شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 73 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         (بدعة المولد والفساد) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          ما خاب من استخار (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          خطبة عن أنواع التوسل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          موت الفجأة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          تعظيم النصوص الشرعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          العجز والكسل: معناهما، وحكمهما، وأسبابهما، وعلاجهما (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أمهات المؤمنين رضي الله عنهن (10) أم سلمة رضي الله عنها في بيت النبوة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حين يرقى الإنسان بحلمه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          خطى المساجد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وقفات مع اسم الله السميع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #721  
قديم 24-10-2025, 04:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (521)

صـــــ(1) إلى صــ(15)


شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [2]
إن الله سبحانه وتعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه وبيعه، وسلبه كل المنافع التي كانت فيه قبل تحريمه، وقد حرم الله عز وجل الخمر، ومع هذا يقول بعض الجاهلين: لا مانع من شربها لأجل التداوي، أو لأجل قطع اليد أو الرجل، ولا مانع من التدلك والتدهن بها! وكل هذا مردود بالمحكم من الآيات والأحاديث الدالة على حرمة استعمال الخمر.
حرمة شرب الخمر للذة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وهو خمر من أي شيء كان] .
تقدم الحديث عن ضابط الخمر، وبينا أنه عام شامل لكل ما أثر في العقل، سواء كان من المشروبات القديمة التي كانت تنتبذ من التمر والشعير والزبيب والعسل -كما ورد في أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- أو كان شرابا يتخذ من غير ذلك.
والأصل في هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع القاعدة على العموم، وجعل الحكم معللا بعلة وهي الإسكار، فكل شيء أزال العقل وأثر فيه تأثيرا بينا واضحا فإنه آخذ حكم الخمر، ثم بينا أن تحريم الخمر يدور حول علة الإسكار وزوال العقل، وهذا يقتضي إلحاق المخدرات بجميع أنواعها وأصنافها سواء كانت نباتية كنبات الخشخاش الذي يستخرج منه الأفيون، أو كانت غير نباتية مثل ما يسمى بالمخدرات الكيماوية، فهذا كله محرم، والأصل في تحريمه: أن السنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الخمر؛ لأنها مؤثرة في العقل، وكل ما أزال العقل وأثر فيه فحكمه حكم الخمر، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن كل مسكر ومفتر) ، وهو يدل دلالة واضحة على عموم الحكم، وأن المخدرات بجميع أنواعها تعتبر محرمة شرعا، وبهذا بين المصنف رحمه الله هذا الأصل: وهو أننا لا نقتصر على تحريم الخمر القديمة، بل العبرة بكل شراب يؤثر في العقل، ويذهب الشعور والإدراك، وهذه هي العلة، (والحكم يدور مع علته وجودا وعدما) ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأصل فقال: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، فجعل الحكم يدور مع علته وهي الإسكار، ومن هنا نأخذ بمذهب العموم، وأن العبرة بتغير العقل أو التأثير في العقل، سواء كان عن طريق الشراب أو كان عن طريق المواد الجامدة كالحشيشة والأفيون المستخرج من نبات الخشخاش، والبنج، والشيكران، وغير ذلك من المواد الجامدة، ويلتحق بهذا: المشمومات، فما يشم من المواد الطيارة المؤثرة في العقل حكمه حكم المشروبات المسكرة، وكذلك ما يحقن عن طريق الإبر، فإنه آخذ حكم المسكرات أيضا؛ لأن العلة هي التأثير على العقل سواء كان عن طريق المشروب أو المطعوم أو المحقون أو المشموم، فكل ذلك محرم شرعا.
وإذا ثبت تحريمه فإنه محرم على الإنسان أن يتعاطاه، ومحرم على الغير أن يحقنه أو يناوله أو يعينه على ذلك، ومن هنا بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الخمر، وحرمة الوسائل المفضية إلى الخمر: كصناعة الخمور وترويجها، وصناعة المخدرات وترويجها، والدعاية إلى الخمور وإلى المخدرات محرم شرعا، والقاعدة تقول: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل وهو: تحريم الوسائل المفضية إلى الخمر، وإلى كل مضر بالعقل حينما لعن الخمر، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها ومستقيها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها، فلعن فيها هؤلاء العشرة، وإذا نظرت إلى هؤلاء العشرة وجدت فيهم من هو معين عليها، كساقي الخمر، وعاصرها، وحاملها، وبائعها، وآكل ثمنها، فكل هؤلاء أعانوا على الوصول إلى المحرم، وهكذا المخدرات يحرم تصنيعها، وترويجها، وتحبيب الناس إليها، حتى لو جلس مع أخيه وقال له: إنها تحدث النشاط، والسرور، وهي في الواقع: لا تزيد الإنسان إلا هما إلى هم، وغما إلى غم، فإن الله لم يجعل في محرم خيرا، ومن هنا نعلم أن الترغيب فيها ليس منحصرا أن يدعو إليها دعاية للجماعة، بل دعاية الأفراد كذلك، فلو أنه رغب شخصا فيها، أو مدحها، أو وضعها في وسيلة إعلامية تروج إلى شربها، أو تروج إلى تعاطيها، أو تحببها إلى النفوس، فكل هؤلاء ملعونون-والعياذ بالله- بلعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد لعنه الله، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه، وإذا حلت اللعنة على القلب -والعياذ بالله- تنطمس البصيرة، ويضعف فيه داعي الإيمان، ولذلك قال تعالى: {أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد:23] ، فيصبح الإنسان من هؤلاء تمر عليه المواعظ فلا تؤثر فيه، ويذكر بالله فلا يتذكر؛ لأن الله يقول: (فأصمهم وأعمى أبصارهم) ، فمن أشد الذنوب ضررا على العبد الذنوب التي ورد الوعيد عليها باللعن، ومن هنا شدد في الخمر من هذه الوجوه كلها تعظيما لحرمات الله، وتعظيما لحدود الله، وزجرا للنفوس المؤمنة عن هذه المحرمات الموبقات المهلكات، حتى يكون الإنسان على السنن التي فطر الله عليها خلقه من البعد عن هذه المؤذيات والمضرات.
قال المصنف رحمه الله: [ولا يباح شربه للذة] .
ولا يباح شرب الخمر للذة، وهذا بإجماع العلماء، والذين يشربون الخمر يزعمون أنها تنسيهم الهموم والغموم، ويدعون أنها تحدث الهزة والنشاط، ويدعون أنها تفرح القلب، وكل ما ادعوه باطل، ومن تزيين الشيطان، {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل} [النمل:24] ، فهذا من صدود الشيطان، ويكون هذا في القلوب الضعيفة بسبب ضعف الإيمان، فيقلب الحق فيها باطلا، والباطل حقا، فهو يروج لهم أن فيها لذة، وهي وإن كانت لذة ساعة فهي ألم دهر، وإن كانت متعة لحظة فإنها عذاب دهر، فكم قرحت من قلوب! وأبكت من عيون! وأصابت أصحابها من الهم والغم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل! حتى أصبحوا مأسورين بها، لا يستطيعون الفكاك عنها، فأصبحت داء تزيدهم هما إلى همهم، وغما إلى غمهم نسأل الله السلامة والعافية! ومن قرأ بحوث أهل النظر من الأطباء، وأهل الاختصاص، وما تعقبه الخمر من الويلات والآهات والمفاسد والشرور في دنيا الإنسان وفي جسده، وصحته الروحية، وما يعقب ذلك من الآلام؛ يجد أن هذه اللذة التي تشرب الخمر من أجلها أحقر من أن تورد صاحبها هذه الموارد، فقد أجمع الأطباء على أنها تدمر الأعصاب، وتدمر الجهاز العصبي بآفات ومفاسد عظيمة، وتذهب تركيز الإنسان، وتفسد ذهنه وحافظته وفكره وشعوره وأحاسيسه، وإذا شربها اختل عقله؛ فأصبح أحط من البهيمة -والعياذ بالله- حتى إنه لربما اقترف الأمور العظيمة، ولذلك شربها بعضهم فزنى بأمه، ومنهم من شربها فوقع على بنته نسأل الله السلامة والعافية! فأي لذة هذه؟! أي لذة يعقبها هذا الويل، وهذا البلاء، وهذا الشقاء، وهذا العناء؟! ومن هنا: ذكر المصنف رحمه الله أن من شربها للذة -وهذا على ما يعرف عند الناس، وتحقيقا للأصل الذي سيبني عليه عقوبة شرب الخمر- فإنه قد وقع فيما حرم الله عليه بإجماع العلماء رحمهم الله.
حكم شرب الخمر للتداوي
قال المصنف رحمه الله: [ولا لتداو] .
ولا يجوز شربها للتداوي، وهو العلاج، والخمر كانوا في الجاهلية يعتقدون أنها تداوي وتشفي، وأنها تزيل العلل، وأنها تريح البدن من آفات تكون في شرايين القلب وفي العروق وفي المعدة، ونحو ذلك مما كانوا يظنونه، ولو كان ذلك موجودا فإنه بعد تحريم الخمر سلبت الخمر هذه المنافع كلها، وقد جاء ذلك صريحا في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: أنها داء وليست بدواء، وأن الله لم يجعل فيها شفاء.
وعلى هذا قالوا: إن جميع ما كان فيها من المنافع التي كان يزعم أنها موجودة سلبت منها فأصبحت داء، وليست بدواء، وهذا صريح قوله عليه الصلاة والسلام في حديث مسلم في صحيحه: (إنها داء، وليست بدواء) ، وفي لفظ: (ليست بدواء، ولكنها داء) ، وقد أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن أن يعتقد ذلك.
في القديم كانوا يظنون أن فيها دواء، وفي الطب الحديث ثبت أنه لا دواء في الخمر، وأن الخمر ليست علاجا؛ ولذلك لا تستخدم الخمر علاجا في الطب الحديث كشراب مخصوص لعلاج مرض، سواء كان نفسيا أو كان جسديا، ففي الطب الحديث لا يوجد هذا.
التفصيل في استخدام المخدرات للمعالجة والعمليات الجراحية
يوجد عند الأطباء مسألة: استخدام المادة المخدرة، وهي مادة الكحول المعروفة، تستخدم في جوانب من الطب، ومن أشهر هذه الجوانب جانبان: الجانب الأول: ما يعتبرونه مذيبا للمواد القلوية والدهنية.
الجانب الثاني: يستعملون فيه الخمر مسيغة للطعم، حتى يكون طعم الدواء مقبولا.
وهناك جوانب أخرى اعتنى أهل الاختصاص ببيانها، وتبعه المتخصصون بطب الصيدلة، ولعلوم الصيدلة عدة ملاحظات على هذا الاستخدام أو هذه الجوانب التي ذكروها، ومنها استخدامها كمادة حافظة، وغير ذلك من الجوانب التي ذكروها.
بالنسبة لهذين الجانبين: الجانب الأول: استخدامها كمسيغة للشراب، أو كما يقولون: للطعم، هذا الجانب لا إشكال في تحريمه، ولا يجوز لطبيب ولا لصيدلي أن يصرف دواء فيه هذه المادة من الخمر؛ لأن قليل الخمر وكثيره حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) فهذا نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على اجتناب القليل والكثير من الخمر، فأي دواء وضعت فيه هذه المادة من الكحول التي هي من الخمر ولو كانت نسبة قليلة فإنه لا يجوز استعمالها.
وفي الحقيقة هذا -بلا إشكال من حيث الأصل- لا يجوز استخدامه على هذا الوجه، وذكر بعض الأطباء المتأخرين أن هذا النوع من الأدوية وجد عند الكفار، ووضعوا هذه المادة-مادة الغول أو الكحول- في العلاج من أجل أن يستسيغوا طعم الدواء، وهم ألفوا الخمر-والعياذ بالله- فاستساغوا طعمها، فهذا هو المبرر، وهذا السبب ليس بضروري ولا حاجي، وإنما هو تكميلي في محرم، وقد أجمع العلماء على أن الأمور التحسينية والتكميلية في المحرمات لا توجب الرخصة، فمقام التحسينات والفضولات والكمالات لا يوجب استباحة المحرمات، أي: لا يوجب الرخصة بالإجماع بين العلماء رحمهم الله.
أما استخدامها كمادة مذيبة للقلويات والدهنيات ففي الحقيقة أن بعض الأطباء يقول: إنه محتاج إليه، وهو من المختصين ممن نعرفهم بعلم الصيدلة، وأحسنوا دراسة هذا الجانب دراسة معمقة، وقدموا فيها بحوثا جيدة في المؤتمر العالمي الأول للمسكرات والمخدرات، واجتمعت ببعضهم فبين أن هذا العذر يمكن الاستغناء عن الخمر لوجود البديل، وذكر البديل، واقترح أن تكون هناك دراسة طبية للأدوية التي فيها هذه المادة، ويمكن الاستغناء عنها بالبديل، والبحوث والدراسات موجودة، ونسأل الله أن ييسر بالقيام بما يجب القيام به تجاه هذا الأمر الذي عمت فيه البلوى بين المسلمين.
إذا: لا عذر لنا مادام أنه وجد البديل، ويمكن الاستغناء بما أحل الله، ولا شك أن الله جعل العباد في غناء عما حرم عليهم.
أما الاستخدام في الجسد، فإنه يكون في علاج العمليات الجراحية، وهذا من أشهر الجوانب التي تستخدم فيها المخدرات والخمور في القديم من أجل قطع الأعضاء ونحو ذلك، والذي يظهر عند التأمل والنظر: أن استخدام المخدرات كالتخدير الجراحي من أجل العملية الجراحية ليس بعلاج في ذاته، فليس التخدير الجراحي يذهب الزائدة، وليس التخدير الجراحي يقطع البواسير، وليس التخدير الجراحي يصلح الفساد الموجود في العين أو القلب، أو غير ذلك من الأعضاء من القرحة أو نحو ذلك، إنما هو وسيلة من أجل الغاية التي يتوصل إليها في مقام: إما ضروري أو حاجي، وبناء على ذلك لا تخلو العمليات الجراحية التي يرخص فيها من هذا التخدير نوعان: الأول: أن تكون ضرورية بمعنى: أن المريض إذا لم يقم بهذه العملية يموت، ومن أمثلة ذلك: عمليات الشرايين أو القلب المفتوح، فإنه لا يمكن أبدا أن يترك المريض بدون عملية، كانسداد الشرايين، وتبديل الشرايين والصمامات ونحوها، وهذه يجزم بأن المريض لو بقي سيموت؛ لأن هذا الانسداد يؤدي به إلى الجلطة، ثم قد يؤدي به إلى الوفاة، ولكن علاجه: تحويل مجرى الدم عن طريق وجود البديل، بتجاوز مكان الانسداد الشرياني، أو قطع هذا الموضع على حسب ما يراه الأطباء، وحسب ما يتيسر لهم، وهذا القطع وهذا العلاج لداء يعتبر مفضيا بالإنسان إلى الموت، فلو أنهم لم يعالجوا هذا الموضع من قلبه أو هذا الموضع من شرايينه فإنه سيموت لا محالة، فهو مقام ضرورة بإجماع العلماء، ومقام الضرورات يبيح استخدام هذا التخدير كما هو مقرر، وقد ذكر العلماء ونصوا على جوازه من حيث الأصل.
الثاني: ما دون الخوف على النفس من الهلاك، فإذا كانت العملية الجراحية لمرض يخشى منه الموت، فهي عملية ضرورية؛ لأنه اتفق العلماء رحمهم الله أن الضرورة: هي الخوف على النفس من الهلاك، وهنا لو خشي على العضو أن يتلف، واحتيج إلى قطع شيء أو عمل عملية جراحية لقطع شيء، أو تدخل جراحي لعلاج انسداد في ذلك الموضع، دون أن يخشى على الإنسان من الهلاك، ولكن عضوه سيذهب كما في جراحة العيون، ويغلب على الظن أنه سيعمى، وأنه سيفقد بصره في عملية الماء ونحو ذلك، ففي هذه الحالة لا نخاف فوات النفس، وإنما نخاف فوات الأعضاء، فألحق بعض العلماء بفوات النفس فوات الأعضاء، وجعل الخوف على فوات الأعضاء مثل أن يخاف الإنسان ذهاب على يده أو رجله أو عينه أو سمعه فهو في مقام الضرورة، ويرخص له من المحرمات في حدود ما تحصل به الحاجة، فلا يزيد على ذلك.
ولو كان لا يخشى الموت، ولا ذهاب العضو، ولكنه يجد الألم والتعب الشديد، ولا يستطيع أن يتحمل هذا، بحيث يصل به إلى مقام الحرج، فهو لا يخاف أن يده ستقطع، ممكن أن يقطع رجله أو يده، ولكن هذا الألم يصل به إلى عناء ومشقة شديدة تصل إلى مقام الحرج، فإن وصل به الأمر إلى ذلك فهذا يسميه العلماء: بمقام الحاجيات.
إذا: ما يخشى فيه فوات النفس مقام ضرورة، ويلحق بها الأعضاء، ومن يصل إلى درجة الحرج مثل قلع الضرس، فقلع الضرس قد يصعب به الألم، وقد لا يستطيع بعض الناس أن يتحمل قلع ضرسه، فيجد من المشقة والعناء ما الله به عليم، فيحقن بمادة مخدرة موضعية.
إذا ثبت هذا فإننا نقول بالرخصة في استخدام المخدرات في العمل الجراحي في موضعين: الضروري، والحاجي، وهذا إذا كانت العملية جائزة شرعا.
يبقى مسألة: إذا كانت العملية الجراحية تكميلية أو كانت العملية الجراحية محرمة في الأصل: فإذا كانت تكميلية فلا توجب الرخصة، مثل: عمليات التجميل التي تكون في الكماليات، والتي ليس فيها تغيير الخلقة، فإذا وصلت هذه العمليات التجميلية إلى تغيير الخلقة فهي من المحرمات، فجراحة تغيير الجنس، وجراحة تكبير الثدي وتصغيره والعبث في الخلقة، هذه كلها جراحات محرمة، وأهواء تخالف فيها الخلقة، ويعترض فيها على خلقة الله عز وجل، فهي جراحة محرمة، ولا يجوز التخدير فيها؛ لأن التخدير لم يوجبه موجب شرعي، بل إن الفعل الذي يراد أن يتوصل به عن طريق التخدير محرم شرعا، وعلى هذا لا يجوز تعاطي هذه المواد المخدرة في مثل هذه الأمور.
فالخلاصة: أن المواد المخدرة تستثنى إذا كانت معونة على العلاج والدواء، وذلك في حال الضرورة والحاجة، ومن أمثلة الضرورة: عمليات القلب التي يخشى معها الهلاك، ومن أمثلة الحاجة: عمليات البواسير؛ لأنه تحدث الآلام، وتوصل إلى درجة الحرج، فحينئذ يكون مقامها مقام الحاجيات، وما عدا ذلك مما لا موجب لإجراء الجراحة فيه كتغيير الجنس، وعمليات التجميل التكميلية؛ فإنها لا تجوز شرعا، ولا يجوز استخدام هذه المواد المخدرة، وتبقى على الأصل.
خلاف العلماء في التداوي بالخمر
مسألة: التداوي بالخمر: اختلف فيه العلماء المتقدمون رحمهم الله برحمته الواسعة.
قول جمهور العلماء
القول الأول: قول جمهور العلماء أنه لا يجوز التداوي بالخمر، وهذا هو أحد القولين عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله وأحد القولين عن الإمام الشافعي، وهو مذهب المالكية في المشهور، والحنابلة رحمة الله على الجميع، فعندهم لا يجوز للمسلم أن يتداوى بالخمر لا قليلا ولا كثيرا، وأن الله عز وجل لم يجعل فيها شفاء للأمة.
قول المخالفين للجمهور
القول الثاني: يجوز التداوي بالخمر، وهذا القول هو القول الثاني عن الإمام أبي حنيفة، والقول الثاني عن الإمام الشافعي، لكن جمهور أصحاب الإمام الشافعي اختاروا القول الأول المحرم مثل الحنابلة، واختار هذا القول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله، الذين يقولون: يجوز التداوي بالخمر، ذكروا لذلك شروطا: الشرط الأول: ألا يوجد بديل عن الخمر مما أحل الله، فقالوا: إن وجد بديل عن الخمر لم يجز التداوي بها، فهم يتفقون مع الجمهور أنه لوكانت الحالة التي يراد علاجها لها دواء مباح فإنه لا يجوز له أن يتداوى بالخمر، وتكون مسألة إجماعية.
الشرط الثاني: أن يخبره بالحاجة إلى الخمر، وأنها علاج ودواء لهذا الداء طبيب عدل يوثق بقوله وأمانته، وبعضهم يشترط إسلامه، فلو أخبر بذلك طبيب غير مسلم، قالوا: لا تقبل شهادته؛ لأنه متهم، والغالب أن العداوة الدينية تحمل على الاستهتار في أمور الشرع، فقالوا: لا نقبل قوله، ومن هنا كان الإمام أحمد رحمه الله يعالجه طبيب يهودي فيقبل قوله إلا في أمور تتعلق بالدين، فإذا قال له: أفطر، لا يفطر، وإذا أمره بأمر محرم أن يفعله لم يقبل قوله، حتى يرجع إلى أطباء المسلمين، فلم يكن يقبل شهادته في هذا؛ لأنه متهم في قوله وخبره.
الشرط الثالث: أن يكون تعاطي الخمر في حدود الحاجة والضرورة، فلا يزاد عليها، فإن زاد عليها وقع في الحرام، فيكون تعاطيه للمادة المخدرة في حدود الحاجة والضرورة، وهذا راجع إلى القاعدة الشرعية: ما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها.
الشرط الرابع: أن يشربها بقصد الدواء والعلاج لا تلذذا، بمعنى أنه أثناء شربه لها يعتقد تحريمها، ويكره هذا الشرب، ويحس كأنه مكره عليه تلافيا للاستباحة؛ لأن الاستباحة تكون بالباطن كما تكون بالظاهر، فهو وإن أذن له في الظاهر، لكنه في الباطن إن مال قلبه إلى حبها فأحب شربها وتلذذ بذلك خرج عن كونه مسترخصا، وأصبح يعصي باطنا، وإن كان قد أبيح له في الظاهر.
فقالوا: يجوز التداوي بالخمر إذا تحققت هذه الشروط.
أدلة الجمهور القائلين بحرمة التداوي بالخمر
واستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الحديث الصحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه وأرضاه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها -كما في رواية مسلم - فقال: (يا رسول الله! إني أصنعها للدواء -يعني أصنعها دواء وعلاجا- فقال صلى الله عليه وسلم: إنها ليست بدواء، ولكنها داء) وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخمر ليست بدواء، وهذا خبر مبني على الوحي الذي لا يمكن أن يأتيه الخطأ، وحكم عليه الصلاة والسلام بالوحي من السماء أنها داء، وأنه لا دواء فيها ولا علاج.
ومن هنا: فدعواهم أنها دواء ليست بمسلمة، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها فرأى الجرة، وإذا بالخمر تفور منها حتى خرجت منها، فقال: (ما هذا؟! فقالت: يا رسول الله! إن فلانة تشتكي بطنها، وقد نقعت لها) -يعني: نبذت لها النبيذ- من أجل أن أعالجها بهذه الخمرة.
(فضرب عليه الصلاة والسلام الجرة برجله حتى انكسرت) -أي: حتى انسكب منها الخمر- ثم قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في شيء حرمه عليها، والخمر مما حرم الله، وهذا الحديث نص في المسألة؛ لأنه لا يمكن أن يكون منه عليه الصلاة والسلام ذلك إلا وقد أطلعه الله عز وجل على أنه لا خير في الخمر، ولا دواء ولا علاج، فأكد هذا معنى الحديث الأول، والحديث رواه: أبو داود، وأحمد في مسنده، وكذلك رواه أبو يعلى في مسنده أيضا، قالوا: هذا كله يؤكد أن الخمر داء، وليست بدواء.
الدليل الثالث من النقل: استدلوا بالأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكره الإمام البخاري تعليقا في صحيحه، ووصله ابن أبي شيبة في مصنفه بسند حسن، وقال الحافظ ابن حجر: إنه على شرط الشيخين، وفيه: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) قالوا: إنه أكد الأثر السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود من أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أئمة الفتوى، فبين أن الله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
وهذا الأثر الصحيح موقوف لفظا مرفوع حكما؛ لأنه يقول: (إن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها) فمثل هذا لا يقال بالرأي، حيث يجزم ويخبر عن الله أنه لم يجعل الشفاء فيما حرم، فهو: موقوف لفظا، مرفوع حكما، قالوا: إن هذا يؤكد ما ورد في السنة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يجعل شفاء ... ) خبر عن الله عز وجل أنه رفع الدواء عن الخمر، ولم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم في المحرمات، ووجه الدلالة من النص تارة فيكون أعم بحيث يشمل موضع النزاع، يكون موضع النزاع سببا في ورود النص فيشمله ويشمل غيره، فحديث: (إنها ليست بدواء، ولكنها داء) خاص بالخمر، فهو خاص بمسألتنا، لكن هذا الحديث الثاني مع الأثر يدل على أن الله عز وجل لم يجعل لهذه الأمة شفاء فيما حرم؛ فهو أعم، ويشمل مسألة النزاع-وهي التداوي بالخمر- ومسألة التداوي بأي محرم كان، وأنه لا شفاء في المحرمات، مثل: التداوي بالسموم والنجاسات، وكل هذا يكون الأصل فيه التحريم والمنع لهذا النص، وبين أن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة في هذه الأمور المحرمة التي ثبت النص بتحريمها.
كذلك أكدوا دليل النقل بدليل العقل، فقالوا: أولا: إن تحريم الخمر قطعي؛ لأنه ثبت بنص في كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا احتمال فيه، وكون الخمر دواء ظني موهوم مشكوك فيه، يعني: يتوهمون أنها دواء مع أن السنة تنفي هذا، فيقولون: هو ظني متوهم، بل لو قلت: ما هو موجود أصلا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليست بدواء) ؛ لصح الكلام، لكن نقول: إنه متوهم، نعطيه ولو (1%) تنزلا مع الخصم! وليس إثباتا للحكم؛ لأننا نصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نصدق غيره ممن يخالفه، فلو قلنا: إنه موجود على ما ذكروه فهو وهم، وهذا أضعف درجات العلم، والقاعدة أنه: (لا يجوز ترك القطع لوهم وشك) لأنه يجب البقاء على اليقين، وعلى القطع.
ثانيا: أن الخمر فيها مفاسد، ويترتب على استعمالها ضرر عظيم، فوجدنا أن ضرر الخمر أعظم من ضرر الداء الموجود؛ لأنها لا تقتصر على الإضرار بالبطن والأجهزة المتعلقة بالهضم، بل إنها تضر أجهزة الهضم والقلب، وتضر أجهزة الأعصاب، فضررها جسدي وروحي، فلو جئت إلى الضرر الموجود في الداء وحده، وعادلته بالضرر المترتب على تعاطي الخمور لوجدت أن الضرر المترتب على تعاطي الخمور أعظم من الضرر الموجود في بعض الأمراض، والقاعدة الشرعية أنه إذا تعارضت مفسدتان إحداهما أعظم من الأخرى فإننا لا نرتكب الكبرى، ويجب الصبر على الصغرى دفعا لضرر الكبرى، ولا يجوز استباح المفسدة الكبرى، دفعا للمفسدة الصغرى.
فنحن نقول: إن الأطباء اتفقوا على أضرار الخمور والمسكرات، وأن لها تبعات على الجسد وعلى الروح، سواء التي يعالج بها للبطن أو التي يعالج بها لبعض الآفات، فنجد أن المضاعفات المترتبة على شرب الخمور أعظم من هذا الداء الذي يعالج، فنتنزل معهم كمسلك جدل، فنقول: هب أن فيها دواء وعلاجا فرضا مع أننا لا نقول بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الدواء ليس بموجود فيها، ولكن هذا يسمى بالتنزل مع الخصم، فلو فرضنا وسلمنا-جدلا- أن ما قاله صحيح، فنقول: الداء والضرر المترتب على استعمالها أعظم من الداء الذي يعالج، والقاعدة: أنه يرتكب أخف الضررين، وأنه إذا تعارض الشران وجب ارتكاب الأخف دفعا للأعظم، ومن هنا نقول بتحريم التداوي بها دفعا لما هو أعظم، ولا نجيز ذلك حتى لا يقع الأكبر من المفاسد.
لماذا يذكر العلماء أدلة العقل مع النقل؟ قد نبهنا على هذا، فإن بعض الإخوة يستشكل هذا ويقول: لسنا بحاجة إلى الأدلة العقلية مع النقلية! -الواقع أن الأدلة العقلية يذكرها العلماء- لأنه ربما كان اختلاف في ثبوت الدليل النقلي فيحتاج إلى الدليل العقلي.
كذلك ربما جادلك من لا يؤمن بالشرع-والعياذ بالله- ولا يقبل دليل الكتاب والسنة، فأنت إذا تحصنت بالأدلة العقلية كان هذا أبلغ في دمغه، ورد كذبه أو زيفه، وكشف عواره؛ لأنه يكون عندك شيء يسلم به، فتقول له: إن هذا كما دل عليه النقل، كذلك دل عليه العقل، فهم يذكرون مثل هذه الحجج تأكيدا كما ذكرنا، وإلا فالأصل من لم يستغن بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلا أغناه الله، ومن لم يحتج بهما فلا خير فيه.
ذكر بعض العلماء دليلا ثالثا عقليا أشار إليه الإمام ابن القيم رحمه الله، وكان من أعلم الناس بالطب، فقال: (إن النفوس لا ينفع الدواء فيها إلا إذا أحبته وقبلته، وارتاحت إليه) يعني: الدواء ما يعظم أثره ولا وقعه على المريض إلا إذا كان هناك استجابة، وهذا أمر مقرر عند الأطباء، فالارتياح للدواء، والاعتقاد أنه قد وضعه الله عز وجل علاجا لهذا الداء يساعد كثيرا على استجابة البدن، وحصول المصالح، واندراء المفاسد، والواقع في الخمر: أن نفوس المسلمين مشمئزة منها، كارهة لها، وأنتم تشترطون - يا أصحاب القول الثاني- أن يكون في قرارة قلبه كارها لها، فمعنى هذا: أنه ليس هناك استجابة وتوافق من المريض مع العلاج.
وهذا من أجمل ما ذكره رحمه الله في الزاد، زأكد به ما بيناه من القول بالتحريم.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #722  
قديم 24-10-2025, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





أدلة القائلين بجواز التداوي بالخمر
أما الذين قالوا بالجواز فقالوا: إننا نحتج بعدة أدلة: الدليل الأول: من الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] قالوا: إنه إذا وجد الداء، أو المرض ولا يمكن علاجه إلا بالخمر فنحن مضطرون إلى الخمر، مدفوعون إليها بغير اختيار، ومأمورون أن نعالج أبداننا، كما في حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه وأرضاه: أن الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هاهنا، وهاهنا، وقالوا: (يارسول الله! أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله!) قالوا: نحن مأمورون بعلاج البدن، فإذا كنا مأمورين بعلاج البدن، وثبت أنه ما يوجد إلا هذا العلاج والدواء -وهو الخمر- فإننا مضطرون إليه، ومدفوعون إليه بغير اختيار، والله يقول: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) أي: بين لكم ما حرم، ثم قال: {إلا ما اضطررتم إليه} فنحن حينما اضطررنا إلى هذه الخمر انتقلت من كونها حراما إلى كونها حلالا.
الدليل الثاني: من السنة، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أناس من عكل أو عرينة، فاجتووا المدينة -أي: أصابهم الجوى وهو: نوع من المرض الذي يصيب البدن لاختلاف الطعام، واختلاف البيئة- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل) الحديث.
وجه الدلالة من هذا الحديث: إن أبوال الإبل نجسة على مذهبهم، فهم يرون أن أبوال الإبل نجسة، كما هو مذهب الشافعية وطائفة، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يشربوا الأبوال النجسة لوجود الضرورة وهي: العلاج، فمن هنا: يجوز شرب الخمر النجسة للضرورة والعلاج، كما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتداوي بأبوال الإبل؛ لأنها كانت علاج الداء والمرض، فيجوز شرب الخمر ولو كانت نجسة محرمة.
كذلك أيضا استدلوا بالعقل، فقالوا: يجوز شرب الخمر دواء كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار؛ بجامع وجود الحاجة في كل، قالوا: أليست الميتة حراما؟ قلنا: بلى.
قالوا: لو أن إنسانا اضطر إليها ألا يأكلها؟ قلنا: بلى.
قالوا: فالخمر حرام شربها، فإذا اضطر إليها جاز له شربها كما جاز للمضطر أن يأكل الميتة بجامع وجود الضرورة، والحاجة في كل منهما.
هذا بالنسبة للأدلة التي ذكروها لجواز شرب الخمر للتداوي، والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بتحريم التداوي بالخمور والمسكرات، والمخدرات أيضا في حكمها، وذلك لما يأتي: أولا: لصحة دلالة العقل والنقل على ماذكره أصحاب هذا القول.
ثانيا: لا يصح استدلالهم بقوله تعالى: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] ، ونقول: إن دعواكم وجود الضرورة إلى الخمر مردودة؛ لأن الأطباء لم يثبتوا كونها دواء، وجاء الشرع أيضا مثبتا لهذه الحقيقة، ونقول: أنت تقول: إنك مضطر إلى الخمر لأنها دواء، لكن لا نسلم لك أن الخمر دواء، فأنت تضطر إلى شيء ليس بدواء! فإذا كان ليس بدواء فلست بمضطر؛ لأن الذي ألجأك واضطرك كونها دواء، وقد ثبت بالشرع والدليل الصحيح الذي لا يمكن أن يكذبه أحد أنها داء، وليست بدواء، فكيف تقول إنك مضطر إليها؟! إنما تكون مضطرا إذا كان فيها دواء، ولكن الواقع أنه ليس فيها دواء، وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأطباء أكدوا هذا في العصر الحديث أنه ليس فيها علاج للأسقام والعلل، بل تزيد الجسد سقما وبلاء وضررا إلى ما يعانيه ويجده.
إذا: استدلالهم بقوله: {إلا ما اضطررتم إليه} غير مسلم، ولا يشمل هذه الحالة؛ لأن الشرع نفى الضرورة فيها.
ثالثا: استدلالهم بحديث العرنيين، الجواب عنه من وجهين: الوجه الأول: نقول: يحتمل أن هذا قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يجعل شفاء أمته فيما حرم عليها، لأنك ما تستطيع أن تجعل حديث العرنيين متأخرا عن هذا الحديث؛ ليكون أشبه بالناسخ، والقاعدة: أن الأخبار لا يدخلها النسخ، فهي أخبار متعلقة بالأمر الواقع: (إن الله لم يجعل) ، فلا يصح أن يقول: الله جعل، وما يمكن هذا! هذا تناقض ولغو ينزه عنه الشرع، لكن على تسليم ما ذكروه، نقول: حديث العرنيين يحتمل أنه سبق حديث تحريم الخمر، وكانت رخصة أن يتداووا بهذه الأشياء، ثم سلبت المنافع من المحرمات والنجاسات، والخمر منها، وبقيت حراما وداء إلى يوم القيامة.
الوجه الثاني وهو أقوى: نقول: لا نسلم أن بول الإبل نجس؛ وذلك أن بول الإبل ثبت ما يدل على طهارته؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على بعيره، وطاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه، ولو كان بوله نجسا لما لامس النجاسة عليه الصلاة والسلام، ولما صلى على الموضع النجس، فعن ابن عمر في الصحيحين: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على بعيره إلا المكتوبة) فلو كان نجسا لم يصل عليه عليه الصلاة والسلام، والأشبه أن بول البعير وروثه طاهر، وسنقرر إن شاء الله في كتاب الأطعمة أن بول وروث ما يؤكل لحمه طاهر، ويؤكد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الصلاة في مرابض الغنم، ولم يجزها في معاطن الإبل، وعلل ذلك بالشياطين، ولم يعلله بالنجاسة، وهذا يؤكد أنها طاهرة، وليست بنجسة.
إذا ثبت هذا؛ فإنه يسقط استدلالهم بالآية والحديث، ويبقى قولهم: إنه يجوز شرب الخمر كما يجوز أكل الميتة عند الضرورة، نقول لهم: إن أكل الميتة عند الضرورة حينما تصيب الإنسان المخمصة، معناه أنه سيموت، فلو لم يأكل الميتة فإنه سيموت قطعا، فيباح له أكل الميتة، أرأيتم لو أكل إنسان جائع مشرف على الموت من الشاة الميتة ألا يحفظه ذلك بإذن الله من الموت؟ قطعا إنه سيكون سالما من الضرر، ومن الموت والهلاك، وهل المصلحة في أكل الميتة عند الضرورة مشكوك فيها أو مقطوع بها؟ مقطوع بها، فإذا أكل من الميتة عند الضرورة نجا، ويشهد الحس بأنه ينجو، ومن هنا فرق العلماء بين ترك التداوي وبين ترك الميتة، قالوا: لأنه إذا ترك التداوي ترك شيئا يحتمل أن ينجح فيصيب الداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فإذا أصاب الدواء الداء برئ بإذن الله) ، فيحتمل أن يصيب الداء، ويحتمل ألا يصيبه، فنقول: التداوي محتمل، ولكنه وجدت أدلة على أنه يصيب في غالب الأمر، والواقع هنا أنه شهد الحس، وشهد الأطباء، وشهد أهل الخبرة، أن الخمر لا يصيب الداء، وإنما يزيد الداء والبلاء، ومن هنا نقول: فرق بين الأمرين: فالأمر الأول: يحقق مصلحة، ويدرأ مفسدة أعظم، والأمر الثاني: يحقق مفسدة، ويحدث مفسدة أعظم، وعلى هذا نقول: لا يستقيم الاستدلال من هذه الوجوه، والذي يترجح: أنه لا يتداوى بالخمور، ولا يتداوى بالمخدرات؛ لأن الأدلة دلت على عدم جواز ذلك.
لا يجوز شرب الخمر عند العطش
قال المصنف رحمه الله: [ولا عطش] .
صورة المسألة: أن يكون الإنسان عاطشا ولا يجد ماء أو مائعا يذهب به العطش من المباحات، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يبتلينا بذلك، فيصيبه العطش الشديد الذي يخاف معه الهلاك، هذه صورة، أو يصيبه العطش الشديد الموجب للحرج، فالعلماء والأئمة-رحمهم الله- اختلفوا: هل يجوز شرب الخمر عند العطش الشديد؟ ذهب جمهور العلماء إلى عدم جواز شرب الخمر عند العطش، وهذا مذهب الجمهور، وبعضهم ينسبه إلى عامة العلماء، والواقع أن فيه خلافا، فقد ذهب بعض العلماء إلى جواز إطفاء العطش بالخمر، كما هو منصوص عليه في مذهب الحنفية رحمهم الله، إذا وصل إلى مقام الحرج.
وذهبت طائفة ثالثة إلى التفصيل، وقالوا: إذا كانت الخمرة مستهلكة بشيء يمكن أن يحصل به انطفاء حرارة العطش، ويحصل بها المقصود فبها ونعمت، وإلا فلا، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وطائفة من أهل العلم من أصحاب الشافعي، وغيرهم رحمة الله عليهم.
أصحاب القول الأول يقولون: لا يجوز أن يطفئ العطش بالخمر؛ لأن الخمر تزيد الإنسان عطشا إلى عطشه، فمادتها -بشهادة الأطباء- حارة، قالوا: لذلك لا يشرب أحد الخمر إلا وعنده ما يطفئ حرارتها، والغالب فيهم أن يضعوا فيها المبردات، أو يضعون بجوارها ما يبرد، فهذا يدل على أن ما يذكرونه من كونها تطفئ العطش ليست مصلحة موجودة في الخمر، فإذا شككنا في وجودها فإننا لا نستطيع أن نستبيح المحرم الواضح لمصلحة محتملة، وهناك فرق بين التداوي وبين مسألة العطش.
قال أصحاب القول الثاني: يجوز إطفاء العطش بالخمر، وذلك لأنه في مقام الحرج، فإذا شرب الخمر أطفأ عطشه، وهذا يدفع عنه الحرج، ولربما يكون يخشى الموت، فإذا شرب ذهب عطشه.
وفي الحقيقة: مذهب التفصيل هو أعدل الأقوال في المسألة، وكما ذكره شيخ الإسلام، ويشترط أولا أن يغلب على ظنه أنه إن لم يشربها سيهلك، ويصل إلى درجة الخوف من الهلاك، ولا يجوز له شربها لمجرد العطش الذي لا يخاف معه الهلاك.
ويشترط ثانيا: أن يغلب على ظنه أنه لو شربها أنها تطفئ عطشه، كما لو كان معها مادة مستهلكة فيها، أو عنده خبرة -كما يقع لبعض حديثي العهد بالجاهلية- أن هذا النوع يطفئ عطشه، فحدثت له هذه الحادثة، واضطر إلى شربها على هذا الوجه؛ فيرخص له، وهذا هو القول الأعدل والأقرب إلى الصواب إن شاء الله في هذه المسألة.
قال المصنف رحمه الله: [ولا غيره] يعني: غير العطش من الأمور الأخرى التي يتذرع بها، كما يفعله البعض من الدلك بها، فيأخذ مادة الكحول ويدلك بها اليد، أو للتعقيم من الجراثيم، أو زيادة النضرة والجمال، وأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى خالد: (بلغني أنك تدلك بالخمر، وإن الله حرم الخمر ظاهرا وباطنا، فإياك! أن تفعل ذلك فإنها نجسة) وهذا يؤكد أنه لا يجوز تعاطيها في هذه الأمور ولا في غيرها؛ ولذلك عمم المصنف رحمه الله الحكم كما هو ظاهر العبارة.
الأسئلة




سلبت منافع الخمر عندما حرمت
السؤال في قوله تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] وقد أثبت الطب الحديث أنه ليس في الخمر علاج، وهذا مشكل، فما هي المنافع التي فيها؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فكون الطب الحديث الآن يثبت أنه ليس فيها منافع، لا يعارض أن يكون فيها منافع في مرحلة من مراحل التشريع؛ وقد جاء في رواية صحيحة -صححها غير واحد من العلماء- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لما حرم الخمر سلبها المنافع) ، فالذي يبحثه الأطباء الآن هو بعد سلبها المنافع، أما في القديم، في المرحلة الثانية من تحريم الخمر، وهي مرحلة التنفير، قال الله عز وجل: {يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} [البقرة:219] ، وهذا قبل التحريم، وبعد أن حرمت سلبت المنافع، وحينئذ لا إشكال؛ لأن محل الإشكال: لو كانت المنافع موجودة، والآية تتكلم بعد التحريم، فيصبح هناك تناقض بين نفي المنافع وإثباتها، والواقع أن نفي المنافع جاء بعد التحريم، والآية تتحدث عما قبل التحريم، وعلى هذا لا إشكال ولا تعارض؛ لأن القاعدة عند العلماء: إذا اختلف الموردان فلا يحكم بالتعارض، والله تعالى أعلم.

الحذر من خطر دعوى التدرج في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى
السؤال تدرج الله سبحانه وتعالى في تحريم الخمر، هل فيه دليل على أننا نتدرج أيضا في نصيحة الناس في أي معصية من المعاصي؟

الجواب هذه المسألة ينبغي الحذر كل الحذر منها، وأحب أن أنبه إخواني جميعا أن يتقوا الله عز وجل في الدعوة إلى الله، وأن يعلموا أن أمور الدعوة ينبغي أن ينتهج فيها المنهج الذي بينه الله في كتابه، وبينه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في سنته، ولا أحسن ولا أجمل ولا أكمل ولا أعلم ولا أحكم من هذا الشرع والطريق والسبيل، قال تعالى: {قل إني على بينة من ربي} [الأنعام:57] ، والبينة: الأمر الواضح الذي لا اختلاج فيه ولا خلل، لكن بينة من من؟ من ربه، وبين الله تعالى أنه على هدى، وأنه على صراط مستقيم، وأنه يدعو إلى هذا الهدى، وإلى الصراط المستقيم، إذا ثبت هذا؛ فلا يجوز لمسلم أن يدخل يجتهد في مجالات الدعوة برأيه، ويتحكم في الأمور بهواه، دون أن يكون قد ورث عن أهل العلم العلم الشرعي والبصيرة، عليه أن يتقي الله عز وجل، وألا يغش أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأصل الشرعي يقتضي أننا إذا نزل النص بتحريم أمر أن نبلغ الناس أنه حرام، فلو أنه دخل على رجل يشرب الدخان، لا يأتي ويقول له: والله! الدخان ما هو طيب، لكي يقول له بعد ذلك: الدخان حرام، فيقول له في اليوم الأول: الدخان ما هو طيب، أو يقول له: إن الأطباء يقولون: إن الدخان فيه أضرار، فيبدأ يقنعه عقليا، ثم يقنعه نقليا، افعل ذلك إذا ظننت أنك تبقى إلى غد، أو يبقى هذا الشخص إلى غد، فلو مات ولم تقم حجة الله عليه، وكان بإمكانك أن تقول له الحق، فستلقى الله عز وجل به، ولذلك لا يجوز تأخير الحجج والبراهين والإعذار إلى الله عز وجل في خلقه، ومن أغرب ما ترى! التساهل في إقامة الحجج، أما من يسير على المنهج السوي، يأتي إلى الشخص ويقول له: يا أخي! دل الدليل من كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذا الخمر حرام، فاتق الله عز وجل، ودع ما حرم الله يغنك الله، ويكفك بحلاله عن حرامه، يا هذا! اتق الله في نفسك، واتق الله في مالك، واتق الله عز وجل في حدود الله التي أمرك الله باجتنابها، فيعطيه الأمر واضحا.
فإذا نظرت: وجدت الداعية الذي يسير على هذه الأمور الواضحة مباركا له في دعوته، ومن يلتزم بسببه يلتزم بقوة، ويلتزم باستجابة للحق، بخلاف الذي يرقع له، ويحاول أن يلطف يلطف يلطف حتى إنه لربما جاءت عزائم الإسلام فنكص على عقبيه والعياذ بالله! فهو يلتزم بين بين! إن نظر إلى مجلس فيه ضحك ولهو، وأخذت أمورالدعوة بإضحاك الناس واللهو معهم؛ استقام على دين الله، فإن خرج إلى مجلس فيه جد، وفيه أحكام الشريعة، وفيه سنن الهدى التي تستنير بها البصائر ضعفت نفسه، ولربما قال كلمة يزل بها إلى لقاء الله عز وجل، فيقول مثلا: هذا تعقيد! وتجد بعضهم يستحدث في الدعوة أمورا غير شرعية، ويقول: لا تدع الناس مباشرة! بل إن بعضهم-والعياذ بالله- يأخذ آلات اللهو ويضربها لمن يدعوهم حتى يجذبهم إلى الإسلام! إنا لله وإنا إليه راجعون، من الذي قال لك: إن هذا الحرام قد صار حلالا لك؟! ومن الذي فتح لك أبواب المحرمات تستبيحها في سمتك ودلك وتستخف بدين الله عز وجل هذا الاستخفاف؟! من الذي قال لك: إن هذا الدين ضحك ولهو؟ هذا يماثل قلوب الذين: {قالوا أتتخذنا هزوا} [البقرة:67] ، والهزو: الضحك، {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} [البقرة:67] ، فموسى نبي من أنبياء الله برأ رسالته التي بعث بها أن تكون بطريق الجهل، فالدين علم وبصيرة، كما قال الله: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم:12] أي: بعزيمة، وصبر، وتحمل، ومناهج واضحة، وحجج بينة، هذا ربك، وهذا دينك، وهذا نبيك، توصيه بطاعة الله عز وجل وتقواه، وتقرعه بقوارع التنزيل إن كان مثله يقرع، أو تأخذه بمحاسن الإسلام ترغيبا، ولك في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الحجج الواضحة البينة ما ترق به القلوب، فليس الإسلام بهذه التأويلات وهذه التعسفات، ولا تجد هذه التأويلات عند أهل العلم والبصيرة، ولذلك تجد أهل العلم الذين عرفوا كتاب الله، وعلموا حلاله وحرامه، الراسخون في العلم؛ لا يدعون الناس بمثل هذه التهكمات، وبمثل هذه الاجتهادات، هذه تجدها عند أناس مفلوتين لا زمام لهم ولا بصيرة، تجدهم الواحد منهم يختلق في دين الله وفي دعوته ومنهجه فكرا جديدا؛ لكي يضيفه لنا، وكأن الشريعة ناقصة! الشريعة منهج واضح، ليس فيها اجتهاد ولا تأويل، فيما لا اجتهاد فيه ولا تأويل، فطرق الدعوة واضحة، ومناهج الدعوة واضحة، ومن هنا يقول الله عز وجل: {إنه لقول فصل * وما هو بالهزل} [الطارق:13 - 14] ، أسلوب التوكيد: (إنه) أي: إنه شرع الله الذي في القرآن، الذي هو الفصل والأساس، فالتدرج عطفا على الناس، واستخدام الأساليب المضحكة والملهية لتأليف الناس، هذه أمور خلاف المنهج والسنن، وينبغي للإنسان أن يرتبط بمنهج الكتاب والسنة، وأن يصحح مساره، وأن يعرف كيف يدعو! وما هو الأصل! وقد عايشنا العلماء، وجالسنا أئمة من أهل الفضل، ممن فسر كتاب الله عز وجل عشرات السنين، وممن فسر السنة عشرات السنين، فيأتيهم من هو أشقى الناس، ونعرف أن من دخل عليهم من أفسق الناس فجورا وانتهاكا لحدود الله عز وجل، وقد كان بالإمكان أن يضحك معه أو يلهو معه، فإذا به يقف معه الموقف الواضح البين، ويقول له: هذا دين الله وشرعه.
سبحان الله! حينما أدعو الناس بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقرأ عليهم كتاب الله، وأذكرهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما استجابوا، وقامت عليهم الحجة، هل معنى ذلك أن الكتاب والسنة نفرة؟ لا أبدا، الخلل ليس في كتاب الله، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما في النفوس والقلوب، فهي التي تستجيب، فإن وعت وأراد الله هدايتها فالحمد لله، وقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أصدق الناس مقالا، وأوضحهم منهجا واعتدالا، وعلما بالحكمة ومواضعها، ومع ذلك قال بقول الله عز وجل، وبلغ عن الله صلوات الله وسلامه عليه، ولم يأخذ الناس بالسخرية، ولا باللهو والضحك.
ذكر عن بعض هؤلاء أنه في محاضراته -والناس يحضرون من أجل أن يسمعوا منه- يمثل للمرأة: كيف تتدلل! وكيف تضحك! من أجل أن يضحك الناس! هذا انحطاط وحط لقدر الشريعة، الشريعة لها مكانة وقدر، على الإنسان أن يستبين منهج الله عز وجل، لا يقول لك شخص: قم وادع بما فتح الله عليك! فتأتي بالطوام، وبالأمور الغريبة العجيبة التي تصطدم مع الشرع تماما.
حدث لبعض هؤلاء موقفا: استدعاه بعض مشايخنا رحمة الله عليه؛ لأنه جاء وأضحك الناس في زواج، فقال كلاما من أجل إضحاكهم، فقال: مو يهديني! ثم استدعاه شيخنا رحمه الله وهو الوالد، وقال له: يا فلان! هل حضرت زواج فلان؟ قال: نعم، قال: هل قلت: كذا وكذا؟ قال: يا شيخ! قلت ذلك، والحمد لله، نفع الله بذلك القول، وما أريد إلا الخير، قال: أوكل مبتغ للخير مصيب له؟! يا هذا! اتق الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم! تأتي على مرأى ومسمع من الناس لتضحكهم، وتستخف بدين الله عز وجل؛ لأنه قال كلمة عجيبة، وقال كلمة غريبة ينزه الشرع عنها، ثم قال له: أتعرف أن هذه الكلمة بعض العلماء يراها كفرا واستهزاء بالدين؟! قال: أعوذ بالله! ما كنت أظن هذا، قال: إذن أنصحك أن تجثو على ركبتيك في مجالس العلماء؛ حتى تتأهل للعلم، والدعوة والبصيرة.
وانظر إلى العلماء كيف يدعون الناس! وكيف يغضبون في مواطن من حقهم فيها أن يغضبوا! وكيف يأخذون الناس بالتي هي أحسن في مواطن يحسن فيها أخذهم بالرفق! إذا لا بد أن نرجع إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قل أن تجد مناهج تخرج عن هذا الأساس، ويوضع فيها البركة، ولا يمكن أن تستقيم أمور العبد بغير كتاب الله عز وجل، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه} [الأنعام:153] ،هذه الوصية كان ابن مسعود يقول: (من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.
[الأنعام:151] ، وآخر هذه الوصية وكلها مسك: (وأن هذا صراطي) صراط الله، ما هو صراط الله؟ قيل: هو القرآن، فمن دعى بعلم بالقرآن وبصيرة بالقرآن فإن الله يبارك دعوته، ويبارك قوله وعمله، حتى لو لم يستجب لدعوته إلا عشرة؛ فإنهم خير من ملء الأرض ممن يستقيم على الترهات والضحك، والاستخفاف والعبث، ولذلك كم وجدنا، وكم سمعنا من أخبار عجيبة ممن يختلق هذه الأمور في الدعوة! فيتدرج في أمور الحكم فيها واضح، ويأتي يريد أن يختلق للناس تدرجا في الأحكام! كم سمعنا من محق للبركة في دعوتهم! وكم وجدنا من الآثار التي لا يحمد عقباها لمن دعوهم! لأن الله يقول: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج:11] ، قال بعض العلماء: إني لأعرف من عبث مع البعض فأدخله باللهو والضحك، حتى جلس عشر سنوات على التزام، فجاءته مصيبة فانتكس فمات شر ميتة-والعياذ بالله-، فهو يلتزم على أشياء محدودة، ومن العجيب أنك تسمع بعضهم يقول: إذا أردت أن ترى الداعية الحق فاذهب إلى فلان، فهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يدعون! وهؤلاء هم الذين يعرفون كيف يؤثرون! إن الذي يعلم التأثير، ويعلم مواطن التأثير هو الله وحده المطلع على السرائر والضمائر، وهو سبحانه الذي يضع البركة لمن ابتع كتابه، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وليس هذا أو ذاك، الله وحده هو المطلع على السرائر والضمائر، والمطلع على عواقب هذا الوحي، وآ

حكم من فاتته ركعة رابعة ثم صلاها مع إمام زاد خامسة سهوا

السؤال رجل فاتته ركعة في صلاة الظهر، والإمام أتى بركعة خامسة، فهل تجزئ؟

الجواب إذا قام الإمام إلى الركعة الخامسة فإن المأمومين على قسمين: من كانت صلاته أربعا، وحضر الصلاة تامة فلا يجوز له أن يتابع الإمام، بل يبقى، ويطيل التشهد والدعاء حتى يتم الإمام الخامسة؛ لأنه معذور في ظنه، وله أن يتعبد الله بما يظن، وأنت لست معذورا في متابعته على الخطأ؛ لأنك مأمور باتباع الإمام فيما شرع، لا فيما لم يشرع، ومن هنا تطيل التشهد كما أطال الصحابة رضوان الله عليهم التشهد وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فتثبت وتطيل التشهد، فإذا نبه ورجع إلى المصيبين الذين يعرفون الزيادة، وعلم أنه زاد، فرجع؛ فلا إشكال، فيسلم بالجميع، ويسجد للزيادة وتسجد معه؛ لأنك تبع للإمام في خطئه وصوابه.
وأما إذا أصر على موقفه، وأتم الركعة، فله عذر، وصلاته صحيحة، وصلاتك أنت صحيحة؛ لأنها تمت لك أربع ركعات.
القسم الثاني من المأمومين: الذين ورد السؤال عنهم: من جاء متأخرا، فقام الإمام لخامسة، سواء علم أو لم يعلم أنها خامسة، فيتابع الإمام، والسبب في هذا: أنه مأمور باتباع هذا الإمام، وصلاته ناقصة، فالإمام قائم لركعة نافلة -وهي الخامسة- لعذر، فحينئذ لا وجه أن ينفصل عنه؛ لأن صلاته لم تتم، فيتابعه في هذه الركعة، ويسلم معه، وصلاته صحيحة، ولو فاتتك ركعتان، فقام الإمام إلى ركعة زائدة قضيت معه ركعة واحدة، وهذا مبني على اقتداء المفترض بالمتنفل، والأدلة دالة على جواز ذلك، كما في قضية صلاة الخوف، والله تعالى أعلم.

إذا لم يأت الخطيب يوم الجمعة

السؤال جماعة مسجد غاب عنهم خطيبهم يوم الجمعة، فصلوا ذلك اليوم ظهرا بلا خطبة، بحجة عدم وجود من هو أهل للخطابة، هل فعلهم هذا صحيح؟ وإن لم يكن فماذا يلزمهم؟

الجواب لا شك أنه ينبغي عدم الاستعجال، المشكلة هنا في الاستعجال، فالمؤذن بمجرد ألا يجد الإمام يخاف الإحراج، فيقول مباشرة: يا جماعة! سنصلي الظهر، ثم يصلي بهم ظهرا، فالمنبغي أن يسألهم، ويقول: هل فيكم أحد من طلبة العلم ممن يستطيع أن يصلي بنا الجمعة؟ حتى يعذر إلى الله عز وجل، فإن وجد أحدا بهذه الصفة مكنه أن يقوم ويخطب بالناس، ويؤدي لهم صلاتهم؛ لأن الأصل: أنه يجب عليهم أن يصلوا الجمعة، وأما إذا لم يوجد فحينئذ ينظر: فإن وجدت مساجد أخرى فيها الجمعة، فإنه يجب عليهم أن يخرجوا من هذا المسجد ويدركوا الجمعة في المساجد الأخرى؛ لأن الله فرض عليهم جمعة، ولم يفرض عليهم ظهرا، ولا يستقيم أن يصلوا ظهرا والمساجد الأخرى فيها جمعة، وعلى هذا ينبغي تنبيه الناس لهذا لأمر؛ أنهم لا يصلون ظهرا مع إمكان أداء الفرض-أعني الجمعة- للحاضر المقيم.
أما لو تعذر، ما في في القرية إلا هذا المسجد، وليس هناك إلا إمام واحد، وليس هناك أحد يستطيع أن يخطب، وهذه مصيبة، المؤذن لو وقف وقام وقال: أيها الناس! اتقوا الله ربكم، وذكرهم بآية من كتاب الله، أو بحديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو حتى قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أمامكم الجنة! أمامكم النار! رغب ورهب، فجمعتهم صحيحة، حتى: لو خطب عشر دقائق، أو حتى سبع دقائق، أو حتى خمس دقائق، حتى لو قال: أيها الناس! اتقوا ربكم، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، اتقوا الله في أنفسكم، في أهليكم، في أولادكم، ولو قالها من قلبه لربما كانت مغنية عن عشرات الخطب، وخير الكلام ما قل ودل، فهذا لا يؤثر في صحة الجمعة، ثم جلس، ثم قام مرة ثانية: يحمد الله، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أيها الناس! أذكركم ما ذكرتكم في الخطبة الأولى، ما يضر، هي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حولها ندندن) أي: الجنة التي نرجو من الله تعالى أن يجعلنا من أهلها، والنار التي نرجو من الله عز وجل أن ينجينا وإياكم منها، هي كلها ندور حولها، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاته أطول من خطبته، وهذا من مئنة فقه الرجل، وصلاته يقرأ فيها بسبح والغاشية، وسبح والغاشية مقدارها صفحتان، يعني: ورقة واحدة، والأئمة الآن يأتي الواحد منهم ومعه درزن من الأوراق، يريد ألا ينفض الناس إلا وقد علموا تفاصيل الشريعة من أول الإسلام إلى آخره، خير الكلام ما قل ودل، فإنه قد يقوم الرجل العامي الغيور، ويتكلم على أمر من الأمور التي يعلم حكم الله عز وجل فيه، أو يرى الناس تقصر فيه، فيقف ويقول: يا ناس! اتقوا ربكم، بأسلوب عامي، لكنها تقع في القلوب، ويقوم البلغاء والفصحاء والمتكلمون، وإن شئت قلت: الثرثارون، ولا يغني ذلك شيئا، ويخرج الناس كما دخلوا! إذا: قد يعظ الإنسان بالكلام القليل ويكفي، فلا تصعب الجمعة، وما ذكر من اشتراط الحمدلة، وقراءة الآية، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه شروط معروفة، لكن تكلم العلماء فيها، وأنها اجتهادية، والصحيح أن خطبة الجمعة شرطها: البشارة والنذارة، وهي رسالة الرسل؛ لأن أصل الرسالة: السفارة، أي: سفارة الرسل من الله عز وجل إلى العباد، وقد بينها الله في هاتين الكلمتين: {رسلا مبشرين ومنذرين} [النساء:165] ، ومن هنا بعض الناس يقول: العلماء قصروا، وخانوا الأمة؛ لأنهم لم يبينوا دينه، ألا تعلم أنه لو وقف عالم وقال: أيها الناس! اتقوا ربكم، أنه قد أعذر إلى الله في شرائع للإسلام لا يحصيها إلا الله عز وجل؟! من هذا الذي يستطيع أن يقول: اتقوا ربكم، من قلب مخلص؛ فإذا قالها هز القلوب إلى ربها؟ ومن يستطيع أن يقول هذه الكلمة التي كثر قائلوها، وقل العاملون بها؟ ومن يستطيع أن يقولها من قرارة قلبه فلا تجاوز أذنا حتى تستقر في قلبها؟ إنما هو المخلص لله عز وجل.
وأذكر الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله برحمته الواسعة كنا ذات يوم في المسجد النبوي بعد صلاة الظهر -وهذا من تواضعه رحمه الله برحمته الواسعة-، وكان هناك حريق في سوق المدينة، واستمر قرابة سبعة أيام، وكان عبرة! سوق للذهب حرق ومكث أياما آية من آيات الله، هذا الموضع كان فيه بعض التقصير والتساهل من بعض الناس، وكأنه ابتلاء من الله عز وجل، فلما صلى الناس الظهر، قام رجل من عامة المسلمين، ولكنه قل أن يغيب عن الصف الأول في الحرم، وقل أن يغيب عن مجلس الذكر في المسجد النبوي، ما يمكن أن يغيب بعد المغرب إلى العشاء، لا بد أن تراه في حلق أهل العلم، وعنده عناية بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعطش للخير، وكان غيورا على الطاعة والخير، فقام هذا الرجل الكبير السن، ووقف موقفا مؤثرا جدا، وقف بعد الصلاة وهو شيخ حطمة! ضعيف البدن! ضعيف الصوت! وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه كلاما مؤثرا، ومما قال: أين السوق بالأمس؟ أين الذهب؟ أين المجوهرات؟ انظروا كيف أن الله عز وجل يبتلي عباده! وكيف تأتي نقم الله عز وجل! تحدث قرابة عشر دقائق، لكن فيها تذكرة لمن عقلها، وله أذن واعية، فأثر فينا كثيرا، وكان الشيخ رحمه الله جالسا في الصف الثاني تقريبا في الحرم، وكان بيني وبينه شخصان، وما كنت أعلم أنه في الحلقة، وفجأة الرجل قال: الله أكبر، الشيخ ناصر موجود؟! فكان كما يقولون: خرب الذي فعل، كنا في الموعظة، وتأثرنا، فإذا بالشيخ رحمه الله ينشج من البكاء، ويرفع صوته، ويقول: أناشدك الله استمر! استمر! استمر! فتأثر بكلامه، وهو رجل من العامة، فوضع الشيخ يديه على رأسه وهو جالس وقد نشج وتأثر وبكى.
فهذا الرجل من عامة المسلمين، ومع ذلك يعظ علماء، ويؤثر فيهم؛ لأن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت كذبة منمقة محسنة -ولوكانت من أبلغ الناس إذا لم يرد بها وجه الله- لم تبلغ مبلغها أبدا؛ ولذلك وعظ أحدهم بكلام بليغ مؤثر في القلوب، فجاءه رجل بعد الخطبة، وقال له: يا فلان! إنك قلت كلاما تندك منه الجبال، من قوته وبلاغته وفصاحته، ولكني أقسم بالله أنه ما بقي في قلبي منه شيء، فإما أن يكون فيك العيب أو في العيب! يعني: إما أن تكون لا تريد وجه الله-أستغفر الله- بهذا الكلام؛ فاتق الله، وإما أن أكون أنا لا أحسن سماع المواعظ، ولا التأثر بكلام الله عز وجل وكلام رسوله؛ فأنا الذي في العيب، فأعطاه موعظة قصيرة، لكنها مؤثرة.
فتأثر الناس في خطبة الجمعة لا يشترط أن يأتي الإنسان بكلام كثير، وكم رأينا من أمور مؤثرة جدا؟ الشخص يجلس يخطب قرابة النصف ساعة، والناس في شدة الظهيرة، وقد يكون هذا في شدة الصيف، والناس في أحوج ما يكونون إلى من يرفق بهم، وإلى من يتألفهم.
وتجد بعض الخطباء الحكما يختصرون بكلام قليل، وتجد لهم من القبول ومحبة الناس، وغشيانهم لمساجدهم وقبولهم لمواعظهم الخير الكثير؛ لأنهم حببوا الناس في دين الله عز وجل، ولم ينفروهم.
فالشاهد: أن الخطبة -وينبه المؤذنون على هذا- تتوقف على التذكير بالله عز وجل، فإذا قام شخص وذكر بالله كفى، لكن إذا وجد مسجد تقام فيه الخطبة فأنا أنصح أنه لا يقوم أحد ليخطب إذا كان نفع الناس بالخطب الأخرى أعظم، وقد يؤم بهم عامي يلحن في الفاتحة أو يخل بها، فتبطل صلاتهم.
فخلاصة القول: إذا لم يوجد مسجد آخر -وهذا الشرط الأول- فيه جمعة جاز لهم أن يصلوا الجمعة.
الشرط الثاني: أن يغلب على ظنه أنه لا يوجد الخطيب إلى آخر الوقت، وهذا يغفله كثير ممن يفتي في هذه المسألة، فإن العلماء قالوا: إن الجمعة واجبة في هذا اليوم، فمنهم من شدد إلى آخر وقت الظهر، فلم يعط رخصة بصلاتها ظهرا إلا إذا ضاق عليهم الوقت, ولم يبق إلا قدر ما يصلون الظهر؛ لأنها فريضة لازمة عليهم، فإن رجوا حضور الإمام أو حضور من يقوم بالخطبة ولو بعد وقت؛ ينتظرون في المسجد، وحينئذ تكون الجمعة لازمة عليهم، فإذا تحقق الشرطان جاز لهم أن يصلوا ظهرا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #723  
قديم 24-10-2025, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (522)

صـــــ(1) إلى صــ(23)


شرح زاد المستقنع - باب حد المسكر [3]
تعاطي المخدرات بلاء عظيم، وإثمه كبير، وشره كثير، وما انتشر في أمة إلا فتك فيها فتك النار في الهشيم، فلا تبقى لها حرمة، ولا تقوم لها قائمة، فإذا فسدت عقول الناس فسد دينهم، وفسدت أخلاقهم، وصاروا في فتن ومحن وشرور لا يعلمها إلا الله.
جواز شرب الخمر في إزالة غصة اللقمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه من سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يباح شربه للذة ولا لتداو ولا عطش ولا غيره إلا لدفع لقمة غص بها] .
تقدم معنا تحريم شرب الخمر، وأن هناك بعض المسائل استثنيت من هذا التحريم، وذكرنا مسألة التداوي، وبينا خلاف العلماء رحمهم الله فيها، وبعد هذا ذكر المصنف رحمه الله ما يستثنى من تحريم شرب الخمر، وهي حالة الضرورة، عندما يخشى الإنسان أن يموت ويهلك، وقد ذكر الأئمة والعلماء رحمهم الله من المتقدمين والمتأخرين مثالا على ذلك بالغصة.
والغصة صورتها: أن يأكل طعاما فيغص، فإذا لم يشرب ما يفك غصته فإنه ستتلف نفسه وتهلك روحه، وحينئذ تكون حالته حالة اضطرار يخشى فيها عليه الموت، وهذه المسألة تعرف بإساغة الغصة بالخمرة، وهي مسألة قديمة، وعامة أهل العلم على الترخيص، وأن المسلم يباح له في هذه الحالة أن يشرب الخمر بقدر ما يسيغ هذه الغصة، ويذهب الخطر والضرر.
إذا: يشترط أول شيء أن يكون هناك خوف على النفس، بمعنى: أن يغلب على ظنه أنه سيموت.
ثانيا: ألا يجد شيئا غير الخمر مما هو دون الخمر أو من المباحات يمكن إساغة الغصة به، فإن وجد ما دون الخمر فإنه يقدمه، فلو وجد ماء فبالإجماع يحرم عليه أن يشرب الخمر؛ لأن الأصل أن الخمر محرمة، لكن لو أنه وجد نجاسة -أكرمكم الله- كالبول، فهل يقدم الخمر أو البول؟ كلاهما نجس، قال بعض العلماء: يقدم البول على الخمر؛ والسبب في ذلك: أن البول لا حد ولا عقوبة في شربه، ولكن الخمر فيه عقوبة، والوعيد فيه أعظم، فيقدم شربه للبول على شربه للخمر.
ولو وجد ماء متنجسا وبولا وخمرا، فأيهما يقدم؟ قالوا: يقدم الماء المتنجس؛ لأن الأصل أنه مطعوم، لأن الله وصف الماء بكونه طعاما فقال: {ومن لم يطعمه فإنه مني} [البقرة:249] ؛ ولأن الماء الأصل حله، والنجاسة عارضة عليه، بخلاف البول الذي يحكم بنجاسته بقوة أقوى من الماء المتنجس.
وعلى هذا: يشترط ألا يوجد بديل، وهذه قاعدة تضعها معك أنه لا يفتى بالرخص مع وجود البديل المباح، وبجميع مسائل الرخص لا يمكن لعالم أو فقيه أن يفتي فيها بالرخصة مع وجود البديل.
وإذا خاف الموت ولم يجد بديلا عن الخمر، فيشترط الشرط الثالث: أن يكون شربه للخمر بقدر الحاجة والضرورة، فلا يزيد عن قدر حاجته، وإنما يقتصر على قدر إساغة اللقمة أو ما غص به؛ لأن القاعدة تقول: (ما جاز للضرورة يقدر بقدرها) ، فلا يجوز له أن يزيد عن القدر الذي تندفع به الغصة.
المسائل المستثناة في النجاسات
وهذه المسألة يعتبرها العلماء من المسائل المستثناة في النجاسات، ونظمها بعض العلماء في عشر مسائل، فقال: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغ ولحمها للاضطرار سوغ وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفى الفضة وجاز أن تشلى عليها الغلف بوفقهم والحمل فيه الخلف ولبن الأتن للسعال والجلد للرئمان فيه جالي وغصة تزال بالرياح وبول الآدمي للجراح
حكم جلد الميتة إذا دبغ
هذه عشر مسائل: المسألة الأولى في قوله رحمه الله: وجاز الانتفاع بالأنجاس في مسائل نظم بعدها يفي في جلد ميتة إذا ما دبغ، هذا فيه نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أيما إهاب دبغ فقد طهر) .
أكل لحم الميتة حال الاضطرار
(ولحمها للاضطرار سوغ)؛ لأن الله يقول: {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام:119] فاستثنى المضطر في أكل الميتة.
استعمال شحم الميتة
(وشحمها تدهن منه البكرة)، وهي بكرة البئر، فإنهم لا يستطيعون أبدا أن ينزعوا من البئر إلا بوجود الشحم، والماء يكون غالبا في مقام الحاجيات، فإذا لم يتوصل إلى الماء إلا بالنزع، والنزع لا يمكن الوصول إليه إلا بشحم الميتة؛ جاز له في هذه الحالة أن ينتفع به.
استعمال عظم الميتة في تصفية المعادن والفضة
(عظامها بها تصفى الفضة)، في بعض الأحوال تستخدم العظام في المعادن ويحتاج الصاغة إلى تصفية الفضة بعظام الميتة، ولكن الآن يستغنى عنه بوجود المواد البديلة.
تحريش الكلب على الصيد
(وجاز أن تشلى عليها الغلف)، الغلف هي: الكلاب -أكرمكم الله- في لغة العرب، (تشلى عليها) يعني: إذا أراد أن يعلم الصيد فإنه يحرشه ويشترط -كما سيأتينا إن شاء الله في إثبات صفة التعليم للكلب وللطائر الجارح حتى يجوز أكل ميتته وصيده- أنه إذا أشلاه ينشلي، وإشلاء الصيد للعلماء فيه قولان: قيل: الإشلاء أن يدعوه فيستجيب، فإذا ناداه يأتي، وهذا كقول الشاعر: أشليت عنزي ومسحت قعبي ثم انثنيت وشربت قأبي فمعناه: أنه نادى عنزه لأجل أن يحلبها.
ويطلق الإشلاء في لغة العرب على المعنى الثاني -وهو المقصود هنا- وهو: تحريش الكلب وتحريش الصقر والباز والباشق والنسور عند تعليمها للصيد، يحرشها بالفريسة فتذهب إلى الفريسة، وهذا هو المراد هنا، قال الشاعر: أتينا أبا عمرو فأشلى علينا كلابه فكدنا بين بيتيه نؤكل هذا رجل بخيل جاءوا يزورونه فأشلى عليهم الكلاب أكرمكم الله! فالإشلاء هنا بمعنى: التحريش، قالوا: لا يكون الكلب معلما إلا إذا حرشته ثلاث مرات فيتحرش، وقد يستجيب مباشرة، وقيل: بمرتين، وسيأتي إن شاء الله الخلاف بين العلماء في ذلك.
فهنا قوله: (وجاز أن تشلى عليها الغلف) يعني: تحرش الكلاب عليها، (بوفقهم) يعني: باتفاق العلماء.
حكم حمل الميتة إلى الكلب
(والحمل فيه الخلف) يعني: حمل الميتة إلى الكلب من أجل أن يأكلها مختلف فيه؛ لأنه فرق بين أن يذهب بنفسه ويأخذ الميتة وبين أن تحمل له، ولذلك حرم بعض العلماء حملها وقالوا: لا رخصة.
استخدام لبن الأتان لعلاج السعال الديكي
(ولبن الأتن للسعال) لبن الأتان للسعال الديكي عند تعذر العلاج والدواء عند من يقول بالتداوي بالنجس، فيرخص لهذا المريض أن يستعمل لبن الأتان إذا خشي الهلاك، قالوا: إنه مجرد دواء للسعال الديكي إذا أعيت فيه العلة، وهذا يقولونه من باب الضرورة، وقد قدمنا مسألة التداوي بالنجس.
وضع العلف في جلد البقرة التي ماتت لمصلحة ولدها ليأكل
(والجلد للرئمات فيه جالي)، الرئمات: هن صغار البقر، إذا ماتت أمه امتنع من الأكل والشرب، فيتأثر ولا يأكل شيئا من شدة حزنه على أمه، ووجده عليها، حتى البهائم فيها رحمة، بخلاف -نسأل الله العافية- قساة القلوب حينما يقال له: أمك مريضة يقول: اذهبوا بها إلى المستشفى! وهذا الحيوان يمتنع من الأكل؛ لأنه اعتاد أمه، ولا يمكن أن يشرب الماء ولا أن يأكل الطعام حتى يشم أمه، فماذا يفعلون؟ ماتت أمه، ويغلب على الظن أنه سيموت بعدها؛ لأنه يمتنع من الأكل والشرب، فحينئذ هذا تلف مال، ولذلك رخص العلماء أن يأتوا له بالطعام محفوفا بجلد أمه بعد موتها، فلما يشم رائحة أمه يقبل على الطعام ويأكل: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه:50] ، حتى البهيمة هداها!
إنزال الغصة بالخمر
(وغصة تزال بالرياح) الرياح: اسم من أسماء الخمر، فقوله: (غصة تزال بالرياح) يعني: إذا اضطر إلى إزالة الغصة بالخمرة فهو معذور، ولا حرج عليه ولا إثم.
استخدام البول لتجفيف الجروح النازفة
(وبول الآدمي للجراح)، أي: الجرح -أجاركم الله- إذا كان ينزف، كانوا في القديم في الحروب يتعرضون له للإصابات، فينزف الجرح فلا يرقأ، فيصب عليه البول فيتماسك، وهذا مجرب ومشهود إذا صب البول -أكرمكم الله- على الجرح يتماسك ويلتئم؛ لأنه حارق فيحرقه، وهو من طبيعة البدن، ولذلك تقول العامة: (الجرح النحس ما له إلا البول النجس) ، فهم يقولون هذا بطبيعتهم، فإذا أعياهم أن يجدوا له دواء إلا هذا فلا بأس، فهذه عشر مسائل ومنها مسألة الباب: (وغصة تزال بالرياح) ، وهذه يقول عنها: الإمام ابن قدامة وغيره: عامة العلماء أنه إذا حصل اضطرار إلى الخمر بأن تساغ بها الغصة فلا بأس ولا حرج، وهذا لا يدخل في التداوي بما حرم الله؛ لأنه ليس علاجا لداء، وإنما هو مقام اضطرار، ألجئ إلى هذا الخمر، فرخص له ذلك جماهير السلف والخلف، وهو قول العامة.
ويحكى عن الإمام مالك وبعض السلف أنهم شددوا في هذه المسألة، ولكن المذهب عند المالكية أنها تزال الغصة بالخمر، وأنه لا حرج ولا بأس حينئذ.
قال المصنف رحمه الله: [ولم يحضره غيره] فهذا شرط، لم يحضره غير الخمر، فإذا وجد غير الخمر يمكن إساغة الغصة به، فإنه لا رخصة له في الخمر، بشرط ألا يكون غير الخمر متضمنا للضرر، مثل أن يجد سائلا ساما غير الخمر إذا شربه سيموت، فليس هناك علاج للموت بالموت، وحينئذ قوله: (لم يحضره غيره) يعني: مما هو أخف من الخمر، ويمكن إساغة الغصة به، وهذا مراده رحمه الله.
حد شرب الخمر
قال المصنف رحمه الله: [وإذا شربه المسلم مختارا عالما أن كثيره يسكر فعليه الحد] .
بين رحمه الله الشروط التي ينبغي توافرها لإقامة حد الخمر، فلابد أن يكون مسلما، والكافر فيه تفصيل.
قال بعض العلماء: إن الخمر محرمة في الأديان كلها حتى عند أهل الكتاب، لكنهم حرفوا دينهم وشربوا الخمر، فالأصل تحريمها في جميع الأديان لعظيم ما فيها من الضرر والأذية، وهذا القول قاله بعض علماء الحنفية وغيرهم.
وقال بعض العلماء: إن الخمر مباح لبعض الأديان دون بعضها، ولذلك خففوا على أهل الكتاب إذا شربوها، فلا يقيموا عليهم الحد، والذي عليه بعض الأئمة أن أهل الكتاب -وقد نبهنا على هذا القول في مسألة احتكام أهل الذمة- إذا شربوا الخمر ثم رفعوا القضية إلى قاض فإنه يحكم بينهم بشريعة الله عز وجل، فيقام عليهم حد الله عز وجل إذا ترافعوا إلينا، كما قال الله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} [المائدة:49] فحينئذ نقيم عليهم شرع الله عز وجل ويقام عليهم الحد.
واستثني الحربي والمستأمن، والأصل ما ذكرناه أنهم إذا رفعوا إلينا وجب أن نحكم فيهم بحكم الله عز وجل الذي نسخ الأحكام، وبشريعة الله عز وجل وبكتاب الله الذي جعله مهيمنا على ما قبله.
وعلى هذا؛ اشترط المصنف الإسلام من حيث أنه ملتزم بالأحكام.
ويشترط أن يكون مسلما مكلفا، فلا يقام الحد على مجنون، فلو أن مجنونا شرب الخمر لا يقام عليه الحد، ولذلك لما هم عمر رضي الله عنه أن يجلد امرأة زنت، مر عليها علي رضي الله عنه فأمر بإطلاقها وقال: (يا أمير المؤمنين! أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: وذكر منهم المجنون حتى يفيق) ثم قال: إن هذه مجنونة آل فلان، ولعلها زنت أو غشيها الرجل حال جنونها) فعذرها بإسقاط حد الزنا، وكذلك يسقط حد الخمر على المجنون لأنه ليس بمكلف، وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على سقوط المؤاخذة عنه.
وكذلك إذا كان صبيا سواء كان مميزا أو غير مميز؛ لأنه غير مكلف، ولكن إذا كان مميزا يعزر.
ويشترط أن يكون مختارا أي: لا يكره على شرب الخمر، فلو أن شخصا هدده بالسلاح، وغلب على ظنه أنه إذا لم يشرب الخمر فإنه سيقتله أو هدده بشيء أعظم من الخمر حسب الشروط التي ذكرناها في الإكراه، أن فيهدده بما فيه ضرر، ويغلب على ظنه أنه يفعل به ما هدده به، ولا يمكنه الاستنجاد والخروج من هذا البلاء، ويكون ما طلب منه أخف مما هدده به أو يقع عليه من الضرر، ويكون الإكراه بظلم لا بحق، كما في مسألتنا؛ لأنه إكراه على محرم، فإذا استوفيت هذه الشروط المعتبرة للإكراه سقط الحد عمن شرب الخمر مكرها؛ لأن الله عز وجل أسقط عن المكره المؤاخذة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، وقوله: (وما استكرهوا عليه) يدل على أنهم متجاوز عنهم حال الإكراه؛ ولأن الله أسقط بالإكراه أعظم الأشياء وهو الردة، فقال سبحانه: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] ، فأعظم الذنوب وأشدها جرما الكفر بالله، فإذا أسقط الإكراه الردة فمن باب أولى أن يسقط المؤاخذة بما سواها، وعلى هذا يشترط أن يكون مختارا.
وقوله رحمه الله: (عالما أن كثيره يسكر) .
يشترط أن يكون عالما بأن ما يشربه خمر، وأن كثيره يسكر، فإذا علم أنها خمر وشربها دون عذر وجب عليه الحد، لكن لو شربها وهو لا يعلم أنها خمر، كأن قيل له: هذا عصير، أو وضع له في شرابه كما يفعله -نسأل الله السلامة والعافية- أهل البطالة والفسوق لأبناء المسلمين، إذا أرادوا أن يغروهم وضعوا لهم في شرابهم المادة المخدرة، فإذا شربها وهو لا يعلم أنها مخدرة فإنه في هذه الحالة يعذر، ولا يكون مؤاخذا ولا يقام عليه الحد، خاصة إذا أقر شخص أنه وضعها له في شرابه، أو وضعها له في حقنة حقنه بها أو نحو ذلك.
فالإكراه والجهل بكونه مسكرا يسقط الحد في هذه الأحوال كلها، كذلك ألا يكون معذورا مثل ما ذكرنا: إذا شرب الخمر لقطع عضو على القول أنه يجوز له ذلك كما في القديم كانوا يسقون الخمر لقطع الأعضاء، لمن خشي الضرر، ولم يستطع تحمل الألم، أو وضع مادة التخدير لأجل الجراح الموجودة إذا تعاطاها أو حقن بالمخدر من أجل عملية جراحية، فهذه كلها أحوال هو معذور فيها، وحينئذ لا يحكم بوجوب الحد عليه؛ لوجود الشبهة الموجبة لإسقاط الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) .
خلاف العلماء في حد شرب الخمر
قال المصنف رحمه الله: [ثمانون جلدة مع الحرية] .
أي: الحد على الشارب (ثمانون جلدة مع الحرية) حد الخمر أجمع جماهير السلف والخلف رحمهم الله على وجوبه وثبوته، واختلفوا في تقدير حده، فمذهب الجمهور من الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة على أنه ثمانون، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله، وهذه الثمانون لا ينقص منها شيء، يجلد ثمانين جلدة لا تنقص منها جلدة واحدة.
وأصحاب هذا القول احتجوا بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر بجريدتين نحوا من أربعين) ، فقالوا: (بجريدتين نحوا من أربعين) ، فكل جريدة أربعون، فأصبح المجموع ثمانين جلدة، وهناك أحاديث ضعيفة ترفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد ثمانين جلدة، ولكن لم يصح شيء منها.
واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصته المشهورة، حيث كتب إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو بالشام إبان الفتوحات، وأرسل إليه أبا وبرة الكلبي، فجاء أبو وبرة إلى عمر وقال: (يا أمير المؤمنين! إن خالدا بعثني إليك أن الناس قد تحاقروا عقوبة الخمر، وانهمكوا في شربها، فقال: دونك القوم فاسألهم، وكان في القوم علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وأرى أن يجلد حد الفرية، وحد الفرية ثمانون جلدة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـ أبي وبرة: أبلغ صاحبك ما قال) ، أي: أنه يجلدهم ثمانين جلدة.
قالوا: ولم ينكر هذا القول أحد من الصحابة، ووقع في زمان الخلفاء الراشدين، وهي سنة، وأكدوا هذا بالرواية الصحيحة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه أتي بـ الوليد وقد صلى بالناس الصبح أربعا، وقال لهم: أزيدكم؟! القصة المشهورة، وكان وراءه عبد الله بن مسعود، فقال: (ما زلنا اليوم معك في زيادة) ؛ لأنه صلى بهم ثلاث ركعات، ثم قال: أزيدكم؟ وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه تكلم في الصلاة لأنه علم أنها باطلة باطلة، والبعض يقول: هذا يدل على جواز الكلام في الصلاة، فعلم عبد الله رضي الله عنه أن الإمام سكران، وإذا فقد الإمام عقله بطلت إمامته، وبطلت الصلاة كلها، فمادام أن الصلاة باطلة قال: (ما زلنا اليوم معك في زيادة) ، وهذا لا يصلح الاحتجاج به على جواز الكلام في الصلاة، إنما يجوز لو كانت الصلاة باطلة، المهم أنه لما صلى بالناس الصبح أربعا شهد عليه حمران مولى عثمان! وشهد آخر أنه تقيأ الخمر، فصارت شهادتان، حتى إنه لما شهد الثاني وقال: أنا رأيته يتقيأ الخمر، قال عثمان قولته المشهورة: (والله ما تقيأها إلا وقد شربها) ، غير معقول أن تدخل إلى جوفه دون أن يشربها.
ومن هنا أخذ طائفة من العلماء أنه إذا تقيأ الخمر فإنه دليل على الابتلاء بالمسكر وأنه شارب له.
فلما تمت البينة قال عثمان رضي الله عنه كما في الصحيح: (يا علي! قم فاجلده، فقال علي: يا حسن! قم فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها) ، فكأنه وجد عليه، والحسن قصد أن الخليفة ليتحمل ضرب الناس، ولا نتحمل نحن، فقال له: (ول حارها من تولى قارها) فكأنه وجد عليه علي رضي الله عنه، فقال لـ عبد الله بن جعفر: (قم فاجلده، فقام عبد الله بن جعفر فجلده وعلي يعد الجلد، حتى بلغ أربعين، فقال له: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وجلد عمر رضي الله عنه ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلي) ، يعني: إن جلد أربعين فسنة، وإن جلد ثمانين فسنة.
قالوا: نص علي رضي الله عنه على أن الثمانين سنة، فإذا كانت سنة فإنه حينئذ يجب العمل بها؛ لأن السنة إذا سيقت في مقام الاحتجاج، وفي مقام الاحتكام فإنه يقصد بها السنة التي يجب العمل بها والرجوع إليها، فلا يقول علي رضي الله عنه هذا إلا في معرض الاحتجاج، هذا حاصل أدلة من قال بأنه يجلد ثمانين جلدة، ولا ينقص منها.
أما الذين قالوا بأنه يجلد أربعين جلدة، فقالوا: الأربعون هي الحد، والزائد عن الأربعين إلى الثمانين يترك الأمر فيه للقاضي، إن رأى الناس تساهلوا وانهمكوا في شرب الخمر وعلم أنه لابد من زجرهم جعلها ثمانين، وإن كان الناس لم يصلوا إلى هذا الحد بقي على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الحد الأصلي وهو أربعون جلدة، وهذا القول هو مذهب الشافعية والظاهرية ورواية عن الإمام أحمد اختارها الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة من المحققين.
وهذا القول يحتج له بأدلة: أولا: لا غبار أن الأربعين هي الأصل، وأنها هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الزيادة كانت من عمر، وأما الاحتجاج بحديث أنه جلد بجريدتين نحوا من أربعين، فهذا نص محتمل، يحتمل بجريدتين أي: كل جريدة أربعين، ويحتمل أنه ضرب بالأولى قدرا ثم أتم بالثانية بقية الجلد فأصبح المجموع أربعين، لأنه قال: (جلد نحوا من أربعين بجريدتين) ، فهذا يحتمل أنها منفصلة، فجلد بكل واحدة منهما أربعين، ويحتمل أنها مجموعة، والظاهر أن الأربعين هو مجموع الكل، وهو ظاهر السياق، والمعنى الظاهر أقوى من المعنى الخفي المحتمل الآخر.
وعلى هذا فيكون القول: بإن الأصل أنها أربعون هو الأعدل والأوفق والأقرب إلى السنة، وأما كون عمر رضي الله عنه زاد إلى الثمانين فنحن نسلم بهذا، ونقول: يزيد القاضي إلى الثمانين متى رأى المصلحة، وعمر رضي الله عنه ما زاد إلى الثمانين إلا لما اشتكى إليه خالد رضي الله عنه وأرضاه.
وجاءت روايات صحيحة عن بعض التابعين وكبار التابعين أن عمر رضي الله عنه تدرج في الزيادة، والرواية صححها الحافظ ابن حجر رحمه الله، ففي مصنف ابن أبي شيبة أنه جلد أربعين، ثم جلد ستين، ثم أوصلها إلى ثمانين، وهي أقل الحدود حد الفرية، وهذا من فقهه رضي الله عنه وأرضاه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #724  
قديم 24-10-2025, 05:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





القول الراجح في حد الخمر
ولذلك نقول: تبقى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين جلدة، ثم يزيد القاضي والحاكم متى رأى المصلحة في ذلك، فبين المصنف رحمه الله أنه يجلد ثمانين على ما اختاره طائفة من العلماء وهو مذهب الجمهور كما ذكرنا، والصحيح أن الحد أربعون جلدة، ويجوز أن يزاد بشرط نظر الإمام، ولا يزاد هكذا، ولا يقال: إن الثمانين حد ثابت لا ينقص حد الخمر عنه، بل نقول: إن الثمانين اجتهاد من القاضي متى رأى المصلحة أن يبلغ الثمانين أبلغها، وإلا اقتصر على القدر الأصلي وهو أربعون.
فيقتصر على القدر الأصلي إذا كان شارب الخمر شربها لأول مرة، أو كان في بيئة لا تعرف شرب الخمر فشربها لأول مرة، ولم ينهمكوا في شرب الخمر؛ لأنه عندنا زجر الشارب، وعندنا زجر غيره، فهي عقوبة للشارب، وزجر لغيره، فالشارب إذا كان لأول مرة ويرجى توبته ورجوعه فإنه يجلد الأربعين، وأما إذا كان يخشى منه الاسترسال أو فعلها وأصر -كما ذكر بعض العلماء- أو كرر ذلك فإنه يجلد ثمانين جلدة زجرا له، ومعونة له على نفسه أن يكف عن شرب ما حرم الله عز وجل.
قال المصنف رحمه الله: فقال: [وأربعون مع الرق] .
وهذا على الأصل الذي ذكرناه، أن عقوبة الأحرار ضعف عقوبة المماليك، وذكرنا دليل ذلك في حد الزنا، وأنه جرى على ذلك عمل الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فكلهم كانوا يجلدون الإماء والعبيد في الحدود نصف ما يجلدون به الأحرار.
المخدرات وضررها على الفرد والمجتمع
قبل أن نختم هذا الباب هناك جوانب نحب أن ننبه عليها، وهي عن البلاء العظيم شرب المسكرات وتعاطي المخدرات.
فهذا الذنب والإثم شره كبير، وما انتشر في أمة إلا فتك فيها فتك النار في الهشيم، فلا تبقى لها حرمة، ولا تقوم لها قائمة، فإذا فسدت عقول الناس فسدت أخلاقهم، وفسد دينهم، وفتح عليهم من أبواب الفتن وشرورها ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
ولذلك يخرج الرجل من بيته فيفاجأ بالرجل قد غاب عن عقله، فلا يأمن أن يشهر عليه سلاحه فيرديه قتيلا في مكانه، ولربما قاد السكران والمخدور سيارة فقتل الأنفس البريئة، وأتلف الأموال، وأحدث من الأضرار ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وإذا غاب الرجل عن عقله وهو في بيته وأهله لا يأمن أن يصيب حتى أمه والعياذ بالله، ووردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الخمر أم الخبائث؛ لأنها تدعو إلى كل شر، وإلى كل بلاء.
أنعم الله على عبده بنعمة العقل الذي هو نور يستنير به فيعلم الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشر، والرحمة من العذاب، ويميز به الأشياء بعضها عن بعض، ويرتقي به عن مستوى البهيمية إلى مستوى التكريم في الآدمية، ويستنير به فيعقله عما لا يليق بمثله، ولذلك سماه الله: حجرا وسماه: عقلا؛ لأنه يحجر الإنسان فيمنعه ويعقله ويحبسه عما لا يليق.
فهذا الداء والبلاء إذا فتح على أمة أهلكها الله عز وجل به، ولذلك يحرص أعداء الإسلام على خديعة أبناء المسلمين، والتغرير بشباب المسلمين من البسطاء ليتعاطوا هذا الداء حتى يفتكوا بالأمة ويدمروا أخلاقها، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدم عروشهم، وأن يزلزل أقدامهم، وأن يكف عن المسلمين بأسهم وشرهم، وهو على كل شيء قدير.
من يعلم أو يسمع أو يرى كم من بيوت هدمت؟ وكم من نساء طلقت وشتتت؟ وكم من سعادة عادت شقاء بسبب هذا الوباء! ومن يعلم القصص والحكايات المروعة التي أدخلت على أمة مسلمة وكانت محافظة، كانت في خير من الله عز وجل ورحمة حتى خدع شبابها، وعبث بهم الداء الفتاك الذي تسلط على الصغير والكبير؟ من علم الحوادث التي تقع والمصائب والكوارث والمآسي في الأسر التي حصلت بسبب تعاطي المخدرات خاصة، وشرب الخمور عامة؛ لاشك أنه يتفطر قلبه، ويحزن أيما حزن.
ولذلك خليق بالأئمة والخطباء والوعاظ والموجهين أن ينبهوا الناس بشرها بين فترة وأخرى، فإن العدو لا ينام، والعدو لا يستريح نسأل الله بعزته وجلاله أن يسلبه عافيته، فهو يعمل ليل نهار، ثم مع ذلك يأخذ من هؤلاء البرءاء البسطاء أموالهم، يؤخذ الرجل إلى جحيم المخدرات بكأس لا يعلم أن فيها مخدر، ويخدع في ظلمة ليل أو ضياء نهار، فيعطى ذلك الكأس بريئا جاهلا حتى إذا شربه دب السم في جسده، ونخر في قواه، فأتلف زهرة شبابه، ودمر حياته لكي يشقيه ويرديه، والله موعد: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] ولن تضيع عند الله هذه الجرائم والفضائع التي ظلم بها المسلمون، ودمرت بها بيوتهم وأسرهم.
فإذا شرب هذا المسكين كأسه طلب مرة ثانية، فأعطي الجرعة الثانية حتى يصبح مدمنا كالآلة المسخرة في يد الإنسان، ولا يستطيع إذا جاءته ساعته أن يرقأ ولا أن يهنأ ولا أن يرتاح حتى يعطى هذا المخدر، فإذا نظر إليه في أمس الحاجة وشدة الحاجة طلب منه أن يفعل أي جريمة أو يقع في أي حرام، فلم يتورع عن ذلك، ولم ينكف عنه! فيا لله كم من أعراض انتهكت! وكم من أموال سرقت واغتصبت! وكم من أسرار أفشيت وكشفت! بسبب هذا الداء الخبيث!! ولذلك كل من لم يفكر في هذا الداء الذي يستشري في أبناء المسلمين فلا يأمن أن يأتيه يوم من الأيام قهرا وغصبا في أبنائه وذريته؛ لأنه إذا لم يحفظه عن الغريب فلا يأمن أن يتسلط على القريب والحبيب، ولذلك خليق بكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجند نفسه من أجل تنبيه المسلمين وتذكيرهم.
الوقاية من المخدرات وعلاج من ابتلي بها
وهناك أمور لابد من ذكرها وبيانها: فالمخدرات تعالج بأمرين، أو تدرس من جانبين: الجانب الأول: جانب الوقاية، والجانب الثاني: جانب العلاج.
فأما الوقاية فهي حصن حصين من الله عز وجل، حصن به من سلمه الله من هذا البلاء، ومن عافاه الله فليحمد الله على العافية، وكل يوم تمسي وتصبح فيه وقد عافاك الله في عقلك فقل: الحمد لله، واحمد الله كما ينبغي أن يحمد سبحانه أن سلم لك عقلك، وسلم لك أولادك وذريتك، فالجانب الأول جانب الوقاية.
والجانب الثاني: جانب العلاج لمن ابتلي بهذا الداء.
فأما الذين لم يقعوا في هذا الداء فعلينا أن نحرص جميعا على غرس أمور مهمة في نفوس الناس لمواجهة هذه الحرب التي لا رحمة فيها، ولا هوادة فيها من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فأولا: هناك شيء ينبغي غرسه في النفوس يمكن يشكل وقاية ذاتية بإذن الله عز وجل، وهذا ما يسمى بتحصين الفرد في خاصة نفسه، ويكون المنطلق في ذلك الإيمان بالله عز وجل؛ لأن من آمن بالله فهو خير له في الدين والدنيا والآخرة، وما يجلب الإيمان للعبد إلا صلاح أمره واستقامته على رشده، سواء في خاصته أو في عامة الناس، فينبغي غرس العقيدة.
ومن أعظم الجوانب التي يحصن بها الناس عن المعاصي مع الإيمان بالله غرس الخشية من الله، والخوف منه سبحانه وتعالى؛ لأن الخير كل الخير في طاعته، والشر كل الشر في معصيته، وإذا غرست العقيدة -وهي مراقبة الله سبحانه وتعالى- لم يستطع عبد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يمد يده إلى طعمة أو شربة من هذا الداء الخبيث، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) فقال: (لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فدل على أن الإيمان سياج وأن العقيدة حفظ من الله للعبد.
كذلك أيضا العبادات لها أثر كبير في تحصين الأسرة والجماعات والأفراد من هذا الداء الخبيث: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت:45] فأخبر الله سبحانه أنها تنهى، وأنها خير زاد للعبد، وقل أن تجد أبا يوقظ أبناءه للصلوات، ويراقبهم في إقامة الصلاة على وجهها إلا حفظه الله في ذريته، وكما حفظ حق الله في أهله فإن الله يحفظ له قرة العين في أهله وولده، فالله وفي ولا أوفى من الله لعبده.
فلذلك فليحرص العبد كل الحرص على أن يغرس في أبنائه حب الصلوات، وأن يشعرهم أنها حرز لهم من الفواحش والمنكرات، والمصائب والمحرمات، فإذا غرس ذلك في نفوسهم واعتادوها عصمهم الله عز وجل بعصمته، وحفظهم الله عز وجل وكلأهم، حتى إن الصلاة تصعد وعليها نور، وتنتهي إلى ما شاء الله فتفتح لها أبواب السماء، ثم تنتهي إلى ما شاء الله أن تنتهي إليه وتقول: حفظك الله كما حفظتني، فأهل الصلوات في حفظ من الله عز وجل وحرز.
كذلك من العبادات الصيام؛ لأنه يقوي جانب التقوى فالصائم يمنع نفسه من الشراب الحلال، فمن باب أولى أن يستطيع كبح جماحه عن الشراب الحرام، ولذلك الصوم جنة -كما أخبر صلى الله عليه وسلم- ووقاية.
كذلك ذكر الله عز وجل، فيعود الأبناء والذرية على كثرة ذكر الله عز وجل، فالشيطان يسكن البيت الخرب، وهو القلب الخاوي من ذكر الله عز وجل، ويفر من البيت المعمور بذكر الله سبحانه وتعالى، فذكر الله حصن حصين، فهذه الأمور تتعلق بجانب العبادة.
هناك جانب آخر يقوي هذا الجانب الديني، وإن كان الجانب الديني من حيث الأصل هو قوي، ولكن الله لحكمة قد يجعل القوة المادية معينة لقوة الدين، كما قال تعالى: {وأيدناه بروح القدس} [البقرة:87] وقال: {وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} [الحديد:25] بعد أن ذكر أنه أنزل كتبه، لكي ينبه على أن القوة الحسية قد تقوي الروح المعنوية.
فكما أن الدين له سلطان هناك أشياء تمنع الإنسان من هذا الداء؛ لأن الخمر أجمعت العقول على نبذها وكراهيتها، حتى إن أناسا في الجاهلية كانوا لا يشربونها، ورأوها تورد الإنسان الموارد، وتنزل الإنسان إلى مستوى البهيمية، وكان عقلاء الناس في الجاهلية لا يشربونها ويكرهونها، ولا يضعونها في أطعمتهم ومناسباتهم، كل ذلك كراهية لها.
فهي من ذاتها تنفر، وهذا يسميه العلماء: التنفير الذاتي، فالتنفير الذاتي يقوي القناعة في نفس الإنسان بكراهيتها والبعد عنها، ولذلك استخدم القرآن هذا المعنى حينما جاء تحريم الخمر بأساليب منفرة، لم يأت تحريما مباشرا، وإنما قال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس} [المائدة:90] ، وبمجرد ما يحس الإنسان أنها قذر ونجاسة ينفر منها، ولذلك صدر الله الآية بقوله: {يا أيها الذين آمنوا} [المائدة:90] ؛ لأنهم هم الذين يستجيبون، وهم أهل العقول والألباب المستجيبة لله عز وجل قال: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة:90] ، ثم قال بعد ذلك: {فاجتنبوه} [المائدة:90] فجعل التنفير أولا قبل الحكم الشرعي.
ومن هنا ينبغي أن يهيأ في النفوس التنفير، ومن ذلك ذكر الحوادث والقصص للأولاد الصغار تحذيرا لهم من الصغر من هذا الداء الخبيث، ذكر الحوادث المروعة التي يكون لها وقع في النفوس، حتى يكون أبلغ في زجرهم وكراهيتهم لهذا الداء، ذكر أثرها على النفس وعلى الصحة، ولا بأس أن تكون هناك بعض البحوث يقرؤها على أولاده، ويريهم بعض الصور لبعض الأعضاء المتهتكة، وأحوال بعض الذين -والعياذ بالله- ابتلوا بها، وكيف انتهت بهم إلى أحوال مؤلمة، ونهايات وعواقب سيئة.
نسأل الله بعزته وجلاله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، وأن يعيذنا وإياكم من سوء الخاتمة في الأمور كلها.
كذلك أيضا ينبغي أن تهيأ المجتمعات لحرب المخدرات عن طريق الخطب والمواعظ والمحاضرات والندوات، وليعلم كل إنسان يجند نفسه لهذا الأمر أنه مأجور من الله أجرا عظيما، وإذا أراد أحد أن يعرف مقدار ما يكون له من ثواب من الوقوف في وجه المخدرات وأهلها فليزر المستشفيات التي آوت من ابتلي بالإدمان بالمخدرات، ولينظر إلى أحوالهم وليعتبر، وليزر المستشفيات فينظر إلى الحوادث وما حصل، كم من أرواح أزهقت! وكم من أموال أتلفت بسبب هذه المادة الخبيثة!! فيهيئ نفسه للغيرة على أبناء المسلمين، والغيرة على حدود الله ومحارمها، فيجب على كل إنسان يعلم بمروج للمخدرات أن ينصحه، ويذكره بالله عز وجل، ويتابعه فإن رآه تاب فبها ونعمت، وإن لم يتب رفع أمره، واحتسب عند الله عز وجل ذلك، ولا يجوز له أن يسكت؛ لأنه إذا سكت أعانه على تدمير أبناء المسلمين، وأعانه على أن يفتك بهذه الأمة، وترويج المخدرات لابد من بيان حكمها الشرعي، فالمروج للمخدرات لو روج حبة فأزهقت أنفسا وقف بين يدي الله مسئولا عن ذلك، ولو روج حبة كانت سببا في زنا أو في جريمة أو في فحش أو في حرام وقف بين يدي الله حافيا عاريا يسأل عن ذلك.
فإدخال هذا الداء إلى مجتمعات المسلمين، وتدمير مجتمعات المسلمين ما هو إلا معونة لأعداء الإسلام على الإسلام وأهل الإسلام، فعلينا أن ندرك هذه الحقيقة، ولا يختص هذا الأمر بالرجال، بل على النساء والداعيات أن يجندن أنفسهن لذلك، وأن يكون هناك جهات تختص بمكافحة هذا الداء، ووجود هذه الجهات نعمة من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يبارك جهودهم، وأن يعينهم وأن يبقيهم، لو يعلم الإنسان ماذا سيحدث للمجتمع -لولا الله ثم هذه العيون التي تسهر ضد هؤلاء الذين يدمرون أبناء المسلمين- لحمد الله عز وجل من قرارة قلبه، وسأل الله لهم المعونة في جوف الليل مما يعلم من عظيم بلائهم، وحسن صنعهم للإسلام والمسلمين، فكم من عصابات؟ وكم من أفراد اجتمعوا على الفتك بهذه الأمة؟ لا يراعون فيها إلا ولا ذمة.
ومنهم من تدمر في نفسه فحقد على مجتمعه فأراد أن يدمر مجتمعه.
فنسأل الله عز وجل أن يهديهم ويصلحهم أو يقطع عن المسلمين دابرهم وشرهم.
وعلى كل حال لابد من التعاون في هذا الأمر، ولا يمكن للداء أن ينقطع ويجتث إلا بالتعاون، وعلى النساء مسئولية، على الداعيات على المربيات على المعلمات وعلى الأمهات مسئولية وعلى الأخوات مسئولية، فعلى النساء أن ينتبهن للمجتمع، وألا ينزوي كل إنسان ويقول: نفسي نفسي! فإنه لا يأمن أن يأتيه البلاء حتى في نفسه، نسأل الله السلامة والعافية.
اتفق لبعضهم والعياذ بالله! من المآسي أن أما تساهلت مع ولدها، وكان ولدها يتعاطى المخدرات، وكان الولد يتيما وبلغ، فتساهلت في أمره حتى وقع في يد هؤلاء الأشرار والعياذ بالله! فأعطوه المادة المخدرة، ثم شاء الله عز وجل أنها يوما من الأيام أحست بآلام غريبة واضطرت إلى اللجوء إلى المستشفى، وإلى الذهاب إلى الأطباء، وفوجئت بالطبيب يقول لها: أنت حامل! قالت: والله! ما زنيت! ولا أذكر أني حملت بعد وفاة زوجي، أنا أرملة! ولي سنوات امتنعت من الزواج من أجل أولادي!! ثم فوجئت بأن ابنها والعياذ بالله! كان يضع لها هذا الداء في شرابها فإذا نامت وقع عليها وزنى بها! هذه أمور عظيمة، هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، وما ستر الله أعظم، فلذلك ينبغي على الأمهات وعلى الأخوات وعلى البنات وعلى المعلمات والمربيات والفاضلات والداعيات أن يقمن بالأمانة والمسئولية، وسيجدون من يدعمهم، وسيجدون من يقف معهم، وقد هيئت الأسباب لذلك، فلا عذر للإنسان في التخلي عن القيام بواجبه ومسئوليته.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يهدي قلوبنا، وأن يصلح أحوالنا، اللهم! ارفع هذا الداء عن البلاد والعباد، اللهم! ارفع هذا الداء عن البلاد والعباد، وأنزل رحمتك علينا أجمعين، واقطع عنا دابر الفساد والمفسدين، يا رب العالمين! إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا م

الأسئلة




حكم تعزير شارب الخمر بالقتل إذا شرب للمرة الرابعة
السؤال من شرب الخمر للمرة الرابعة هل يقتل أم يجلد الحد، أثابكم الله؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فمسألة قتل شارب الخمر في الرابعة فيها حديث الترمذي المشهور، وهذا الحديث ذكر الإمام الترمذي رحمه الله أن العلماء عملوا بأحاديث جامعه إلا حديث شارب الخمر في الرابعة، ومن العلماء من قال: إنه منسوخ، وعلى القول بنسخ الحديث لا إشكال.
لكن هناك من أهل العلم من يقول: إن قتل شارب الخمر في الرابعة يرد إلى القاضي وإلى الحاكم إذا رأى المصلحة فيه، فمثلا لو وجد أن شخصا إذا شرب الخمر فعل أفعالا عظيمة، وتقع منه جرائم عظيمة، شربها المرة الأولى فأطلق النار على شخص وكاد أن يقتله، ثم شربها المرة الثانية فجاء إلى جماعة وكاد أن يقتلهم، ثم شربها المرة الثالثة فوقع منه مثل ذلك، ثلاث مرات ويقع منه الضرر العظيم، فبقاؤه شر, فجلده المرة الأولى فلم ينزجر، ثم جلده المرة الثانية فلم ينزجر، ثم جلد المرة الثالثة فلم ينزجر، قالوا: في هذه الحالة يسوغ للإمام أن يقتله تعزيرا، وهي مسألة التعزير بالقتل، وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.
ولكن في الحقيقة هذا الحديث فيه إشكال، والإمام الترمذي رحمه الله حكى الإجماع على رفع حكم الحديث، وهو رحمه الله حجة في نقل فقه العلماء، وهذا ينبغي أن ينتبه له، فالإمام الترمذي أوتي من الورع والضبط لخلافات العلماء، والإلمام بمذاهب الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، رحمه الله برحمته الواسعة فلا يمكن أن يحكي الإجماع من فراغ، ولا نقول: إننا نرفع حكم الحديث بمجرد حكاية، لكن نقول: الإجماع إذا ثبت فإنه يرفع الحديث؛ لأنه ليس هناك إجماع إلا بمستند، يستغرب البعض ويقولون: كيف نرفع السنة بالإجماع؟ هذه مسألة نبه عليها علماء الأصول رحمهم الله والأئمة وأنه ليس رفعا للسنة بالإجماع، وإنما أجمع العلماء -خلافا للعنبري - من أئمة الأصول على أنه ليس هناك إجماع إلا وله مستند نقلي قد يذكر وقد لا يذكر.
وبناء على ذلك فأنت حينما تنسخ الحديث بالإجماع أو ترفع حكم الحديث بالإجماع فأنت رافع للنص بالنص، ولست رافعا للنص بأقوال الرجال وإجماعهم هذا من وجه.
الوجه الثاني: أن الأصل حرمة المسلم فلا يستباح دمه إلا بدليل بين واضح، وقد جاءت الأدلة صريحة في هذا المعنى، وأنه: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) ، ونقول: إنه إذا عمل بالحديث فإننا نعمل به من باب التعزير عند من يقول: بأنه يجوز أن يكون التعزير بالقتل، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله في باب التعزير، والله تعالى أعلم.

أهل المعاصي وضابط الستر عليهم في الشرع
السؤال إذا رأيت في الشارع رجلا من الجيران سكران وهذا معتاد منه والعياذ بالله- هل أستره أم أبلغ عنه؟
الجواب الأصل يقتضي ستر المسلم في الذنوب، وأجمع العلماء رحمهم الله أن الستر أفضل، وأعظم أجرا لصاحبه، وأن من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة.
والستر في جميع الأمور ما لم يكن شيئا يتعدى ضرره كالمخدرات وترويجها، فشخص يروج المخدرات إذا سترته فكأنما تستر نارا تحرق عباد الله وأولياءه، وهذا لا يمكن أن يجوز.
ومن هنا يستثنى ما تعدى ضرره، ومثلوا للمرأة القوادة -التي تعين على نشر الفاحشة والعياذ بالله وتفسد المجتمع- فهذه لا تستر إذا كان شرها يتعدى إلى الغير ويستشري.
فمن كان يدعو إلى الفساد وإلى جرمه فهذا يستثنى.
أما لو فعل المعصية في حق نفسه وذاته فالإجماع منعقد على أن الأفضل ستره، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم لهذا فقال لـ هزال: (هلا سترته بثوبك) .
وإذا كان الشخص مبتلى بشرب الخمر فأنصحك أن تنصحه، وأن تكرر النصيحة له، وأن تهيئ له الأسباب فلا تبقى على مجرد الكلام، فإن وجدته يقع في الخمر بسبب قرناء السوء فاحرص رحمك الله على أن تهيئ له قرناء صالحين، وإذا وجدت أنه يقع في شرب الخمر بسبب الفقر وشدة الهموم عليه، فهو يحس أنها تنسيه همومه، فاحرص في تفريج كربته وقضاء ديونه، واحرص على أن تقف معه موقف الأخ مع أخيه، فتنظر إلى نفسيته وأحواله من أين يؤتى، وهذا هو العلاج.
ولذلك الرجل الصالح والعالم الفاضل حينما جاءه الرجل الذي قتل مائة نفس وقال له: هل لي من توبة؟ قال: وما الذي يمنعك من التوبة؟! ثم قال له: إن قريتك قرية سوء، وقرية بني فلان فيها قوم صالحون فاذهب إلى هذه القرية، يعني: قرية الصالحين، وهذا الحديث أصل عند العلماء في توجيه الناس، وعلاج المدمن والمستمر في المعاصي، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم نبهنا بفقه هذا العالم الجليل الفاهم الواعي الذي عرف كيف يؤثر في هذا الرجل حتى أنقذه الله من النار بسببه، وهذا كله بفضل الله عز وجل.
أنقذ من النار قبل أن تقبض روحه مع الأشرار فيكون من الهالكين، وهذا بفضل الله ثم بالرجوع إلى العلماء، وأهل البصيرة، فإنه نظر إلى حال الشخص، وفعلا كانت هذه النظرة علاجا له، فإنه ارتحل من قومه إلى قوم صالحين، فأدركته المنية، فصارت هذه الوصية علاجا له ونجاة له في الدنيا والآخرة.
كذلك ينبغي عليك أن تنظر من أين يؤتى الرجل؟ ما من معصية إلا ولها ثغرة، فإن أحسنت علاج هذه الثغرة وسدها عن أخيك المسلم سد الله عنك ثغرات الفتن، والجزاء من جنس العمل.
ولذلك تجد الدعاة والأخيار الصادقين الذين يحرصون على سد الفتن عن الناس في عصمة من الله عز وجل أكثر من غيرهم، وفي حفظ من الله أكثر من غيرهم، فأنت إذا حرصت على أن تسد أبواب الفتن عنه ومن أين يؤتى، وتعلم من الذي يجره إلى الخمر، فكأس الخمر ما شربت إلا بقرين سوء زين شربها، أو سوء ظن بالله عز وجل، أو سوء ظن بالناس، أو نحو ذلك من الأمور.
كم من أناس فيهم من الخير الشيء الكثير وقتل هذا الخير فيهم بسبب ظروف معينة وأحوال معينة! كم من أناس فيهم شجاعة وخير وكرم وفيهم إحسان وأخلاق حميدة فمروا بوطأة ظروف قاسية أليمة، وما وجدوا أحدا يقف معهم، وما وجدوا أحدا يناصرهم ويؤازرهم، فتألمت نفوسهم حتى تسلط الشيطان عليهم! فإذا وجدوا من ينتشلهم بعد الله عز وجل من هذا الحضيض، ومن سوء الظن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يلطف بهم.
ولذلك ينبغي عليك أن تعلم من أين يؤتى هذا الجار، نعم تستره، وتحاول قدر المستطاع أن تستره، وأن تذكره بالله عز وجل، وأن تنصحه حتى يهدي الله قلبه، وحاول الدعاء له.
ونذكر من العلماء والصالحين من كان حريصا على هداية أمثال هؤلاء حتى أصلح الله أحوالهم، وكان حريصا على سترهم، فهذا الوالد رحمه الله ابتلي بجار مبتلى بشرب الخمر، فوجدنا منه موقفا عجيبا في ستره، ودخل عليه شارب الخمر يوما من الأيام في ظلمة الليل، بعد منتصف الليل، وفي ليلة شديدة البرد، وإذا به تفوح منه الخمر، ولما دخل البيت كان الوالد حديث العهد بالوالدة، ما كان الوالد يعرف الخمر ولا يعرف رائحتها ويحسب أنه متضمخ بطيب، ما يدري حياته كلها جهل بهذه الأمور، نسأل الله أن يزيدنا بها جهلا، ولا يضر.
فالشاهد أنه أدخل الرجل فصار الرجل يبكي، ويقول له: زوجتي وزوجتي! ويصيح مثل الطفل، وهو رجل فيه قوة وعافية، ولما تحدث مع الوالد صار يصيح، وأخذ الوالد، يهدئه ويظن أن الرجل صاح، ما يعلم أنه مبتلى بالخمر، وأن هذا الذي يقوله ويفعله ليس بحقيقة، وأنه بسبب الخمر، فصار يتلعثم في كلامه.
والحقيقة سبحان الله! الوالدة كانت فطنة؛ لأنها فوجئت بقوة الضرب للباب، ثم فوجئت بسقوطه؛ لأنه لما دخل من الباب سقط وانكب على وجهه، وفوجئت بعد ذلك برائحة البيت النتنة، وبالصراخ والعويل، والوقت وقت ليل، وفوجئت بكلام مخلط، فنادت الوالد رحمه الله وقالت له: هذا الرجل تعرفه؟ قال: نعم أعرفه، قالت: مجنون؟! قال: لا، هو صاح ما فيه إلا العافية، من أصحى الناس -وهو فعلا رجل قوي وشديد في صحته وعافيته- قالت له: انتبه! إما أنه مجنون وإما شرب بلاء، فانتبه من الرجل! وقالت له: اختبر الرجل هل هو صاح أو لا؟ فلما اختبره وجده لا يفرق بين السماء والأرض، فانطبق عليه شرط السكر بإجماع الفقهاء، لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب.
والوالد في الحقيقة كان في بعض المواطن شديدا تأخذه الحدة، وإذا بطش في ذات الله لا يبالي، أدركت الوالدة هذا فنادت الوالد وقالت: أسألك بالله ألا تتعرض له، واصرفه بالتي هي أحسن؛ والوالد شق عليه أن يدخل عليه في بيته في هذه الساعة وكان سيهم به ولكن الله لطف، وللوالد رحمه الله أحوال من الستر في قصص نعرفها ستر فيها رحمه الله، ودعا الغير إلى الستر، لكنه خشي أن يتسلط لحرمة العلم أو كان يريد أن يتخذ شيئا، وقبل أن يصنع شيئا سألته بالله أن يستره، وهذا في ميزان حسناتها؛ لأنه كان في ساعة من سورة الغضب، وكان يريد أن يبطش به، فستره واستدعى أحد قرابته فأخذه ومضى به -وهذا الكلام قبل أربعين أو خمسين سنة- فجاء الرجل بعد أسبوع، وبكى عند الوالد، وعاهده بالله عز وجل ألا يعود إلى الخمر، من شدة هذا الموقف عنده، وستر الوالد عليه ودعاه أن يعاهده بالله ألا يعود إلى شرب الخمر، واستقام أمر الرجل على أحسن ما يكون.
ومن فضل الله عز وجل أن الإنسان إذا عامل الناس بحسن نية، ووفق في معاملته أن الله سبحانه وتعالى يضع البركة في معاملته، كم من أناس -والله- ينتظرون من ينتشلهم من الضلالات! وكم من أناس من شباب الأمة في أحوال لو رأيتهم يكاد الإنسان يسب ويشتم لكن يعلم الله أن في قلوبهم خيرا كثيرا! ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا شرب الخمر، فقال رجل: (لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا عونا للشيطان على أخيكم، ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله) يشرب الخمر ويشهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الله ورسوله، ولذلك قال الله عز وجل: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات:11] .
وقد ترى الرجل لحيته إلى نصف صدره يسب العلماء والدعاة وينتقص، ويتتبع عثرات الناس ويؤذيهم، وهو مظلم القلب حسود حقود، لم ينفعه ظاهر التزامه بشيء.
وتجد الرجل في حال أو شكل ليس فيه تلك اللحية الطويلة، ولا ذلك الثوب القصير، وتجده من أبر الناس بوالديه، ومن أعف الناس لسانا، ومن أحفظهم للصلوات، ومن أحفظهم لإكرام الضيف والشيمة والوفاء والمواقف الحميدة، فـ {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات:11] .
بعض الناس بمجرد أن يرى عاصيا يريد أن يبلغ عنه ويؤذيه! الهدف هو الإصلاح، حتى السجون والعقوبة المراد بها الإصلاح، فينبغي أن ندرك هذا، فالشريعة ما تريد الإيذاء بقدر ما تريد من الإصلاح، فينبغي أن يرد العبد إلى الله، ويرد إلى رشده وصوابه.
فليس العلاج مقتصرا على الجوانب الشكلية، بل المراد العلاج الجوهري: {و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] ، قولا يبلغ إلى المقصد، ويصل إلى الهدف، وهذا لن يكون إلا لأناس ملأ الله قلوبهم بالرحمة؛ لأن الله يقول لنبيه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] ، فلما كان رحيما بالأمة، قال الله له: {و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا} [النساء:63] لا يقول القول البليغ قاسي القلب، لا يقول القول البليغ إلا من كان رحيما رقيقا رفيقا بالناس، يدخل على المجرم فيتذكر أولاده وأسرته، ويحب أن يستر عباد الله كما يحب أن يستر في أهله وعرضه، ويحب الخير للمسلمين كما يحبه لنفسه.
وليس معنى هذا أن يعين أهل الفساد على فسادهم، إنما المراد أن توزن الأمور بالميزان الذي جمع العقل والنقل، ولذلك قال العلماء: من رزقه الله عقلا يميز به بين الأمور، ورزقه نور العلم والبصيرة؛ سلمت أحواله، وأصاب الرشد والسداد في رأيه، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل! استر جارك، وذكره بالله، وخذ بناصيته إلى طاعة الله ومحبته، جارك وصاك الله به من فوق سبع سماوات: (وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) .
فنوصيك بجارك خيرا، واحرص -بارك الله فيك- على هدايته ودلالته وستره، وتذكيره بالله، نسأل الله العظيم أن يكتب صلاحه وصلاح كل مفسد على يديك، وعلى يد كل داعية إلى الله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر
السؤال هل يجوز للمسافر أن يقدم صلاة العصر مع الجمعة ويصليها قصرا، أثابكم الله؟
الجواب السنة أن المسافر لا يصلي الجمعة، وهذا أمر معروف من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت في أي حديث صحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى الجمعة في سفره، حتى إنه في يوم عرفة ومعه أهل مكة وهم أناس محتاجون إلى الجمعة مقيمون؛ صلى الظهر ركعتين صلوات الله وسلامه عليه، ولم يخطب خطبة الجمعة، وهذا أصل معروف عند العلماء رحمهم الله، وكلهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة في سفره، حتى كان معه في بعض أسفاره عشرات الألوف؛ ومع ذلك لم يصل بهم جمعة في السفر.
فالجمعة ساقطة عن المسافر، وإذا كانت ساقطة عنه -وهدي النبي صلى الله عليه وسلم عدم صلاة الجمعة- فالأفضل له إذا حضر المسجد أن ينوي الصلاة ظهرا، وإذا نواها ظهرا فإنه ينال فضيلة سماع الخطبة، والانتفاع بها، ثم إذا انتهى وصلى مع الإمام الركعتين بنية الظهر قام وصلى العصر ركعتين، فجمعهما مع بعضهما، ولا إشكال في هذا الجمع.
وبناء على ذلك فلا يجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن المسافر ما يصلي جمعة، ونجد بعض المتأخرين يقول: إنه لا يصح الجمع؛ لأن العلماء يقولون الجمع بين الظهر والعصر، ولم يقولوا: الجمع بين الجمعة والعصر، وغفل أمثال هؤلاء عن أن المسافر لا جمعة له أصلا، ولذلك لم يذكر العلماء الجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن الجمع يقع في السفر بين الظهر والعصر.
وعلى ذلك؛ لا يشكل ما ذكر، فعلى من يريد أن يجمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة يسمع الخطبة ويستفيد، ثم بعد ذلك ينويها ظهرا وراء الإمام، ثم إذا سلم الإمام قام وصلى ركعتي العصر، ولا إشكال في هذا الجمع ولا غبار عليه، والله تعالى أعلم.

حكم من أصابته نجاسة في ثوبه وحضرت الصلاة ولا ثوب له غيره
السؤال إذا حضرت الجماعة وليس عند الرجل إلا ثوب يرتديه وأصابته نجاسة، ولا يتمكن من لبس غيره إلا إذا فاتت الجماعة، فهل يصلي فيه أو ينتظر حتى يجد الثوب الطاهر؟ وهل إذا كان الوقت يفوت يصلي فيه أو ينتظر حتى يجد الثوب الطاهر، أثابكم الله؟
الجواب إذا كان عنده ثوب وهذا الثوب فيه نجاسة ولا يمكن أن يزيل النجاسة، ولا يجد غير هذا الثوب الذي فيه نجاسة يستر به عورته؛ فإنه تسقط عنه الجماعة إذا رجا أن يجد ثوبا طاهرا.
فمثلا قال: لو أني غسلت الثوب الآن لن أدرك الصلاة في المسجد، نقول: اغسل الثوب ولو فاتتك الجماعة؛ لأن هذا عذر، وصلاة الجماعة وجوبها ليس كوجوب إزالة النجاسة عن البدن؛ لأن إزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان شرط في صحة الصلاة، والجماعة ليست شرطا في صحة الصلاة.
ولهذا ينبه أنه تقدم الشروط على الواجبات، فما كان شرط في صحة الصلاة يقدم على الواجب، ووجوب الجماعة منفصل عن الصلاة، وليس بشرط، وعلى هذا نقول: اغسل ثوبك -رحمك الله- وانتظر حتى ينشف، مادمت ترجو أن يجف قبل خروج الوقت.
وفي هذه الحالة ما يجوز لك الخروج، ولا أن تصلي بهذا الثوب المتنجس، لأن الله يقول: {وثيابك فطهر} [المدثر:4] ، فلا بد أن تصلي بثوب طاهر.
وأما إذا كنت تخشى خروج الوقت وما عندك إلا هذا الثوب النجس فهذه المسألة تعرف عند العلماء بازدحام الشرطين، عندنا شرط ستر العورة، وهو أن يلبس الثوب، وعندنا شرط الطهارة، فهل يصلي عاريا بناء على التقديم لشرط الطهارة على شرط الستر أم أنه يصلي مستور العورة إذا خاف خروج الوقت؟ ففي هذه الحالة يقدم ستر العورة؛ لأنه جمع بين حق المخلوق والخالق؛ لأن المخلوق يتضرر بانكشاف عورته، وحق الله عز وجل أيضا أن يصلي مستور العورة، فإذا صلى بثوب نجس ساترا لعورته أسقط عن نفسه الحرج، وأسقط حق الله عز وجل في ستر العورة.
ولكن إذا صلى عاريا بدون هذا الثوب؛ فإنه في هذه الحالة ضيع حقه، وحصل له الحرج؛ لأنه تنكشف عورته فلا يأمن أن يدخل عليه أحد، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الله أحق أن يستحيا منه) .
وعلى هذا: يقدم شرط الستر للعورة، فيصلي إذا غلب على ظنه أنه لا يجد ثوبا طاهرا قبل خروج الوقت.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #725  
قديم 24-10-2025, 05:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (523)

صـــــ(1) إلى صــ(21)


شرح زاد المستقنع - باب التعزير [1]
شرع الله الحدود تأديبا وتكفيرا لمن ألم بها، وزجرا لغيرهم عن الوقوع فيها، وما كان من معصية لا حد فيها فيشرع فيها التعزير، وهو تأديب أيضا، ولكنه دون الحد، وبين التعزير والحد فروق سطرها أهل العلم.
التعزير وأحكامه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التعزير] .

تعريف التعزير
التعزير في لغة العرب: مأخوذ من عزر فلان فلانا إذا منعه، ويقال للنصرة، فالمعزر هو الناصر، والأصل في هذه المادة أنها للمنع والحيلولة بين الشيء والشيء الآخر، ونظرا لاشتمالها على معنى المنع استعملت في التأديب؛ لأن التأديب يمنع الإنسان من العود إلى ما فعله من الأمور الممنوعة والمحظورة، ولذلك عرفه المصنف رحمه الله: بالتأديب، وهذا أحد التعاريف التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وبهذا التعريف -وهو التأديب- تكون المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي: وجود المنع، وذلك أن المعنى اللغوي يدور حول الحيلولة بين الشيء والشيء، والتأديب يمنع الإنسان من الأمور التي لا تليق به والأمور التي حظرت عليه ومنع منها.
يقول رحمه الله: (باب التعزير) أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالعقوبة التي لا حد لها ولا تقدير في الشرع.
وهذه العقوبة -عقوبة التعزير- تشرع في غير الحدود المقدرة، سواء كانت الجناية من الجنايات القولية أو الجنايات الفعلية، ولكن
السؤال لماذا ذكر المصنف رحمه الله باب التعزير في هذا الموضع بعد الجلد؟ فهو قد ذكر عقوبة الزنا، وأعقبها بعقوبة القذف، وأعقبها بعقوبة شرب المسكر، والسؤال: لماذا ذكر التعزير بعد هذه الحدود؟ والحقيقة أنه كان ينبغي أن يؤخر باب التعزير إلى نهاية كتاب الحدود؛ لأن التعزير عقوبة غير مقدرة شرعا، فكان المنبغي أن ينتهي من العقوبات المقدرة شرعا ثم بعد ذلك يبين ما لا حد فيه ولا عقوبة معينة شرعا، وهذا مسلك درج عليه بعض الأئمة رحمهم الله؛ أنهم ذكروا أبواب وكتاب الحدود ثم أعقبوها بباب التعزير.
والمصنف رحمه الله لعله لاحظ وجود التعزير في أغلب الصور أنه يقوم على الجلد، ولذلك بعدما فرغ من بيان العقوبات الشرعية المقدرة في الجلد بالأعداد المحددة شرعا -كما ذكرنا في حد الزنا والقذف- أتبعه بحد الخمر، ثم أتبع ذلك بالتعزيرات لأنها في الغالب بالجلد.
ومن هنا تكون المناسبة وجود اتفاق أو شبه مقاربة بين عقوبة الجلد بالحد وعقوبة الجلد بالتعزير، ومن هنا جاء في باب التعزير أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وهذا نوع مناسبة، وإلا فالحقيقة أن الأليق به ذكره بعد كتاب الحدود، ومن العلماء والأئمة رحمهم الله من أخر باب التعزير، وهذا أدق.
مشروعية التعزير
يقول رحمه الله: [باب التعزير] .
التعزير مشروع في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع السلف والخلف رحمهم الله من الخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكذلك أئمة السلف والتابعين لهم بإحسان رحمة الله عليهم أجمعين على مشروعية التعزير.
ففي كتاب الله عز وجل شرع الله تعزير المرأة الزانية قبل نزول عقوبة الزنا، فأمر سبحانه وتعالى بحبس الزانية ومنعها من الخروج حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلا، ثم جاء الحديث ببيان عقوبة الزنا، ونزلت الآيات التي تبين الجلد في الزنا، فقال عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) ، فقبل نزول هذه العقوبة كانت المرأة الزانية تحبس في البيت، والرجل إذا زنى فإنه يؤذى، والأذية تكون بتوبيخه وأذيته، حتى نزلت العقوبة المقدرة شرعا، فهذا من نص الله على التعزير.
كذلك شرع الله التعزير في الحق الخاص، كما في تعزير الرجل لامرأته: {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا} [النساء:34] ، فالمرأة إذا نشزت على زوجها فإنها قد ضيعت حق الزوج؛ لأن الله جعل الرجال قوامين على النساء، وجعل المرأة تحت الرجل تقوم على أمره وترعى شأنه، فإذا استرجلت ونشزت وخرجت عن طاعته خرجت عن فطرتها، فلا بد من تأديبها وإيقافها عند حدها، فشرع الله عز وجل التعزير على هذا الوجه، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالكتاب.
كذلك أيضا: شرع الله عز وجل التعزير على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبسنته الصحيحة، فقد عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزر الخلفاء الراشدون من بعده، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ، فلما قال: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) ، بين مشروعية الجلد، وأنه يكون في غير الحدود؛ لأنه استثنى الحد في الزيادة، وأجاز العقوبة دون العشرة في غير الحدود، فدل على أنه يشرع التعزير بالجلد.

العقوبة بالتعزير
والتعزير في الحقيقة لا يتوقف على الجلد، فكما أنه يكون بالجلد؛ يكون أيضا بالتوبيخ، ويكون بالنفي، ويكون بالتغريب، ويكون بإتلاف المعصية التي يعصى الله عز وجل بها، وكل هذا ثبتت به النصوص.
فالتعزير بالضرب: قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر) ، فشرع أن يضرب الصبي، وهو نوع عقوبة تهيئة له لحكم الله عز وجل والقيام بأمره وما أوجب.
كذلك أيضا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل وأمر بالقتل عقوبة وتعزيرا، فثبت عنه عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم وغيره أنه قال: (من أتاكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاقتلوه) ، فشرع قتله تعزيرا، كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية أنه نوع من التعزير بالقتل.
ومن هنا صارت عقوبة التعزير لا تتوقف على شيء معين، وإنما تكون إلى نظر القاضي والإمام، فينظر الأصلح في زجر الناس وردعهم، وحفظ حقوق الخاصة والعامة.
وكذلك أيضا يكون التعزير بالتوبيخ والتقريع والتأنيب، وقد ثبت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أبا ذر رضي الله عنه لما قال لـ بلال: يا ابن السوداء، غضب عليه الصلاة والسلام وقال له: (إنك امرؤ فيك جاهلية) ، فهذا توبيخ وتأنيب لـ أبي ذر حينما قال هذه الكلمة، رضي الله عنه وأرضاه، فدل على مشروعية التوبيخ لمن أساء.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه شرع العقوبة بالقول لمن أساء في قوله، فقال: (من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا) ، أي: بمعنى أن يوبخ، ويقال له: امصص ذكر أبيك البعيد، إهانة له وذلة؛ لأنه يفتح على المسلمين باب الاحتقار بالعصبيات والنعرات، وهذا باب شر، فكما أنه يستعلي على الناس؛ أذله الإسلام، وأذله رب الجنة والناس، فجعله بهذه المثابة، فيقال له: امصص ذكر أبيك، ويذكر تصريحا بما يعرف بالعرف توبيخا له وزجرا، وهذا من العقوبة.
أيضا يكون التعزير بالكف عن الخير ومنع الخير عن الإنسان، كما جاء: (أن رجلا عطس فحمد الله فشمته النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عطس الآخر فلم يحمد الله عز وجل فلم يشمته النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! عطس فلان فشمته، وعطست فلم تشمتني، قال: إن هذا حمد الله فشمته، وأنت لم تحمد الله فلم أشمتك) ، فهذا من العقوبة بالمنع من الخير.
ويكون التعزير بالهجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال) ، فشرع الهجر فيما دون ثلاث ليال إذا أخطأ الرجل على الرجل، أو أساء الرجل إلى الرجل، أو أساءت المرأة إلى المرأة، وأرادت أن تؤدبها في إساءتها، ورأت أن من المصلحة ذلك؛ فإنها تعرض عنها وتمتنع من بداءتها بالكلام، فلا تتبسم في وجهها، ولا يتبسم الرجل في وجه الرجل، ولا يبدأه بالكلام، وهذا في حدود ثلاثة أيام، فإذا مضت الثلاثة أيام فلا يجوز الهجر بعدها، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العقوبة في الثلاثة الذين خلفوا، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب الله عليهم سبحانه وتعالى.
فهذه كلها عقوبات تعزيرية، وهذا يدل على كمال الشريعة الإسلامية وسمو منهجها، أنها عاقبت المسيء في إساءته، ولكن جاءت العقوبة بما يتفق مع الجريمة.
الفروق بين التعزير والحد
وهناك سؤال بالنسبة للتعزير والحد: فالحد عقوبة مقدرة شرعا، والتعزير عقوبة غير مقدرة؛ ولذلك ذكر العلماء جملة من الفوارق بين الحد والتعزير.
فالحدود تقدم معنا أنها مقدرة لا تجوز الزيادة عليها ولا النقص منها؛ لأن حق الله فيها في ذلك الحق المقدر الواجب على الحاكم وعلى القاضي أن ينفذه شرعا، فلا يزيد عليه ولا ينقص منه على الأصل في الحدود المقدرة، فلا يزيد في جلد الزاني فوق مائة جلدة؛ لأن الله أمر بجلده مائة جلدة، فهذا حد، ولا يجوز أن ينقص من المائة، لكن التعزير قد يزيد وقد ينقص، ويختلف باختلاف الأشخاص، وباختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف الأحوال والظروف، فمثلا: لو أن شخصا سب شخصا وأساء إليه، فإننا ننظر إلى الشخص الذي سب والشخص الذي سب ولعن، ثم ننظر هل هذا الشخص الذي وقع عليه السب استفز الذي سبه، أم أن الذي سب سب مباشرة تهكما واستهزاء، فينظر إلى الظروف والأحوال والقرائن؛ ولذلك نجد أن التعزير يرتبط بنظر القاضي ونظر الوالي، ولا يتقيد بشيء معين، فالقاضي هو الذي ينظر وهو الذي يقدر وينزل الناس منازلها، سواء كانوا جناة أو مجنيا عليهم.
وكذلك أيضا من الفوارق: أن الحد لا تجوز فيه الشفاعة إذا بلغ القاضي، والتعزيرات يجوز فيها الشفاعة، وتدخل تحت عموم قوله عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء) ، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع) ، فمفهوم قوله: (الحدود) ، أن غير الحدود تشرع فيه الشفاعة، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) ، فالأصل هو الشفاعة ومحاولة درء الضرر عن المسلم ما أمكن؛ لعله أن يتوب ويرجع ويصلح من بعد فساد، ولكن الحدود لا مجال للشفاعة فيها، وكذلك أيضا يجب على القاضي إذا استبان له الحد أن ينفذه، ولا مدخل للاجتهاد فيه، فهو إذا ثبتت عنده الجريمة توجه إليه خطاب الشرع أن يأمر بتنفيذ الحكم وإيقاع العقوبة والحد، وأن لا تأخذه في ذلك لومة لائم، كائنا من كان، إنما يخاف الله ويراقب الله، وينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم عامها وخاصها، عالما أنه لا يصلحهم إلا شرع الله سبحانه وتعالى.
وأما بالنسبة للتعزيرات فإنه يسع القاضي والإمام أن ينظرا، فمثلا: لو أنهما أرادا تعزير شخص، فوجداه قد انكسر وخاف وانزجر، فإنه ربما مجرد التهديد يكون تعزيرا، ومجرد التخويف قد يكتفي به القاضي، وقد يرى أن من المصلحة أن يكتفي به، بخلاف الحدود، فلو بكى الزاني أو الزانية، ولو أقسم الأيمان المغلظة أنه لا يعود، فتنفذ العقوبة عليه، فلا هوادة في ذلك ولا مجال للاجتهاد في رده.
وكذلك أيضا: التعزير يكون بمختلف العقوبات، فيكون بالأقوال والتوبيخ -كما ذكرنا- ويكون بالضرب -كما ذكرنا في الجلد- ويكون بالقتل، ويكون بالتغريم بالمال، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غرم في ضياع حق الله، وكذلك غرم في ضياع حق المخلوق، فقد غرم في ضياع حق الله حينما امتنع رجل عن أداء الزكاة التي فرض الله عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا) ، وقد تقدم معنا هذا في باب الزكاة، فهذا تعزير بالمال.
كذلك أيضا: ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه عزر بالمال في حق المخلوق، فحكم عليه الصلاة والسلام أن من دخل الحائط فأكل من الثمر دون استئذان صاحبه، ولم يحمل في جيبه ولم يختلس ولم يأخذ من الثمر؛ فلا شيء عليه، فله أن يأكل من الثمر شريطة أن لا يفسد، ولكن إذا أخذ وانتهب من البستان فوضع في جيبه شيئا زائدا عن حاجته نظر: فإن كان الذي أخذه من الثمر من غير الحرز، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من قبل أن يؤويه الجرين) ، فإذا أخذه بهذا القدر دون أن يؤويه إلى الجرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فعليه مثليه والعقوبة) فقوله: (مثليه) : أي: نغرمه ضعف ما أخذ، فلو أخذ مثلا صاعا ألزمناه أن يرد صاعين، وليس صاعا واحدا وهذا من التعزير بالمال.
والعقوبة بتعزير زائد على ذلك، فهذا كله مما يختلف فيه التعزير عن الحدود.
أيضا: التعزير يمكن أن يسقطه القاضي ويمكن أن يسقطه الإمام إلا إذا كان حقا لمخلوق يطالب به، وهذه المسألة فيها خلاف عند العلماء، لكن من حيث الأصل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غض الطرف عن بعض الإساءات وعن بعض الأخطاء ولم يعزر فيها، مع أنه يسع فيها التعزير، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه اختصم رجل من الأنصار والزبير رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض شراج الحرة -وكان الوالد رحمه الله يقول: الأشبه أنه في شراج مهزور ومذينيب، ومهزور ومذينيب مما كان يسيح من الماء من شرقي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الجهة التي تعرف اليوم في زماننا بالحرة الشرقية، وكان فيها عيون وفيها بعض الأنهار تجري- فكان بستان الزبير فوق بستان الأنصاري، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسقي الزبير ثم يرسل الماء إلى الأنصاري، فقال الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه: أن كان ابن عمتك؟! وهذه كلمة عظيمة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غض الطرف عن ذلك.
فمن أهل العلم من قال: إن هذا راجع إلى أصل قررته الشريعة في العفو عن الأنصار؛ لأنهم نصروا الإسلام نصرا مؤزرا، وفدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله وشرع الله بكل ما يملكون حتى بالنفس، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: (إنهم أدوا ما عليهم) ، يعني: أدوا الذي عليهم، وهذه كلمة ليست بالهينة أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أدوا ما عليهم من نصرة الإسلام ونصرة الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنهم أدوا ما عليهم، فمن وجد منهم مسيئا فليتجاوز عنه) ، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز عنهم لعظيم بلائهم في الإسلام، وغفر هذه الكلمة في مقابل ما كان منهم من الخير تأليفا لقلوبهم.
وعلى كل حال: فالتعزير يسع فيه العفو في بعض المسائل، وقد استدلوا لذلك بأدلة سيأتي -إن شاء الله- الكلام عليها في حكم التعزير.
حقيقة التعزير الشرعية
قال رحمه الله تعالى: [وهو التأديب] .
قوله: (وهو التأديب) الضمير عائد إلى التعزير، والمراد بقوله: هو التأديب، بيان حقيقته الشرعية، فاستفتح المصنف رحمه الله باب التعزير بالتعريف بالتعزير، وهذا أصل تقدم معنا في مقدمات الفقه: أن العلماء رحمهم الله يعتنون بالحقائق والتعريفات اللغوية والاصطلاحية من أجل تصور الشيء قبل الحكم عليه، ومن هنا القاعدة: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وقد ابتدأ رحمه الله بالتعريف، فقال: وهو التأديب، وقال بعض العلماء: عقوبة غير مقدرة شرعا ثابتة في حق لله أو حق لآدمي أو هما معا، ومنهم من يقول: تجب في حق الله أو حق الآدمي، ومنهم من يقول: تثبت في حق الله أو في حق الآدمي، والتعبير بالوجوب راجح عند من يقول بوجوب التعزير، فمن عبر بالوجوب يرى أن التعزير لازم ولابد منه، ولا يسع فيه العفو، وهذا على القول بأن حكم التعزير واجب، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
من يحق له التعزير
قوله رحمه الله: (وهو التأديب) هذا التأديب يكون من الوالي والسلطان، ويكون من الشخص من أفراد الأمة، فقد يعزر الإمام العام، مثل أن يعزر الموظفين والعمال الذين يقومون بمصالح الأمة إذا قصروا، وقد يعزر الإمام العام القضاة إذا قصروا في حقوق الناس، أو ماطلوا في الحكم عليهم، أو أخروا الشهود أو ظلموهم واشتكي إليه، وكذلك من حقه أن يعزر العمال عند أخذهم للرشوة أو تزويرهم، أو نحو ذلك من تضييع حقوق العامة والخاصة، فهذا التعزير للإمام.
وقد يعزر القاضي فيما ذكرنا، كما إذا اشتكى إليه المظلوم أنه ضاع حقه، واعتدي عليه بإساءة لا تصل إلى حد من حدود الله، كأن يسبه سبا لا يوجب حد القذف، فحينئذ يعزره القاضي.
ويعزر أيضا الوالد ولده، فإن للأب أن يعزر ولده، وللزوج أن يعزر زوجته، وللعالم والشيخ أن يمتنع من إجابة السائل -تعزيرا له- إذا لاحظ عليه أن أسئلته مريبة، أو أنه يتعنت في أسئلته، أو أنه يختار الأغلوطات، فمن حقه أن يمتنع في مثل هذا، أو رأى أن من المصلحة أن يعزر الطالب الذي يشوش على إخوانه ويزعجهم، فيمنعه من الحضور إذا علم أنه لا مصلحة في حضور مثله، وغيره يغني عنه، فمن حقه أن يعزر طالبه إذا أساء فتجاوز حدود الأدب.
تعزير من أساء الأدب في مجالس العلماء والقضاة
بعض العلماء يرى أن مجالس القضاة ومجالس العلماء لها حرمة، وأن الغلط فيها لا يسع العفو فيه، ولذلك قال بعض العلماء: لو أساء أحد في مجلس القاضي فإنه يجب على القاضي أن يعزره، ومن هنا قال صاحب التحفة: ومن جفا القاضي فالتأديب أولى وذا لشاهد مطلوب فقول: (من جفا القاضي) مثل أن يقول له: أنت ظلمتني في حكمك، أو أنت ظالم في حكمك، أو قال له: لا أقبل حكمك، أو حكمك لا يقبل أو نحو ذلك من التهكم والسخرية بأحكامه، وكذلك إذا أساء إلى الشهود فقال لهم: أنتم كذابون ومزورون، أنتم تأخذون المال لتشهدوا علي فاتهمهم، وحينئذ إذا كان في مجلس القاضي فإنه لا يسع أن يعفو عنه، وقد يعترض معترض بقضية الصحابي حينما قال: (أن كان ابن عمتك؟!) وقد ذكرنا أن من الأجوبة عن ذلك: أن هذا خاص مراعاة من النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، وما كان منهم من سابقة ونصرة، ولما علم من صدق إيمانهم به عليه الصلاة والسلام، ولكن المال فتنة، فغفر للرجل هذه الكلمة لعله لما يعلم منه من سابقته في الإسلام أو حرصه على الإسلام فغفر له ذلك، ولم يجد ما يوجب العقوبة.
ومن هنا قالوا: من أساء الأدب في مجلس القاضي أو العالم فليعزره، والسبب في تخصيص العلماء رحمهم الله لهذين المجلسين: مجلس القاضي -مجلس الحكم- ومجلس العالم: أنه لا يسع فيهما العفو.
ومنهم من يلحق الأئمة والخطباء في مساجدهم، كأن يكون شخص يرد على الخطيب في أمر فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ويسع الخطيب أن يختار قولا، فيقوم ويتهجم على الخطيب ويتكلم عليه، فيعزر مثله؛ لأنه ليس من حقه، وإذا أراد أن يتبنى رأيا آخر فيفتح له مسجدا آخر ويخطب فيه بما يرى من الصواب والحق، أما في مجلس العالم ومسجد الإمام فهو أحق أن يبين ما ترجح له من الحق.
قالوا: فإذا أساء الأدب في مجالس هؤلاء فإنه لا يعفا عنه، وقد ذكر بعض الأئمة أنه لا يسلم من عقوبة الله العاجلة أو الآجلة من أساء الأدب في مجالس العلماء، وأراد التضييق عليهم، أو أساء الأدب مع الخطباء، أو مع الأئمة، فيأتي وراء الإمام من أجل أن يخطئه، وكلما انتهى من الصلاة يضيق عليه فيقول له: ألاحظ عليك كذا ألاحظ عليك كذا فيضيق عليه في إمامته.
فهؤلاء الذين تقدموا للإمامة، وتقدموا لأمور شرعية ومناصب شرعية، في حال الاعتداء عليهم والتضييق عليهم في أداء أمانتهم، والتضييق عليهم في أداء رسالتهم؛ قالوا: لا يسع العفو فيه؛ بل يعزر، وإذا عفا العالم أو الإمام فلا يأمن مثل هؤلاء من بلاء الله عز وجل، وقد ذكروا عن الإمام أبي طالب رحمه الله وكان من أئمة القرآن المبرزين في القراءات، أنه كان لا يخطب خطبة إلا قام له رجل يقاطعه أثناء الخطبة ويعقب عليه ويؤذيه ويشوش عليه، فأكثر الناس عليه، وقالوا: إلى متى تسكت عنه؟! وكان رحمه الله عالما صبورا -والعلماء منهم الصابر، ومنهم من لا يصبر- فصبر رحمه الله حتى أكثر الرجل عليه، وفي ذات يوم قام فأساء إليه إساءة بليغة في علمه، فما كان منه إلا أن قال: اللهم اكفنيه بما شئت؛ فسقط الرجل مشلولا، ولم يعد إلى المسجد بعدها أبدا! فلا يأمن أمثال هؤلاء؛ لأن أهل الدنيا لا يرضى أحد منهم بمثل هذا، فمثلا: لو أن تاجرا أقام رجلا في دكانه فأسيء إليه، فهذا التاجر يحس أن الإساءة إلى العامل إساءة إليه، وهكذا المناصب العامة إذا أسيء إلى أهلها كأنه أسيء إلى من وضعهم، فكيف بمن وضعهم رب العالمين! وكيف بمن قدمهم الدين والشرع خلفاء للرسل وارثين للنبوة، يبلغون رسالات الله عز وجل! فمن هنا قالوا: لا يسع العفو؛ لأنه لو عفا عنه لتجرأ على حق الله عز وجل؛ لأن الانتقاص هنا ليس للقاضي ولا للعالم، وليس لشخصه، وإنما هو انتقاص للعلم والدين، ومن هنا قالوا: إنه لا يسع العفو لحرمة المجلس، ولو أن الإمام في ذاته والقاضي عفا في نفسه فإنه لا يسع العفو حرمة للمجلس.
الأداب وأنواعها
وقوله رحمه الله: (وهو التأديب) .
الأدب: رعاية الحرمة، فمن راعى حرمة الأشياء في قوله وعمله وفعله وسمته ودله فهو المؤدب، ويكون الأدب أدب المخلوق مع المخلوق، وأدب المخلوق مع الخالق، وأدب الخالق مع المخلوق، فهذه ثلاث أحوال ذكرها العلماء للأدب.
فالله عز وجل يعلمنا الأدب -مع أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام- في خطابه للرسل فيقول: {يا أيها الرسول} [المائدة:41] ، {يا أيها النبي} [الأنفال:64] ، ولم يقل: (يا محمد) بالاسم المجرد؛ تشريفا له وتكريما، فناداه بالرسالة، وناداه بالنبوة؛ تشريفا له وتكريما، حتى يعلم الأمة الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان العلماء والأئمة لا يقولون: هذا قول محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يقولون: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ رعاية للأدب، وهذا هو خطاب الله عز وجل لعبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، وهذا من أجمل ما يكون من الخطاب، أن الله قدم العفو على التعنيف على الفعل، فقال له: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، فلم يقل له: لم أذنت لهم؟! عفا الله عنك، ولكن قال: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، وهذا تعليم للأمة أن يراعوا حقوق من له حق، وحرمة من له حرمة.
قالوا: ومن أدب الخالق مع المخلوق أيضا قوله تعالى: {عبس وتولى} [عبس:1] * {أن جاءه الأعمى} [عبس:2] ، فإن الله لم يقل له: عبست، وإنما قال: {عبس وتولى} ، حتى إن من قرأ السورة لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي نزلت فيه هذه السورة.
وقوله: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى} [عبس:1 - 2] ، لا يعلم من الذي عبس، وهذا من أكمل ما يكون حينما يحكى الأمر للشخص دون أن يباشر بالخطاب، فهذا من الأدب، وكذلك تأتي إلى الشخص وتقول له: من الناس من يقول في كذا وكذا، والمخاطب هو الذي قال هذا الكلام، ففرق بين أن تقول: من الناس من يقول في كذا وكذا، وبين أن تقول له: أنت تقول في كذا وكذا.
وأما أدب المخلوق مع الخالق فهو، وهو حال الأنبياء خاصة، بل وعباد الله وأوليائه الصلحاء الأتقياء السعداء، وهؤلاء هم الذين يراعون الأدب مع الله.
ومن ذلك قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء:80] ، ولم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني، ولا شك أن الله هو الذي يمرضه، ولكنه تأدب: {الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء:78 - 80] ، فنسب المرض إلى نفسه تأدبا مع الله سبحانه وتعالى.
وهناك أدب المخلوق مع المخلوق: وأحوال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم تدل على ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الأدب في أبهى صوره وأجمل حلله فليقرأ قصص الأنبياء، وليقرأ التفاسير الدقيقة التي تبرز الجوانب الجميلة الجليلة لرسل الله صلوات الله وسلامه عليه، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، فهذه الصفوة التي اصطفاها الله من خلقه والخيرة التي اختارها الله من خليقته، هم الذين كانوا يراعون الأدب على أتم أحواله، فمن أدب المخلوق مع المخلوق قول يوسف عليه السلام: {قال هي راودتني عن نفسي} [يوسف:26] ، فجاء بضمير الغائب، ولم يقل للمرأة: أنت راودتيني عن نفسي، بل قال: {قال هي راودتني عن نفسي} ، وهذا من أدب المخلوق مع المخلوق.
فالأدب: هو رعاية الحرمة، والتأديب: حمل الإنسان على أن يراعي هذه الحرمة، وهو تفعيل من الأدب بمعنى: أن الإنسان يحمل على رعاية هذه الحرمة في أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته وشئونه.
ولا شك أن الحدود كلها فيها معنى التأديب، ولكن هذا النوع من العقوبات يقصد منه أن يحمل الشخص على رعاية الحرمات؛ لأنه لا يقع التعزير إلا عند الإخلال بالحرمات، سواء كانت عامة أو كانت خاصة، فيكون التعزير في الإخلال بالحرمات العامة وبالحرمات الخاصة، فسواء كان في درء المفاسد أو جلب المصالح.
وقوله رحمه الله: (وهو التأديب) تعريف مختصر راعى فيه رحمه الله الاختصار، والمقصود من التعزير أن يحصل التأديب، وإلا فالأصل أن التعزير عقوبة غير مقدرة شرعا، تثبت أو تجب لحق الله عز وجل، مثل أن يمتنع من الزكاة فيعزر ويؤخذ منه ضعف الزكاة، أو نصف ماله، ويعزر بحق المخلوق مثلما ذكرنا.
حكم التعزير
قال رحمه الله: [وهو واجب] .
مذهب الجمهور أن التعزير واجب، وفي الحقيقة ينبغي النظر في التعزير: فإذا كان التعزير لحق مخلوق واشتكى المخلوق، فيجب أن يعزر الجاني، فمثلا: شخص استهزأ بشخص، أو شهر به فتكلم في مجامع الناس وقال: فلان لا يفهم شيئا، أو فلان ما هو أهل لكذا وكذا، فشهر به، أو كتب في صحيفة أو وسيلة إعلامية ما ينتقص به أهل الحق ويزري بهم ويشهر بهم أمام الناس، أو اتهمهم بالباطل، فاشتكى أصحاب الحقوق إلى القضاة، فإذا اشتكى إلى القاضي فيجب على القاضي أن يعزر مثل هذا؛ لأن صاحب الحق طالب بحقه، والقضاة في الأصل ما أقيموا إلا لأجل ردع الناس بعضهم عن بعض، والقيام بالحقوق الواجبة.
وكذلك بعض العلماء يرى وجوبه فيقول: في بعض الأحوال التي يكون فيها تقصير ومماطلة فيجب حينئذ على القاضي أن يعزر، وهو واجب، أي: أنه يرى أن التعزير يجب لكن في حالة ما.
وإذا كان متعلقا بحق الله عز وجل فإنه يسع فيه العفو، ولذلك جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! إني أصبت من امرأة -وذكر أنه أصاب دون الحد، من قبلة أو نحوها- فأنزل الله عز وجل: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود:114] ، فقال الرجل: أهي لي خاصة يا رسول الله؟ قال: بل هي عامة) ، فهذا يدل على العفو والمجاوزة في التعزير في حق الله عز وجل متى وسع ذلك، والسبب: أن الرجل جاء شاكيا تائبا يسأل عما يكفر ذنبه، وهذا نوع من التوبة والرجوع، ومن هنا لاحظ عليه الصلاة والسلام أن رجوعه كاف؛ لأنه أدرك ما قام به، والتعزير نوع من التأديب لرعاية الحرمة، وهذا قد جاء نادما على إسقاط الحرمة، وحاله يدل على أنه لن يعود بإذن الله عز وجل إلى ذلك.
فمن هنا يسع العفو إذا غلب على ظن القاضي المصلحة في عفوه، ولا بأس بذلك ولا حرج، فيكون التعزير في حالة العفو غير واجب، لكن لا يستطيع القاضي أن يعفو في حقوق المخلوقين بعضهم على بعض، ولا يستطيع القاضي أن يتدخل في شخص سبه شخص فآذاه أو اتهمه بما لا يوجب القذف، ورفع هذا الرجل يتظلم إلى القاضي، فلا يأتي القاضي ويقول: اعف عنه، أو يحاول تعطيل تأديبه؛ لأنه يجب على القاضي في هذه الحالة أن ينصف المظلوم ممن ظلمه، فحينئذ لا يتدخل القاضي؛ لأنه يجب على القاضي أن يكون محايدا، وفي حالة تدخله بالصلح قد يسقط حق ذي الحق، ولا يجوز إسقاط هذا الحق بدون موجب.
ومن هنا لا يسع العفو ولا يسع الإسقاط في التعزيرات في الحقوق التي يطالب بها أصحابها، وإنما في حق الله عز وجل، والأمر فيه إلى نظر القاضي، ويحق له في بعض الأحوال أن يعفو ولا يعزر.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #726  
قديم 24-10-2025, 05:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



المعصية الموجبة للتعزير
قال رحمه الله: [في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة] .
قوله: (في كل معصية) المعصية تكون بترك واجب أو فعل محرم، فنعزر في ترك الواجبات، كما لو امتنع من أداء الزكاة، أو امتنع من الصلاة مع الجماعة على القول بوجوب الصلاة مع الجماعة؛ فإنه يعزر، وكذلك أيضا في حق المخلوق، وحقوق المخلوقين بعضهم مع بعض، فمثلا: لو أن شخصا جاء الناس ووضعوا عنده أماناتهم، ثم امتنع من إعطاء الأمانات، وشهد الشهود عند القاضي على أنه أخذ هذه الأمانات وماطل وأخر في دفعها لأهلها، فإذا اشتكاه أصحاب الأمانات إلى القاضي فإنه يعاقبه لظلمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لي الواجد) يعني: تأخيره ومماطلته، و (الواجد) أي: الغني الذي يقدر على السداد (ظلم يبيح عرضه وعقوبته) ، فأباح النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقب؛ لأنه عطل حقوق الناس الواجبة.
وكذلك لو أنه اقترض من الناس أموالهم ثم لم يسددهم، أو هناك عمال يشتغلون عنده، فإذا انتهى الشهر لا يعطيهم حقوقهم ورواتبهم؛ فإنه يجب على القاضي أن يعزر أمثال هؤلاء؛ لأنه امتنع من القيام وأداء الواجب.
فقد تكون المعصية بترك واجب، مثل: عدم أداء الزكاة، أو عدم أداء الأمانات، أو عدم القيام بالحقوق الواجبة كالشهادة، فلو أن شخصا -مثلا- عنده شهادة، فهو يشهد أن فلانا أعطى فلانا عشرة آلاف ريال، فأنكر الشخص، ولما قيل له: تعال واشهد معي، امتنع، ولا يوجد شاهد غيره، فاحتاج صاحب الحق أن يأتي ويشهد، ففي هذه الحالة يأثم عند العلماء رحمهم الله بالإجماع؛ لأن الشهادة تتعين إذا لم يوجد غيره، فإذا امتنع -وليس من حقه أن يمنع الشهادة لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة:282] - فقد امتنع من واجب عليه، فإذا اشتكي إلى القاضي ألزمه بالحضور وسأله القاضي: هل تشهد أن فلانا فعل كذا وكذا؟ فإن قال: نعم أشهد، فحينئذ يقبل شهادته، ثم يعزره ويؤدبه للتأخير والمماطلة، وهذه صورة من التأخير في أداء الواجب.
وكذلك يكون التعزير لارتكاب المعصية بفعل الحرام، فمثلا: لو أخذ أموال الناس عن طريق التزوير، أو الرشوة، ولا يؤدي واجبا، ويأكل الرشوة والربا، أو رجل اختلى بامرأة فأصاب منها ما دون الحد، فهذا لا يجب إقامة حد الزنا عليه؛ لأنه لم يصب الزنا، فحينئذ يعرز، وهذه كلها من فعل المحرمات.
فيكون التعزير بترك الواجبات والوقوع في المحرمات، ما لم تبلغ الحدود، فهذه لها أحكامها الخاصة.
وبقي الإشكال عند العلماء في المندوبات والمكروهات، فهل المندوب مأمور به، وهل المكروه منهي عنه، بحيث يذم التارك للمندوب أو الواقع في المكروه على سبيل يقتضي التعزير؟ فيه خلاف معروف عند أئمة الأصول رحمهم الله، وهذه المسألة تبين عليها مسألة التعزير في الإخلالات العامة في الآداب، فمثلا: لو أن شخصا جاء إلى مجالس العلم أو مجالس السكينة والوقار ورفع صوته وشوش على طلاب العلم، ففي هذه الحالة لو رفع أمره إلى القاضي فإنه يعزر، مع أنه ليس بالأمر الذي يصل إلى فعل المحرمات، ولكن فيه نوع من الأذية التي تصل غالبا إلى الكراهة الشديدة، ولو أنه جاء بالجوال وفتحه في مجلس العلم فهل يستحق التعزير أو لا؟ خاصة إذا انبعثت منه الأصوات الموسيقية، فآذى وشوش في بيت الله عز وجل وحرمته، أو أثناء الصلاة، وهذا أعظم، وهذا ليس بالأمر الهين: {وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم} [النور:15] ، أن يأتي إلى طلاب العلم وهم في مجلس العلم في تركيزهم وحفظهم ويفتح هذه الجولات، مع أنه بإمكانه أن يجعلها على الصامت، وبإمكانه أن يقفله، وهذا من الإهمال واللامبالاة، أو يأتي في المسجد أثناء الصلاة ويفتحه على الأصوات العالية، فمثل هذا لا شك أنه من المكروه كراهة شديدة، لكن إذا اشتمل على أصوات موسيقية فلا شك أنه في هذه الحالة يقارب الحرمة.
فالمقصود من هذا: أن قوله: (في كل معصية) عموم، والمعاصي تشمل ما كان لحق الله عز وجل أو كان لحق المخلوق.
وقوله: (لا حد فيها) مثل عقوبة من استمتع بامرأة بما دون الزنا.
وقوله: (ولا كفارة) مثل الجماع في نهار رمضان، فإذا جامع في نهار رمضان فلا يعزر؛ لأن الشرع أوجب لهذا الجماع كفارة، ومن هنا على هذا التعريف -في أحد الأوجه عند الحنابلة، وهو مذهب المالكية- أنه يشرع التعزير فيما تقدم معنا من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الدية، فلو أنه ضربه ضربة متعمدا فهشم عظامه، فإن هذه الجناية تسمى: الهاشمة، ويجب فيها خمسة عشر من الإبل.
ولكن في هذه الحالة إذا كانت هاشمة لا قصاص فيها، وأخذ خمسة عشر من الإبل، فهل يكفي هذا؟ قال طائفة من السلف وهو مذهب المالكية وأيضا عند الحنابلة وجه: أنه يعزر، أي: يعاقبه القاضي بما يمنعه من الاعتداء على الناس؛ لأن من الناس من عنده المال ولا يبالي، فيهشم عظام الناس، ثم يهشم عظم هذا وعظم هذا ولا يبالي ويسترسل؛ لأن عقوبة المال -الأرش- لا تضره، ومن هنا قال رحمه الله: (لا حد فيها ولا كفارة) ، فيدخل في هذا على هذا الأصل ما ذكرناه من الجنايات التي لا قصاص فيها وفيها الديات.
لكن إذا كانت خطأ فلا يعزر إلا إذا كان فيه نوع إهمال، فمثلا: لو أن مهندسا أشرف على عمارة وأهمل وقصر، وجب عليه الضمان، وأمر بدفع المال، ويضمن الإتلافات الموجودة، وهل يقف الأمر عند هذا؟ لأنه غني وعنده المال، فيذهب ويدفع المال المفروض عليه ولا يبالي، لكن إذا رأى القاضي أن من المصلحة أن يسجنه، أو يشهر به، فيعرف الناس أنه مهمل في عمله، وأنه يعرض أموال الناس وممتلكاتهم إلى الضرر؛ فله ذلك.
فهذه أحوال وأشباهها تدخل تحت قوله: (لا حد فيها ولا كفارة) وعلى هذا فما فيه الكفارات قالوا: إنه لا يشرع فيه التعزير.

معاص توجب التعزير
قال رحمه الله: [كاستمتاع لا حد فيه] .
فلو أن رجلا استمتع بامرأة بما دون الفرج، فقبلها أو فاخذها ولم يولج -أي: لم يوجب حد الزنا على الصفة المعتبرة- فإنه في هذه الحالة يعزر.
مثلا: لو أن رجلا وجد مختليا بامرأة أجنبية، أو وجدا في لحاف واحد، أو وجدا متجردين، ونحو ذلك من الاستمتاع الذي هو دون الزنا ودون الحد؛ شرع تعزيره.
قال رحمه الله: [وسرقة لا قطع فيها] .
فلو أنه سرق وأخذ مالا على وجه السرقة، ولكن المال لا يبلغ النصاب، أو أخذ مالا من غير حرز، كما لو جاء إلى شخص وأمامه مال، فاستغفله فسحب المال من طاولته أو من جيبه، بشرط ألا يشق الجيب؛ فيعزر.
أما الطراق الذي يشق الجيوب فسيأتي الخلاف فيه.
وكذلك نباش القبور هل يوجب نبشه القطع أو لا؟ الذين يقولون: لا يوجب القطع في النباش يقولون: يعزر؛ لأنه عندهم لا يصل إلى حد القطع، فكل سرقة لا توجب القطع ففيها التعزير.
قال رحمه الله: [وجناية لا قود فيها] .
وهكذا الجناية التي لا قود فيها -كما ذكرنا (الهاشمة) ونحوها- وقد اختار المصنف هذا القول، وأنا أميل إليه: أنه إذا اعتدى عليه بجناية لا قصاص فيها متعمدا؛ فإنه يشرع أن يعزر، واختاره الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله وغيره.
قال رحمه الله: [وإتيان المرأة المرأة] .
أي: السحاق، قالوا: إن المرأة إذا أتت المرأة واستمتعت بها؛ فإن هذا لا يوجب الحد؛ لأنه ليس فيه إيلاج، وحينئذ تعزر المرأتان.
قال رحمه الله: [والقذف بغير الزنا] .
القذف بغير الزنا كسب الناس وشتمهم، ووصفهم بالكلمات المنتقصة لحقهم، كأن يقول عن عالم: إنه لا يفهم شيئا، أو لا يعرف كيف يعلم؛ يتهكم به، فهذا السب والشتم والانتقاص والعيب على غير حق وبدون حق يوجب التعزير، وحينئذ ننظر إلى الشخص الذي سب وشتم وأوذي، والشخص الذي تكلم بذلك فيعزر بما يناسبه.
قال رحمه الله: [ونحوه] .
أي: ونحو ذلك من الجنايات في ضياع حق الله أو انتهاك حرمته مما لا يصل إلى الحد ولا كفارة فيه.
الأسئلة




صلح القاضي بين المتخاصمين يشرع في بعض القضايا
السؤال هل يبدأ القاضي بإمضاء حق الخصم المظلوم، أم يحاول الصلح بينهما، فإذا امتنع صاحب الحق أمضى الحكم؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه، أما بعد: فإن الصلح من القاضي يقع في بعض القضايا وليس في كل القضايا.
وينبغي أن ينتبه لقضية مهمة جدا، وهي: أن مقام القاضي يستلزم منه أن يكون حياديا لا يميل لأحد الطرفين، وهذه الحيادية تقتضي منه أن لا يتدخل، فيعطف على أحد الخصمين على حساب الآخر؛ ولذلك فلا يجوز له أن يدخل خصما قبل خصمه، ولا يجوز له أن يلين قوله لأحد الخصمين دون الآخر، ولا أن يخص أحدهما بالنظر الشديد دون الآخر دون موجب، ولا يرفع مجلس أحدهما على الآخر، ونحو ذلك مما ذكره العلماء، كل هذا إقامة للعدل، ولذلك جعل الله عز وجل القضاة من أجل أن يقوموا بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وعلم الله نبيا من أنبيائه أن يعدل بين الخصمين، فقال لداود حينما أتاه الخصمان: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} [ص:26] ، فأمره أن يحكم بالحق وبالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، فإذا تدخل القاضي بالصلح فقد عطل صاحب الحق عن حقه، وصاحب الحق ما أتى يشتكي إلى القاضي إلا وقد تمعر وتألم وضاقت به الدنيا، فإذا وجد القاضي يقول له: سامحه واعف عنه، فحينئذ ييئس الناس من القضاة؛ لأن القضاة -غالبا- لا يوصل إليهم إلا إذا استنفدت وسائل الصلح، فإذا تدخل القاضي كان هناك ميل لأحد الخصمين على حساب الآخر.
وقد استثنى العلماء رحمهم الله مسائل يجوز للقاضي أن يتدخل بها في الصلح، وسيأتينا -إن شاء الله- تفصيلها في باب القضاء.
منها: إذا أشكل عليه الحكم، كقضية متشعبة متشتتة وأقوالها متباينة، وصعب عليه الأمر واستشكل، فمن حقه -آنذاك- أن يصلح بين الطرفين؛ لأنه لا يستطيع الفصل، ولم يتبين له الحق، أما إذا تبين له الحق فلا يجوز له التدخل بالصلح؛ لأنه مأمور {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة:49] ، وعليه إذا تبين له الحق أن يحكم ويمضي الحق وينفذه.
ومنها: خوف الفتنة، كأن يعلم أنه لو قضى لأحد الخصمين -وهو صاحب حق- أنه فستقع فتنة، وستسيل دماء، كما لو اختصموا عند القاضي وأحدهم شرير، وله أعوان، ويغلب على ظن القاضي أنه لو قضى له بهذا الشبر من الأرض أو المتر من الأرض فستثور العصبية والحمية، فيقتلون الرجل صاحب الحق، ولذلك ففي هذه الحالة يتدخل بالصلح ولا ينفذ الحكم.
فهذه المسائل استثناها العلماء، قال الناظم رحمه الله: والصلح يستدعى له إن أشكلا حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فإذا أشكل عليه الحكم فمن حقه أن يصلح، ولا يتكلف الحكم عن جهل؛ فإنه {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة:286] ، فإذا أشكل عليه الحكم فيقول: إن قضيتكم مشكلة ومسألتكم مستعصية، فإن شئتم أن تترافعوا إلى غيري فافعلوا، ويقول لهم: اذهبوا إلى من هو أعلم مني، اذهبوا إلى فلان أو فلان -يرشح لهم أحدا أعلى- لكن إذا قالوا: لا نريد حكما بيننا غيرك، ولا نرضى إلا بحكمك، فحينئذ يقول: لقد أشكل علي الأمر؛ فلا تحملوني ما لا أطيق، فلا أرى أن أحدكما ظلم الآخر، أو أرى أن كلا منكما له حق، فإن أبيتم فأرى أن تصطلحوا، ويحق له أن يتصرف هذا التصرف، وكذلك أيضا إن خاف فتنة أو شحناء للأرحام.
ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أصلح بين الأنصار واليهود في مسألة حويصة ومحيصة حينما قتل عبد الله رضي الله عنه في الرسالة وقد تقدمت معنا في القسامة، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل من بيت مال المسلمين درءا للفتنة؛ لأن اليهود كان لهم حق وعهد وذمة، ذمة الله ورسوله، والأنصار قتل لهم قتيل، والمقتول بين اليهود، وقد وجدوه يتشحط في دمه، فعرض على اليهود القسامة فامتنعوا، وامتنع الأنصار أن يقبلوا أيمان اليهود، مع أن اليهود امتنعوا، وطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن يحلفوا على رجل منهم فلم يفعلوا، فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين صلحا.
وقول الناظم: (ما لم يخف فتنة أو شحناء للأرحام) فإن الأرحام إذا وقعت بينهم الشحناء فهذه مصيبة عظيمة وبلاؤها أعظم.
وعليه: فلا لا يجوز أن يتدخل القاضي بالصلح في غير ما تقدم؛ لأنه لو كل من كانت له خصومة وجاء إلى القاضي فيقول له القاضي: أريد أن أصلح بينكم؛ فإن هذا يذهب هيبة القضاء، ويذهب مكانة القضاة، فالناس ما جاءوا إلى القضاء من أجل الصلح، وإنما جاءوا للفصل في المنازعات وبيان من هو صاحب الحق فيؤدى له حقه، ومن هو الظالم فيردع عن ظلمه، هذه هي مهمة وأمانة القاضي، فلا يتدخل في مسألة الصلح إلا في مسائل معينة محدودة على ما قرره الأئمة رحمهم الله، والله تعالى أعلم.
التعزير بالسجن
السؤال هل يكون التعزير بالسجن؟
الجواب الصحيح من أقوال العلماء أنه يجوز أن يعزر بالسجن؛ ولذلك أمر الله عز وجل بسجن الزانية حتى يتوفاها الموت أو يجعل الله لها سبيلا قبل نزول حد الزنا فقال: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت} [النساء:15] ، وهذا نوع من الحبس، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة، وكذلك أيضا حبس الخلفاء الراشدون ونفوا، والنفي نوع من الحبس، وهو أن يخرج إلى مدينة أو إلى مكان بعيد عن أهله عند خوف الفتنة أو الشر، ولذلك نفى عمر بن الخطاب نصر بن الحجاج إلى البصرة لما افتتن به نساء المدينة، فالنفي والحبس مشروع عند وجود الحاجة والمقتضي لذلك، والله تعالى أعلم.

حكم خروج الريح من قبل المرأة

السؤال الريح الذي يخرج من قبل المرأة وهو كثير في أوقات متفرقة، فهل تتوضأ عند كل صلاة؟

الجواب هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله مشهور، حول: هل القبل يأخذ حكم الدبر في خروج الريح؟ فمن أهل العلم رحمهم الله من قال: إن خروج الريح من القبل حكمه حكم خروجه من الدبر، وهذا من ناحية إلحاق النظير بنظيره، وهو قول قوي، ولا شك أنه من ناحية الاحتياط أولى، ولكن إذا أصبح مع المرأة على وجه يتعذر عليها أو تحصل لها المشقة والعنت، فحينئذ تكون في حكم المستحاضة، كما لو خرج معها الدم واسترسل في الاستحاضة فإنها تتوضأ لدخول وقت كل صلاة، ولا تبالي بعد ذلك بخروج الريح منها، كما لو كان بها سلس الريح من الدبر، فالأحوط أنها تحتاط لدينها وعبادتها بذلك، والله تعالى أعلم.
بيع الذهب بالذهب
السؤال قمت ببيع ذهب لزوجتي لصاحب محل ذهب، ثم اشتريت منه بمبلغ هذا البيع ذهبا آخر، فما الحكم؟
الجواب هذا المسألة فيها تفصيل: فيجوز لك ذلك إذا بعت الذهب الأول القديم، وقبضت الثمن، وفارقت المحل فاستدبرته وخرجت منه، ثم رجعت واشتريت، فهذه صفقة ثانية، أما كونك تخرج من المحل فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، ومن هنا فينبغي أن تفصل البيعتان عن بعض، فإذا بعت الذهب القديم واشتريت ذهبا جديدا، وأنت في نفس المحل، وزدت أو نقصت في القيمة، فقد اشتريت ذهبا بذهب متفاضلين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل) ، فدل على أنه لا بد من المساواة، وقال في لفظ السنن: (فمن زاد أو استزاد فقد أربى) ، فمن بدل ذهبا قديما بذهب جديد وأخذ الفرق البائع أو أخذ الفرق المشتري؛ فإنه الربا الذي لعن الله آخذه وموكله وكاتبه وشاهديه، فلا يجوز أن تبيع قديما بجديد إلا إذا كانا متماثلين في الوزن دون أية زيادة، وهذا في مبادلة الذهب بالذهب؛ لأنك في الحقيقة بادلت الذهب القديم بالجديد، فلا تأخذ الفضل والزيادة، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه في الصحيح: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا -أي: لا تزيدوا- بعضها على بعضها، ولا تبيعوا غائبا منها بناجز) ، فبين ربا النسيئة والفضل.
فلا يجوز لك أن تبادل الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، وعلى هذا فيبادل الذهب القديم بالذهب الجديد إذا كان وزنهما واحدا، عشرين غراما بعشرين غرام، أو مائة غرام، بمائة غرام، فلو زاد أحد الذهبين غراما فهو ربا، ولو قال له: أبادلك هذه المائة غرام القديمة بهذه المائة الجديدة، وتدفع لي فرق جودة الصنعة، مثل أن تدفع مائة أو مائتي ريال لجودة صنعة الجديد، أو لأنه موديل جديد كما يقولون؛ فإن هذا ربا أيضا، سواء كانت الزيادة من الذهب نفسه مثل مائة غرام بمائة غرام، أو من شيء أجنبي عن الذهب، مثل أن يقول له: أستبدل الذهب القديم بالجديد وأدفع لك ألف ريال أو مائة ريال، أو ريالا واحدا، أو نصف ريال، فأي زيادة من جنس المبيع من الأثمان أو من غيرهما فهذا الربا الذي حرم الله ورسوله.
أما إذا وقع البيع مباشرة وقال له: أبادلك، وحصل أنه اشترى منه البائع الذهب القديم ولم يتشرط عليه أن يشتري منه، وخرج من عند البائع، كما لو باع القديم بخمسة آلاف ريال، فخرج من الدكان حتى تتم الصفقة الأولى؛ لأن الصفقة الأولى ما تمت إلا بالمفارقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) ، فالصفقة الأولى لا تلزم إلا بالمفارقة، فلابد أن يخرج من الدكان، فإذا خرج من الدكان ورجع مرة ثانية، فهي صفقة ثانية، ويجوز له حينئذ أن يبرم صفقة ثانية بذهب أغلى أو أرخص، ولا بأس عليه في ذلك ولا حرج، والله تعالى أعلم.
حكم الصيام في شهر شعبان
السؤال هل من السنة الإكثار من الصيام في شهر شعبان؟
الجواب ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من الصوم في شعبان، ولكن هذا الصوم المراد به التقوي على العبادة؛ لأن شهر رمضان قرب، فإذا صام من شعبان ألفت نفسه الصوم، ولذلك فإن من يصوم من شعبان الإثنين والخميس، والثلاثة الأيام البيض، ويصوم من قبل نهاية الشهر فيصوم مثلا يومين أو ثلاثة أيام؛ فإنه يتقوى، وإذا دخل عليه رمضان فلا تجده يتعب، ولا يجد العناء في أول يوم من رمضان، بخلاف ما إذا دخل عليه رمضان ولم يصم شيئا من شعبان، فإنك تجده في تعب وعناء، وهذا له سر لطيف ذكره العلماء والأئمة مستنبطا من السنة، وهو: أن السنة هيأت العبد للعبادة، ولذلك شرعت السنن الراتبة قبل الفريضة لتهيئ للفريضة، وشرعت ركعتي المسجد إذا دخل المسجد حتى يتهيأ للفريضة، فتنقطع عنه الشواغل، وقد نوى أن يتهيأ الجسد فيقوى على العبادة أكثر، فأنت إذا تأملت من يصوم في شعبان وجاء عليه أول يوم من رمضان، تجده يقوم بأموره معتادا ولا يكسله الصوم عن فرائض الله، ولا يكسله عن مصالحه، وتجده مؤمنا قويا، ولا يوجد عنده ضعف.
ولكن إذا صام أول يوم من رمضان ولم يصم من قبل، فتجده إما منهكا أو يعتريه صداع أو آلام من أثر هذه العبادة؛ لأنها فاجأته، ولذلك شرع الصوم في شعبان.
وانظر إلى حكمة الشريعة: فإنها فتحت باب التقوي على العبادة ما لم يؤد ذلك إلى ضياع الحق، فمن كان الصوم في شعبان يضعفه في رمضان، فإنه لا يصوم بعد منتصف شعبان، ومن هنا جاء النهي في حديث العلاء رضي الله عنه، وهذا من الفقه عند الإنسان أن يعرف موارد النصوص ومقاصدها، فالصوم عبادة بدنية محضة، والصلاة عبادة بدنية محضة، وقد وجدنا الشرع في الصلاة يهيئ الإنسان للأكمل، حتى في النوافل، فليس هذا خاصا بالفرائض، ففي النوافل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه استفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين) ، وكان يصلي عليه الصلاة والسلام بأطول الطوال، فيقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة، وقد استفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين حتى يسهل عليه طول القيام بعد ذلك، أما لو ابتدأ بالركعتين الطويلتين مباشرة، فإن نفسه تمل أو تضعف، ومن هنا قالوا: تهيأ العبادة بالأقل والأضعف، فصوم النافلة أضعف من الفريضة، وأما حديث العلاء فالمقصود به من كان يضعفه الصوم، فلو وجدنا شخصا يصوم في شعبان، كرجل كبير السن لا يستطيع أن يصوم رمضان إلا بقوة وجهد، فإنه إذا صام شعبان ضعف عن رمضان، وربما اضطره ذلك إلى الفطر، فحينئذ نقول له: لا تصم بعد منتصف شعبان، وينهى عن الصوم بعد منتصف شعبان، وهذا هو معنى حديث: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، فهذا على من يجهده.
ومثل قولنا حديث: (ليس من البر الصيام في السفر) ، مع ما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أحد الصحابة قائلا: (يا رسول الله! إني أطيق الصوم في السفر، قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) ، فهذا الفقه أننا نجمع النصوص وننظر في دلالتها وننظر في مقصود الشرع، فلا نحرم على الناس الصوم في شعبان، ولا نفتح الباب على مصراعيه حتى يضيع فرض الله عز وجل في رمضان، ولكن نقول: إن الأصل أن الإنسان يتقوى بالنافلة على الفريضة.
والدليل على أنه يجوز الصوم من بعد منتصف شعبان: أن حديث العلاء: (إذا انتصف شعبان فلا تصوموا) ، أقوى ما قيل أنه حسن، وحديث ابن عمر في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه) ، فهذا في الصحيح، فهو حديث ثابت لا غبار عليه، فمن أجاز الصوم بعد منتصف شعبان يقول: (لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين) ، فمعنى ذلك: أننا لو تقدمنا رمضان بثلاثة أيام أو أربعة أيام فلا حرج؛ لأن الذي منع هو اليوم واليومان، فدخل منتصف شعبان الأخير تحت هذا الأصل الصحيح العام، فنقول بالصوم بعد منتصف شعبان لمن يتقوى بذلك على صوم الفريضة، ونمنع من صومه لمن يضعف عن صوم الفريضة، وبهذا أعطي لكل ذي حق حقه، وحقق مقصود الشرع، والنظر إلى معاني الأدلة والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
حكم الساحة المحيطة بالمسجد
السؤال هل الساحة الموجودة أمام المسجد تأخذ حكم المسجد، وبالتالي فهل يجوز البيع فيها أم لا؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأمام المسجد أو رواءه، وكذلك الساحات التي تحيط بالمسجد إذا كان السؤال عن الساحات التي تحيط بالمسجد فهي على صورتين: الصورة الأولى: أن تكون مغلقة مسور، مثل ساحات المسجد النبوي فإن عليها سورا، وهي خارجة عن البناء، فاختار طائفة من أهل العلم وهو أحد الوجهين عند الحنابلة رحمهم الله: أنها من المسجد، وتأخذ حكم المسجد؛ ولذلك فلا يجوز فيها البيع، ولا يبطل الاعتكاف بالخروج إليها -وينبغي للمعتكف أن يحتاط فلا يخرج- لكن لو خرج فإن هذا لا ينقض اعتكافه، أما إذا كانت الساحة التي تحيط بالمسجد لا سور عليها ولا تحفظ ولا تصان، فجمهور العلماء على أنها لا تأخذ حكم المسجد، وأنه يجوز فيها البيع، بشرط أن لا يشوش على المصلين، ويجوز فيها الجلوس، وتأخذ حكم الأرض، ما لم يحدث منها ضرر، مثل أن يقف فيها الباعة ويرفعون أصواتهم بالنداء على وجه يشوش على المصلين في صلاتهم، والله تعالى أعلم.
حكم عقد الصفقات التجارية في المسجد وذكر حقوق المساجد
السؤال مما ابتلي به البعض الكلام في الدنيا في المساجد، حتى إن بعضهم يعقد صفقات البيع والشراء في بيوت الله تعالى، فما هو توجيهكم لنا ولهم؟
الجواب على المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وأن يحفظ وصية الله في كتاب الله، فإن الله عز وجل وصى عباده المؤمنين أن يرفعوا بيوته فقال: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} [النور:36 - 37] ، فمن يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه أن يحفظ حرمة المسجد، ولذلك لما رأى عمر رضي الله عنه من جلس في المسجد وتحدث في أمور الدنيا قال رضي الله عنه: (يا هذا! إن هذا سوق الآخرة، فإذا أردت سوق الدنيا فاخرج إلى البقيع) ، وقد كان بجوار البقيع مكان يتبايعون فيه، أي: اخرج إلى ذلك المحل إذا أردت أن تتكلم في الدنيا، أما هنا فإنها سوق الآخرة.
فعلى المسلم أن يتقي الله عز وجل في بيوت الله، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم البيع في المسجد، وأن للمسجد حرمة، ولا يجوز أن تنتهك هذه الحرمة بالبيع والشراء داخل المسجد، أو إضاعة الأوقات في أحاديث الدنيا، ويجوز أن يتحدث الإنسان بحديث الدنيا داخل المسجد في حدود، ولكن لا يتوسع؛ ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (أنه كان يصلي الفجر فيجلس فيحيط به الصحابة، فيتحدثون بما كانوا يفعلونه في الجاهلية، فيضحكون ويتبسم) ، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذا بقدر وفي حدود، ما لم يصل إلى درجة تنتهك فيها حرمة المسجد، أو يكون الذين يجلسون في هذه الحلق يؤثرون على حلق هي آكد وأولى، مثل حلق العلم ونحو ذلك، فنوصي هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يخافوا الله سبحانه وتعالى برعاية هذه الحرمة لبيوت الله عز وجل، وأن يحرصوا على استنفاد الوقت في ذكر الله عز وجل.
ويتصور الإنسان وهو داخل المسجد، خاصة إذا كان مسجدا مفضلا كمسجد الكعبة أو مسجد المدينة، حينما يدخل يتصور أنه إما أن يخرج فائزا بتجارته، أو يخرج -والعياذ بالله- خاسرا، يتصور أنه دخل منافسا لغيره راجيا رحمة ربه، وكأن لسان حاله يقول: اللهم لا تجعلني أشقى هؤلاء، وكلما دخلت مسجدا ينكسر قلبك لله عز وجل، وقل: يا رب! لا تجعلني محروما، يا رب! لا تمنعني خير ما عندك بشر ما عندي، كأن لسان حالك يخاف أن تسقط مكانتك عند الله سبحانه وتعالى، فإن المحروم من حرم، وليس بين الله وبين عباده حسب ولا نسب ولا واسطة؛ بل إنه سبحانه وتعالى السميع المجيب الحسيب الرقيب الذي أعطى كل ذي حق حقه فضلا منه سبحانه وكرما، فإذا جئت تنظر كأنك في امتحان، فتحرص على أن تري الله منك خيرا، فتتمنى أن تكون أسبق الناس إلى الصف الأول، وأسبق الناس إلى عمارة هذا الجزء من الأرض المستحق للعبادة، أن تعمره بذكر الله عز وجل.
وقد كان المعتكفون من طلاب العلم والمبرزين هم الذين يجلسون في الصفوف الأول، أما الذي إذا جلس في الصفوف الأول مد رجليه، فيضحك مع هذا ويمزح مع هذا؛ صار قدوة سيئة، وشان المكان الذي يجلس فيه، ولكن إذا جلس خاشعا متخشعا متذللا لربه، متضرعا؛ كسر القلوب، إذ من الناس من يدعو بسمته ودله قبل أن يتكلم، وهو رحمة لمن نظر إليه يتذكر إذا رآه الآخرة، ويتذكر حرمات الدين، ويتذكر حرمة المكان الذي يصلي فيه.
ولقد كنا في صغر السن في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نرى بعض المعتكفين، ووالله! إلى الآن لا زلت أرى بعض العباد الصالحين الأخيار الذين كانوا يعتكفون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، كنت أراهم في محافظتهم وأدبهم وخشوعهم وسمتهم ودلهم ولا تزال صورهم منقوشة في قلبي إلى الآن، وكلما أردت أن أعتكف التمست تلك النماذج العجيبة الكريمة، فالرجل منهم يخرج حريصا على الصمت، حريصا على ذكر الله عز وجل، لسانه يلهج بذكر الله، وأقسم بالله أن الرجل يخرج كأنك ترى الشمس في وجهه من نور العبادة، هذه هي النماذج الكريمة.
والرجل إذا جلس في المسجد وراعى حرمة المسجد يكون قدوة لأولاده، ويكون قدوة لأبناء المسلمين، فإذا رأى أبناء المسلمين كبارهم يحرصون على الأدب في بيوت الله؛ حفظوا حرمة المساجد، وحفظوا هيبتها، وحفظوا مكانتها، والعكس بالعكس.
وكذلك أيضا ينبغي للإنسان أن يستشعر -إذا دخل المسجد- أنه أسعد الناس عند الله عز وجل حظا وقدرا إذا خشع قلبه، وأناب إلى الله بالذكر والشكر، ولربما دخل إلى المسجد سابقا لغيره، ففتح الله عليه باب رحمة لا يعذب بعدها أبدا، فربما تسبق إلى فريضة من فرائض الله في بيت من بيوت الله عز وجل فيغفر الله لك ذنوبا لم يخيل إليك أنها تغفر، وما يدريك ففضل الله عظيم؛ فرب عبد تقطر دمعة من عينه فتغفر بها ذنوب عمره، وامرأة بغي -زانية- تسقي كلبا شربة ماء فتغفر ذنوب العمر، فالرب كريم، فهذه سوق الآخرة، سوق الذكر والشكر.
وأيضا: مما يعين على ذلك استشعار حرمة المسجد، فإذا كان يستشعر حرمة المسجد في الدخول والخروج، ويقول: ماذا أخذت من هذا المسجد؟ فإذا جاء يخرج ووجد أن وقته كله ضاع في القيل والقال والترهات والكلمات الضائعات التي لا يجني منها خيرا، فضلا عن الغيبة والنميمة -والعياذ بالله- إذا كان قد وقع فيها؛ فإنه يبكي على نفسه ويندب حظه عند ربه، فعلى الإنسان أن يستشعر هذه الأمور المهمة والأصول التي لا يمكن أن يصلح حاله إلا بمراعاتها، فإن المساجد أمرها عظيم، وحرمتها عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من سمعتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا) ، تعظيما لحرمة المسجد، وعلينا دائما أن نحرص على الأسباب التي تعين على كسب الوقت في المسجد: وأولها: أن الإنسان إذا دخل لهج لسانه بذكر الله عز وجل، ولذلك شرع له أن يسمي الله، وأن يصلي على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأن يدعو ربه عند دخول المسجد أن يفتح له أبواب رحمته، فما معنى هذا؟ معناه: أنه يتخوض في رحمات الله عز وجل، ولذلك قل أن تدخل مسجدا وأنت بحضور قلب وخشوع إلا خرجت برحمة أو رحمات -وجرب هذا- ففي المساجد حلق الذكر، ولذلك كم من مجلس ذكر قمت منه وقد غيرت حالك، وأصلحت ما بينك وبين الله فأصلح الله مآلك، وكم من مجلس ذكر جلسته في المسجد، وكم من خطبة حضرتها يوم الجمعة فغيرت حياتك، وكم من كلمات طيبات من إمام ناصح بعد فريضة من فرائض الله دخلت إلى القلوب فأصلحت ما بينها وبين الله وما بينها وبين عباد الله، فهنا تنزل الرحمات، وهنا تغفر الذنوب والسيئات، وهنا ترفع الدرجات، وهنا كان يسر الصالحون، هنا كان الشخص المؤمن تضيق به الدنيا فإذا دخل أبواب المسجد تولت عنه الهموم والغموم كلها، كان المسلمون يوم كانوا إذا دخلوا بيوت الله نسوا الدنيا وما فيها: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه} [النور:36] ، وصف الله أهلها: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة} [النور:37] ، كان الرجل إذا دخل المسجد نسي همومه، حتى لربما كان مكروبا في أهله وماله وولده فينسى كربه كله إذا وطئت قدمه بيت الله عز وجل، من البركات والخيرات التي جعلها الله في هذه المنازل منازل الرحمات.
تقول وأنت تدخل باب المسجد: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وأنت داخل باب المسجد، ومعنى ذلك: أن هذا المسجد محل الرحمة، وليست رحمة واحدة، وذلك أنك عندما تقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، فأبواب الرحمة كثيرة: باب العلم، باب العمل.
ولربما تدخل المسجد فترى رجلا يخشع في قراءته للقرآن فتتعلم الخشوع في صلاتك، ولربما ترى رجلا ساجدا يطيل السجود فتغار على نفسك وتندب حظك وتتمنى أنك مثله، فتخرج برحمة، وهي طاعة من الطاعات، أو خير أو بر أو عمل صالح، فهذه كلها من الفضائل التي جعلها الله في بيوته، ولكن على المسلم أن يبحث عن الأسباب التي تهيؤه لهذه الفضائل، والنظر للقدوة الكاملة.
والنقطة الأخيرة: أن مما ضر الناس اليوم وحرمهم من كثير من خيرات المساجد: الغرور، فإن الإنسان ربما دخل المسجد وكأنه يظن أنه أفضل من في المسجد، وما من رجل يدخل مسجدا أو منزلا ويرى نفسه أعلى القوم إلا وقد وضعه الله أدناهم، والعكس: وما من إنسان يدخل إلى مكان ويرى أنه أحقر القوم وأنقص القوم إلا رفع الله قدره، وكمل نقصه وجبر كسره، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلسا أرى نفسي أعلى القوم إلا خرجت وأنا أدناهم، ولا جلست مجلسا أرى نفسي أدنى القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم.
فإذا دخلت المسجد فادخل وأنت تستشعر أنك أفقر الناس إلى رحمة الله، وأولى الناس بالانكسار، وأحق من ينكسر بين يدي الله، ولو كنت طالب علم، ولو كنت عالما، ولو كنت من أصلح الناس، وقد كان العلماء والفضلاء على علو قدرهم ومكانتهم يتواضعون في بيوت الله عز وجل.
كان الوالد رحمه الله يقال له: نجعل لك كرسيا في المسجد؟ فيقول: هل أنا وحدي في المسجد؟! -رحمه الله برحمته الواسعة- ومن أنا حتى أعطى كرسيا أفضل به على الناس في بيت الله عز وجل؟! وهذا من شدة ورعه رحمه الله، ومن شدة خوفه من أن يتعالى على الناس في المسجد، وقد كان العلماء والفضلاء والصالحون على هذا من السمت والدل في المحافظة على حرمات المسجد.
والوصية الأخيرة: نوصي كل من يحضر بيوت الله عز وجل أن ينزهها عما لا يليق، وأن يحرص على الكمالات؛ فإذا صلى بجوار أحد فيعلمه أو يتعلم منه، أو يذكره بالله عز وجل، ولو تسلم على أخيك وتقول له: يا أخي! أوصيك ونفسي بتقوى الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، أو تراه قد أخل بسنة أو طاعة فتذكره بها، وعندها تخرج برحمات وباقيات صالحات، وأجور ومكرمات.
جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل، وأحسن لنا ولكم العاقبة في الحياة والممات، إنه و







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #727  
قديم 24-10-2025, 05:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (524)

صـــــ(1) إلى صــ(14)


شرح زاد المستقنع - باب التعزير [2]
التعزير عقوبة رادعة شرعت تأديبا، ولها أحكام عدة، وقد جاء بيان حدها في السنة النبوية، بيد أن العلماء استنبطوا: أن لا حد لأقلها، واختلفوا في أكثرها، فمنهم من أخذ بظاهر الحديث، ومنهم من قال: يعزر حتى بالقتل، وأنه راجع إلى القاضي؛ واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم عزر بالقتل وبما دونه.
ومن الذنوب التي تستحق التعزير تلك العادة السيئة المسماة (الاستمناء) وهي مما ينبغي التحذير منه لعموم البلوى بها.
التعزير بالجلد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: يقول المصنف رحمه الله: [ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات] : ذكر رحمه الله هذه الجملة، والتي هي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمن النهي عن الزيادة على عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله عز وجل، وهو حديث أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله في التعزير، بعد أن اتفقوا على أنه لا حد لأقله، فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه ليس في التعزير حد أقلي لا يجوز للإمام أن ينقص عنه إذا عزر، خلافا لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله الذين قالوا: أقل الجلد ثلاثة أسواط، فلا يعزر بأقل من ثلاثة أسواط، والصحيح: أنه لم يثبت دليل في الكتاب والسنة يدل على أن التعزير له حد لا يجوز النقصان منه.
ومن هنا فالأمر راجع إلى القاضي أو الحاكم أو السلطان، فإذا رأى أن يعزر بالقليل عزر، وإذا رأى أن يعزر بالكثير عزر؛ لأن المقصود زجر الناس، وحملهم على تعظيم حدود الله عز وجل وحرماته، وكذلك كف بعضهم عن بعض، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
وظاهر الحديث يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وقد اختلف في هذا الحديث من ناحية السند، ففيه أخذ وعطاء بين العلماء رحمهم الله، وقد استقر العمل على ثبوته عند الأئمة، وأجابوا عن بعض ما ورد عليه، ونظرا لوجود بعض الكلام في السند كان معارضا بالأصل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تأويل هذا الحديث: فمنهم من يقول: لا يجوز أن يعزر أحد بضربه فوق عشرة أسواط، فيضرب العشرة ويضرب التسعة وما دون ذلك، أما ما زاد على العشرة فلا يجوز، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه من أهل الحديث، وأشار المصنف رحمه الله إلى هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أن المراد بالحديث ألا يبلغ الحد في عقوبة وتعزير من وقع فيما دون الحد، فكل حد من حدود الله نظر في تعزير الجرائم التي هي من جنسه إلى قدره، فمثلا: لو أنه تعاطى أمرا دون الحد، كأن يستمتع بامرأة بما لا يحصل به الزنا، قالوا: إنه يعزر ولا يبلغ في التعزير حد الزنا، وهو مائة جلدة إذا كان غير محصن، واستدلوا بآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الأثر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وعن أبيه: أنه جلد الرجل الذي أذنت له زوجته أن يطأ جاريتها مائة جلدة.
وقد كان الأصل يقتضي أنه لو كان زانيا أن يرجم.
وقالوا أيضا: إنه إذا تعاطى أمرا من الشراب وفيه إخلال، ولا يبلغ حد المسكر؛ فإنه يعزر إذا كان من العبيد بتسع عشرة جلدة فما دون، وإذا كان من الأحرار وقلنا: إن الحد هو أربعون، فإنه يعزر بتسع وثلاثين فما دون، فينظرون في كل جريمة إلى جنسها، فإن كانت من الزنا لم يوصل في ضربه إلى مائة جلدة إذا كان من الأحرار، ولا يوصل إلى خمسين إذا كان من العبيد، وهذا القول للجمهور رحمهم الله، وهناك تفصيل داخل المذاهب؛ لكن الأصل على هذا.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله) فقد أجابوا عن هذا الحديث، واختلفت أجوبتهم: فمنهم من يقول: إن هذا الحديث منسوخ، وأشكل على هذا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث المراد به التأديب في غير الحدود، ومرادهم بذلك تأديب الرجل لزوجته، وتأديب الرجل لولده، فلا يضرب فوق عشرة أسواط، وقالوا: قوله: (إلا في حد من حدود الله) المراد به: المعاصي التي تكون عند السلطان وعند القضاة، فخرجوا الحديث على هذا، وهو من أقوى الأوجه عندهم، فأخرجوا الحديث عن كونه متعلقا بالقضاة وبالإمام إذا عزر، وأن المراد به التأديب الذي هو دون التعزير، ويكون قوله: (إلا في حد من حدود الله) كل معصية فهي حد من حدود الله، ولذلك نهى الله عز وجل عن معصيته وقال: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [البقرة:229] وبين أن الطلاق في الطهر حد من حدود الله عز وجل، وأن الطلاق في الحيض اعتداء على حد من حدود الله عز وجل، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن المعاصي التي تكون عند السلطان من حدود الله عز وجل، سواء كانت متعلقة بالمصلحة العامة، أو كانت متعلقة بمصالح خاصة، كمن يسب الناس، أو يشتم الناس، أو يؤذيهم في مصالحهم ومرافقهم العامة، فيعطلها؛ فإنه قد وقع في حد من حدود الله، وحينئذ فيشرع للسلطان أن يعزره بما يراه رادعا له ولغيره أن يفعل كفعله.
وهذا من أقوى الوجوه والأجوبة؛ أن المراد بالحد مطلق المعصية، وأن المراد به التأديب فيما دون العقوبات التي عند القضاة؛ لأنها -أي: المعاصي- عند القضاة من حدود الله عز وجل.

التعزير بغير الجلد
وأيا ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمر مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيرا في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائنا من كان) ، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجا للفساد وقطعا لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضا عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظرا إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيرا؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيرا؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحق عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصا وازدراء بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيما لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.
التعزير بغير الجلد
وأيا ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟ ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمر مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيرا في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائنا من كان) ، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجا للفساد وقطعا لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضا عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظرا إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيرا؟ إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيرا؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحق عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصا وازدراء بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيما لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.
الاستمناء معصية توجب التعزير
قال رحمه الله: [ومن استمنى بيده من غير حاجة عزر] : الاستمناء: استدعاء المني بالدلك باليد، أو بالغشي على الأرض، ونحو ذلك من الوسائل التي يستخرج بها المني، وهي -أي: الاستمناء- عادة مذمومة، وقد نص الأئمة رحمهم الله على تحريمها في الأصل، واستدل الإمام مالك رحمه الله وبعض أئمة السلف على تحريمها بقوله سبحانه وتعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون:5 - 7] ، فوصفهم بأنهم عادون، ولا شك أن الاستمناء وراء ذلك، فليس استدعاء للمني بالشهوة بطريقها المعتاد عن طريق الزوجة أو ملك اليمين، ومن هنا تدخل في الاعتداء، فكانت حراما.
أضرار الاستمناء الصحية
وقد ذكر الأطباء أن لها ضررا على نفس الإنسان، وعلى مسالكه البولية -أكرمكم الله- وعلى نسله، وعلى جسده وعصبه، وأن المداومة عليها تضر بصحته، فلو لم تحرم من الشرع لحرمت بقول أهل الخبرة بوجود الضرر فيها، ولذلك قالوا: إنها محرمة.
خلاف العلماء في جواز الاستمناء عند الحاجة
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل تجوز عند الحاجة أو لا تجوز؟ وجهان للعلماء: فالجمهور على أنها لا تجوز حتى عند الحاجة، وقالوا: إنه لو خاف الزنا واستمنى فهو آثم، لكنه مرتكب لأخف الضررين، وهو لا يخلو من الإثم، واستدلوا بعموم الآية الكريمة، ومن الأدلة القوية على مذهبهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ، ولم يذكر الاستمناء، وقد كان بالإمكان أن يذكره، خاصة وأنه يطفئ الشهوة ويسكن الغريزة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، ومن هنا قال العلماء: إن الأصل تحريمه، ولا وجه لاستثنائه عند الحاجة.
واستثنى المصنف رحمه الله وجود الحاجة، ووجود الحاجة: أن يخاف على نفسه الزنا، أو يخاف الضرر فنصحه الأطباء أن يستمني، كما لو انتفخ شيء من أعضائه التناسلية جراء احتباس المني، وخشي الضرر على مسالك المني والأنثيين، فإن بعض الأطباء قد يضطر إلى نصيحة المريض أن يستمني، وقد حكوا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فعلوا ذلك، فيحتمل أن يكون اجتهادا منهم، ولكن الأمر يحتاج إلى إثبات صحة ذلك عنهم رضي الله عنه وأرضاهم.
وأيا ما كان فإن الأصل يقتضي تحريم الاستمناء، وأنه لا يجوز، ولكن لو خاف على نفسه الزنا ثم استمنى، فهو مرتكب لأخف الضررين، ويبقى الحكم على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص، ومن صبر صبره الله.
الاستمناء بواسطة الاستمتاع بالزوجة
وهذه العادة تحرم إذا فعلها الإنسان نفسه؛ إذ هو مستمتع بنفسه، والآية تحرم أن يستمتع الإنسان بغير زوجه وملك يمينه، أما لو استمنى بزوجته، أو بالدلك من زوجته فإنه جائز ومشروع؛ لأن الله أحل الاستمتاع بالمرأة، وجعلها للرجل لباسا يمنعه من الحرام، ولذلك يشرع أن يستمتع بها، وإذا استمنى بها فإنه يجوز، كما نص على ذلك بعض أهل العلم رحمهم الله.
طرق الوقاية من هذه العادة السيئة
والاستمناء لا شك أنه مما يدعو الشيطان إليه، وقد نصح بعض العلماء رحمهم الله في اتقاء هذه العادة بأمور مهمة، منها: أولا -وهو أعظمها وأجلها-: الدعاء: فيدعو الإنسان ربه أن يحصن فرجه، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه.
ثانيا: الغفلة عن الشهوة: هذا من أقوى أسباب انطفاء الشهوة والبعد عن المحرمات، فإن الإنسان إذا ألهى نفسه بما أحل الله انكفت عما حرم الله، ولذلك وصف الله عز وجل أهل العفة بالغفلة، فالتفكر في أمور الزواج وأمور النساء، وأمور المردان، وأمور الفساد، وسماع مثل هذه الأشياء، أو تتبع هذه الأشياء، أو الاسترسال في هذه الأشياء، يفتح على الإنسان باب شر هو في عافية منه، ومن استغفل نفسه فحاول أن يلهيها بما أحل الله عز وجل، وأوجد في نفسه شعورا بالقوة أن الله سيعينه؛ سرعان ما يضعف سلطان الشيطان عنه، ولذلك يحاول قدر استطاعته أن لا يفكر في الأمور التي تثير الشهوة إن كان عزبا.
ثالثا: الاشتغال بطاعة الله: فإذا كان عزبا اشتغل بطاعة الله، فإنها تقوي النفوس على ترك الحدود والمحارم، وتضعف سلطان الشيطان على الإنسان، فمثلا: لو اشتغل بطلب العلم وبمسائل العلم والتهى بذلك، فكلما حدثته نفسه عن فتنة ألهى نفسه بذلك الخير، وأحس أنه في جنة من رحمة الله عز وجل، وأنه يتخوض في رحمات الله، واستحيا من الله واستعف؛ أعفه الله سبحانه وتعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ولذلك لن تجد أحدا يقع في المحرمات إلا إذا شغل نفسه بها، أو فتح على نفسه بابا من أبوابها.
رابعا: أن يجتنب الإثارة: ومن الأبواب التي تفتح أبواب الشهوة على الإنسان جلوسه مع المردان، وصحبته لأهل التهتك والفجور والعياذ بالله، أو نظره في الصور المحرمة والخليعة، أو مشيه في الأماكن التي يرتادها من لا عفة له، كل هذا يحرك كوامن النفس، ويفتح على الإنسان باب الفتنة، فقد يكون في عافية ولا شك أنه في عافية منه.
فمن هنا إذا أخذ بهذا السبب القوي، وهو الالتهاء والاشتغال بطاعة الله وبما ينفع عن معصية الله؛ كان أبعد وأبعد عن الوقوع فيها.
خامسا: البعد عن الخلوة: قال بعض الحكماء: إن هذه العادة لا تكون إلا عند الخلوة، فمن ابتلي بها فإنه يحرص على أن لا يأتي لخلوته إلا وهو منهك متعب، حتى إذا جاء وألهى نفسه وأضعفها عن فعل هذه العادة المذمومة والوقوع فيها هان عليه أمرها، فيكون أبعد عنها.
نصيحة وتوجيه لمن ابتلي بالاستمناء
وينبغي لمن ابتلي بها أنه إذا وقع في الاستمناء فعليه أن يشعر بالندم والألم، وأن يندم على ما بدر منه، وأن يعقد العزم على عدم العود، بمعنى: أن يحرك في نفسه أسباب التوبة؛ لأنه إذا تاب تاب الله عليه، ولو عاد لها ألف مرة، ما دام أنه يندم ندما صادقا بعد فعلها، ويستشعر من نفسه أنه ما كان له أن يفعلها؛ هيأ الله نفسه للخير، وطهره من أثر الذنب، ولربما عاد عليه الذنب بحسنات بدل السيئات؛ لأن الله يبدل سيئات من تاب حسنات، فيغيض الشيطان بهذا، ويقتل عدو الله بهذا، فيصبح فعله للمعصية جبرا له، وله أن يسترجع بعد الوقوع فيها فيقول المأثور، فيسأل الله أن يأجره في مصيبته وأن يخلف عليه؛ لأنه ليست هناك مصيبة أعظم من مصيبة الدين.
فمن هنا يأخذ بالأسباب التي تبعده عن مشاهدة الأمور التي تثير الغريزة، ولذلك على المسلم أن يجرب غض البصر إذا مرت به فتنة، وإذا غض بصره غضه بقوة ويقين بالله عز وجل؛ لأن هناك من الناس من يغض بصره وقد بقيت أثر الشهوة في عينه وقلبه -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يغض شكلا لكنه يغض قالبا لا قلبا وجوهرا، والمنبغي أنه إذا رأى الفتن وكان هجوم الفتن عليه فإنه يستغفر، أما من تقصد رؤية الفتن، وذهب إلى أماكنها، وارتادها وطلبها، فلا يلومن إلا نفسه، ولذلك من عوفي فليحمد الله، ومن وقع في مثل هذه الفتن التي تدمر الأخلاق، خاصة بمشاهدة الصور الخليعة، والأفلام الماجنة الساقطة، وغير ذلك من الصور التي تدمر الفضائل، وتحيي في النفوس الرذائل؛ فعليه أن يستغفر الله عز وجل استغفار الصادقين.
وعليه أيضا أن لا ييأس، فإن الشيطان قعد للإنسان بكل مرصد، فبعض الناس ينهزم أمام هذه الشهوة، وأمام كل شهوة، فمن ابتلي بشهوة من الشهوات فإن الشيطان يحرص على أن يقتل في نفسه البعد عنها، ولذلك يوجد في نفسه شعورا أنه قد استحكمت فيه العادة السرية أو الاستمناء، وأنه لا يستطيع تركها، وهذا الشعور النفسي من أخطر ما يكون على الإنسان؛ لأنه يضعف فيه العزيمة عن الرشد، ويضعفه عن التوبة الصادقة، ويحطم فيه معاني الخير.
ومن خبث الشيطان أنه يوقع الإنسان في الجريمة المرة والمرتين والثلاث والأربع، فإذا تحكم عدو الله منه ربما غلبه بهذا الشعور بطريقة ملتوية عجيبة، كما يلاحظ من أسئلة الناس وفتاويهم.
فمنهم من يأتيه الشيطان ويتركه فيتوب ويندم، فيعيش الأسبوع والأسبوعين لا يفعل هذه المعصية، فيجد حلاوة الإيمان، فإذا وجد حلاوة الإيمان أوجد عنده شعورا أنه لن يعود إلى العادة السرية أو غيرها من الذنوب، فإذا ظن أنه لن يعود جاءه عدو الله وقال له: احلف العهود والمواثيق، فيحلف المسكين العهود والمواثيق على نفسه؛ لأن الخبيث يعلم أنه قد استحكم منه بالتكرار، وأن النفس متعلقة بهذه الشهوة، فيأخذ منه العهود والمواثيق، ثم يرجع به مرة ثانية إلى محارم الله، فإذا رجع به مرة ثانية إلى محارم الله استولى عدو الله على قلبه فقال له: أنت ناقض للعهد، ناكث للعهد، أنت كذا وكذا، حتى يدمر نفسيته، ويقطع ما بينه وبين الله.
فمن الناس من أيقظ الله قلبه وأحيا روحه، فقام إلى عدو الله فكبته بذكر الله وقال له: اخسأ عدو الله، فوالله لو أني عدت إليها ملايين المرات فلا أزال أؤمل أن ربي غفور رحيم، فإذا وقع رجع إلى ربه وأغاظ الشيطان، وقال: والله لو عدت المرات والكرات، ما دام أني أندم ندما صادقا بعد فعلها؛ فإني أرجو رحمة ربي، ولن يستطيع أحد كائنا من كان أن يدخل بين العبد وربه، فإن الله ألطف بعباده وأرحم بخلقه، فإذا وجد الإنسان أنه قد استحكمت العادة بطول الاستمراء وبطول العهد سواء في العادة السرية، أو في المحرمات من النظر إلى النساء أو المردان أو غير ذلك من الشهوات والمحرمات -إذا وجد أنها قد استحكمت من قلبه، فليعلم أن المعاصي بالتكرار يكون سلطانها أقوى، كما أن الطاعات بالتكرار تكون هينة أمام الإنسان سهلة عليه، فمن اعتاد قيام الليل وكرره المرة بعد المرة، أصبح عنده ألذ من النوم والكرى ساعة التعب، وألذ من الطعام والشراب في شدة الظمأ وشدة الجوع، وهذا من رحمة الله عز وجل، فإذا علم أن المعصية بتكرارها يتسلط الشيطان على شعبة من شعب القلب في نفسية الإنسان، فالعلاج في هذا أن يفرق بين كونه مدمنا على هذا الشيء وبين كونه يقع المرة والمرتين.
فالعلاج لا يكون ولن يكون إلا بتوفيق الله، فأولا -وقبل كل شيء- يوجد في نفسه الشعور أن قدرة الله فوق كل شيء، وأنه لو عاد إلى الزنا، أو عاد إلى المحرمات، أو عاد إلى العادة السرية ملايين المرات؛ فإن يشأ الله في طرفة عين أن يقلبه كأن لم يفعل شيئا فعل سبحانه، فإذا أحس بعظمة الله لم يستكثر على الله أن ينجيه، وهنا تكون الثقة بالله؛ لأنه ما أحسن عبد ظنه بربه إلا كان الله عند حسن ظنه، قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي) ، ولذلك يحرص الشيطان في المعاصي دائما على قتل هذه الروح، ومن هنا فرقوا بين العلماء والجهلاء في مسألة المعاصي، وليس المراد بالعلماء العلماء الراسخون في العلم، وإنما العالم هنا هو الذي يعلم من هو ربه بأسمائه وصفاته، فمن عرف الله في رحمته وحلمه وبره وإحسانه إلى خلقه؛ قتل عدو الله إبليس وأهانه وأذله، حتى إنه يعود إلى ربه ولو بعد السنوات الطويلة من المعاصي؛ لأنه ما خاب ظنه أن الله سيخلف عليه بخير يرده عليه.
ومن هنا نقول: إن هذه العادة لما كثر سؤال الناس عنها واشتد البلاء بها، خاصة في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن والمحن، وغيرها من المعاصي، حينما اشتد بلاء المعاصي والفتن والشهوات في هذا الزمان الذي عظمت غربته، والذي لا يشتكى فيه إلا إلى الله وحده لا شريك له، فهو وحده الذي يرحم الغرباء، ويلطف بعباده الضعفاء أمام الفتن، وهذا البلاء الذي لا يكشفه أحد سواه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فيغاض عدو الله بهذا.
وعلى المسلم أن يعلم أن إدمان المعاصي وتكرارها يفتح عليه بابا، ومن هنا من وقع في الشهوة مرة ليس كمن وقع فيها مرتين، ومن وقع فيها مستخفا مستهترا ليس كمن يقع فيها معظما، وإذا ثبت هذا فعليه أن يعلم أن العودة والتوبة تحتاج إلى قوة، وليس هناك أقوى من العزيمة، فمن صدقت عزيمته في الله سبحانه وتعالى قوي لطف الله عز وجل به، ولذلك قص الله قصص الأنبياء فجعل تفريج الكرب عنهم، وحسن اللطف بهم من قوة الثقة بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال يعقوب: {إني أعلم من الله ما لا تعلمون} [يوسف:96] ، فلما علم من الله ما لا يعلمون رد الله عليه بصره، ورد عليه ابنه في أحسن الأحوال وأتمها وأكملها.
فمن سلب شيئا من دينه ووقع في الفتنة فاشتكى إلى الله جل جلاله، ويا ليت العبد تصور أو شعر حينما يبتلى بالفتنة أنه لن ينجيه إلا الله، وأنه لا يمكن أن يطهر منها إلا بتوفيق الله، فوثق بهذا الأساس، فالتفت يمينا وشمالا وعلم أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله، ففر إلى الله، وبحث عن أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لكي يشتكي إلى الله ولا يشتكي إلى أحد سواه، فنظر فوجد أن ربه ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر، ويسأل: هل من داع فأستجيب دعوته؟ فاختار أحب الأوقات وأفضلها وأقربها وأرجاها إجابة، فتجرد لله مخلصا من قلبه، ونادى الله في ظلمة الليل لا يسمعه إلا ربه، واشتكى إلى الله.
ويا ليت أن العبد يعلم ما معنى الشكوى، فإنه ما من عبد ولا أمة يقف بباب الله عز وجل ويقول: يا رب! إني أشكو إليك، إلا كانت شكواه عند الله جل جلاله.
فقد سمع الله الشكوى من فوق سبع سماوات من خولة بنت ثعلبة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها أوس بن الصمات، تقول عائشة: (والله! إني وراء الستر يخفى علي بعض كلامها وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له ما في بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي؛ ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك) ، فسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، وأعلم خلقه -كل من تلا الآيات البينات- أنه يسمع الشكوى، وأنه يجيب من اشتكى إليه، فإذا اشتكى العبد إلى ربه في ظلمة الليل، وقال: يا رب! إني أشكو إليك نفسا أمارة بالسوء، وضعفا أمام معاصيك، اللهم أمدني بحول منك وقوة، اللهم أصلح لي ما ظهر وما بطن من أمري، فإن الله لن يخيب عبدا سأله جل جلاله.
فإذا اختار الإنسان مثل هذه المواقف الصادقة لربما ابتلاه الله عز وجل، فمنهم من يعطيه الله الإجابة أسرع من لمح البصر حتى يقوم من مقامه كأن لم تكن به فتنة، ومنهم من يؤخر الله عنه الإجابة، فإذا تأخرت عنه الإجابة اتهم نفسه أنه مقصر اتهام عبد لا يسيء الظن بالله، فإذا اتهم نفسه أنه مقصر لم يستشعر أن أبوابا غلقت دونه، ولكنه يستشعر أن الله يريد منه صدق اللجأ، وأن الله يحب منه أن يناجيه المرة بعد المرة، فكما أن البلايا تكون في الأجساد بالأمراض والأسقام والعلل فكذلك بلايا الدين، فمن قرع باب الله مرة بعد مرة، فإن الله يلطف به.
وهنا وقفة عجيبة: من الناس من يقع في ذنب الزنا، ومنهم من يقع في ذنب النظر، ومنهم من يقع في فتنة الخمر، ومنهم من يقع في غير ذلك؛ فإذا اشتكى إلى الله صادقا من قلبه لربما قفل الله عليه بابا في هذه الفتنة هو باب عقوبة، لو لم يشتك إلى الله لوقع في أشد مما هو فيه.
إذا: كل من أحس أن دعوته لم تستجب مباشرة فعليه أن يحسن الظن أن هناك مثوبة، وأن الله عز وجل سيعطيه، وقد يصرف عنه من السوء مثلما سأل، وقد يدخر له يوم القيامة لدرجة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.
فإذا فرج عنه في المرة الأولى فالحمد لله، وقد لا يستجاب له من أول الأمر، كما حصل لأحد الأخيار، فقد اشتكى أنه كان على صلاح واستقامة فابتلي بفتنة؛ صعد ذات يوم فوق بيته فرأى زوجة جاره، وكانت متهتكة، ثم لم يزل به إبليس حتى أغواه -والعياذ بالله- فوقع في الحرام معها، ثم فتح عليه باب بلاء ما كان يخطر له على بال، فبلغ به الأمر إلى شدة عظيمة حتى كاد أن ييأس من رحمة الله والعياذ بالله، وكان حافظا للقرآن، ومن خيار الصالحين، فاشتكى إلى أحد طلبة الع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #728  
قديم 24-10-2025, 05:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي





الأسئلة




حكم تأديب الوالد ولده بالضرب أكثر من عشرة أسواط
السؤال في تأديب الوالد لولده هل تجوز الزيادة فيه على عشرة أسواط؟
الجواب باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأحد الأوجه عند العلماء: أنه لا يزاد على عشرة أسواط بالنسبة لتأديب الوالد لولده، وتأديب الزوج لزوجته، وهذا لا شك أنه أحوط وأبلغ في متابعة السنة، والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك الأشبه أنه لا يزاد في مثل هذه التعزيرات، والله تعالى أعلم.

حكم استمناء الزوج تجنبا للمشاكل مع زوجته

السؤال زوجتي تمتنع مني في أكثر الأوقات، فهل يجوز لي الاستمناء، ليس دفعا للوقوع في الزنا، وإنما تجنبا لوقوع المشاكل بيننا؟ أرجو نصحي؛ أثابكم الله.

الجواب أوصي هذه الزوجة أن تتقي الله في نفسها، وأوصي كل امرأة -تخاف الله عز وجل وتتقيه- أن تتقي الله في زوجها، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فتنه، وعظمت فيه المحن، خاصة على الأخيار والصالحين، فعلى المرأة التي تخاف الله عز وجل أن تحرص على كل الأسباب التي تطفئ الفتنة، وتقفل باب الشر على زوجها من حسن التبعل، وحسن التجمل، وحسن الزينة، بأن تكون على أكمل وأفضل ما تكون عليه الزوجة لزوجها، وأن تتقي الله عز وجل في ولي الله المؤمن، فلا تضيق عليه، خاصة في شهوته؛ خوفا من الوقوع في الحرام، ولذلك إذا امتنعت المرأة عن زوجها من غير عذر باتت الملائكة تلعنها -والعياذ بالله- في السماء حتى تصبح، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم بهذا إلى عظيم حق الزوج على زوجته، وعظيم الفتنة والبلاء الذي يترتب على التساهل في مثل هذه الأمور، فنوصي الزوجات أن يتقين الله في أزواجهن.
وكذلك على الزوج أن يحسن التجمل لزوجته، وأن يصيبها خوفا من تعرضها للحرام، ويحرص على السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فإذا حصل من الزوجين أن اتقى الله كل منهما في الآخر؛ فإن الله سبحانه وتعالى سيبارك هذه العيشة.
وأما مسألة: أن يستمني لخوف المشاكل؛ فالنار لا تطفأ بالنار، وما كانت معصية الله عز وجل طريقا إلى خير أبدا، وإنما هي طريق إلى كل شر، ومن هنا فقد يكون مقصوده أن يغيض زوجته بالاستمناء أمامها حتى تتحرك وتعفه، وقد يكون مقصوده مطلقا أن يريها أنه لا يبالي، فكلاهما شر؛ لأنه إذا استمنى كان شرا، وإذا استمنى في الخفاء وأشعر زوجته أنه غير مبال، دخل الشيطان على الزوجة وقال لها: إنه لا يحبك، ولا يريدك.
فلا تعالج النار بالنار، وإنما تعالج بتقوى الله عز وجل؛ فاصبر يصبرك الله، وكن رجلا شجاعا، وحتى تكون زوجتك كما ينبغي أن تكون عليه الزوجة فانصحها وذكرها بالله، وخذ بالأسباب ومنها: أنها إذا استمرت على حالها فإن الله أباح لك التعدد، فتزوج عليها يستقم عودها، وإن لم يستقم فيعوضك الله خيرا منها، فأية زوجة تلك التي لا تعف زوجها حتى يصبح زوجها يستمني؟! هذه مصيبة، فإذا أصبحت بهذه المثابة، لا تبالي بمشاعر زوجها تجاهها، ولا ترغب أن تعف زوجها عن الحرام وتمنعه عنه؛ فما عليه إلا أن يحضر استمارة التعدد، ولينظر يوما أو يومين كيف سيكون الحال، فإن المرأة إذا كانت صادقة في محبة زوجها رجعت وأصلحت، فإن أبت وتمنعت فليتبع القول بالفعل، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} [الشعراء:227] ، وسينظر كيف تكون العواقب؛ لأن هذا درس لها ودرس لغيرها، أنها إذا تمردت على زوجها إلى هذا الحد، فإنه -والحمد لله- قد أحل الله له المرأة الثانية والثالثة والرابعة، هذا كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب علينا النساء؛ لأن هذا إذا ظلمت المرأة زوجها.
وعلى كل حال: فإن الاستمناء لا يجوز، وعليه أن يتقي الله ويصبر ويدعو لها.
ثم هناك أمر أخير أحب أن أنبه عليه: وهو أنه قد يكون ظالما لزوجته، بمعنى: أن الزوجة تقع في هذه الأمور بسبب أذية زوجها لها في أمور أخرى، فإذا قصر معها في حقوقها ربما أضرته في هذا الحق، ومن هنا نقول للزوج: اتق الله! واتهم نفسك بالتقصير، وحاول أن تنظر ما الذي يغضبها؟ وما الذي أخرجها عن رقتها، وعن حسن تبعلها؟ فقد يكون ظالما لها في النفقة، أو أنه يهينها، ويتكلم عليها بكلمات جارحة، وقد يتكلم عليها أمام إخوانه وأخواته ووالديه ويذلها، وهنا ننصح الأزواج أن يراقبوا الله عز وجل وأن يتقوه، فإن المرأة -غالبا- تحب زوجها، فإذا قال زوجها الكلمة الجارحة لها أمام والديه أو أمام أخواته فلربما جرح قلبها جرحا لا يمكن أن يرقأ، فعلى كل إنسان أن يتهم نفسه، وإذا قالت له: أرى فيك العيب الفلاني؛ فعليه أن يصلح هذا العيب.
انظر إلى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم حينما قالت له اثنتان من أمهات المؤمنين -تمالؤا عليه-: إنا لنجد فيك ريح مغافير، فحلف بالله أنه لا يطعم في بيت زينب بنت جحش رضي الله عنهن العسل؛ فأنزل الله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} [التحريم:1] الله أكبر! انظر إلى هذا الدرس الذي ينصف فيه النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه من نفسه، وكيف أن رسول الأمة والرحمة ما جاء يتعالى على الخلق وإنما يراعي كل شيء، فيحب أن يشم منه الرائحة الطيبة.
وهذا بخلاف ما عليه بعض الأزواج، فقد يأتي إلى البيت نتن الرائحة، ويعاشر زوجته وهو نتن الرائحة، متبذل الثياب، لا يعرف كيف يأتي إلى زوجته يتحببها ويحاول أن يطفئ غريزتها، فأورثها النفرة منه، والكراهية له، والاحتقار له، وكيف يضمن ألا تقع في الحرام وهي تمسي وتصبح تذهب إلى عمل أو وظيفة، ويواجهها الرجال، فهذه أمور تهتز لها القلوب، وإلى متى يكون قلب الإنسان ميتا، حتى ولو رأى منها إعراضا تجمل لها وتحسن لها، وأعطها حقها، واجبر خاطرها، فهذه أمور يراها الرجل في فترة ليست بشيء، ولكن المرأة تراها شيئا كبيرا.
وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يدني المكحلة فيكحل عينيه ويتجمل ويقول: إني أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب أن يتجملن لي.
وهذا من الإنصاف، فقد تكون المرأة تأبى على زوجها، وتمتنع عن زوجها لأسباب وجيهة؛ فليراجع نفسه.
ولا ينبغي أن نسمع من طرف ونترك طرفا آخر، وهنا أنبه على هذه القضية؛ لأن البعض يتساهل في قضية الإعفاف، وبالأخص بعض الأخيار تزهدا -وهذا زهد في غير موضعه- ووالله إن مرضاة الله عز وجل تشترى، وأبواب الله جل وعلا لا تعد ولا تحصى؛ تفضي به إلى جنته ودار كرامته، وواسع رحمته؛ لأنه يقول: {فاستبقوا الخيرات} [البقرة:148] ، فأبواب الجنة ثمانية، ولكن الخيرات لا تحصى، ولا يحصيها إلا الله وحده، ولو علم أنه إذا نوى لوجه الله أن يعف امرأته كم له من مثاقيل الحسنات حينما يعفها عن الحرام، ولو علمت المرأة أنها كما تتقرب إلى الله بركوعها وسجودها وصلاتها، أنها تتقرب إلى الله بعفة زوجها، فإنها تشتري رحمة الله في ذلك، قال صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟) فالحمد لله على سماحة هذا الدين وكماله.
ولذلك نقول: إن زوجا يلجأ إلى تعاطي هذا الأمر المحرم -وهو العادة السرية-؛ لا يكون إلا بتقصير من الزوجة، أو يكون هناك تقصير من الزوج دعا الزوجة إلى الوقوع في هذا التقصير، ومن هنا فعلى الجميع أن يتقي الله عز وجل، وأن يأخذ بالأسباب التي تعينه على كف النفوس عن محارم الله وحدود الله، والله تعالى أعلم.

إذا نسي المؤذن قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر

السؤال إذا نسي المؤذن في أذان الفجر قوله: الصلاة خير من النوم، فما الحكم؟

الجواب يرجع ويقول: (الصلاة خير من النوم) ، وهنا تفصيل: فإذا كان الفاصل يسيرا، فيرجع ويقول: الصلاة خير من النوم، ويعيد الجمل التي بعد قوله: (الصلاة خير من النوم) ، فإن الأذان لا يصح إلا مرتبا وبدون وجود فاصل أجنبي من قول أو فعل، فالفاصل الأجنبي من القول: كالسب والشتم، والفاصل الأجنبي من الفعل: كالأكل والشرب المتفاحش، فإذا لم يفصل بفاصل مؤثر وأخطأ في أذانه، رجع من مكان الخطأ وأصلح، ثم أعاد الجمل التي بعد ذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #729  
قديم 24-10-2025, 03:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(مقدمة كتاب الحدود)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (525)

صـــــ(1) إلى صــ(17)


شرح زاد المستقنع - باب القطع في السرقة [1]
لقد حرم الله عز وجل السرقة، وجعل الله لقطع يد السارق حكما عظيمة، والشفاعة في حدود الله إذا وصلت إلى القاضي لا تجوز.
وهناك أصناف ممن يأخذون أموال الناس لا تقطع أيديهم لعدم اكتمال شروط السرقة فيهم، وهؤلاء هم: المختلس، والمنتهب، وجاحد العارية، والغاصب، وخائن الوديعة.
مشروعية قطع يد السارق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: قال المصنف رحمه الله: [باب القطع في السرقة] .
القطع هو: الفصل بين الشيئين، وفصل الشيء عن الشيء، والمراد به هنا: قطع اليد من السارق.
وقوله رحمه الله: (في السرقة) أي: في حد السرقة.
والسرقة في لغة العرب مأخوذة من: سرق الشيء، إذا أخذه على وجه الخفية، وكل شيء يقع على وجه الخفية يسمى سرقة، ومنه مسارقة النظر، وهو أن ينظر إلى الشيء دون أن ينتبه الغير إليه، ومنه استراق السمع، كما يكون من الشياطين كما أخبر الله تعالى: {إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} [الحجر:18] .
والسرقة: أخذ المال المحترم شرعا على وجه الخفية من حرز مثله بالغ النصاب من مكلف ملتزم مختار، فإذا وقعت السرقة على هذا الوجه انطبقت عليها أحكام هذا الحد الشرعي.
وحد السرقة من الحدود التي أجمع العلماء رحمهم الله عليها، وثبت بها دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} [المائدة:38] ، وهي من التشريع المدني.
وثبت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قطع في السرقة، فقطع عليه الصلاة والسلام يد المخزومية التي كانت تسرق وتستعير المتاع ثم تجحده، كما ثبت في السنة الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام، وقال في خطبته المشهورة حينما سألت قريش أسامة رضي الله عنه أن يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها، فقال: (أتكلمني في حد من حدود الله؟) ، وفي بعض الروايات: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فاعتبر السرقة حدا من حدود الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم القوي -وفي لفظ: الشريف- تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فهذا يدل على مشروعية القطع في حد السرقة.
وبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحد ليس خاصا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من الشرائع الموجودة فيمن قبلنا، بدليل قوله: (كانوا إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه) ، وهذا يدل على أن حد السرقة ليس من الحدود التي تختص بها الأمة المحمدية.
وأجمع العلماء رحمهم الله على مشروعية القطع في حد السرقة، وفعل ذلك الأئمة والخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وفعله أئمة الصحابة رضي الله عن الجميع وأرضاهم، فالإجماع منعقد على هذا الحد الشرعي.
وفي حد السرقة صيانة لأموال الناس، فكما أمر الله عز وجل بحفظ الدين، وبحفظ النفس من القتل، وبحفظ العرض من الانتهاك بالقول كما في القذف، وبالفعل كما في الزنا، شرع سبحانه وتعالى حد السرقة صيانة لأموال الناس من اعتداء المعتدين عليها، وهذا الحد فيه صيانة لحقوق الناس، وكبح لجماح الأنفس الدنيئة التي تعتدي على أموال الناس، وفيه زجر لأهل العقول السليمة عن الوقوع في رذيلة السرقة، ومن نظر إلى قوة هذا الحد ربما استغرب من شدة ألمه وعظيم موقعه، كيف تقطع اليد من السارق لقاء هذا المال، مع أن حرمة الجسد أعظم من حرمة المال؟ ولكن من تأمل ما الذي يقع وما الذي يحدث للمسروق منه إذا أخذ ماله من القهر والأذية والضرر والظلم وجد في هذا الحد حكمة عظيمة، ووجد فيه عدل الله جل وعلا الذي قامت عليه السموات والأرض.
ولذلك استشكل الزنادقة والملحدون هذا الحد من حدود الله، وأوردوا الاعتراض على الشريعة، حتى قال بعضهم: إن الشريعة تناقضت، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وقهره لخلقه أن يقطع ألسنة أهل الزيغ وأهل الفساد، فقالوا: كيف إذا قطع الرجل يد الرجل وجب القصاص، وإذا قطعها خطأ وجب الضمان بنصف الدية، ثم إذا سرق ربع دينار قطعت يده؟ فكيف تضمن هذه اليد بنصف الدية ثم تقطع في ربع دينار؟ فظنوا أن هذا من التناقض قاتلهم الله! وهذا من انطماس بصائرهم حتى قال قائلهم: تناقض مالنا إلا السكوت عليه وأن نعوذ ببارينا من النار يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار فقال له القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله: قل للمعري: عار أيما عار لبس الفتى وهو عن ثوب التقى عاري عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري فلما عزت وصانت كانت كريمة، ولما هانت وسرقت واعتدت أصبحت رخيصة {والله يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد:41] ، فالله يضع الرحمة حيث توضع الرحمة لمن يستحقها، ويوجب العقاب والعذاب على من يستحقه، ومن هنا لا تعارض في الشريعة؛ لأنها صانت اليد وهي كريمة، وقطعتها وهي خائنة لئيمة، والحكمة تقتضي وضع الشيء في موضعه.
فقوله: [باب القطع في السرقة] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بقطع يد السارق.
شروط قطع يد السارق
قال المصنف رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم] السرقة لا تكون إلا بصفة محدودة، وضبطت بالأدلة الشرعية، وهذه الصفة إذا وجدت حكم بثبوت الحد، وإذا فقدت فإنه لا يقام الحد.
ومن هنا بين رحمه الله أن السرقة أخذ، وعلى هذا لو هجم رجل على مال يريد أن يسرقه فكشف أمره قبل أن يخرج به من حرزه ويتحقق الأخذ لم تقطع يده، فمثلا: لو أنه كسر باب العمارة أو باب الشقة، أو دخل إلى الغرفة التي فيها النقود والأموال وكسر الباب أو عالجه فانفتح، ودخل وكسر الأقفال الموجودة على الصناديق، وقبل أن يأخذ المال ويخرج من هذا الحرز الذي هو حرز للمال أخذ، فلا تقطع يده حيث لم تتحقق السرقة.
وعليه فلا بد من وجود الأخذ، حتى ولو حصل الأخذ بدون استصحاب منه، مثل: أن يكسر القفل ويأخذ ما قيمته النصاب، ثم يرميه من وراء الجدر، ثم يكشف أمره، فهنا قد حصل الأخذ؛ لأنه قد خرج المال من حرزه وهو نصاب ومال محترم شرعا، وحينئذ تتحقق السرقة.
إذا: لابد من وجود الأخذ، فإذا لم يقع الأخذ لم نحكم بثبوت الحد.
والسرقة تتعلق بالسارق والمسروق وفعل السرقة، هذه ثلاثة أركان تتحقق بها السرقة، ففعل السرقة في قوله: (أخذ) ، وهذا الأخذ له ضوابطه، وسيبين رحمه الله الشروط المعتبرة للحكم بكون السارق قد تحقق فيه ما يوجب القطع بالأخذ المعتبر.
والسارق هو الركن الثاني، والسارق يشترط فيه: أولا: أن يكون مكلفا، فالصبي لا تقطع يده، وكذا المجنون لا قطع عليه بإجماع العلماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم- الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق) ، فإذا سرق وهو صبي أو مجنون فإنه غير مكلف.
ثانيا: أن يكون مختارا، فلو أكره على السرقة، كما يقع في العصابات، حينما يكره بعض أفرادها، فيهدد بالقتل أو يهدد بالضرر على الوجه والشروط التي ذكرناها في تحقق شرط الإكراه، فإذا هدد وتحقق فيه شرط الإكراه وقالوا له: إذا لم تذهب معنا وتسرق فإننا نقتلك، أو نقتل ابنك، أو نؤذيك أذية هي أعظم من السرقة، فإذا تحقق فيه شرط الإكراه فإنه لا يقطع.
وعلى هذا ينبغي أن يكون مكلفا بالبلوغ والعقل، وأن يكون مختارا لا مكرها على السرقة.
ثالثا: أن يكون ملتزما بأحكام الشريعة الإسلامية، سواء كان من المسلمين أو من أهل الكتاب كالذميين فإنهم التزموا بالعهد بأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وخاصة على القول بأنه يقام عليهم حكم الله عز وجل إذا تخاصموا إلينا، وأنهم مخاطبون بفروع الشريعة، فيشترط أن يكون ملتزما مسلما أو ذميا، وخرج بهذا الحربي، فالحربي غير ملتزم بأحكام الشريعة، وكذلك -كما قيل-: المستأمن، فإن المستأمن إذا أخذ له الأمان فإنه في مذهب بعض العلماء غير ملتزم.
ومن هنا يشترط في السارق أن يكون مكلفا ملتزما مختارا، فإذا تخلف أحد هذه الشروط لم يقطع، فبين رحمه الله شرط الالتزام بأحكام الشريعة.
اشتراط النصاب
قال المصنف رحمه الله: [إذا أخذ الملتزم نصابا] .
هذا يتعلق بالركن الثالث، وهو: المال المسروق، فعندنا السارق والمسروق وفعل السرقة، فلما قال رحمه الله: (نصابا) بين الركن الثالث، وهو: أن يكون المال المسروق نصابا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قطع إلا في ربع دينار) كما في الصحيح، وكذلك في حديث السنن: (لا تقطعوا إلا في ربع دينار، ولا تقطعوا فيما دون ذلك) ، وهذا يدل على أنه ينبغي التقيد بالنصاب، وقال في حديث الثمر: (فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن) ، والمجن هو الدرع الذي كان يستر المقاتل، وكانت قيمته تساوي ربع دينار أو أكثر من ربع دينار، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن ثمن المجن فقالت: ربع دينار، ففسرت الحديث بما يتفق مع الأصل، فالنصاب ربع الدينار، وسيأتي تفصيله -إن شاء الله-، وفيه خلاف عن السلف رحمهم الله، ولكن الربع دينار هو الذي دلت عليه النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذا: يشترط في هذا المال المسروق: أن يكون قد بلغ النصاب، فإذا كانت قيمته دون ربع الدينار فإنه لا تقطع يد السارق، فلو أنه سرق كتابا أو قلما أو ثوبا أو نحو ذلك مما قيمته لا تساوي الربع الدينار أو ما يعادله من الدراهم، فإنه لا يقطع.
وذهب بعض العلماء إلى عدم اشتراط النصاب وهم الظاهرية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده) وقد أجيب عن هذا الحديث بأن المراد به الوعيد، فلا يلتفت إلى حقيقة ما ذكر فيه، وهذا شأن أحاديث الوعيد، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عقرى حلقى) ، وليس المراد: عقرها الله، حلقها الله، وقال: (ثكلتك أمك يا معاذ!) ، وهو دعاء بالموت لكن لا يريد الحقيقة، وهنا أراد أن ينبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.
وقيل: إن الحبل يساوي ربع دينار في السفن، والبيضة المراد بها: بيضة المقاتل، وهي التي تلبس في القتال، وقيمتها ربع دينار فأكثر، وليس المراد بها البيضة من نتاج الدجاج.
وعلى كل حال سيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة، وأن الصحيح اعتبار النصاب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص وقال: (لا قطع إلا في ربع دينار) ، وهذا نص صريح، ولا يعارضه المحتمل، ولأننا لا ندري هل تأخر حديث: (لعن الله السارق) أو تقدم؟ ومن هنا لا يقوى على المعارضة من كل وجه، فيشترط في ثبوت حد السرقة: أن يكون المال المسروق نصابا.
اشتراط الحرز
قال المصنف رحمه الله: [من حرز مثله] .
أصل الحرز: الحصن، والشيء المحفوظ فيما يحفظ فيه مثله يقال عنه: في حرز، والأحراز تكون في الأموال متفاوتة، وتتفاوت بحسب الزمان وبحسب المكان وبحسب الظروف والأشخاص، ومن هنا ينقسم الحرز إلى قسمين: الأول: ما يكون حرزا بنفسه، مثل الدور والعمائر والشقق والبساتين، فهذه حرز بنفسها، بمعنى: أن عليها البناء والأغلاق، وفي حكمها الدكاكين، والحوانيت، والأحواش المسورة، فهذه أحراز بنفسها، ولذلك من تسور فدخلها ثم أخذ منها فقد أخذ من حرز.
النوع الثاني من الحرز: حرز الحافظ، أو ما يقول العلماء عنه: حرز الغير، فهناك ما هو حرز بنفسه، وهناك ما هو حرز بغيره، والحرز بغيره هو المكان، ووضعوا ضابطا يفرق بينه وبين الأول، فقالوا: حرز المكان هو الذي لا يدخل الشخص إلا بإذن من صاحبه، فالعمارة حرز مكان وحرز بالنفس، وهكذا الشقة والغرفة والمكتب إذا كان خاصا بالشخص، فهذا حرز بنفسه، لا يدخله الغير إلا بإذن من صاحبه، وحرز الغير هو الذي يكون بالحافظ ويقع في الأشياء أو في الأموال أو في الأماكن العامة.
فمثلا: الأماكن العامة كالمساجد، ولو أن شخصا سرق من مسجد فليس بسارق؛ لأن المسجد يرتاده الناس، ومفتوح للعامة، ومن هنا ليس له حرز، وليس حرزا بنفسه، وإنما هو حرز بالحافظ، فلو نام شخص في المسجد ووضع كساءه أو ثوبه أو شنطته التي فيها النقود تحت رأسه فسرقها أحد فإنها تعتبر في حرز، ولذلك لما سرق رداء صفوان رضي الله عنه في المسجد من تحت رأسه، قطع النبي صلى الله عليه وسلم يد السارق؛ لأنه حينما وضعه تحت رأسه فقط حرزه وحفظه، صحيح أن المسجد عام لكنه حينما قام على ماله ووضعه على وجه يصان به فإنه حرز حفظ، فإذا سرقه من تحت رأسه أو جذب الفراش من تحته أو نحو ذلك فإنه يعتبر قد أخذ من حرز.
وهكذا بالنسبة لحرز الغير، الإبل إذا كانت ترعى فإن حرزها بوجود الراعي معها، فإذا سرقها والراعي معها فهي سرقة من حرز، وإذا سرقها والراعي نائم فليست بسرقة من حرز، لابد من وجود الحفظ والصيانة فيما هو سائب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ليس في حريسة الجبل قطع حتى تأوي إلى المراح) ، فجعل الإبل وهي بين الجبال أو في الموضع راعية سائمة ليس فيها قطع؛ لأنها ليست في حرز، فإذا حفظت بالحافظ والأمين فإنه حينئذ تكون في حرز.

أن يكون المال المسروق محترما
قال المصنف رحمه الله: [من مال معصوم] .
يشترط في السرقة أن يكون المال المأخوذ مالا معصوما، فخرج المال غير المعصوم، والمراد بالعصمة: عصمة الإسلام، وعبر الفقهاء بهذا المصطلح انتزاعا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله -وفي لفظ- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم ... ) الحديث، فقوله: (قد عصموا) المراد بها: عصمة الإسلام، وعصمة الإسلام يدخل فيها الأمان والعهد للذمي، فإذا اعتدي على مال مسلم فهو اعتداء على مال معصوم، وإذا اعتدي على مال ذمي فهو اعتداء على مال معصوم؛ لأنه بموجب العهد يكون للذمي ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين.
وخرج بهذا الحربي، فلو أنه مثلا كان في القتال وتوقف مثلا أو تقابل الزحفان ولم يحصل بينهما قتال فانسل مسلم وأخذ على وجه الخفية شيئا منه فهي ليست بسرقة شرعية؛ لأن هذا من إغاظة الكافر بإيذائه في ماله إذا كان محاربا، ومن هنا لا تعتبر سرقة؛ لأن المال الذي أخذه مال غير معصوم.
ألا يكون في المال المسروق شبهة للسارق
قال المصنف رحمه الله: [لا شبهة له فيه] .
الشبيه: المثيل، وهذا يشبه هذا إذا كان قريبا منه في الصفات، والشبهة: أن يكون للإنسان شبهة في الملك، كما في السيد في مال عبده، والوالد في مال ولده، على تفصيل عند العلماء، وسيأتي إن شاء الله بيان ضوابط هذه الشبهة، ومتى تؤثر، ومتى لا تؤثر، والأصل في اشتراط عدم الشبهة قوله عليه الصلاة والسلام: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فأمرنا أن نتقي الشبهات، وإذا وجدت في السارق شبهة، أو في المال المسروق شبهة توجب سقوط الحد وكانت مؤثرة فإنه لا حد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندرأ الحدود وندفعها بالشبهات.
أن يؤخذ المال المسروق خفية
قال المصنف رحمه الله: [على وجه الاختفاء] .
أن تكون هذه السرقة على وجه الاختفاء، وهذا أصل في السرقة، ومن هنا لو كانت السرقة عيانا بيانا أمام الناس، مثل: الغصب، فلو جاء واغتصب سيارته، أو أنزله من سيارته ثم أخذها بالغصب والقوة، فهذه ليست بسرقة، لكن لو أنه جاء إلى السيارة وهي في (كراجها) ومكان حفظها وحرزها ففتحها وأخرجها من مكان هو حرز لمثلها؛ فقد حصلت السرقة.
فلا بد من وجود هذا الشرط: أن يكون على سبيل الخلسة والاختفاء، فلو كان على سبيل الظهور كما في الغاصب فإنه لا يقطع، وكما في المنتهب، والنهبة تكون بإغارة بعض القبائل على بعض، أو الجماعات على بعضهم، فهذا لا يعتبر سرقة، فقد كانوا في القديم يغيرون ويأخذون الإبل ويستاقونها، ويكون هذا على مرأى ومسمع، وهذا ليس بسرقة، إنما السرقة على وجه الخفية، ونفس مصطلح السرقة يتضمن ذلك، وهو وجود الخفية وعدم الظهور.

قطع يد السارق حد من حدود الله لا شفاعة فيه
قال المصنف رحمه الله: [قطع] .
الحكم الشرعي أنه يجب قطع يده، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وإذا توافرت الشروط لم يجز تعطيل حد الله عز وجل.
ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إذا بلغت الحدود السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفع) ، ولما سرق الرجل رداء صفوان ورفعه صفوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه؛ ما كان يظن صفوان أن الرجل ستقطع يده، فشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (ما علمت أن يده ستقطع فقال: هلا كان هذا قبل أن تأتيني به) أي: أنه كان المفروض ألا تأتيني به؛ لأنك لو أتيتني به أقمت حد الله عليه.
ومن هنا قال المصنف: (قطع) أي: وجب القطع، وهو حد الله عز وجل، ومن أقام حد الله عز وجل فقد أطاع الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام، وتستقيم الأمة بتنفيذ حدود الله، وإقامة هذه الحدود، ويجب ألا تأخذ من يقيمها لومة لائم، وألا يبالي بسخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين وإرجاف المبطلين، هذا كله لا يلتفت إليه؛ لأن الحكم لله الذي يحكم ولا معقب لحكمه سبحانه، والأمر أمر الله، والخلق خلق الله، يفعل بهم ما يريد، ويحكم فيهم ما يريد سبحانه وتعالى.
أجمع العلماء رحمهم الله أنه إذا توافرت الشروط يجب على القاضي الحكم بالقطع، ويجب على السلطان تنفيذ هذا الحكم، وألا يتدخل أحد في حكم الله عز وجل، وهذا الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما ثبت عن المخزومية موجب القطع وجاءت قريش بقضها وقضيضها تشفع وتريد أن تسقط عنها العقوبة، وقدموا الأموال من أجل أن يردوا ما سرقته ويطيبوا خاطر المسروق منه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد هذه النعرات وهذه الحمية الجاهلية الممقوتة التي تعطل حدود الله عز وجل وتمنع من إقامة حق الله عز وجل، ردها بعبارة قوية شديدة، فقال: (والذي نفسي بيده -فأقسم بربه سبحانه الذي أنفس العباد بيده سبحانه- لو أن فاطمة بنت محمد -وحاشاها- سرقت لقطعت يدها) فأخرس ألسنتهم، وكف شفاعتهم، وردهم عليه الصلاة والسلام وأقام هذا الشاهد والمثال في أحب الناس إليه، الذي هو منه بضعة وقطعة، كما في الصحيح أنه قال: (إنما فاطمة بضعة مني) -أي: قطعة مني- يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها.
ومع ذلك يقول: (والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) وهذا يدل على ما ذكره المصنف من ثبوت الحد وهو القطع.
وأجمع العلماء رحمهم الله: على أنه لا تجوز الشفاعة ولا يجوز تعطيل الحدود بالمماطلة والعبث بحق الله سبحانه وتعالى، بل الواجب تنفيذ هذا الحد.
والمراد باليد: من عند مفصل الزندين مع الكف، فيجب القطع من هذا الموضع، وسيأتي إن شاء الله بيان الضوابط الشرعية المعتبرة لتنفيذ هذا الحد وهذه العقوبة.
أصناف لا تقطع أيديهم عند أخذهم مال الغير
قال المصنف رحمه الله: [فلا قطع على منتهب] .
يقول رحمه الله: (فلا قطع على منتهب) ، وهذا ما ثبتت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا قطع على خائن، ولا مختلس، ولا منتهب) ، والحديث صححه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وأجابوا على ما أورد عليه من الانقطاع بين ابن جريج وأبي الزبير محمد بن تدرس المكي، وصحح غير واحد إسناده، واختار الشيخ الألباني رحمه الله في الإرواء تصحيحه، والحديث صحيح أنه لا يقطع المنتهب، ولا المختلس، ولا الخائن، قال صلى الله عليه وسلم: (لا قطع على منتهب، ولا مختلس، ولا خائن) ، وقال الإمام الترمذي: إنه حديث حسن، وأثبت الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مما يحتج به.
والمنتهب -كما ذكرنا- هو: أن يأخذ المال على سبيل النهبة، وتكون عيانا، فذكر المصنف رحمه الله المنتهب؛ لأنه سبق وأن بين وجه الخفية، فخرج المنتهب؛ لأنه يكون على وجه العلانية.
قال رحمه الله: [ولا مختلس] .
المختلس هو: الذي يتغفل الإنسان فيختلس منه الشيء دون أن يكون على علم، وغالبا المختلس يفقد فيه شرط الحرز، ومن هنا يكون الشخص غافلا فيختلس ماله وهو على الطاولة، أو يختلس ماله وهو على المكتب، فهذا ليس بسرقة إنما هو اختلاس.
فبين المصنف رحمه الله: أنه لا بد من شرط الحرز، والمختلس يأخذ من غير الحرز، لأنه لا يستطيع أن يختلس إلا إذا كان المال أمامه، ويكون مثلا شخص أخرج النقود -كالصراف- ووضعها أمامه يريد أن يحاسب شخصا ثم غفل أو كانت يد ذلك المختلس خفيفة فأخذ من هذا المال، هذا من غير حرز، وحينئذ لا تقطع يده.
قال رحمه الله: [ولا غاصب] .
وهو الذي يأخذ المال بالقهر والقوة، فلو أن شخصا أخذ أرض شخص بالغلبة، أو اغتصب منه شبرا من أرضه أو مترا، أو أخذ مزرعته أو أخذ بيته وعمارته فإنه لا يقطع؛ لأنه أخذ المال على غير وجه الخفية؛ لأن الغصب يكون علانية.
قال رحمه الله: [ولا خائن في وديعة] .
الخائن هو: الشخص الذي يؤتمن على أموال الناس، فيضيع الأمانة نسأل الله السلامة والعافية، فلو أنه وضع المال عنده لكي يحفظه وديعة، فسرق من هذا المال أو أخذ منه فإنه لا تقطع يده؛ لأنه حينما أعطي المال نزل منزلة الوكيل، وحينئذ لا يتأتى فيه ما في السارق من كونه يأخذ المال على سبيل الخفية دون علم من صاحبه، والخائن لا يتوافر فيه أخذ المال من الحرز؛ لأنه هو في الأصل أعطي كحافظ للمال فهو حرز المال وهو حفظه، ومن هنا لا يعتبر شرط الحرز متحققا في الخائن، ولو أنه أعطي وديعة ثم أنكرها وجحدها، فإنه إذا تبين أنه جاحد للوديعة لم يقطع؛ لأنه لا قطع في خيانة كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عنه.
قال رحمه الله: [أو عارية أو غيرها] .
الوديعة: تأتي للشخص وتقول له: هذه عشرة آلاف ضعها عندك أمانة إلى نهاية السنة، وهذا محدد الوقت، أو إلى أن أطلبها منك، وهذا غير محدد الوقت، فهذه وديعة.
أما العارية: كأن يأتي شخص مثلا ويأخذ سيارتك ويقول: أريد هذه السيارة من أجل أن أسافر بها إلى المدينة، ثم أخذ السيارة وفر بها، ففي هذه الحالة لا نعتبرها سرقة؛ لأنه ليس على سبيل الخفية، وأنت على علم أن سيارتك عنده.

ما يجب على المسلم عندما ترد الشبهات من أعداء الله
من هنا تدرك عظيم ضرر السرقة حينما راعى الشرع فيها قضية الخفية لعظيم ضررها؛ لأنه إذا سرق المال من الشخص اتهم جميع الناس في الأصل إلا من رحم ربك، وحينئذ تسوء ظنون المسلمين بعضهم ببعض، وفي المغتصب يعرف من أخذ ماله، وفي الخائن يعرف من خانه، وفي الجاحد للعارية والوديعة معلوم من قام بهذا.
ومن هنا: فعل السارق ليس أذية للأموال فقط بل أذية إلى نفسية الناس، فمن الناس من إذا سرق ماله فقد عقله والعياذ بالله، ومنهم من تأخذه الحمية والقهر حينما يؤخذ ماله وهو لا يدري من الذي أخذ، فيشك حتى في ولده، ويشك حتى في أقرب الناس منه، ومن هنا تراعى عظم شأن هذه الجريمة، فالبعض ينظر إلى ظاهرها من كونها متعلقة بالأموال، ولكن لا ينظر إلى ضرر المأخوذ منه.
ومن هنا تجد من ينتقد الشريعة -وهو أحقر من ذلك ودون ذلك- ينظر إلى المقطوع يده وهو الجاني ولا ينظر إلى المجني عليه، ويقولون: كيف تقتصون من القاتل؟ هذه بشاعة، كيف تقتلونه؟ يأتون ويسفكون الدماء وينتهكون الأعراض ويعتدون على أموال الناس ثم يأتي أهل الحقوق ويتكلمون وينتقدون ويقولون: إنهم أهل حقوق، وإنهم دعاة إلى الحقوق: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} [فاطر:8] ، فيرون أنهم دعاة للحق، وأنه لا يمكن أن تقطع اليد، ويقولون: ما هذه البشاعة في الإسلام؟ -قاتلهم الله- ولا ينظرون إلى الأعراض التي تنتهك، والدماء التي تسفك، والأموال التي تسرق، أبدا ما ينظرون إلى هذا، بل ينظرون إلى المجرم ويقولون: وراءه أسرة وعائلة، وهم بهذا يعينون أهل الجرائم على جرمهم.
فلو كانوا أهل حقوق بحق لنظروا إلى الطرفين، وأنصفوا الطرفين، حتى حينما نقول لهم: هذا قاتل، هذا قتل غيره، فكما سلب غيره نفسه سنسلبه نفسه، وما ظلمناه، فلا يمكن أن ينظروا إلى المقتول! وهذا عين الظلم والجور، ولا شك أن الكافر كما قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون} [البقرة:254] ؛ لأن الموازين عندهم مضطربة، ولكن أهل الإسلام هم أهل العدل وأهل الحق بتوفيق الله عز وجل، بصرهم الله عز وجل فنظروا إلى الجريمة وآثارها وأضرارها، وحجم ما اكتسبت الأيدي، وأعطوا كل جريمة حقها بأمر الله سبحانه وتعالى، فالسارق ما دام أنه سرق فإنه لا يمكن أن ينزجر إلا إذا قطعت يده، فإذا قطعت يده وحدث نفسه بالسرقة مرة ثانية إذا بيده تذكره بالعقوبة وعندها يرتدع، ولو جئت بالسراق ووقفوا على سارق تقطع يده لهالهم الأمر، ولوقع ذلك في أنفسهم موقعا بليغا.
ومن هنا: تطبيق حدود الله عز وجل ليس بمنقصة ولا بشاعة، وليس فيه ظلم ولا ضرر ولا أذية، ومن هنا ينبغي أن يعتز المسلم بهذا الدين ويعتز بأحكامه، وعليه بدل أن يكون مدافعا عن شبهات الأعداء أن يكون مهاجما على الأعداء، فيهجم عليهم بالعكس والضد، ويقول: نحن دعاة الحقوق للمجني عليهم، وأنتم دعاة حقوق للجاني، ونقول: نحن دعاة الحقوق للمجني عليه، والمفروض أن ينصر المجني عليه؛ لأن الجاني لا يحتاج إلى نصر إلا بكفه عن ظلمه وزجره عن أذيته للناس، فتقطع اليد حتى تذكره بالجريمة وتذكر غيره، وليتأمل الإنسان حينما يصبح المجرم مجرما فيسرق، فإذا قطعت يده يكون بين أمرين: إما -والعياذ بالله- أن يبقى سارقا فيذهب ويعيش بين السراق، فكلما أصبح وأمسى يذكرهم بيده، لأن من ينظر إليه يتذكر عاقبة السرقة، فهي من أبلغ المواعظ والعظات.
وأما إذا رجع وتاب إلى الله زجر غيره، فإذا نظر إلى يده مقطوعة هاب السرقة وهاب أموال الناس، وفي ذلك آيات وعظات بالغات، وكفى بالله عز وجل عليما حكيما، ولطيفا خبيرا، يضع الشدة في موضعها، ويضع اللين في موضعه، ولا ينبئك مثل خبير.
فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كانا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
والكلمة الأخيرة: أننا نوصي في هذا الزمان بأمر مهم جدا وخاصة في مسائل الحدود ومسائل الشبهات التي ترد على الإسلام عموما، ألا وهي: مسألة التمسك بالحق، فما عليك من إرجاف المرجفين، وسخرية الساخرين، وانظر كيف كان السلف الصالح والأئمة رحمهم الله في زمانهم، فترد الشبهات حتى قالوا: كيف تقطع اليد بربع دينار ويجب ضمانها بنصف دية؟ وهذا من القديم، وللشر أهله؛ فهم لا يخرصون ولا يسكتون؛ لأن الله ابتلى بهم أهل الحق، قال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون} [الفرقان:20] قال الله: (أتصبرون) وهذا يقتضي أن نصبر على الحق.
فأثناء إيراد الشبهات -سواء في السرقة وغيرها- وحينما يتبجح أعداء الإسلام، وأعظم من هذا أن يتبجح من هو من بني جلدتنا بأمور فيها استخفاف بالشريعة أو استهزاء؛ فعلى كل مسلم أن تأخذه الغيرة والحمية لهذا الدين، غيرة الحق لا غيرة الباطل، وحمية الدين لا حمية الجاهلية، ومن غار لحق الله أحبه ربه، فإن الغيرة على الحق تزكي نور الإيمان في القلوب، ومن غار على حق الله عز وجل وتألم وتمعر وجهه نجي من العذاب، فإنه إذا كان الإنسان معجبا بما يقوله أهل الباطل ويدافع عنهم أو يهون من أمرهم دون أن يرد عليهم ودون أن يقارعهم الحجة فإن هذا بلاء عظيم، وشر وخيم، فيوصى الإنسان بالصبر على الحق الذي هو مؤمن به.
ومن أحب الأعمال إلى الله -إذا أرجف المرجفون أو طعن الطاعنون أو شوش المشوشون- أن تكون عندك ثقة كاملة بهذا الحق، وأن تعتز به؛ ولذلك قال تعالى: {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} [الأحزاب:10 - 11] ، فإذا زلزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيزلزل من كان على نهجهم في كل زمان بحسبه، ولكن الله تعالى يقول: {ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما} [الأحزاب:22] ثم قال الله: {من المؤمنين رجال} [الأحزاب:23] ليسوا كلهم! {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب:23] ؛ لأن بينك وبين الله هذا العهد من الإسلام والاستسلام، وإذا جاء حكم الله عز وجل أمعنت وسلمت ورضيت وكنت على قوة من الحق والثبات ولا تتزلزل، قال أبو بكر رضي الله عنه: (والله! لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليها) وهذا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحال في شدة وضيق، وحال المدينة كان من أصعب ما يكون؛ لأن العرب ارتدت، وكان بأشد الحاجة رضي الله عنه إلى جيش أسامة الذي جهزه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أمضى ما أمضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت على الحق رضي الله عنه وأرضاه، فكان هذا من دلائل يقينه بالله عز وجل، فكل صاحب حق يثبت على حقه ثباتا يرضي الله عز وجل؛ لأن الله في الفتن ينظر إلى القلوب، فمن الناس من يلين مع أهل الباطل، ومنهم من تنكسر شوكته، والعياذ بالله! وقال الحكماء والعلماء والصلحاء: الفتن حصاد المنافقين {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة} [الأنفال:42] ، وكل فتنة وراءها فتنة، فمن صبر في الفتنة الأولى ازداد إيمانه تهيئة للفتنة التي بعدها، ثم تأتي الفتنة التي بعدها أشد من الأولى كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما انتهى مرجف جاء مرجف آخر، وقد يكون المرجف كاتبا واحدا ثم أصبحوا كتابا، ثم أصبح إرجافا على مستوى الدول والجماعات، حتى يعظم الإرجاف، ولكن الله غالب على أمره.
الكون كون الله، والأمر أمر الله عز وجل، وكلمة الله ماضية، ولتخرص الأفواه، ولن يبقى إلا الحق الذي فيه كلمة الله جل جلاله، التي سيمضيها بعز عزيز وذل ذليل، فوالله! لقد حصل لهذه الأمة من النكبات والفجائع والأهوال ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، وما انطفأ نور الله يوما من الأيام، بل كلما وقعت فتنة رجع الحق أشد ضياء ونصاعة وقوة ورهبة وهيبة؛ لأنه من الله! وتأمل قوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة:21] أولا: التعبير بالكتب؛ لأن التعبير به دليل على أنه لا يغير ولا يبدل، ثم ما قال: كتبت، ولكن {كتب الله} [المجادلة:21] فالتعبير بالاسم الظاهر، فحينما تقول: كتبت، شيء، وحينما تقول: كتب محمد، وكتب فلان، فتذكر اسمك ولك مكانة أو لك قوة شيء آخر، وما قال: أن يغلب، إنما قال: {لأغلبن} [المجادلة:21] ، واللام هي الموطئة للقسم، أي: والله! لأغلبن، والتعبير هنا بالغلبة، ثم قال: {لأغلبن} [المجادلة:21] توكيد {أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة:21] ما أحد أبدا يشك في قدرة الله على خلقه، وهذه الشنشنة وهذا الإرجاف من المبطلين أيا كانوا وبأي اسم تسموا، وتحت أي ستار استتروا؛ فليكشفن الله عوارهم وذلهم، وليلبسنهم الصغار كما ألبس من قبلهم، والله عز وجل له حكم.
ومن هنا تجد في بعض الفترات المرجفين يرجفون، والكتاب يكتبون ما فيه استهزاء بالدين أو سب لله عز وجل والعياذ بالله، فيتمعر قلب المؤمن، ويرفع الله درجاته بهذا التمعر بما لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام، ولربما تسمع بمن يطعن في كتاب الله، أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في حد من حدود الله عز وجل، فتجد ذلك السفيه المغمور المتهتك الذي لا دين عنده ولا عقل يلمز الإسلام أو يلزم الأخيار، ثم تجد أن هذه الكلمة لها أثر في قلبك فتتألم وتتغير، ومن الناس من يمنعه قول أهل الباطل النوم! وكان بعض العلماء قد يمرض! وإن كان الأمر لا ينبغي أن يبلغ هذا؛ لأن الله نهى وقال: ولا تحزن عل





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #730  
قديم 24-10-2025, 03:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي



الأسئلة




حكم جاحد العارية
السؤال أشكل علي حديث المخزومية بأنها تستعير المتاع ثم تجحده وسماها النبي صلى الله عليه وسلم سرقة مع ما قررنا أنه لا يكون في العارية قطع؟
الجواب تعرف هذه المسألة بمسألة قطع جاحد العارية، وفيها قولان مشهوران للعلماء رحمهم الله، والصحيح ما رجحناه أنه لا قطع على جاحد العارية، وهذه المرأة ثبت في الرواية الصحيحة أنها سرقت، ولذلك قال في نفس الحديث: (ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت) ، وقال: (أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف) وسرقت قطيفة من إحدى البيوت، وكانت هذه القطيفة تساوي النصاب وتزيد، فـ عائشة رضي الله قالت: أهم قريش شأن المخزومية التي كانت تستعير المتاع ثم تجحده؛ لأنها كانت هذه الصفة غالبة، ولا يمنع أن جريمتها في الأصل هي السرقة، والقطع لا لجحد العارية وإنما قطع عليه الصلاة والسلام؛ يدها لأنها سرقت.
ولذلك لما قطع عليه الصلاة والسلام يدها لم يستفصل عن المتاع مما يدل على أن القطع إنما وقع بسبب أنها سرقت، وقد جاءت الرواية صحيحة بهذا، ومن هنا قال الجمهور: إنه لا يقطع جاحد العارية؛ لأن الأصل أنه لم ينطبق عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجود الأخذ من الحرز على سبيل الخفية، والله تعالى أعلم.
الشفاعة في الحدود
السؤال كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) وبين قوله: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ، فمتى تكون الشفاعة في الحد ممنوعة؟
الجواب ( اشفعوا تؤجروا) عام، و (أتشفع في حد من حدود الله؟) خاص، والقاعدة: (لا تعارض بين عام وخاص) ، والحد الذي يمنع من الشفاعة منه حد الزنا حد القتل القصاص حد الحرابة حد السرقة، هذه الحدود لا شفاعة فيها، وكذلك حد القذف، ومحل المنع أن ترفع إلى القاضي فإذا رفعت إلى القاضي لا شفاعة، أما قبل وصولها إلى القاضي فتجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به) ، وقال في الرواية الأخرى في الحديث الآخر: (إذا بلغت الحدود السلطان ... ) فقال: (إذا بلغت) ، وهذا يدل على أنه إذا رفع الأمر إلى الوالي أو القاضي لا تجوز الشفاعة، والله تعالى أعلم.
حكم أخذ المرأة من مال زوجها فوق حاجتها خفية
السؤال هل أخذ المرأة من مال زوجها دون علمه إذا كان فوق حاجتها من السرقة؟
الجواب هذا فيه تفصيل؛ لأنه في بعض الأحيان يكون سرقة، ويقع به القطع ويثبت به الحد، وبعض الأحيان لا يكون سرقة؛ لأن فيه شبهة، وهذا سنذكره -إن شاء الله تعالى- في ضابط الشبهات التي تدرأ حد السرقة، لكن من حيث الأصل، أنه إذا خرجت عن الأصل الشرعي أو عن الحد الشرعي أو الضابط الشرعي؛ فإنها تقطع، فمثلا: لو كسرت قفلا في غرفة الزوج، وكان للزوج غرفة خاصة به، أو (شنطة) خاصة به، فجاءت وكسرت أقفال هذه (الشنطة) وأخذت المال الموجود فيها، ثم خرجت ونحو ذلك، فهذا كله ظاهره سرقة، فلا يعتبر داخلا تحت قوله: (خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف) ، ولا تؤثر الشبهة في هذا؛ لأن قصد استباحة المال والاعتداء عليه موجود، ومن هنا سيفصل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم.
اشتراط استمرار عذر جمع التقديم إلى الدخول في الصلاة الثانية
السؤال من جمع صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم ثم وصل إلى بلده قبل دخول وقت العصر، فهل عليه الإعادة؟
الجواب الجمهور على أن من جمع ثم رجع إلى بلده قبل دخول وقت الثانية فيجب عليه أن يعيد الصلاة؛ ذلك لأنه يشترط في صحة جمع الصلاة الثانية في وقت الأولى أن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، فإذا دخل عليه وهو مقيم فقد خاطبه الله بأربع ركعات؛ لأنه إذا أذن عليه الأذان فقد خاطبه الله بأربع ركعات، وهو قد صلى ركعتين، ومن هنا تجب عليه الإعادة، ولا يستبيح بهذا الوجه الرخصة، ومن هنا قال العلماء: ويشترط في جمع التقديم أن يستمر عذر الجمع -الذي هو السفر- إلى دخول وقت الصلاة الثانية، بأن يدخل وقت الثانية وهو مسافر، مثلا أذن الأذان قبل دخوله بلده ولو بثلاث دقائق أو بدقيقة أو بدقيقتين، فإنه في هذه الحالة قد خوطب بركعتين، ولم يخاطب بأربع فيجزيه ما صلى، والله تعالى أعلم.
حكم صلاة المفترض خلف المتنفل
السؤال ما حكم من صلى الفرض خلف من يصلي النفل؟
الجواب لا بأس بذلك ولا حرج؛ لأن معاذا رضي الله عنه كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي قومه بقباء فيصلي بهم، وهم مفترضون وهو متنفل، وهذا يدل على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل، والأفضل أن يخرج الناس من الخلاف في هذه المسألة فيكون الإمام هو المفترض، ولكن لو وقع ذلك فلا بأس ولا حرج؛ لثبوت السنة بالتقرير في هذا، والله تعالى أعلم.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 7 ( الأعضاء 0 والزوار 7)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 359.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 354.10 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.62%)]