المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي - الصفحة 2 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         الشرح الممتع للشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-(سؤال وجواب) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 65 - عددالزوار : 52024 )           »          الحرص على الائتلاف والجماعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          شرح كتاب الصلاة من مختصر صحيح مسلم للإمام المنذري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 80 - عددالزوار : 45816 )           »          الدِّين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 196 - عددالزوار : 64221 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 374 - عددالزوار : 155243 )           »          6 مميزات جديدة فى تطبيق الهاتف الخاص بنظام iOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          إيه الفرق؟.. تعرف على أبرز الاختلافات بين هاتف iPhone 12 و Google Pixel 9 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          برنامج الدردشة Gemini متاح الآن على Gmail لمستخدمى أندرويد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          كيفية حذف صفحة Word فى 3 خطوات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          خطوات.. كيفية إعادة ترتيب الأزرار وتغيير حجمها في مركز التحكم بـiOS 18 (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 28-07-2025, 10:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 101 الى صـــ 110
(11)







[المسح على الجوربين]
قال (وأما المسح على الجوربين فإن كانا
ثخينين منعلين يجوز المسح عليهما) لأن مواظبة المشي سفرا بهما ممكن وإن كانا رقيقين لا يجوز المسح عليهما؛ لأنهما بمنزلة اللفافة وإن كانا ثخينين غير منعلين لا يجوز المسح عليهما عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأن مواظبة المشي بهما سفرا غير ممكن فكانا بمنزلة الجورب الرقيق وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يجوز المسح عليهما وحكي أن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - في مرضه مسح على جوربيه ثم قال لعواده فعلت ما كنت أمنع الناس عنه فاستدلوا به على رجوعه وحجتهما حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح جوربيه وقد روي المسح على الجورب عن أبي بكر وعلي وأنس - رضي الله تعالى عنهم - وتأويله عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أنه كان منعلا أو مجلدا، والثخين من الجورب أن يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء. والصحيح من المذهب جواز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية؛ لأن مواظبة المشي فيها سفرا ممكن
قال (ويجوز المسح على الجرموقين فوق الخفين) عندنا، وعند الشافعي - رضي الله تعالى عنه - إن لبس الجرموقين وحدهما مسح وإن لبسهما فوق الخف لم يمسح عليهما؛ لأن ما تحتهما ممسوح والمسح لا يكون بدلا عن المسح.
(ولنا) حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الجرموقين ولأن الجرموق فوق الخف في معنى خف ذي طاقين ولو لبس خفا ذا طاقين كان له أن يمسح عليه فهذا مثله وإنما يجوز المسح عندنا على الجرموقين إذا لبسهما فوق الخفين قبل أن يحدث ويمسح فأما إذا كان مسح على الخف أولا ثم لبس الجرموق فليس له أن يمسح على الجرموق؛ لأن حكم المسح استقر على الخف فبهذا يتبين الجواب عما قاله الشافعي - رحمه الله - تعالى عنه. وكذلك لو أحدث بعد ما لبس الخف ثم لبس الجرموقين فليس له أن يمسح الجرموق؛ لأن ابتداء مدة المسح من وقت الحدث وقد انعقد في الخف فلا يتحول إلى الجرموق بعد ذلك وإن مسح على الخفين ثم نزع أحدهما انتقض مسحه في الرجلين وعليه غسلهما. وقال ابن أبي ليلى - رحمه الله - لا شيء عليه. وعن إبراهيم النخعي - رحمه الله - فيه ثلاثة أقوال روى حماد - رحمه الله تعالى - عنه كما هو مذهبنا وروى ابن أبي يعلى عن الحكم - رحمه الله - أنه لا شيء عليه وروى الحسن بن عمارة عن الحكم أن عليه استقبال الوضوء. وجه هذه الرواية أن انتقاض الوضوء لا يحتمل التجزؤ كانتقاضه بالحدث ووجه الرواية الأخرى أن الطهارة الكاملة لا تنتقض إلا بالحدث في شيء من الأعضاء ونزع الخف ليس بحدث،
ووجه قولنا أن استتار القدم بالخف كان يمنع سراية الحدث إلى القدم وذلك الاستتار بالخلع يزول فيسري ذلك إلى القدم فكأنه توضأ ولم يغسل رجليه فعليه غسلهما، والرجلان في حكم الطهارة كشيء واحد فإذا وجب غسل إحداهما وجب غسل الأخرى ضرورة أنه لا يجمع بين المسح والغسل في عضو واحد.
قال (ولو مسح على الجرموقين ثم نزع أحدهما مسح على الخف الظاهر وعلى الجرموق الباقي) وفي بعض روايات الأصل قال: ينزع الجرموق الثاني ويمسح على الخفين وقال زفر - رحمه الله تعالى - عنه: يمسح على الخف الذي نزع الجرموق عنه وليس عليه في الآخر شيء. وجه قوله أن الاستتار باق فكان الفرض المسح ففيما زال الممسوح بالنزع عليه أن يمسح وفيما كان الممسوح باقيا لا يلزمه شيء بخلاف ما إذا خلع إحدى خفيه. ووجه ما ذكر في بعض النسخ أن نزع أحد الجرموقين كنزعهما جميعا كما إذا خلع أحد الخفين يكون كخلعهما ووجه ظاهر الرواية أنه في الابتداء لو لبس الجرموق على إحدى الخفين كان له أن يمسح عليه وعلى الخف الباقي، فكذلك إذا نزع أحد الجرموقين، إلا أن حكم الطهارة في الرجلين لا يحتمل التجزؤ فإذا انتقض في أحدهما بنزع الجرموق ينتقض في الآخر فلهذا مسح على الخف الظاهر وعلى الجرموق الباقي.
قال (وإذا انقضى مدة مسحه ولم يحدث فعليه نزع الخفين وغسل القدمين) لأن الاستتار كان مانعا في المدة فإذا انقضى سرى ذلك الحدث إلى القدمين فعليه غسلهما وليس عليه إعادة الوضوء كما لو كانت السراية بخلع الخفين.
قال (وإذا توضأ فنسي مسح خفيه ثم خاض الماء فإنه يجزئه من المسح) لأن تأدي الفرض بإصابة البلة ظاهر الخف وقد وجد، وهل يصير الماء مستعملا بهذا؟ قال أبو يوسف: - رحمه الله - لا يصير الماء مستعملا بهذا وعن محمد - رحمه الله تعالى - أن الماء يصير مستعملا ولا يجزئه من المسح إذا كان الماء قليلا غير جار وأصل الخلاف في الرأس فأبو يوسف - رحمه الله - يقول تأدي فرض المسح بالبلة الواصلة إلى موضعها لا بالماء الباقي في الإناء فبقي الإناء كما كان ومحمد - رحمه الله - يقول لو تأدى به الفرض لصار الماء مستعملا بإزالة الحدث فإنما أخرج رأسه من الماء المستعمل وذلك يمنع من جواز المسح به.
قال (وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة ثم سافر نزع الخف) ؛ لأن حكم الحدث سرى إلى القدمين بانقضاء مدة المسح فلا يتغير ذلك بالسفر.
قال (وإن لبس خفيه وهو مقيم ثم سافر قبل أن يحدث فله أن يمسح كمال مدة السفر) لأن ابتداء المدة انعقد وهو مسافر فأما إذا أحدث وهو مقيم أو مسح قبل استكمال يوم وليلة
ثم سافر جاز له عندنا أن يمسح ثلاثة أيام ولياليها وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: لا يمسح إلا يوما وليلة. قال: لأن المدة انعقدت وهو مقيم فلا يمسح أكثر من يوم وليلة والشروع في مدة المسح كالشروع في الصلاة. ومن افتتح الصلاة في السفينة وهو مقيم ثم صار مسافرا لم يجز له أن يتم صلاة السفر وإنما يتم صلاة المقيمين.
(ولنا) أن المسح جاز له وهو مسافر فله أن يمسح كمال مدة السفر كما لو سافر قبل الحدث وفعل الصلاة. دليلنا أنه بالحدث صار شارعا في وقت المسح فوزانه أن لو دخل وقت الصلاة وهو مقيم ثم صار مسافرا فهناك يصلي صلاة المسافرين.
قال (وإذا قدم المسافر مصره بعد ما مسح يوما وليلة أو أكثر من ذلك فعليه نزع الخفين) لأنه صار مقيما والمقيم لا يمسح أكثر من يوم وليلة إلا أنه إذا كان قدومه بعد ما مسح يومين نزع خفيه ولم يعد شيئا من الصلاة؛ لأنه حين مسح كان مسافرا.
قال (وإذا توضأ ومسح على الجبائر ولبس خفيه ثم أحدث فله أن يمسح على الخفين ما لم يبرأ جرحه) لأن المسح على الجبائر كالغسل لما تحته ما دامت العلة قائمة وقد بينا هذا فيما مضى فكان اللبس حاصلا على طهارة تامة ما بقيت العلة فله أن يمسح على الخفين فإن برئ جرحه فعليه أن ينزع خفيه؛ لأن المسح على الجبائر طهارة تامة ما بقيت العلة واللبس بعد البرء غير حاصل على طهارة تامة فلم يكن له أن يمسح وإن لم يحدث بعد لبس الخف حتى برئ جرحه، فإن لم يحدث حتى غسل ذلك الموضع جاز له أن يمسح على الخفين؛ لأن أول الحدث بعد اللبس طرأ على طهارة تامة وإن أحدث قبل غسل ذلك الموضع لم يجز له أن يمسح الخف؛ لأن أول الحدث بعد اللبس طرأ على طهارة ناقصة.
قال (وللماسح على الخفين أن يؤم الغاسلين) لأنه صاحب بدل صحيح وحكم البدل حكم الأصل ولأن المسح على الخف جعل كالغسل لما تحته في المدة بدليل جواز الاكتفاء به مع القدرة على الأصل وهو غسل الرجلين فكان الماسح في حكم الإمامة كالغاسل.
قال (وإذا أراد أن يبول فلبس خفيه ثم بال فله أن يمسح على خفيه) لأن لبسهما حصل على طهارة تامة ولما سئل أبو حنيفة - رحمه الله - عن هذا فقال لا يفعله إلا فقيه فقد استدل بفعله على فقهه؛ لأنه تطرق به إلى رخصة شرعية.
قال (وإذا بدا للماسح أن يخلع خفيه فنزع القدم من الخف غير أنه في الساق بعد فقد انتقض مسحه) لأن موضع المسح فارق مكانه فكأنه ظهر رجله وهذا؛ لأن ساق الخف غير معتبر حتى لو لبس خفا لا ساق له جاز له المسح إذا كان الكعب مستورا فيكون الرجل في ساق الخف
وظهوره في الحكم سواء.
وإن نزع بعض القدم عن مكانه فالمروي عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - في الإملاء أنه إذا نزع أكثر العقب انتقض مسحه؛ لأنه لا يمكنه المشي بهذه الصفة وللأكثر حكم الكمال وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - إن نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه وعن محمد - رحمه الله تعالى - قال إن بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع لم ينتقض مسحه؛ لأنه لو كان بعض رجله مقطوعا وقد بقي من ظهر القدم مقدار ثلاثة أصابع فلبس عليه الخف جاز له أن يمسح فهذا قياسه والله أعلم.
قال (وإذا لبس الخفين على طهارة التيمم أو الوضوء بنبيذ ثم وجد الماء نزع خفيه) لأن طهارة التيمم غير معتبرة بعد وجود الماء وكذلك طهارة النبيذ فصار بعد وجود الماء كأنه لبس على غير طهارة.
قال (وإذا لبست المستحاضة الخفين فإن كان الدم منقطعا من حين توضأت إلى أن لبست الخفين فلها أن تمسح كمال مدة المسح؛ لأن وضوءها رفع الحدث السابق ولم يقترن الحدث بالوضوء ولا باللبس فإنما طرأ أول الحدث بعد اللبس على طهارة تامة) فأما إذا توضأت والدم سائل أو سال بعد الوضوء قبل اللبس فلبست الخفين كان لها أن تمسح في الوقت إذا أحدثت حدثا آخر ولم يكن لها أن تمسح بعد خروج الوقت عندنا. وقال زفر - رحمه الله تعالى - لها أن تمسح كمال مدة المسح؛ لأن سيلان الدم عفو في حقها بدليل جواز الصلاة معه فكان اللبس حاصلا على طهارة.
(ولنا) أن سيلان الدم عفو في الوقت لا بعده حتى تنتقض الطهارة بخروج الوقت وخروج الوقت ليس بحدث فكان اللبس حاصلا على طهارة معتبرة في الوقت لا بعد خروج الوقت فلهذا كان لها أن تمسح في وقت الصلاة لا بعد خروج الوقت.
قال (وإذ كان مع المسافر ماء قدر ما يتوضأ به وفي ثوبه دم أكثر من قدر الدرهم غسل الدم بذلك الماء ثم تيمم للحدث) وقال حماد بن أبي سليمان - رحمه الله تعالى - يتوضأ بذلك الماء. وهو رواية عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - وقيل هذه أول مسألة خالف فيها أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - أستاذه. ووجه قول حماد - رحمه الله تعالى - أن حكم الحدث أغلظ من حكم النجاسة بدليل أن القليل من النجاسة عفو ومن الحدث لا، وبدليل جواز الصلاة في الثوب النجس إذا كان لا يجد ماء يغسله به ولا تجوز الصلاة مع الحدث بحال فصرف الماء إلى أغلظ الحدثين أولى، ووجه قول أبي حنيفة - رحمه الله - أنه قادر على الجمع بين الطهارتين بأن يغسل النجاسة بالماء فيطهر به الثوب ثم يكون عادما للماء فيكون طهارته التيمم ومن قدر على الجمع بين الطهارتين لا يكون له
أن يأتي بأحدهما ويترك الآخر فلهذا كان صرف الماء إلى النجاسة أولى والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
[باب التيمم]
قال - رضي الله تعالى عنه - التيمم في اللغة القصد ومنه قول القائل
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أي قصدت، وفي الشريعة عبارة عن القصد إلى الصعيد للتطهير الاسم شرعي فيه معنى اللغة (وثبوت التيمم بالكتاب والسنة) أما الكتاب فقوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43] ونزول الآية في غزوة المريسيع حين عرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فسقط عقد عائشة - رضي الله عنها - فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث رجلين في طلبه ونزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - على عائشة - رضي الله تعالى عنهما - وقال حبست رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على غير ماء فنزلت آية التيمم فلما صلوا جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة - رضي الله عنها - فجعل يقول ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر وفي رواية يرحمك الله يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين فيه فرجا.
والسنة ما روي «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» وقال - عليه الصلاة والسلام - «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء» إذا عرفنا هذا فنقول ينتظر من لا يجد الماء آخر الوقت ثم يتيمم صعيدا طيبا وهذا إذا كان على طمع من وجود الماء، فإن كان لا يرجو ذلك لا يؤخر الصلاة عن وقتها المعهود؛ لأن الانتظار إنما يؤمر به إذا كان مفيدا، فإذا كان على طمع فالانتظار مفيد لعله يجد الماء فيؤدي الصلاة بأكمل الطهارتين وإذا لم يكن على طمع من الماء فلا فائدة في الانتظار فلا يشتغل به.
ثم بين صفة التيمم فقال (يضع يديه على الأرض ثم يرفعهما فينفضهما ويمسح بهما وجهه ثم يضع يديه ثانية على الأرض ثم يرفعهما فينفضهما ثم يمسح بهما كفيه وذراعيه من المرفقين. قال: فإن مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لم يجزه) فقد ذكر الوضع، والآثار جاءت بلفظ الضرب «قال - صلى الله عليه وسلم - لعمار بن ياسر أما يكفيك ضربتان» والوضع جائز والضرب أبلغ ليتخلل التراب بين أصابعه وينفضهما مرة وعن أبي يوسف - رحمه الله - أنه
قال: ينفضهما مرتين وفي الحقيقة لا خلاف فإن ما التصق بكفه من التراب إن تناثر بنفضة واحدة يكتفي بها وإن لم يتناثر نفض نفضتين؛ لأن الواجب التمسح بكف موضوع على الأرض لا استعمال التراب فإن استعمال التراب مثله.
ثم التيمم ضربتان عند عامة العلماء وكان ابن سيرين يقول ثلاث ضربات ضربة يستعملها للوجه وضربة في الذراعين وضربة ثالثة فيهما، وحديث عمار حجة عليه كما روينا وكذلك ظاهر قوله تعالى {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} [المائدة: 6] يوجب المسح دون التكرار ثم التيمم إلى المرافق في قول علمائنا والشافعي رحمهم الله تعالى. وقال الأوزاعي والأعمش إلى الرسغين، وقال الزهري - رحمه الله - إلى الآباط، وحديث عمار - رضي الله عنه - قد ورد بكل ذلك فرجحنا روايته إلى المرفقين لحديثين أحدهما حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» والثاني حديث الأشلع «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» والمعنى فيه أن التيمم بدل عن الوضوء ثم الوضوء في اليدين إلى المرفقين فالتيمم كذلك، وتقريره أنه سقط في التيمم عضوان أصلا وبقي عضوان فيكون التيمم فيهما كالوضوء في الكل كما أن الصلاة في السفر سقط منه ركعتان كان الباقي منها بصفة الكمال ولهذا شرطنا الاستيعاب في التيمم حتى إذا ترك شيئا من ذلك لم يجزه إلا في رواية الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: الأكثر يقوم مقام الكمال؛ لأن في الممسوحات الاستيعاب ليس بشرط كما في المسح بالخف والرأس فأما في ظاهر الرواية الاستيعاب في التيمم فرض كما في الوضوء ولهذا قالوا: لا بد من نزع الخاتم في التيمم ولا بد من تخليل الأصابع ليتم به المسح. ومن قال التيمم إلى الرسغ استدل بآية السرقة قال الله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38] ثم كان القطع من الرسغ، ولكنا نقول ذاك عقوبة، وفي العقوبات لا يؤخذ إلا باليقين، والتيمم عبادة وفي العبادات يؤخذ بالاحتياط ومن قال إلى الآباط قال اسم الأيدي مطلقا يتناول الجارحة من رءوس الأصابع إلى الآباط ولكنا نقول التيمم بدل عن الوضوء فالتنصيص على الغاية في الوضوء يكون تنصيصا عليه في التيمم. يقول في الكتاب وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى: سألت أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - عن التيمم فقال: الوجه والذراعان إلى المرفقين فقلت: كيف؟ فمال بيده على الصعيد فأقبل بيده وأدبر ثم نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعا على الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رفعهما
ونفضهما ثم مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى المرفقين، وفي قوله أقبل بهما وأدبر وجهان:
أحدهما: أنه قبل الوضع على الأرض أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق بكفه شيء يصير حائلا بينه وبين الصعيد.
والثاني: أقبل بهما على الصعيد وأدبر بهما وهذا هو الأظهر.
قال (وإن كان مع رفيق له ماء فطلب منه فلم يعطه فتيمم وصلى أجزأه) ؛ لأنه عادم للماء حين منعه صاحب الماء وهو شرط التيمم وإن لم يطلب منه حتى تيمم وصلى لم يجزه؛ لأن الماء مبذول في الناس عادة خصوصا للطهارة فلا يصير عادما للماء إلا بمنع صاحبه فلا يظهر ذلك إلا بطلبه فإذا لم يطلب لا يجزئه فأما إذا لم يكن مع أحد من الرفقة ماء وتيمم وصلى جازت صلاته وإن لم يطلب الماء عندنا. وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لا بد من طلب الماء أولا يمنة ويسرة فيهبط واديا ويعلو شرفا إن كان ثمة لقوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43] وذلك لا يتبين إلا بطلبه ولكنا نقول الطلب إنما يلزمه إذا كان على طمع من الوجود، فأما إذا لم يكن على طمع منه فلا فائدة في الطلب وقد يلحقه الحرج فربما ينقطع عن أصحابه وما شرع التيمم إلا لدفع الحرج قال الله تعالى {ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} [المائدة: 6] .
قال (وكل شيء من الأرض تيمم به من تراب أو جص أو نورة أو زرنيخ فهو جائز) في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وكان أبو يوسف - رحمه الله تعالى - يقول أولا لا يجوز التيمم إلا بالتراب والرمل ثم رجع فقال: لا يجزئه إلا بالتراب الخالص وهو قول الشافعي - رضي الله تعالى عنه - واحتج بقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا. قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه: الصعيد هو التراب الخالص وقال - صلى الله عليه وسلم - «التراب طهور المسلم والجص والنورة ليسا بتراب» فلا يجوز التيمم بهما وما سوى التراب مع التراب بمنزلة سائر المائعات مع الماء في الوضوء فكما يختص الوضوء بالماء دون سائر المائعات فكذلك التيمم وفيه إظهار كرامة الآدمي فإنه مخلوق من التراب والماء فخصا بكونهما طهورا لهذا. وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى استدلا بالآية فإن الصعيد هو الأرض قال - صلى الله عليه وسلم - «يحشر العلماء في صعيد واحد كأنها سبيكة فضة فيقول الله تعالى يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم إني لم أضع حكمتي فيكم وأنا أريد أن أعذبكم انطلقوا مغفورا» لكم فدل أن الصعيد هو الأرض وقال - صلى الله عليه وسلم - «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ثم ما سوى التراب من الأرض أسوة التراب في كونه مكان الصلاة فكذلك في كونه طهورا
وبين أن الله يسر عليه وعلى أمته وقد تدركه الصلاة في غير موضع التراب كما تدركه في موضع التراب فيجوز التيمم بالكل تيسيرا ثم حاصل المذهب أن ما كان من جنس الأرض فالتيمم به جائز، وما لا فلا حتى لا يجوز التيمم بالذهب والفضة؛ لأنهما جوهران مودعان في الأرض ليس من جنسه حتى يذوب بالذوب وكذلك الرماد من الحطب؛ لأنه ليس من جنس الأرض هكذا ذكر الشيخ الإمام السرخسي وغيره من مشايخنا. - رحمهم الله -
قال (إن كان الملح جبليا يجوز؛ لأنه من جنس التراب وإن كان مائعا لا يجوز؛ لأنه ليس من جنس التراب داء سبخ) وأما الكحل والمرداء سبخ من جنس الأرض فيجوز التيمم بهما والآجر كذلك؛ لأنه طين مستحجر فهو كالحجر الأصلي والتيمم بالحجر يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وإن لم يكن عليه غبار. وعن محمد - رحمه الله تعالى - فيه روايتان في إحدى الروايتين لا يجوز إلا أن يكون عليه غبار. والدليل على الجواز حديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بال فسلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى كاد الرجل يتوارى بحيطان المدينة فضرب بيده على الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام» وحيطانهم كانت من الحجر فدل على جواز التيمم بها، وكذلك الطين عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يجوز به التيمم؛ لأنه من جنس الأرض وفي إحدى الروايتين عن محمد - رحمه الله تعالى - لا يجوز بالطين.
قال (وإذا نفض ثوبه أو لبده وتيمم بغباره وهو يقدر على الصعيد أجزأه) في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا يجزئه عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - إلا إذا كان لا يقدر على الصعيد ووجهه أن الغبار ليس بتراب خالص ولكنه من التراب من وجه والمأمور به التيمم بالصعيد فإن قدر عليه لم يجزه إلا بالصعيد وإن لم يقدر فحينئذ تيمم بالغبار كما أن العاجز عن الركوع والسجود يصلي بالإيماء وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى احتجا بحديث عمر - رضي الله تعالى عنه - فإنه كان مع أصحابه في سفر فنظروا بالخابية فأمرهم أن ينفضوا لبودهم وسروجهم ويتيمموا بغبارها ولأن الغبار تراب فإن من نفض ثوبه يتأذى جاره من التراب إلا أنه دقيق وكما يجوز التيمم بالخشن من التراب على كل حال فكذلك بالدقيق منه.
قال (وإن تيمم في أول الوقت أجزأه) وكذلك قبل دخول الوقت عندنا وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجزئه قبل دخول الوقت؛ لأنها طهارة ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة لكنا نستدل بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43] فشرط عدم الماء فقط وجعله في حال
عدم الماء كالوضوء. ثم التوضؤ بالماء قبل دخول الوقت لتقرر سببه وهو الحدث فكذلك التيمم.
فإن وجد الماء بعد ذلك فهو على أوجه إن وجده قبل الشروع في الصلاة يبطل تيممه إلا على قول أبي سلمة بن عبد الرحمن - رضي الله عنهما - قال الطهارة متى صحت لا يرفعها إلا الحدث ووجود الماء ليس بحدث ولكنا نستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - «التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك» ولأن التيمم لا يرفع الحدث ولكنه طهارة شرعا إلى غاية وهو وجود الماء ومن حكم الغاية أن يكون ما بعدها خلاف ما قبلها فعند وجود الماء يصير محدثا بالحدث السابق وإن وجد الماء في خلال الصلاة فعليه أن يتوضأ ويستقبل القبلة عندنا وهو أحد أقاويل الشافعي - رحمه الله تعالى -. وفي قول آخر يقرب الماء منه حتى يتوضأ ويبني وأظهر أقاويله أنه يمضي على صلاته.
وجه قوله أن الشروع في الصلاة قد صح بطهارة التيمم فلا يبطل برؤية الماء كما لو رأى بعد الفراغ من الصلاة وإذا لم يبطل ما أدى فحرمة الصلاة تمنعه من استعمال الماء فلا يكون واجدا للماء كما لو كان بينه وبين الماء مانع أو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستسقاء.
(ولنا) أن طهارة التيمم انتهت بوجود الماء فلو أتم صلاته أتمها بغير طهارة وذلك لا يجوز وحرمة الصلاة إنما تمنعه من استعمال الماء أن لو بقيت ولم تبق هاهنا لما بينا أن التيمم لا يرفع الحدث فعند وجود الماء يصير محدثا بحدث سابق على الشروع في الصلاة وذلك يمنعه من البناء كخروج الوقت في حق المستحاضة؛ لأن البناء على الصلاة عرف بالأثر وذلك في حدث يسبقه للحال فلهذا ألزمناه الوضوء واستقبال الصلاة والشروع في الصلاة وإن صح كما قال إلا أن المقصود لم يحصل به؛ لأنه إسقاط الفرض عن ذمته ومتى قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل سقط اعتبار البدل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت وإن وجد الماء بعد الفراغ من الصلاة والسلام لم تلزمه الإعادة إلا على قول مالك - رحمه الله - فإنه يقول إذا وجد الماء في الوقت يعيد الصلاة؛ لأن طهارة التيمم لضرورة التمكن به من أداء الصلاة، والأداء باعتبار الوقت فإذا ارتفعت هذه الضرورة بوجود الماء في الوقت سقط اعتبار التيمم كالمريض إذا أحج رجلا بماله ثم برئ فعليه حجة الإسلام لبقاء الوقت فإن العمر للحج كالوقت للصلاة.
(ولنا) ما روي «أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صليا بالتيمم في الوقت ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر فسألا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال للذي أعاد أتاك أجرك مرتين
وللذي لم يعد أجزأتك صلاتك» وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه صلى العصر بالتيمم وانصرف من ضيعته وهو ينظر إلى أبيات ثم دخلها قبل غروب الشمس فلم يعد الصلاة والمعنى أن المقصود هو إسقاط الفرض عن ذمته وقد حصل بالبدل فلا يعود إلى ذمته بالقدرة على الأصل كالمعتدة بالأشهر إذا حاضت بعد انقضاء العدة وهذا بخلاف الحج فإن جواز الإحجاج باعتبار وقوع اليأس عن الأداء بالبدن وذلك لا يحصل إلا بالموت وها هنا جواز التيمم باعتبار العجز عن استعمال الماء وكان متحققا حين صلى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #12  
قديم 28-07-2025, 10:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 111 الى صـــ 120
(12)






قال (ويؤم المتيمم المتوضئين) في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - وقال محمد - رحمه الله تعالى - لا يؤم وهو قول علي - رضي الله تعالى عنه - فإنه كان يقول لا يؤم المتيمم المتوضئين ولا المقيد المطلقين ولأن طهارة المتيمم طهارة ضرورة فلا يؤم من لا ضرورة له كصاحب الجرح السائل لا يؤم الأصحاء. وهما استدلا بحديث «عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله أميرا على سرية فلما انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا كان حسن السيرة ولكنه صلى بنا يوما وهو جنب فسأله عن ذلك فقال احتلمت في ليلة باردة فخشيت الهلاك إن اغتسلت فتلوت قول الله عز وجل {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29] فتيممت وصليت بهم فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه وقال يا لك من فقه عمرو بن العاص ولم يأمرهم بإعادة الصلاة» ولأن المتيمم صاحب بدل صحيح فهو كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين وهذا لأن البدل عند العجز عن الأصل حكمه حكم الأصل بخلاف صاحب الجرح فإنه ليس بصاحب بدل صحيح.
قال (والجنب والحائض والمحدث في التيمم سواء) وهو قول علي وابن عباس - رضي الله عنهما - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لا يجوز التيمم للحائض والجنب وروي أن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال لعمر - رضي الله تعالى عنه - أما تذكر إذ كنت معك في الإبل، فأجنبت فتمعكت في التراب ثم سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أصرت حمارا أما يكفيك ضربتان فقال له عمر اتق الله فقال إن شئت فلا أذكره أبدا فقال عمر إن شئت فاذكره وإن شئت فلا تذكره ولما ذكر لابن مسعود - رضي الله عنه - حديث عمار فقال لم يقنع به عمر - رضي الله عنه - وأصل الاختلاف في قوله تعالى {أو لامستم النساء} [النساء: 43] فقال عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما - المراد المس باليد فجوز التيمم للمحدث خاصة وقال علي وابن عباس - رضي الله عنهما - المراد المجامعة فهذا القول أولى فإن الله تعالى ذكر نوعي الحدث
عند وجود الماء في قوله تعالى {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] وقوله {وإن كنتم جنبا فاطهروا} [المائدة: 6] وذكر نوعي الحدث عند عدم الماء وأمر بالتيمم لهما بصفة واحدة فكان الحمل على المجامعة أكثر إفادة من هذا الوجه. والدليل على جوازه للحائض والجنب حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - «أن قوما سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا إنا نكون في هذه الرمال وربما لا نجد الماء شهرا وفينا الجنب والحائض فقال - صلى الله عليه وسلم - عليكم بأرضكم» وفي حديث «أبي ذر - رضي الله عنه - قال اجتمع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبل الصدقة فقال لي أبديها فبدوت إلى الربذة فأصابتني الجنابة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال مالك فسكت فقال ثكلتك أمك مالك فقلت إني جنب فأمر جارية سوداء فأتت بعس من ماء وسترتني بالبعير والثوب فاغتسلت فكأنما وضعت عن عاتقي حملا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكفيك التيمم ولو إلى عشر حجج ما لم تجد الماء».
قال (ويجوز للمريض أن يتيمم إذا لم يستطع الوضوء أو الغسل) أما إذا كان يخاف الهلاك باستعمال الماء فالتيمم جائز له بالاتفاق لقوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر} [النساء: 43] قال ابن عباس - رضي الله عنه - نزلت الآية في المجدور والمقروح. وروي «أن رجلا من الصحابة كان به جدري فاحتلم في سفر فسأل أصحابه فأمروه بالاغتسال فاغتسل فمات فلما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قتلوه قتلهم الله كان يكفيه التيمم» وإن كان يخاف زيادة المرض من استعمال الماء ولا يخاف الهلاك جاز له التيمم عندنا. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجوز؛ لأن التيمم مشروع عند عدم الماء وهو واجد للماء والعجز إنما يتحقق عند خوف الهلاك ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف الهلاك.
(ولنا) أن زيادة المرض بمنزلة الهلاك في إباحة الفطر وجواز الصلاة قاعدا أو بالإيماء فكذلك في حكم التيمم وهذا لأن حرمة النفس لا تكون دون حرمة المال ولو كان يلحقه الخسران في المال باستعمال الماء بأن كان لا يباع إلا بثمن عظيم جاز له أن يتيمم فعند خوف زيادة المرض أولى هذا كله إذا كان يستضر بالماء، فإن كان لا يستضر بالماء ولكنه للمرض عاجز عن التحرك للوضوء فظاهر المذهب أنه إن وجد من يستعين به في الوضوء لا يجوز له التيمم وإن لم يجد من يعينه في الوضوء فحينئذ يتيمم لتحقق عجزه عن الوضوء وروي عن محمد - رحمه الله تعالى - قال وإن لم يجد من يعينه في الوضوء من الخدم فليس له أن يتيمم في المصر إلا أن يكون مقطوع اليدين ووجهه أن الظاهر أنه في المصر
يجد من يستعين به من قريب أو بعيد والعجز بعارض على شرف - الزوال فإذا لم يجد من يوضئه جاز له التيمم لهذا ثم يصلي بتيممه ما شاء من الصلاة ما لم يحدث أو تزل العلة.
وكذلك المسافر يصلي بتيممه ما شاء ما لم يحدث أو يجد الماء عندنا وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يجمع بين فريضتين بتيمم واحد وله أن يصلي من النوافل ما شاء وحجته أنها طهارة ضرورة وباعتبار كل فريضة تتجدد الضرورة فعليه تجديد الوضوء، والنوافل تبع للفرائض وهو نظير مذهبه في طهارة المستحاضة وقد بينا. وحجتنا قوله - صلى الله عليه وسلم - «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» فقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهارة التيمم ممتدا إلى غاية وجود الماء ويتبين بهذا أنه في حال عدم الماء كالوضوء، ثم المتوضئ له أن يصلي بوضوء واحد ما شاء ما لم يحدث فهذا مثله ولأن بالفراغ من المكتوبة لم تنتقض طهارته حتى جاز له أداء النافلة وإذا بقيت الطهارة فله أن يؤدي الفرض؛ لأن الشرط أن يقوم إليه طاهرا وقد وجد
قال (وإن وجد المتيمم الماء فلم يتوضأ حتى حضرت الصلاة وقد عدم ذلك الماء فعليه إعادة التيمم) لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل تيممه وصار محدثا بالحدث السابق فهذا محدث لا ماء معه فعليه التيمم للصلاة والله أعلم.
قال (ولا يجوز بأقل من ثلاثة أصابع) فهو والمسح بالرأس والخف سواء وقد بينا.
قال (وإن أجنب المسافر ومعه من الماء مقدار ما يتوضأ به يتيمم عندنا ولم يستعمل الماء) وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - يتوضأ بذلك الماء ثم يتيمم. وكذلك المحدث إذا كان معه من الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء عندنا يتيمم وعنده يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم واستدل بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء} [النساء: 43] فذكره منكرا في موضع النفي وذلك يتناول القليل والكثير فما بقي واجدا لشيء من الماء لا يجوز له أن يتيمم ولأن الضرورة لا تتحقق إلا بعد استعمال الماء فيما يكفيه فهو كمن أصابته مخمصة ومعه لقمة من الحلال لا يكون له أن يتناول الميتة ما لم يتناول تلك اللقمة الحلال ولا يبعد الجمع بين التيمم واستعمال الماء كما قلتم في سؤر الحمار.
(ولنا) قوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} [النساء: 43] فإن المراد ماء يطهره. ألا ترى أن وجود الماء النجس لا يمنعه عن التيمم ولأنه معطوف على ما سبق وقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف عليه قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} [النساء: 43] فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضئون به ويغتسلون به عند الجنابة وهو غير واجد لذلك الماء ولأنه إذا لم يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله إلا مضيعة
ولأن الأصل لا يوفى بالأبدال؛ لأنهما لا يلتقيان كما لا يكمل التكفير بالمال بالصوم ولا العدة بالشهور بالحيض ولو قلنا يتيمم بعد استعمال الماء كان فيه رفو الأصل بالبدل ولا نقول في مسألة المخمصة أنه يلزمه مراعاة الترتيب فإن ما معه من الحلال إذا كان لا يكفيه لسد الرمق فله أن يتناول معه الميتة. وفي سؤر الحمار الجمع بينهما عندنا للاحتياط لا لرفو الأصل بالبدل ولذلك لو أنه وجد الماء بعد التيمم فإن كان يكفيه لما خوطب به يبطل تيممه وإن كان لا يكفيه لا يبطل تيممه اعتبارا للانتهاء بالابتداء.
قال (وإن تيمم للجنابة ثم أحدث ومعه من الماء ما يتوضأ به توضأ به) ؛ لأن ذلك التيمم أخرجه من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه للاغتسال فهو الآن محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء فيتوضأ به فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بالماء فلم يغتسل ثم حضرت الصلاة وعنده من الماء قدر ما يوضئه فإنه يتيمم لأنه لما مر بما يكفيه للاغتسال عاد جنبا كما كان فعليه أن يتيمم ولا يلزمه نزع الخف إذ لا تيمم في الرجل.
قال (فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث فإنه يتوضأ) لأنه بالتيمم الأول خرج من الجنابة إلى أن يجد ماء يكفيه للاغتسال ولم يجد بعد، فهذا محدث معه ماء يتوضأ به فعليه أن يتوضأ وينزع خفيه؛ لأنه لما مر بماء يكفيه للاغتسال بعد لبس الخف وجب عليه نزع الخفين فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر بالماء قبل ذلك مسح على خفيه؛ لأن اللبس حصل على طهارة كاملة ما لم يجد ما يكفيه للاغتسال فكان له أن يمسح.
قال (وإن كان مع المحدث ماء يكفيه للوضوء غير أنه يخاف العطش تيمم ولم يتوضأ به) هكذا قال علي وابن عباس - رضي الله عنهما - ولأنه يخاف الهلاك من العطش إذا استعمل الماء فكان عاجزا عن استعماله حكما بمنزلة ما لو كان بينه وبين الماء عدو أو سبع وقد بينا أن حرمة النفس لا تكون دون حرمة المال.
قال (وإذا تيمم المسافر والماء منه قريب وهو لا يعلم به أجزأه تيممه به) لأنه عاجز عن استعمال الماء حين عدم آلة الوصول إليه وهو العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم. ولم يفسر حد القرب في ظاهر الرواية في حالة العلم به والمروي عن محمد - رحمه الله تعالى - قال إذا كان بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه التيمم وإن كان ميلا أو أكثر أجزأه التيمم، والميل ثلث فرسخ وقال الحسن بن زياد - رحمه الله تعالى - إذا كان الماء أمامه يعتبر ميلين وإن كان يمنة أو يسرة فميل واحد؛ لأن الميل للذهاب ومثله في الرجوع فكان ميلين وقال
زفر - رحمه الله - إذا كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزئه التيمم، وإن كان لا يصل إلى الماء قبل خروج الوقت يجزئه التيمم، وإن كان الماء قريبا منه؛ لأن التيمم لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت ولكنا نقول التفريط جاء من قبله بتأخير الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريبا منه ومن العلماء من يقول إذا كان لا يبلغه صوتهم فبعيد فحينئذ يجوز له التيمم.
قال (وإذا كان مع رفيقه ماء فعليه أن يسأله) إلا على قول الحسن بن زياد - رحمه الله تعالى - فإنه كان يقول السؤال ذل وفيه بعض الحرج وما شرع التيمم إلا لدفع الحرج ولكنا نقول ماء الطهارة مبذول بين الناس عادة وليس في سؤال ما يحتاج إليه مذلة «فقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض حوائجه من غيره» فإن سأله فأبى أن يعطيه إلا بالثمن فإن لم يكن معه ثمنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء وإن كان معه ثمنه فإن أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع أو بغبن يسير فليس له أن يتيمم، وأن أبى أن يعطيه إلا بغبن فاحش فله أن يتيمم وقال الحسن البصري - رحمه الله تعالى - يلزمه الشراء بجميع ماله؛ لأنه لا يخسر على هذه التجارة ولا نأخذ بهذا فإن حرمة مال المسلم كحرمة نفسه فإذا كان يلحقه خسران في ماله ففرضه التيمم، والغبن الفاحش خسران وقد بين ذلك في النوادر فقال إن كان الماء الذي يكفي للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبى أن يعطيه إلا بدرهم ونصف فله أن يشتري وإن أبى أن يعطيه إلا بدرهمين تيمم ولم يشتر فجعل الغبن الفاحش في تضعيف الثمن وإنما قلنا إذا كان يعطيه الثمن فعليه أن يشتري؛ لأن قدرته على بدل الماء كقدرته على عينه كما أن القدرة على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من التكفير بالصوم. وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - في الإملاء سألت أبا حنيفة - رضي الله تعالى عنه - عن المسافر لا يجد الماء أيطلبه عن يمين الطريق وعن يساره قال إن طمع في ذلك فليفعل ولا يبعد فيضر بأصحابه إن انتظروه أو بنفسه إن انقطع عنهم ولا يطلب ذلك إلا أن يخبر بماء فيطلبه الغلوة ونحوها؛ لأن الطلب إنما يؤمر به إذا كان على رجاء من وجوده فإن لم يكن على رجاء منه فلا فائدة في الطلب، وعدم الوجود كالوجود يتحقق من غير تقدم الطلب يقال وجد فلان لقطة وقال الله تعالى {ووجدك عائلا فأغنى} [الضحى: 8]
قال (وإن كان المسافر في ردغة وطين لا يجد الماء ولا الصعيد نفض ثوبه أو لبده وتيمم بغباره) ولا يؤمر بالتيمم بالطين وإن كان لو فعل أجزأه في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأن فيه تلويث الوجه وهو مثلة ولكنه ينفض لبده
فيتيمم بغباره وقد بينا فيه حديث عمر - رضي الله تعالى عنه - فإن كان المطر عم جميع ذلك لطخ بالطين بعض جسده فإذا جف حته وتيمم به وإن لم يجف لم يصل بغير وضوء ولا تيمم وإن ذهب الوقت، وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه يصلي ثم يعيد إذا قدر على الطهور. ووجهه أنه لا ينبغي أن يمضي وقت صلاة على المسلم ولا يتشبه فيه بالمصلين فعليه أن يأتي بما قدر عليه تشبها كمن تسحر بعد طلوع الفجر كان عليه الإمساك تشبها بالصائمين ولكنا نقول الصلاة بغير طهارة معصية والتشبه بالمطيعين لا يحصل بمباشرة المعصية بخلاف الإمساك فإنه ليس بمعصية.
قال (وإن وجد سؤر حمار أو بغل توضأ به وتيمم) وإن قدم التيمم أجزأه إلا على قول زفر - رحمه الله تعالى - فإنه يقول ما دام معه ما هو مأمور باستعماله فلا عبرة بتيممه ولكنا نقول الاحتياط في الجمع بينهما لا في الترتيب فلا يلزمه إعادة الترتيب وإن كان الأفضل أن يقدم في التوضؤ به.
قال (وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض ذلك تيممه) ولكنه يمسح بخرقة أو تراب لتتقلل به النجاسة ثم يصلي فإن صلى لم يمسحه وأجزأه؛ لأن المسح لا يزيل النجاسة فهو عاجز عن إزالتها فجازت صلاته معها.
قال (وإذا توضأ الكافر أو اغتسل ثم أسلم فله أن يصلي بذلك الوضوء والاغتسال) عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - بناء على ما تقدم من اشتراط النية فعنده الوضوء لا يجزئ إلا بنية القربة والكافر ليس من أهلها وعندنا يجزئ من غير نية ويزول به الحدث فيصح من الكافر كغسل النجاسة وروي أن عمر - رضي الله تعالى عنه - لما طلب من أخته أن تناوله الصفحة قبل أن يؤمن حتى يغتسل ناولته فذلك دليل على صحة الاغتسال من الكافر.
قال (وإن تيمم الكافر في حال عدم الماء ثم أسلم فليس له أن يصلي بذلك التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى) وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - إذا تيمم بنية الإسلام أو الطهر فله أن يصلي به بعد الإسلام. وجه قوله أن التيمم يفارق الوضوء في اشتراط النية وبنية الطهر صح؛ لأنه من أهله، ونية الإسلام نية قربة فإذا اقترن بالتيمم نية القربة صح منه كما يصح من المسلم.
(ولنا) أن من شرط التيمم نية الصلاة به والكافر ليس من أهلها والتيمم لا يصح بغير نية ونية الإسلام لا تعتبر في التيمم إنما تعتبر نية قربة ونية القربة لا تصح إلا بالطهارة ألا ترى أن المسلم إذا تيمم بنية الصوم أو الصدقة لا تصح نيته ثم إصراره على الكفر إلى أن يفرغ من التيمم معصية فكيف يصح فيه معنى القربة.
قال (ولو توضأ المسلم أو اغتسل ثم ارتد - نعوذ
بالله - لم يبطل وضوءه) لأن الردة ليست بحدث وهو كفر والكفر لا يمنع ابتداء الوضوء فلا يمنع البقاء بطريق الأولى (فإن قيل) أليس أن الردة تحبط عمله ووضوءه من عمله (قلنا) الردة تحبط ثواب العمل وذلك لا يمنع زوال الحدث كمن توضأ على قصد المراءاة زال الحدث به وإن كان لا يثاب على وضوئه.
قال (ولو تيمم المسلم ثم ارتد لم يبطل تيممه) إلا على قول زفر - رحمه الله تعالى - فإنه يقول الكفر يمنع ابتداء التيمم فيمنع البقاء كمن صلى ثم ارتد بطلت صلاته حتى لو أسلم في الوقت لم تلزمه الإعادة، ولكنا نقول تيممه قد صح باقتران نية القربة فلا ينقضه إلا الحدث أو وجود الماء والردة ليست بحدث وهذا لأن التيمم إنما يفارق الوضوء في اشتراط النية وذلك في الابتداء لا في البقاء ففي البقاء الوضوء والتيمم سواء فكما يبقى وضوءه بعد ردته فكذلك تيممه.
قال (وللمسافر أن يطأ جاريته وإن علم أنه لا يجد الماء) وقال مالك - رحمه الله تعالى - يكره ذلك وروي أن رجلا سأل ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - عن ذلك فقال أما ابن عمر فلا يفعل ذلك وأما أنت إذا وجدت الماء فاغتسل قال مالك - رحمه الله تعالى - الضرورة لا تتحقق في اكتساب سبب الجنابة في حال عدم الماء والصلاة مع الجنابة أمر عظيم فلا ينبغي أن يتعرض لذلك من غير ضرورة.
(ولنا) قوله تعالى {أو لامستم النساء} [النساء: 43] فذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم التيمم للجنابة والحدث بصفة واحدة وكما يجوز له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء فكذلك اكتساب سبب الجنابة؛ لأن في منع النفس بعد غلبة الشبق بعض الحرج وما شرع التيمم إلا لدفع الحرج.
قال (ومن تيمم وهو يريد تعليم الغير ولا يريد به الصلاة لم يجزه) لما بينا أن التيمم في اللغة هو القصد وذلك يدل على اشتراط النية فيه وظاهر ما يقول في الكتاب أنه يحتاج إلى نية الصلاة وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن نية الطهارة تكفي وكان أبو بكر الرازي - رحمه الله تعالى - يقول يحتاج إلى نية التيمم للحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما بصفة واحدة فلا يتميز أحدهما إلا بالنية.
قال (ولو تيمم بنية النفل جاز له أداء الفرض) عندنا خلافا للشافعي - رضي الله عنه - وقد بينا هذا أنه يعتبر الضرورة للتيمم، ثم أداء النافلة بالتيمم يجوز عندنا كأداء الفرض وقال الزهري - رضي الله تعالى عنه - لا يجوز؛ لأنه لا ضرورة في أداء النافلة.
قال (مسافرة طهرت من حيضها فلم تجد ماء فتيممت وصلت فلزوجها أن يقربها) لأنا حكمنا بطهارتها حين صح تيممها وتأكد ذلك بجواز صلاتها ولم يذكر ما إذا تيممت ولم تصل
فقيل هو على الاختلاف عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى ليس للزوج أن يقربها وعند محمد - رحمه الله - له ذلك بناء على قصد الرجعة والأصح أنه ليس للزوج أن يقربها عندهم جميعا؛ لأن محمدا - رحمه الله تعالى - إنما جعل التيمم كالاغتسال فيما هو مبني على الاحتياط وهو قطع الرجعة. والاحتياط في الوطء تركه فلم يجعل التيمم فيه قبل تأكده بالصلاة كالاغتسال كما لم يفعله في الحل للأزواج.
قال (مسافر مر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد) ؛ لأن الجنابة تمنعه من دخول المسجد على كل حال عندنا سواء قصد المكث فيه أو الاجتياز وعند الشافعي - رحمه الله تعالى - له أن يدخله مجتازا لظاهر قوله تعالى {ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء: 43] ولكن أهل التفسير قالوا إن إلا هنا بمعنى ولا أي ولا عابري سبيل وهذا محتمل فبقي المنع بقوله لا تقربوا، وهو عاجز عن الماء قبل دخول المسجد فيتيمم ثم يدخل المسجد فيستقي منه وإن لم يكن معه ما يستقي به ولا يستطيع أن يغترف منه ولكنه يستطيع أن يقع فيه فإن كان ماء جاريا أو حوضا كبيرا اغتسل فيه، وإن كان عينا صغيرا فالاغتسال فيه ينجس الماء ولا يطهره فلا يشتغل به ولكنه يتيمم للصلاة وهذا إشارة منه إلى أنه لا يصلي بالتيمم الأول؛ لأن قصده عند ذلك دخول المسجد ونية الصلاة شرطه لصحة التيمم في ظاهر الرواية فلهذا تيمم ثانيا وكذلك لو تيمم لمس المصحف فليس له أن يصلي به بخلاف ما إذا تيمم لسجدة تلاوة؛ لأن السجدة من أركان الصلاة فنيته للسجدة عند التيمم كنية الصلاة فأما مس المصحف ودخول المسجد ليس من أركان الصلاة فلا يصير بنيته ذلك ناويا للصلاة.
قال (ولا يتوضأ بسؤر الكلب) إلا على قول مالك - رحمه الله تعالى - وقد بينا أن عنده سؤره طاهر، والأمر بغسل الإناء من ولوغه تعبد، وعند عامة العلماء سؤره نجس، وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله ثلاثا» دليل على نجاسته والتطهير لا يحصل بالنجس فكان فرضه التيمم.
قال (وتيمم لصلاة الجنازة في المصر إذا خاف فوتها) وكذلك لصلاة العيد عندنا وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - لا يتيمم لهما؛ لأن التيمم طهور شرع عند عدم الماء فمع وجوده لا يكون طهورا ولا صلاة إلا بطهور ومذهبنا مذهب ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال إذا فاجأتك جنازة فخشيت فوتها فصل عليها بالتيمم ونقل عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - في صلاة العيد مثله وقد روينا «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد السلام بطهارة التيمم حين خاف الفوت
لمواراة المسلم عن بصره» فصار هذا أصلا إلى أن كل ما يفوت لا إلى بدل يجوز أداؤه بالتيمم مع وجود الماء وصلاة العيد تفوت لا إلى بدل؛ لأنها لا تقضى إذا فاتت مع الإمام وكذلك صلاة الجنازة تفوت لا إلى بدل؛ لأنها لا تعاد عندنا وكأن الخلاف مبني على هذا الأصل والفقه فيه أن التوضؤ بالماء إنما يلزمه إذا كان يتوصل به إلى أداء الصلاة وهنا لا يتوصل بالتوضؤ إلى أداء الصلاة؛ لأنه تفوته الصلاة لو اشتغل بالوضوء فإذا سقط عنه الخطاب باستعمال الماء صار وجود الماء كعدمه فكان فرضه التيمم وبهذا فارق صلاة الجمعة فإنه لا يتيمم لها وإن خاف الفوت؛ لأن الوضوء هناك يتوصل به إلى الصلاة وهو الطهر الذي هو أصل فرض الوقت فكان مخاطبا باستعمال الماء وبخلاف سجدة التلاوة؛ لأنها غير مؤقتة فلا تفوته وبالوضوء يتوصل إلى أدائها فلا يجزئه أداؤها بالتيمم؛ لهذا قال (وإن سبقه الحدث بعد ما شرع في صلاة العيد فإن كان شروعه بالتيمم تيمم وبنى بالاتفاق وإن كان شروعه بالوضوء تيمم للبناء) عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وعندهما لا يتيمم؛ لأنه لا يخاف الفوت فإنه إذا ذهب للوضوء كان له أن يبني وإن عاد بعد فراغ الإمام وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول لما جاز الافتتاح بطهارة التيمم فالبناء أجوز؛ لأن حالة البناء أسهل وخوف الفوت قائم فربما يبتلى بالمعالجة مع الناس لكثرة ازدحامهم فتفسد صلاته ولا يصل إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضي الوقت وقيل هذا الجواب بناء على جبائية الكوفة فإن الماء بعيد لا يصل إليه حتى يعود إلى المصر فأما في ديارنا الماء محيط بالمصلى فلا يتيمم للابتداء ولا للبناء؛ لأنه لا يخاف الفوت وقد روى الحسن عن أبي حنيفة - رحمهم الله - أن ولي الميت لا يصلي على الجنازة بالتيمم بخلاف غيره؛ لأنه لا يخاف الفوت فإن الناس وإن صلوا عليها كان له حق الإعادة.
قال (ولا يجوز التيمم من مكان قد كان فيه بول أو نجاسة وإن ذهب الأثر) وذكر ابن كاسر النخعي عن أصحابنا - رضي الله تعالى عنهم - أنه يجوز؛ لأنه حكم بطهارة ذلك المكان حين ذهب أثر النجاسة بدليل جواز الصلاة عليها. وجه ظاهر الرواية أن شرط جواز التيمم طيبة الصعيد كما قال الله تعالى {فتيمموا صعيدا طيبا} [النساء: 43] وهذا المكان صار طاهرا وليس من ضرورة الطهارة الطيبة ولم يصر طيبا، ثم طهارة هذا المكان ثابتة بخبر الواحد واشتراط الطهارة في الصعيد ثابت بنص مقطوع به فلا يتأدى بما يثبت بخبر الواحد كمن استقبل الحطيم في الصلاة دون البيت لا تجوز صلاته لهذا وقد قررناه.
قال (وإن افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث فلم يجد ماء تيمم وبنى) لأن افتتاح الصلاة بالتيمم عند عدم
الماء جائز فالبناء أجوز؛ لأنه بنى الضعيف على القوي وذلك مستقيم فإن وجد ماء ينظر فإن كان بعد ما عاد إلى مكانه توضأ واستقبل بالاتفاق وإن كان قبل أن يعود إلى مكانه فالقياس يتوضأ ويستقبل الصلاة وهو قول محمد - رحمه الله تعالى -؛ لأن حرمة الصلاة باقية بعد التيمم وهذا متيمم وجد الماء في خلال صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة. استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى فقالا يتوضأ ويبني ويجعل كأنه لم يتيمم أصلا ولكنه كان في طلب الماء إلى أن يجد الماء بخلاف ما إذا عاد إلى مكان الصلاة فإن هناك لو جعلناه كأنه لم يتيمم كانت صلاته فاسدة وهذا؛ لأنه إنما لا يتوضأ للبناء إذا أدى شيئا من الصلاة بطهارة التيمم وقبل العود إلى مكان الصلاة لم يؤد شيئا بطهارة التيمم فكان له أن يتوضأ ويبني.
قال (وإن كان الإمام متيمما فأحدث فاستخلف متوضئا ثم وجد الماء الإمام الأول فسدت صلاته وحده) ؛ لأن الإمامة تحولت منه إلى الثاني وصار هو كواحد من القوم ففساد صلاته لا يفسد صلاة غيره وإن كان الإمام متوضئا والخليفة متيمما فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الأول والقوم جميعا؛ لأن الإمامة تحولت إليه وصار الأول كواحد من المقتدين به وفساد صلاة الإمام تفسد صلاة القوم.
قال (وإذا أم المتيمم المتوضئين فأبصر بعض القوم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون حتى فرغوا فصلاة الإمام والقوم تامة إلا من أبصر الماء) فإن صلاته فاسدة عندنا وقال زفر رضي الله عنه تعالى لا تفسد صلاته وهو رواية عن أبي يوسف - رحمه الله - ووجهه أنه لا بد لفساد الصلاة من سبب وهو في نفسه متوضئ فرؤية الماء لا تكون مفسدا في حقه وإنما تفسد صلاته لفساد صلاة الإمام وصلاة الإمام هنا صحيحة فلا معنى لفساد صلاته.
(ولنا) أن طهارة الإمام معتبرة في حق المقتدي بدليل أنه لو تبين أن الإمام محدث لم تجز صلاة القوم، وطهارته هنا تيمم فيجعل في حق من أبصر الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته؛ لأنه اعتقد الفساد في صلاة إمامه؛ لأنه عنده أنه يصلي بطهارة التيمم مع وجود الماء والمقتدي إذا اعتقد الفساد في صلاة إمامه تفسد صلاته كما لو اشتبهت عليهم القبلة فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى لا يصح اقتداؤه به إذا كان عالما أن إمامه يصلي إلى غير جهته.
قال (متيمم رأى في صلاته سرابا فظن أنه ماء فمشى إليه فإذا هو سراب فعليه أن يستقبل الصلاة) لأن مشيه كان على وجه الرفض لتلك الصلاة بدليل أن ما ظن لو كان حقا كانت صلاته فاسدة فلم يكن له
أن يبني كما لو ظن في خلال الصلاة أنه نسي مسح الرأس فمشى ليمسح ثم تذكر أنه كان مسح فليس له أن يبني بخلاف ما إذا ظن أنه سبقه الحدث فمشى ليتوضأ فعلم قبل أن يخرج من المسجد أنه ليس بحدث كان له أن يبني؛ لأن انصرافه هناك كان لإصلاح الصلاة دون رفضها بدليل أن ما ظن لو كان حقا كان له أن يتوضأ ويبني فما لم يفارق مكان الصلاة جعل كأنه في موضعه فبنى لهذا.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #13  
قديم 28-07-2025, 10:12 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 121 الى صـــ 130
(13)








قال (ومن استيقن بالتيمم فهو على تيممه حتى يستيقن بالحدث أو بوجود الماء) للأصل الذي قدمناه في الوضوء أن اليقين لا يزول بالشك
قال (وإذا أراد التيمم فتمعك في التراب ودلك بذلك جسده كله فإن كان أصاب التراب وجهه وذراعيه وكفيه أجزأه) لأنه أتى بالواجب وزاد عليه وقد بينا فيه حديث عمار - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كان يكفيك ضربتان» يعني ضربة للوجه وضربة للذراعين على ما عرف.
قال (وإن بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعد تيمم وجهه ساعة ثم تيمم على ذراعيه أجزأه) لأنه بدل عن الوضوء وقد بينا أن الترتيب والموالاة في الوضوء مسنون لا يمنع تركه الجواز فكذلك في التيمم.
قال (وإذا تيمم جنب أو حائض من مكان ثم وضع آخر يده على ذلك المكان فتيمم به أجزأه) لأن الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير الماء الباقي في الإناء بعد وضوء الأول واغتساله به فيكون طهورا في حق الثاني كذا هذا.
قال (وإذا تيمم وهو مقطوع اليدين من المرفقين فعليه مسح موضع القطع من المرفق عندنا) خلافا لزفر - رحمه الله تعالى - بناء على أن المرفق يدخل في فرض الطهارة عندنا خلافا لزفر - رحمه الله تعالى - ثم موضع القطع صار باديا في حقه فهو نظير الكف في حق من هو صحيح اليدين فعليه مسحه في التيمم وإن كان القطع من فوق لم يكن عليه مسحه؛ لأن موضع الطهارة من يده فائت فإن ما فوق المرفق ليس بموضع الطهارة.
قال (وإذا تيمم وفي رحله ماء لا يعلم به بأن كان نسيه بعد ما وضعه أو وضعه بعض أهله فصلاته بالتيمم جائزة) عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ولا تجوز عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - قال؛ لأن الماء في السفر من أهم الأشياء عند المسافر فقد نسي ما لا ينسى عادة فلا يعتبر نسيانه كما لو كان الماء على ظهره أو معلقا في عنقه فنسيه لا يعتبر نسيانه ولأن جواز التيمم عند عدم الماء وهو واجد للماء لكونه في رحله فإن رحله في يده فلا يجزئه التيمم كالمكفر بالصوم إذا نسي الرقبة في ملكه لا يجزئه لهذا. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى احتجا في الكتاب
وقالا بأن الله تعالى لم يكلفه إلا علمه ومعنى هذا التكليف بحسب الوسع وليس في وسعه استعمال الماء قبل علمه به وإذا لم يكن مخاطبا باستعماله فوجوده كعدمه كالمريض ومن يخاف العطش على نفسه تقديره أنه عدم آلة الوصول إلى الماء وهو العلم به فكان نظير الواقف على شفير البئر وليس معه آلة الاستسقاء ففرضه التيمم بخلاف الرقبة فالمعتبر هناك ملكها حتى لو عرض إنسان عليه الرقبة كان له أن لا يقبل ويكفر بالصوم، وبالنسيان لم ينعدم ملكه، وهنا المعتبر القدرة على استعمال الماء حتى لو عرض إنسان عليه الماء لا يجزئه التيمم وبالنسيان زالت هذه القدرة فجاز تيممه وهو بخلاف ما إذا كان عالما به وظن أنه قد نفذ؛ لأن القدرة على الاستعمال ثابتة بعلمه فلا ينعدم بظنه وعليه التفتيش فإذا لم يفعل لا يجزئه التيمم بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
قال (وإذا كان به جدري أو جراحات في بعض جسده فإن كان محدثا فالمعتبر أعضاء الوضوء) فإن كان أكثره صحيحا فعليه الوضوء في الصحيح، وإن كان أكثره مجروحا فعليه التيمم دون غسل الصحيح منه وإن كان جنبا فالعبرة بجميع الجسد فإن كان أكثره مجروحا تيمم وصلى عندنا. وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - يلزمه الغسل فيما هو صحيح في الوجوه جميعا؛ لأن سقوط الغسل عما هو مجروح لضرورة الضرر في إصابة الماء والثياب والضرورة تتقدر بقدرها.
(ولنا) أن الأقل تابع للأكثر «فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المجدور كان يكفيه التيمم» وأحد لا يقول أنه يغسل ما بين كل جدريين فدل على أن العبرة للأكثر وإذا كان الأكثر مجروحا فكأن الكل مجروح وقد بينا أنه لا يجمع بين الأصل والبدل على سبيل رفو أحدهما بالآخر فإذا كان الأكثر مجروحا لم يكن له بد من التيمم فسقط فرض الغسل لهذا.
قال (وإن أجنب الصحيح في المصر فخاف أن يقتله البرد إن اغتسل فإنه يتيمم) في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - كالمسافر إذا خاف ذلك وعندهما يجزئه ذلك في السفر ولا يجزئه في المصر قالا: لأن السفر يتحقق فيه خوف الهلاك من البرد فإنه لا يجد ماء سخينا ولا ثوبا يتدفأ به ولا مكانا يأويه وأما المصر لا يعدم أحد هذه الأشياء إلا نادرا ولا عبرة بالنادر ولهذا لم يجعل عدم الماء في المصر مجوزا للتيمم بخلاف خارج المصر وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول: المسافر يجوز له التيمم مع وجود الماء لخوف الهلاك من البرد فإذا تحقق ذلك في حق المقيم كان هو كالمسافر؛ لأن معنى الحرج من استعمال الماء ثابت فيهما ولأن من جاز له التيمم مع وجود الماء فالمصر والسفر له سواء كالمريض
وأما المحبوس في السجن فإن كان في موضع نظيف وهو لا يجد الماء كان أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول إن كان خارج المصر صلى بالتيمم وإن كان في المصر لم يصل وهو قول زفر - رضي الله تعالى عنه - ثم رجع فقال يصلي ثم يعيد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى. وجه قوله الأول أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعا حتى لا يسقط عنه الفرض بالتيمم ويلزمه الإعادة فلم يكن التيمم طهورا له ولا صلاة إلا بطهور. وجه قوله الآخر أن عدم الماء في المصر إنما لا يعتبر؛ لأنه لا يكون إلا نادرا فأما في السجن فعدم الماء ليس بنادر فكان معتبرا فأمر بالصلاة بالتيمم لعجزه عن الماء فأما الإعادة ففي القياس لا يلزمه وهو رواية عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - كما لو كان في السفر وفي الاستحسان يعيد؛ لأن عدم الماء كان لمعنى من العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة لحق الله تعالى فلا يسقط بما هو من عمل العباد بخلاف المسافر فإن هناك جواز التيمم لعدم الماء لا للحبس فلا صنع للعباد فيه فهو نظير المقيد إذا صلى قاعدا تلزمه الإعادة إذا رفع القيد عنه بخلاف المريض.
وإن كان محبوسا في مكان قذر لا يجد صعيدا طيبا ولا ماء يتوضأ به فإنه لا يصلي في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - يصلي بالإيماء تشبها بالمصلين واختلفت الروايات عن محمد - رحمه الله تعالى - فذكر في الزيادات ونسخ أبي حفص - رحمه الله تعالى - من الأصل كقول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وفي نسخ أبي سليمان - رحمه الله تعالى - ذكر قوله كقول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ووجهه أن العاقل المسلم لا يجوز أن يمضي عليه وقت الصلاة وهو لا يتشبه بالمصلين فيه بحسب الإمكان والتكليف إنما يتثبت بحسب وسعه، ووجه قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن الصلاة بغير طهور معصية ولا يحصل التشبه بالمصلين فيما هو معصية وقد تقدم نظيره. ومن نظائره الهارب من العدو ماشيا والمشتغل بالقتال في حال المسايفة والسابح في البحر بعد ما انكسرت السفينة عند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يصلون بالإيماء تشبها ثم يعيدون. وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى لا يصلون؛ لأن مع العمل من القتال والسباحة والمشي لا تكون الصلاة قربة وفي الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شغل عن أربع صلوات يوم الخندق» لكونه كان مشغولا بالقتال فدل أنه لا يصلي في هذه الحالة.
قال (مسافر جنب غسل فرجه ووجهه وذراعيه ورأسه ثم أهراق الماء فتيمم وافتتح الصلاة ثم قهقه فيها ووجد الماء فعليه أن يغسل وجهه وذراعيه ويمسح برأسه ويغسل
ما بقي من بعض جسده) لأن شروعه في الصلاة قد صح بالتيمم، والقهقهة في الصلاة لو طرأ على غسل الأعضاء نقض طهارته فيها، فكذلك إذا طرأ على غسل بعض الأعضاء بمنزلة سائر الأحداث وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - في الإملاء قال القهقهة في الصلاة ناقض للطهارة التي بها شرع في الصلاة وشروعه في الصلاة هنا بالتيمم لا بغسل وجهه وذراعيه ولا تنتقض بالقهقهة طهارته في الوجه والذراعين ولا يلزمه إعادة الغسل فيهما كما لا يلزمه إعادة الغسل فيما غسل من جسده سوى أعضاء الوضوء.
قال (جنب اغتسل فبقي على بدنه لمعة لم يصبها فإنه يتيمم ويصلي) لأن زوال الجنابة معتبر ثبوتها حكما فكما لا يتحقق ثبوتها في بعض البدن دون البعض فكذلك لا يتحقق زوالها ما بقي شيء لم يصبه الماء، فإن وجد الماء بعد ذلك غسل ذلك الموضع؛ لأنه قدر على ما يطهره ولا يتيمم؛ لأنه طاهر عن الحدث فإن كان أحدث قبل غسل ذلك الموضع فالمسألة على أوجه إن كان الماء الذي وجده يكفيه للمعة والوضوء غسل اللمعة ليخرج من الجنابة ثم يتوضأ؛ لأنه محدث معه ما يوضئه، وإن كان لواحد منهما يتيمم للحدث وتيممه للجنابة باق ولكنه يستعمل ذلك الماء في اللمعة لتقليل الجنابة وإن كان يكفيه للمعة دون الوضوء غسل به اللمعة ليخرج من الجنابة ثم يتيمم للحدث، وإن كان يكفيه للوضوء دون اللمعة توضأ به وتيممه للجنابة باق، وإن كان يكفيه لكل واحد منهما على الانفراد غسل به اللمعة لتزول به الجنابة فإن حكمها أغلظ من الحدث حتى يمنع الجنب من القراءة دون المحدث ثم يتيمم للحدث فإن بدأ بالتيمم للحدث أجزأه في رواية كتاب الصلاة ولم يجزه في رواية الزيادات وقيل ما ذكر في الزيادات قول محمد - رحمه الله تعالى -. ووجهه أنه تيمم ومعه ماء يكفيه للوضوء فلا يعتبر تيممه وما ذكر في الأصل قول أبي يوسف - رحمه الله تعالى - ووجهه أن الماء مستحق للمعة فهو كالمعدوم في حق الحدث كالمستحق للعطش، وشبه هذا بسؤر الحمار في أنه يجمع المسافر بين التوضؤ به والتيمم والأولى أنه يبدأ بالوضوء به فإن بدأ بالتيمم أجزأه فكذلك هنا.
قال (متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر حمار مضى على صلاته فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة) لأن سؤر الحمار مشكوك في طهارته وشروعه في الصلاة قد صح فلا ينتقض بالشك فلهذا يتم الصلاة ثم يتوضأ به ويعيد احتياطا لجواز أن يكون سؤر الحمار طاهرا.
قال (ولو وجد نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك) عند محمد - رحمه الله تعالى - يتم صلاته ثم يتوضأ به ويعيد
لأنه كسؤر الحمار عنده وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يتم صلاته ولا يعيد؛ لأن النبيذ عنده ليس بطهور وعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - يقطع صلاته؛ لأن نبيذ التمر بمنزلة الماء عنده في حال عدم الماء فتنتقض صلاته بوجوده فيتوضأ به ويستقبل وإن وجد سؤر الحمار والنبيذ جميعا فعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - تفسد صلاته فيتوضأ بهما ثم يستقبل؛ لأن سؤر الحمار إن كان طاهرا فالنبيذ معه ليس بطهور فلهذا توضأ بهما وعند أبي يوسف - رحمه الله تعالى - يمضي في صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد الصلاة احتياطا.
[فصل في ذكر المسائل المعدودة لأبي حنيفة]
-
رحمه الله تعالى - إذا فرغ المصلي من تشهده ولم يسلم حتى انقضى وقت مسحه أو وجد في خفه شيئا فنزعه فانتقض به مسحه فسدت صلاته في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -. وكذلك المتيمم إذا وجد الماء ومصلي الجمعة إذا خرج وقتها ومصلي الفجر إذا طلعت عليه الشمس والعاري إذا وجد ثوبا والأمي إذا تعلم القراءة والقارئ إذا استخلف أميا والمومئ إذا قدر على الركوع والسجود والمصلي إذا تذكر الفائتة وصاحب الجرح السائل إذا برئ جرحه أو ذهب وقته وكذلك المستحاضة ومصلي الفائتة إذا تغيرت الشمس.

وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قد مضت في جميع ذلك وخرج بها عنها وجازت عنه. فمن أصحابنا من قال هذه المسائل تبتني على أصل وهو أن الخروج من الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة - رحمه الله - وعندهما ليس بفرض واحتجاجهما بحديث عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا رفع المصلي رأسه من آخر سجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته» ولأنه بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمدا أو حادث المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد الصلاة ولو بقي عليه شيء من فرائض الصلاة لفسدت في هذه الأمور كما تفسد قبل القعدة ولأبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن هذه عبادة لها تحريم وتحليل فلا يخرج منها على وجه التمام إلا بصنعه كالحج وتقريره أن بعد التشهد لو أراد استدامة التحريمة إلى خروج الوقت أو إلى دخول صلاة أخرى منع منه ولو لم يبق عليه شيء من الصلاة لم يمنع من ذلك، وتأويل الحديث أي قارب التمام كما قال من وقف بعرفة فقد تم حجه أي قارب التمام، والكلام والحدث العمد والمحاذاة والقهقهة صنع من جهته (فإن قيل) فنزع الخف أيضا صنعه.
(قلنا) هو
صنع غير قاطع حتى أن غاسل الرجلين لو فعله في خلال الصلاة لا يضره ولهذا قيل تأويله إن كان الخف واسع الساق لا يحتاج في نزعه إلى المعالجة فإن كان يحتاج إلى ذلك فصلاته تامة بالاتفاق (فإن قيل) فالاستخلاف أيضا صنعه (قلنا) نعم ولكنه صنع غير مفسد بدليل أنه لو استخلف القارئ في خلال الصلاة لم يضره ولكن هذا ليس بقوي لاستحالة أن يقال يتأدى فرض الصلاة بالكلام والحدث العمد ولو كان الخروج بصنع المصلي فرضا لاختص بما هو قربة كالخروج من الحج ولكن الصحيح لأبي حنيفة أن التحريمة باقية بعد الفراغ من التشهد، واعتراض المغير للفرض في هذه الحالة كاعتراضه في خلال الصلاة بدليل أن المسافر لو نوى الإقامة في هذه الحالة يتغير فرضه كما لو نوى الإقامة في خلال الصلاة وهذه العوارض مغيرة للفرض بخلاف الكلام فإنه قاطع لا مغير والقهقهة والحدث العمد والمحاذاة مبطل لا مغير (فإن قيل) فطلوع الشمس في خلال الفجر مبطل لا مغير وقد جعلتموه على الاختلاف.
(قلنا) لا كذلك بل هو مغير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه لا يصير خارجا به من التحريمة، وجميع ما بينا فيما إذا اعترض قبل السلام، كذلك في سجود السهو أو بعد ما سلم قبل أن يتشهد أو بعد التشهد وقبل أن يسلم؛ لأن التحريمة باقية فإن عرض له شيء من ذلك بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة.
أما عندهما فلا شك وعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأنه بالسلام يخرج من التحريمة ولهذا لا يتغير فرض المسافر بنية الإقامة في هذه الحالة وكذلك إن كان يسلم إحدى التسليمتين؛ لأن انقطاع التحريمة يحصل بتسليمة واحدة وهذا كله بناء على قولنا، فأما عند الشافعي - رحمه الله تعالى - تفسد صلاته بالكلام والحدث العمد والعوارض المفسدة في هذه الحالة؛ لأن الخروج بالسلام عنده من فرائض الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم - «وتحليلها التسليم» فكما أن التحريم من الصلاة مختص بما هو قربة فكذلك التحليل.
(ولنا) حديث «ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما علمه التشهد قال له إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد» ولأن التسليم خطاب منه للناس حتى لو باشره في خلال الصلاة عمدا تفسد صلاته وما يكون من أركان الصلاة لا يكون مفسدا للصلاة وتبين بهذا أن المراد بقوله «- صلى الله عليه وسلم - وتحليلها التسليم» الإذن بانقضائها فإن من تحرم للصلاة فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه وعند التسليم يصير كالعائد إليهم فلهذا يسلم
عليهم لا أن التسليم من أركان الصلاة ولو عرض له شيء من ذلك قبل أن يقعد قدر التشهد أعاد الصلاة؛ لأن القعدة من الأركان لما روينا من حديث ابن مسعود،. وزعم بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى أن القدر المفروض من القعدة ما يأتي فيه بكلمة الشهادتين والأصح أن المفروض قدر ما يتمكن فيه من قراءة التشهد إلى قوله عبده ورسوله فالتشهد إذا أطلق يفهم منه هذا.
وفي الإملاء عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أن أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - كان يقول أولا في الأمي يتعلم السورة في خلال الصلاة أنه يقرأ ويبني كالقاعد يقدر علي القيام ثم رجع عن ذلك وقال إن صلاة الأمي ضرورة محضة حتى لا يجوز ترك القراءة مع القدرة في النفل والفرض فهو قياس المومئ يقدر على الركوع والسجود والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب الأذان]
الأذان في اللغة الإعلام ومنه قوله تعالى {وأذان من الله ورسوله} [التوبة: 3] الآية، وتكلموا في سبب ثبوته فروى أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - عن علقمة بن مرثد عن أبي بردة عن أبيه قال «مر أنصاري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فرآه حزينا وكان الرجل ذا طعام فرجع إلى بيته واهتم لحزنه - صلى الله عليه وسلم - فلم يتناول الطعام ولكنه نام فأتاه آت فقال أتعلم حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مم ذا هو من هذا الناقوس فمره فليعلم بلالا الأذان» وذكره إلى آخره والمشهور «أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أخرى فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أدائه الصلاة لكي لا تفوتهم الجماعة فقال بعضهم: ننصب علامة حتى إذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك، وأشار بعضهم بضرب الناقوس فكرهه لأجل النصارى، وبعضهم بالنفخ في الشبور فكرهه لأجل اليهود، وبعضهم بالبوق فكرهه لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شيء قال عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري: فبت لا يأخذني النوم وكنت بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصا نزل من السماء وعليه ثوبان أخضران وفي يده شبه الناقوس فقلت: أتبيعني هذا؟ فقال: ما تصنع به؟ فقلت: نضربه عند صلاتنا. فقال: ألا أدلك على ما هو خير من هذا؟
فقلت: نعم فقام على حذم حائط مستقبل القبلة فأذن ثم مكث هنيهة ثم قام فقال مثل مقالته الأولى وزاد في آخره قد قامت الصلاة مرتين فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته بذلك فقال: رؤيا صدق، أو قال: حق ألقها على بلال فإنه أمد صوتا منك فألقيتها عليه فقام على سطح أرملة كان أعلى السطوح بالمدينة وجعل يؤذن فجاء عمر - رضي الله تعالى عنه - في إزار وهو يهرول ويقول لقد طاف بي الليلة ما طاف بعبد الله إلا أنه قد سبقني فقال - صلى الله عليه وسلم - هذا أثبت». وروي أن سبعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين رأوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة. وكان أبو حفص محمد بن علي ينكر هذا ويقول تعمدون إلى ما هو من معالم الدين فتقولون ثبت بالرؤيا كلا ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أسري به إلى المسجد الأقصى وجمع له النبيون أذن ملك وأقام فصلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل نزل به جبريل - عليه الصلاة والسلام - حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل في السماء فسمعه عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - ولا منافاة بين هذه الأسباب فيجعل كأن ذلك كان.
ثم يختلفون في الأذان في ثلاثة مواضع: (أحدها) في الترجيع فإنه ليس من سنة الأذان عندنا خلافا للشافعي - رحمه الله تعالى - (وصفته) أن يأتي بكلمة - الشهادتين مرتين يخفض بهما صوته ثم يرجع فيأتي بهما مرتين أخريين يرفع بهما صوته واحتج الشافعي - رحمه الله تعالى - بحديث أبي محذورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة ولا يكون تسع عشرة كلمة إلا بالترجيع وروي أنه أمر بالترجيع نصا وجعل كلمة الشهادتين قياس التكبير فكما أنه يأتي بلفظة التكبير أربع مرات فكذلك كلمة الشهادتين.
(ولنا) حديث عبد الله بن زيد - رضي الله تعالى عنه - فهو الأصل وليس فيه ذكر الترجيع ولأن المقصود من الأذان قوله حي على الصلاة حي على الفلاح ولا ترجيع في هاتين الكلمتين ففيما سواهما أولى.
وأما لفظ التكبير فدليلنا فإن ذكر التكبير مرتين لما كان بصوت واحد فهو كلمة واحدة فأما حديث أبي محذورة قلنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتكرار حالة التعليم ليحسن تعلمه وهو كان عادته فيما يعلم أصحابه فظن أنه أمره بالترجيع. وقيل «إن أبا محذورة كان مؤذن مكة فلما انتهى إلى ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفض صوته استحياء من أهل مكة لأنهم لم
يعهدوا ذكر اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم جهرا ففرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذنه وأمره أن يعود فيرفع صوته ليكون تأديبا له».
(والثاني) في التكبير (عندنا أربع مرات وعند مالك - رحمه الله تعالى - مرتين) وهو رواية عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - قاسه بكلمة الشهادتين يأتي بهما مرتين.
(ولنا) حديث عبد الله بن زيد وحديث أبي محذورة - رضي الله تعالى عنهما - في الأذان تسع عشرة كلمة ولن يكون ذلك إذا كان التكبير مرتين ثم قد بينا أن كل تكبيرتين بصوت واحد فكأنهما كلمة واحدة فيأتي بهما مرتين كما يأتي بالشهادتين.
(والثالث) أن آخر الآذان لا إله إلا الله وعلى قول أهل المدينة لا إله إلا الله والله أكبر فاعتبروا آخره بأوله ويروون فيه حديثا ولكنه شاذ فيما تعم به البلوى والاعتماد في مثله على المشهور وهو حديث عبد الله بن زيد - رضي الله تعالى عنه - على ما توارثه الناس إلى يومنا هذا.
قال (وينبغي للمؤذن أن يستقبل القبلة في أذانه حتى إذا انتهى إلى الصلاة والفلاح حول وجهه يمينا وشمالا وقدماه مكانهما) ولأن الأذان مناجاة ومناداة ففي حالة المناجاة يستقبل القبلة وعند المناداة يستقبل من ينادي لأنه يخاطبه بذلك كما في الصلاة يستقبل القبلة فإذا انتهى إلى السلام حول وجهه يمينا وشمالا
لأنه يخاطب الناس بذلك فإذا فرغ من الصلاة والفلاح حول وجهه إلى القبلة لأنه عاد إلى المناجاة
قال (والإقامة مثنى مثنى كالأذان عندنا) وقال الشافعي - رحمه الله: الإقامة فرادى فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة فإنها مرتان واستدل بحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» ولأن الأذان للإعلام فمع التكرار أبلغ في الإعلام والإقامة لإقامة الصلاة فالإفراد بها أعجل لإقامة الصلاة فهو أولى
(ولنا) حديث عبد الله بن زيد - رضي الله تعالى عنه - فهو الأصل كما بينا. ومر علي بمؤذن يوتر الإقامة فقال: اشفعها لا أم لك ولأنه أحد الأذانين وهو مختص بقوله قد قامت الصلاة فلو كان من سنته الإفراد لكان أولى به هذه الكلمة.
وحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - معناه أمر بلالا أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد بدليل ما روي عن إبراهيم قال: أول من أفرد الإقامة معاوية - رضي الله تعالى عنه - وقال مجاهد - رضي الله تعالى عنه: كانت الإقامة مثنى كالأذان حتى استخفه بعض أمراء الجور فأفرده لحاجة لهم (وقال) مالك - رحمه الله تعالى - يفرد وقد قامت الصلاة أيضا
ويروي فيه حديثا عن سعد القرظي ولكنه شاذ فيما تعم به
البلوى والشاذ هي مسألة لا تكون حجة.
قال (ويجعل أصبعيه في أذنيه عند أذانه) «لقوله - صلى الله عليه وسلم - لبلال إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك فإنه أندى لصوتك» وقال أبو جحيفة رأيت بلالا يؤذن في صومعته يتبع فاه هاهنا وها هنا وأصبعاه في أذنيه. وإن لم يفعل لم يضره لأن المقصود وهو الإعلام حاصل.
قال (وإن استدار في صومعته لم يضره) لأنه ربما لا يحصل المقصود بتحويل الوجه يمينا وشمالا بدون الاستدارة لتباعد جوانب المحلة فالاستدارة للمبالغة في الإعلام
قال (ولا يثوب في شيء من الصلاة إلا في الفجر) وكان التثويب الأول في الفجر بعد الأذان الصلاة خير من النوم مرتين فأحدث الناس هذا التثويب وهو حسن.
أما معنى التثويب لغة فالرجوع ومنه سمي الثواب لأن منفعة عمله تعود إليه ويقال ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ فهو عود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول بدليل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص كحصاص الحمار فإذا فرغ رجع فإذا ثوب أدبر فإذا فرغ رجع فإذا أقام أدبر فإذا فرغ رجع وجعل يوسوس إلى المصلي أنه كم صلى».
فهذا دليل على أن التثويب بعد الأذان، وكان التثويب الأول الصلاة خير من النوم لما روي أن بلالا - رضي الله تعالى عنه - أذن لصلاة الفجر ثم جاء إلى باب حجرة عائشة - رضي الله تعالى عنها - فقال الصلاة يا رسول الله فقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - الرسول نائم فقال بلال الصلاة خير من النوم فلما انتبه أخبرته عائشة - رضي الله تعالى عنها - بذلك فاستحسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(قوله) فأحدث الناس هذا التثويب إشارة إلى تثويب أهل الكوفة فإنهم ألحقوا الصلاة خير من النوم بالأذان وجعلوا التثويب بين الأذان والإقامة حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين.
قال (والتثويب في كل بلدة ما يتعارفونه إما بالتنحنح أو بقوله الصلاة الصلاة أو بقوله قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة) لأنه للمبالغة في الإعلام فإنما يحصل ذلك بما يتعارفونه.
قال (ولا تثويب إلا في صلاة الفجر) لما روي أن عليا - رضي الله تعالى عنه - رأى مؤذنا يثوب في العشاء فقال أخرجوا هذا المبتدع من المسجد
ولحديث مجاهد - رضي الله تعالى عنه - قال دخلت مع ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - مسجدا نصلي فيه الظهر فسمع المؤذن يثوب فغضب وقال قم حتى نخرج من عند
هذا المبتدع فما كان التثويب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في صلاة الفجر.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #14  
قديم 28-07-2025, 10:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 131 الى صـــ 140
(14)







ولأن صلاة الفجر تؤدى في حال نوم الناس ولهذا خصت بالتطويل في القراءة فخصت أيضا بالتثويب لكي لا تفوت الناس الجماعة وهذا المعنى لا يوجد في غيرها وفسره الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال يؤذن للفجر ثم يقعد بقدر ما يقرأ عشرين آية ثم يثوب ثم يقعد مثل ذلك ثم يقيم
لحديث بلال - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له إذا أذنت فأمهل الناس قدر ما يفرغ الآكل من أكله والشارب من شربه والمعتصر من قضاء حاجته» وإنما استحسن التثويب لأن الدعاء إلى الصلاة في الأذان كان بهاتين الكلمتين فيستحسن التثويب بهما أيضا هذا اختيار المتقدمين وأما المتأخرون فاستحسنوا التثويب في جميع الصلوات لأن الناس قد ازداد بهم الغفلة وقلما يقومون عند سماع الأذان فيستحسن التثويب للمبالغة في الإعلام ومثل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس.
وقد روي عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه قال لا بأس بأن يخص الأمير بالتثويب فيأتي بابه فيقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة مرتين حي على الفلاح مرتين الصلاة يرحمك الله؛ لأن الأمراء لهم زيادة اهتمام بأشغال المسلمين ورغبة في الصلاة بالجماعة فلا بأس بأن يخصوا بالتثويب
، وقد روي عن عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه لما كثر اشتغاله نصب من يحفظ عليه صلاته غير أن محمدا - رحمه الله تعالى - كره هذا وقال أفا لأبي يوسف حيث خص الأمراء بالذكر والتثويب لما روي أن عمر - رضي الله تعالى عنه - حين حج أتاه مؤذن مكة يؤذنه بالصلاة فانتهره وقال ألم يكن في أذانك ما يكفينا
قال (ويترسل في الأذان ويحدر في الإقامة) لحديث جابر - رضي الله تعالى عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر» ولأن المقصود من الأذان الإعلام فالترسل فيه أبلغ في الإعلام والمقصود من الإقامة إقامة الصلاة فالحدر فيها أبلغ في هذا المقصود.
قال (فإن ترسل فيهما أو حدر فيهما أو ترسل في الإقامة وحدر في الأذان أجزأه) لأنه أقام الكلام بصفة التمام وحصل المقصود وهو الإعلام فترك ما هو زينة فيه لا يضره
[الأذان والإقامة على غير وضوء]
قال (ويجوز الأذان والإقامة على غير وضوء ويكره مع الجنابة حتى يعاد أذان الجنب ولا يعاد أذان
المحدث)
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يعاد فيهما وعن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - أنه لا يعاد فيهما ووجهه أن الأذان ذكر والجنب والمحدث لا يمنعان من ذكر الله تعالى وما هو المقصود به وهو الإعلام حاصل، ووجه رواية الحسن - رحمه الله تعالى - أن الأذان مشبه بالصلاة ولهذا يستقبل فيه القبلة، والصلاة مع الحدث لا تجوز فما هو من أسبابه مشبه به يكره معه، ثم المؤذن يدعو الناس إلى التأهب للصلاة فإذا لم يكن متأهبا لها دخل تحت قوله تعالى {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44] .
وجه ظاهر الرواية ما روي أن بلالا ربما أذن وهو على غير وضوء ثم الأذان ذكر معظم فيقاس بقراءة القرآن والمحدث لا يمنع من ذلك ويمنع منه الجنب فكذلك الأذان وفي ظاهر الرواية جعل الإقامة كالأذان في أنه لا بأس به إذا كان محدثا. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى الفرق بينهما فقال: أكره الإقامة للمحدث لأن الإقامة يتصل بها إقامة الصلاة فلا يتمكن من ذلك مع الحدث بخلاف الأذان
[الأذان قاعدا]
قال (ويكره الأذان قاعدا) لأنه في حديث الرؤيا قال: فقام الملك على جذم حائط، ولأن المقصود الإعلام وتمامه في حالة القيام ولكنه يجزئه لأن أصل المقصود حاصل
قال (ولا بأس بأن يؤذن واحد ويقيم آخر) لما روي أن «عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون له في الأذان نصيب فأمر بأن يؤذن بلال ويقيم» هو ولأن كل واحد منهما ذكر مقصود فلا بأس بأن يأتي بكل واحد منهما رجل آخر
والذي روي «أن الحارث الصدائي أذن في بعض الأسفار وبلال كان غائبا فلما رجع بلال وأراد أن يقيم قال - صلى الله عليه وسلم - إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» إنما قاله على وجه تعليم حسن العشرة لا أن خلاف ذلك لا يجزئ
قال (وإن ترك استقبال القبلة في أذانه أجزأه وهو مكروه) لأن المقصود به حصل وهو الإعلام والكراهية لمخالفته السنة
[أذان المسافر]
قال (ويؤذن المسافر راكبا إن شاء) لما روي أن بلالا في السفر ربما أذن راكبا ولأن المسافر له أن يترك الأذان أصلا فله أن يأتي به راكبا بطريق الأولى.
قال (وينزل للإقامة أحب إلي) لأن الإقامة يتصل بها إقامة الصلاة، وإنما يصلي على الأرض فينزل للإقامة لهذا
قال (وإن اقتصر المسافر بالإقامة أجزأه) لأن السفر عذر مسقط لشطر الصلاة فلأن يكون مسقطا لأحد الأذانين أولى، ولأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا وهم في السفر مجتمعون والإقامة لإقامة الصلاة وهم إليها محتاجون فيؤتى بها في السفر
ويكره تركه لهذا
والأولى أن يؤتي بهما لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمالك بن الحويرث وابن عم له إن سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكثركما قرآنا» وقال - صلى الله عليه وسلم - «من أذن في أرض قفر وأقام صلى بصلاته ما بين الخافقين من الملائكة ومن صلى بغير أذان وإقامة لم يصل معه إلا ملكاه»
[أذان المرأة]
قال (وليس على النساء أذان ولا إقامة) لأنهما سنة الصلاة بالجماعة وجماعتهن منسوخة لما في اجتماعهن من الفتنة وكذلك إن صلين بالجماعة صلين بغير أذان ولا إقامة لحديث رابطة قالت كنا جماعة من النساء عند عائشة - رضي الله عنها - فأمتنا وقامت وسطنا وصلت بغير أذان ولا إقامة ولأن المؤذن يشهر نفسه بالصعود إلى أعلى المواضع ويرفع صوته بالأذان والمرأة ممنوعة من ذلك لخوف الفتنة، فإن صلين بأذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة لمخالفة السنة والتعرض للفتنة
قال (وإن صلى أهل المصر بجماعة بغير أذان ولا إقامة فقد أساءوا) لترك سنة مشهورة وجازت صلاتهم لأداء أركانها والأذان والإقامة سنة ولكنهما من أعلام الدين فتركهما ضلالة هكذا قال مكحول السنة سنتان سنة أخذها هدي وتركها لا بأس به
، وسنة أخذها هدي وتركها ضلالة كالأذان والإقامة وصلاة العيدين، وعلى هذا قال محمد - رحمه الله تعالى - إذا أصر أهل المصر على ترك الأذان والإقامة أمروا بهما فإن أبوا قوتلوا على ذلك بالسلاح كما يقاتلون عند الإصرار على ترك الفرائض والواجبات، وقال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - المقاتلة بالسلاح عند ترك الفرائض والواجبات فأما في السنن فيؤدبون على تركها ولا يقاتلون على ذلك ليظهر الفرق بين الواجب وغير الواجب ومحمد - رحمه الله تعالى - يقول ما كان من أعلام الدين فالإصرار على تركه استخفاف فيقاتلون على ذلك لهذا
قال (فإن صلى رجل في بيته فاكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه) لما روي أن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - صلى بعلقمة والأسود في بيت فقيل له ألا تؤذن فقال أذان الحي يكفينا وهذا بخلاف المسافر فإنه يكره له تركهما وإن كان وحده
؛ لأن المكان الذي هو فيه لم يؤذن فيه لتلك الصلاة فأما هذا الموضع الذي فيه المقيم أذن وأقيم فيه لهذه الصلاة فله أن يتركهما.
قال (وإن أذن وأقام فهو حسن) لأن المنفرد مندوب إلى أن يؤدي الصلاة على هيئة الصلاة بالجماعة ولهذا كان الأفضل أن يجهر بالقراءة في صلاة الجهر وكذلك إن أقام ولم يؤذن فهو حسن لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا وذلك غير موجود هنا والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها
قال (وليس لغير الصلوات الخمس والجمعة أذان ولا إقامة) أما لصلاة العيد فلحديث جابر بن سمرة - رضي الله تعالى عنه - قال «صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العيدين بغير أذان ولا إقامة» وكذلك توارثه الناس إلى يومنا هذا وأما في صلاة الوتر فلأنها لا تؤدى بالجماعة إلا في التراويح في ليالي رمضان وعند أدائها هم مجتمعون وأما في السنن والنوافل فلأنها لا تؤدى بالجماعة إلا التراويح في ليالي رمضان وهي تبع لصلاة العشاء وقد أذن وأقيم لها وهم مجتمعون عند أدائها
، فأما الجمعة يؤذن لها ويقام لأنها فرض مكتوب والأذان له منصوص في القرآن قال الله تعالى {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9] ، واختلفوا في الأذان الذي يحرم عنده البيع ويجب السعي إلى الجمعة فكان الطحاوي يقول هو الأذان عند المنبر بعد خروج الإمام فإنه هو الأصل الذي كان للجمعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما روي عن السائب بن يزيد قال «كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يخرج فيستوي على المنبر وهكذا في عهد أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما -» ثم أحدث الناس الأذان على الزوراء في عهد عثمان فكان الحسن بن زياد يقول المعتبر هو الأذان على المنارة لأنه لو انتظر الأذان عند المنبر يفوته أداء السنة وسماع الخطبة وربما تفوته الجمعة إذا كان بيته بعيدا عن الجامع والأصح أن كل أذان يكون قبل زوال الشمس فذلك غير معتبر والمعتبر أول الأذان بعد زوال الشمس سواء كان على المنبر أو على الزوراء
قال (ولا يتكلم المؤذن في أذانه وإقامته) لأنه ذكر معظم كالخطبة فيكره التكلم في خلاله لما فيه من ترك الحرمة، وروى المعلى عن يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه يكره رد السلام في خلال الأذان وكان الثوري - رحمه الله تعالى - يقول: لا بأس برد السلام لأنها فريضة
، ولكنا نقول: يحتمل التأخير إلى أن يفرغ من أذانه
قال (وإن أذن قبل دخول الوقت لم يجزه ويعيده في الوقت) لأن المقصود من الأذان إعلام الناس بدخول الوقت فقبل الوقت يكون تجهيلا لا إعلاما ولأن المؤذن مؤتمن قال - صلى الله عليه وسلم - «الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين» وفي الأذان قبل الوقت إظهار الخيانة فيما ائتمن فيه ولو جاز الأذان قبل الوقت لأذن عند الصبح خمس مرات لخمس صلوات وذلك لا يجوزه أحد ولا خلاف فيه إلا في صلاة الفجر
فقد قال أبو يوسف - رحمه الله تعالى - آخرا: لا بأس بأن يؤذن للفجر في النصف الآخر من الليل وهو قول للشافعي - رضي الله عنه - واستدلا
بتوارث أهل الحرمين
ولما روي أن بلالا كان يؤذن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل فدل أنه لا بأس به ولأن وقت الفجر مشتبه وفي مراعاته بعض الحرج، ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قاسا الأذان للفجر بالأذان لسائر الصلوات بالمعنى الذي بينا وفي الأذان للفجر قبل الوقت إضرار بالناس لأنه وقت نومهم فيلتبس عليهم وذلك مكروه
وقد روي أن الحسن البصري - رحمه الله تعالى - كان إذا سمع من يؤذن قبل طلوع الفجر قال علوج فراح لا يصلون إلا في الوقت، لو أدركهم عمر لأدبهم فأما أذان بلال فقد أنكر عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان بالليل وأمره أن ينادي على نفسه ألا إن العبد قد زام فكان يبكي ويطوف حول المدينة ويقول ليت بلالا لم تلده أمه وابتل من نضح دم جبينه وإنما قال ذلك لكثرة معاتبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه، وقيل إن أذان بلال ما كان لصلاة الفجر ولكن كان لينام القائم ويقوم النائم فقد كانت الصحابة فرقتين فرقة يتهجدون في النصف الأول من الليل وفرقة في النصف الآخر، وكان الفاصل أذان بلال.
وإنما كان صلاة الفجر بأذان ابن أم مكتوم كما قال - صلى الله عليه وسلم - «لا يغرنكم أذان بلال فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويتسحر صائمكم ويقوم نائمكم فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» وكان هو أعمى لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون أصبحت أصبحت
قال (وإذا دخل القوم مسجدا قد صلى فيه أهله كرهت لهم أن يصلوا جماعة بأذان وإقامة ولكنهم يصلون وحدانا بغير أذان ولا إقامة)
لحديث الحسن قال كانت الصحابة إذا فاتتهم الجماعة فمنهم من اتبع الجماعات ومنهم من صلى في مسجده بغير أذان ولا إقامة وفي الحديث «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليصلح بين الأنصار فاستخلف عبد الرحمن بن عوف فرجع بعد ما صلى فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته وجمع أهله فصلى بهم بأذان وإقامة» فلو كان يجوز إعادة الجماعة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد والصلاة فيه أفضل، وهذا عندنا
، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - لا بأس بتكرار الجماعة في مسجد واحد لأن جميع الناس في المسجد سواء وإنما لإقامة الصلاة بالجماعة وهو قياس المساجد على قوارع الطرق فإنه لا بأس بتكرار الجماعة فيها
(ولنا) أنا أمرنا بتكثير الجماعة وفي تكرار الجماعة في مسجد واحد تقليلها لأن الناس إذا عرفوا أنهم تفوتهم الجماعة يعجلون للحضور فتكثر الجماعة وإذا علموا أنه لا تفوتهم يؤخرون فيؤدي إلى تقليل الجماعات وبهذا فارق المسجد الذي على قارعة
الطريق لأنه ليس له قوم معلومون فكل من حضر يصلي فيه فإعادة الجماعة فيه مرة بعد مرة لا تؤدي إلى تقليل الجماعات ثم في مسجد المحال إن صلى غير أهلها بالجماعة فلأهلها حق الإعادة لأن الحق في مسجد المحلة لأهلها ألا ترى أن التدبير في نصب الإمام والمؤذن إليهم فليس لغيرهم أن يفوت عليهم حقهم، فأما إذا صلى فيه أهلها أو أكثر أهلها فليس لغيرهم حق الإعادة إلا في رواية عن أبي يوسف - رحمه الله تعالى - قال إن وقف ثلاثة أو أربعة ممن فاتتهم الجماعة في زاوية غير الموضع المعهود للإمام فصلوا بأذان فلا بأس به وهو حسن.
لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه فدخل أعرابي وقام يصلي فقال - صلى الله عليه وسلم - ألا أحد يتصدق على هذا يقوم فيصلي معه فقام أبو بكر - رضي الله عنه - وصلى معه.
قال (ومن فاتته صلاة عن وقتها فقضاها في وقت آخر أذن لها وأقام واحدا كان أو جماعة) لأن «النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة التعريس بعد ما انتبه مع أصحابه بعد طلوع الشمس فقضى الفجر بأذان وإقامة أمر بلالا بهما» «وشغل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن بعد هوي من الليل» قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - «أمر بلالا فأذن وأقام للأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها» وقال جابر - رضي الله تعالى عنه - «أمره فأذن وأقام لكل صلاة» «وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - أمره بالإقامة لكل صلاة».
قال (وإن اكتفوا بالإقامة جاز) لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا وذلك معدوم في القضاء والإقامة لإقامة الصلاة، وإن أذن وأقام فهو حسن ليكون القضاء على سنن الأداء
قال (ولا يجوز لمن فاته ظهر أمسه أن يقتدي بمن يصلي ظهر يوم غير ذلك) وها هنا مسائل. إحداها اقتداء المتنفل بالمفترض فهو جائز بالاتفاق لقوله - صلى الله عليه وسلم - «سيكون أمراء بعدي يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فإذا فعلوا فصلوا أنتم في بيوتكم ثم صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة» أي نافلة، ولأن المقتدي بنى صلاته على صلاة إمامه كما أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته، وبناء النفل على تحريمة انعقدت للفرض يجوز وكذلك اقتداء المتنفل بالمفترض فأما المفترض إذا اقتدى بالمتنفل عندنا فلا يصح الاقتداء.
وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - يصح لحديث معاذ - رضي الله تعالى عنه - أنه كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتي قومه فيصلي بهم ولأن المشاركة بين الإمام والمقتدي في التحريمة، والنفل والفرض يستدعي كل واحد منهما تحريمة مطلقة
فكما يجوز اقتداء المتنفل بالمفترض فكذلك المفترض بالمتنفل.
(ولنا) قوله - صلى الله عليه وسلم - «الإمام ضامن» معناه تتضمن صلاته صلاة القوم وتضمين الشيء فيما هو فوقه يجوز وفيما هو دونه لا يجوز وهو المعنى في الفرق، فإن الفرض يشتمل على أصل الصلاة والصفة، والنفل يشتمل على أصل الصلاة فإذا كان الإمام مفترضا فصلاته تشتمل على صلاة المقتدي وزيادة فصح اقتداؤه به وإذا كان الإمام متنفلا فصلاته لا تشتمل على ما تشتمل عليه صلاة المقتدي فلا يصح اقتداؤه به لأنه بنى القوي على أساس ضعيف.
وحديث معاذ تأويله كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنية النفل ليتعلم منه سنة القراءة ثم يأتي قومه فيصلي بهم الفرض، وهذا على أن تغاير الفرضين عندنا يمنع صحة الاقتداء حتى إذا اقتدى مصلي الظهر بمصلي العصر أو مصلي عصر يومه بمصلي عصر أمسه لم يجز الاقتداء. وعند الشافعي - رحمه الله - يجوز.
وإذا اقتدى مصلي الظهر بمصلي الجمعة أو مصلي الظهر بالمصلي على الجنازة فله فيه وجهان وهذا الخلاف ينبني على أصل نذكره بعد هذا هو أن المشاركة بين الإمام والمقتدي لا تقوى عنده حتى إذا تبين أن الإمام محدث فصلاة المقتدي عنده صحيحة. وعندنا المشاركة تقوى بينهما فتغاير الفرضين يمنع صحة المشاركة ثم المذكور في هذا الباب أنه يصير شارعا في التطوع مقتديا بالإمام حتى لو ضحك قهقهة يلزمه الوضوء؛ لأن الاقتداء في أصل الصلاة صحيح إنما لا يصح في الجهة.
وفي باب الحدث قال: لا يصير شارعا حتى لو قهقه لا يلزمه الوضوء. وما ذكر هنا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى بناء على أصلهما أن أصل الصلاة ينفصل عن الجهة ابتداء وبقاء وما ذكر بعد هذا قول محمد - رحمه الله تعالى - بناء على مذهبه أن الجهة متى فسدت صار خارجا من الصلاة وعليه نص في زيادات الزيادات
[أذان العبد والأعمى وولد الزنا والأعرابي]
قال (ويجوز أذان العبد والأعمى وولد الزنا والأعرابي) لأن المقصود وهو الإعلام حاصل وغيرهم أولى.
أما العبد فلأنه مشغول بخدمة المولى لا يتفرغ لمحافظة المواقيت وروي أن وفدا جاءوا إلى عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - فقال من يؤذن لكم؟ فقالوا: عبيدنا، قال: إن هذا لنقص بكم. وأما الأعمى فهو محتاج إلى الرجوع إلى غيره في معرفة المواقيت وكان لإبراهيم النخعي - رحمه الله تعالى - مؤذن أعمى يقال له معبد فقال له: لا تكن آخر من يقيم ولا أولهم.
وأما ولد الزنا والأعرابي فالغالب عليهم الجهل وقد بينا أن الأذان ذكر معظم فيختار له من يكون محترما في الناس متبركا به ولهذا قال: أحب إلي أن يكون
المؤذن عالما بالسنة وفيه حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «يؤمكم قراؤكم ويؤذن لكم خياركم»
قال (وإن أذن للقوم غلام مراهق أجزأهم) لحصول المقصود بأذانه وهو الإعلام والبالغ أولى؛ لأنه أقرب إلى مراعاة الحرمة ولأن الصبي غير مخاطب بالصلاة والأذان للمكتوبات خاصة فالأولى أن يؤذن من هو مخاطب بالمكتوبات
قال (وإن أذنت لهم امرأة جاز) لحصول المقصود وهو مكروه؛ لأن أذان النساء من المحدثات لم يكن في السلف وكل محدثة بدعة، ولأن في صوتها فتنة وهي منهية عن الخروج إلى الجماعات والأذان لإقامة الصلاة بالجماعة
قال (ويؤذن المؤذن حيث يكون أسمع للجيران) لأن المقصود إعلامهم ويرفع صوته؛ لأن الإعلام لا يحصل إلا به وفي الحديث «يشهد للمؤذن من سمع صوته أو يستغفر للمؤذن مدى صوته» قال (ولا يجهد نفسه فربما يضره ذلك) ورأى عمر - رضي الله تعالى عنه - مؤذن بيت المقدس يجهد نفسه فقال أما تخشى أن ينقطع مريطاؤك والمريطاء عرق مستبطن بالصلب فإذا انقطع لم يكن معه حياة.
قال (ولا أكره له أن يتطوع في صومعته) لما روي أن بلالا - رضي الله تعالى عنه - كان ربما تطوع في صومعته ولأنه بمنزلة السطح فلا بأس بالصلاة عليه.
قال (وأحب إلي أن يجزم قوله الله أكبر) وقد بينا هذا في تكبيرة الافتتاح
[التلحين في الأذان]
قال (والتلحين في الأذان مكروه) لما روي أن رجلا جاء إلى عمر - رضي الله تعالى عنه - فقال: إني أحبك في الله. فقال: إني أبغضك في الله. فقال: لم؟ قال: لأنه بلغني أنك تغني في أذانك يعني التلحين وأما التفخيم فلا بأس به؛ لأنه إحدى اللغتين
قال (وإن افتتح الأذان فظن أنها الإقامة فأقام في آخرها بأن قال قد قامت الصلاة ثم علم فإنه يتم الأذان ثم يقيم وإن كان في الإقامة فظن أنها الأذان فصنع فيها ما صنع في الأذان أعادها من أولها)
لأن هنا وقع التعيين في جميعها وفي الأول في آخرها وحقيقة المعنى في الفرق أن المقصود من الأذان إعلام الناس ليحضروا وبالإقامة في آخرها لا يفوت هذا المقصود بل يزداد؛ لأن الناس يعجلون على ظن أنها الإقامة فلهذا لا يعيدها وعند الإقامة إقامة الصلاة والتعجيل للإدراك فإذا صنع في الإقامة ما يصنع في الأذان يفوت هذا المقصود لأن الناس يظنون أنه الأذان فينتظرون الإقامة فلهذا يعيد الإقامة من أولها.
قال (فإن غشي عليه ساعة في الأذان أو الإقامة ثم أفاق فأحب إلي أن يبتدئها من أولها) ألا ترى أنه لو غشي عليه في الصلاة لم يبن على صلاته فكذلك فيما هو من
أسباب الصلاة
قال (وإن رعف فيها أو أحدث فذهب وتوضأ ثم جاء فأحب إلي أن يبتدئها من أولها) لأن بذهابه انقطع النظم فربما يشتبه على الناس أنه كان يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان والأولى له إذا أحدث في أذانه أو إقامته أن يتمها ثم يذهب فيتوضأ ويصلي؛ لأن ابتداء الأذان مع الحدث يجوز فإتمامه أولى
قال (وإذا قدم المؤذن في أذانه أو إقامته بعض الكلمات على بعض فالأصل فيه أن ما سبق أداؤه يعتد به حتى لا يعيده في أذانه) وما يقع مكررا لا يعتد به فكأنه لم يكرر
قال (وإذا وقع في إقامته فمات أو أغمي عليه فأحب إلي أن يبتدئ الإقامة غيره من أولها) لأن عمله قد انقطع بالموت ولا بناء على المنقطع
قال (مؤذن أذن ثم ارتد فإن اعتدوا بأذانه وأمروا من يقيم ويصلي بهم أجزأهم) ؛ لأن المقصود وهو الإعلام قد حصل بأذانه وبطلان ثواب عمله بالردة في حقه لا يبطله في حق غيره كما لو ارتد الإمام بعد فراغه من الصلاة تبطل صلاته ولا تبطل في حق القوم
قال (ويقعد المؤذن بين الأذان والإقامة في جميع الصلوات إلا في المغرب في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أما في سائر الصلوات فيكره له أن يصل الإقامة بالأذان ولا يقعد بينهما)
لما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله» والأولى به في الصلاة التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب أن يتطوع بين الأذان والإقامة جاء في تأويل قوله تعالى {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا} [فصلت: 33] أنه المؤذن يدعو الناس بأذانه ويتطوع بعده قبل الإقامة فأما في صلاة المغرب فيكره له وصل الإقامة بالأذان كما في غيرها والأفضل عند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - أن يفصل بينهما بسكتة وذكر الحسن - رحمه الله تعالى - عنه بقدر ما يقرأ ثلاث آيات وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأفضل أن يفصل بينهما بجلسة مقدار جلسة الخطيب بين الخطبتين لحديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يفصل بين أذان المغرب والإقامة بجلسة ولأن السكتة تشبه السكتات بين كلمات الأذان فلا يتحقق بها الفصل فالجلسة للفصل أولى وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - قال أمرنا بتعجيل المغرب قال - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب وقال بادروا بالمغرب قبل اشتباك النجوم ولا تتشبهوا باليهود فإنهم يصلون والنجوم مشتبكة» والفصل بالسكتة أقرب إلى تعجيل المغرب.
وحديث ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - محمول على حالة العذر لكبر أو مرض وبه
نقول
قال (ويكره أن يؤذن في مسجدين ويصلي في أحدهما) ؛ لأنه بعد ما صلى يكون متنفلا بالأذان في المسجد الثاني والتنفل بالأذان غير مشروع ولأن الأذان مختص بالمكتوبات فإنما يؤذن ويقيم من يصلي المكتوبة على أثرهم وهو في المسجد الثاني يصلي النافلة على أثرهما
قال (ويكره للإمام والمؤذن طلب الأجر على ذلك من القوم) لأنهما يعملان لأنفسهما فكيف يشترطان الأجر على غيرهما ثم هما خليفتان للرسول في الدعاء والإمامة وقال الله تعالى {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} [الشورى: 23] فمن يكون خليفته ينبغي أن يكون مثله
وقال عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله تعالى عنه - آخر ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن صل بالناس صلاة أضعفهم وإذا اتخذت مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا وقال رجل لعمر - رضي الله تعالى عنه: إني أحبك في الله. فقال: إني أبغضك في الله. قال: ولم؟ قال: لأنه بلغني أنك تأخذ على الأذان أجرا فإن عرف القوم حاجته فواسوه بشيء فما أحسن ذلك بعد أن لا يكون عن شرط؛ لأنه فرغ نفسه لحفظ المواقيت وإعلامه لهم فربما لا يتفرغ للكسب فينبغي لهم أن يهدوا إليه بهدية فقد كان الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم يقبلون الهدية وعلى هذا قالوا الفقيه الذي يفتي في بلدة أو قرية لا يحل له أن يأخذ على الفتيا شيئا عن شرط فإن عرفوا حاجته فأهدوا إليه فهو حسن؛ لأنه محسن إليهم في تفريغ نفسه عن الكسب وحراسة أمر دينهم فينبغي أن يقابلوا إحسانه بالإحسان إليه
قال (والذي يواظب على الصلوات كلها أولى بالأذان من غيره) لأن صوته يصير معهودا للقوم فلا يقع الاشتباه وإن أذن السوقي في صلاة الليل وأذن في صلاة النهار غيره فذلك جائز أيضا
؛ لأن السوقي محتاج إلى الكسب فيلحقه الحرج بالرجوع إلى المحلة في وقت كل صلاة
[أذان السكران والمجنون]
قال (وإذا أذن السكران أو المجنون فأحب إلي أن يعيدوا) ؛ لأن معنى التعظيم لا يحصل بأذانهما وعامة كلام السكران والمجنون هذيان فلا يحصل به الإعلام فربما يشتبه على الناس فالأولى إعادة أذانهم
قال (ولا يجوز لأهل المسجد أن يقتسموا المسجد وينصبوا وسطه حائطا) لأن بقعة المسجد تحررت عن حقوق العبد فصار خالصا لله تعالى والقسمة من التصرفات في الملك فلا يشتغل بها في المسجد كالزراعة وغيرها فإن فعلوا ذلك فليصل كل فريق منهم بإمام ومؤذن على حدة ما لم ينتقضوا القسمة
؛ لأنهما في حكم مسجدين متجاورين فينبغي أن يكون لكل واحد منهما إمام ومؤذن على حدة والله أعلم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #15  
قديم 28-07-2025, 10:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المبسوط فى الفقه الحنفى محمد بن أحمد السرخسي


الكتاب: المبسوط فى الفقه الحنفى
المؤلف: محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
(ت ٤٨٣ هـ)
عدد الأجزاء: ٣١ (الأخير فهارس)
المجلد الاول
صـــ 141 الى صـــ 150
(15)




[باب مواقيت الصلاة]
(اعلم) أن الصلاة فرضت لأوقاتها قال الله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] ولهذا تكرر وجوبها بتكرار الوقت وتؤدى في مواقيتها قال الله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103] أي فرضا مؤقتا وقال - صلى الله عليه وسلم - «من حافظ على الصلوات الخمس في مواقيتها كان له عند الله عهدا يغفر له يوم القيامة وتلا قوله تعالى {إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} [مريم: 87] ».
وللمواقيت إشارة في كتاب الله تعالى {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون} [الروم: 17] أي صلوا لله فقوله حين تمسون المراد به العصر، وعند بعضهم المغرب، وحين تصبحون الفجر، وعشيا العشاء، وحين تظهرون الظهر، وقال الله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر} [الإسراء: 78] قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - دلوك الشمس الزوال فالمراد به الظهر وقال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - دلوكها غروبها والمراد المغرب، إلى غسق الليل العشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر، وقال الله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وهو العصر وقال الله تعالى {وأقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114] وقال الحسن الفجر وزلفا من الليل
، قال محمد بن كعب - رضي الله تعالى عنه - المغرب والعشاء ثم بدأ ببيان وقت الفجر؛ لأنه متفق عليه لم يختلفوا في أوله ولا في آخره.
قال (وقت صلاة الفجر من حين يطلع الفجر المعترض في الأفق إلى طلوع الشمس) والفجر فجران كاذب تسميه العرب ذنب السرحان وهو البياض الذي يبدو في السماء طولا ويعقبه ظلام، والفجر الصادق وهو البياض المنتشر في الأفق فبطلوع الفجر الكاذب لا يدخل وقت الصلاة ولا يحرم الأكل على الصائم ما لم يطلع الفجر الصادق لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يغرنكم الفجر المستطيل ولكن كلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستطير» يعني المنتشر في الأفق
، وقال الفجر هكذا ومد يده عرضا لا هكذا ومد يده طولا. والأصل حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أمني جبريل - عليه السلام - عند البيت فصلى بي الفجر في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين أسفر جدا ثم قال ما بين هذين وقت لك ولأمتك وهو وقت الأنبياء قبلك» وفي حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن للصلاة أولا وآخرا وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وآخره حين تطلع الشمس» وفي حديث
أبي موسى - رضي الله عنه - «أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواقيت الصلاة فلم يجبه ولكنه صلى الفجر في اليوم الأول حين طلع الفجر وفي اليوم الثاني حين كادت الشمس تطلع ثم قال أين السائل عن الوقت الوقت بين هذين» والدليل على أن آخر الوقت حين تطلع الشمس قوله - صلى الله عليه وسلم - «من أدرك ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدرك» وفي حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال قال - صلى الله عليه وسلم - «إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم تلا قوله تعالى {وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها} [طه: 130] »
قال (ووقت الظهر من حين تزول الشمس إلى أن يكون ظل كل شيء مثله) في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولا خلاف في أول وقت الظهر أنه يدخل بزوال الشمس إلا شيئا نقل عن بعض الناس إذا صار الفيء بقدر الشراك لحديث إمامة جبريل - عليه السلام - «قال - صلى الله عليه وسلم - صلى بي الظهر في اليوم الأول حين صار الفيء بقدر الشراك».
ولكنا نستدل بقوله تعالى {لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] أي لزوالها والمراد من الفيء مثل الشراك الفيء الأصلي الذي يكون للأشياء وقت الزوال وذلك يختلف باختلاف الأمكنة والأوقات فاتفق ذلك القدر في ذلك الوقت وقد قيل لا بد أن يبقى لكل شيء فيء عند الزوال في كل موضع إلا بمكة والمدينة في أطول أيام السنة فلا يبقى بمكة ظل على الأرض وبالمدينة تأخذ الشمس الحيطان الأربعة وذلك الفيء الأصلي غير معتبر في التقدير بالظل قامة أو قامتين بالاتفاق وأصح ما قيل في معرفة الزوال قول محمد بن شجاع - رضي الله عنه - أنه يغرز خشبة في مكان مستو ويجعل على مبلغ الظل منه علامة فما دام الظل ينقص من الخط فهو قبل الزوال وإذا وقف لا يزداد ولا ينتقص فهو ساعة الزوال وإذا أخذ الظل في الزيادة فقد علم أن الشمس قد زالت واختلفوا في آخر وقت الظهر فعندهما إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر وهو رواية محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى وإن لم يذكره في الكتاب نصا في خروج وقت الظهر.
وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يخرج وقت الظهر حتى يصير الظل قامتين وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أنه إذا صار الظل قامة يخرج وقت الظهر ولا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين
وبينهما وقت مهمل وهو الذي تسميه الناس بين الصلاتين
، كما أن بين الفجر والظهر وقتا مهملا واستدل بحديث «إمامة جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - فإنه قال صلى بي العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله أو قال حين صلى العصر بالأمس» وهكذا في حديث أبي هريرة وأبي موسى - رضي الله عنهما - في بيان المواقيت قولا وفعلا، وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - استدل بالحديث المعروف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إنما مثلكم ومثل أهل الكتابين من قبلكم كمثل رجل استأجر أجيرا فقال من يعمل لي من الفجر إلى الظهر بقيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي من الظهر إلى العصر فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي من العصر إلى المغرب بقيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل أجرا قال الله تعالى فهل نقصت من حقكم شيئا قالوا لا قال فهذا فضلي أوتيه من أشاء» بين أن المسلمين أقل عملا من النصارى
فدل أن وقت العصر أقل من وقت الظهر وإنما يكون ذلك إذا امتد وقت الظهر إلى أن يبلغ الظل قامتين.
وقال - صلى الله عليه وسلم - «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» وأشد ما يكون من الحر في ديارهم إذا صار ظل كل شيء مثله ولأنا عرفنا دخول وقت الظهر بيقين ووقع الشك في خروجه إذا صار الظل قامة لاختلاف الآثار واليقين لا يزال بالشك والأوقات ما استقرت على حديث إمامة جبريل - عليه السلام - ففيه «أنه صلى الفجر في اليوم الثاني حين أسفر» والوقت يبقى بعده إلى طلوع الشمس وفيه أيضا «أنه صلى العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» والوقت يبقى بعده وقال مالك - رحمه الله تعالى - إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر فإذا مضى بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات دخل وقت العصر فكان الوقت مشتركا بين الظهر والعصر إلى أن يصير الظل قامتين لظاهر حديث إمامة جبريل - عليه السلام - فإنه ذكر أنه صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى العصر في اليوم الأول وهذا فاسد عندنا، «فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت صلاة أخرى» وتأويل حديث إمامة جبريل «صلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله» أي قرب منه «وصلى بي العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله» أي تم وزاد عليه وهو نظير قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن أي قرب بلوغ أجلهن، وقال تعالى فبلغن أجلهن فلا
تعضلوهن [البقرة: 232] أي انقضاء تم عدتهن وحكى أبو عصمة عن أبي سليمان عن أبي يوسف رحمهم الله تعالى قال خالفت أبا حنيفة - رحمه الله تعالى - في وقت العصر فقلت أوله إذا زاد الظل على قامة اعتمادا على الآثار التي جاءت به وهو إشارة إلى ما قلنا فأما آخر وقت العصر غروب الشمس عندنا، وقال الحسن بن زياد - رضي الله تعالى عنه - تغير الشمس إلى الصفرة وهو قول الشافعي - رحمه الله - لحديث إمامة جبريل - عليه السلام - «وصلى بي العصر في اليوم الثاني حين كادت الشمس تتغير».
(ولنا) قوله - صلى الله عليه وسلم - «من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك أي أدرك الوقت» ولكن يكره تأخير العصر إلى أن تتغير الشمس «لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك صلاة المنافقين يقعد أحدهم حتى إذا كانت الشمس بين قرني الشيطان قام ينقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا» وقال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ما أحب أن يكون لي صلاة حين ما تحمار الشمس بفلسين واختلفوا في تغير الشمس أن العبرة للضوء أم للقرص فكان النخعي يعتبر تغير الضوء والشعبي يقول العبرة لتغير القرص وبهذا أخذنا؛ لأن تغير الضوء يحصل بعد الزوال فإذا صار القرص بحيث لا تحار فيه العين فقد تغيرت
قال (ووقت المغرب من حين تغرب الشمس إلى أن يغيب الشفق عندنا) وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: ليس للمغرب إلا وقت واحد مقدر بفعله فإذا مضى بعد غروب الشمس مقدار ما يصلى فيه ثلاث ركعات خرج وقت المغرب لحديث إمامة جبريل - عليه السلام - «فإنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد».
(ولنا) حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أول وقت المغرب حين تغيب الشمس وآخره حين يغيب الشفق، وتأويل حديث إمامة جبريل - عليه السلام - أنه أراد بيان وقت استحباب الأداء وبه نقول أنه يكره تأخير المغرب بعد غروب الشمس إلا بقدر ما يستبرئ فيه الغروب رواه الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا المغرب وأخروا العشاء» وأخر ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أداء المغرب يوما حتى بدا نجم فأعتق رقبة، وعمر - رضي الله تعالى عنه - رأى نجمين طالعين قبل أدائه فأعتق رقبتين فهذا بيان كراهية التأخير فأما وقت الإدراك يمتد إلى غيبوبة الشفق والشفق البياض الذي بعد الحمرة في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - وهو قول أبي بكر وعائشة - رضي الله تعالى عنهما - وإحدى الروايتين عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -
وفي قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى الحمرة التي قبل البياض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود - رضي الله تعالى عنهم - وإحدى الروايتين عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وهكذا روى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -.
ووجه هذا أن الطوالع ثلاثة والغوارب ثلاثة ثم المعتبر لدخول الوقت الوسط من الطوالع وهو الفجر الثاني فكذلك في الغوارب المعتبر لدخول الوقت الوسط وهو الحمرة فبذهابها يدخل وقت العشاء، وهذا لأن في اعتبار البياض معنى الحرج فإنه لا يذهب إلا قريبا من ثلث الليل (وقال) الخليل بن أحمد راعيت البياض بمكة فما ذهب إلا بعد نصف الليل، وقيل: لا يذهب البياض في ليالي الصيف أصلا بل يتفرق في الأفق ثم يجتمع عند الصبح فلدفع الحرج جعلنا الشفق الحمرة، وأبو حنيفة - رحمه الله تعالى - قال: الحمرة أثر الشمس والبياض أثر النهار فما لم يذهب كل ذلك لا يصير إلى الليل مطلقا وصلاة العشاء صلاة الليل كيف وقد جاء في الحديث «وقت العشاء إذا ملأ الظلام الظراب» وفي رواية «إذا ادلهم الليل» أي استوى الأفق في الظلام وذلك لا يكون إلا بعد ذهاب البياض فبذهابه يخرج وقت المغرب
ويدخل وقت العشاء. فأما آخر وقت العشاء فقد قال في الكتاب: إلى نصف الليل. والمراد بيان وقت إباحة التأخير فأما وقت الإدراك فيمتد إلى طلوع الفجر الثاني حتى إذا أسلم الكافر أو بلغ الصبي قبل طلوع الفجر فعليه صلاة العشاء وهذا عندنا
، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى: آخر وقت العشاء حين يذهب ثلث الليل لحديث إمامة جبريل - عليه الصلاة والسلام - «وصلى بي العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل».
(ولنا) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «وآخر وقت العشاء حين يطلع الفجر وصلاة العشاء صلاة الليل فيبقى وقتها ما بقي الليل» وقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى» دليل لنا أيضا إن ثبت هذا اللفظ ولكنه شاذ، والمشهور اللفظ الذي روينا
قال (والتنوير بصلاة الفجر أفضل من التغليس بها عندنا) وقال الشافعي التغليس بها أفضل وذكر الطحاوي إن كان من عزمه تطويل القراءة فالأفضل أن يبدأ بالتغليس ويختم بالإسفار وإن لم يكن من عزمه تطويل القراءة فالإسفار أفضل من التغليس
، واستدل الشافعي بحديث «عائشة - رضي الله عنها - قالت كن النساء ينصرفن من الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من شدة الغلس» وقال أنس
-
رضي الله عنه - «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر ولا يعرف أحدنا من إلى جنبه من شدة الغلس» ولأن في هذا إظهار المسارعة في أداء العبادة وهو مندوب إليه لقوله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران: 133] .

(ولنا) حديث رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» وحديث الصديق عن بلال - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «نوروا بالفجر أو قال أصبحوا بالصبح يبارك لكم» ولأن في الإسفار تكثير الجماعة وفي التغليس تقليلها، وما يؤدي إلى تكثير الجماعة فهو أفضل ولأن المكث في مكان الصلاة حتى تطلع الشمس مندوب إليه قال - صلى الله عليه وسلم - «من صلى الفجر ومكث حتى تطلع الشمس فكأنما أعتق أربع رقاب من ولد إسماعيل» وإذا أسفر بها تمكن من إحراز هذه الفضيلة وعند التغليس قلما يتمكن منها.
فأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فالصحيح من الروايات إسفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الفجر «قال ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة قبل ميقاتها إلا صلاة الفجر صبيحة الجمعة فإنه صلاها يومئذ بغلس» فدل أن المعهود إسفاره بها، فإن ثبت التغليس في وقت فلعذر الخروج إلى سفر أو كان ذلك حين يحضر النساء الصلاة بالجماعة ثم انتسخ ذلك حين أمرن بالقرار في البيوت
قال (والأفضل في صلاة الظهر أن يؤخرها ويبرد بها في الصيف وفي الشتاء يعجلها بعد الزوال) وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - إن كان يصلي وحده يعجلها بعد الزوال في كل وقت وإن كان يصلي بالجماعة يؤخر يسيرا
واستدل بحديث خباب بن الأرت - رضي الله تعالى عنه - قال «شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في خيامنا فلم يشكنا» أي لم يجبنا إلى شكوانا فدل أنه كان يعجل الظهر وأصحابنا استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - «أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم» وفي حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فلما زالت الشمس جاء بلال ليؤذن فقال له أبرد هكذا مرارا فلما صار للتلال فيء قال أذن».
ولأن في التعجيل في الصيف تقليل الجماعات وإضرارا بالناس فإن الحر يؤذيهم وتأويل حديث خباب أنهم طلبوا ترك الجماعة أصلا. على أن معنى قوله فلم يشكنا أي لم يدعنا في الشكاية بل أزال شكوانا بأن أبرد بها، فأما في الشتاء فالمستحب تعجيلها لحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - كان النبي - صلى الله عليه وسلم - «يصلي الظهر في الشتاء فلا يدري أن ما مضى من النهار
أكثر أم ما بقي» «وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين وجهه إلى اليمن إذا كان الصيف فأبرد فإن تقيلوك فأمهلهم حتى يدركوا وإذا كان الشتاء فصل الظهر حين تزول الشمس فإن الليالي طوال» فأما العصر فالمستحب تأخيرها في الصيف والشتاء عندنا بعد أن يؤديها والشمس بيضاء نقية لم يدخلها تغير.
وقال الشافعي - رحمه الله تعالى - المستحب تعجيلها لحديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس طالعة في حجرتي» ولحديث أنس - رضي الله تعالى عنه - «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر فيذهب الذاهب إلى العوالي وينحر الجزور ويطبخ ويأكل قبل غروب الشمس».
(ولنا) حديث ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العصر والشمس بيضاء نقية» وهذا منه بيان تأخير للعصر، «وقالت أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أنتم أشد تأخيرا للظهر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشد تأخيرا للعصر منكم» وقيل سميت العصر؛ لأنها تعصر أي تؤخر ولأن في تأخير العصر تكثير النوافل وأداء النافلة بعدها مكروه ولهذا كان التعجيل في المغرب أفضل لأن أداء النافلة قبلها مكروه ولأن المكث بعد العصر إلى غروب الشمس في موضع الصلاة مندوب إليه قال - عليه الصلاة والسلام - «من صلى العصر ومكث في المسجد إلى غروب الشمس فكأنما أعتق ثمانية من ولد إسماعيل» - عليه السلام - وإذا أخر العصر يتمكن من إحراز هذه الفضيلة فهو أفضل، فأما حديث عائشة - رضي الله تعالى عنها - فقد كانت حيطان حجرتها قصيرة فتبقى الشمس طالعة فيها إلى أن تتغير.
وحديث أنس فقد كان ذلك في وقت مخصوص لعذر فأما صلاة المغرب فالمستحب تعجيلها في كل وقت وقد بينا أن تأخيرها مكروه وكان عيسى بن أبان - رحمه الله تعالى - يقول الأولى تعجيلها للآثار ولكن لا يكره التأخير مطلقا، ألا ترى أن بعذر السفر والمرض تؤخر المغرب ليجمع بينها وبين العشاء فعلا، فلو كان المذهب كراهة التأخير لما أبيح ذلك بعذر السفر والمرض كما لا يباح تأخير العصر إلى أن تتغير الشمس
واستدل فيه بما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الأعراف في صلاة المغرب ليلة» وإنما يحمل ذلك على بيان امتداد الوقت وإباحة التأخير. فأما صلاة العشاء فالمستحب عندنا تأخيرها إلى ثلث الليل ويجوز التأخير بعد ذلك إلى نصف الليل ويكره التأخير بعد ذلك، وقال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - المستحب تعجيلها بعد غيبوبة الشفق لحديث نعمان بن بشير
قال «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي العشاء حين يسقط القمر الليلة الثالثة» وذلك عند غيبوبة الشفق يكون، ولأن في تعجيلها تكثير الجماعة خصوصا في زمان الصيف.
(ولنا) ما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر العشاء إلى ثلث الليل ثم خرج فوجد أصحابه في المسجد ينتظرونه فقال أما أنه لا ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت أحد غيركم ولولا سقم السقيم وضعف الضعيف لأخرت العشاء إلى هذا الوقت» وفي حديث آخر «لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى ثلث الليل» (وكتب) عمر - رضي الله تعالى عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه - أن صل العشاء حين يذهب ثلث الليل فإن أبيت فإلى نصف الليل فإن نمت فلا نامت عيناك وفي رواية فلا تكن من الغافلين.
والحاصل أن الشافعي - رضي الله تعالى عنه - يختار أداء الصلاة في أول الوقت لقوله - عليه الصلاة والسلام - «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» والعفو يكون بعد التقصير، ولأن فيه إحراز الفضيلة قبل أن يعترض عليه عذر يعجزه عن إحرازها وأصحابنا اختاروا التأخير ففيه انتظار للصلاة وقال - صلى الله عليه وسلم - «المنتظر للصلاة في الصلاة ما دام ينتظرها» وفي التأخير تكثير الجماعة أيضا وفيه تقليل النوم فهو أفضل، وما كان امتداد الوقت إلا للتيسير، وفي التأخير إظهار معنى التيسير وهو الذي أشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله «وآخره عفو الله» فالمراد بالعفو الفضل قال تعالى {ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو} [البقرة: 219] ولا يجوز أن يحمل العفو هاهنا على التجاوز عن التقصير فقد ذكر في إمامة جبريل - عليه السلام - تأخير الأداء للصلاة في اليوم الثاني إلى آخر الوقت وما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصد إلى شيء يكون فيه تقصير فإن الزلة التي تجوز على الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - ما تكون من غير تقصير
قال (وفي يوم الغيم المستحب تأخير الفجر والظهر والمغرب وتعجيل العصر والعشاء) وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى التأخير في جميع الصلوات في يوم الغيم أفضل ووجهه أنه أقرب إلى الاحتياط فأداء الصلاة في وقتها أو بعد ذهابه يجوز ولا يجوز أداؤها قبل دخول الوقت.
ووجه ظاهر الرواية أن في الفجر المستحب التأخير؛ لأنه لو عجل بها لم يأمن أن يقع قبل طلوع الفجر الثاني ولأن الناس يلحقهم الحرج في التعجيل عند الظلمة بسبب الغيم فيؤخر ليكون فيه تكثير الجماعة وكذلك في الظهر يؤخر لكي لا يقع قبل الزوال ويعجل العصر لكي لا يقع في حال تغيير الشمس ويؤخر المغرب لكي لا يقع قبل غروب الشمس
وتعجل العشاء لدفع الحرج عن الناس فإنهم يتضررون بالمطر يأخذهم قبل الرجوع إلى منازلهم وعند الغيم ينتظر المطر ساعة فساعة فتعجل العشاء لينصرفوا إلى منازلهم قبل أن يمطروا
قال (ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر) ما خلا عرفة ومزدلفة فإن الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات فيؤديهما في وقت الظهر وبين المغرب والعشاء بمزدلفة فيؤديها في وقت العشاء، عليه اتفق رواة نسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله وفيما سوى هذين الموضعين لا يجمع بينهما وقتا عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله: يجمع بينهما لعذر السفر والمطر، وقال مالك: - رحمه الله - ولعذر المرض أيضا. وهو أحد قولي الشافعي - رحمه الله تعالى - وقال أحمد بن حنبل يجوز الجمع بينهما في الحضر من غير عذر السفر واحتجوا بحديث معاذ «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر في سفره إلى تبوك» وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الصلاتين إذا جد به السفر» وعن «ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعا جمعا وثمانيا جمعا» فالمراد بالسبع المغرب والعشاء وبالثمان الظهر والعصر وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أيضا قال «جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير عذر».
(ولنا) قوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] أي في مواقيتها وقال تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} [النساء: 103] أي فرضا مؤقتا وعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «من جمع بين صلاتين في وقت واحد فقد أتى بابا من الكبائر» وقال عمر - رضي الله تعالى عنه - إن من أكبر الكبائر الجمع بين الصلاتين فكما لا يجمع بين العشاء والفجر ولا بين الفجر والظهر لاختصاص كل واحد منهما بوقت منصوص عليه شرعا فكذلك الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء.
وتأويل الأخبار أن الجمع بينهما كان فعلا لا وقتا وبه نقول، وبيان الجمع فعلا أن المسافر يؤخر الظهر إلى آخر الوقت ثم ينزل فيصلي الظهر ثم يمكث ساعة حتى يدخل وقت العصر فيصليها في أول الوقت وكذلك يؤخر المغرب إلى آخر الوقت ثم يصليها في آخر الوقت والعشاء في أول الوقت فيكون جامعا بينهما فعلا. الدليل عليه حديث «نافع قال خرجنا مع ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - من مكة فاستصرخ بامرأته فجعل يسير حتى غربت الشمس فنادى الركب الصلاة فلم يلتفت إليهم حتى إذا دنا غيبوبة الشفق نزل فصلى المغرب ثم مكث حتى غاب الشفق
ثم صلى العشاء ثم قال هكذا كان يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جد به السير» وعن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه فعل مثل ذلك في بعض أسفاره صلى المغرب في آخر الوقت والعشاء في أوله وتعشى بينهما، وفي الحقيقة تنبني هذه المسألة على أصل وهو أن عنده بين الظهر والعصر تداخلا حتى إذا بلغ الصبي أو أسلم الكافر في وقت العصر يلزمهما قضاء الظهر وكذلك المغرب مع العشاء وعندنا لا تداخل بل كل واحد منهما مختص بوقته ودليلنا ما روينا لا يدخل وقت صلاة حتى يخرج وقت الأخرى
قال (ووقت الوتر من حين يصلي العشاء إلى الفجر والأفضل تأخيرها إلى آخر الليل) لحديث خارجة بن حذافة - رضي الله تعالى عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إن الله تعالى أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر» «وقالت عائشة - رضي الله تعالى عنها - من كل الليل أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوله وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر» وقال - صلى الله عليه وسلم - «صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر يوتر لك ما قبله» «وكان أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - يوتر من أول الليل وعمر - رضي الله تعالى عنه - من آخر الليل وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله تعالى عنه - أخذت بالثقة ولعمر - رضي الله تعالى عنه - أخذت بفضل القوة».
(فإن أوتر في وقت العشاء قبل أن يصلي العشاء وهو ذاكر لذلك لم يجزه بالاتفاق) لأنه أداها قبل وقتها أو ترك الترتيب المأمور به من بناء الوتر على العشاء. فأما إذا صلى العشاء بغير وضوء وهو لا يعلم به ثم جدد الوضوء فأوتر ثم علم أنه كان صلى العشاء بغير وضوء فعليه إعادة العشاء دون الوتر في قول أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -؛ لأن الترتيب كان ساقطا عنه بعذر النسيان وعندهما يلزمه إعادة الوتر؛ لأن عندهما دخول وقت الوتر بعد أداء العشاء على وجه الصحة ولم يوجد فكان مصليا قبل وقته وعند أبي حنيفة - رحمه الله - يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء إنما كان عليه مراعاة الترتيب وقد سقط ذلك بالنسيان، وإنما ينبني هذا على اختلافهم في صفة الوتر فعند أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - واجب أو فرض فلا يكون تبعا للعشاء وعندهما سنة فكان تبعا للعشاء وسيأتي بيان هذا الفصل
قال (ولا يتطوع بعد طلوع الفجر إلا بركعتي الفجر إلى أن تطلع الشمس وترتفع)
واعلم بأن الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة ثلاثة منها لا يصلى فيها جنس الصلوات عند طلوع الشمس إلى أن
تبيض وعند غروبها إلا عصر يومه فإنه يؤديها عند الغروب والأصل فيه حديث «عقبة بن عامر - رضي الله تعالى عنه - قال ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند زوالها حتى تزول وحين تضيف للغروب حتى تغرب».





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 202.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 199.41 كيلو بايت... تم توفير 3.56 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]