|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() إِضَاءَاتٌ منهجِيَّة من بعضِ مواقفِ الإمام مالك العَقَدِيَّة محفوظ بن ضيف الله شيحاني إنَّ الحمدَ لله نحمدهُ، ونستعينُه، ونستغفره، ونعوذُ بالله من شُرورِ أنفسنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله؛أمَّا بعد: فلقد كان الإمام مالك بن أنس (رحمه الله) - وهو إمام دار الهجرة، وشيخ الإسلام، وفقيه الأمَّة، وأحد "العلماء الجهابذة النُّقاد الذين جعلهم الله عَلَمًا للإسلام، وقُدوةً في الدِّين"[1] -: صاحب عقيدة صَّحيحة وراسِخة، سَلفيَّة أثرِيَّة نَقيَّة، صافية من الشَّوائِب والبدع، بعيدة عن التَّأويل والتَّعطيل، والتَّشبِيه، والتَّعقيد والتعْجِيز، وعن عِلم الكلام والجدل، ومناهج أهلها. وهي العقيدة الصَّحيحة المباركة التي كان عليها سَلف الأمَّة الصَّالح من الصَّحابة الكرام الأبرار، ومن تبعهم بإحسَانٍ من التَّابعين وتابعيهم الأخيار، ومن سلك سبيلهم من أئمَّة السُّنة والحديث، ورواة الأخبار والآثار. وكان (رحمه الله)على طريقتِهم وأصولهم في كلِّ مسائِل وقضايا الاعتقاد جملةً وتفصيلًا؛ ومذهب السَّلف ومنهجهم في المعتقد معروف، وخاصةً في باب الأسماءِ والصِّفات، إنَّهم يصفون الله تعالى بما وصفَ به نفسه، وبما وصفه به رسوله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيل؛ فيُثبِتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصِّفات، وينزِّهونه عمَّا نزَّه عنه نفسه من مُماثلة المخلوقات: إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل؛ كما قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]. ولهذا الإمام العَلَم، والحَبرِ الهُمَام، والقُدوَة الحسَنة، مواقف عَقدِّية كثيرة، قوية وحكِيمة، وأجوبة لمسائِلها سَديدِة ومَرضِيَّة، تدلُّ على علمه، وحكمته، وفقهه (رحمه الله)، وتعدُّ بحقٍّ نموذجًا يُحتَذى به، ومنارًا يُهتدى به، ومسلكً عِلمِيًّا متينًا وقويمًا يُقتدى به، ومنهجًا سليمًا مستقيمًا، لكلِّ من يُريد معرفة المنهج الحقِّ، والمعتقد الصَّحيح السَّليم، بعيدًا عن تحريفات المحرّفين، وتأويلات الجاهلين، وانتحال المبطلين. وقد حاولتُ في هذه المباحث المختصَرة أن أذكُرَ بعضًا من تلك المواقف الطَّيبة، والنُّصُوص والنُّقول المهمَّة الدَّالة عليها، والمرويَّة عن هذا الإمام الجليل، بشرط صحَّة نسبتها إليه، وثبوتها عنه، مع التعليق عليها بما يتناسب معها من فوائد علميَّة، ولم أتوسع في ذلك، ولا في تخريج ودراسة الأسانيد، مراعاة لجانب الاختصار وعدم التطويل، وتيسيرًا على القرَّاء الكرام،والله من وراء القصد، وهو يهدي السَّبيل. المبحث الأول: نماذجمن مواقف الإمام العقديَّة والمنهجية: في باب الأسماء والصِّفات: النموذج الأوّل: موقفه الحكيم والمنهجي (رحمه الله) لما سأله رجلٌ عن صِفة الاستواء، في قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، كيف استوى؟ فقال له: »الاستِواءُ مَعْلُومٌ، والكيْفُ مَجْهُولٌ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَمَا أرَاك إلَّا رَجُل سَوْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ به فَأُخْرِجَ«[2]. قلت: وهذا القول المسَّدَّد، والجواب الموفَّق من الإمام مالك، أجمع عليه أهل السُّنة أوُّلهم عن آخرهم، واتَّخذوه إمامًا وقُدوَةً؛ وأصبح قاعدة أساسيَّة، وثابتة، ومنهجيَّة عند أهل السُّنة والجماعة عبرَ العُصور، تجرى عليها سائِر الصِّفات الإلهيَّة الواردة في الكتاب الكريم، وصحيح السُّنة النَّبوية المطهرة؛قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله)في كتابه: "شرح حديث النُّزول"[3]: "وقول مالكٍ من أنبلِ جوابٍ وقع في هذه المسألة وأشدِّه استيعابًا؛ لأنَّه فيه نبذ التَّكييفِ وإثبات الاستواء المعقُول، وقد ائتمَّ أهلُ العِلْم بقوله واستَجودُوهُ واستَحسنُوه"؛ اهـ. وقال أيضًا: "وهذَا الجوابُ من مَالِكٍ (رحمه الله) في الاسْتِوَاءِ شَافٍ كَافٍ في جميعِ الصِّفات، مثلَ النُّزُول، والمَجِيءِ، واليدِ، والوجهِ، وغيرها"[4]. وقال أيضًا في رسالة "الإكليل في المتشابه والتأويل"[5]: "وقد تلقَّى النَّاسُ هذا الكلام بالقبُول، فليسَ في أهل السُّنة من يُنكره، وقد بَيَّنَ أَنَّ الاستوَاءَ معلُومٌ كما أنَّ سائر ما أخبرَ به مَعْلُوم، ولكنَّ الكَيْفِيَّةَ لا تُعلم ولا يجوزُ السُّؤالُ عنها، لا يُقالُ كيف اسْتَوَى، ولَم يقُل مالكٌ الكَيْفُ معدُوم، وإنَّما قال الكيفُ مَجْهُولٌ". قلت: وقول الإمام مالك "والكيفُ مجهُولٌ"، ليس المراد منه نفيُ الكيفِيَّة مطلقًا؛ لأنَّ هذا تعطيل مَحْض، ولأنَّ كلَّ شيءٍ لا بُدَّ أن يكون على كيفيَّة ما، ولكنَّ المراد منه عند السَّلف - أهل السُّنة والجماعة - أنهم يَنفُون عِلمهم بالكيفيَّة، مع إثباتهم لحقيقة الصِّفات وعلم معانيها - على وجهٍ يليق بجلال الله وعظمته - فإنَّهم (رحمهم الله) لم يكونوا يُفوِّضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرؤون كلامًا لا يفهمون معناه، بل كانوا يفهمون معاني الصِّفات الواردةِ في الكتاب والسُّنة، ويثْبِتونها لله(عزَّ وجَلَّ)، ثم يُفوِّضون فيما وراء ذلك من كُنْهِ الصِّفات وكيفيَّاتها، ويردُّون علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلِّم بها، ولا يخُوضون في شأنها؛ لأنَّها مما استأثَر الله تعالى بعلمه؛ إذ لا يعلمُ كيفيَّة ذات الله وصفاته إلاَّ هو سبحانه وتعالى. قال الإمام الذَّهبي في كتابه العظيم: "العلو للعلي الغفَّار"[6] - بعد نقله لكلام السَّلف في هذا الباب -: "وهو قول أهل السُّنة قاطبة: أنَّ كيفيَّة الاستواء لا نعقِلها بل نجهلها، وأنَّ استواءه معلومٌ، كما أخبر في كتابه، وأنَّه كما يليقُ به، لا نتعمَّق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك، نفيًا ولا إثباتًا، بل نسكتُ ونقِف كما وقف السَّلف، ونعلم أنَّه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصَّحابة والتَّابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره، والسُّكوت عنه، ونعلم يقينًا مع ذلك أنَّ الله (جلَّ جلاله) لا مثلَ له في صِفاته، ولا في استوائه، ولا في نُزوله، سُبحانه وتعالى عمَّا يقول الظَّالمون علوًّا كبيرًا"؛ ا. هـ. وقال الإمام ابن القيِّم (رحمه الله): "وهذا الجوابُ من مالك (رضي اللَّه عَنْه) شافٍ، عامٌّ في جميع مسائل الصٍّفات، فمن سألَ عن قوله: ﴿ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه، الآية: 46]، كيف يسمعُ ويرى؟ أُجيبَ بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السَّمع والبصر معلومٌ، والكيف غير معقول، وكذلك من سأل عن العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والنُّزول، والغضب، والرضا، والرَّحمة، والضَّحك، وغير ذلك، فمعانيها كلها مفهومة، وأما كيفيَّتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّلُ الكيفيَّة فرع العلم بكيفية الذَّات وكُنهِها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصِّفات؟! والعِصْمة النَّافعة في هذا الباب: أن يُوصف الله بما وصف به نفسَه، وبما وصفه به رسوله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيلٍ، بل تثبِتُ له الأسماء والصِّفات، وتنفِي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتُك مُنزَّهًا عن التشبيه، ونفيُك منزَّهًا عن التَّعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطِّل، ومن شبَّهه باستواء المخلوق على المخلوق فهو ممثِّلٌ، ومن قال: استواءٌ ليس كمثله شيءٌ، فهو الموحِّد المنزِّه. وهكذا الكلام في السَّمع، والبصر، والحياة، والإرادة، والقدرة، واليد، والوجه، والرِّضا، والغضب، والنُّزول، والضَّحك، وسائر ما وصف الله به نفسه"[7]. قلت: وقول الإمام مالك (رحمه الله): "والسُّؤال عنه بِدْعَة"؛ أي: "السُّؤال عن الكيفية بدعة؛ لأنَّ من هم أحرص منَّا على العلم ما سألوا عنها، وهم الصَّحابة لَما قال الله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، عرَفوا عظمة الله (عزَّ وجَلَّ)، ومعنى الاستواء على العرش، وأنَّه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنَّك لن تدرك ذلك، فنحن إذا سُئلنا، فنقول: هذا السُّؤال بدعة. وكلام مالك (رحمه الله) ميزان لجميع الصِّفات؛ فإن قيل لك مثلًا: إنَّ الله ينزل إلى السَّماء الدُّنيا؛ كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسُّؤال عنه بدعة، والذين يسألون: كيف يمكن النزول، وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السُّؤال هذا بدعة، كيف تسأل عن شيءٍ ما سأل عنه الصَّحابة، وهم أحرصُ منك على الخير، وعلى العلم بما يجب لله (عزَّ وجَلَّ)، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام، فهو لم يعلِّمهم، فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظنَّ بك، لقُلنا ما يليق بك بأنك رجلٌ مبتدع. والإمام مالك (رحمه الله) قال: (ما أراك إلا مبتدعًا)، ثم أمرَ به فأُخرج؛ لأن السَّلف يكرهون أهل البدع، وكلامهم، واعتراضاتهم، وتقديراتهم، ومجادلاتهم"[8]. [1]ما بين الهلالين من "مقدمة الجرح والتعديل" (ص/ 10)؛ للإمام ابن أبي حاتم الرازي؛ طبع دار إحياء التراث العربي/ بيروت؛ الطبعة الأولى: 1271 هـ/ 1952 م. [2]أثر صحيح الإسناد: أخرجه الإمام اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة" (3/ 398)، والدَّارمي في "الردّ على الجهمية" (104)، والصَّابوني في "عقيدة السَّلف" (24)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 325)، والبيهقي في "الاعتقاد" (ص/ 116)، وفي "الأسماء والصفات" (2/ 204) وغيرهم، بألفاظ مُتقاربة المعنى. ولهذا الأثر طُرق مُتعدِّدة يصحّ بها، ولأجل ذلك جوَّد إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (13/ 406-407)، وصحَّحَه الألباني في "مختصر العلو" (رقم:132)، واحتجَّ به شيخ الإسلام ابن تيمية مرارًا في كتبه، وكذلك تلميذه الإمام ابن القيم؛ واحتج به أيضًا كثير من علماء السُّنة في مصنفاتهم. وقال الإمام الذَّهبي في كتابه: "العلوّ" (رقم:344): هذا ثابتٌ عن مالك، وتقدَّم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السُّنة قاطبة". [3]ضمن: "مجموع الفتاوى": (5/ 520)؛ وله طبعات أخرى مُستقلة ومحقَّقة. [4]ضمن: "مجموع الفتاوى": (4/ 4). [5]ضمن: "مجموع الفتاوى -أيضًا-": (13/ 309). [6] (ص/ 139، رقم: 378)، طبع مكتبة أضواء السَّلف، الرياض؛ الطبعة الأولى سنة 1995م. [7]"مدارج السَّالكين" له (2/ 85)، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة: 1996م. وانظر للمزيد من البيان في هذه المسألة المهمَّة الجليلة، المصادر والمراجع التالية: "اجتماع الجيوش الإسلامية" (1/ 153) لابن القيِّم، و"شرح قصيدة ابن القيّم (الكافية الشافية) (1/ 455)، و"ذم التأويل" (1/ 11) لابن قدامة المقدسي، و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام (4/ 2)(5/ 39، 41)، و"معارج القبول" (1/ 202/ فما بعد)، و"قطف الثَّمر" (ص/ 53) للصديق حسَن خان، و"شرح العقيدة الواسطيَّة" (68، 71) للهرَّاس، و"المنهج السَّلفي عند الشيخ الألباني" (ص/ 118)، و"القواعد المثلى" (33/ فما بعد) للعلامة ابن عثيمين، و"فتح ربِّ البريَّة" (ص/ 64) له أيضًا، وغيرها. [8]ما بين الهلالين من كلام العلامة ابن عثيمين في: "شرح العقيدة الواسطية" (1/ 100)، طبع دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة: السَّادسة، 1421 هـ.
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |