاب الحديث. - وقد بلغت براعةُ البخاريِّ الفقهية مبلغاً كبيراً، بحيث إنَّه قُرن بالأئمة الكبار مثل مالك وأحمد والشَّافعيِّ وإسحاق, قال بندارُ: "هو أفقهُ خلقِ الله في زماننا", وقد سُئل قتيبة عن طلاق السَّكران, فدخل محمد بن إسماعيل، فقال قُتيبة للسائل: "هذا أحمدُ بن حنبل, وإسحاق بن راهويه, وعليُّ بن المديني, قد ساقهمُ الله إليك", وأشار إلى البخاريِّ, وقال أبو مصعب الزُّهريِّ: "محمد بن إسماعيل أفقهُ عندَنا وأبصرُ, من أحمد بن حنبل", فقيل له: جاوزت الحدَّ, فقال: "لو أدركتَ مالكاً ونظرتَ إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل, لقلت: كلاهما واحدٌ في الفقه والحديث". وكان أهلُ المعرفة في خراسان ونيسابور يعُدُّون محمد بن إسماعيل أفقه من إسحاق بن راهويه. أخلاقه وعبادته من الأمور الثَّابتة في سجل علماء الأمة الربَّانيِّين, أن لن تجد أحداً منهم مسرفاً على نفسه, أو مفرطاً في حق ربِّه, أو سيئ الأخلاق مع الناس, فعلماءُ الأمة الكبار وأئمَّتها الأعلام قد كمُل حالهم علماً وعملاً وخلقاً وديانة, والبخاريُّ على نفس الدرب يسير, فلقد كان زاهداً عابداً كريماً سمحاً متواضعاً شديد الورع. ![]() قال ابنُ مجاهد: "ما رأيتُ بعينيَّ منذ ستين سنةً أفقهَ, ولا أورعَ ولا أزهدَ في الدنيا من محمد بن إسماعيل", فقد كان البخاريُّ يأتي عليه النهار, فلا يأكل فيه شيئاً سوى لوزتين أو ثلاثة, كان ذات مرةٍ بالبصرة فنفدت أمواله، فمكث في بيته عدة أيام لم يخرج، لأنه لم يجد ما يسترُ به بدنه, ورغم زهده ورقَّة حاله، إلا أنه كان جواداً سمحاً كثير الصَّدقة, واسعَ الصَّدر, عظيم الاحتمال, سهل الجناب, يُقابل الإساءة بالإحسان, يترك كثيراً من الحلال خشية الشُّبهة والوقوع في الحرام, والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، ومنها: أنَّه كان في بيته ذاتَ مرَّة, فجاءت جاريتُه، وأرادت دخولَ المنزل, فعثرت على محبرة بين يديه, فقال لها كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريق, كيف أمشي؟ فبسط يديه, وقال: اذهبي, فقد أعتقتك, فقيل له: يا أبا عبد الله, أغضبتك الجارية؟ فقال: إن كانت أغضبتني, فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت. قال البخاريُّ يوماً لأبي معشر الضَّرير: اجعلني في حِلٍّ يا أبا معشر, فقال: من أيِّ شيءٍ؟ فقال: رويتُ حديثاً, فنظرتُ إليك وقد أعجبتَ به وأنت تُحرِّك رأسك ويديك، فتبسَّمتُ من ذلك, قال: أنتَ في حِلٍّ, يرحمُك اللهُ يا أبا عبد الله. قام يُصلِّي يوماً فلدغه زنبور سبعةَ عشر مرة, فلم يَقطع صلاته ولمَّا عوتب في ذلك، قال: كنت في سورةٍ, فأحببتُ أن أُتِمَّها, وكان يُصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة, أما في رمضان فكان له نهجُه التعبديُّ الخاص به, فقد كان يجتمع إليه أصحابه, فيُصلي بهم, ويقرأُ في كل ركعة عشرين آية, وكذلك إلى أن يختم القرآن, وكان يقرأ في السَّحر, ما بين النِّصف إلى الثُّلث من القرآن, ![]() فيختم عند السَّحر, في كلِّ ثلاث ليال, وكذلك يختمُ بالنَّهار في كل يومٍ ختمة, ويكون ختمُه عند الإفطار كلَّ ليلة، ويقول: عند كلِّ ختمةٍ دعوةٌ مستجابة. كان البخاريُّ رغم مكانته العلمية السامقة، وانشغاله الدائم بالدرس والعلم والرحلة، إلا أنه كان يشترك في أمور المسلمين العامَّة وشئونهم الهامَّة, فلقد كان يُرابط بالثُّغور وينتظم في حلقات الرِّماية, ويحملُ فوق رأسه الآجُرَّ في بناء الربط. ثناء العلماء عليه وكما رزق اللهُ -عزَّ وجلَّ- الإمام البخاريَّ فتوحاً ربَّانيَّة في العلم والحفظ والفهم والفقه والزُّهد والورع والعبادة, فقد رزقه محبَّةً وقَبولاً كبيرين في قلوب العباد, فكان البخاريُّ كلَّما حلَّ ببلد أو مدينة, ازدحم عليه النَّاسُ بصورةٍ تفوق الوصفَ والبيان, وكان يخرجُ إليه عامَّة أهل البلاد, ويَنثرون عليه الورد والدراهم, ولما رجع البخاريُّ إلي بلدته بعد رحلته الدِّراسيَّة, نُصبت له القباب على فرسخ من البلد, وخرجُ إليه أهل البلد جميعاً. وهذه طائفةٌ من ثناء العلماء على مرِّ العصور على الإمام البخاريِّ: قال قتيبةُ بن سعيد: "جالست الفقهاء, والزُّهَّاد, والعُبَّاد, فما رأيتُ منذ عقلتُ مثل محمد بن إسماعيل, وهو في زمانه؛ كعمر في الصَّّحابة". قال أبو حاتم الرازيُّ: "لم تُخرج خراسانُ قط, أحفظَ من محمد بن إسماعيل, ولا قَدِم منها إلى العراقِ أعلمُ منه". ![]() قال الإمام الدَّارميُّ: "قد رأيتُ العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق, فما رأيتُ فيهم أجمعَ من محمد بن إسماعيل, فهو أعلمُنا وأفقُهنا وأكثرنا طلباً". قال ابنُ خزيمة: "ما تحتَ أديم السَّماء أعلمُ بالحديث من محمد بن إسماعيل". قال أبو عمر الخفاف: "هو أعلمُ بالحديث من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة, ومن قال فيه شيئاً فعليه منِّي ألفُ لعنة, فإنَّك لو دخلتَ عليه وهو يُحدِّث لملئت منه رعباً، فمحمدٌ هو التَّقيُّ النَّقيُّ". قال أبو سهل الشّافعي: "دخلتُ البصرة والشام والحجاز والكوفة ورأيت علماءها, كلَّما جرى ذكرُ محمد بن إسماعيل فضَّلوه على أنفسهم, وقد سمعتُ أكثر من ثلاثين عالماً من علماء مصر يقولون: حاجتُنا من الدُّنيا النظر في تاريخ محمد بن إسماعيل". قال الإمام مسلم للبخاريِّ يوماً: "دعني أُقبِّل رِجليك يا أستاذَ الأستاذين, وسيدَ المحدِّثين, وطبيبَ الحديث في علله". قال سليم بن مجاهد: "لو أنَّ وكيعاً وابن عيينة وابن المبارك كانوا في الأحياء، لاحتاجوا إلى محمد بن إسماعيل". قال الإمامُ التِّرمذيُّ: "لم أرَ بالعراق ولا بخراسانَ في معنى العِلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد، أعلمَ من محمد بن إسماعيل". ![]() قال عبدُ الله بن حماد: "وَدِدْتُ أنِّي شعرةٌ في صدر محمد بن إسماعيل". قال الحافظُ ابن حجر: "ولو فتحتُ باب ثناء الأئمة, ممَّن تأخر عن عصره, لفني القرطاس, ونفدت الأنفاس, فذاك بحرٌ لا ساحل له". قال العلامة العينيُّ الحنفيُّ: "الحافظ الحفيظُ الشهير, المميز الناقد, البصير, الذي شهدَتْ بحفظه العلماءُ الثقات, واعترف بضبطه المشايخ الأثبات, ولم يُنكر فضله علماء هذا الشأن, ولا تنازَع في صحة تنقيده اثنان, الإمام الهمام, حجةُ الإسلام, أبو عبد الله؛ محمد بن إسماعيل البخاريُّ". قال الشيخُ نور الحق الدهلويُّ: "ما كان له مثيلٌ في عصره في حفظ الأحاديث، وإتقانها، وفهم معاني الكتاب والسنة, وحِدَّة الذِّهن, وجودة القريحة, ووفور العفَّة, وكمال الزُّهد, وغاية الروع, وكثرة الاطِّلاع على طرق الحديث وعللها, ودقَّة النَّظر, ورقَّة الاجتهاد, واستنباط الفروع من الأصول". قال النوويُّ في خاتمة ترجمة البخاريِّ: "فهذه أحرفٌ من عيون مناقبه وصفاته, ودرر شمائله وحالاته, أشرتُ إليها إشارات, لكونها من المعروفات الواضحات, ومناقبُه لا تُستقصى؛ لخروجها على أن تُحصى, وهي منقسمةٌ إلى حفظ ودراية, واجتهادٍ في التَّحصيل ورواية, ونُسك وإفادة, وورع وزِهادة, وتحقيقٍ وإتقانٍ وتمكُّن وعرفان, وأحوال وكرامات وغيرها من أنواع الكرامات". قال ابنُ كثير: "البخاريُّ الحافظ, إمامُ أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه, والمقدم على سائر أترابه وأقرانه, وكتابه الصَّحيح يُستقى بقراءته الغمام –وهو أمرٌ محدث في القرون المتأخرة– ![]() وأجمع العلماء على قبوله, وصحة ما فيه, وكذلك سائر أهل الإسلام, ولو استقصينا ثناءَ العلماء عليه في حفظه وإتقانه وعلمه وفقهه وورعه وزهده وعبادته, لطال علينا؛ فقد كان في غاية الحياء والشَّجاعة والسَّخاء والورع والزُّهد في الدُّنيا, دار الفناء, والرَّغبة في الآخرة دار البقاء". قال القسطلانيُّ: "هو الإمام, حافظ الإسلام, خاتمة الجهابذة, النقاد والأعلام, شيخ الحديث, وطبيب علله في القديم والحديث, وإمام الأمة عجماً وعرباً, ذو الفضائل التي سارت السّراة بها شرقاً وغرباً, الحافظ الذي لا تغيب عنه شاردة, والضابط الذي استوى لديه الطارفة والتالدة". وخلاصة هذه الأقوال ما قال الشيخُ عبد السلام المباركفوريُّ: "إنَّ الاستدلال على تبحُّر إمام المحدثين في العلم وذكائه وقوة اجتهاده وسيلان ذهنه, بأقوال المتأخِّرين, كرفع السِّراج أمام الشمس". البخاريُّ وكتابه الجامع الصَّحيح للبخاريّ مؤلفاتٌ كثيرة في الحديث والتاريخ والفقه والعقيدة، وغيرها من فروع العلم، غير أنَّ أشهر كتبه على الإطلاق، بل أشهرُ ما ألفه عالمٌ مسلم، وأصحُّ كتاب على وجه الأرض، بعد القرآن الكريم، هو صحيحُ البخاريِّ الذي أصبح رمزاً للصحة وعنواناً للكمال والدِّقَّة بين المسلمين أجمعين على مرِّ العصور. ذكر الحافظُ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسباباً ثلاثة، دعت الإمامَ البخاريَّ رحمه الله إلى تأليف كتابه الجامع الصَّحيح: ![]() أحدها: أنه وجد الكتب التي أُلِّفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التَّصحيح والتَّحسين، والكثير منها يشمله التَّضعيف فلا يقال لغثِّه سمين, قال: فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، الذي لا يرتاب في صحته أمين. الثاني: قال: وقوّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أميرِ المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، المعروف بابن راهوية، وساق بسنده إليه أنه قال: "كنَّا عند إسحاق بن راهوية، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الصَّحيح". الثالث: قال: ورَوينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس، قال سمعت البخاريَّ يقول: رأيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وكأنِّي واقف بين يديه، وبيدي مروحةٌ أذُبُّ بها عنه, فسألتُ بعض المعبِّرين، فقال لي: "أنتَ تَذُبُّ عنه الكذبَ، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصَّحيح". ولم يألُ البخاريَّ -رحمه الله- جهداً في العناية بهذا المؤلف العظيم. يتَّضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه فنقل الفربري عنه أنه قال: "ما وضعتُ في كتابي الصَّحيح حديثاً إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصليتُ ركعتين"، ونقل عمر بن محمد البحيريُّ عنه أنه قال: "ما أدخلتُ فيه -يعني الجامع الصحيح- حديثاً إلا بعد ما استخرتُ الله تعالى وصليتُ ركعتين وتيقَّنت صحته". ونقل عنه عبدُ الرحمن بن رساين البخاريّ، أنه قال: "صنَّفت كتابي الصَّحيح لست عشرة سنة، خرَّجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى". ![]()
__________________
|
|
#8
|
||||
|
||||
![]() الإمام البخاريُّ (2/2) محنة البخاريِّ ووفاته شريف عبدالعزيز (14) ![]() الكلام عن محنة البخاري يُثير في القلب شُجونًا وأحزانًا وآلامًا كثيرة؛ ذلك لأنَّ هذه المحنة بالذات ما زالت أصداؤها تتردَّد لوقتنا الحاضر، ولكن بصورة مختلفة وبأوجه جديدة، وما زالت ضروبُ هذه المحنة وأقرانها تقع كلَّ يوم وفي كل عصر وجيل، ولُبُّ هذه المحنة وأساسها الغيرة والحسد بين الأقران، فهي -كما قال البخاريُّ رحمه الله نفسه في وصيته-: "لا يسلم عالمٌ متقدِّم على أقرانه من ثلاثة أمور: طعنُ الجهلاء وملامةُ الأصدقاء وحسدُ العلماء، وهو عينُ ما جرى للبخاريِّ في محنته". وبدأت فصول محنة البخاريِّ عندما توجه إلى مدينة نيسابور، وهي من المدن الكبيرة في خراسان، فلمَّا وصل إليها خرج إليه أهلُها عن بكرة أبيهم، فلقد استقبله أربعةُ آلاف رجل رُكبانًا على الخيل سوى من ركب بغلاً أو حمارًا، وسوى الرِّجال، وخرج الوُلاة والعلماء كافة لاستقباله قبل أن يدخل المدينة بمرحلتين أو ثلاثة [قرابة المائة كيلو متر مربع] وبالغوا في إكرامه بصورةٍ لم تكن لأحد قبله ولا حتى بعده. ومن روعة الاستقبال وعظيم التقدير والاحترام الَّذي وجده البخاريُّ بنيسابور، قرَّر المقام فيها لفترةٍ طويلة واتَّخذ فيها دارًا، وأخذ علماءُ نيسابور في حضِّ طلبة العلم على السَّماع من البخاريِّ، ![]() وكان رأسُ علماء نيسابور وقتها الإمامُ محمد بن يحيى الذهلي، وكان رأسًا متبوعًا مطاعًا ليس في نيسابور وحدها بل في خراسان كلِّها، الناسُ يطيعونه أكثر من طاعتهم للخليفة والوالي، وكان الذُّهليُ ممن حض الناس على الجلوس للبخاريِّ وحضور مجالسه ودروسه، والذُّهليُّ نفسه كان ممن استفاد كثيرًا من البخاريِّ، حتى إنه كان يمشي خلف البخاريِّ في الجنائز، يسأله عن الأسامي والكُنى والعِلل، والبخاريُّ يمرُّ فيه مثل السَّهم. ومع استقرار البخاريِّ في نيسابور، أخذت مجالسُ التحديث تخلو شيئًا فشيئًا من طلاب الحديث لصالح مجلس البخاريِّ حتى ظهر الخلل في مجلس كبير علماء نيسابور محمد بن يحيى الذُّهلي نفسه، عندها تحرَّكت النوازعُ البشرية المركوزة في قلوب الأقران، فدبَّ الحسد في قلب الذُّهليِّ وتسلَّلت الغيرةُ المذمومة إلى نفسه شيئًا فشيئًا، حتى وصل الأمر به لأن يخوضَ في حقِّ البخاري ويتكلمَ فيه ويرميه بتُهمةٍ البخاريُّ بريءٌ منها، فما هذه التُّهمة يا تُرى والتي كانت سبب محنة البخاريِّ؟ هذه التهمةُ هي تهمة اللفظية، وهي تعني قول القائل: أنَّ لفظي بالقرآن مخلوق، فقد قال لأصحاب الحديث إنَّ البخاريَّ يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس، فلما حضر الناسُ مجلس البخاريِّ، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقولُ في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرضَ عنه البخاريُّ ولم يُجبه، فأعاد الرجل السؤال ثلاث مرات، فالتفت إليه البخاريُّ، وقال: "القرآنُ كلام الله غيرُ مخلوق، وأفعال العباد مخلوقةٌ، والامتحان بدعة"، أي: إنَّ البخاريَّ قد أدرك مغزى السؤال، وعلم أنه من جنس السؤالات التي لا يُراد بها وجه الله -عزَّ وجلَّ-، وإنَّما يُراد بها امتحانُ العلماء وإثارة الفتن والفرقة بين الناس، فشغب الرجل السائل على مجلس البخاريِّ، فقام الإمام منه. ![]() بعد هذه الحادثة أخذ الذُّهليُّ في التشنيع على البخاريِّ، واتهمه بالتجهم، وقال: قد أظهر البخاريُّ قول اللَّفظيَّة واللفظيَّة عندي شرٌّ من الجهميَّة، ومَن ذهب بعد إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه، ثم تمادى الذُّهليُّ في التشنيع والهجوم على البخاريِّ، ونادى عليه في الناس ومنع طلبة الحديث من الجلوس إليه، ثم ألزم كلَّ من يحضر مجلسه ألا يجلس للبخاريِّ، فقال يومًا: ألا من قال باللفظ فلا يحلُّ له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتَها الإمامُ الكبيرُ مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذُّهليِّ، وهذا الأمر جعل الذُّهليَّ يزداد في هجومه على البخاري، ويصل لأعلى درجات الغلوِّ والغيرة المذمومة، إذ قال بعد حادثة خروج الإمام مسلم من مجلسه: "لا يُساكنني هذا الرجلُ [يعني البخاري] في البلد" وأخذ الجهالُ والسفهاءُ يتعرَّضون للبخاريِّ في الطريق يؤذونه بالقول والفعل، مما أُجبر معه البخاريُّ في النِّهاية لأن يخرج من البلد. وبالنظر لما قام به الذُّهليُّ بحق البخاريِّ، نجد أن الذهليَّ قد تدرج في التشنيع والهجوم على الإمام البخاريّ، للوصول لغاية محددة منذ البداية، ألا وهي إخراج البخاريِّ من نيسابور حسدًا منه على مكانة البخاريِّ العلميَّة، وحتى لا ينسحبَ بساط الرياسة العلمية منه لصالح البخاري، وهذا ما فهمه البخاريُّ منذ البداية، وقاله لتلامذته ومن سأله عن هذه النازلة، فهذا تلميذه محمد بن شاذل، يقول: "دخلتُ على البخاري لمَّا وقع فيه محمد بن يحيى، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الحيلةُ لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كلُّ من يختلف إليك يُطرد؟ فقال البخاريُّ: كم يعتري محمد بن يحيى من الحسد في العلم، والعلمُ رزق الله يُعطيه من يشاء"، وقال أحمد بن سلمة: "دخلتُ على البخاريِّ فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجلٌ مقبول بخراسان خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا ![]() الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يُكلمه فيه فما ترى؟ فقبض البخاريُّ على لحيته ثم قرأ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44]، اللهمَّ إنك تعلم أنِّي لم أُرد المقام بنيسابورَ أشرًا ولا بطرًا ولا طلبًا للرياسة، وقد قصدني هذا الرجل [يقصد الذُّهليّ] حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمدُ إني خارجٌ غدًا لتتخلَّصوا من حديثه لأجلي، فقال أحمد بن سلمة: فأخبرت جماعة من أصحابنا بخروج الإمام، فوالله ما شيَّعه غيري، وكنت معه حين خرج من البلد. وبالفعل خرج البخاريُّ من نيسابور، واتجه إلى مرو من أعمال خراسان؛ ليواصل رحلته العلميَّة، فإذا بالذُّهليِّ يواصل هجومه الشَّرس على البخاريِّ، حتى بعد خروجه من نيسابور، حيثُ أخذ في الكتابة لسائر بلاد ومدن خراسانَ يحذِّرهم من البخاريِّ، وأنه يتبنَّى قول اللفظيَّة، وقد آتت هذه الحملة أُكُلها السّيّء، فكلما توجه البخاريُّ إلى بلد في خراسان وجد الناس ثائرين عليه، وكُتب الذُّهليُّ في حقه تنهال على علماء المدن وأمرائها فتُوغر الصدور وتُحرِّك الشكوك وتُسيء الظنون، حتى وصلت حدَّة الحملات التشويهية ضد البخاري، لأن يقدم رجلان من أكبر علماء الرجال في الحديث، وهما أبو حاتم وأبو زُرعة لأن يقولا: "إنَّ البخاريَّ متروكٌ"، ولا يكتبانِ حديثه بسبب مسألة اللَّفظ، وسبحانَ الله! لا أدري كيف أقدم أبو حاتم وأبو زُرعة على مثل هذه المقولة؟ وكيف تجاسرا عليه؟ والبخاريُّ حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة، والبخاريُّ أعلى منهما كعبًا في كل باب في الحديث والفقه والحفظ، قال الذَّهبيُّ في السير: "كلامُ الأقران بعضهم في ![]() بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح لك أنَّه لعداوةٍ أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين". وكان البخاريُّ يؤكد في كلِّ مكان أنه لم يقل إنَّ لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظُ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرٍو، احفظ ما أقولُ لك: مَن زعم مِن أهل نَيسابورَ وقوس والرِّي وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أنِّي قلت: لفظي بالقرآن مخلوقٌ فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنِّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أنَّ الذُّهليَّ الذي خاض في حقِّ البخاريِّ وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاريّ على لازم قول البخاريِّ أنَّ الأفعال مخلوقة، فقال الذهبيُّ: إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازمُ القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه، قال الذَّهبيُّ: ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نُكفِّر مسلمًا موحدًا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم ويُنَزِّه ويعظم الرب، لذلك كان البخاريُّ ينفي في كلِّ موطن هذه التهمة عن نفسه ويبرأ منها. وفاته ![]() ظل البخاريُّ ينتقل من بلد لآخر، وكلَّما حلَّ ببلد طاردته الشائعاتُ، وكتب الذُّهليُّ تلاحقه في كلِّ مكان نزل به، حتى اضطرَّ في النهاية للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى وسمرقند، لتنالَ هذه البلدة شرفاً عظيماً بأن قضى بها الإمامُ آخر أيام حياته، وقد ضاقت عليه الدنيا بما لاقاه من أهلها، وخاصة من رفقاء الدرب وأصحاب الحديث الَّذين حسدوه، وكان في شهر رمضانَ من سنة 256 هجريَّة، فقضى ليالي رمضانَ الأخيرة في القيام والدُّعاء والمناجاة والشَّكوى لربِّ الأرض والسَّموات، وكان غالبُ دعائه في تلك الليالي: "اللَّهمَّ إنَّ الأرض قد ضاقت عليَّ، فاقبضني إليك يا ربَّ العالمين". وفي ليلة الفطر من سنة 256 هجرية، صعدت الروح الطاهرة إلى بارئها بعد صلاة العشاء، فدُفن من صبيحة الفطر، وقد فاحت رائحةٌ رائعة لم يَشَمَّ الناس مثلها من قبل من قبره، ظَلَّت تفوحُ لفترة طويلة، كما ما زال علمه يفوح ويروح في كل مكان في العالم، فأين حسَّادُهُ؟ وأين الوشاة والساعون فيه؟ طواهم النسيان، وقتلتهم أحقادهم، وبقي ذكر البخاري إلي اليوم، وحتى تقوم الساعة، فهنيئاً له على ما قدَّم للأمة الإسلامية، وسلامٌ عليه إلي يوم الدين. ![]() المراجع والمصادر سير أعلام النبلاء. طبقات الحفاظ. تذكرة الحفاظ. صفة الصفوة. البداية والنهاية. مقدمة الفتح. نخبة الفكر. وفيات الأعيان. تاريخ بغداد. تهذيب الأسماء واللغات. تاريخ بغداد. شذرات الذهب. النجوم الزاهرة. ![]()
__________________
|
|
#9
|
||||
|
||||
![]() الإمام جمال الدين القاسمي شريف عبدالعزيز الزهيري (18) ![]() كلما بعدت الأمة عن منهج النبوة، وكلما تقادم عهد منابع الدين النقية الصافية وقعت في هوة سحيقة من الجمود والتخلف والضعف، وهذه الأدواء كلها تطيح بالأمة عن مقدمة الركب إلى ذيلة، وهذا ظاهر في فترات ضعف الأمة؛ حيث ترى العديد من السمات والظواهر لتلك الفترات: فترى انتشارًا للخرافات والبدع، وترى جمودًا عمليًا، وتقليدًا أعمي، وركودًا فكريًا، وتعصبًا مذمومًا، وترى أو السنة قد أصبحت بدعة، والبدعة أصحبت سنة، ويصبح الاجتهاد والتجديد تهمة خطيرة يستحق صاحبها النفي والقتل والتنكيل حتى يكون عبرة لغيره ممن تسول له نفسه أن يجتهد، أو يجدد، أو يصلح من أمور المسلمين. التعريف به: ![]() هو الإمام الكبير، العالم المفسر المحدث، علامة الشام، المجدد المجتهد، صاحب التصانيف الكثيرة الباهرة، العلامة الشيخ أبو الفرج محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم بن صالح بن إسماعيل بن أبي بكر المعروف بالقاسمي نسبة إلى جده قاسم الملقب بالحلاق. ولد القاسمي في جمادي الأولى سنة 1283هـ - 1866م بدمشق حاضرة الديار الشامية، في بيت دين وورع، وخلق كريم، وعلم وأدب، فأبوه كان من الفقهاء الأدباء، له كتاب طريف في باب اسمه (قاموس الصناعات الشامية)، وفي ذلك الجو العابق بجلال الدين والعلم، ورقة الأدب وتهذيبه نشأ الإمام القاسمي نشأة حسنة صالحة، وأقبل على طلب العلم منذ صباه ونعومة أظافره، وقد حرص أبوه على أن يعهد به إلى الأئمة والأعلام في كل فن، فحفظ القرآن وجوده على يد شيخ قراء الشام الشيخ الحلواني، ثم انتقل إلى مكتب المدرسة الظاهرية؛ فتعلم التوحيد وعلوم اللغة والفقه والحديث والأصول،؛ فنال إجازات عالية في كل هذه الفنون ولما يبلغ الثامنة عشرة، ولم يترك إمامًا بارزًا، أو شيخًا معروفًا إلا جلس إليه، وأخذ عنه إجازة بعلومه. كان الإمام القاسمي صاحب عزيمة جبارة، ومثابرة عجيبة في طلب العلم، ومطالعة الكتب، والمدارسة والتحصيل والتحقيق، وكان شديد الحرص على أوقاته، وأضن بلحظات حياته من الدينار والدرهم، لا يضيع شيئًا منها سدى، وتلك المحافظة قد مكنته من مطالعة ما لا يحصى من الكتب الكبار والصغار، ينجز الدواوين الكبيرة مطالعة وبحثًا في أيام معدودات، وتلك الهمة العالية دفعت به لمصاف كبار العلماء وهو شاب في شرخ الشباب، وكان دائمًا يقول: (المكسال شيخ في شبابه؛ لأن دقيقة البطالة أطول من ساعة العمل). ولقد اتصف القاسمي رحمه الله بصفات العلماء الربانيين، فقد كان سليم القلب، عفيف النفس واللسان، واسع الحلم، جم التواضع، سخيًا على ضيق حاله، حلو المعاشرة والمجالسة، وأوقاته عامرة كلها بالنفع العام والخاص، عازفًا عن المناصب، مجانبًا للسلطة وأربابها، ولقد عرض عليه منصب قاضي العسكر براتب مغر فأعرض لعلمه بتبعات المناصب وضريبتها. ولقد ظل الإمام القاسمي محافظًا على نفسه وأوقاته طوال حياته، لم يضع منها ساعة في لهو أو بطالة؛ لذلك بارك الله عز وجل في عمره القصير، وأنجز فيه ما لا يفعله إلا مثله من أفذاذ العلماء من سلف هذه الأمة، فلقد كان رحمه الله إمامًا وخطيبًا في دمشق، ومدرسًا يلقي عدة دروس في اليوم الواحد للعامة وطلاب العلم، له مشاركات فعالة في الحياة الاجتماعية بدمشق، ويتصدى للبدع والخرافات، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهكذا ديدن حياته، حتى صار علامة الشام المقدم بلا منازع. مصنفاته: ![]() عاش الإمام القاسمي حياة قصيرة من حيث عدد سنواتها، 49 عامًا، ولكنها كانت عريضة طويلة، وغنية بالعلم والعمل النافع والصالح، فلقد كان الإمام حريضًا على وقته أيما حرص، واجتمع عنده من أدوات التصنيف ما أهل لإخراج تلك الحصيلة الرائعة والنافعة من المؤلفات والمصنفات التي أثرت المكتبة الإسلامية في شتى الفنون، وقد بدأ التصنيف وهو في سن المراهقة، وقد ساعدته همته العالية، وحرصه على وقته بكل سبيل، على التأليف والتحقيق والترجيح والمناقشة للأقوال في مؤلفاته؛ فجاءت كاملة في معناها، شاملة في بابها، وكان اهتمامه بالتأليف والتصنيف كبيرًا جدًا؛ لعلمه بأهمية الكتاب في نقل الأفكار، ونشر العلوم، وكان دائمًا يقول: (كتاب يطبع خير من ألف داعية وخطيب، لأن الكتاب يقرؤه الموافق والمخالف)، ولقد ترك ثروة علمية كبيرة، زيادة عن مائة مؤلف ومصنف: بين كبير، ومتوسط، وصغير من أهمها: 1- تفسيره الشهير للقرآن الكريم المسمى (محاسن التأويل) وهو من أجل مصنفاته، وهو من أفضل التفاسير المعاصرة وأنفعها، خاصة في باب الرد على أهل البدع، والفرق والضالة. 2- كتاب دلائل التوحيد، وكان القاسمي سلفيًا في عقيدته كما هو ظاهر من كتبه. 3- إصلاح المساجد من البدع والعوائد. 4- قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث. 5- تعطير المشام في مآثر دمشق الشام. 6- شمس الجمال على منتخب كنز العمال. وله أيضًا شذرة من السيرة النبوية، ورسالة الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس، ميزان الجرح والتعديل، جوامع الآداب في أخلاق الإنجاب، حياة البخاري، وغيرها من الكتب: منها المطبوع، ومنها المخطوط الذي يحتاج لجهد المحققين لإخراجه إلى النور حتى ينتفع به الناس. ![]() ثناء الناس عليه: ظهر القاسمي في فترة مضطربة من حياة الأمة الإسلامية، كانت تعاني فيها من تسلط خارجي، وضعف داخلي، وقد وقعت معظم بلاد الإسلام - ومنها الشام - فريسة للاحتلال الصليبي؛ فكان من الطبيعي أن يضعف الاهتمام بالعلم والعلماء لانشغال الناس بما وقع ونزل ببلادهم، لذلك كان الثناء على علماء الزمان قليلا ونادرًا، ولكن لا يمنع ذلك من ثناء الناس على الإمام القاسمي، ومن ذلك: قال عنه أمير البيان شكيب أرسلان: وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهمًا ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، ألاَّ تقدم شيئًا على قراءة تصانيف المرحوم الشيخ جمال القاسمي. قال عنه الشيخ محمد رشيد رضا: هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل، والتعليم والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن. محنته: ![]() دائمًا ما يكون للعصر الذي يحيا فيه الإمام الذي نروى محنته دور كبير في تلك المحنة؛ فلقد ولد القاسمي ونشأ وترعرع في فترة بالغة الاضطراب، في أواخر الحكم العثماني الذي أوشكت شمسه على الغروب، وكانت الأوضاع السياسية شديدة الاضطراب، والأعداء يحيطون بالدولة من كل اتجاه، والاستبداد الداخلي قد كمم الأفواه ووأد الطموحات، والأمة تشهد تراجعًا وتدهورًا كبيرًا في شتى المجالات، ومنها المجال الديني الذي شهد جمودًا، وانشغالا بالقشور والمتون والحواشي، والتفريعات النظرية، والافتراضات الوهمية، وغرق أهل العلم وقتها في أتون التعصب والتقليد والمذهبية المقيتة، حتى صار العلم مرادفًا للتحجر والتجمد والغيبوبة، وبالتالي أثر ذلك على الناس بشدة، فلم تستضئ حياتهم بنور العلم الساطع، والفهم الصحيح المثمر للدين، وصار كل من يحاول كسر ذلك الجمود العلمي، ويحرك ركود الحياة العلمية آنذاك مارقًا مبتدعًا، تجب محاكمته وردعه. كان العلامة القاسمي معنيًا بأحوال الأمة الإسلامية، يسوءُه ما يراه من تدهورها وتراجعها أمام أعدائها، وبالأخص كانت تسوءه الحالة المزرية التي وصلت إليها الأوضاع الدينية والعلمية ببلاد الإسلام، وذلك الجمود والتحجر الذي أصابها، ومهد السبيل معه لدخول البدع والخرافات والتعصب والتفرق، فبدأ دعوته الشهيرة لنبذ التعصب والتقليد، وتنقية العقيدة من الدخن الذي أصابها، ودعا الناس للعودة إلى منابع الدين الأولى بصفائها ونقائها، كما دعا إلى فتح باب الاجتهاد من جديد بعد أن أغلقه المتفقهة والمتعصبة، وسدنة المذاهب بأقفال كبيرة منذ سنوات بعيدة، ووقفوا على باب التقليد مدافعين ومنافحين بكل ما أوتوا من قوة. كان القاسمي صاحب عقل نير، وفكر وفهم ناضج، استفاد من قراءته التاريخية لسير المجددين والمجتهدين؛ فعمل على تكوين جبهة متحدة ممن هو على شاكلته من أهل العلم الغيورين المصلحين، فأنشأ جمعية المجتهدين مع زملائه: عبدالرازق البيطار، وسعيد الفرا، ومصطفى الحلاق، وغيرهم، وعقدت الجمعية حلقات بحث دورية لقراءة ومناقشة أهم الكتب، والتباحث في أحوال المسلمين، وسبل النهوض بهم. ![]() أثار تكوين مثل تلك الجمعيات، وما يجري فيها من مناقشة أوضاع المسلمين: كل من السلطة الدينية، والدنيوية: فلقد اعتبر مفتي الشام وقتها أن أمثال تلك الجمعيات والدعوات لفتح باب الاجتهاد من قبيل الابتداع في الدين، والهرطقة والخروج عن الجماعة والمألوف، في حين اعتبر والي الشام عثمان نوري باشا تلك الجمعية ورجالها من المحرضين والساعين لتقويض الدولة العثمانية، ولنا أن نتفهم طبيعية الدوافع الحقيقية للرجلين: فالأول يخاف على منصبه ونفوذه الديني، ومكتسباته التي ينالها باسم الدين، والثاني شأنه شأن كل الطغاة والظلمة الحريصين على تخلف شعوبهم، وركودهم وسباتهم، حتى لا يُطالِبُوا بحق أو عدل، أو يتكلموا عن حلال وحرام، وهكذا. وفي سنة 1313هـ - 1895م تم تقديم الشيخ القاسمي ورفاقه للمحاكمة بأعجب وأغرب تهمة على مر العصور، ألا وهي تهمة الاجتهاد وابتداع مذهب جديد في الدين أسموه المذهب الجمالي - نسبة لجمال القاسمي - وشكلوا له هيئة قضاء من شيوخ المذاهب من أرباب التقليد، وسدنة الجمود، تحت قيادة مثير المحنة مفتي الشام وقتها - وكان عمر الشيخ القاسمي وقتها ثلاثين سنة - فقام القاسمي للدفاع عن نفسه وإخوانه، وألقى محاضرة رائعة في بيان منهجه ودعوته وآرائه، دحض بها افتراءات المقلدين والمتحجرين، ومن روعة بيانه، وقوة حجته لم يجد: لا الوالي، ولا المفتي، ولا أي أحد ممن تصدي لمحنته سبيلا للنيل منه، وتم الإفراج عنه وعن إخوانه بعد إن كانت أبواب السجن مفتحة لهم، وسياط الجلاد مشرعة لإلهاب ظهورهم، وقد نظم شعرًا رائعًا في تلك المحنة نختار منه بعض الأبيات: ![]() زعم الناس بأني مذهبي يدعى الجمالي ولقد أدت تلك المحنة، والتي كادت أن تؤدي بحياة ذلك الإمام العلامة: لرفع قدره ومنزلته بين الناس، وإقبالهم على كتبه ومصنفاته، وحلق دروسه وفتاواه حتى إنه لما زار مصر بعد ذلك بعدة سنوات أطلق عليه الشيخ رشيد رضا لقب علامة الشام، وكان وقتها في السابعة والثلاثين فقط من العمر، فسبحان من بارك في أعمار هؤلاء الأعلام فصاروا مثل نجوم السماء وهم في شرخ الشباب، وكم من محنة جلبت منحة، وكم من بلاء قاد إلى علاء.وإليه حينما أفتى الورى أعزو مقالي لا وعمر الحق إني سلفي الإنتحالِ مذهبي ما في كتاب الله ربي المتعالِ ثم ما صح من الأخبار لا قيل وقالِ أقتفي الحق ولا أرضى بآراء الرجالِ المصادر والمراجع: جل الترجمة مأخوذة من مقدمة كتابه الشهير: • محاسن التأويل. ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
|
#10
|
||||
|
||||
![]() الإمام أبو بكر الطرطوشي شريف عبدالعزيز الزهيري (24) ![]() الفارق بين العلماء الربانيين وغيرهم من سائر أهل العلم أن العلماء الربانيين يدركون واقع الأمة الإسلامية أكثر من غيرهم، ويشاركون الجماهير في مشاكلهم ونوازلهم، فالعالم الرباني هو عالم عامة المسلمين، وليس خاصتهم، هو العالم الذي ينصح ويرشد ويوجه ويشارك، ويكون له في كل ما يستجد بالأمة من نوازل ومستحدثات قول ورأي وعمل، العالم الرباني ليس هذا العالم الذي يقبع خلف كتبه وأوراقه، بين جدران داره أو مدرسته، يعيش في نظريات جدلية، وفرضيات وهمية، وتفريعات جزئية، بل هو العالم الذي يتابع أحوال المسلمين، ويرى مواطن الخلل عندهم، ويكون له سعي حثيث، وجهد كبير من أجل نصح الأمة، والدفاع عن حياضها، وهذه المحنة التي تعرض لها صاحبنا هذه المرة كانت بسبب تصديه لمصالح المسلمين، ورغبته في إحياء معالم الدين التي اندرست تحت حكم الظالمين والضالين. التعريف به: ![]() هو الإمام العلامة، القدوة الزاهد، العالم العابد، فخر الأندلس، وشيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي، فقيه الإسكندرية وعالمها، وناشر السنة، وقامع البدعة في مصر أيام الفاطميين الأشرار، ولد في عام 451هـ بمدينة طرطوشة الأندلسية، وتقع في أقصى الشرق إلى الشمال على سفح جبل، بينها وبين البحر المتوسط عشرون ميلاً، وعلى جبالها ينبت شجر الصنوبر الضخم، والمشهور بمتانة جذوعه وضخامته، مما دفع ولاة الأندلس لبناء دار لصناعة السفن بها، وكانت طرطوشة دائمًا في دائرة الطموحات الأسبانية، وتعرضت للهجوم عليها عدة مرات. وفي ظلال الطبيعة الساحرة التي أبدعها الخالق سبحانه وتعالى نشأ الإمام أبو بكر الطرطوشي، وفي جامع المدينة الكبير تلقى علومه الأولى، ولما بلغ العشرين رحل إلى مدن الأندلس الكبيرة الأخرى ليستزيد من العلم، فذهب أولا إلى سرقطسة، واتصل بكبير علمائها في ذلك الوقت: القاضي أبي الوليد الباجي، فحمل عنه المذهب، وظل عنده أربع سنوات كاملة، وكان الباجي من أكبر علماء الأندلس بعد رحيل منافسه الشهير ابن حزم. بعد وفاة الباجي سنة 474هـ، قرر الطرطوشي أن ينهج نهج أستاذه الباجي؛ فخرج في رحلة علمية إلى المشرق، لم يكن الطرطوشي يعلم أنه لن يعود إلى بلاده أبدًا من تلك الرحلة، وإن كان أستاذه الباجي قد مكث في رحلته العلمية ثلاثة عشر عامًا، فإن أبا بكر الطرطوشي قد مكث في رحلته عمره كله. ![]() وفي سنة 476هـ غادر الطرطوشي وطنه - وهو غض الشباب - ليبدأ رحلته إلى المشرق، فدخل مكة أولا، وحج الفريضة، ثم مكث بها قليلا، وتشرف بإلقاء بعض الدروس بها في مذهب المالكية، ثم دخل بعد مكة بغداد، والتي تعد وقتها محط رحال العلماء، وأكبر المراكز العلمية على مستوى العالم الإسلامي، في ظل اهتمام وزير السلاجقة ببناء المدارس العلمية، فدخلها الطرطوشي، وسمع من علمائها ومشايخها، وطاف على علماء كل المذاهب؛ فتفقه على أبي بكر الشاشي كبير شافعية العراق وفتها، وكذلك سمع من أبي محمد التميمي شيخ الحنابلة، ثم دخل البصرة فسمع بها الحديث من أبي على التستري، وحصل على إجازة في العديد من كتب السنن. وفي سنة 480هـ دخل الطرطوشي بلاد الشام، وفي نيته نشر المذهب المالكي بها، وكانت بلاد الشام شبه خالية من المالكية، وكان الطرطوشي عابدًا زاهدًا متقشفًا، منقبضًا عن الناس، يغلب عليه الورع في سائر أحواله، وقد نذر نفسه للعلم ونشره، فأحبه الناس، وأقبلوا عليه، وانتفعوا به، فعلا اسمه، وبعد صيته، ولم يستقر الطرطوشي في بلد بعينه في الشام، بل كان دائم الانتقال من بلد لآخر؛ فدخل أولا بيت المقدس، ثم دمشق، ثم حلب، ثم أنطاكية، وبعد عشر سنوات كاملة خرج الطرطوشي من الشام إلى مصر، وذلك سنة 490هـ، واستقر به المقام في الإسكندرية، وظل بها حتى وفاته سنة 520هـ، بعد رحلة علمية طويلة وشاقة مليئة المحن والابتلاءات، وأيضًا بالعطاء العلمي والتربوي الرائع. ثناء الناس عليه: ![]() للطرطوشي طريقة خاصة به بين علماء الأمة، فلقد كان عالما زاهدًا، بل بالأحرى زاهد عالم، فلقد كان زهده فوق علمه، ينتفع به الناس: بسمته ودله وسلوكه قبل أن ينتفعوا بعلمه، فلقد كان مربٍ من كبار المربين، لذلك كان ثناء الناس عليه كثير، وإن كان مؤرخي المشرق لا يعرفون عنه الكثير، وهذه طائفة من أقوالهم: قال ابن بشكوال: كان الطرطوشي إمامًا عالما، زاهدًا ورعًا، دينا متواضعًا، متقشفا متقللا من الدنيا، راضيًا باليسير. قال الإمام أبو بكر بن العربي: كان الطرطوشي عالما، فاضلا زاهدًا، مقبلا على ما يعينه، قال لي مرة ونحن في بيت المقدس: يا أبا بكر إذا عرض لك أمر دنيا وأمر آخرة، فبادر بأمر الآخرة، يحصل لك أمر الدنيا والآخرة. قال إبراهيم بن مهدي: كان شيخنا أبو بكر زهده وعبادته أكثر من علمه. قال ابن فرحون المالكي: الذي عليه علماؤنا أن الذي عند الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس مثله عند غيره دينه وورعه وزهده. مصنفاته: ![]() نظرا لأن الطرطوشي قد قضي عمره كله تقريبًا يرتحل من مكان لأخر، فإنه لم يشرع في التأليف والتصنيف إلا بعد أن جاوز الأربعين، واستقر في الإسكندرية، ومع ذلك ترك الإمام حصيلة علمية وافرة من المصنفات، ومن أهم تلك المصنفات: 1- كتاب سراج الملوك، وهو من أهم كتبه على الإطلاق، وهو أيضًا من أمتع الكتب وأجودها في بابها، وكفى به دليلا على فضله ومكانته العلمية، وهو كتاب فريد في بابه، قد كتبه الطرطوشي بعد المحنة التي تعرض لها، والكتاب يعتبر من أوائل - إن لم يكن أول كتاب - يضع الأطر الشرعية الكاملة للنظم السياسية في الحكم والولاية، وقد قسم الطرطوشي كتابه ذلك إلي أربعة وستين فصلا تتعلق بسياسة الملك، وفي الحكم وتدبير أمور الرعية، وعلى منواله نسج العلامة ابن خلدون كتابه الأشهر (المقدمة)، وقد اعترف ابن خلدون بفضل أسبقية الطرطوشي في ذلك المضمار. 2- مختصر لتفسير الثعالبي المشهور بعرائس المجالس. 3- الكتاب الكبير في مسائل الخلاف في الفقه المعروفة باسم التعليقة في الخلافيات، وهو كتاب في الفقه المقارن. 4- شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني في الفقه المالكي. 5- كتاب الأسرار . 6- كتاب الفتن. 7- كتاب بر الوالدين. 8- كتاب الأسرار. 9- رسالة في نقد كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وكان علماء المغرب والأندلس ينكرون على الغزالي بقوة ذلك الكتاب، وحجتهم في ذلك تلك الرسالة القوية والشديدة التي ألفها الطرطوشي في الرد على الغزالي، وشبه كتابه بإمانة علوم الدين، وقد أفتىالطرطوشي بإحراق الكتاب لما فيه من سموم قاتلة، وأفكار باطنية، ورموز فلسفية، وتقلد علماء المغرب تلك الفتوى وأحرقوا الكتاب، وعاقبوا عليه أشد العقاب، وتلك الفتوى مما شغب به بعض الناس على الطرطوشي، ورموه بالتعصب، ومحاربة الفكر بسببها. 10- رسالة في تحريم الغناء والمعازف. 11- الرد على اليهود . 12- رسالة في البدع والحوادث؛ وهي من أفضل ما كتب في ذلك الباب على صغرها. محنته: ![]() انتقل الطرطوشي من الأندلس إلى المغرب، ثم إلى الحجاز، ثم إلى العراق، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، وذلك كله طلبًا للعلم والرواية، ونشرًا للعلم والتدريس، فلقد كانت قضية نشر العلم والسنة هي الشغل الشاغل لحياة الإمام الطرطوشي، فلما وصل إلى مصر شاقت نفسه للإقامة في الإسكندرية، لموافقة طبيعتها لطبيعة مسقط رأس الإمام بالأندلس، فلما وصلها لم يكن في نيته المقام بها إلا قدر الحاجة، وحاجته كانت نشر العلم، ونفع الناس، ولكنه لما وصل الإسكندرية وجدها قفرًا من العلم والعلماء، ومن أية مظاهر دينية، والمساجد خالية، والمدارس مغلقة بسبب ملاحقة الفاطميين الزنادقة لعلماء أهل السنة، وتشريدهم وقتلهم وإيذائهم، فقرر الطرطوشي استيطان الإسكندرية، ونشر العلم والسنة بها، وكان الطرطوشي يقول في ذلك: إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية - لما كانت عليه في أيام العبيدية: من ترك إقامة الجمعة، ومن غير ذلك من المناكر التي كانت في أيامهم - أقول له: وجدت قومًا ضلالا؛ فكنت سبب هدايتهم. وبالفعل لم يلبث الطرطوشي في الإسكندرية إلا قليلا حتى عرف واشتهر، وأقبل عليه طلبة العلم الذين وجدوا فيه ضالتهم، وكأنهم قد وقعوا على كنز، فازدحموا على دروسه، وكان الطرطوشي قد تزوج من سيدة موسرة صالحة من نساء الإسكندرية، فأطلقت يده في أموالها، ووهبته دارًا من أملاكها، فقرر الطرطوشي أن يجعل تلك الدار مدرسة علمية على طراز المدارس النظامية التي رآها في بغداد أثناء رحلته، والتحق بتلك المدرسة الكثير من طلبة العلم، وكان الطرطوشي ينفق على تلاميذه، ويضيف الغرباء منهم فيها. ![]() اصطنع الطرطوشي طريقة جديدة في التعليم هي أقرب ما تكون للتربية والتعليم بالنظم الحديثة؛ حيث لم تقتصر علاقته مع طلبته وتلاميذه مع حلقة الدرس فقط، ثم ينفضون من حوله، بل كان يصطحبهم، ويخرج معهم في رحلات خلوية إلى البساتين والمنتزهات خارج المدينة، وهناك يقضون عدة أيام على غرار المعسكرات الكشفية، يلقى دروسه في الهواء الطلق على تلاميذه، ويذاكرهم ما حفظوه ودرسوه، وقد شاقت هذه الطريقة تلاميذه فأقبلوا عليه، وكثر عددهم، حتى كان يخرج معه في رحلاته تلك أربعمائة طالب، وبذلك يكون الطرطوشي قد سبق الأوروبيين وغيرهم من أصحاب النظريات الحديثة في التربية. كانت الدولة العبيدية الرافضية الخبيثة وقتها تحت سيطرة الوزير الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان طاغية جبارًا، غشومًا ظلومًا، في ظل حكمه الجائر احتل الصليبيون بيت المقدس وسواحل الشام، فلما سمع الطرطوشي عن جبروته وقوته وسلطانه قرر الذهاب إلى القاهرة لنصحه ووعظه كما يليق بالعلماء المخلصين الربانيين، يطلب منه الرفق بالرعية، وإشاعة العدل بينهم. وصل الطرطوشي إلى قصر الوزير الطاغية، ودخل عليه مجلسه، فوجده زاخرًا بمتع الدنيا وزخارفها، وفيه من علامات الأبهة والتكبر ما لا يوصف، فدخل الطرطوشي على الطاغية في قصره، ثم شرع في وعظه ونصحه بعبارات تفيض بالترهيب والترغيب، بأسلوب بلاغي رائع، جعل الطاغية الجبار يهتز ويبكي، وكان يجلس بجوار الوزير أحد النصارى؛ فأنشد الطرطوشي: يا ذا الذى طاعته قربة وحقه مفترض واجب ![]() إن الذى شرفت من أجله يزعم هذا أنه كاذب ![]() عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية، بعدما أدى النصح لولاة الأمور، وبرهن على واجبات العلماء الربانيين، وتفرغ بعدها الطرطوشي للعلم والتعليم، وقد زادت شهرته بين الناس، وازداد معه عدد الطلبة والتلاميذ، ولكن هذا الإقبال جر على الطرطوشي الوبال والمحن؛ فقد ضاق به قاضي الإسكندرية [ابن حديد] ضيقًا شديدًا، خاصة وأن الطرطوشي قد أحدث نهضة علمية كبيرة بالبلد، واهتم الناس بالقرآن والسنة، وكان للطرطوشي فتاوى كثيرة يعارض فيها النظم والقواعد التي يسير عليها ولاة الدولة، وكان الطرطوشي دائم الانتقاد لسياسة بني حديد، وقد ألف رسالة مهمة في نقد أوضاع وعادات المجتمع وقتها، سماها (بدع الأمور ومحدثاتها)، ثم أفتى بحرمة الجبن الذي يستورد من الروم، وكانت تجارته رائجة، وتدر دخلا كبيرًا على خزانة بني حديد. جمع القاضي الفاسد ابن حديد هذه الأنشطة كلها، ورفعها إلى الوزير الأفضل، وشفعها ببيان خطورة الطرطوشي على البلد، وأنه يهدد السلام الاجتماعي بكثرة انتقاده لأوضاع ونظم الدولة، ولربما يؤدي لثورة الناس، وضعف الإيرادات بسبب فتاواه بالتحريم وغيرها، ولم يكن الوزير الطاغية بحاجة لمزيد من الشحن والتحريض ضد الإمام الطرطوشي، فأرسل إلى ابن حديد يأمره بإرسال الطرطوشي إليه، فلما جاءه الرسول الذي سيحمله إلى القاهرة قال له: يسر حوائجك؛ فإنك تمشي يوم كذا؛ فقال الطرطوشي: وأي حوائج معي؟ ريش الكتابة، وطعامي في حوصلتي، مما يدل على زهده، ورقة حاله، واستعداده الدائم لتقبل النوازل والمحن. وصل الطرطوشي إلى القاهرة، وهناك أمره الوزير الأفضل بالبقاء في الفسطاط، وحدد إقامته في مسجد الرصد جنوبي الفسطاط (القاهرة القديمة)، وضيق عليه بشدة، ومنع الناس من الاتصال به والأخذ عنه، وجعل رزقه الشهري بضعة دنانير يأخذها من متحصل جزية اليهود، إمعانًا في التضييق عليه، وذلك سنة 514هـ. ظل الطرطوشي رهن الإقامة الجبرية في مسجد الرصد شهورًا طويلة، لا يجرأ أحد على زيارته، أو الاجتماع معه، وقد تحول المسجد إلي معتقل كبير للإمام، حتى إن الناس قد هجروا الصلاة في المسجد، خوفًا من أن يتهموا بالاتصال بالشيخ، وتطاولت الأيام على الطرطوشي وهو وحده في المسجد، وليس معه إلا خادمه، وكان أشد شيء على الإمام منعه من التدريس والتعليم والاجتماع مع تلاميذه وطلبته، وضاقت نفسه بشدة من هذه المحنة. ![]() ولما طال الحبس والمنع بالطرطوشي قرر الإمام الصالح أن يخرج من هذا السجن الطويل، وذلك بمساعدة رب السموات والأرض، فترك الأكل من الطعام الذي يأتيه من رزق الوزير الطاغية، وأمر خادمه بجمع المباح من الأرض، وتقوت به، وظل صائمًا قائمًا، ويفطر على ما يأتيه من المباح من الأرض، وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 515هـ، وتحديدًا يوم 28 رمضان، وساعة الغروب قال الطرطوشي لخادمه: (لقد رميته الساعة)؛ فلما كان من الغد ركب الوزير الطاغية في موكبه، فهجم عليه مجموعة من الفرسان فقتلوه، فعد ذلك الأمر كرامة هائلة للإمام الطرطوشي تدل على قدره ومكانته. تولى الوزارة بعد الأفضل المأمون البطائحي، وكان يجل الشيخ الطرطوشي، ويعرف المحنة التي وقعت له مع الأفضل؛ فأخرجه من الحبس وأكرمه، فطلب الطرطوشي من الوزير الجديد أن يأذن له بالعودة إلى الإسكندرية؛ فأذن له، فلما عاد جعل الطرطوشي شغله الشاغل في تأليف كتاب في فن السياسة والحكم، وأصول العدل والرفق بالرعية، حتى يقدمه كدليل ومرشد للوزير الجديد، حتى لا تأخذه عزة الحكم، وأبهة السلطان؛ فيسير على نهج سلفه المقتول، وكان هذا الكتاب هو أمتع كتبه وأجودها - كتاب سراج الملوك - وإنما جاء من قلم إمام وعالم سبكته المحن، وامتحنته البلايا والفتن، ولكنه خرج منها إمامًا كبيرًا، ومربيًا رائدًا، وعالما ربانيًا، يندر وجوده في أيامنا هذه. ![]() المصادر والمراجع: • سير أعلام النبلاء: (19/ 490). • وفيات الأعيان: (4/ 262). • الديباج المذهب: (2/ 244). • نفح الطيب: (2/ 85). • شذرات الذهب: (4/ 62). • الصلة: (2/ 575). • المغرب في حلى المغرب: (2/ 242). • النجوم الزاهرة: (5/ 231). ترويض المحن - دراسة تحليلية لهم المحن التي مرَّ بها كبار علماء الأمة، دار الصفوة بالقاهرة، 1430هـ، 2009م ![]()
__________________
|
![]() |
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |