|
ملتقى أعلام وشخصيات ملتقى يختص بعرض السير التاريخية للشخصيات الاسلامية والعربية والعالمية من مفكرين وأدباء وسياسيين بارزين |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() لماذا قتل هارون الرشيد جعفرا؟ د. سعيد إسماعيل صيني "مقتطف من مسودة كتاب مناهج الأبحاث التاريخية" هناك قصص عديدة حول هارون الرشيد، بصفته خليفةً عباسيًّا كان له دور كبير في عزة الدولة الإسلامية والمسلمين. ومن يحصر القصص التفصيلية التي تدور حول هذا الخليفة، في كتب التاريخ "الإسلامي" ويقارن بين ما هي إيجابية أو سلبية سيصل مؤكداً إلى السمة البارزة لهذه الشخصية التاريخية الهامة. فدعنا نستعرض هذه القصص لنصل إلى ما يمكن اعتباره الحَكَم الأول في مصداقية القصص الصغيرة، بعد استبعاد بهارات القصاصين والحكواتية التي تظهر في شكل تفاصيل تُشوِّه الواقع، أو مبالغات في التصوير أو تضخيم في الأرقام. ما ورد عن هارون الرشيد: ولد هارون الرشيد، في أحد الأقوال عام 146هـ، وفي قول آخر عام 150هـ، وتولى الخلافة عام 170هـ وعمره 22 عاما، وبقي خليفة 23 عاما إلى وفاته عام 192هـ، وفي قول 193هـ. ومات وعمره، في أحد الأقوال 43، وفي قول آخر 45، وفي قول ثالث 47 سنة. [1]. لقد قاد هارون الرشيد الحج وهو خليفة ثمان مرات، وقيل تسع. وقد لا نتصور مشقة الحج في تلك الأيام، ولاسيما من يأتي من بغداد إلى الحرمين راكبا، ليس في سيارة مكيفة أو طائرة. فالسفر كان قطعة من العذاب حقا، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم.[2]. وكان هارون الرشيد يغزو أعداء الإسلام، مثل الروم، أو يرسل من يغزوهم لعداوتهم للمسلمين أو لمواقفهم المتقلبة.[3] وأرسله أبوه الهادي ليغزو الروم عام 165وهو دون العشرين من العمر، فنزل على الخليج، ثم خرج إلى قرم المصيصة ومسجدها، فقوى أهلها وبنى القصر الذي عند جسر أذنة على نهر سيحان.[4]. وفي عام 181هـ غزا هارون الرشيد الروم، وفيها أمر أن يكتب في صدر الرسائل التي يرسلها "الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد الثناء على الله عز وجل. وفيها حج بالناس.[5]. ومن غزواته، بعد تولي الخلافة، غزوته للروم عام 190 للهجرة.[6] وخرج هارون، مرة، يريد الشأم فلما بلغه قًتلُ أحد عماله على منطقة ملاصقة لبلاد الروم، فمضى إلى الثغر، وأغزى هرثمة بن أعين بلاد الروم. وكان أمر ببناء طرطوس في سنة 171هـ، فأحكم بناءها وجعل لها خمسة أبواب، ووبنى حولها سبعة وثمانين برجا، ولها نهر عظيم يشق في وسطها، عليه القناطر المعقودة.[7]. ويقول إبراهيم بن الجنيد سمعت على بن عبد الله يقول: قال أبو معاوية الضرير حدثنا هارون الرشيد بهذا الحديث يعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم وددت أني اقتل في سيبل الله ثم أحيا ثم اقتل، فبكى هارون حتى انتحب ثم قال: يا أبا معاوية، ترى لي أن أغزو؟ قلت يا أمير المؤمنين: مكانك في الإسلام أكبر ومقامك أعظم، ولكن ترسل الجيوش. قال أبو معاوية وما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه قط إلا قال صلى الله على سيدي.[8]. وورد عند السيوطي أنه كان يصلي كل يوم مائة صلاة ويحب العلم والعلماء وكان يبكي عند وعظه.[9]. وروى ابن عساكر عن إبراهيم المهدي قال كنت يوما عند الرشيد فدعا طباخه فقال: أعندك في الطعام لحم جزور؟ قال: نعم ألوان منه. فقال: أحضره مع الطعام. فلما وضع بين يديه أخذ لقمة منه فوضعها في فيه، ثم علم أنها تكلفه مبلغا كبيرا من ميزانية الدولة، لأنه طلب لحم الجزور، قبل مدة طويلة، فلم يجدوا. فقرر وزيره جعفر أن يوفرها يوميا حتى يجده الخليفة إن طلبها، وبهذا كانت تكلفة تلك اللقمة هي أثمان الجزور المذبوحة يوميا لمدة طويلة، والتي لم يطلب منها شيئاً إلا ذلك اليوم. فلما أعلمه بذلك جعفر، بكى هارون الرشيد بكاء شديداً وأمر برفع السماط من بين يديه، وأقبل على نفسه يوبخها؛ ويقول هلكت والله يا هارون، وأمر بصدقات لفقراء الحرمين وبغداد تكفيرا عن ذلك.[10]. وكان هارون الرشيد ذا ثقافة عالية. يقول أبو عبد الله محمد بن العباس المصري سمعت هارون الرشيد يقول: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة. طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث.[11]. وقال المفضل بن محمد الضبي: وجّه إليّ الرشيد، فخرجت حتى صرت إليه، فسلمت. فأومأ إليّ. فجلست فقال لي: يا مفضل. قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال كم اسما في "فسيكفيكهم"؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والهاء والميم وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل قال صدقت. هكذا أفادنا هذا الشيخ، يعني الكسائي. ثم التفت إلى ابنه محمد فقال له أفهمت يا محمد؟ قال: نعم. ثم التفت إليّ فقال: يا مفضل عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قلت: قول الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم *** لنا قمراها والنجوم الطوالع قال هيهات أفادناها متقدما قبلك هذا الشيخ. "لنا قمراها يعني الشمس والقمر؛ كما قالوا سنة العمرين سنة أبي بكر وعمر. قلت فأزيد في السؤال. قال: زد قلت فلم استحسنوا هذا؟ قال: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد؛ وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر واسمه أخف غلبوه وسموا أبا بكر باسمه. وقال الله عز وجل ﴿ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ﴾ [الزخرف: 38] وهو المشرق والمغرب. قلت: قد بقيت زيادة في المسألة. فالتفت إلى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا. قال: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب. ثم التفت إليّ فقال: ما الذي بقي؟ قلت بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره. قال: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم وبالقمر محمدا صلى الله عليه وسلم وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين. قال: فاشرأب أمير المؤمنين، وقال: يا فضل بن الربيع احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه.[12]. وكان هارون الرشيد على علم بأهل العلم والصلاح. قال مصعب بن عبد الله، سمعت أبي يقول: قال لي أمير المؤمنين هارون الرشيد: دلني على رجل من أهل المدينة من قريش له فضل منقطع. قال قلت له: عمارة بن حمزة بن عبيد الله بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب. قال: فأين أنت عن ابن عمك الزبير بن خبيب؟ قال قلت له: إنما سألتني عن الناس، ولو سألتني عن أسطوان من أساطين المسجد قلت لك: الزبير بن خبيب. وكان الرشيد يمنح العلماء المنح السخية، وكان يكرم أهل المدينة بالعطايا الكثيرة، وقد يلح على بعض المؤهلين قبول مهمة القضاء فيرفض العالم المهمة، فلا يعنفه أو يحقد عليه، بل، كان يمنحه الهدية التي يستحقها بعلمه.[13]. وسأل هارون الرشيد مالك بن أنس : كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر، رحمة الله عليهما، من رسول الله ؟ فقال مالك : كقرب قبريهما من قبره بعد وفاته : فقال : شفيتني يا مالك، شفيتني يا مالك. [14]. ويقول مالك بن أنس شاورني هارون الرشيد في ثلاث: 1- في أن يعلق الموطأ في الكعبة ويحمل الناس على ما فيه. 2- وفي أن ينقض منبر النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله من جوهر وذهب وفضة. 3- وفي أن يقدم نافع بن أبي نعيم إماما يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: يا أمير المؤمنين. أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في الآفاق، وكل عند نفسه مصيب. وأما نقض منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم واتخاذك إياه من جوهر وذهب وفضة فلا أرى أن تحرم الناس أثر النبي صلى الله عليه وسلم. وأما تقدمتك نافعا إماما يصلي بالناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن نافعا إمام في القراءة لا يؤمن أن تندر منه نادرة في المحراب فتحفظ عليه. قال وفقك الله يا أبا عبد الله [15]. ويقول الأصمعي: دخلت على الرشيد وهو يقلم أظفاره يوم الجمعة فقلت له في ذلك. فقال أخذ الأظفار يوم الخميس من السنة وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر فقلت يا أمير المؤمنين أو تخشى الفقر؟ فقال: يا أصمعي وهل أحد أخشى للفقر منى؟[16]. ويذكر حمزة الكسائي أن الرشيد كان يحرص على تربية أولاده، وإن كان معلمهم يشدد عليهم.[17] فمثلا، يأمر إسماعيل بن أبي ابن عياش أن يُحفِّظ المأمون أحاديث نبوية. فحفًّظه أكثر من أربعين حديثا في جلسة واحدة.[18]. وكان يكرم العلماء وأهل الصلاح ويستمع إلى نصحهم، بل ويطلبها منهم. كما كان يكرم القراء الجيدين، مثل سعيد العلاف.[19]. أنبأنا أبو عبد الرحمن الأشهلي قال سمعت محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال: كان عندنا رجل يكنى أبا نصر من جهينة ذاهب العقل في غير ما الناس فيه؛ لا يتكلم حتى يكلم. وكان يجلس مع أهل الصفة في آخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سئل عن شيء أجاب فيه جوابا حسنا مغربا.[20] ويقول محمد إسماعيل بن أبي فديك قدم علينا هارون الرشيد فأُخلي له المسجد فوقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى منبره وفي موقف جبريل عليه السلام واعتنق إسطوانة النبوة، ثم قال قفوا بي على أهل الصفة. فلما أتاهم قال أبو نصر، عندما علم أنه هارون، أمير المؤمنين: "أيها الرجل إنه ليس بين عباد الله وأمة نبيه ورعيتك وبين الله خلق غيرك. وإن الله سائلك عنهم فأعدّ للمسألة جوابا؛ وقد قال عمر بن الخطاب لو ضاعت سخلة على شاطئ الفرات لخاف عمر أن يسأله الله عنها. فبكى هارون وقال يا أبا نصر: إن رعيتي غير رعية عمر ودهري غير دهر عمر. فقال له هذا والله غير مغن عنك فانظر لنفسك فإنك وعمر تسألان عما خولكما الله. فدعى هارون بصرة فيها ثلثمائة دينار فقال ادفعوها إلى أبي نصر. فقال أبو نصر ما أنا إلا رجل من أهل الصفة فادفعوها إلى فلان يفرقها عليهم.[21]. وكان حريصا على عدل عماله. ففي سنة 175 سار الرشيد إلى الري. وسبب ذلك أن الرشيد عندما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلها وأساء السيرة فيهم. فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه واستخفافه بهم وأخذ أموالهم. وقيل للرشيد إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف فسار إلى الري في طريقه إلى خراسان في جمادى الأولى ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم ليتحقق من الأمر، وينصف أهلها.[22]. وذُكر أن يهوديا كانت له حاجة إلى هارون الرشيد فاختلف إلى بابه مرات فلم يتمكن من مقابلته. فوقف يوما على الباب فلما خرج هارون سعى ووقف بين يديه وقال: اتق الله يا أمير المؤمنين. فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا لله. فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت له. فلما رجع قيل يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي؟ قال: "لا، ولكن تذكرت قول الله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 206] وقال قتادة ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعيتم إلى الله فأجيبوا وإذا سئلتم بالله فأعطوا فإن المؤمنين كانوا كذلك."[23]. ويقول مسيب بن سعيد دخلت على هارون الرشيد فقال عظني. فقلت يا أمير المؤمنين. إن الله عز وجل لم يرض لك أن يجعل أحدا فوقك، فلا ينبغي لأحد أن يكون أطوع له منك. قال لقد بالغت في الموعظة، وإن قصرت في الكلام [24]. ويقول أبو معاوية أكلت مع هارون الرشيد، أمير المؤمنين، طعاما يوما من الأيام فصب على يدي رجل لا اعرفه. فقال هارون الرشيد: يا أبا معاوية تدرى من يصب على يديك؟ قلت: لا. قال: أنا. قلت: أنت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم إجلالا للعلم. وقيل لما لقى هارون الرشيد فضيل بن عياض قال له الفضيل: يا حسن الوجه أنت المسئول عن هذه الأمة، حدثنا ليث عن مجاهد: وتقطعت بهم الأسباب، أي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قال فجعل هارون يبكى ويشهق [25]. يقول الفضل بن الربيع حججت مع هارون الرشيد أمير المؤمنين فمررنا بالكوفة في طاق المحامل فإذا ببهلول المجنون قاعد يهذي، فقلت له اسكن فقد أقبل أمير المؤمنين. فسكت فلما جاء الهودج قال يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نابل أن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل. فقلت يا أمير المؤمنين: إنه بهلول المجنون. قال: قد عرفته، وبلغني كلامه، قل يا بهلول. فقال: يا أمير المؤمنين، هب أنك ملكت العباد طرا ودان لك العباد فكان ماذا أليس مصيرك إلى قبر يحثو ترابك هذا وهذا. فقال: أجدت يا بهلول أفغيره؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، من رزقه الله جمالا ومالا فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار. فظن هارون أنه يريد شيئا قال فإنا قد أمرنا أن نقضي دينك. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين؛ لا تقض دينا بدين اردد الحق إلى أهله واقض دين نفسك من نفسك فإن نفسك هذه نفس واحدة، وإن هلكت والله ما انجبرت عليها: قال فإنا قد أمرنا أن نجري عليك. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين لا يعطيك وينساني. أجري علي الذي أجرى عليك. لا حاجة لي في إجرائك ومضى [26]. وهناك قصة حول شخصيتها خلاف، وهي قصة الشاب التي رواها أبو الفرج الأصبهاني. وتقول القصة الطريفة التي لا تخلو من المبالغة والصناعة أنه التقى بصبي اسمه أحمد السبتي، يعمل بالأجرة. ويقول أبو الفرج الأصفهاني، عندما ذهب في المرة الثانية ليستأجره، لم يجده فسأل عنه حتى توصل إليه، فوجده مريضا. ويستطرد فيقول: "فحملته إلى منزلي عند الظهر فلما أصبحت من الغد ناداني يا عبد الله. فقلت ما شأنك؟ قال: إذا احتضرت افتح صرة على كم جبتي. قال ففتحتها فإذا فيها خاتم عليه فص أحمر. فقال: إذا أنا مت ودفنتني فخذ هذا الخاتم ثم أدفعه إلى هارون أمير المؤمنين ... ومعها نصيحة شفوية لهارون الرشيد. ويقول الأصبهاني بو الفرج أبو أذهبت إلى الرشيد، بعد وفاته، وسلمته الخاتم، وقلت: يا أمير المؤمنين إنه أوصاني إذا أوصلت إليك هذا الخاتم أن أقرئك سلام صاحب هذا الخاتم ويقول لك: ويحك لا تموتن على حالتك التي أنت فيها من النعيم. فإنك إن مت عليها ندمت. وسألني الرشيد أين دفنته؟ فجئت به إلى قبره فما زال ليلته يبكي إلى أن أصبح ويدير رأسه ولحيته على قبره يقول يا بني لقد نصحت أباك قال فجعلت أبكي لبكائه. وقيل أنه كان ابنا لزبيدة، ولكنه تزهد... وقيل أنه كان وزيرا لهارون، وليس ابنا. [27]. ورُوى أن شقيق البلخى دخل على هارون الرشيد فقال له أنت شقيق الزاهد؟ فقال له أما شقيق فنعم وأما الزاهد فيقال. فقال: له عظني. فقال له: إن الله تعالى أنزلك منزلة الصديق، وهو يطلب منك الصدق كما تطلبه منه ؛ وأنزلك منزلة الفاروق وهو يطلب منك الفرق بين الحق والباطل كما تطلبه منه؛ وأنزلك منزلة ذي النورين وهو يطلب منك الحياء والكرامة كما تطلبه منه؛ وانزلك منزلة علي بن أبي طالب وهو يطلب منك العلم كما تطلبه منه. ثم سكت. فقال له: زدني. قال: نعم إن لله دارا سماها جهنم وجعلك بوابا لها وأعطاك بيت مال المسلمين وسيفا قاطعا وسوطا موجعا...[28]. وقال الخراساني حججت مع أبي سنة حج الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسر حاف على الحصباء وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول: يا رب أنت أنت وأنا أنا أنا العواد إلى الذنب وأنت العواد إلى المغفرة اغفر لي فقال لي يا بني انظر إلى جبار الأرض كيف يتضرع إلى جبار السماء[29]. وقال له ابن السماك يوما: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل والوقوف بين الجنة والنار حين يؤخذ بالظم، وتزل القدم، ويقع الندم .فلا توبة تقبل ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال. فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته. فقال يحيى بن خالد له يا ابن السماك لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة. فقام فخرج من عنده وهو يبكي [30]. وقال له الفضيل بن عياض في كلام كثير ليلة وعظه بمكة يا صبيح الوجه إنك مسؤول عن هؤلاء كلهم وقد قال تعالى وتقطعت بهم الأسباب قال حدثنا ليث عن مجاهد الوصلات التي كانت بينهم في الدنيا، فبكى حتى جعل يشهق. وقال الفضيل استدعاني الرشيد يوما وقد زخرف منازله وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها ثم استدعى أبا العتاهية فقال له صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم فقال: عش ما بدا لك سالما ![]() في ظل شاهقة القصور ![]() تسعى عليك بما اشتهيت ![]() لدى الرواح إلى البكور ![]() فاذا النفوس تقعقعت ![]() عن ضيق حشرجة الصدور ![]() فهناك تعلم موقنا ![]() ما كنت إلا في غرور ![]() قال فبكى الرشيد بكاء كثيرا شديدا. فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين تسر فأحزنته. فقال له الرشيد: دعه، فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمى. ومن وجه آخر، أن الرشيد قال لأبي العتاهية عظني بأبيات من الشعر، وأوجز. فقال: لا تأمن الموت في طرف ولا نفس ![]() ولو تمتعت بالحُجّاب والحرس ![]() واعلم بأن سهام الموت صائبة ![]() لكل مدرّع منها ومترِّس ![]() قال فخرّ الرشيد مغشيا عليه وقد حبس الرشيد مرة أبا العتاهية وأرصد عليه من يأتيه بما يقول فكتب مرة على جدار الحبس: أما والله إن الظلم شوم ![]() وما زال المسئ هو الظلوم ![]() إلى ديان يوم الدين نمضى ![]() وعند الله تجتمع الخصوم ![]() قال فاستدعاه واستعجله في حل ووهبه ألف دينار وأطلقه وقال سفيان بن عيينة: دخلت على الرشيد فقال ما خبرك؟ فقلت: بعين الله ما تخفي البيوت *** فقد طال التحمل والسكوت فقال: يا فلان مائة ألف لابن عيينة تغنيه وتغنى عقبه، ولا تضر الرشيد شيئا.[31] وقال الأصمعي كنت مع الرشيد في الحج فمررنا بواد فإذا على شفيره امرأة حسناء بيديها قصعة وهي تسأل بها وتقول: طحطحتنا طحاطح الأعوام ![]() ورمتنا حوادث الأيام ![]() فأتيناكم نمد أكفا ![]() نائلات لزادكم والطعام ![]() فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا ![]() أيها الزائرون بيت الحرام ![]() من رآني فقد رآنى ورحلى ![]() فارحموا غربتي وذل مقامي ![]() قال الأصمعي فذهبت إلى الرشيد فأخبرته بأمرها، فجاء بنفسه حتى وقف عليها فسمعها فرحمها وبكى وأمر مسرورا الخادم أن يملأ قصعتها ذهبا، فملأها حتى جعلت تفيض يمينا وشمالا[32]. وهنا يظهر الرشيد بمنتهى اللطف مع رفيق له زاهد، قبل توليه الخلافة. عن أبي عمران الجوني قال لما ولى هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنؤوه بما صار إليه من أمر الخلافة، ففتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية. وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد وكان يظهر النسك والتقشف وكان مؤاخيا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري، قديما. فهجره سفيان، بعد تولي الرشيد الخلافة، ولم يزره فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه. فاشتد ذلك على هارون فكتب إليه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون الرشيد، أمير المؤمنين، إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر، أما بعد: يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى وآخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله. واعلم أني قد وآخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة. واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني. وإني استبطأتك فلم تأتني وقد كتبت لك كتابا شوقا مني إليك شديدا؛ وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل...[33]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |