تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 54 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 221 )           »          حقوق زوجات النبي المصطفى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          ترجمة الإمام عطاء بن أبي رباح رحمه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          فوائد من ترجمة الإمام ابن دقيق العيد (625 – 702) هـ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          من مائدة الفقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 6288 )           »          تفسير القرآن الكريم ***متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 3100 - عددالزوار : 378721 )           »          تعريف شروط الصلاة لغة واصطلاحا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          الحلول والاتحاد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          ذكر الله سبب من أسباب نزول السكينة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          حقوق العلماء (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 102 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #531  
قديم 08-05-2023, 08:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (529)
سُورَةُ الْحَدِيدِ .
صـ 540 إلى صـ 548




[ ص: 540 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْحَدِيدِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَبَحَ إِذَا صَارَ بَعِيدًا ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ : سَابِحٌ ، لِأَنَّهُ إِذَا جَرَى يَبْعُدُ بِسُرْعَةٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :


إِذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ سَابِحٍ نَهْدٍ تَعَاوَرُهُ الْكُمَاةُ مُكَلَّمِ
وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ :


لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ حَوْلَهُمُ وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ
إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْفِكَرُ
وَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " سَبَّحَ " قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدُونِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ 33 \ 42 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [ 76 \ 26 ] ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ هُنَا : سَبَّحَ لِلَّهِ ، وَعَلَى هَذَا فَسَبَّحَهُ وَسَبَّحَ لَهُ لُغَتَانِ كَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ . وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، أَيْ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ أَيِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ تَعَالَى ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ ، وَقِيلَ : سَبَّحَ لِلَّهِ أَيْ صَلَّى لَهُ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ - بَيَّنَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [ 59 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّفِّ : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [ 61 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْجُمُعَةِ : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْآيَةَ [ 62 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي التَّغَابُنِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْآيَةَ [ 64 \ 1 ] .

وَزَادَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ يُسَبِّحْنَ لِلَّهِ مَعَ مَا فِيهِمَا [ ص: 541 ] مِنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَسْبِيحَ السَّمَاوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَفْقَهُهُ أَيْ لَا نَفْهَمُهُ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [ 17 \ 44 ] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورَ فِيهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [ 21 \ 79 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ .

وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ هُوَ دَلَالَةُ إِيجَادِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا يَفْهَمُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْآيَةَ [ 13 \ 15 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الْآيَةَ [ 18 \ 77 ] ، وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [ 23 \ 72 ] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .

وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى هُنَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيدِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ : سَبَّحَ لِلَّهِ الْآيَةَ [ 57 \ 1 ] ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَشْرِ ، وَالصَّفِّ ، وَعَبَّرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ ، وَغَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ : يُسَبِّحُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ .

قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَارَةً وَبِالْمُضَارِعِ أُخْرَى لِيُبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ ، وَدَأْبُهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ . ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَأَبُو حَيَّانَ .

وَقَوْلُهُ : وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ 57 \ 1 ] ، قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [ 63 \ 8 ] ، وَقَوْلُهُ : وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، أَيْ : غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ : مَنْ عَزَّ بَزَّ ، يَعْنُونَ : مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ :

[ ص: 542 ]
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
وَالْحَكِيمُ : هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيُوقِعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا .

وَقَوْلُهُ : مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 57 \ 1 ] ، غُلِّبَ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِلِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُغَلِّبُ غَيْرَ الْعَاقِلِ ، فِي نَحْوِ : " مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " لِكَثْرَتِهِ ، وَتَارَةً يُغَلِّبُ الْعَاقِلَ لِأَهَمِّيَّتِهِ . وَقَدْ جَمَعَ الْمِثَالُ لِلْأَمْرَيْنِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ : بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ الْآيَةَ [ 2 \ 116 ] ، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ : مَا فِي السَّمَاوَاتِ ، وَغَلَّبَ الْعَاقِلَ فِي قَوْلِهِ : قَانِتُونَ .
قوله تعالى : هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش .

قوله : في ستة أيام [ 57 \ 4 ] ، قد قدمنا إيضاحه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله تعالى : فقضاهن سبع سماوات في يومين الآيات [ 9 \ 12 ] ، وفي سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام الآية [ 7 \ 54 ] .

وقوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 57 \ 4 ] ، قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار الآية [ 7 \ 54 ] ، وذكرنا طرفا صالحا من ذلك في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . قد قدمنا إيضاحه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور الآية [ 34 \ 2 ] .
قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم .

قد قدمنا إيضاحه وبينا الآيات القرآنية الدالة على المعية العامة والمعية الخاصة ، مع بيان معنى المعية في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 543 ] إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون الآية [ 16 \ 128 ] .
قوله تعالى : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي ينزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - آيات بينات ، أي واضحات . وهي هذا القرآن العظيم ؛ ليخرج الناس بهذا القرآن العظيم المعبر عنه بالآيات البينات ، من الظلمات : أي من ظلمات الكفر والمعاصي إلى نور التوحيد والهدى ، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في قوله تعالى في الطلاق : فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور الآيتان [ 65 \ 10 - 11 ] ، وآية الطلاق هذه بينت أن آية الحديد من العام المخصوص ، وأنه لا يخرج بهذا القرآن العظيم من الظلمات إلى النور إلا من وفقهم الله للإيمان والعمل الصالح ، فقوله في الحديد : ليخرجكم من الظلمات [ 57 \ 9 ] ، أي بشرط الإيمان والعمل الصالح بدليل قوله : ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات الآية [ 65 \ 11 ] .

فالدعوة إلى الإيمان بالقرآن والخروج بنوره من ظلمات الكفر عامة ، ولكن التوفيق إلى الخروج به من الظلمات إلى النور خاص بمن وفقهم الله ، كما دلت عليه آيات الطلاق المذكورة ، والله - جل وعلا - يقول : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون القرآن نورا يخرج الله به المؤمنين من الظلمات إلى النور جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] ، وقوله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 - 16 ] ، وقوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] ، وقوله تعالى : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] .
[ ص: 544 ] قوله تعالى : ولله ميراث السماوات والأرض .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها الآية [ 19 \ 40 ] .
قوله تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، وهو جمع يمين ، وأنهم يقال لهم : بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم [ 57 \ 12 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا - جاء موضحا في آيات أخر ، أما سعي نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، فقد بينه تعالى في سورة التحريم ، وزاد فيها بيان دعائهم الذين يدعون به في ذلك الوقت ، وذلك في قوله تعالى : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا الآية [ 66 \ 8 ] .

وأما تبشيرهم بالجنات فقد جاء موضحا في مواضع أخر ، وبين الله فيها أن الملائكة تبشرهم وأن ربهم أيضا يبشرهم كقوله تعالى : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم [ 9 \ 21 - 22 ] ، وقوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون إلى قوله : نزلا من غفور رحيم [ 41 : 30 - 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور .

الضمير المرفوع في " ينادونهم " راجع إلى المنافقين والمنافقات ، والضمير المنصوب راجع إلى المؤمنين والمؤمنات ، وقد ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المنافقين والمنافقات إذا رأوا نور المؤمنين يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، قالوا لهم : انظروا نقتبس من نوركم ، وقيل لهم جوابا لذلك : ارجعوا وراءكم فالتمسوا [ ص: 545 ] نورا ، وضرب بينهم بالسور المذكور أنهم ينادون المؤمنين : ألم نكن معكم ، أي في دار الدنيا ، كنا نشهد معكم الصلوات ونسير معكم في الغزوات وندين بدينكم ؟ قالوا : بلى ، أي كنتم معنا في دار الدنيا ، ولكنكم فتنتم أنفسكم .

وقد قدمنا مرارا معاني الفتنة وإطلاقاتها في القرآن ، وبينا أن من معاني إطلاقاتها في القرآن الضلال كالكفر والمعاصي ، وهو المراد هنا أي فتنتم أنفسكم : أي أضللتموها بالنفاق الذي هو كفر باطن ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 8 \ 39 ] ، أي لا يبقى شرك كما تقدم إيضاحه ، وقوله : وتربصتم [ 57 \ 14 ] ، التربص : الانتظار ، والأظهر أن المراد به هنا تربص المنافقين بالمؤمنين الدوائر أي انتظارهم بهم نوائب الدهر أن تهلكهم ، كقوله تعالى في منافقي الأعراب المذكورين في قوله : وممن حولكم من الأعراب منافقون [ 9 \ 101 ] ، ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء [ 9 \ 98 ] .

وقوله تعالى : وارتبتم أي شككتم في دين الإسلام ، وشكهم المذكور هنا وكفرهم بسببه بينه الله تعالى في قوله عنهم : إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 45 ] .

وقوله تعالى : وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله [ 57 \ 14 ] ، الأماني جمع أمنية ، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل ، كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم ، وأن المؤمنين حقا سفهاء في صدقهم ، أي في إيمانهم ، كما بين تعالى ذلك في قوله : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون الآية [ 2 \ 11 - 12 ] ، وقوله تعالى : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء الآية [ 2 \ 13 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأماني المذكورة من الغرور الذي اغتروا به - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به إلى قوله : ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 123 - 124 ] .

وقوله : حتى جاء أمر الله [ 57 \ 14 ] ، الأظهر أنه الموت لأنه ينقطع به العمل .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وغركم بالله الغرور [ 57 \ 14 ] ، هو [ ص: 546 ] الشيطان ، وعبر عنه بصيغة المبالغة التي هي المفعول لكثرة غروره لبني آدم ، كما قال تعالى : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن الشيطان الكثير الغرور غرهم بالله - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى في آخر لقمان : إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور [ 35 \ 5 ] ، وقوله في أول فاطر : ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [ 35 \ 5 - 6 ] .

وقوله تعالى في آية لقمان وآية فاطر المذكورتين إن وعد الله حق [ 10 \ 55 ] وترتيبه على ذلك النهي عن أن يغرهم بالله الغرور - دليل واضح على أن مما يغرهم به الشيطان أن وعد الله بالبعث ليس بحق ، وأنه غير واقع . والغرور بالضم الخديعة .
قوله تعالى : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به الآية [ 3 \ 91 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون .

قد قدمنا مرارا أن كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة الاستفهام كما هنا - فيه وجهان من التفسير معروفان .

الأول منهما : هو أن تقلب مضارعته ماضوية ، ونفيه إثباتا ، فيكون بمعنى الماضي المثبت ، لأن " لم " حرف تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي ، وهمزة الاستفهام إنكارية ، فيها معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات ، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت . وعليه فالمعنى " ألم يأن للذين " أي : آن للذين آمنوا .

والوجه الثاني : أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير ، وهو حمل المخاطب على أن [ ص: 547 ] يقر فيقول : بلى . وقوله : " يأن " : هو مضارع " أنى يأنى " إذا جاء إناه أي وقته ، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه :

ولقد أنى لك أن تناهى طائعا أو تستفيق إذا نهاك المرشد فقوله : أنى لك أن تناهى طائعا ، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعا ، أي حضر وقت تناهيك ، ويقال في العربية : آن يئين كباع يبيع ، وأنى يأني كرمى يرمي ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر :


ألما يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين ، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي جاء الحين والأوان لذلك ، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه .

وقوله تعالى : أن تخشع قلوبهم [ 57 \ 16 ] ، المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في محل رفع فاعل بـ " أن " ، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينة والانخفاض ، ومنه قول نابغة ذبيان :


رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
فقوله : " خاشع " أي منخفض مطمئن ، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب ، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون ، كما هو شأن الخائف .

وقوله : لذكر الله ، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله ، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ 8 \ 2 ] ، أي خافت عند ذكر الله ، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه ، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد .

وقال بعض العلماء : المراد بذكر الله القرآن ، وعليه فقوله : وما نزل من الحق [ 57 \ 16 ] من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين ، كقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ 87 \ 1 - 3 ] ، كما أوضحناه مرارا .

وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى : [ ص: 548 ] الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] . فالاقشعرار المذكور ولين الجلود والقلوب عند سماع هذا القرآن العظيم المعبر عنه بأحسن الحديث - يفسر معنى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق هنا كما ذكر .

وقوله تعالى : ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم [ 57 \ 16 ] ، قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله : ثم قست قلوبكم [ 2 \ 74 ] بعض أسباب قسوة قلوبهم ، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه ، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين ، من أهل الكتاب - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] ، وقوله تعالى : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 57 \ 27 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما الآية [ 39 \ 21 ] ، وبينا هناك الآية الدالة على سبب اصفراره .
قوله تعالى : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن كل ما أصاب من المصائب في الأرض كالقحط والجدب والجوائح في الزراعة والثمار وفي الأنفس من الأمراض والموت كله مكتوب في كتاب قبل خلق الناس ، وقبل وجود المصائب ، فقوله : من قبل أن نبرأها [ 57 \ 22 ] ، الضمير فيه عائد على الخليقة المفهومة في ضمن قوله : وفي أنفسكم [ 57 \ 22 ] ، أو إلى المصيبة ، واختار بعضهم رجوعه لذلك كله .

وقوله تعالى : إن ذلك على الله يسير [ 57 \ 22 ] ، أي سهل هين لإحاطة علمه وكمال قدرته .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #532  
قديم 08-05-2023, 08:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (530)
سُورَةُ الْحَدِيدِ .
صـ 549 إلى صـ 557



وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه لا يصيب الناس شيء من المصائب إلا وهو [ ص: 549 ] مكتوب عند الله قبل ذلك - أوضحه الله تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ 9 \ 51 ] ، وقوله تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله [ 64 \ 11 ] ، وقوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [ 2 \ 155 ] ، لأن قوله : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع [ 2 \ 155 ] قبل وقوع ذلك دليل على أن هذه المصائب معلومة له - جل وعلا - قبل وقوعها ، ولذا أخبرهم تعالى بأنها ستقع ، ليكونوا مستعدين لها وقت نزولها بهم ، لأن ذلك يعينهم على الصبر عليها .

ونقص الأموال والثمرات مما أصاب من مصيبة . ونقص الأنفس في قوله : والأنفس مما أصاب من مصيبة في الأنفس ، وقوله في آية الحديد هذه : لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [ 57 \ 23 ] ، أي بينا لكم أن الأشياء مقدرة مكتوبة قبل وجود الخلق ، وأن ما كتب واقع لا محالة لأجل ألا تحزنوا على شيء فاتكم ، لأن فواته لكم مقدر ، وما لا طمع فيه قل الأسى عليه ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، لأنكم إذا علمتم أن ما كتب لكم من الرزق والخير لا بد أن يأتيكم قل فرحكم به ، وقوله : " تأسوا " مضارع أسي بكسر السين يأسى بفتحها أسى بفتحتين على القياس ، بمعنى حزن ، ومنه قوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] . وقوله : " من مصيبة " مجرور في محل رفع ؛ لأنه فاعل " أصاب " جر بـ " من " المزيدة لتوكيد النفي ، و " ما " نافية .
قوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى ، في الكلام على قوله : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان الآية [ 42 \ 17 ] ، وقدمنا هناك كلام أهل العلم في معناه .
قوله تعالى : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد .

بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة والتي قبلها أن إقامة دين الإسلام تنبني على أمرين : أحدهما هو ما ذكره بقوله : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] ، لأن في ذلك إقامة البراهين على الحق ، وبين الحجة وإيضاح الأمر والنهي والثواب والعقاب . فإذا أصر الكفار على الكفر وتكذيب الرسل مع ذلك البيان والإيضاح ، فإن الله تبارك [ ص: 550 ] وتعالى أنزل الحديد ، أي : خلقه لبني آدم ليردع به المؤمنون الكافرين المعاندين ، وهو قتلهم إياهم بالسيوف والرماح والسهام ، وعلى هذا فقوله هنا : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد [ 57 \ 25 ] ، توضحه آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم [ 9 \ 14 ] ، وقوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة .

وقوله : ومنافع للناس [ 57 \ 25 ] ، لا يخفى ما في الحديد من المنافع للناس ، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع [ 13 \ 17 ] ، لأن مما يوقد عليه في النار ابتغاء المتاع - الحديد .
قوله تعالى : فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء الآية [ 43 \ 28 - 29 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم .

قد قدمنا أن التحقيق أن هذه الآية الكريمة من سورة الحديد في المؤمنين من هذه الأمة ، وأن سياقها واضح في ذلك ، وأن من زعم من أهل العلم أنها في أهل الكتاب فقد غلط ، وأن ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة أعظم مما وعد به مؤمني أهل الكتاب وإتيانهم أجرهم مرتين كما قال تعالى فيهم : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين الآية [ 28 \ 52 - 54 ] .

وكون ما وعد به المؤمنين من هذه الأمة أعظم ، أن إيتاء أهل الكتاب أجرهم مرتين أعطى المؤمنين من هذه الأمة مثله كما بينه بقوله : يؤتكم كفلين من رحمته [ 57 \ 28 ] ، وزادهم بقوله : ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم [ 57 \ 28 ] .
قوله تعالى : وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الفضل بيد الله وحده وأنه يؤتيه من يشاء - جاء [ ص: 551 ] موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ 10 \ 107 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده [ 35 \ 2 ] .
[ ص: 552 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ : فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [ 33 \ 4 ] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَدِلَّتَهُمْ ، وَمُنَاقَشَتَهَا فِي مَسَائِلِ الظِّهَارِ ، وَمَسَائِلِ أَحْكَامِ الْكَفَّارَةِ بِالْعِتْقِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالْإِطْعَامِ ، وَأَوْجُهَ الْقِرَاءَةِ فِي الْآيَةِ .
قوله تعالى : ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله : إن الله بكل شيء عليم .

قد قدمنا الكلام عليه في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] ، وذكرنا هناك معنى المعية الخاصة ، والمعية العامة ، والآيات القرآنية الدالة على كل واحدة منهما .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان .

قد قدمنا الكلام عليه مع بيان الفرق بين النجوى بالخير ، والنجوى بالإثم والعدوان في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [ 4 \ 114 ] .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم .

قال بعض أهل العلم : معنى ألم تر إلى الذين تولوا : ألم ينته علمك إلى الذين تولوا .

وقد قدمنا الرد على من قال : إن لفظة " ألم تر " لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو [ ص: 553 ] " إلى " ، ولا تتعدى بنفسها إلى المفعول ، وبينا أن ذلك وإن كان هو الذي في القرآن في جميع المواضع فإن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيحة .

ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس :


ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم ، وهم اليهود والكفار ، وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي ، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم [ 60 \ 13 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا من القوم الذين تولوهم ، وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم إلى قوله : مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء [ 4 \ 142 - 143 ] .
قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنة ، والأيمان جمع يمين ، وهي الحلف ، والجنة هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح . والمعنى أنهم جعلوا الأيمان الكاذبة ، وهي حلفهم للمسلمين إنهم معهم وإنهم مخلصون في باطن الأمر - ترسا لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم . وقوله تعالى : فصدوا عن سبيل الله الظاهر أنه من " صد " المتعدية ، وأن المفعول محذوف ، أي : فصدوا غيرهم ممن أطاعهم لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله : اتخذوا أيمانهم جنة والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ، كما أوضحناه مرارا .

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، وهما كون المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة لتكون لهم جنة ، وأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله - جاءا موضحين في آيات أخر من كتاب الله ، أما أيمانهم الكاذبة فقد بينها الله - جل وعلا - في آيات كثيرة ، كقوله تعالى في هذه السورة ويحلفون على الكذب وهم يعلمون [ 58 \ 14 ] ، وقوله تعالى : يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه ، وقوله تعالى : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم الآية [ 9 \ 95 ] ، [ ص: 554 ] وقوله تعالى : وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون [ 9 \ 42 ] ، وقوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون [ 63 \ 2 ] .

وأما صدهم من أطاعهم عن سبيل الله فقد بينه الله في آيات من كتابه كقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا [ 33 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا [ 3 \ 156 ] ، وقوله تعالى : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا [ 3 \ 168 ] ، وقوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن [ 4 \ 72 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فلهم عذاب مهين ، أي لأجل نفاقهم ، كما قال تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار الآية [ 4 \ 145 ] .
قوله تعالى : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه إلى قوله : خيرا منها منقلبا [ 18 \ 35 - 36 ] .
قوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إسناد إنساء ذكر الله إلى الشيطان - ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، ، وقوله تعالى : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ 12 \ 42 ] ، وفي معناه قول فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] .
قوله تعالى : إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يحادون الله ورسوله داخلون في جملة الأذلين - لا يوجد أحد أذل منهم . وقوله : يحادون الله ورسوله أي يعادون ويحالفون ويشاقون ، وأصله مخالفة حدود الله التي حدها .

وقوله : في الأذلين أي الذين هم أعظم الناس ذلا . والذل : الصغار والهوان والحقارة .

[ ص: 555 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله ، بينه - جل وعلا - في غير هذا الموضع ، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان ، كقوله تعالى : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم [ 9 \ 63 ] ، وقوله تعالى : إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم [ 58 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 59 \ 3 - 4 ] ، وقوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار [ 8 \ 12 - 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز .

قد دلت هذه الآية الكريمة على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم ، والغلبة نوعان : غلبة بالحجة والبيان ، وهي ثابتة لجميع الرسل ، وغلبة بالسيف والسنان ، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر به .

وقد دلت هذه الآية الكريمة ، وأمثالها من الآية كقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] - أنه لن يقتل نبي في جهاد قط ، لأن المقتول ليس بغالب ، لأن القتل قسم مقابل للغلبة ، كما بينه تعالى في قوله : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب الآية [ 4 \ 74 ] ، وقال تعالى : إنا لننصر رسلنا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقد نفى عن المنصور كونه مغلوبا نفيا باتا في قوله تعالى : إن ينصركم الله فلا غالب لكم [ 3 \ 160 ] .

وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [ 2 \ 87 ] ، وقوله تعالى : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم [ 3 \ 183 ] - ليسوا مقتولين في جهاد ، وأن نائب الفاعل في قوله تعالى : [ ص: 556 ] وكأين من نبي قاتل معه ربيون [ 3 \ 146 ] ، على قراءة " قتل " بالبناء للمفعول ، هو ربيون لا ضمير النبي .

وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [ 3 \ 146 ] ، وذكرنا بعضه في الصافات في الكلام على قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين [ 37 \ 171 ] .
قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .

وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر ، والمراد بها الإنشاء ، وهذا النهي البليد ، والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله ، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء ، كما هو معلوم في محله ، ومعنى قوله : يوادون من حاد الله ورسوله : أي يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [ 60 \ 4 ] ، وقوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم [ 48 \ 29 ] ، وقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] ، وقوله تعالى : وليجدوا فيكم غلظة الآية [ 9 \ 123 ] ، وقوله تعالى : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ولو كانوا آباءهم زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، قائلا : إنه قتل أباه كافرا يوم بدر أو يوم أحد ، وقيل : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي المنافق المشهور ، وزعم من قال ؛ أن عبد الله استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه عبد الله بن أبي ، فنهاه . وقيل : نزلت في أبي بكر ، وزعم من قال ؛ أن أباه أبا قحافة سب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط .

[ ص: 557 ] وقوله : أو أبناءهم ، زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمن يوم بدر .

وقوله : أو إخوانهم زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير قالوا : قتل أخاه عبيد بن عمير . وقال بعضهم : مر بأخيه يوم بدر يأسره رجل من المسلمين ، فقال : شدد عليه الأسر ، علم أن أمه ملية وستفديه .

وقوله : أو عشيرتهم قال بعضهم : نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة في المبارزة يوم بدر ، وهم بنو عمهم ، لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى .

وقوله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان أي ثبته في قلوبهم بتوفيقه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحا في قوله تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة [ 49 \ 7 - 8 ] .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #533  
قديم 08-05-2023, 08:58 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (531)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 3 إلى صـ 10



[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر

قوله تعالى : ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) .

تقدم للشيخ - رحمه الله - كلام على معنى التسبيح عند قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) [ 21 \ 79 ] .

وقال رحمه الله : التسبيح في اللغة الإبعاد عن السوء ، وفي اصطلاح الشرع تنزيه الله - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وساق - رحمه الله - النصوص في تسبيح المخلوقات جميعها .

وقال في آخر المبحث : والظاهر أن قوله تعالى : وكنا فاعلين مؤكد لقوله تعالى : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) ، والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة ، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة [ من الجزء الرابع 337 ، وذكر عند أول سورة " الحديد " زيادة لذلك ] .

وفي مذكرة الدراسة مما أملاه - رحمه الله - في فصل الدراسة على أول سورة الجمعة : يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم [ 62 \ 1 ] قال : التسبيح التنزيه ، ( وما ) التي لغير العقلاء ؛ لتغلب غير العقلاء لكثرتهم ، وكان يمكن الاكتفاء بالإحالة على ما ذكره - رحمه الله تعالى - إلا أن الحاجة الآن تدعو إلى مزيد بيان بقدر المستطاع ؛ لتعلق المبحث بأمر بالغ الأهمية ، ونحن اليوم في عصر تغلب عليه العلمانية ، والمادية فنورد ما أمكن أملا في زيادة الإيضاح .

إن أصل التسبيح من مادة سبح ، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة ، فبينهما اشتراك في أصل المعنى ، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق ، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ، ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى .

وقد جاء الفعل هنا بصيغة الماضي : ( سبح لله ) كما جاء في أول سورة [ ص: 4 ] " الحديد " .

قال أبو حيان عندها : لما أمر الله تعالى الخلق بالتسبيح في آخر سورة الواقعة يعني في قوله تعالى : ( إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ) [ 56 \ 95 - 96 ] ، جاء في أول السورة التي تليها مباشرة بالفعل الماضي ؛ ليدل على أن التسبيح المأمور به قد فعله ، والتزم به كل ما في السماوات والأرض . ا هـ .

ومعلوم أن الفعل قد جاء أيضا بصيغة المضارع كما في آخر هذه السورة : ( يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) [ 59 \ 24 ] ، وفي أول سورة " الجمعة " : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم ) [ 62 \ 1 ] ، وفي أول سورة التغابن : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [ 64 \ 1 ] ، وهذه الصيغة تدل على الدوام والاستمرار .

بل جاء الفعل بصيغة الأمر : ( سبح اسم ربك الأعلى ) [ 87 \ 1 ] ، ( فسبح باسم ربك العظيم ) [ 56 \ 74 ] .

وجاءت المادة بالمصدر : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) [ 17 \ 1 ] ، ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [ 30 \ 17 ] ، ليدل ذلك كله بدوام واستمرار التسبيح لله تعالى من جميع خلقه ، كما سبح سبحانه نفسه ، وسبحته ملائكته ، ورسله على ما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه .

و ( ما ) في قوله تعالى : ( ما في السماوات وما في الأرض ) من صيغ العموم ، وأصل استعمالها لغير العقلاء ، وقد تستعمل للعاقل إذا نزل منزلة غير العاقل ، كما في قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ 4 \ 3 ] ، ومجيئها هنا لغير العاقل تغليبا له ؛ لكثرته كما تقدم ، فتكون شاملة للعاقل من باب أولى .

ومما يلفت النظر أن التسبيح الذي في معرض العموم كله في القرآن مسند إلى " ما " دون " من " إلا في موضع واحد ، هو قوله تعالى : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ) [ 71 \ 44 ] ، وهذا شاهد على شمول " ما " وعمومها المتقدم ذكرها ؛ لأنه سبحانه أسند التسبيح أولا إلى السماوات السبع والأرض صراحة بذواتهن ، وهن من غير العقلاء بما في كل منهن من أفلاك ، وكواكب ، وبروج ، أو جبال ، ووهاد ، وفجاج ، ثم عطف [ ص: 5 ] على غير العقلاء بصيغة " من " الخاصة بالعقلاء فقال : ( ومن فيهن ) ، وإن كانت " من " ، قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلن منزلة العقلاء كما في قول الشاعر :


أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير


وبهذا شمل إسناد التسبيح لكل شيء في نطاق السماوات والأرض عاقل ، وغير عاقل ، وقد أكد هذا الشمول بصريح قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ 17 \ 44 ] ، وكلمة " شيء " أعم العمومات ، كما في قوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) [ 13 \ 6 ] ، فشملت السماوات والأرض ، والملائكة ، والإنس ، والجن ، والطير ، والحيوان ، والنبات ، والشجر ، والمدر ، وكل مخلوق لله تعالى .

وقد جاء في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة إثبات التسبيح من كل ذلك كل على حدة .

أولا : تسبيح الله تعالى نفسه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) [ 17 \ 1 ] ، ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ) [ 30 \ 17 - 18 ] ، ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) [ 21 \ 22 ] .

ثانيا : تسبيح الملائكة ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ 2 ] ، وقوله : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم [ 39 \ 75 ] ، و ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ 21 \ 20 ] .

ثالثا : تسبيح الرعد : ( ويسبح الرعد بحمده ) [ 13 \ 13 ] .

رابعا : تسبيح السماوات السبع ، والأرض : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ) [ 17 \ 44 ] .

خامسا : تسبيح الجبال : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) [ 38 \ 18 ] .

سادسا : تسبيح الطير : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) [ 21 \ 79 ] .

[ ص: 6 ] سابعا : تسبيح الإنسان : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ) [ 15 \ 98 ] ، ( فسبح باسم ربك العظيم ) [ 56 \ 74 ] ، ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) [ 19 \ 11 ] .

فهذا إسناد التسبيح صراحة لكل هذه العوالم مفصلة ومبينة ، واضحة .

وجاء مثل التسبيح ، ونظيره وهو السجود مسندا لعوالم أخرى وهي بقية ما في هذا الكون من أجناس وأصناف في قوله تعالى : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) [ 22 \ 18 ] .

ويلاحظ هنا أنه تعالى أسند السجود أولا لمن في السماوات ومن في الأرض و " من " هي للعقلاء أي : الملائكة ، والإنس ، والجن ، ثم عطف على العقلاء غير العقلاء بأسمائهن من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والشجر ، والدواب فهذا شمول لم يبق كائن من الكائنات ، ولا ذرة في فلاة إلا شمله .

وبعد بيان هذا الشمول والعموم يأتي مبحث العام الباقي على عمومه ، والعام المخصوص ، وهل عموم " ما " هنا باق على عمومه أم دخله تخصيص ؟

قال جماعة من العلماء منهم ابن عباس : إن العموم باق على عمومه ، وإن لفظ التسبيح محمول على حقيقته في التنزيه والتحميد .

وقال قوم : إن العموم باق على عمومه لم يدخله خصوص ، ولكن التسبيح يختلف ، ولكل تسبيح بحسبه فمن العقلاء بالذكر والتحميد والتمجيد كالإنسان والملائكة والجن ، ومن غير العاقل سواء الحيوان والطير ، والنبات ، والجماد ، فيكون بالدلالة بأن يشهد على نفسه ، ويدل على أن الله تعالى خالق قادر .

وقال قوم : قد دخله التخصيص .

ونقل القرطبي عن عكرمة ، قال : الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح . وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يسبح مرة يريد أن التسبيح من الحي ، أو النامي سواء الحيوان ، أو النبات وما عداه [ ص: 7 ] فلا . وقال القرطبي : ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من وضع الجريد الأخضر على القبر ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " . أي : بسبب تسبيحهما ، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما . ا هـ .

والصحيح من هذا كله الأول الذي قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو الذي يشهد له القرآن الكريم لعدة أمور :

أولا : لصريح قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ 17 \ 44 ] .

ثانيا : أن الحامل لهم على القول بتسبيح الدلالة ، هو تحكيم الحس والعقل ، حينما لم يشاهدوا ذلك ولم تتصوره العقول ، ولكن الله تعالى نفى تحكيم العقل الحسي هنا ، وخطر على العقل بقوله تعالى : ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) .

ثالثا : قوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) [ 21 \ 79 ] ، وقوله تعالى : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) [ 38 \ 18 ] ، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة كما يقولون لما كان لداود - عليه السلام - خصوصية على غيره .

رابعا : أخبر الله تعالى أن لهذه العوالم كلها إدراكا تاما كإدراك الإنسان أو أشد منه ، قال تعالى عن السماوات والأرض والجبال : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) [ 33 \ 72 ] ، فأثبت تعالى لهذه العوالم إدراكا وإشفاقا من تحمل الأمانة ، بينما سجل على الإنسان ظلما وجهالة في تحمله إياها ، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير ، ولا هذا الإباء مجرد سلبية ، بل عن إدراك تام ، كما في قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ 41 \ 11 ] ، فهما طائفتان لله ، وهما يأبين أن يحملن الأمانة إشفاقا منها .

وفي أواخر هذه السورة الكريمة سورة الحشر قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ 59 \ 21 ] ، ومثله قوله تعالى : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) [ 2 \ 74 ] ، [ ص: 8 ] وهذا هو عين الإدراك أشد من إدراك الإنسان .

وفي الحديث : " لا يسمع صوت المؤذن من حجر ، ولا مدر ، ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة " فبم سيشهد إن لم يك مدركا الأذان والمؤذن .

وعن إدراك الطير قال تعالى عن الهدهد يخاطب نبي الله سليمان : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) [ 27 \ 22 - 24 ] .

ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد ويفصح عنها لنبي الله سليمان .

الأولى : إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان .

الثانية : معرفته لسبأ بعينها دون غيرها ، ومجيئه منها بنبأ يقين لا شك فيه .

الثالثة : معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم .

الرابعة : إداركه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء .

الخامسة : أن لها عرشا عظيما .

السادسة : إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله .

السابعة : إدراكه أن هذا شرك بالله تعالى .

الثامنة : أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم .

التاسعة : أن هذا ضلال عن السبيل القويم .

العاشرة : أنهم لا يهتدون .

وقد اقتنع سليمان بإدراك الهدهد لهذا كله فقال له : ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) [ 27 \ 27 ] ، وسلمه رسالة ، وبعثه سفيرا إلى بلقيس وقومها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون [ 27 \ 28 ] ، وكانت سفارة موفقة جاءت [ ص: 9 ] بهم مسلمين في قوله تعالى عنها : وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [ 27 \ 44 ] .

وكذلك ما جاء عن النملة في قوله تعالى عنها : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [ 27 \ 18 ] فقد أدركت مجيء الجيش ، وأنه لسليمان وجنوده وأدركت كثرتهم ، وأن عليها وعلى النمل أن يتجنبوا الطريق ، ويدخلوا مساكنهم ، وهذا الإدراك منها جعل سليمان - عليه السلام - يتبسم ضاحكا من قولها . وأن لها قولا علمه سليمان عليه السلام .

فقد جاء في السنة إثبات إدراك الحيوانات للمغيبات فضلا عن المشاهدات ، كما في حديث الموطأ في فضل يوم الجمعة : " وإن فيه خلق آدم ، وفيه أسكن الجنة " إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة في الأرض إلا وهي تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة حتى طلوع الشمس إشفاقا من الساعة إلا الجن والإنس " ، فهذا إدراك وإشفاق من الحيوان ، وإيمان بالمغيب ، وهو قيام الساعة وإشفاق من الساعة أشد من الإنسان .

وقصة الجمل الذي ند على أهله وخضع له - صلى الله عليه وسلم - حتى قال الصديق : لكأنه يعلم أنك رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " نعم إنه ما بين لابتيها إلا وهو يعلم أني رسول الله " .

فهذا كله يثبت إدراكا للحيوان بالمحسوس ، وبالمغيب إدراكا لا يقل عن إدراك الإنسان ، فما المانع من إثبات تسبيحها حقيقة على ما يعلمه الله تعالى منها ؟ وقد جاء النص صريحا في التسبيح المثبت لها في أنه تسبيح تحميد لا مطلق دلالة كما في قوله تعالى : ويسبح الرعد بحمده [ 13 \ 13 ] ، وقرنه مع تسبيح الملائكة : والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] ، وهذا نص في محل النزاع ، وإثبات لنوع التسبيح المطلوب .

خامسا : لقد شهد المسلمون منطق الجماد بالتسبيح ، وسمعوه بالتحميد حسا كتسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم ، وكحنين الجذع للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعه كل من في المسجد ، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم حجرا في مكة ما مررت عليه إلا وسلم علي " ، وما ثبت بفرد يثبت لبقية أفراد جنسه ، كما هو معلوم في قاعدة الواحد بالجنس ، والواحد بالنوع .

ومن هذا القبيل في أعظم من ذلك ما رواه البخاري في كتاب المناقب عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدا ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان فرجف بهم فقال : " اثبت أحد فإن عليك نبيا ، وصديقا ، وشهيدين " .

[ ص: 10 ] وفي موطأ مالك : لما رجع - صلى الله عليه وسلم - من سفر طلع عليهم أحد فقال : " هذا جبل يحبنا ، ونحبه " .

فهذا جبل من كبار جبال المدينة يرتجف لصعود النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فيخاطبه - صلى الله عليه وسلم - خطاب العاقل المدرك : " اثبت أحد ؛ فإن عليك نبيا ، وصديقا ، وشهيدين " ، فيعرف النبي ، ويعرف الصديق ، والشهيد فيثبت ، فبأي قانون كان ارتجافه ؟ وبأي معقول كان خطابه ؟ وبأي معنى كان ثبوته ؟ ثم هاهو يثبت له - صلى الله عليه وسلم - المحبة المتبادلة بقوله : " يحبنا ، ونحبه " .

وإذا ناقشنا أقوال القائلين بتخصيص هذا العموم من إثبات التسبيح للجمادات ونحوها ، لما وجدنا لهم وجهة نظر إلا أن الحس لم يشهد شيئا من ذلك ، وقد أوردنا الأمثلة على إثبات ذلك لسائر الأجناس ، وتقدم تنبيه الشيخ على تأكيد ذلك بقوله تعالى : وكنا فاعلين [ 21 \ 29 ] ردا على استبعاده .

ومن الأدلة القرآنية في هذا المقام ما جاء في سياق قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده [ 17 \ 44 ] ، جاء بعدها قوله تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ 17 \ 45 ] وهذا نص يكذب المستدلين بالحس ؛ لأن الله تعالى أخبر بأنه جعل بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة ، وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبه عنهم ، وهذا الحجاب مستور عن أعينهم فلا يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه محجوب عنهم ، ولا يرون الحجاب ؛ لأنه مستور ، وهذا هو الصحيح في هذه الآية .

وقد قال فيها بعض البلاغيين : إن مستورا هنا بمعنى ساترا ويقال لهم : إن جعل مستورا بمعنى ساترا تكرار لمعنى حجاب ؛ لأن قوله تعالى : جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا [ 17 \ 45 ] هو بمعنى ساترا ، أي : يستره عن الذين لا يؤمنون بالآخرة وليس في ذلك زيادة معنى ، ولا كبير معجزة ، ولكن الإعجاز في كون الحجاب مستورا عن أعينهم ، وفي هذا تحقيق وجود المعنيين ، وهما حجبه - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، وستر الحجاب عن أعينهم ، وهذا أبلغ في حفظه - صلى الله عليه وسلم - منهم ؛ لأنه لو كان الحجاب مرئيا أي : ساترا فقط مع كونه مرئيا لربما اقتحموه عليه ، وأقوى في الإعجاز ؛ لأنه لو كان الحجاب مرئيا لكان كاحتجاب غيره من سائر الناس . ولكن حقيقة الإعجاز فيه هو كونه مستورا عن [ ص: 11 ] أعينهم ، وهذا ما رجحه ابن جرير .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #534  
قديم 08-05-2023, 09:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (532)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 11 إلى صـ 18



وقد جاءت قصة امرأة أبي لهب مفصلة هذا الذي ذكرناه كما ساقها ابن كثير قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله : وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد [ 111 \ 1 - 5 ] ، جاءت امرأة أبي لهب وفي يدها فهر ، ولها ولولة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أبي بكر - رضي الله عنه - عند الكعبة فقال له : إني أخاف عليك أن تؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى عاصمني منها " ، وتلا قرآنا ، فجاءت ، ووقفت على أبي بكر وقالت : إن صاحبك هجاني . قال : لا ورب هذه البنية إنه ليس بشاعر ، ولا هاج ، فقالت : إنك مصدق وانصرفت . أي : ولم تره وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه .

فهل يقال بعدم وجود الحجاب ؛ لأنه مستور لم يشاهد ، أم أننا نثبته كما أخبر تعالى وهو القادر على كل شيء ؟ وعليه وبعد إثباته نقول : ما الفرق بين إثبات حقيقة قوله تعالى هنا : حجابا مستورا ، وقوله تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ؟ ففي كلا المقامين إثبات أمر لا ندركه بالحس ، فالتسبيح لا نفقهه ، والحجاب لا نبصره .

وقد أوردنا هذه النماذج ، ولو مع بعض التكرار ، لما يوجد من تأثر البعض بدعوى الماديين أو العلمانيين ، الذين لا يثبتون إلا المحسوس ، لتعطي القارئ زيادة إيضاح ، ويعلم أن المؤمن بإيمانه يقف على علم ما لم يعلمه غيره ، ويتسع أفقه إلى ما وراء المحسوس ، ويعلم أن وراء حدود المادة عوالم يقصر العقل عن معالمها ، ولكن المؤمن يثبتها .

وقد رسم لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطريق الصحيح في مثل هذا المقام من إثبات وإيمان ، كما في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح ، ثم أقبل على الناس فقال : " بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، وإنما خلقنا للحرث ، فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ؟ ! فقال : " إني أومن بهذا أنا ، وأبو بكر ، وعمر وما هما ثم ، وبينما رجل في غنمه ، إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه ، فقال له الذئب هذا : استنقذتها مني ، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري " فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ، قال : " فإني أومن بهذا أنا ، وأبو بكر ، وعمر ، وما هما ثم " .

ففي هذا النص الصريح نطق البقرة ونطق الذئب بكلام معقول من خصائص العقلاء على غير العادة ، مما استعجب له الناس وسبحوا الله إعظاما لما سمعوا ، ولكن [ ص: 12 ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدفع هذا الاستعجاب بإعلان إيمانه وتصديقه ، ويضم معه أبا بكر وعمر ، وإن كانا غائبين عن المجلس ، لعلمه منهما أنهما لا ينكران ما ثبت بالسند الصحيح لمجرد استبعاده عقلا .

وهنا يقال لمنكري التسبيح حقيقة وما المانع من ذلك ؟ أهو متعلق القدرة أم استبعاد العقل لعدم الإدراك الحسي ؟

فأما الأول : فممنوع ؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير ، وقد أخرج لقوم صالح ناقة عشراء من جوف الصخرة الصماء ، وأنطق الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم .

وأما الثاني : فلا سبيل إليه حتى ينتظر إدراكه وتحكيم العقل فيه ؛ فإن الله تعالى قال : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] .

فلم يبق إلا الإيمان أشبه ما يكون بالمغيبات ، وإيمان تصديق وإثبات لا تكييف وإدراك وخالق الكائنات أعلم بحالها ، وبما خلقها عليه .

فيجب أن نؤمن بتسبيح كل ما في السماوات والأرض ، وإن كان مستغربا عقلا ، ولكن أخبر به خالقه سبحانه ، وشاهدنا المثال مسموعا من بعض أفراده .
قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم .

أجمع المفسرون أنها في بني النضير ، إلا قولا للحسن أنها في بني قريظة ، ورد هذا القول بأن بني قريظة لم يخرجوا ، ولم يجلوا ولكن قتلوا .

وقد سميت هذه السورة بسورة " بني النضير " ، حكاه القرطبي عن ابن عباس .

قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة " الحشر " قال : قل سورة " النضير " ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - عليه السلام - نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم .

واتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأخبر جبريل الرسول - صلى الله عليه وسلم بذلك - فأمر [ ص: 13 ] بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة ، فهموا بطرح الحجر عليه - صلى الله عليه وسلم - فعصمه الله تعالى .

ولما قتل كعب أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمسيرة إليهم ، وطالبهم بالخروج من المدينة ، فاستمهلوه عشرة أيام ؛ ليتجهزوا للخروج ، ولكن أرسل إليهم عبد الله بن أبي سرا : لا تخرجوا من الحصن ، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه ، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان ، أو الخروج معهم ، فدربوا أنفسهم ، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية ، فحاصرهم - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين ليلة .

وقيل : أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج إليك ثلاثون منا ؛ ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعلوا فاشتملوا على الخناجر ، وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فساره بخبرهم قبل أن يصل - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، وآيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي ، فطلبوا الصلح فأبى عليهم - صلى الله عليه وسلم - إلا الجلاء ، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة ، فكانوا يحملون كل ما استطاعوا ولو أبواب المنازل ، يخربون بيوتهم ويحملون ما استطاعوا معهم .

وقد أوردنا مجمل هذه القصة في سبب نزول هذه السورة ؛ لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها ، وكما قال الإمام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - في رسالة أصول التفسير : إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير ، وليعلم المسلمون مدى ما جبل عليه اليهود من غدر ، وما سلكوا من أساليب المراوغة فما أشبه الليلة بالبارحة .

والذي من منهج الشيخ - رحمه الله - في الأضواء قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، حيث أسند إخراجهم إلى الله تعالى مع وجود حصار المسلمين إياهم .

وقد تقدم للشيخ - رحمه الله - نظيره عند قوله تعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا [ ص: 14 ] [ 33 \ 25 ] ، قال - رحمه الله تعالى - عندها : ذكر جل وعلا أنه قومه الذين كفروا وكذبوا الآية ، ولم يبين السبب الذي ردهم به ، ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [ 33 \ 9 ] ا هـ .

وهنا أيضا في هذه الآية أسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم ، وقد بين تعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب ، وهذا من أهم أسباب إخراجهم ؛ لأنهم في موقف القوة وراء الحصون ، لم يتوقع المؤمنون خروجهم ، وظنوا هم أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقد كان هذا الإخراج من الله إياهم بوعد سابق من الله لرسوله في قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم [ 2 \ 137 ] .

وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم ، فكان إخراجهم حقا من الله تعالى ، وبوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .

وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطبا للمسلمين في خصوصهم : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير [ 59 \ 6 ] وتسليط الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بما بين صلى الله عليه وسلم في قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " وهو ما يتمشى مع قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [ 33 \ 26 ] .

وجملة هذا السياق هنا يتفق مع السياق في سورة الأحزاب عن بني قريظة سواء بسواء ، وذلك في قوله تعالى : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم [ 33 \ 26 - 27 ] ، وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب كما أنه هو تعالى الذي رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، بما أرسل عليهم من الرياح ، والجنود ، وهو الذي كفى المؤمنين القتال ، وهو تعالى الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم ، وورث المؤمنين ديارهم وأموالهم ، وكان الله على كل شيء قديرا .

ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية ، يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم : [ ص: 15 ] يا أولي الأبصار [ 59 \ 2 ] ، أي : بإخراج الذين كفروا من حصونهم ، وديارهم ومواطن قوتهم ، ما ظننتم أن يخرجوا ؛ لضعف اقتداركم ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم لقوتها ومنعتها ، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فلم يستطيعوا البقاء ، وكانت حقيقة إخراجهم من ديارهم هي من الله تعالى .
قوله تعالى : لأول الحشر .

اختلف في معنى الحشر في هذه الآية ، وبناء عليه اختلف في معنى الأول .

فقيل : المراد بالحشر أرض المحشر ، وهي الشام .

وقيل المراد بالحشر : الجمع .

واستدل القائلون بالأول بآثار منها : ما رواه ابن كثير عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من شك في أن أرض المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ، وما رواه أبو حيان في البحر عن عكرمة أيضا ، والزهري ، وساق قوله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبني النضير : " اخرجوا " ، قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " ، وعلى هذا تكون الأولية هنا مكانية ، أي : لأول مكان من أرض المحشر ، وهي أرض الشام ، وأوائله خيبر وأذرعات .

وقيل : إن الحشر على معناه اللغوي وهو الجمع ، قال أبو حيان في البحر المحيط : الحشر الجمع للتوجه إلى ناحية ما ، ومن هذا المعنى قيل : الحشر هو حشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكتائب ؛ لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم وأول قتال قاتلهم ، وعليه فتكون الأولية زمانية وتقتضي حشرا بعده ، فقيل : هو حشر عمر إياهم بخيبر ، وقيل : نار تسوق الناس من المشرق إلى المغرب ، وهو حديث في الصحيح ، وقيل : البعث .

إلا أن هذه المعاني أعم من محل الخلاف ؛ لأن النار المذكورة ، والبعث ليستا خاصتين باليهود ، ولا ببني النضير خاصة ، ومما أشار إليه الشيخ - رحمه الله - أن من أنواع البيان الاستدلال على أحد المعاني بكونه هو الغالب في القرآن ، ومثل له في المقدمة بقوله تعالى : لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، فقد قال بعض العلماء : بأن المراد بهذه الغلبة : الغلبة بالحجة والبيان ، والغالب في القرآن استعمال الغلبة بالسيف والسنان ، وذلك دليل واضح على دخول تلك الغلبة في الآية ؛ لأن خير ما يبين به القرآن القرآن .

[ ص: 16 ] وهنا في هذه الآية ، فإن غلبة استعمال القرآن بل عموم استعماله في الحشر إنما هو للجمع ، ثم بين المراد بالحشر لأي شيء منها قوله تعالى : وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير [ 27 \ 17 ] ، وقوله : وحشرنا عليهم كل شيء قبلا [ 6 \ 111 ] ، وقوله عن نبي الله داود : والطير محشورة كل له أواب [ 38 \ 19 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى : قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين [ 7 \ 111 ] ، وقوله : فحشر فنادى [ 79 \ 23 ] ، فكلها بمعنى الجمع .

وإذا استعمل بمعنى يوم القيامة فإنه يأتي مقرونا بما يدل عليه ، وهو جميع استعمالات القرآن لهذا ، مثل قوله تعالى : وترى الأرض بارزة وحشرناهم [ 18 \ 47 ] ، وذلك في يوم القيامة ؛ لبروز الأرض ، وقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [ 19 \ 85 ] ، وذلك في يوم القيامة لتقييده باليوم ، وقوله تعالى : يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 20 \ 102 ] ، وقوله تعالى : وإذا الوحوش حشرت [ 81 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون [ 41 \ 19 ] ، إلى غير ذلك مما هو مقيد بما يعين المراد بالحشر ، وهو يوم القيامة .

فإذا أطلق كان لمجرد الجمع كما في الأمثلة المتقدمة ، وعليه فيكون المراد بقوله تعالى : لأول الحشر ، أن الراجح فيه لأول الجمع ، وتكون الأولية زمانية وفعلا ، فقد كان أول جمع لليهود ، وقد أعقبه جمع آخر لإخوانهم بني قريظة بعد عام واحد ، وأعقبه جمع آخر في خيبر ، وقد قدمنا ربط إخراج بني النضير من ديارهم بإنزال بني قريظة من صياصيهم ، وهكذا ربط جمع هؤلاء بأولئك إلا أن هؤلاء أجلوا وأخرجوا ، وأولئك قتلوا واسترقوا .

تنبيه

وكون الحشر بمعنى الجمع لا يتنافى مع كون خروجهم كان إلى أوائل الشام ؛ لأن الغرض الأول هو جمعهم للخروج من المدينة ، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى الشام أو إلى غيرها .

وقد استدل بعض العلماء على أن توجههم كان إلى الشام من قوله تعالى : [ ص: 17 ] ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [ 4 \ 47 ] ؛ لأن السياق في أهل الكتاب ، والتعريض بأصحاب السبت ألصق بهم .

فقال بعض المفسرين : الوجوه هنا هي سكناهم بالمدينة ، وطمسها تغير معالمها ، وردهم على أدبارهم ، أي : إلى بلاد الشام التي جاءوا منها أولا حينما خرجوا من الشام إلى المدينة ، انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه أبو حيان وحسنه الزمخشري .
قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا .

أتى : تأتي لعدة معان ، منها بمعنى المجيء ، ومنها بمعنى الإنذار ، ومنها بمعنى المداهمة .

وقد توهم الرازي أنها من باب الصفات ، فقال : المسألة الثانية قوله : فأتاهم الله ، لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء ، فدل على أن باب التأويل مفتوح ، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز . ا هـ .

وهذا منه على مبدئه في تأويل آيات الصفات ، ويكفي لرده أنه مبني على مقتضى الدلائل العقلية ، ومعلوم أن العقل لا مدخل له في باب صفات الله تعالى ؛ لأنها فوق مستويات العقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، ولا يحيطون به علما سبحانه وتعالى .

أما معنى الآية فإن سياق القرآن يدل على أن مثل هذا السياق ليس من باب الصفات كما في قوله تعالى : فأتى الله بنيانهم من القواعد [ 16 \ 26 ] ، أي هدمه واقتلعه من قواعده ، ونظيره : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] ، وقوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها [ 13 \ 41 ] ، وقوله أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها [ 21 \ 44 ] .

وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في العدوى : أني قلت أتيت أي دهيت ، وتغير عليك حسك فتوهمت ما ليس بصحيح صحيحا .

ويقال : أتي فلان بضم الهمزة وكسر التاء إذا أظل عليه العدو ، ومنه قولهم : من مأمنه [ ص: 18 ] يؤتى الحذر ، فيكون قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، أخذهم ودهاهم وباغتهم من حيث لم يحتسبوا من قتل كعب بن الأشرف وحصارهم ، وقذف الرعب في قلوبهم .

وهناك موقف آخر في سورة البقرة يؤيد ما ذكرناه هنا ، وهو قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 109 ] . فقوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وهو في سياق أهل الكتاب ، وهم بذاتهم الذين قال فيهم : فأتاهم الله فيكون فأتاهم الله هنا هو إتيان أمره تعالى الموعود في بادئ الأمر عند الأمر بالعفو والصفح .

وقد أورد الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره أن هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق ، وقال : والأمر في قوله : بأمره ، قال بعض العلماء : هو واحد الأوامر ، وقال بعضهم : هو واحد الأمور .

فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي فإن الأمر المذكور ، هو المصرح به في قوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ 9 \ 29 ] .

وعلى القول بأن واحد الأمور ، فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل ، والتشريد كقوله : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والآية غير منسوخة على التحقيق . ا هـ [ من الجزء الأول من الأضواء ] .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #535  
قديم 08-05-2023, 09:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (533)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 19 إلى صـ 26





فقد نص - رحمه الله - على أن آية : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره مرتبطة بآية : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، هذه كما قدمنا : أن هذا هو الأمر الموعود به ، وقد أتاهم به من حيث لم يحتسبوا ، ويشهد لهذا كله القراءة الثانية ( فآتاهم ) بالمد بمعنى : أعطاهم وأنزل بهم ، ويكون الفعل متعديا والمفعول محذوفا دل عليه قوله : [ ص: 19 ] من حيث لم يحتسبوا أي : أنزل بهم عقوبة وذلة ومهانة جاءتهم من حيث لم يحتسبوا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب .

منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود ، ومفهوم المخالفة يدل على أن العكس بالعكس أي : أن الطمأنينة وهي ضد الرعب ، سبب من أسباب النصر ، وهو ضد الهزيمة .

وقد جاء ذلك المفهوم مصرحا به في آيات من كتاب الله تعالى ، منها قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [ 48 \ 18 ] ، ومنها قوله تعالى : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين [ 009 026 ] ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين [ 9 \ 25 - 26 ] ، فقد ولوا مدبرين بالهزيمة ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا من الملائكة فكان النصر لهم ، وهزيمة أعدائهم المشار إليها بقوله تعالى : وعذب الذين كفروا [ 9 \ 25 ] أي : بالقتل ، والسبي في ذلك اليوم .

ومنها قوله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم [ 9 \ 40 ] .

وهذا الموقف آية من آيات الله ، اثنان أعزلان يتحديان قريشا بكاملها ، بعددها وعددها ، فيخرجان تحت ظلال السيوف ، ويدخلان الغار في سدفة الليل ، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة ، وسيوف مصلتة ، وآذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه : والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - وهو في غاية الطمأنينة ، ومنتهى السكينة : " ما بالك باثنين الله ثالثهما " ؟ .

ومنها : وفي أخطر المواقف في الإسلام في غزوة بدر ، حينما التقى الحق بالباطل وجها لوجه ، جاءت قوى الشر في خيلائها وبطرها وأشرها ، وأمامها جند الله في تواضعهم [ ص: 20 ] وإيمانهم ، وضراعتهم إلى الله : فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام [ 8 \ 9 - 11 ] .

فما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا ؛ لتطمئن به قلوبهم ، وما غشاهم النعاس إلا أمنة منه ، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم ، فقاوموا بقلتهم قوى الشر على كثرتهم ، وتم النصر من عند الله بمدد من الله ، كما ربط على قلوب أهل الكهف : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا [ 18 \ 14 ] .

هذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب المدلول عليه بمفهوم المخالفة من قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، وقد جمع الله تعالى الأمرين المنطوق والمفهوم في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ 8 \ 12 ] ، فنص على الطمأنينة بالتثبيت في قوله : فثبتوا الذين آمنوا ، ونص على الرعب في قوله : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فكانت الطمأنينة تثبيتا للمؤمنين ، والرعب زلزلة للكافرين .

وقد جاء في الحديث أن جبريل - عليه السلام - لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوجه إلى بني قريظة ، قال : " إني متقدمكم ؛ لأزلزل بهم الأقدام " ، ومما يدل على أسباب هذه الطمأنينة في هذه المواقف قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 ، 46 ] .

فذكر الله تعالى أربعة أسباب للطمأنينة :

الأولى : الثبات ، وقد دل عليها قوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 61 \ 4 ] .

[ ص: 21 ] والثانية : ذكر الله كثيرا ، وقد دل عليه قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .

والثالثة : طاعة الله ورسوله ، ويدل لها قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف [ 47 \ 20 - 21 ] .

والرابعة : عدم التنازل والاعتصام والألفة ، ويدل عليها قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ 3 \ 103 ] .

ومن ذكر أسباب الهزيمة من رعب القلوب ، وأسباب النصر من السكينة والطمأنينة ، تعلم مدى تأثير الدعايات في الآونة الأخيرة ، وما سمي بالحرب الباردة من كلام وإرجاف مما ينبغي الحذر منه أشد الحذر ، وقد حذر الله تعالى منه في قوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا [ 33 \ 18 ] ، وقد حذر تعالى من السماع لهؤلاء في قوله تعالى : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [ 9 \ 47 ] .

ولما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب ، وبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود نقضوا عهدهم أرسل إليهم - صلى الله عليه وسلم - من يستطلع خبرهم ، وأوصاهم إن هم رأوا غدرا ألا يصرحوا بذلك ، وأن يلحنوا له لحنا حفاظا على طمأنينة المسلمين ، وإبعادا للإرجاف في صفوفهم .

كما بين تعالى أثر الدعاية الحسنة في قوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم [ 8 \ 60 ] ، وقد كان بالفعل لخروج جيش أسامة بعد انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، وعند تربص الأعراب كان له الأثر الكبير في إحباط نوايا المتربصين بالمسلمين ، وقالوا : ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية ، والقوة اللازمة .

وما أجراه الله في غزوة بدر من هذا القبيل أكبر دليل عملي ، إذ يقلل كل فريق في أعين الآخرين ، كما قال تعالى : إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور [ ص: 22 ] [ 8 \ 43 - 44 ] ، وهذا كله مما ينبغي الاستفادة منه اليوم على العدو في قضية الإسلام والمسلمين .
قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله .

المشاقة : العصيان ، ومنه شق العصا ، والمخالفة .

وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم وتخريب بيوتهم ؛ بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله ، وأن المشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم ، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك .

وفي الآية مبحث أصولي مبني على أن المشاقة قد وقعت من غير اليهود ، فلم تقع بهم تلك العقوبة كما وقع من المشركين المنصوص عليها في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] ، وهذا في بدر قطعا ، ثم قال : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 8 \ 13 ] ، ولما قدر صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لم يوقع بهم ما أوقع باليهود من قتل بل قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فوجد الوصف الذي هو المشاقة الذي هو علة الحكم ، ولم يوجد الحكم الذي هو الإخراج من الديار وتخريب البيوت .

قال الفخر الرازي : فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب ، ومعلوم أنه ليس كذلك قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها . ا هـ .

وقد بحث الشيخ - رحمه الله - هذه المسألة في آداب البحث والمناظرة ، وفي مذكرة الأصول في مبحث النقض ، وعنون له في آداب البحث بقوله : تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط .

ومثل لتخلف الحكم بوجود مانع بقتل الوالد ولده عمدا ، مع عدم قتله قصاصا به ؛ لأن علة القصاص موجودة ، وهي القتل العمد ، والحكم وهو القصاص متخلف .

ومثل لتخلف الشرط بسرقة أقل من نصاب أو من غير الحرز .

[ ص: 23 ] ثم قال : النوع الثالث : تخلف حكمها عنها لا لسبب من الأسباب التي ذكرنا ، ومثل له بعضهم بقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار [ 59 \ 3 ] ، قالوا : فهذه العلة ، التي هي مشاقة الله ورسوله ، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها ، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال : إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقا ، لا نقض لها ، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول :


منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح
بل هو تخصيص وذا مصحح
إلى قوله :
ولست فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد شرط أو لمانع


وقد أطلعني بعض الإخوان على شرح لفضيلة الشيخ - رحمه الله - على مراقي السعود في أوائله على قول المؤلف :


ذو فترة بالفرع ولا يراع


وتكلم على حكم أهل الفترة ، ثم على تخصيص بعض الآيات ، ومن ثم إلى تخصيص العلة .

وجاء في هذا المخطوط ما نصه : ورجح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة " الحشر " أن تخصيص العلة كتخصيص النص مطلقا ، مستدلا بقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء الآية [ 59 \ 3 ] ، وقد فعل ذلك غير بني النضير ، فلم يفعل لهم مثل ما فعل لهم ، والله أعلم ا هـ .

إلا أني طلبت هذا الترجيح في ابن كثير عند الآية ، فلم أقف عليه فليتأمل ، ولعله في غير التفسير .

أما ما ذكره - رحمه الله تعالى - عن البعض في آداب البحث والمناظرة ، وهو أنه : قد يتخلف الحكم عن العلة ، لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا ، فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن تخلف الحكم عن العلة في غير اليهود ، وإنما هو لتخلف جزء منها ، وأن العلة [ ص: 24 ] مركبة ، أي هي في اليهود مشاقة وزيادة ، تلك الزيادة لم توجد في غير اليهود ، فوقع الفرق ، وذلك أن مشاقة غير اليهود كانت ؛ لجهلهم وشكهم ، كما أشار تعالى لذلك عنهم بقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] إلى آخر السورة فهم في حاجة إلى زيادة بيان ، وكذلك في قوله في أول سورة " ص " : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري [ 38 \ 4 - 8 ] .

فهم في عجب ودهشة ، واستبعاد أن ينزل عليه - صلى الله عليه وسلم - الذكر من بينهم ، وهم في شك من أمرهم ، فهم في حاجة إلى إزالة الشك والتثبت من الأمر ، ولذا لما زال عنهم شكهم وتبينوا من أمرهم ، وراحوا يدخلون في دين الله أفواجا ، بينما كان كفر اليهود جحودا بعد معرفة ، فكانوا يعرفونه - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ 2 \ 146 ] ، وقد سمي لهم فيما أنزل كما قال عيسى عليه السلام : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] فلم ينفعهم بيان ، ولكنه الحسد والجحود كما بين تعالى أمرهم بقوله عنهم : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] ، وقوله : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم [ 3 \ 69 ] ، وقوله : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ 2 \ 75 ] ، وقوله : ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [ 3 \ 71 ] .

فقد كانوا جبهة تضليل للناس ، وتحريف للكتاب ، وتلبيس للحق بالباطل ، كل ذلك عن قصد وعلم ، بدافع الحسد ومناصبة العداء وخصم هذا حاله فلا دواء له ؛ لأن المدلس لا يؤمن جانبه ، والمضلل لا يصدق ، والحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ومن جانب آخر فقد قطع الله الطمع عن إيمانهم أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ 2 \ 75 ] ، كما أيأس من إيمانهم بعد إقرارهم على أنفسهم بتغلف قلوبهم عن سماع الحق ورؤية النور : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون [ ص: 25 ] [ 2 \ 88 ] .

وكل هذه الصفات لم تكن موجودة في كل من شاق الله ورسوله من غير اليهود ، وقد صرح تعالى بأنهم استحقوا هذا الحكم للأسباب التي اختصوا بها دون غيرهم في قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض [ 2 \ 84 - 85 ] .

فكل ذلك من نقض الميثاق ، والغدر في الصلح ، وسفك الدماء ، والتظاهر بالإثم والعدوان ، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه ، كان خاصا باليهود ، فكانت العلة مركبة من المشاقة ، ومن هذه الصفات التي اختصوا بها ، وكان الحكم صريحا هنا بقوله عنهم : فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب [ 2 \ 85 ] ، وكان خزيهم في الدنيا هو ما وقع بهم من إخراج ، وتخريب ، وتقتيل .

وإن من كانت هذه حاله كما تقدم ، لم يكن لهم الاستئصال الكلي بإخراجهم أو تقتيلهم ، فلم يعد يصلح فيهم استصلاح ولا يتوقع منهم صلاح ، ويكفي شاهدا على ذلك أن بني قريظة لم يتعظوا ، ولم يستفيدوا ، ولم يعتبروا كما أمرهم الله : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] .

ما اتعظ بنو قريظة بما وقع بإخوانهم بني النضير ، فلجئوا بعد عام واحد إلى ما وقع فيه بنو النضير من غدر وخيانة ، فكان اختصاص اليهود بالحكم لتلك العلة المشتركة ؛ لأنهم وإن شاركهم غيرهم في المشاقة فلم يشاركهم غيرهم في الجانب الآخر مما قدمنا من دوافع المشاقة .

وللدوافع تأثير في الحكم ، كما في قصة آدم وإبليس ، فقد اشترك آدم وإبليس في عموم علة العصيان ، إذ نهي آدم عن قربان الشجرة ، وأمر إبليس بالسجود لآدم مع الملائكة ، فأكل آدم مما نهي عنه ، وامتنع إبليس عما أمر به فاشتركا في العصيان كما قال تعالى عن آدم : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وقال عن إبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، ولكن السبب كان مختلفا ، فآدم نسي ووقع تحت وسوسة [ ص: 26 ] الشيطان فخدع بقسم إبليس بالله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [ 7 \ 21 ] ، وكانت معصية عن إغواء ووسوسة : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [ 2 \ 36 ] .

أما إبليس ، فكان عصيانه عن سبق إصرار ، وعن حسد واستكبار كما قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] ، ولما خاطبه الله تعالى بقوله : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أأستكبرت أم كنت من العالين [ 38 \ 75 ] ، قال في إصراره وحسده وتكبره : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] .

فاختلفت الدوافع وكان لدى إبليس ما ليس لدى آدم في سبب العصيان وبالتالي اختلفت النتائج ، فكانت النتيجة مختلفة تماما . أما آدم فحين عاتبه على أكله من الشجرة في قوله تعالى : وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [ 7 \ 22 ] رجعا حالا ، واعترفا بذنبهما قائلين : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ 7 \ 23 ] ، وكانت العقوبة لهما قوله تعالى : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 7 \ 24 ] .

فكان هبوط آدم مؤقتا ، ولحقه قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] ، فأدركته هداية الله ، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 37 ] .

أما نتيجة إبليس فلما عاتبه تعالى في معصيته في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أأستكبرت أم كنت من العالين [ 38 \ 75 ] ، كان جوابه استعلاء ، وتعاظما ، على النقيض مما كان في جواب آدم إذ قال : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] ، فكان جوابه كذلك عكس ما كان جوابا على آدم : قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ 38 \ 77 - 78 ] .

ولقد قالوا : إن الذي جر على إبليس هذا كله هو الحسد ، حسد آدم على ما أكرمه الله به فاحتقره ، وتكبر عليه ، فوقع في العصيان ، وكانت نتيجته الطرد .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #536  
قديم 08-05-2023, 09:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (534)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 27 إلى صـ 34





[ ص: 27 ] وهكذا اليهود : إن داءهم الدفين هو الحسد ، والعجب بالنفس ، فجرهم إلى الكفر ، ووقعوا في الخيانة ، وكانت النتيجة القتل ، والطرد .

وقد بين الشيخ - رحمه الله - أن مشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه ، وعاقبهم عليه مرتين ، وتهددهم إن هم عادوا للثالثة عاد للانتقام منهم ، وهاهم قد عادوا ، وشاقوا الله ورسوله ، فسلط عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .

قال - رحمه الله - في سورة " الإسراء " عند قوله تعالى : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] ، لما بين تعالى أن بني إسرائيل قضي إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين - وبين نتائج هاتين المرتين - بين تعالى أيضا : أنهم إن عادوا للإفساد في المرة الثالثة ، فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم ، وذلك في قوله : وإن عدتم عدنا ، ولم يبين هنا هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا ؟ .

ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتم صفاته ، ونقض عهوده ، ومظاهرة عدوه عليه ، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة ، فعاد الله - جل وعلا - للانتقام منهم تصديقا لقوله : وإن عدتم عدنا ، فسلط عليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، وجرى على بني قريظة ، وبني النضير ، وبني قينقاع وخيبر ، ما جرى من القتل والسلب والإجلاء ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .

ومن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [ 2 \ 89 - 90 ] ، وقوله : الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم [ 2 \ 100 ] ، وقوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم [ 5 \ 13 ] ونحو ذلك من الآيات .

ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد إلى الانتقام منهم قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ ص: 28 ] [ 59 \ 2 - 4 ] ، وقوله : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم الآية [ 33 \ 26 - 27 ] ا هـ منه .

فهذا منه - رحمه الله - بيان ودليل إلى مغايرة المشاقة الواقعة من اليهود للمشاقة الواقعة من غيرهم ، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود ؛ لتخلف بعض العلة في الحكم كما قدمنا ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين .

اللينة هنا ، قيل : اسم عام للنخل ، وهذا اختيار ابن جرير .

وقيل : نوع خاص منه ، وهو ما عدا البرني والعجوة فقط .

ونقل ابن جرير عن بعض أهل البصرة يقول : اللينة من اللون ، وقال : وإنما سميت لينة ؛ لأنها فعلة من فعل وهو اللون ، وهو ضرب من النخل ، ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى ياء إلخ ، وهذا الأخير قريب مما عليه أهل المدينة اليوم ، حيث يطلقون كلمة : لونة على ما لا يعرفون له اسما خاصا ، ولعل كلمة لونة محرفة عن كلمة لينة ، ويوجد عند أهل المدينة من أنواع النخيل ما يقرب من سبعين نوعا .

وقيل : إن اللينة كل شجرة لليونتها بالحياة .

وقد نزلت هذه الآية في تقطيع وتحريق بعض النخيل لبني النضير عند حصارهم وقطع من البستان المعروف بالبويرة ، كما روى ابن كثير عن صاحبي الصحيحين ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير ، وقطع ، وهي البويرة فأنزل الله عز وجل : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله الآية .

وقال حسان رضي الله عنه :


وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير


والبويرة معروفة اليوم ، وهي بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء .

[ ص: 29 ] وقيل في سبب نزولها : إن اليهود قالوا : يا محمد إنك تنهى عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله الآية .

وقيل : إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل ، وقالوا : إنما هو مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطع من الإثم ، وأن قطع ما قطع وترك ما ترك : فبإذن الله وليخزي الفاسقين .

وعلى هذه الأقوال قال ابن كثير وغيره : إن قوله تعالى : فبإذن الله أي : الإذن القدري والمشيئة الإلهية ، أي كما في قوله تعالى : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله [ 3 \ 166 ] ، وقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه [ 3 \ 152 ] .

والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي ، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [ 22 \ 39 ] ؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة : الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به .

والحصار نوع من القتال ، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية ، أو لإحكام الحصار ، أو لإذلال وإرهاب العدو في حصاره وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله ، وممتلكاته ، وقد يكون فيه إثارة له ؛ ليندفع في حمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله ، فينكشف عن حصونه ويسهل القضاء عليه ، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية ، والتي أشار الله تعالى إليها في قوله : وليخزي الفاسقين أي : بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم ، وهم يرون نخيلهم يقطع ، ويحرق فلا يملكون له دفعا .

وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء ، وإزهاق الأنفس ، وما يترتب عليه من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر ، ويمكن أن يقال : إن ما أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبإذن الله أذن .

وبهذا يمكن أن يقال : إذا حاصر المسلمون عدوا ، ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته وأمواله ، فلا مانع من ذلك ، والله تعالى أعلم .

وغاية ما فيه ، أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو وأخذ جميع ماله ، وهذا له [ ص: 30 ] نظير في الشرع ، كعمل الخضر في سفينة المساكين لما خرقها ، أي أعابها بإتلاف بعضها ؛ ليستخلصها من اغتصاب الملك إياها ، وقال : وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] .

وقد جاء اعتراض المشركين على المسلمين في قتالهم في الأشهر الحرم ، كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل ، وذلك في قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [ 2 \ 217 ] .

فقد تعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة ، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام ، واتهموهم باعتداء على حرمة الأشهر الحرم ، فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله وكفر بالله ، وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه وهم المسلمون أكبر عند الله ، والفتنة عن الدين أكبر من القتل ، أي : الذي استنكروه من المسلمين .

وهكذا هنا لئن تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل ، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال فكيف بهم بغدرهم وخيانتهم نقضهم العهود ، وتمالئهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير ، وقتل ابن الأشرف :


لقد خزيت بغدرتها الحبور كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب عظيم أمره أمر كبير
وقد أوتوا معا فهما وعلما وجاءهم من الله النذير
إلى أن قال :


فلما أشربوا غدرا وكفرا وحاد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجور
فأيده وسلطه عليهم وكان نصيره نعم النصير


فقد أشار إلى أن خزي بني النضير بسبب غدرهم وكفرهم بربهم ، فكان الإذن في قطع النخيل هو إذن شرعي ، ويمكن أن يقال عنه هو عمل تشريعي إذا ما دعت الحاجة ، لمثل ما دعت الحاجة هنا إليه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 31 ] قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب .

الضمير في ( منهم ) هنا عائد على بني النضير .

والفيء : الغنيمة بدون قتال ، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة .

وقال : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء [ 59 \ 6 ] أي : لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب ، وبما سلط عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا الفيء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشاركه فيه غيره .

وقد جاء مصداق ذلك عن عمر - رضي الله عنه - الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث " الأنفال " عند قوله : المسألة التاسعة : اعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم ، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال لهما : إن الله كان خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه وبثها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ . ا هـ .

وكانت هذه خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي : عموما فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل [ 59 \ 7 ] .

وهذه الآية لعمومها مصدرا ومصرفا ، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة ، وقد تقدم لفضيلة الشيخ تغمده الله برحمته الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال [ 8 \ 1 ] ، فاستوفى واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل ، وما فتح من البلاد صلحا أو عنوة ، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه ، ولا غنى عنه ، والحمد لله تعالى .

قوله تعالى : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .

[ ص: 32 ] معنى الدولة والدولة بضم الدال في الأولى ، وفتحها في الثانية : يدور عند المفسرين على معنيين :

الدولة بالفتح : الظفر في الحرب وغيره ، وهي المصدر ، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال .

وقال الزمخشري : معنى الآية : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم .

ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ؛ لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة ، وكانوا يقولون : من عز بز ، والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به ، إلخ .

والجدير بالذكر هنا : أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة ، يحتجون بهذا الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون : يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورءوس الأموال ؛ لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء ، وما يسمونهم طبقة العمال ، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي ، وفساد اجتماعي ، قد ثبت خطؤه ، وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال .

لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة من الإنفاق على المجاهدين ، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور ، وليس يعطى للأفراد كما يقولون ، ثم هو أساسا مال جاء غنيمة للمسلمين ، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه .

ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص ، ولا هو أيضا كسب لشخص معين ، تحقق فيه العموم في مصدره ، وهو الغنيمة ، والعموم في مصرفه ، وهو عموم مصالح الأمة ، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه ، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل .

ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " الناس شركاء في ثلاثة : الماء والنار والكلأ " ، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة ما دامت على عمومها فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير . أما إذا انتقل من مورده العام ، وأصبح في حيازة ما فلا شركة لأحد فيه مع من حازه ، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه ، فما كان في إنائه فهو خاص به ، وهذا الكلأ [ ص: 33 ] ما دام عشبا في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين فهو عام لمن سبق إليه ، فإذا ما احتشه إنسان وحازه فلا شركة لأحد فيه ، وكذلك ما كان منه نابتا في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره .

ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع ، والطير في الهواء يصاد . فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين ، فإذا ما صاده إنسان فقد حازه واختص به ، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية ، وتعطى تراخيص رسمية لذلك .

وهناك العمل الجاري في تلك الدول ، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ ، وذلك في شركات المياه والنور ؛ فإنهم يجعلون في كل بيت عدادا يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه ، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه .

وكذلك التيار الكهربائي ؛ فإنه نار ، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات ، ويبيعونه على المستهلك ، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء ، شركة بين المواطنين ؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة ، أما حق الدولة فخاص للحكام ؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماما .

حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالا من مال العدو ، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها ، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها ، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة ( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) .

( فلله ) : أي الجهاد في سبيل الله .

( وللرسول ) : لقيامه بأمر الأمة ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاما ، وما بقي يرده في سبيل الله .

( ولذي القربى ) : من تلزمه نفقتهم .

[ ص: 34 ] ( واليتامى والمساكين ) : هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة .

( وابن السبيل ) : المنقطع في سفره ، وهذا تأمين للمواصلات .

فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .

وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله الآية [ 59 \ 7 ] ؛ لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس ، وهو موطن الشح والحرص ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس ، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك ، وهو في الميراث .

قسمه تعالى مبينا فروضه ، وحصة كل وارث ؛ لأنه كسب بدون مقابل ، وكسب إجباري . والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى ، وكذلك الفيء والغنيمة ، وحرم الغلول فيه قبل القسمة .

ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنما ، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه ، فإذا بهم يمنعون منه ، ويحال بينهم وبينه ، فيقسم المنقول فقط ، ولا يقسم العقار الثابت ، ويقال لهم : حدث هذا كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سواء الأغنياء بأبدانهم ، وقدرتهم على العمل ، وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك .

وكان لابد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال ، وفعلا ناقشوا عمر - رضي الله عنه فيه - ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت ، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص ، وهي به أقرب ، والمقام إليها أحوج .

وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا المعنى بالذات أي : معنى المشاركة في الأموال .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #537  
قديم 08-05-2023, 09:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (535)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 35 إلى صـ 42




لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم ، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية [ ص: 35 ] وإيثار ، ومع هذا فقد كان منه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته ، فيقول لأصحابه : " من يضيف هذا ، الليلة وله الجنة ؟ " فيأخذه بعض أصحابه ، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد ، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه ، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما يحملهم عليه ، ويأتيه القدح من اللبن ، فيدعو : " يا أهل الصفة " ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم ، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع ، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار ، منهم من يجهز الجيش من ماله ، ومنهم من يتصدق بالقافلة كاملة وما فيها ، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ، ومنهم ، فلم يأخذ قط ولا درهما واحدا ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل لم يأخذ منه درهما بدون رضاه ، ليشارك معه فيه واحدا من أهل الصفة ، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة ، يسد مسغبته ، ولا بعيرا واحدا ممن جهز جيشا من ماله ليحمل عليه متطوعا في سبيل الله .

إنها أموال محترمة ، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها ، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش ، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش ، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس ، إلا برضى نفس وطيب خاطر ، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون ، ويعطون ولا يشحون ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وكان مجتمعا متكافلا مؤتلفا متعاطفا وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى : للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى .

وللشيخ - رحمه الله تعالى - كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] ، نسوق نصه لأهميته :

قال رحمه الله : مسألة : دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ، ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ، ولا تحويلها بوجه من الوجوه ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع [ ص: 36 ] النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم ، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال ، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ؛ لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .

فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .

وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير ، وهذا غني ، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] ، وفي قوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا وعيد شديد لمن فعل ذلك . انتهى حرفيا .

والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق ، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم ، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده ، وفي الحديث القدسي : " إن من عبادي لمن يصلح له الفقر ، ولو أغنيته لفسد حاله ، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله " ، فهو سبحانه يعطي بقدر ، ولا يمسك عن قتر .

ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى - عليه في أسلوبها في قوله تعالى : نحن قسمنا [ 43 \ 32 ] ، وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم ، ومثله الضمير في " قسمنا " ، فلا مجال لتدخل المخلوق ، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك . والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها ، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه ، كما قال تعالى ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] .

وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك ، ويقرون نظام الطبقات عمالا وغير عمال ، إلخ ، فلا دليل في آية سورة " الحشر " هنا : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ ص: 37 ] ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .

قال الشيخ - رحمه الله تعالى - في المقدمة : إن السنة كلها مندرجة تحت هذه الآية الكريمة ، أي : أنها ملزمة للمسلمين العمل بالسنة النبوية ، فيكون الأخذ بالسنة أخذا بكتاب الله ، ومصداق ذلك قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .

وقد قال السيوطي : الوحي وحيان :

وحي أمرنا بكتابته ، وتعبدنا بتلاوته ، وهو القرآن الكريم .

ووحي لم نؤمر بكتابته ، ولم نتعبد بتلاوته وهو السنة .

وقد عمل بذلك سلف الأمة وخلفها ، كما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال في مجلسه بالمسجد النبوي : لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، فقالت امرأة قائمة عنده ، وفي كتاب الله ؟ قال : نعم ، قالت : لقد قرأته من دفته إلى دفته ، فلم أجد هذا الذي قلت ، فقال لها : لو كنت قرأتيه لوجدتيه ، أو لم تقرئي قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة ، ومن لعنها رسول الله فقد لعنها الله ، فقالت له : لعل بعض أهلك يفعله ؟ فقال لها : ادخلي وانظري فدخلت بيته ، ثم خرجت ولم تقل شيئا ، فقال لها : ما رأيت ؟ قالت : خيرا ، وانصرفت .

وجاء الشافعي وقام في أهل مكة ، فقال : سلوني يا أهل مكة عما شئتم أجبكم عنه من كتاب الله ، فسأله رجل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله ؟ فقال : يقول الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، وحدثني فلان عن فلان ، وساق بسنده إلى عمر بن الخطاب ، سئل : المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه ؟ فقال : لا شيء عليه .

فقد اعتبر سعيد بن المسيب السنة من كتاب الله ، والشافعي اعتبر سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ، واعتبر كل منهما جوابه من كتاب الله بناء على هذه الآية الكريمة .

[ ص: 38 ] وهذا ما عليه الأصوليون يخصصون بها عموم الكتاب ، ويقيدون مطلقه .

فمن الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " فخص بهذا الحديث عموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ 5 \ 3 ] ، وكذلك في النكاح : " لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا المرأة على خالتها " ، وخص بها عموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] ، ونحوه كثير .

ومن الثاني : قطعه - صلى الله عليه وسلم - يد السارق من الكوع تقييدا لمطلق : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وكذلك مسح الكفين في التيمم تقييدا أو بيانا لقوله تعالى : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [ 5 \ 6 ] ، ونحو ذلك كثير ، وكذلك بيان المجمل كبيان مجمل قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، فلم يبين عدد الركعات لكل وقت ، ولا كيفية الأداء فصلى - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهم ينظرون ، ثم قال لهم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحج وقال لهم : " خذوا عني مناسككم " .

وقد أجمعوا على أن السنة أقوال ، وأفعال ، وتقرير ، وقد ألزم العمل بالأفعال قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، والتأسي يشمل القول والفعل ، ولكنه في الفعل أقوى ، والتقرير مندرج في الفعل ؛ لأنه ترك الإنكار على أمر ما ، والترك فعل عند الأصوليين ، كما قال صاحب مراقي السعود :

والترك فعل في صحيح المذهب

تنبيه

تنقسم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدة أقسام :

أولا : ما كان يفعله بمقتضى الجبلة ، وهو متطلبات الحياة من أكل ، وشرب ، ولبس ، ونوم ، فهذا كله يفعله استجابة لمتطلبات الحياة ، وكان يفعله قبل البعثة ويفعله كل إنسان ، فهو على الإباحة الأصلية ، وليس فيه تشريع جديد ، ولكن صورة الفعل ، وكيفيته ككون الأكل والشراب باليمين إلخ ، وكونه من أمام الآكل ، فهذا هو موضع التأسي به - صلى الله عليه وسلم - وكذلك نوع المأكول أو تركه ما لم يكن لمانع كعدم أكله - صلى الله عليه وسلم - للضب والبقول المطبوخة ، وقد بين السبب في ذلك ، فالأول : لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه ، والثاني : لأنه يناجي من لا نناجي ، وقد قال صاحب المراقي :
وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس مله
[ ص: 39 ] من غير لمح الوصف . . .

ثانيا : ما كان مترددا بين الجبلة والتشريع كوقوفه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة راكبا على ناقته ، ونزوله بالمحصب منصرفه من منى ، فالوقوف الذي هو ركن الحج يتم بالتواجد في الموقف بعرفة على أية حالة ، فهل كان وقوفه - صلى الله عليه وسلم - راكبا من تمام نسكه ، أم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله دون قصد إلى النسك ؟ خلاف بين الأصوليين ، ولا يبعد من يقول : قد يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - هذا ؛ ليكون أبرز لشخصه في مثل هذا الجمع ، تسهيلا على من أراده لسؤال أو رؤية أو حاجة ، فيكون تشريعا لمن يكون في منزلته في المسئولية .

ثالثا : ما ثبتت خصوصيته به مثل جواز جمعه بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح لقوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك [ 33 \ 50 ] ، وكن أكثر من أربع ، ونكاح الواهبة نفسها لقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] فهذا لا شركة لأحد معه فيه .

رابعا : ما كان بيانا لنص قرآني ، كقطعه - صلى الله عليه وسلم - يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وكأعمال الحج والصلاة ، فهما بيان لقوله تعالى وأقيموا الصلاة [ 2 \ 43 ] ، وقوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، فهذا القسم حكمه للأمة ، حكم المبين بالفتح ، ففي الوجوب واجب ، وفي غيره بحسبه .

خامسا : ما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا لجبلة ولا لبيان ، ولم تثبت خصوصيته له ، فهذا على قسمين : أحدهما : أن يعلم حكمه بالنسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجوب ، أو ندب ، أو إباحة ، فيكون حكمه للأمة كذلك كصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وقد علمنا أنها في حقه - صلى الله عليه وسلم - جائزة ، فهي للأمة على الجواز . ثانيهما : ألا يعلم حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا القسم أربعة أقوال :

أولها : الوجوب عملا بالأحوط ، وهو قول أبي حنيفة ، وبعض الشافعية ، ورواية عن أحمد .

ثانيها : الندب لرجحان الفعل على الترك ، وهو قول بعض الشافعية ، ورواية عن أحمد أيضا .

[ ص: 40 ] ثالثها : الإباحة ؛ لأنها المتيقن ، ولكن هذا فيما لا قربة فيه ، إذ القرب لا توصف بالإباحة .

رابعها : التوقف لعدم معرفة المراد ، وهو قول المعتزلة ، وهذا أضعف الأقوال ؛ لأن التوقف ليس فيه تأس .

فتحصل لنا من هذه الأقوال الأربعة أن الصحيح الفعل تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوبا أو ندبا ، ومثلوا لهذا الفعل بخلعه - صلى الله عليه وسلم - نعله في الصلاة ، فخلع الصحابة كلهم نعالهم ، فلما انتهى - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن خلعهم نعالهم قالوا : رأيناك فعلت ففعلنا ، فقال لهم : " أتاني جبريل وأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتها " ، فإنه أقرهم على خلعهم تأسيا به ، ولم يعب عليهم مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم ، وقد جاء هنا ما تقولون بصيغة العموم .

وقال الشيخ - رحمه الله - في دفع الإيهام في سورة " الأنفال " عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] ، ما نصه : وهذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف .

وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، كقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .

وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، و من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .

والظاهر : أن وجه الجمع والله تعالى أعلم : أن آيات الإطلاق مبينة أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .

والحاصل : أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك ، صلوات [ ص: 41 ] الله وسلامه عليه ، انتهى .

وقد بينت السنة كذلك حقيقة ومنتهى ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " ما تركت خيرا يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به ، وما تركت شرا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم ، وحذرتكم منه ونهيتكم عنه " .
تنبيه

الواقع أن العمل بهذه الآية الكريمة هو من لوازم نطق المسلم بالشهادتين ؛ لأن قوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، اعتراف لله تعالى بالألوهية وبمستلزماتها ، ومنها إرسال الرسل إلى خلقه ، وإنزال كتبه وقوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، اعتراف برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الله لخلقه ، وهذا يستلزم الأخذ بكل ما جاء به هذا الرسول الكريم من الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما جاءه به رسول الله ، ولا يحق له أن يعصي الله بما نهاه عنه رسول الله ، فهي بحق مستلزم للنطق بالشهادتين .

ويؤيد هذا قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] فربط مرد الخلاف إلى الله والرسول بالإيمان بالله واليوم الآخر .

وقال الشيخ - رحمه الله - عند هذه الآية في " سورة النساء " : أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالى قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] انتهى .

فاتضح بهذا كله أن ما أتانا به - صلى الله عليه وسلم - فهو من عند الله ، وأنه بمنزلة القرآن في التشريع ، وأن السنة تستقل بالتشريع كما جاءت بتحريم لحوم الحمر الأهلية . وكل ذي مخلب من الطير وناب من السباع ، وبتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، أو هي مع ابنة أخيها أو ابنة أختها ونحو ذلك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة أهله يقول : ما وجدنا في كتاب الله أخذناه ، وما لم نجده في كتاب الله تركناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " .

والنص هنا عام في الأخذ بكل ما أتانا به ، وترك ما نهانا عنه ، وقد جاء تخصيص هذا [ ص: 42 ] العموم في قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ 24 \ 61 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] .

وجاء الحديث ففرق بين عموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا " ، وقد جاء هذا التذييل على هذه الآية بقوله تعالى : واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 5 \ 2 ] ، إيذانا بأن هذا التكليف لا هوادة فيه ، وأنه ملزم للأمة سرا وعلنا ، وأن من خالف شيئا منه يتوجه إليه هذا الإنذار الشديد ؛ لأن معصيته معصية لله ، وطاعته من طاعة الله : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .

في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة ، أنهم : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وغايتها ، وهي : وينصرون الله ورسوله ، والحكم لهم بأنهم : أولئك هم الصادقون .

ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين ، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه ، منها قوله تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [ 8 \ 72 ] ، وقوله تعالى بعدها : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا [ 8 \ 74 ] .

فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معا بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معا حقيقة الإيمان : أولئك هم المؤمنون حقا ، أي : الصادقون في إيمانهم ، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #538  
قديم 08-05-2023, 09:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (536)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 43 إلى صـ 50


وفي قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ ص: 43 ] [ 59 \ 9 ] ، وصف شامل للأنصار ، ( تبوءوا الدار ) أي : المدينة ، ( والإيمان من قبلهم ) أي : بيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين ، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين ، ( يحبون من هاجر إليهم ) ويستقبلونه بصدور رحبة ، ( ويؤثرون ) غيرهم ( على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) ، لأنهم هاجروا إليهم .

وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات ، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم ، وهو الإيثار على النفس ، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدما غيره على نفسه ، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم [ 59 \ 8 ] ، فكانت لهم ديار ، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها ، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم ، وقاسموهم ممتلكاتهم ، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب ، بل تركوها كلها : أموالهم ، وديارهم ، وأولادهم ، وأهلهم ، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم ، ومن يخرج من كل ماله ودياره ، ويترك أهله وأولاده لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله ، وهو مستقر في أهله ودياره ، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم .

وقد ذكر ابن كثير رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " فقالوا يا رسول الله ! أموالنا بيننا قطائع الحديث .

أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين ، وعليه أيضا ، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم ، وكان خلقا لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق - رضي الله عنه - حين تصدق بكل ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله ، وكذلك عائشة الصديقة - رضي الله عنها - حينما كانت صائمة ، وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة : ادفعي إليه ما عندك ، فقالت لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه ، فقالت لها : ادفعيه إليه ، ولعلها أحوج إليه الآن ، أو كما قالت .

ولما جاء المغرب أهدي إليهم رجل شاة بقرامها - وقرامها هو ما كانت العرب تفعله [ ص: 44 ] إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظا لها من رماد الجمر - فقالت لبريرة : كلي ، هذا خير من قرصك .

وكما فعل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها .

فعلى هذا كان مجتمع المدينة في عهده - صلى الله عليه وسلم - مجتمعا متكافلا بعضهم أولياء بعض ، وقد نوه - صلى الله عليه وسلم - في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم : " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " .

ومن بعده عمر - رضي الله عنه - قال : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان ، من قبل أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم .

ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعا ، كما وقع في وقعة اليرموك ، قال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه ، فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمع آخر يقول آه آه ، فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .

وكان منهج الخواص من بعدهم ، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ، قدم علينا حاجا فقال لي : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا ، وإن فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاببلخ عندنا ، فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا .

وفي قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، الإيثار على النفس : تقديم الغير عليها مع الحاجة ، والخصاصة : التي تختل بها الحال ، وأصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد في الأمر ، فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي : ولو كان بهم فاقة وحاجة ، ومنه قول الشاعر :


أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر


[ ص: 45 ] وهل يصح الإيثار من كل إنسان ، ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا ؟ وما علاقته مع قوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو [ 2 \ 219 ] ؟ .

والجواب على هذا كله في كلام الشيخ - رحمه الله - على قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] ، في أول سورة " البقرة " .

قال رحمه الله : قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ما له كله ، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه ، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة ، وسد الخلة التي لابد منها ، وذلك كقوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى : حتى عفوا [ 7 \ 95 ] أي : كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم .

وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع .

ومنه قول الشاعر :


خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب


وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة ، وقوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، فنهاه عن البخل بقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ونهاه عن الإسراف بقوله : ولا تبسطها كل البسط ، فيتعين الوسط بين الأمرين ، كما بينه بقوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .

فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير ، وبين البخل والإقتار ، فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم ، وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضا ، وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ولا تبسطها كل البسط

[ ص: 46 ] وقد قال الشاعر :


لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما


وقد بين تعالى في مواضع أخرى أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله كقوله تعالى : قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين 1 الآية [ 2 \ 215 ] ، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله : فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة الآية [ 8 \ 36 ] .

وقد قال الشاعر :


إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع


فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] .

فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم : هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا ، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا ، وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب ، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم : " وابدأ بمن تعول " ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ، فلا يجوز له ذلك ؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة ، وكان واثقا من نفسه بالصبر ، والتعفف ، وعدم السؤال .

وأما على القول بأن قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون يعني به الزكاة ، فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى . انتهى منه .

والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة :

الأولى : الإنفاق من بعض المال بصفة عامة ، كما في قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون .

[ ص: 47 ] الثانية : الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه ، كما في قوله تعالى : وآتى المال على حبه [ 2 \ 177 ] ، وهذا أخص من الأول ، وقوله : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا الآية [ 76 \ 8 ] .

الثالثة : الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فهي أخص من الخاص الأول .

وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب ، حتى قيل : إن المراد بها الزكاة ، وهي تشمل النافلة ، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة ، وتدخل في قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] ، وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى ؛ لأنها إيثار للغير على خاصة النفس ، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما ، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب ، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس ، كما بينه تعالى بقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، وكما امتدح الله تعالى قوما بالاعتدال في قوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .

وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة : الفضيلة وسط بين طرفين أي : طرفي الإفراط والتفريط ، فالشجاعة مثلا وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين التبذير والتقتير .

وللإنفاق جوانب متعددة ، وأحكام متفاوتة ، قد بين الشيخ - رحمه الله - جانبا من الأحكام ، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى ، وتنحصر في الآتي : نوع ما يقع منه الإنفاق ، الجهة المنفق عليها ، موقف المنفق ، وصورة الإنفاق .

أما ما يقع منه الإنفاق : قد بينه تعالى أولا من كسب حلال لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد [ 2 \ 267 ] .

وقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ 3 \ 92 ] .

أما الجهة المنفق عليها : فكما في قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم [ ص: 48 ] [ 2 \ 215 ] فبدأ بالوالدين برا لهما ، وثنى بالأقربين .

وقال صلى الله عليه وسلم : " الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة " ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي ، لأن يتيم اليوم منفق الغد ، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيما غدا ، أي : أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاما ، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس ، " والمساكين وابن السبيل " أمور عامة .

وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها وما تفعلوا من خير أي : مطلقا فإن الله به عليم [ 2 \ 215 ] ، وكفى في ذلك علمه تعالى .

أما موقف المنفق وصورة الإنفاق : فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام ، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب ، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم .

لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين ، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة ، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 262 ] .

ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم [ 2 \ 263 ] يعطي ولا يمن بالعطاء .

وأفهم المنفقين أن المن والأذى يبطل الصدقة : ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] لما فيه من جرح شعور المسكين .

وقد حث على إخفائها إمعانا في الحفاظ على شعوره وإحساسه : إن تبدوا الصدقات فنعما هي أي : مع الآداب السابقة وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] أي : لكم أنتم في حفظ ثوابها .

وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله " رجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه " ، وكما قال تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] .

[ ص: 49 ] ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ ، وذلك في قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [ 2 \ 273 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .

في هذه الآية الكريمة حث على تقوى الله في الجملة ، واقترنت بالحث على النظر والتأمل فيما قدمت كل نفس لغد ، وتكرر الأمر فيها بتقوى الله ، مما يدل على شدة الاهتمام والعناية بتقوى الله على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله ، سواء كان التكرار للتأكيد أم كان للتأسيس ، وسيأتي بيانه إن شاء الله .

أما الاهتمام بالحث على التقوى ، فقد دلت له عدة آيات من كتاب الله تعالى ، ولو قيل : إن الغاية من رسالة الإسلام كلها ، بل ومن جميع الأديان هو تحصيل التقوى لما كان بعيدا ، وذلك للآتي :

أولا : قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] ، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته ، فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الإنس والجن . وقد جاء النص مفصلا في حق كل أمة على حدة ، منها في قوم نوح - عليه السلام - قال تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 105 - 108 ] ، وفي قوم عاد قال تعالى : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 123 - 126 ] ، وفي قوم لوط : كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 160 - 163 ] ، وفي قوم شعيب قوله تعالى : كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ ص: 50 ] [ 26 \ 176 - 179 ] .

فكل نبي يدعو قومه إلى التقوى كما قدمنا ، ثم جاء القرآن كله دعوة إلى التقوى وهداية للمتقين ، كما في مطلع القرآن الكريم : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] وبين نوع هذه الهداية المتضمنة لمعنى التقوى بقوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 3 - 5 ] .

وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - معنى التقوى عند قوله تعالى : ولكن البر من اتقى [ 2 \ 189 ] .

قال : لم يبين هنا من المتقي ، وقد بينه تعالى في قوله : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ 2 \ 177 ] .

وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل .

منها في العاجل قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ 65 \ 4 ] ، وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] ، وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #539  
قديم 08-05-2023, 09:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (537)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 51 إلى صـ 58


أما في الآجل وفي الآخرة ، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف ، كما في قوله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون [ ص: 51 ] إلى قوله : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 67 - 73 ] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين ، وتحلهم مقعد صدق ، كما في قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [ 54 \ 54 - 55 ] .

فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية ، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها ، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله ، وهو لجرير :


ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد فتقوى الله خير الزاد ذخرا
وعند الله للأتقى مزيد


والتقوى دائما هي الدافع على كل خير ، الرادع عن كل شر ، روى ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد في مجيء قوم من مضر ، مجتابي الثمار والعباءة ، حفاة عراة متقلدي السيوف ، فيتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا ينادي للصلاة ، فصلى ثم خطب الناس وقرأ قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة [ 4 \ 1 ] إلى آخر الآية ، وقرأ الآية التي في سورة " الحشر " : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد الآية [ 59 \ 18 ] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " الحديث . فكانت التقوى دافعا على سن سنة حسنة تهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كما أنها تحول دون الشر ، من ذلك قوله تعالى : وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا [ 2 \ 282 ] ، وقوله : فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه [ 2 \ 283 ] ، فإن التقوى مانعة من بخس الحق ومن ضياع الأمانة ، وكقوله عن مريم في طهرها وعفتها لما أتاها جبريل وتمثل لها بشرا سويا : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ 19 \ 18 ] .

[ ص: 52 ] وكما في حديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار ، ومنهم الرجل مع ابنة عمه لما قالت له : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقام عنها وترك لها المال .

وهكذا في تصرفات العبد كما في قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [ 22 \ 32 ] .

والخطاب في قوله تعالى : ولتنظر نفس [ 59 \ 18 ] ، لكل نفس كما في قوله تعالى : ثم توفى كل نفس ما كسبت [ 2 \ 281 ] وقوله : ووفيت كل نفس ما كسبت [ 3 \ 25 ] .

فالنداء أولا بالتقوى لخصوص المؤمنين ، والأمر بالنظر لعموم كل نفس ؛ لأن المنتفع بالتقوى خصوص المؤمنين كما أوضحه الشيخ - رحمة الله عليه - في أول سورة البقرة ، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق ، والعموم للتحذير .

ويدل للأول قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما [ 33 \ 43 ] .

ويدل للثاني قوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [ 3 ] ، وما في قوله تعالى : ما قدمت [ 59 \ 18 ] عامة في الخير والشر ، وفي القليل والكثير .

ويدل للأول قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .

ويدل للثاني قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، والحديث " اتقوا النار ولو بشق تمرة " .

وغدا تطلق على المستقبل المقابل للماضي ، كما قال الشاعر :


وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم


وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى عن إخوة يوسف : أرسله معنا غدا يرتع ويلعب [ 12 \ 12 ] ، وقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .

[ ص: 53 ] وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك ، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .

والقرائن في الآية منها : اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده .

ومنها : التذييل بالتحذير في قوله : إن الله خبير بما تعملون [ 59 \ 18 ] أي : بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن ، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان ، فاحتاج التنبيه عليه .

ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [ 16 \ 77 ] .

ومن ناحية أخرى ، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته ، لأنه يعاين ما قد قدم يوم موته ، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا فقيل في الأول لقلة من الناظرين ، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله .

وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين ، فقيل للتأكيد ، قاله ابن كثير ، وقيل للتأسيس ، قاله الزمخشري وغيره .

فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور ، مستدلين بمجيء موجب الفعل أولا : ولتنظر نفس ما قدمت ، ومجيء موجب التحذير ثانيا : إن الله خبير بما تعملون .

وهذا وإن كان له وجه ، ويشهد للتأكيد قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ 3 \ 102 ] ، وإن كانت نسخت بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، فيدل لمفهومه قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ 9 \ 102 ] أي : بترك بعض المأمور ، وفعل بعض المحظور .

وعليه فلا تتحقق التقوى إلا بمراعاة الجانبين ، ولكن مادة التقوى وهي اتخاذ الوقاية مما يوجب عذاب الله تشمل شرعا الأمرين معا لقوله تعالى في عموم اتخاذ الوقاية : قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ ص: 54 ] [ 66 \ 6 ] .

فكان أحد الأمرين بالتقوى يكفي لذلك ويشمله ، ويكون الأمر بالتقوى الثاني لمعنى جديد ، وفي الآية ما يرشد إليه ، وهو قوله تعالى : ما قدمت ، لأن " ما " عامة كما قدمنا وصيغة " قدمت " على الماضي يكون الأمر بتقوى الله أولا بالنسبة لما مضى وسبق من عمل تقدم بالفعل ، ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل على معنى الحديث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " فقد ذكره ابن كثير .

فإذا ما نظر في الماضي وحاسب نفسه ، وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور ، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه : والله بما تعملون خبير [ 2 \ 234 ] ، فلا يكون هناك تكرار ، ولا يكون توزيع ، بل بحسب مدلول عموم " ما " وصيغة الماضي " قدمت " والنظر للمحاسبة .
تنبيه

مجيء " قدمت " بصيغة الماضي حث على الإسراع في العمل ، وعدم التأخير ؛ لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي ، والمستقبل ليس بيده ، ولا يدري ما يكون فيه : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ 31 \ 34 ] ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : " حجوا قبل ألا تحجوا " ، وقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم [ 3 \ 133 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] .

بعد الحث على تقوى الله ، وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذا النسيان ، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا .

وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة " التوبة " : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [ 9 \ 67 ] ، وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة " الحشر " وقوله تعالى : فنسيهم أي : أنساهم أنفسهم ؛ لأن الله تعالى لا ينسى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 2 \ 52 ] ، وما كان ربك نسيا [ ص: 55 ] [ 19 \ 64 ] .

وقد جاء أيضا وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة ، ففي اليهود يقول تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 13 ] .

وفي النصارى يقول تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 14 ] .

وفي المشركين يقول تعالى : الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، فيكون التحذير منصبا أصالة على المنافقين وشاملا معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعا في أصل النسيان .

أما النسيان هنا ، فهو بمعنى الترك ، وقد نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند الكلام على قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 126 ] .

فذكر وجهين ، وقال : العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] .

فالمراد من هذه الآية الترك قصدا .

وكقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] .

وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الآية [ 59 \ 19 ] ، انتهى .

أما النسيان الذي هو ضد الذكر ، وهو الترك عن غير قصد ، فليس داخلا هنا ؛ لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه ، كما في قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] .

وفي الحديث أن الله تعالى قال : " قد فعلت ، قد فعلت " أي : عندما تلاها صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 56 ] وجاء في السنة : " إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم ، هل كان عن قصد أو عن غير قصد ، وإذا كان عن غير قصد فكيف يؤاخذ ؟ وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب - رحمة الله تعالى عليه - فليرجع إليه .

وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان ، وتبين معنى النسيان ، فكيف أنساهم الله أنفسهم ؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان :

قال ابن كثير رحمه الله : لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح ؛ فإن الجزاء من جنس العمل .

وقال القرطبي : نسوا الله أي : تركوا أمره ، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرا .

وقال أبو حيان : الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله ، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب . . . إلخ .

وقال ابن جرير : تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل .

أما الزمخشري ، والفخر الرازي فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثا كلاميا حيث قالا في معنى : نسوا الله ، كما قال الجمهور ، أما في معنى : فأنساهم أنفسهم ، فذكرا وجهين : الأول : كالجمهور ، والثاني : بمعنى أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 2 ] ا هـ .

وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما ؛ لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة ، وليس خاصا بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها : وترى الناس سكارى [ ص: 57 ] فهو عام في جميع الناس .

وقوله : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ 22 \ 2 ] ، والذهول أخو النسيان ، وهو هنا عام في كل مرضعة : وتضع كل ذات حمل حملها [ 22 \ 2 ] وهو أيضا عام ، وذلك من شدة الهول يوم القيامة ، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه ، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله ، وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى .

ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] ، وكما في قوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] وقوله : عن صاحب يوسف : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ 12 \ 42 ] .

ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني ، وأنها كلها من الله : قل كل من عند الله [ 4 \ 78 ] ، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [ 9 \ 51 ] ، فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 \ 102 ] ، ثم قال : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 \ 102 ] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفين [ 26 \ 80 ] تأدبا في الخطاب مع الله تعالى ، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم ، فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم ، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] .

تنبيهان

الأول : جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] .

وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] .

وقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع [ ص: 58 ] الإشكال مع قوله تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] وقوله : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .

وقد أجاب الشيخ - رحمة الله عليه - عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم ، والمنفي عنه تعالى هو الذي بمعنى السهو ؛ لأنه محال على الله تعالى .

التنبيه الثاني : مما نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مقدمة الأضواء أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد ، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] ، وهذا القول يكون يوم القيامة ، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال ، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة ، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة ، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد ، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة ، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل ، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك ، وكان قوله تعالى : فأنساهم أنفسهم [ 59 \ 19 ] مفسرا ومبينا لمعنى : اليوم ننساكم [ 45 \ 34 ] ولقوله إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون . دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين : أصحاب النار وأصحاب الجنة ، وهذا أمر معلوم بداهة ، ولكن جاء التنبيه عليه لشدة غفلة الناس عنه ، ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية ، كمن يسيء إلى أبيه فتقول له : إنه أبوك ، قاله بعض المفسرين .

وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر ، أي : يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة : لينالوا الفوز .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #540  
قديم 08-05-2023, 09:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (538)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 59 إلى صـ 66


وهذا البيان قد جاءت نظائره عديدة في القرآن كقوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] [ ص: 59 ] وكقوله : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ 32 \ 18 ] أي : في الحكم عند الله ، ولا في الواقع في الحياة أو في الآخرة ، كما قال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] ، وهنا كذلك : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة [ 59 \ 20 ] في المرتبة والمنزلة والمصير .

قال أبو حيان : هذا بيان مقابلة الفريقين أصحاب النار في الجحيم ، وأصحاب الجنة في النعيم ، والآية عند جمهور المفسرين في بيان المقارنة بين الفريقين ، وهو ظاهر السياق بدليل ما فيها من قوله : أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] فهذا حكم على أحد الفريقين بالفوز ، ومفهومه الحكم على الفريق الثاني بالهلاك والخسران ، ويشهد له أيضا ما قبلها ولا تكونوا كالذين نسوا الله [ 59 \ 19 ] أي : من هذا الفريق فأنساهم أنفسهم ، فصاروا أصحاب النار على ما سيأتي بيانه إن شاء الله .

وهنا احتمال آخر ، وهو لا يستوي أصحاب النار في النار ولا أصحاب الجنة في الجنة ، فيما هم فيه من منازل متفاوتة كما أشار إليه أبو حيان عند قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 \ 34 ] ، ولكن عدم وجود اللام هنا يجعله أضعف احتمالا ، وإلا لقال : لا يستوي أصحاب النار ، ولا أصحاب الجنة ، وهذا المعنى ، وإن كان واقعا لتفاوت درجات أهل الجنة في الجنة ، ومنازل أهل النار في النار ، إلا أن احتماله هنا غير وارد ؛ لأن آخر الآية حكم على مجموع أحد الفريقين ، وهم أصحاب الجنة أي في مجموعهم كأنه في مثابة القول : النار والجنة لا يستويان ، فأصحابهما كذلك .

وقد نبه أبو السعود على تقديم أصحاب النار ، في الذكر على أصحاب الجنة بأنه ليبين لأول وهلة أن النقص جاء من جهتهم كما في قوله : هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور [ 13 \ 16 ] ا هـ .

وبيان ذلك أن الفرق بين المتفاوتين في الزيادة والنقص ، يمكن اعتبار التفاوت بالنسبة إلى النقص في الناقص ، ويمكن اعتباره بالنسبة إلى الزيادة في الزائد .

فقدم الجانب الناقص ؛ ليبين أن التفاوت الذي حصل بينهما ، إنما هو بسبب النقص الذي جاء منهما لا بسبب الزيادة في الفريق الثاني ، والنتيجة في ذلك عدم إمكان جانب [ ص: 60 ] النقص الاحتجاج على جانب الزيادة ، وفيه زيادة تأنيب لجانب النقص ، وفي الآية إجمال أصحاب النار وأصحاب الجنة .

ومعلوم أن كلمة أصحاب تدل على الاختصاص ، فكأنه قال : أهل النار وأهل الجنة المختصون بهما .

وقد دل القرآن أن أصحاب النار هم الكفار كما قال تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 64 \ 10 ] .

والخلود لا خروج معه كما في قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، إلى قوله : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 165 - 167 ] ، وكقوله في سورة " الهمزة " : يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 3 - 8 ] أي : مغلقة عليهم .

أما أصحاب الجنة فهم المؤمنون كقوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ 46 \ 13 - 14 ] ، وقد جمع القسمين في قوله تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [ 2 \ 81 ] .

كما جاء مثل هذا السياق كاملا متطابقا فيفسر بعضه بعضا كما قدمنا ، وذلك في سورة التوبة قال تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم [ 9 \ 67 - 68 ] .

فهذه أقسام الكفر والنفاق ، وأخص أصحاب النار والاختصاص من الخلود فيها ولعنهم وهي حسبهم ، وهم الذين نسوا الله فنسيهم ، وهم عين من ذكر في هذه السورة سورة " الحشر " ثم جاء مقابلة تماما في نفس السياق في قوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم [ ص: 61 ] [ 9 \ 71 - 72 ] .

وهذه أيضا أخص صفات أهل الجنة ، من الرحمة والرضوان ، والخلود ، والإقامة الدائمة في جنات عدن ، إذ العدن الإقامة الدائمة ، ومنها المعدن لدوام إقامته في مكانه ، ورضوان من الله أكبر .

ثم يأتي الختام في المقامين متحدا ، وهو الحكم بالفوز لأصحاب الجنة ، ففي آية " التوبة " : ذلك هو الفوز العظيم وفي آية " الحشر " : أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] ، وبهذا علم من هم أصحاب النار ، ومن هم أصحاب الجنة .

وتبين ارتباط هذه المقابلة بين هذين الفريقين ، وبين ما قبلهم ممن نسوا فأنساهم أنفسهم ، ومن اتقوا الله وقدموا لغدهم ، وبهذا يعلم أن عصاة المسلمين غير داخلين هنا في أصحاب النار ، لما قدمنا من أن أصحاب النار هم المختصون بها ممن كفروا بالله وكذبوا بآياته ، وكما يشهد لهذا قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 71 - 72 ] ، والظالمون هنا هم المشركون في ظلمهم أنفسهم .

وبهذا يرد على المعتزلة أخذهم من هذه الآية عدم دخول أصحاب الكبيرة الجنة على أنهم في زعمهم لو دخلوها لاستووا مع أصحاب الجنة .

وهذا باطل كما قدمنا ، ومن ناحية أخرى يرد بها عليهم ، وهي أن يقال : إذا خلد العصاة في النار على زعمكم مع ما كان منهم من إيمان بالله وعمل صالح فماذا يكون الفرق بينهم وبين الكفار والمشركين ، وتقدم قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض [ 38 \ 28 ] .

وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - مسألة بقاء العصاة وخروجهم من النار وخلود الكفار فيها بحثا واسعا في دفع إيهام الاضطراب في سورة " الأنعام " فليرجع إليه .

وقد استدل الشافعي - رحمه الله - بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بكافر [ ص: 62 ] ؛ لأنهما لا يستويان ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر ، ذكره الزمخشري .

وهذا وإن كان حقا إلا أن أخذه من هذه الآية فيه نظر ؛ لأنها في معرض المقارنة للنهاية يوم القيامة .
قوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .

وقوله تعالى : لو أنزلنا يدل على أنه لم ينزله ، وأنه ذكر على سبيل المثال ؛ ليتفكر الناس في أمره كما قال تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى الآية [ 13 \ 31 ] .

قال الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عندها : جواب ( لو ) محذوف .

قال بعض العلماء : تقديره لكان هذا القرآن . . . إلخ . ا هـ .

وقال ابن كثير : يقول تعالى معظما لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد : لو أنزلنا هذا القرآن الآية [ 59 \ 21 ] .

فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل .

فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم ، وتخشع ، وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وقد تدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] .

وقد وجد لبعض الناس شيئا من ذلك عند سماع آيات من القرآن ، من ذلك ما رواه ابن كثير في سورة " الطور " عن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج عمر - رضي الله عنه - يعس بالمدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ : والطور [ 52 \ 1 ] حتى بلغ : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 7 - 8 ] قال : قسم ورب الكعبة حق ، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ، ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه .

[ ص: 63 ] وذكر القرطبي : قال جبير بن مطعم قدمت المدينة ؛ لأسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب والطور إلى قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ، فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب .

وذكر في خبر مالك بن دينار أنه سمعها فجعل يضطرب حتى غشي عليه .

وقد نقل السيوطي في الإتقان خبر مالك بن دينار بتمامه في فصل إعجاز القرآن .

وقال : قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف ، وقد ينشأ هنا سؤال كيف يكون هذا تأثير القرآن لو أنزل على الجبال ولم تتأثر به القلوب ؟ وقد أجاب القرآن عن ذلك في قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ 2 \ 74 ] ، وكذلك أصموا آذانهم عن سماعه ، وغلفوا قلوبهم بالكفر عن فهمه ، وأوصدوها بأقفالها فقالوا : قلوبنا غلف [ 2 \ 88 ] ، وكذلك قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] أي : بسبب الإعراض وعدم التدبر والنسيان ، ولذا قال تعالى عنهم : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] فهذه أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن كما قال الشاعر :


إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر


ويفهم منه بمفهوم المخالفة أن المؤمنين تخشع قلوبهم ، وتلين جلودهم ، كما نص تعالى عليه بقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : لو أنزلنا يدل على أنه لم ينزله على جبل ولم يتصدع منه .

وقد جاء في القرآن ما يدل عليه لو أنزله من ذلك قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] .

وهذا نص صريح لأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة وهي أمانة التكليف بمقتضى [ ص: 64 ] خطاب الله تعالى إياها .

فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت به .

ومنها : أن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكا ، وخر موسى صعقا ، والقرآن كلام الله وصفة من صفاته ، فهو شاهد وإن لم يكن نصا .

ومنها النص على أن بعض الجبال التي هي الحجارة ليهبط من خشية الله لقوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] .

وقد جاء في السنة إثبات ما يشبه ذلك في جبل أحد ، حينما صعد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان - رضي الله عنهما - فارتجف بهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اثبت أحد ؛ فإنما عليك نبي ، وصديق ، وشهيد " .

وسواء كان ارتجافه إشفاقا أو إجلالا فدل هذا كله على أنه تعالى وإن لم ينزل القرآن على جبل أنه لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى : خاشعا متصدعا من خشية الله .

وبهذا أيضا يتضح أن جواب ( لو ) في قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال [ 13 \ 31 ] لكان هذا القرآن أرجح من تقديرهم لكفرتم بالرحمن ؛ لأن موضوع تسيير الجبال وخشوعها وتصديعها واحد ، وهو الذي قدمه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هناك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .

الأمثال : جمع مثل ، وهو مأخوذ من المثل ، وأصل المثل الانتصاب ، والممثل بوزن اسم المفعول المصور على مثال غيره .

قال الراغب الأصفهاني ، يقال : مثل الشيء إذا انتصب وتصور ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار " ، والتمثال : الشيء المصور ، وتمثل كذا تصور قال تعالى : فتمثل لها بشرا سويا [ 19 \ 17 ] .

[ ص: 65 ] والمثل : عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، نحو قولهم : الصيف ضيعت اللبن ، فإن هذا القول يشبه قولك : أهملت وقت الإمكان أمرك ، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] .

وفي آية أخرى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .

والمثال يقال على وجهين :

أحدهما : بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به ، قال بعضهم : وقد يعبر بهما عن وصف الشيء ، نحو قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون .

والثاني : عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان ، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة .

وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط .

والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط .

والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط .

والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط ، والمثل عام في جميع ذلك .

ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] . . . إلخ . ا هـ .

فقوله في تعريف المثل إنه عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ، بينهما مشابهة ؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره .

فإنهم اتفقوا على أن القول لا يتغير بل يحكى على ما قيل أولا كقولهم : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء خطابا للمؤنثة .

فلو قيل لرجل أهمل وقت الإمكان ثم راح يطلبه بعد فواته ، لقلت له : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء على الحكاية .

[ ص: 66 ] وهذا مما يسمى الاستعارة التمثيلية من أبلغ الأساليب ، وأكثر ما في القرآن من أمثلة إنما هو من قبيل التشبيه التمثيلي ، وهو تشبيه صورة بصورة ، وهو من أوضح أساليب البيان .

وقد ساق الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عددا منها في الجزء الرابع عند قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] ، ومن أهم أغراض هذا النوع من التشبيه هو بيان صورة بصورة وجعل الخفي جليا ، والمعنوي محسوسا كقوله تعالى : له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه [ 13 \ 14 ] .

فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة ، وفي تلك الصورة بكل أجزائها ، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه ، وهو فاغر فاه ؛ ليشرب ، لقلت : وأي جدوى تعود عليه ، ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة ، إنه يموت عطشا ولا يذوق منه قطرة .

وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت .

وكذلك أي غناء في ولاية غير الله فكذلك الحال هنا ، أريد بالأمثال صور يصور لانتزاع الحكم من السامع بعد أن تصبح الصورة محسوسة ملموسة ، وانظر قوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ 2 \ 187 ] وكيف غطى وأخفى في هذا الأسلوب ما يستحى منه وأبرزه بلباسه في التشبيه بما يتقى به ، ومدى مطابقة معنى اللباس لحاجة كل من الزوجين للآخر ، وتلك في قوله تعالى : وتلك الأمثال [ 59 \ 21 ] عائدة إلى الأمثلة المتقدمة قريبا في عمل المنافقين مع اليهود ونتائج أعمالهم ، وهكذا كل موالاة بين غير المسلمين وكل معاداة وانصراف عما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 329.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 323.98 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]