شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي - الصفحة 5 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 335 - عددالزوار : 90490 )           »          أصول في دراسة مسائل التفسير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 9 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 66 - عددالزوار : 8949 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 224 - عددالزوار : 22739 )           »          حيـــــــــاة الســــــعداء (متجدد إن شاء الله) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 170 - عددالزوار : 103823 )           »          نصائح وضوابط إصلاحية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 217 )           »          ردا على مثيري الفتن .. { إن الدين عند الله الإسلام } (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 26 )           »          المرأة المسلمة.. مكانتها وحقوقها في الشريعة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 8 - عددالزوار : 856 )           »          تحمّل المسؤولية واقع مفقود في الحياة الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          تأملات في قول الله تعالى:{بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #41  
قديم 23-07-2020, 11:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (41)

صـــــ346 إلى صــ358



[باب إزالة النجاسة]

وأما طهارة الثوب فقد أشار الله تعالى إليها بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} فأمر بطهارة الثوب للصلاة،
وأما طهارة المكان فقد أمر بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيح في قصّة بول الأعرابي لما بال على أرض المسجد حيث قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[أَرِيقُوا عليه سَجْلاً مِنْ مَاءٍ] وكذلك أمر المصلي في نعليه إذا وجد فيهما الأذى أن يدلكهما.
فهذه النصوص تدل على وجوب إزالة النجاسة في الثلاثة المواضع في: البدن، والثوب، والمكان، ثم إزالة النجاسة إما أن تكون بالماء، وإما أن تكون بما في حكم الماء في صور مخصوصة، فإزالة النجاسة بالماء هي الأصل؛ لأن الله -تعالى- بيّن في كتابه، وعلى لسان رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الماء أصل المطهرات؛
فقال تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) أي: طاهراً في نفسه مُطهراً لغيره،
وقال عليه الصلاة والسلام في ماء البحر: [هُو الطَهُور مَاؤُه] فدلّ هذا على أن الماء هو الأصل في التطهير، وقد يكون التطهير بشيء في حكم الماء في صور مخصوصة،
مثال ذلك:
طهارة الخارج من السبيلين تكون بكل طاهر كالتراب، والحصى، والمنديل.
قوله رحمه الله:
[يُجْزِئُ في غَسْل النّجاساتِ كلّها إِذا كانتْ عَلى الأرضِ غسلةٌ واحدةٌ]: يجزئ: أي يكفي،
وقوله:
[في غَسْلِ النّجاساتِ] أي:في تطهير النجاسة إذا كانت على الأرض،
مثال ذلك:
لو وقع بول على أرض مسجد، وكانت من تراب، يجزئ في طهارتها أن يَصبّ المكلفُ صبّةً من ماء تكون أكثر من البول، أما إذا كانت مثله، أو أقل، فإنها لا تُجزئ، إنما تكون مجزئة إذا كانت أكثر من النجاسة، ولذلك قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [أَريقُوا عليه سجلاً منْ ماءٍ] وذلك في تطهير موضع بول الأعرابي،
وفي رواية:
" دلواً مِنْ مَاءٍ " ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقل: أريقوا عليه ماءً، ولكن قال: " سجلاً " فدل على أن المكاثرة مطلوبة، وأنه لا يكفي أن تَصُبّ أيُّ ماء، بل لا بد من أن يكون أكثر من النجاسة المصبوب عليها،
وجه ذلك في قوله:
" سجلاً " فإن السجل كما هو معلوم الدّلو،
بل قال بعض شراح الحديث:
هو الدلو الكبير، وإن كان ظاهر الحديث السجل العرفي، وهو الدلو المعتاد، فإن الدلو إذا نظرت إليه قرابة السطل، وقرابة السطل إذا صببته على بول فإنه أضعاف البول، وهذا يدل على أن النجاسة تطهر بالمكاثرة،
وعليه فيكون قول المصنف:
[غَسْلةٌ واحدة] ليس هو على إطلاقه بحيث يشمل أيّ صبة، بل لا بد من أن تكون أكثر من النجاسة بحيث يغلب على ظنك أنها تزيلها،
وهذا ما أكده بقوله بعد ذلك:
[تذهب بعين النجاسة]، وهذا الحكم من سماحة الشريعة، ويسرها، ورحمة الله -عز وجل- بالعباد، فإنك إذا نظرت إلى النجاسة إذا أصابت الأرض الترابية في مسجد، أو غرفة فإنه لا يمكن للمكلف أن يقلع التراب ويغسله مثل ما يفعل بثوبه، ولو أمر بذلك لكان فيه حرج، ومشقّة،
فقال عليه الصلاة والسلام: [أَرِيقُوا عليْه سَجْلاً منْ ماءٍ] فدلّ على سماحة الشريعة، ويسرها، فإنّ صَبَّ الماء على هذا الوجه أرفق بالناس.
وقوله رحمه الله: [غسلة واحدة]؛
لقوله عليه الصلاة والسلام:
[أَرِيقُوا عليْه سَجْلاً منْ ماءٍ] فلم يشترط سجلين، أو ثلاثة، فدلّ على أنّ الواجب، والمجزئ صبّةٌ واحدةٌ بشرط ما قدمنا، وهو أن تكون أكثر من النجاسة بحيث يحصل بها التطهير،
وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله:[تَذْهَبُ بِعَيْنِ النّجاسةِ]: فلا بد من كونها تذهب بالنجاسة فلا يجزئ ما كان أقل من النجاسة، أو مثلها بحيث لا يغلب على الظن زوالها به، فيلزمه أن يزيد عليها فتكون أكثر من صبة إذا لم تزل؛ لأن الشرع قصد إزالة النجاسة، فإذا بقي أثرها كان صب الماء وجوده، وعدمه على حدٍّ سواء في إزالتها، ولذلك لا بد من أن يكون الماء المصبوب أكثر من النجاسة حتى تحصل غلبة الظن بزوالها، هذا كله إذا كانت الأرض ترابية، أما إذا كان ما على الأرض من القماش، ونحوه مما يُمكن رفعُه، وغسله، وتطهيره فإنه حينئذ يُرفع، ويُغسل؛ كالثوب؛ ولذلك يرفع القدر الذي أصابته النجاسة، ويصب عليه الماء هذه طريقة، أو يعصره إذا أمكن عصره، وأما إذا لم يمكن عصره مثل ما هو موجود الآن من السجاد البساط الموكيت، ونحوه مما يشقُّ فيه العصر فإنه يكفيه صب الماء، ثم يسحبُ، ويُشْفَط، أو يُنْصَبُ، ويجفّفُ حتى يغلب على ظنك أن النجاسة قد زالت، لأن مكاثرة الصبّ تُذهب عينَ النجاسة، وأثرها، ولا يشترط أمر زائد على ذلك.
قوله رحمه الله: [وعَلى غَيْرِها سَبعٌ، إحداها بترابٍ في: نجاسَةِ كلبٍ، وخنزيرٍ]: عندنا النجاسات إما مخصوصة، وإما عامة، فالنجاسة التي تقع على أرض المسجد صورة مخصوصة قلنا يكفى فيها غسلة واحدة تذهب بعين النجاسة، ولا يشترط العصر في ذلك كما ذكرناه.
ثم يليها من المخصوصات نجاسة الكلب،
والخنزير:
أما نجاسة الكلب؛ فورد فيها حديث أبي هريرة، وعبد الله بن مُغفلٍ رضي الله عنهما الثابتان في الصحيح أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: [طُهُورُ إِناءِ أحدِكُمْ إِذا ولغَ فِيه الكلبُ أنْ يَغسِلَه سبعَ مَرّاتٍ] في رواية " إِحدَاهُنّ "، وفي رواية " أولاهُنّ بالتّرابِ " وفي رواية " وعَفّروهُ الثامِنَة بِالتُّرابِ " هذا الحديث دل على مسائل:
المسألة الأولى:
أنه إذا ولغ الكلب في الإناء، والولوغ أن يُدخل رأسه فيشرب من الإناء، أو يلحسه بلسانه، فإنه يجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب،
وفي التراب ثلاث روايات رواية:
" أولاهُنَّ " وصورتها أن تأخذ كفاً من تراب، وترميه في السطل، أو الماعون الذي ولغ الكلب فيه، ثم إذا رميت هذا الكفّ من التراب صببت الصبة الأولى من الماء، ثم الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، والسابعة، ويطهر الإناء بذلك، هذا إذا كانت غسلة التراب الأولى.
وأما رواية:
" إحداهُن " فهي مطلقة، إن شئت في الأولى كما ذكرنا، وإن شئت صببت الماء وغسلت الإناء الغسلة الأولى، ثم ترمي التراب بعد الغسلة الأولى، ثم تصب الماء للغسلة الثانية، فيكون التراب في الثانية،وهكذا بقية الغسلات بشرط أن لا تتأخر عن الغسلة السابعة من الماء لأنها إذا تأخرت بعد السابعة إحتاج إلى غسلة ماء ثامنة، وهي زائدة على النصِّ.
أما رواية:
" عَفّروه الثامنة " فهي محل إشكال؛ لأنّ الظّاهر أنّ معناه أنْ يكون بعد غسله سبع مرات يصبّ التراب، ثم يحتاج إلى ماء بعد التراب، وهو قول شاذٌ قال به بعض السلف،
والصحيح أن قول:
" عَفّروهُ الثامنة بالترابِ " أنها ليست غسلة ثامنة في الترتيب، وإنما هي ثامنة من حيث العدد، فتشمل جميع الصور السابقة في رواية " أولاهُنَّ "، و " إِحْدَاهُنَّ "، ولا تشمل الصورة الشاذّة التي تفهم من ظاهرها، وبهذا يكون معناها أن يكون التراب في إِحدى الغسلات فيما قبل الغسلة الأخيرة، فهو غسلة ثامنة من حيث العدد، والحساب لا أنه يكون غسلة ثامنة ترتيباً، وبهذا يزول الإشكال، وتتفق الروايات، ولا تتعارض.
وتلخص مما سبق: أن الحديث دلّ على وجوب غسل الإناء سبعاً، وتعفيره الثامنة بالتراب على الصّفة التي ذكرناها، متى؟ إذا حصل الولوغ،
وينبني عليه:
أنه لو أدخل رأسه، ولم يصب لسانه الماء، أو الإناء، فإنه لا يجب الغسل، ويبقى الإناءُ على أصله من كونه طاهراً، بمعنى أنه لا يكفى أن يدخل رأسه فقط،
بل لا بد أن يلغ وهذا هو مفهوم الشرط في قوله عليه الصلاة والسلام:
" إِذا وَلَغَ " فقيّد الحكم بوجود الولوغ.إذا ثبت أن الكلب يجب غسل ما ولغ فيه سبعاً، والثامنة بالتراب؛
فإنه يرد السؤال:
هل الحكم مخصوص بالكلب؟ أو يُقاسُ عليه غيرُه؟
قال بعض العلماء: يُقاس على الكلب غيره، فلو أن خنزيراً أدخل رأسه، وولغ في الإناء يغسل سبعاً والثامنة بالتراب، وهذا مذهب الحنابلة كما نصّ عليه المصنف رحمه الله، وهو قول مرجوح، والصحيح أن الحكم يختص بالكلب، وأما الخنزير فإنه لا يأخذ هذا الحكم.
والدليل على ذلك:
أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نصّ على الكلب وحده، وكان الخنزير موجوداً في زمانه، فلو كان يأخذ حكم الكلب لنصّ على ذلك عليه الصلاة والسلام ولقال: (والخنزير)، فاقتصاره على الكلب يدل على أن الحكم مختص به، وأنه لا يقاس عليه غيره.
قال رحمه الله: [ويُجْزِئُ عَنِ التُّرابِ أشْنانٌ، ونَحوُهُ]: لا زال المصنف -رحمه الله- يتكلم عن طهارة الإناء إذا ولغ فيه الكلب، وقد ذكرنا في المجلس الماضي أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعاً، وأن يكون ضمن غسلات الماء غسلةٌ بالتراب، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [طُهُور إِناءِ أحدِكمْ إذا وَلغ فيهِ الكلبُ أنْ يَغْسلَه سبعَ مراتٍ أُولاهُنَّ -وفي رواية- إِحداهُنَّ بالتُّرابِ] وإذا ثبت أن الكلب إذا ولغ في الإناء وجب غسله سبعاً، والثامنة بالتراب.
فإنه يرد السؤال: هل التراب مُتعينٌ، فلا يُجزئ عنه غيره، أم أنه غير متعين؟في مذهب الشافعية، والحنابلة رحمهم الله، وهم الذين يقولون بالتسبيع،
والتتريب ثلاثة أوجه:
الأول: أنه متعيّن؛ إلا إذا لم يجد غيره، فيحل محله الأشْنانُ، ونحوه.
والثاني: أنه غير متعيّن فيحل محله الأشنان، فالمكلف مخيّر إن شاء وضع التراب، وإن شاء وضع غيرَه.
والثالث: أنه متعيّن، ولا يحل غيرُه محله، سواء وجد التراب، أو لم يجده.
وأقوى هذه الأوجه الأول، فإذا لم يجد تراباً نظر إلى ما هو أقرب إليه، وهو الأُشنان، والصابون، ونحوه، ومشى المصنف رحمه الله على القول بعدم التّعيين، وينبني عليه أنّ المكلف إِنْ شاء غسله بالتّراب، وإن شاء غسله بالأشنان، فهو مخيّر، ولا يتعيّن عليه التراب.
قوله رحمه الله:
[وفِي نجاسَةِ غَيْرِهِمَا سَبْعٌ بِلا تُرابٍ]: قوله: [وفي نجاسَةِ غيرهما]: أي غير الكلب والخنزير تغسل النجاسة سبع مرات بلا تراب،
وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجزي أقل من ثلاث غسلات، وهذا القول وجه عند الحنابلة، واختاره الإمام الموفق ابن قدامة كما هو ظاهرُ العمدة.
القول الثاني:
جميع النجاسات من غير الكلب، والخنزير يجزيء أن تَصبَّ عليها صبةً واحدةً تُذْهِبُ عينَ النجاسة، وأثرَها، وهذا القول مذهب جمهورِ العلماء، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله على الجميع-.
القول الثالث:
لا بد في التطهير بسبع غسلات، فلو غسلت بأقل لا زال المحل نجساً، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد رحمه الله، وهي التي مشى عليها المصنف رحمه الله هنا في اختصاره.
وعند النظر في أدلة هذه الأقوال الثلاثة يتخلص ما يلي:أن أصحاب القول الأول إستدلوا بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِذَا استيقظَ أحدُكمْ مِنْ نَومِه؛ فَليغسِلْ يَديْهِ ثلاثاً قبلَ أَنْ يُدْخِلَهُما في الإِنَاءِ]،
قالوا:
إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بغسل اليدين ثلاثاً قبل إدخالهما الإناء؛ فدلّ على أن النجاسة لا تزول إلا بثلاث غسلات تزول بها النجاسة.والحق أنك إذا غسلت ثلاثاً فإنك ترى أن النجاسة قد زالت في غالب الأحوال، والحكم في الشرع إنما يُنَاط بالغَالبِ.
واستدل أصحاب القول الثاني:
بأن الصبّةَ الواحدةَ التي تذهبُ بعين النجاسة مجزئة بدليل السنة في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين في قصة بول الأعرابي،
ووجه الدلالة:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [صُبوا عليْهِ ذَنوباً منْ مَاءٍ]
ووجه الدلالة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتبر الصبة الواحدة مجزئة فدل على أن غسل النجاسة مرة واحدة يعتبر كافياً إذا أذهب عينها.
واستدل الذين قالوا: بالسبع بحديث أيوب بن جابر،
وهو حديث ضعيف:
[أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرَ بغسْلِ النجاسةِ سَبْعاً].
والذي يترجح في نظري، والعلم عند الله هو القول الأول،
وذلك لما يلي:
أولاً: لظاهر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، فإنك إذا نظرت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع أن النجاسة مشكوك فيها،
يقول عليه الصلاة والسلام:
[فَلْيغسِلْ يديْهِ ثلاثاً قبلَ أَنْ يُدخِلهُما فِي الإِناءِ].
ثانياً: أما حديث الأعرابي الذي فيه صبّة واحدة، فمحمول على الخصوص لأن الأرض لا يمكن عصر النجاسة التي عليها كما تقدم معنا في شرح الحديث،
فنقول:
الأصل التثليث إلا إذا كانت النجاسة على الأرض فصبّة واحدة تذهب بعينها، فنستثني هذا الخاصَّ من العامِّ.
ومما يقوي دليل التثليث:
أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر من ذهب إلى الغائط أن يأخذ ثلاثة أحجار، وهذا يقوي الأصل الذي ذكرناه من التثليث.ثم إن شاهد الحس أن الغالب في الثلاث أنها تزيل النجاسة فصار الإعتداد بها لأن الحكم للغالب.
تنبيه: محلُّ الخلافِ: إذا زالت النجاسة في كل قول بحسبه، أما إذا لم تزل النجاسة بثلاث، فإنه بالإجماع يطالب بالزيادة عليها حتى تزول، فهو مطالب بإزالة النجاسة حتى ولو وصل إلى عشر غسلات عند الجميع.
قوله رحمه الله:
[ولا يَطْهُر متنَجّسٌ بِشمسٍ، ولا بِريحٍ، ولا دَلْكٍ] مراده رحمه الله: أن إزالة النجاسة تكون بالماء على الأصل، ولا يحصل إزالتها بالتبخر بالشمس أو بالريِح، أو بالدّلك،
ومن أمثلة ذلك:
لو أنك رأيت النجاسة قد أصابت طرفاً من الأرض تصلي عليه، ثم هذا الموضع أصابته الشمس أياماً، ثم إنك وقفت عليه بعد ذلك فلم ترَ أثراً للنجاسة فقد زال أثر النجاسة عنه بالشمس فهل نحكم بطهارته،
إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن النجاسة لا تطهر بالشمس، بل لا بد من الغسل، وبه قال جمهور العلماء رحمهم الله.
القول الثاني: أن النجاسة تطهر بالشمس، وبه قال الإمام أبو حنيفة، واختاره شيخ الإسلام رحمه الله.
إستدل أصحاب القول الأول بما ثبت في الصحيح في قصة الأعرابي أنه لما بال في المسجد قال عليه الصلاة والسلام: [أَرِيقُوا عَلى بَوْلِهِ سَجْلاً منْ ماءٍ]
قالوا: لو كانت الأرض تَطْهُر بالشمس لما أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الصحابة بأن يتكلفوا بصبّ الماء على الموضع، ولترك الموضع حتى يطهر بالشمس خاصة، وأن أكثر مسجده عليه الصلاة والسلام لم يكن مسقوفاً، والغالب أن البول يكون في غير المسقوف، لأن الغالب في الأعرابي في مثل هذه الحالة أن يقصد الموضع المكشوف من المسجد، دون المسقوف.واستدل أصحاب القول الثاني بأن الشّمس تُطهّر كالماء بدليل العقل،
وقالوا:
" إِنّ الحُكْمَ يدورُ مع علتهِ وجُوداً، وعَدما " فلما كان حكمنا بنجاسة الثوب مبنياً على وجود النجاسة في الثوب؛ فإنه ينبغي أن يزول هذا الحكم بزوال النجاسة، وقد زالت بالشمس، فنرجع إلى الأصل الموجب لطهارة الموضع.والذي يترجح في نظري , والعلم عند الله هو القول بعدم التّطهير بالشمس،
وذلك لما يلي:
أولاً: أنّ الأصل في الطهارة أن تكون بالماء،
وهو الذي دلت عليه نصوص الشريعة:
ففي الكتاب قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} أي: مطهراً،
وفهم منه بعض العلماء رحمهم الله:
أن التطهير لا يكون بغيره؛ إلا ما استثناه الشرع، ولم يرد في الشمس إستثناء فبقيت على الأصل.
ثانياً: قوة ما ذكره أصحاب هذا القول من دليل السنة.
قوله رحمه الله:
[ولا رِيحٍ] أي لا يطهر الموضع المتنجس بالرّيح إذا أذهبت الريح النجاسة،
مثال ذلك:
لو أن إنساناً أصابت ثوبه نجاسةٌ، فنشره، فجاءت الريح وعبثت بالثوب حتى لم يبق للنجاسة أثر في الثوب؛ فحينئذٍ نقول: إن جريان الريح لا يوجب زوال الوصف المستيقن من كونه نجساً، بل لا بد من الغسل.
قوله رحمه الله:
[ولا دَلكٍ] مراده أن الدّلك لا يُزيل النجاسة،
وهذا هو الأصل فيه:
أنه لا يزيل النجاسة إلا أن الشرع استثنى بعض الأحوال، فاعتبره مزيلاً فيها،
ومن هنا فإن للدّلك حالتين:
الحالة الأولى: ثبت الشرع باعتبارها مُطَهِّرةً.والحالة الثانية: بقيت على الأصل من كون الموضع لا يطهر إلا بالغسل.أما الحالة التي ثبت الشرع باعتبار الدّلك فيها مطهراً فهي في نجاسة الحذاء، وثوب المرأة؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أمر بالصلاة بالنعال،
ومخالفة اليهود فقال:
[صَلُّوا في نِعَالِكُمْ] ثم قال: [فإِنْ وجَدَ أحَدكُم فِيهما أذَىً فليدْلكهما بالأرض، ثم ليُصلِّ فِيهِما]، فدل هذا على أن النجاسة تطهر بالدّلك، لعموم الأذى.ولما سُئل -عليه الصلاة والسلام- عن ثوب المرأة يصيب النجاسة عند جرّها له؛ لأن السُّنة في المرأة إذا لبست العباءة أن تكون سابغة بحيث تزيد إلى شبر، أو ذراع، وهذا أبلغ في السّتر، وهذه سنّة أضاعها كثير من نساء المؤمنين خاصةً في هذا الزمان،
فلما سُئلَ عما يُصيبهُ ذلك الثوب من النجاسة فقال:
[يُطَهّرهُ ما بَعْده] يعني: لو مرّت المرأة بعباءتها على نجاسة، ثم مرّت على موضع يابس أو على تراب يابس؛ فإن احتكاك هذا الثوب بالتراب يعتبر منظفاً له، كما لو صبّ الماء عليه، ولما كان الصحابة رضي الله عنهم يعلمون أنه سيمر على تراب، واستنكروا بقاء هذه النجاسة مع كونه يمرُّ على تراب دلّ هذا على أن الأصل في النجاسات أنها تغسل، إِذْ لو كانت بكل طاهر تزول لما استشكل الصحابة رضي الله عنهم كون المرأة تمرُّ بعباءتها، وتجرها على الأرض اليابسة.إذا ثبت هذا؛ فإن الدّلك في الأصل غير مزيل للنجاسة إلا ما ورد الشرع باعتباره فيه مزيلاً كما في مسألة الحذاء، وثوب المرأة.
قوله رحمه الله: [ولا استحالة غير الخمرة]:
الإستحالة: إستفعال من التحوّل، وهو الانتقال، والتبدل، والإستحالة تكون بنفس الشيء فتتحول المادة النجسة مع مرور الزمن إلى طاهرة، وقد تتحول بفعل فاعل.فأما ما كان من الإستحالة ناشئاً من نفس الشيء فالأصل أنه متنجس لا يحكم بطهارته إلا بالغسل إعمالاً للأدلة الشرعية التي أمرت بغسل النّجس، إلا أن الشرع استثنى الخمر إذا تخلّلت بنفسها كما سيأتي بإذن الله.
وأما ما كان من الإستحالة ناشئاً من فعل المكلف؛ فإنْ كان بصبّ الماء الطهور، أو الطاهر على الماء المتنجس بأكثر منه حتى يغلب على الظن تغيّره به، فإن كان طهوراً صار الماء المتنجس طهوراً بالمكاثرة، وإن كان طاهراً صار طاهراً كذلك، وهذا النوع راجع إلى تطهير النجاسة بالماء، ولا إشكال فيه، وقد ثبتت السنة باعتبار أصله، كما في حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين في قصّة بول الأعرابي حيث إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعتبر التطهير بالمكاثرة، فصب الطهور على النجس، وكان الطهور أكثر فاعتبره مطهراً، فدلّ على اعتبار المكاثرة مؤثرة في الحكم بالطهارة وزوال النجاسة.
(1) الفرقان، آية: 48.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #42  
قديم 23-07-2020, 11:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (42)

صـــــ358 إلى صــ371



[باب إزالة النجاسة]

قوله رحمه الله: [غير الخمرة] غير: استثناء،
الخَمْرةُ: والخَمرُ مأخوذ من قولهم: خمّر الشيء: إذا غطاه وستره، ومنه الخمار، إذا غطى الوجه، وسميت الخمر خمراً، لأنها -والعياذ بالله- تغطي عقل الإنسان، وتذهب إدراكه، وشعوره، والخمرة تكون مائعة في الأصل، ولكن العلماء إذا أطلقوا الخمر، فإن مرادهم بها الشراب المائع، الذي يكون من العنب، والتمر، والزبيب، وغيره من سائر الثمار، فهذه الخمرة محكوم بنجاستها، وقد تكلمنا على هذه المسألة، وفصلنا القول فيها في شرح بلوغ المرام، فإن الذين قالوا بنجاستها،
وهم جماهير العلماء حكموا بالنجاسة لظاهر القرآن في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} (1) والرِّجْس: هو القذر في أصل اللغة، والقذر في الشرع أصله النّجس، وقالوا خرجت الأزلام، والأنصاب، فأما الأنصاب فإنها نجسة،
لأنها كانت حجارة يذبح عليها كما قال تعالى:
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}، فيكون الدم المسفوح النجس قد أصابها فهي نجسة، والميسر، والأزلام خرجا من وصف النجاسة الحسّية بدلالة الحسِّ، وأما بالنسبة للخمرفليس هناك دلالة تخرجها فبقيت على الأصل، وهي مستقذرة فتبقى على وصف الرّجس في الشرع، والشرع قد خصّ الرجس بالنّجس، فخَصّص الحقيقة اللغوية به.
واستدل من قال بطهارة الخمر: بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإراقة مزادتي الخمر فإنه أمر الصحابي أن يُريقَ الخمرَ من المزادتين،
قالوا:
ولم يأمره بغسلهما، وهذا استدلال ضعيف كما نبّه عليه غير واحد من أهل العلم، فإن سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أمره بغسل مزادة الخمر؛ إنما سكت للعلم به بداهة، فإنك إذا وضعت في هذه المزادة لبناً، وأرقت اللبن ماذا تفعل؟ معلوم بداهة أنك ستغسلها، فسكت -عليه الصلاة والسلام- عن الأمر بالغسل لكونه واقعاً لا محالة.
وقال بعض العلماء في جوابه:
لو قيل بظاهر سكوت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه يدل على خلوها لاحتج بذلك محتج،
وقال:
يجوز لمن أخذ مزادة الخمر بعد تفريغها، وصبَّ فيها لبناً قبل غسلها؛ فإنه لا ينكر عليه؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يأمر بغسلها،
فيكون الجواب: بأنه سكت عن الأمر بغسلها للعلم به بداهة، فكما أنه في المشروبات المباحة نأمر بالغسل، ونقول سكت عنه للعلم به بداهة،
كذلك هنا نقول:
سكت عن الأمر بغسل نجاسة الخمر للعلم به بداهة، فهو يعلم عليه الصلاة والسلام أن صاحبها سيغسلها لا محالة، فلم يأمره بالغسل، ولم يصحّ الإستدلال بسكوته عن أمره بذلك على طهارة الخمر.
وأما صبّها في سكك المدينة فقد بيّن العلماء أن هذا لا يدل على طهارتها؛ وذلك لأنّ الصحابة رضي الله عنهم إذا صبّوها في سكك المدينة فإن الغالب فيهم أنهم يتقونها، ولو فرض أنهم مشوا عليها بالنعال، فإن المشي على الأرض اليابسة بعد ذلك يطهّر النِّعال، ولو أن امرأة جرّت ثوبها على خمرة مُرَاقةٍ، ثم مضت بعد ذلك إلى أرض يبسة؛ فإنها تطهره بذلك الجرِّ، وبناءً على ذلك لا يعتبر هذا دليلاً قوياً كما نبّه عليه الشيخ الأمين -رحمة الله عليه- وله فيه بحث نفيس في تفسير آية المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} وبيّن أن قول الصحابي: [جَرتْ بِها سِكَكُ المدينةِ] وصف فيه مبالغة، وليس على ظاهره، فأقوى الأقوال القول بنجاستها، وهو مذهب جماهير السلف، والخلف،
حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله:
(الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة) ولم يحك قولاً مخالفاً في نجاستها.
وقال بعض العلماء:
في إِستدلالهم على طهارة الخمر بدليل غريب حيث قال: إن الله تعالى يقول: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (1) فوصف الخمر بكونها طهوراً، وقد فاته أن الله -عز وجل- حكم بأن خمر الآخرة لا غولٌ فيها، والغَول، والكحول هو أساس نجاسة الخمر في الدنيا، فإذاً نجاسة الخمر في الدنيا مبنيّة على وجود هذه المادة التي تستحيل إذا صارت الخمر خلاً، ويُحكم بطهارته،
ولما كانت خمر الآخرة طاهرة من جهة عدم وجود الغول فيها قال تعالى:
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} وقلب بعض العلماء هذا
الإستدلال فقال: بل هو دليل على نجاستها؛ لأنه لو كانت خمر الدنيا،
والآخرة متساويتين لما قال:
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} فلما كانت خمرة الدنيا نجسة وصف خمر الآخرة بعكسها، كما أنه لما كانت خمرة الدنيا تصدّع الرأسَ،
وصف خمرة الآخرة بضدّها فقال سبحانه:
{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} فصار الإستدلال بهذه الآية مقلوباً، حيث دلَّ على نجاسة الخمر، لا على طهارتها.وإذا ثبت أن الخمر نجسة فإنها إذا إِستحالت،
وصارت خَلاً فلا تخلو تلك الإستحالة من حالتين:
الحالة الأولى: أن تتخلّل بنفسها.
الحالة الثانية:
أن تتخلّل بفعل المكلّف.فإن تخلّلت بنفسها؛ فإنها تطهر؛ لدليل الشرع كما في الصحيح من حديث مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال:
[نِعْمَ الإِدَامُ الخلُّ] فأثنى عليه، والثناء يدلُّ على الإباحة، فأجاز لك أن تأتدم بالخل،
والخل:
أصله خمر، إذا ثبت هذا، فإنها إذا تخلّلت بنفسها طَهُرَتْ على ظاهر هذا الحديث.
فقد يقول قائل:
إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أثنى على الخلّ مطلقاً، سواء تخلّل بنفسه، أو تخلّل بفعل المكلف؛ فجوابه ما رواه أحمد، وأبو داود أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [نهى عَن تَخلِيلِ الخمْرِ]، وذلك لما سئل عن تخليلها، وقال: " لا " وأمر أبا طلحة في خمر الأيتام أن يُريقَ الخمر، ويَكْسِر الدِّنَّان وهي أوعية الخمر، ومعلوم أن هذا مال أيتام،
فلو كانت الخمر تتخلّل بفعل المكلف لقال له:
خَلّلْهَا؛ لأنه مال يتيم يُحفظ، ولا يُراق إذا أمكن استصلاحه، وبهذا يزول الإشكال، ويتبيّن أن الحديث الدّال على حلِّ الخل، وإباحته شرطه أن تكون الخمرة قد تخلّلت بنفسها، لا بفعل الغير.
قوله رحمه الله: [أو تَنجّس دهنٌ مائعٌ؛ لم يَطْهُرْ] الدهن مثل: السمن، والزيت،
والسّمنُ من أمثلته:
ما يُستخلص من الشحوم من بهيمة الأنعام،
والزيت مثاله:
ما يُستخلص من النباتات، مثل زيت الزيتون، والسِّمْسِم، واللّوز، ونحوه، فالدهن إذا كان سمناً جامداً، ووقعت فيه نجاسة، فالحكم أنك تأخذ النجاسة وما حولها، لظاهر حديث الفأرة إذا ماتت في السمن الجامد، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بإلقائها، وما حولها، فدلّ هذا على أنّ الدهن إذا كان جامداً طَهُر بزوال عين النجاسة بإلقائها، وما حولها.وأما إذا كان مائعاً، ووقعت فيه النجاسة فإنّ المصنف رحمه الله نصّ على أنه متنجس لا يَطْهُر، وهذا مبني على القول بأن نجاسة الدهن نجاسة ممازجة،
وقد بيّنا هذه المسألة في الشروح في دروس الجامعة وأن للعلماء رحمهم الله قولين مشهورين فيها:
هل نجاسة الدهن نجاسة عين، أو نجاسة مجاورة؟ فعلى القول الأول لا يمكن تطهيره، وهو مبنيّ على حديث الفأرة في روايته الضعيفة أنه إذا كان الدهن مائعاً لا يُقْرب، وهو قولٌ عند المالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، ونصّ عليه المصنف رحمه الله،
بقوله:
[دُهنٌ مائعٌ].
والقول الثاني عندهم جميعاً يقول: نجاسة الدهون نجاسة مجاورة، لا نجاسة عين، لأن النجاسة إذا وقعت في السمن انحازت، وتميزت عنه، فلو وقعت في زيت وجدتها تَنْحازُ، ولا تختلط به،
قالوا:
فنجاسته نجاسة مجاورة، ونجاسة المجاروة ليست كنجاسة العين التي تحصل بها الممازجة بين النجس والطاهر كما نشاهده في البول، حينما يقع في الماء، فإنه يتحلّل فيه ويمتزجا كالشيء الواحد، ففرّق العلماء بين النجاسة بالمجاورة وهي التي يكون فيها جرم النّجس منفصلاً عن الطاهر، وبين النجاسة التي تمازج الطاهر.إذا علمنا أن عندنا قولين فما هو أقواهما؟ الذي يترجح في نظري والعلم عند الله هو القول بأن نجاسة الزيوت، والدهون نجاسة مجاورة، وليست ممازجة، فإن دليل الحس ظاهر في قوة هذا القول حيث يشاهد عدم اختلاط النجس بالزيت، وعدم ممازجته له مما يدل على ضعف تأثيره عن الممازج المخالط، فنجاسة هذه المائعات، والدهون نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة.
قوله رحمه الله:
[وإِنْ خَفِي موضعُ نجاسةٍ غَسلَ حَتّى يَجزمَ بِزَوالهِ]: مراده رحمه الله أن يجزم بإصابة النجاسة، ووقوعها على الطّاهر، ولكنه لا يستطيع أن يحدّد موضعها حتى يزيلها.
مثال ذلك:
لو أن إنساناً مرّ على موضع، فتطاير من ذلك الموضع النّجس ذرّاتٌ من نجاسة، وتحقّق أنها أصابت ثوبه، ولكن لا يعلم أين المكان الذي أصابته النجاسة من الثوب؟
وحكمه حينئذ:
أنه يجب عليه أن يغسل من ثوبه الموضع الذي أصابته النجاسة بقدر ما يجزم معه أنه قد أصاب فيه موضعها.فلو جزم أن النجاسة أصابت أسفل ثوبه بحدود الربع، ولكن لا يدري: هل هي في الجانب الأيمن من الثوب،
أو الأيسر فإننا نقول له:
إغسل ربع الثوب السُّفلي كلّه حتى يَجزم، ويَستيقنَ أنّ ثوبه طاهر، وهكذا بقية الصور والمسائل.
قوله رحمه الله: [ويَطْهُر بَولُ غلامٍ لَمْ يَأكُلِ الطعامَ بِنَضْحِهِ] أي أن الشرع خفّف في نجاسة الغلام الذي لم يأكل الطعام، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ أمّ قيسٍ بنتَ مِحْصَنٍ رضي الله عنها أَتت بِصبِّيها إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأجْلَسه في حِجْرِه، وكان -صلوات الله وسلامه عليه- يؤتى له بالولود فيحنّكه، ويدعو له بالخير -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا من مكارم خلقه -صلوات الله وسلامه عليه-، فأجلسه في حِجْره، فلما أجلسه بالَ عليه؛
قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: " فأخَذَ مَاءً فَرشَّه " وفي رواية " فَنَضَحَه بماءٍ، ولم يَغْسِلْه " كما هي رواية السنن، هذا الحديث دلّ على أن بول الغلام يُنضح،
والنضح:
أن تأخذ كفّاً من ماءٍ، وتَرشُّه به،
وأما الغسل:
فإنك تصبّ الماء على الموضع، وتُعمّمه به، فالرّشُ، والنّضْحُ أخفّ من الغسل، فخُفف في نجاسة الغلام، وأكد هذا حديث علي -رضي الله عنه-
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[يُغسلُ منْ بولِ الجاريةِ، ويُنضحُ منْ بولِ الغُلامِ] هذا القول هو قول الجمهور من العلماء رحمهم الله: إن بول الغلام يُرشُّ، ولا يُغسلُ، وبول الجارية يغسل،
وهنا مسائل:
المسألة الأولى: أن الحكم يختص بالغلام الذي لم يأكل الطعام أي مدة رضاعه، فإن فُطِمَ فإنه يجب غسله؛ قالوا: إن الحديث الوارد في المسألة نصّ على ذلك بالمنطوق في الذي لم يأكل،
ومفهومه:
وجوب الغسل في الذي فُطِمَ، وأكل،
وذلك في قولها في الرواية الصحيحة:
[لمْ يَأكُلِ الطعامَ]،
ولذلك يقولون:
إنه إذا فطم يجب غسل بوله كالجارية سواءً بسواء،
ثم يرد السؤال عن مسألة وهي:
لماذا فُرقَ بين الغلام، وبين الجارية؟
والجواب:

أولاً:
ينبغي على المكلف أن يسلِّم بالشَّرع، وأن لا يتكلّف البحثَ عن العلل، وأن يتعبّد الله -عز وجل- بما ثبت به دليل الكتاب، والسُّنة؛
قال بعض السلف رحمه الله:
على الله الأمر، وعلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البلاغ، وعلينا الرضا، والتسليم،
فمن الإيمان بالله أن المكلف إذا جاءه الحكم قال: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا، وإليك المصير، وأثنى الله على هؤلاء الذين يُسلِّمون، ولا يتكلّفون في بحث العلل، والتّقصي فيها.لكن إذا وجدت الحاجة للبحث عن العلّة، كما يفعل العلماء رحمهم الله في النصوص التي تحتمل التَّعليلَ فلا حرج، أما الأصل فهو التّسليم، والرِّضا بحكم الله سواء علمنا العلّة، أو لم نعلمها،
ثم إنهم إِختلفوا فيما يظهر لهم في العلّة:فقال بعض العلماء: خُفّف في بول الغلام، وشُدّد في بول الجارية لسبب موجود في ذات البول، فإن بول الجارية أثقل من بول الغلام، فخُفف في بول الغلام دون بولها قبل الفطام، لضعف مادته.
والوجه الثاني:
أنه خفف لصورة بول الغلام، وذلك أنه لا ينتشر، وبول الجارية ينتشر.
وهاتان العلتان ضعيفتان.
أما علة من قال: إن بول الجارية أثقل من بول الغلام فهذا لم يسلّم به حتى إن بعض الأطباء أكدّ ردّه وعدم صحّته.
وأما التعليل بالإنتشار، وعدمه، فضعيف لأنه لا فرق في النّجس بين كونه منتشراً، أو غير منتشر فالقطرة من البول منجّسة، سواء انحصرت، أو انتشرت، فالحكم واحد، ثم إن كلا البولين سينتشر بالسّريان فاستوى أن يكون في حاله الأول منتشراً، أو غير منتشر.
وأقوى العلل هي قولهم: إن الشرع خفف في بول الغلام أكثر من الجارية؛ لأنهم كانوا يحملون الغلمان أكثر من الجواري في محضر الناس، فتجدهم يحملون الغلمان، لأنهم يستحيون وكانوا يتعاطون الكمال في إخفاء المرأة حتى في حال الصّغر، فكانوا يحملون الصبيان، ويحضرونهم المجالس أكثر، وقد يحضرون الصبية كما في حديث أُمامة لما حملَها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنّه نادر، والحمل أكثر ما يكون للذكور بالنسبة لمجامع الناس، فخُفّف من أجل المشقة في الصبيان أكثر من الجواري غالباً.هذا بالنسبة لقضية بول الغلام، وبول الجارية.
وإذا قلنا إن الحكم يختص بالبول، فإنه لا يسري إلى غيره كالدّم مثلاً؛ لأن الحكم جاء على سبيل الإستثناء فانحصر في الوارد، ولم يلتحق به غيره.
قوله رحمه الله:
[ويُعْفَى في غيرِ مَائعٍ، ومطْعومٍ عنْ يَسيرِ دَمٍ نَجِسٍ منْ حَيوانٍ طَاهرٍ]: بيّن المصنف رحمه الله في هذه العبارة بعض المستثنيات في باب إزالة النجاسة، وهو يسير الدم، وأن محلّ الإستثناء ألا يكون في مائع، ومطعوم، والدّم نجس، وهو قول جاهير العلماء -رحمة الله عليهم-
لقوله عليه الصلاة والسلام: [إِغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ]،
وكذلك قوله في دم المرأة المستحاضة: [إِنما ذَلكِ عِرْق] قالوا: فكما أن دم المستحاضة خرج من عرق فسائر دم الإنسان في أصله خارج من عرق،
وظاهر القرآن دال على نجاسته كما في قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... } إلى قوله: { ... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (2) والدم المسفوح يكون من البهيمة عند قتلها، وتذكيتها، ويكون من الآدمي فهو الدم الذي يخرج من الجسد في حال الحياة، ولذلك أجمعوا على أن الدم الذي يخرج عند ذبح الشاة،
أو نحر البعير أنه نجس هذا بالإجماع كما حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع فقال: " أجمع العلماء على أن الدم المسفوح عند التذكية أنه نجس "،
وذلك لظاهر قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... } إلى قوله: { ... فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فالجماهير لما قالوا بنجاسة الدم قالوا: إن القرآن أطلق فوصف كل دمٍ مسفوح بكونه رجساً،
والدم المسفوح:
هو الخارج في الحياة؛ لأن الذي عند الذكاة خرج والبهيمة حية، ولذلك إذا سكنت، وماتت بالتذكية؛ فسائر الدم الذي في أجزائها يعتبر طاهراً.
والذين قالوا بطهارة الدم إحتجوا بأنه -عليه الصلاة والسلام- نحر الجزور، ثم سلخه، وصلّى، ولم يغسل أثر الدم، وهذا مردود بأن الدم الذي يكون عند السلخ طاهر، ولا يعتبر نجساً حتى يكاد يكون عليه الإجماع، ألا ترى أنه يؤخذ كتف البهيمة، ويُطبخ، ويُشوى، ويؤكل مع أن فيه الدم لكنه يعتبر طاهراً لأنه خارج بعد الذكاة من غير موضعها، فالإستدلال بهذا الحديث استدلال بما هو خارج عن موضع النزاع.
واستدلوا بحديث عبّاد بن بشر رضي الله عنه لما أصابه السهم وهو قائم يصلي في حراسته، فنزعه فنزف قالوا لو كان نجساً لقطع صلاته،
وهذا يعارض المنطوق الذي ذكرناه في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[إغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ]، وجوابه كما نبّه عليه شراح الحديث في غير ما موضع أن حديث الصحابي رضي الله عنه في النزف، والنزيف سواءً كان بسهم، أو باستحاضة متفق على أنه يُعتبر رخْصَة يعني يصلي الإنسان، ولو جرى معه الدم، كما صلّى عمرُ -رضي الله عنه- وجُرحه يَثْعُب؛ لأنه لا يستطيع إيقافه غالباً؛ وإنما يستقيم الإستدلال بهذه الأدلة أن لو كان الدم فيها من غير نزف بمعنى أنه يمكنه إيقافه، فلو كان كذلك لعارض ظاهر ما ذكرناه من النصوص، ولكنه ليس كذلك، ولذلك لا تعتبر هذه الأدلة حجة على الجمهور؛
لأن الجمهور يقولون:
إن المرأة المستحاضة إذا غلبها الدم تُصلي على حالتها، وكذلك الذي معه رعاف لو غلبه الرعاف يُصلي على حالته ولو كان الدم على ثوبه، أو بدنه إذا غلبه، وكان كثيراً؛ لأن التكليف شرطه الإمكان، فليس هذا الدليل في موضع النزاع، وكذلك الإستدلال بما ورد في قصة عمر رضي الله عنه لأنها بصورة النزيف الموجب للرّخصة.
ولذلك قال جمهور العلماء: إنّ الدمَ نَجِسٌ، وهو الراجح لدلالة النّصوص القويّة على رجحانه كما قدمنا، ولم يُخالف في ذلك إلا بعض أهل الظاهر، وبعض أهل الحديث رحمهم الله.
وإذا قلنا بمذهب الجماهير بنجاسة الدم، فإنه يُفرّق بين كثيره، وقليله، فقد أجمع العلماء على أن يسير الدم معفو عنه، وفيه حديث ضعيف، وهو حديث الدّرهم البَغْلِي، والصحيح أنه لا يثبت عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إستثناء هذا القدر؛ وإنما اُستثني بدليل الكتاب،
والإجماع أما دليل الكتاب فقوله سبحانه:
{أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} فلما حكم بنجاسة الدم، وصفه بكونه مسفوحاً،
والمسفوح:
هو الكثير، ومفهوم ذلك أن اليسير لا يأخذ حكم الكثير المسفوح فاستثني، وتأيد هذا بفعل الصحابة رضي الله عنهم كما صحّ عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهما لم يريا في البثرة شيئاً بل كان أحدهم يعصرها فيخرج منها الدم، ويصلي، ولا يغسلها،
وأما الإجماع:
فلأن جميع من قال بنجاسة الدم إستثنى اليسير، وإن كانوا قد اختلفوا فيما بينهم في حدِّ اليسير كما تقدم معنا، فهم بهذا متفقون على أن اليسير معفو عنه.
ونظراً لدلالة الكتاب، والإجماع إستثنى العلماء رحمهم الله يسير الدم، ولم يحكموا فيه بالأصل، لأنه محلّ العفو من الشرع.
ويستوي عند العلماء رحمهم الله في هذا الإستثناء أن يكون قدر الدرهم منحصراً في موضع معين، أو متفرقاً في مواضع، فما دام أنه بمجموعه لا يبلغ قدر الدرهم، فهو يسير، وعفو.
ثم إذا قلنا على القول المرجوح في مسألة القُلتين إن التّحديد بهما معتبر، فإن يسير الدم لو وقع في إناء دون القلتين حكمنا بنجاسته، ولا تدخل هذه المسألة معنا، وهذا هو ما أشار إليه المصنف رحمه الله بالتّعبير بالقيد في قوله [في غيرِ مائع، ومطعومٍ]، وأما على مذهب المالكية، والظاهرية الذي قدمنا رجحانه فإن العبرة بالتغيّر، فإن حصل تغيّر لم يُعفَ، وإلا كان عفواً، والمائع طاهر، وطهور بحسبه.
وإذا قلنا:
إن يسير الدم معفو عنه؛ فإنه يرد السؤال هل يلتحقُ بغيرِ الدّم غيرُه؟
فمن العلماء من قال:
أقْصُر الرّخصةَ على محلّها، فأعفو عن الدم وحدَه، لأنه هو الذي دل عليه دليل الكتاب، وهو الذي فعله الصحابة -رضوان الله عليهم- فيبقى غيره على الأصل.
وقال بعض العلماء:
ما دامت العلّة التخفيف، وأن اليسير لا يأخذ حكم الكثير، فنطرد ذلك في كل نجاسة،
فنقول:
يسير النجاسة معفو عنه سواء كان دماً، أو غيره،
والمذهب الأول:
أرجح، لإعماله لدليل الأصل، وقصر الرخصة على محلِّها، وعليه فإن الحكم باستثناء اليسير يختصّ بالدم وحده، ولا يلتحقُ به غيره من النّجاسات؛ كيسير المَذْي، والودْي، والبول، والغائط، فكلُّها باقيةٌ على الأصل لضعف دليل الإستثناء.
قوله رحمه الله:
[وعن أَثَرِ استجمارٍ بمَحَلِّهِ]: أي: يُعفى عن أثر استجمار في محلِّه،
والمحلُّ المراد به:
مخرج البول، والغائط، ومن المعلوم أن الإنسان إذا قضى حاجته؛ فإنه ربما غسل بالماء، وربما استجمر بالحجارة، أما لو غسل بالماء؛
فبالإجماع:
أنه يجب عليه غسل الموضع، وإنقاؤه هذا إذا كان بالماء.أما إذا تطهّر بالحجارة فمن المعلوم أن إنقاء الحجارة للموضع ليس كإنقاء الماء، بل لا بد من بقاء أثر للنجاسة في الموضع فخفّف الشرع في هذا الأثر اليسير
ولكن بشرط أن يكون في موضعه فلا يتجاوزه وهذا ما عبّر عند المصنف رحمه الله بقوله: [بِمَحلّهِ]،
ومن أمثلته أيضاً:
الجروح يُعفَى عن الدّم النّجِسِ الموجود في فتحاتها، ولا يجب غسله لوجود الضرر، والحرج، فكلّها من اليسير المعفو عنه.
(1) المائدة، آية:90.
(2) الأنعام، آية: 145.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #43  
قديم 23-07-2020, 11:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (43)

صـــــ371 إلى صــ383



[باب إزالة النجاسة]

قوله رحمه الله: [ولا يَنْجُسُ الآدميُّ بالموتِ]: قوله: [لا يَنْجُسُ]: أي: لا يُحكم بكونه نجساً، فلو سئلت عن آدمي مات؟
تقول:
هو طاهر، هذا هو أحد قولي العلماء -رحمة الله عليهم- أن الآدمي لا ينجس بالموت.
وقال بعض العلماء:
الأصل في الميتة أنها نجسة، واُستثْني الآدمي المسلمَ؛
لقوله عليه الصلاة والسلام: [المؤْمنُ لا يَنْجُس] وأُبْقِيتْ ميتة المشرك على الأصل،
وأكدوا هذا بقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}،
قالوا:
لما كانت الميتة في أصل حكم الشّرع نجسة كما نصّ الله -عز وجل- في غير موضع؛
فإننا نقول:
إنّ كل ميتةٍ نجسةٍ، إلا ما ورد الشرع بإستثنائه، فلما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إن المؤمنَ لا يَنجُسُ] وجدنا قوله " المؤمن " مطلقاً في حال الحياة، والموت فلا نحكم بنجاسته لا حياً،
ولا ميتاً وكما استثنى الشّرع المؤمنَ من الحكم بنجاسة الميتة بقوله عليه الصلاة والسلام:
[إنّ المؤمنَ لا ينجُسُ] كذلك إستثنى ميتة البحر بقوله عليه الصلاة والسلام: [هُو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيتتُهُ] فلم نحكم بنجاسة ميتة البحر، وبقي ما عدا ذلك على الأصل، ومنهم الكافر، والمشرك، هذا بالنسبة للمذهب الثاني.
وهناك مذهب ثالث: أن المشرك نجس حياً،
وميتاً لقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، ولقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [إِنّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ] ومفهومه: إن الكافر نجس حياً، وميتاً.
اعترض عليهم باعتراضات وجيهة منها: إن نساء أهل الكتاب يحل لنا نكاحهنَّ، وإذا جاز لنا نكاحَهنَّ فإنه لا بد من مخالطة، فكيف نخالط النجس؟!كذلك اُعترضَ عليهم بقصة ثُمامةَ بنِ أثالٍ الحنفىّ رضي الله عنه، فإنه -رضي الله عنه- أخذتهُ خَيلُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ماضٍ إلى العُمرة فأَمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِربطهِ في المسجدِ،
قالوا: ولو كان نَجِساً لما أدخله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المسجد، هذا بالنسبة للاعتراضات التي اُعترض بها عليهم.
وأجيب عنها:
بأنّ النّص بالنجاسة في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (1) ورد في المشركين ولم يرد في عموم الكفار،
إذ لو كان أهل الكتاب داخلين فيها لقال:
إنما الكفار نجس، لكنه قال: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ} َ، ووجدنا أن القرآن يفرق بين المشركين،
وأهل الكتاب كما في قوله تعالى:
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} (2) فلما فرق بينهم علمنا أن قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، المراد به عبدة الأوثان والذين لا دين لهم سماوي.
وأما حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه فأجيب عنه: بأنه خارج عن الأصل لمكان الحاجة؛ لأن المقصود دلالته على الإسلام، وتعريفه به فاغتُفِرَ ما يحصل من المفاسد في جنب ما يحصل من المصلحة العظمى وهي إسلامه؛ كما اغتفر النظر إلى المخطوبة، وهو محرم في الأصل في جنب ما يقصد من حصول المصلحة من الزواج، وقد مشى المصنف رحمه الله على مذهب من يقول بعدم نجاسة الكافر حياً كان، أو ميتاً.
قوله رحمه الله:
[وما لا نفْسَ لهُ سائلةٌ مُتَولِّدٍ مِنْ طَاهِر]: النّفْسُ: تطلق ويراد بها الدّمُ، وسمي الحيض نفاساً لمكان الدم الخارج، كما في الصحيحين من قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لعائشة: [مالَكِ أَنفِسْتِ؟]، وسُمِّيَ النِّفاس نِفاساً لوجود الدّم فيه، ومن هذا الإستعمال قول الفقهاء رحمهم الله في وصف بعض الحشرات ما لا نَفْس له سائلة، ويعنون به الحشرات من غير ذوات الدّماء؟ كبنات وردان، والصراصير، والبعوض، والبراغيث، ونحوها، وهكذا دود السُّوسِ في التمر، والدقيق، والحبّ كلُّه طاهرٌ،
والدليل على طهارته ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
[أُحلّتْ لنا مَيْتتانِ، ودَمانِ، أمّا المَيْتَتَانِ فَالجَرادُ، والحوت، وأمّا الدّمان فالكبدُ، والطُّحالُ] ولأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من هديه أنه حرّم سوسَ التّمرِ، أو أمر الصحابة رضي الله عنهم بإخراجه، وإنقائه.فلهذا نصّ جماهير العلماء رحمهم الله، والأئمة على طهارة ما لا نَفْسَ له سائلة.
ثم إن ما لا نفس له سائلة يكون في بعض الأحوال متولداً من غيره،
وحينئذ لا يخلو من حالتين:
الأولى: أن يكون متولداً من شيءٍ طاهر؛
مثل:
التَّمر، والحبِّ، والدقيق، والأجبان، ونحو ذلك، فهو طاهر وهذا هو الذي قصده المصنف رحمه الله،
وأشار إليه بقوله:
[مُتَولِّدٍ منْ طَاهرٍ].
الثَانية: أن يكون مُتولِّداً من نجس مثل: الدودِ المتولّدِ من عذرة الآدمي، ونحوها من النجاسات، فهو نجس لأن الفرع تابعٌ لأصله.
فبيّن المصنف رحمه الله أنه يُستثنى من الحكم بطهارة ما لا نفس له سائلة ما كان متولداً من النجاسة، وهذا هو ما يدل عليه مفهوم قوله [من طاهرٍ].
قال رحمه الله: [وبَوْلُ مَا يُؤكَلُ لَحْمُهُ، ورَوْثه]: التقدير طاهر، ومراده رحمه الله أن الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها، مثل الإبل، والبقَر، والغنم، والحمام، والدجاج، ونحوها كلها طاهرة الفضلة سواء كانت بولاً، أو روثاً.
وقد دلّ على طهارتها ما ثبت في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
[قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقوامٌ منْ عُكلٍ، أو عُريْنة، واجْتَوَوْا المَدِينَة] أي: أصابهم الجَوى، والجوى: نوع من الأمراض، لأن أهل البادية تكون مناطقهم نقيّة، ونافهة، فإذا دخلوا المدن يصيبهم هذا النوع من المرض، ويُسمّى الجوى، وسببه كما ذكر الإمام النووي،
وغيره:
إختلاف الموضع، والطعام عليهم؛ لأنهم ألفوا طلاقة الجوِّ، ونظافة ما يؤكل ويشرب، بخلاف المدن التي تكون وخيمة، ووبيئة عادة؛ بسبب كثرة الناس بها، وضيق أماكنها، فأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، وهذا من طبِّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عالج المريض بمألوفه، والأطباء يعتبرون هذا، وهو أن بعض الأمراض يكون علاجها بِرَد الإنسان إلى مكانه الذي ألِفَه، وإعتاد عليه،
حتى قالوا:
إنه يتأثر بأرضه، وهوائها، ومائها، وكان بعض الأطباء يُداوي بالماء الذي يكون في الموضع الذي وُلِدَ فيه الإنسان، وما فيه من مأكل، ومشرب، كما بيّنَهُ الإمام ابن القيم رحمه الله في الطبِّ النّبوي، ووجه دلالة هذا الحديث على طهارة بول ما يؤكل لحمه،
وروثه:
أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذنَ لهم بشرب البول، فلو كان نجساً لما أذن لهم بذلك؛
لأنّ النجس محرّمٌ شربه والله لم يجعل شفاء الأمّةِ فيما حرمه عليها كما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
[إِنّ الله لمْ يجعلْ شِفاءكمْ فِيمَا حَرمَ عَليكمْ] فأَمَرُهُ عليه الصلاة والسلام بالإستشفاء ببول الإبل يدلُّ على طهارته، وأكّد ذلك طوافه عليه الصلاة والسلام على بعيره، وصلاته النّافلة عليه في السفر كما ثبت في الصحيحين، ومن المعلوم أن البعير لا يسلم غالباً من طشاش بوله، وروثه على فخذيه، وما قارب مخرج البول، والروث، ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام يُصلي، ويطوف وهو راكب عليه فدلّ على طهارة روثه وبوله.ولما جاءت السنة أيضاً بالإذن بالصلاة في مرابض الغنم؛
دلّ ذلك على:
أن العلّة هي كون الإبل، والغنم من الحيوانات التي أذن الشرع بأكل لحمها.
فصح القول بطهارة فضلة مأكول اللحم سواء كانت بولاً، أو روثاً، كما نصَّ عليه المصنف رحمه الله في هذه العبارة، وقد قوى هذا المعنى المستنبط مما ذكرنا من الأحاديث السابقة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حُرّمَتْ لُحومُ الحُمُرِ الأهليةِ حكم بنجاستها،
فقال كما في الصحيح:
[إِنها رِجْسٌ] فدلّ على أن تحريم الأكل يوجب الحكم بالنجاسة، وعكسه يدل على الطهارة،
ولذلك وصف الله مباح الأكل بالطيب فقال سبحانه:
{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ولا طيب لنجسٍ.
قوله رحمه الله: [ومنيّه، ومنيّ الآدمي]: قوله: [ومنيّه]: أىِ: منيُّ ما يؤكل لحمه، فإنه يُعتبر طاهراً، لأنه فضلة، وقد تقدم بيان الدليل على ذلك، ولأنه إذا كان روثه، وبوله طاهر، فمن باب أولى المني؛ لأن فضلة البول، والروث أشدّ في حكم النجاسة من المنيّ، أصله الآدمي.وأما منيُّ الآدمي فقد تقدم وصفه، وضبطه في باب الغسل.
وهو طاهر في أصحِّ قولي العلماء رحمهم الله كما بيّناه في شرح البلوغ حيث ذكرنا فيه قولي العلماء رحمهم الله بالنجاسة والطهارهَ، وهل نجاسته مخففة، أو باقية على الأصل؟وقد دلّ على طهارته دليل السنة، كما بيّنا في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيح، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصلي بثوبه، وأثر الجنابةِ فيه.
وقد أنكرت رضي الله عنها على ضيفها حينما غسل الثوب من المنيّ، وجاء في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند البيهقي،
وغيره أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
[إنّما هو بمنْزِلةِ المُخَاطِ يَكْفِيكَ أَن تَحُتّه عَنْكَ بإِذْخِرَةٍ] فأكّد القول بطهارته.
وظاهر قول المصنف رحمه الله: [الآدميّ] العموم في الرجال، والنساء.
قوله رحمه الله:
[ورُطوبةُ فَرْجِ المَرأة]: الرطوبة: (سائل يخرج من رحم المرأة في حال الجماع، وغيره) فيخرج تارة بشهوة، وتارة بدونها، هذا السائل نصّ المصنف رحمه الله على طهارته، وهو رواية عند الحنابلة، ووجه عند الشافعية رحمة الله على الجميع، وقد بنوا مذهبهم على أن الأصل الطهارة، ولا دليل يخالفها، فوجب البقاء على الأصل الموجب للحكم بالطهارة.وذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى القول بنجاسته وهو الرواية الثانية عند الحنابلة، والوجه الثاني عند الشافعية رحمة الله على الجميع.واستدلوا على نجاسته بدليل النّقل،
والعقل:
أما دليلهم من النّقل فما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: [لِيَغْسِلْ مَا أَصابه مِنْها] وهذا الحديث وارد فيمن جامع زوجته، ولم يُترل حيث كان في أول الإسلام لا يلزمه غسلٌ للجنابة، ولكن يُؤمر بغسل فرجه، وما أصابه من رطوبة فرج المرأة، وهذا النصّ واضح في دلالته على نجاسة رطوبة فرج المرأة،
ووجه الدلالة:
أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بغسل الذكر مما أصابه، والذي أصابه أثناء الجماع إذا وقع بدون إنزال للمني إنما هو رطوبة الفرج، فدلّ هذا على نجاستها، ووجوب غسل ما أصابته.وأما دليل العقل؛
فهو القياس:
حيث إن رطوبة فرج المرأة تخرج عند شهوتها، فهي كالمذي في الرجل؛ فتكون نجسة.وإذا ثبت أن رطوبة فرج المرأة نجسة فإنه يرد الإشكال،
والسؤال:
بأنه قد تعم البلوى بهذه الرطوبة ومن النساء من تجلس ساعاتٍ مبتلاةً بهذه الرطوبة؛ فهل نحكم بالنجاسة أيضاً، وكيف تكون طهارتها؟
نقول:
إنها كالمستحاضة، فكما أن المرأة يصيبها دم الإستحاضة، ويستمر معها أحياناً شهوراً، والشريعة تحكم بكون هذا الدم نجساً، كما بين ذلك عليه الصلاة والسلام وذلك حينما أمر بغسله،
ويكاد يكون بالإجماع:
أن دم الإستحاضة نجس، ولم تَمْنَعْ كثرةُ دم الإستحاضة الحكمَ بنجاسته شرعاً؛ كذلك كثرةُ رطوبةِ الفرج لا تمنع الحكم بالأصل، لكن إذا كثرت على المرأة فإنّها تترخص برخص المستحاضة فيما تشبهها به، فتضع قطنة تشدُّ بها الموضع، فإن غلبها الدم فإنها تصلي على حالتها، وتتوضأ لدخول كل وقت، فالمرأة التي تغلبها الرطوبة، وتصل بها إلى درجة المشقة حكمها حكم الإستحاضة سواء بسواء على التفصيل الذي سنذكره فيها -بإذن الله تعالى- في كتاب الحيض، وهذا لا حرج فيه، ولا مشقة؛
لأن القاعدة في الشريعة:
" أَنَّ الأمرَ إِذَا ضاقَ إِتَّسَعَ "، فما دام أنه يضيق على المرأة، ويحرجها؛ فإنّها تتعبد الله -عز وجل- على قدر وسعها،
وطاقتها كما قال سبحانه:
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3).
وقوله:
[رُطُوبةُ]: فيه تخصيص، حيث دلّ على أن غير الرطوبة من فضلات بدن المرأة الأخرى تُعتبر طاهرة، ولا يُحكم بنجاستها مثل العرق والبصاق والريق واللعاب.
قوله رحمه الله: [وسؤرُ الهِرّةِ، وما دُونَها فِي الخلْقَةِ طَاهِرٌ]: قوله: [وسؤرُ الهِرّةِ]: السؤر: الفضلة من الشراب، واحد الآسَار،
وصورة المسألة:
أن تشرب الهرة من إناء، ثم تُبْقِي فضلةً بعد شربها فهذه الفضلة باقية على الأصل، ولا يُحكم بنجاستها لما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنه كانَ يتوضّأ من إناء، فجاءت هرة فَأصْغَى لها الاناءَ حتّى شربتْ، ثُمّ أتم وضُوءَه من سؤرها،
وكبشةُ بنتُ كعبِ بنِ مالكٍ تنظرُ إليه فقال:
أتَعْجبينَ يا إِبنَة أخي؟
فقالت:
نعمْ،
فقال:
إنّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِنها ليستْ بِنَجسٍ إنها من الطّوافينَ عليكُمْ، والطَّوافاتِ]، فدلّ هذا الحديث على طهارة الهرة حيث صرّح عليه الصلاة والسلام بعدم نجاستها، وفي هذا الحكم تيسير، ورحمة بالناس؛ لأن الهرة تخالطهم، وتكون معهم، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-
مشيراً إلى هذه العلّة:
[إنها منَ الطوافينَ عَليْكُمْ، والطوافَاتِ] ومن أهل العلم من قال: هي نجسة، ولكن خُففَ في حكمها لمكان المشقة؛
وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام:
[إِنها منَ الطّوافينَ عَليكمْ، والطّوافَاتِ] قالوا: إذ لو كانت طاهرة في الأصل لقال: إنها طاهرة،
لكن كونه يقول:
[إنها من الطّوافينَ عليكمْ، والطّوافاتِ] كأنه يقول: إن فيها من الحرج،
والمشقة ما يوجب التخفيف في نجاستها وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ولكنّ قوله عليه الصلاة والسلام:
[إِنّها ليستْ بِنَجَسْ] صريح في الدلالة على نفي نجاسة الهرة، فترجّح به مذهب الجمهور رحمهم الله.
قوله رحمه الله:
[وما دُونها في الخِلْقَةِ] الضمير عائد إلى الهرة، ودون
الشيء: أقلّ منه؛ ضدّ الأعلى،
وظاهر كلام المصنف رحمه الله العموم أي:
أن كل ما كان من السباع دون الهرة في الخِلْقَة فهو طاهر مثل: النِّمْسِ، والنّسْناسِ، والقُنْفذِ، وابنِ عُرْسٍ، والفَأرِ.وأما ما كان فوق الهرة في الخِلقة من السباع فنَجِسٌ،
ومثاله:
الأسدُ، والنّمرُ، والذِّئبُ، والفَهْدُ، والكَلْبُ،
وكذلك سباع الطير مثل:
النّسرِ، والصّقرِ، والبَازِ.ويدخل في ذلك ما لا يؤكل لحمه فيلتحق بالسباع كما نصَّ عليه بعض فقهاء الحنابلة رحمهم الله،
ومثاله:
الفيل، والحمار.وكذلك ما توالد من مأكول اللحم، وغيره كالسِّمع ولد الضَّبع من الذِّئب.فأصبح القدر المعتبر عندهم بالهرّة فما كان مثلها، أو زاد عليها من السباع، أو كان محرم الأكل فإنه نجس وسؤره كذلك، وما كان دونها فإنه طاهر، وسؤره طاهر، وهذا القول مرجوح لأنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إستثنى الهِرَّة من أصل عام، فبقي ما عداها على الأصل؛ لكننا لا نحكم بنجاسة سؤره إلا إذا تغيّر كما تقدم معنا في مسألة القُلّتين،
والحنابلة إحتاجوا إلى هذا لأن مذهبهم:
أن ما دون القُلّتين ينجُس بمباشرة النجاسة سواء تغيّر، أو لم يتغيّر، وأما الحكم بطهارة الحيوان، ونجاسته فهذا راجع إلى حِلِّ أكله، وحرمته على تفصيل سيأتي -بإذن الله تعالى- في محله في كتاب الأطعمة.وإذا تبيّن أن الهرة طاهرة، وأن سؤرها طاهر، فإن هنا مسألة ينبغي التّنبيه عليها، وتُعتبر مستثناةً من هذا الحكم،
وهي:
أن تراها قد أصابت نجاسة ورأيتها على فمها، فإن سؤرها نجس إذا تغيّر بذلك النجس.
صورة ذلك: لو رأيتها إِغتذت بميتةٍ، فنهَشَتْ من لحمها، ورأيت فضلة اللحم الذي نهشته على فمها، وشَرِبَتْ من إِناءٍ بعد ذلك، وأفضلت السؤر متغيّراً لونه، أو طعمه، أو رائحته بتلك النجاسة؛ حكمنا بكون الماء متنجساً؛ لكن هذا في بعض الأحوال؛ لا في كلّها فيقتصر الحكم بنجاسة السؤر عليها، وعلى أمثالها من الصُّور مما يتغير فيها الماء بعد شرب الهِرّة منه، وهذا معنى قول الإمام خليل بن إسحاق في مختصره [وإِنْ رِيئَتْ على فَمِهِ عُمِل عَليْها] فقوله: [وإن رِيئَتْ] يعني: رُئيت النجاسة،
وقوله:
[على فَمِه] يعني فَمَ الهِرِّ عُمِل عليها يعني حُكِمَ بِحُكْمِها إن أثّرت في الماء فالماء نجس، وإن لم تؤثر فالماء طهور.
قوله رحمه الله: [وسباعُ البهائمِ، والطّيرِ، والحمارُ الأهليُّ، والبغلُ مِنْه نجسة] أي: أن جميع هذه الحيوانات محكوم بنجاستها فيدخل في قوله: [سِباعُ البَهائمِ] الأسد، والنّمر، والفَهْد، والذِّئب، ونحوها،
وقوله:
[والطّيرِ] أي: سباعُ الطّير، وهي الطيور الجارحة كالصّقر، والبَاز، والنّسر، والعُقَاب، والشَّاهين، ونحوها كلُّها نجسة.
وقوله: [والحمارُ الأهليُّ] أي: أنه نجس،
ومفهوم قوله:
[الأهْلِيُّ] أن الحكم خاص به، فلا يشمل حمار الوحش لأنه مباح الأكل طاهر، كما دلّت السّنة على ذلك في حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح.
وقوله:
[والبَغْلُ] هو الحيوان المعروف، وهو متولد من طاهر مباح الأكل، وهو الخيل، ونجس محرم الأكل وهو الحمار الأهلي،
ولذلك أشار إلى تولّده من الحمار الأهلي بقوله:
[والبغلُ مِنْه] فالضمير عائد إلى الحمار، دون ما تولد من الخيل.أما الدليل على تحريم هذه الأشياء، ونجاستها فهو مبني على أنّ السنة دلّت على أن محرَّم الأكل نجسٌ في الأصل، وذلك لما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما نزلَ تحريم الحمُرِ الأهليّةِ أمر بإِكْفاءِ القدور،
وإراقتها وقال: [إِنها رِجْسٌ]، وفي هذا دليل على أن المطعوم إذا صار حراماً حُكِمَ بنجاسته فصار كالميتة التي لا تَعْملُ فيها الذكاة، فلا يَطْهُر حياً، ولا ميتاً، وأما الدليل على تحريم أكل هذه الحيوانات فسيأتي بيانه بإذن الله تعالى في كتاب الأطعمة، وتفصيل أحكامه، والله تعالى أعلم.
(1) التوبة، آية: 28.
(2) البينة، آية: 1.
(3) البقرة، آية: 286.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #44  
قديم 23-07-2020, 11:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (44)

صـــــ383 إلى صــ395



[باب الحيض]
قال الصنف رحمه الله: [باب الحيض]: الحيض باب عظيم، تتفرّع عليه مسائل مهمّة تتعلق بعبادات الناس، ومعاملاتهم، ولذلك إعتنى به المحدثون، والفقهاء -رحمة الله عليهم-، وما من كتاب يتكلم عن أحكام الشريعة في العبادات؛ إلا عقد له باباً خاصاً أورد فيه أحاديثه إن كان من كتب الحديث، أو أحكامه إن كان من كتب الفقه، وإتقانه ليس من السهولة بمكان بل هو عسير؛ إلا على من يسره الله عليه، ولذلك بين الإمام النووي -رحمه الله-: " أنه منْ عويصِ الأَبوابِ "، ولا شك أن الذي يتقنه يسدُّ ثغراً عظيماً من ثغور الإسلام.
والسبب في ذلك أن المرأة تلتبس عليها صلاتها، وصيامها، وعمرتها، وحجها، وغير ذلك من عباداتها التي تشترط لها طهارتها، ويلتبس على الرجل إباحة جماعها، وجواز تطليقه لها، وانقضاء العدة، وعدم انقضائها، كل هذه المسائل تحتاج معرفة جوابها إلى الإلمام بالأحكام التي بينها العلماء رحمهم الله في باب الحيض.ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني به.وقد ألف العلماء -رحمة الله عليهم- فيه تآليف مفيدة، وجمعها الإمام الدارمي في كتاب مستقل، وتكلّم الإمام النووي -رحمه الله- على مسائله فيما لا يقل عن مائتي صفحة،
وقال:
(إنه لم يستوعب شتاتها)، والحيض حينما يبحث،
يبحث من وجهين:
الوجه الأول: أصول باب الحيض، وهي المسائل التي تنبني عليها أحكامه في الأصل؛ كما في مسائل أقل الحيض، وأكثره، وأقل الطهر، وأكثره، وضوابط العادة، والتمييز، وعلامة الطهر، ونحوها من المسائل.
والوجه الثاني:
الفروع المتعلقة بهذه الأصول، ومسائلها مهمة جداً، وهي تنبني على مسائل الأصول فينبغي على طالب العلم أن يعتني بضبطها، وكيفية تخريجها، وبنائها على أصولها،
قال بعض أئمة الحديث:
(في الحيض ما يقرب من مائة حديث، ولهذه الأحاديث ما يقرب من مائة، وخمسين طريقاً)،
ولذلك قال الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله:
(هي مسائل تأكُلُ الكَبِدَ، وتُنْهِضُ الكَتِدَ، ولا يُتْقِنُها منكم أَحدٌ).
ومن أوضح الدلائل على أهمية مسائل الحيض، وصعوبة ضبطها ما قاله الإمام أحمد رحمه الله: (إنّه جلس فيه تسع سنوات حتى فهمه)،
وللأسف نجد من يُثَرّب على العلماء ويقول: علماء الحيض والنفاس، ووالله الذي لا إله إلا هو لو أمست امرأته حائضاً، وهو لا يعرف أحكام الحيض، والنفاس لما أحسن جوابها، ولعرف قدر علماء الحيض، والنفاس، ولو انتصب أمام مسائل الناس، وفتاويهم وما ينزل بهم في حيض نسائهم، ونفاسهم من مسائل العبادات، والمعاملات، وما يترتب عليها من أحكام شرعية لعرف فضل علماء الحيض، والنفاس، ولذلك لا يجوز لأحد أن يستخفّ بهذا الباب، والاستخفاف بعلمائه يدل على مرض في قلب صاحبه، وهذه كلمة قد ينطق بها صاحبها، ولا يعلم مقدار خطرها عليه في دينه، وعند ربّه كما
قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (1)، ولذلك ما جاء الأمة البلاء إلا من الغلو، تجد العابد الصائم القائم يحتقر طلاب العلم، ويحسَّ أن الدين هو الصيام والقيام، وتجد طالب العلم يحتقر العابد، وهذا لا يجوز؛ وهو سبب الهلاك كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[إنما أهلكَ منْ كانَ قبلكمْ الغُلُو] فلا يجوز الغلو في الدين، فالإنسان إذا فتح الله عليه في طاعة فعليه أن لا يحتقر غيره، فكل على ثغرة،
والله يقول:
{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (2) فأنبه على هذا؛ لأنها مسألة خطيرة جداً أن يُستهزئَ بالعلماء، وينبغي على طلاب العلم أن يتنبهوا لهذه الآفة من آفات اللسان -نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الهوى، والردى-، المقصود أن هذا الباب باب عظيم، وينبغي على طالب العلم أن يتهيأ لضبطه، وإتقانه.
قوله رحمه الله: [باب الحيض]: الحيض في اللغة: السيلان.
يقال: حاضَ الوادي: إذا سالَ ماؤُه،
وحاضت السّمرةُ:
-وهي نوع من الشجر-، إذا سال منها الصُمْغُ، والمرأة حائض، وحائضة، ونُوزع في الثاني، لأن الذي لا يشترك فيه الذكر، والأنثى لا يُؤنث بالتاء،
فيقال:
امرأة حائضٌ،
كما يقال:
امرأة طالقٌ؛ لأن الرجل لا يُطلق، وكذلك لا يحيض،
ولا يقال:
امرأة طالقة، أو حاملة.
واختلفت تعاريف العلماء للحيض اصطلاحاً،
منها قولهم:
[دمٌ يُرخِيه رحمُ المرأةِ عادة لغيرِ مرضٍ وولادة].
(يُرْخِيهِ)
: أي يسيل منه،
وقولهم:
(رحم المرأة) الرَّحم بفتح الراء، وكسر الحاء، وبكسر الراء مع سكون الحاء، هو مكان منبت الولد، ووعاؤه.
وقوله (رحم المرأة) قيد يخرج الدماء الخارجة من المواضع الأخرى من جسد المرأة.
وقولهم (لغير مرض) قيد أيضاً يخرج الدماء الخارجة من فرج المرأة بسبب المرض كدم الإستحاضة.
وقولهم (وولادة) أي لغير ولادة، وهو قيد أيضاً يخرج دم النفاس، فلا يسمى حيضاً؛ لأنه دم ولادة.أما بالنسبة للحيض فذكره المصنف -رحمه الله- في هذا الموضع لتعلقه بمباحث الطهارة.
وأما بالنسبة لمناسبة ذكره بعد إزالة النجاسة:
فدم الحيض دم نجس بالإجماع، وهو نوع من أنواع النجاسات،
ومن باب الفائدة:
فإنه لو أمكن لطالب العلم أن يقرأ كلام الأطباء في هذا الدم الذي يرخيه الرحم، وينظر إلى بديع صنع الله -عز وجل- وعظيم حكمته، وكمال علمه -سبحانه وتعالى-، فلو قرأت كلام الأطباء ونظرت إلى الحِكَم التي توجد في هذا الدم في كيفية خروجه، وكيف يتهيأ ذلك الرحم لإخراجه، وإفرازه، ثمّ كيف ينقبض بإذن الله -عز وجل- بعد الخروج، وكيف يتهيأ الحمل في الرحم، ثم كيف يتم إفرازه للهرمونات التي تعين على الحمل، حتى إذا شعر المبيض أنه ليست هناك ولادة إِمتنع من إفراز هرمون الحمل، فأخذت الأوعية تتقلّص، ثم أخذت تُفرز ذلك الدمَ، ثم يرسل الله -عز وجل- له كالخميرة تفكِّك هذا التَّجلُّطَ، سبحان الله! هذا كلُّه من الدلائل على عظمة الله -جل جلاله-.
الحيض له أسماء ومنها: النفاس، والإكبار، والإعصار، والطمث، والضحك، والفراك، والدِّراس، والطمس، والعراك فهذه أسماء عشرة مع إسمه الأصلي.
قال المصنف رحمه الله: [لا حيض قبل تسع سنين]: أي لا حيض للمرأة إذا كان عمرها دون تسع سنين، وهذه مسألة أقل سن تحيض فيه المرأة، ويستفاد منه أننا لا نحكم بكون الدم حيضاً إلا إذا بلغت هذا السن، فإذا جرى معها الدم، وهي أصغر منه؛ فليس بحيض، وإنما هو إستحاضة، وأما إذا بلغت السن المعتبر للحيض، وهو تسع سنين، ثم جرى معها الدم حكمنا بكونه حيضاً، وبكون المرأة بالغة، لأن الحيض من علامات البلوغ الخاصة بالنساء.
وإعتبار سن التسع هو أحد أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وقد تكلمنا عليها في شرح البلوغ، وهو الراجح في نظري، والعلم عند الله، وذلك لدلالة الشرع، والعادة،
أما دليل الشرع:
فما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عقَدَ على عائشة رضي الله عنها، وهي بنت ستّ سنين، ودخل عليها وهي بنت تسع سنين؛ فدلّ على أن الجارية في هذا السن تتأهل للبلوغ، والحيض، وأكد هذا دليل الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث نصّت على أن التسع سنين تتهيأ فيها الجارية للبلوغ، وأما دليل العادة، فإنه ثبت بالعادة،
والتجربة أن هذه السن هي أقل ما وجد كما صرح بذلك الإمام الشافعي رحمه الله حيث قال: " أعْجَلُ من رأيت في الحيضِ نساءَ تهامةَ رأيت جَدَّةً، وهي إِبنةُ إِحْدَى، وعِشْرينَ سَنةً " وهذا يدلّ على أن أقل ما وجد من سن تحيض فيه المرأة هو سن التسع، فصارت حدّاً معتبراً لأقل الحيض.
إذا تقرر أن بداية الحيض بالتسع: يرد السؤال عن نهاية الحيض، والسبب الذي جعل العلماء يذكرون مسألة بداية الحيض،
ونهايته: دلالة الكتاب، فإن الله -عز وجل-
قال:
{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (3) فأثبت أن الحيض لا يكون لكل صبية، وأن هناك من النساء من تحيض لأنها بلغت سن الحيض، ومنهن من لا تحيض لأنها لم تبلغ ذلك السن، فعلمنا أن للحيض بداية، وأنه لا يكون من كلّ صبية،
ولما قال:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} علمنا أيضاً أن هناك نهاية للحيض؛ ولذلك اعتنى العلماء رحمهم الله ببيان بداية الحيض، ونهايته، وقد بينا متى تكون البداية، أما النهاية فإنها تُسمّى عندهم بسنّ اليَأْسِ،
وهي:
السن التي إذا وصلت إليها المرأة يئست من جريان دم الحيض معها لكونه ينقطع في مثل تلك السن غالباً، وقد إختلف العلماء رحمهم الله في آخر سن ينقطع فيه دم الحيض،
فقال بعضهم:
هو خمسون عاماً على ما ذكر المصنف رحمه الله.
وقال بعض أهل العلم: ستون،
وقال بعضهم وهو القول الثالث وهو الأقوى والعلم عند الله:
إن هذا يختلف باختلاف البيئات، والنساء، وطبيعة الأرض التي فيها المرأة، فالبلاد الحارّة تختلف عن البلاد الباردة في طبائع النساء؛ ولذلك لا يحد فيه سن معين ويرجع في تحديده إلى غالب حال النساء في كل موضع بحسبه.إذا تقرر أن آخر الحيض، أو نهاية سن الحيض هي الخمسون بناء على ما ذكر المصنف فإنه ينبني عليه أنها لو بلغت الخمسين، ودخلت في إحدى وخمسين ورئي معها الدّمُ؛ أنه استحاضة، فلا يُعطى حكمَ دم الحيض،
ينبني عليه أيضاً أن تقول لها:
إعتدِّي بالأشهر، ولا تعتدِّي بالحيض؛ لأن الدم الذي معها أُلغي، فهذه فائدة معرفة آخر زمن للحيض، أنك إذا أثبت أنه يتأقّت فببلوغ المرأة لهذا الأمد المؤقت يُحكم بكونها آيسةً منه فتعتدُّ بالأشهر، ولا يمنع دمُها ما يمنعه دمُ الحيض.
قوله رحمه الله: [ولا مَعَ حَمْلٍ]: لأن الله جعل عدة الحوامل وضع الحمل،
فإذا ولدت خرجت من عدتها كما نصّ على ذلك في قوله سبحانه: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فلو كانت الحامل تحيض لجعل عدتها بالأقراء إعمالاً للأصل؛ ولذلك قال الإمام أحمد -رحمة الله عليه-: " إنما تَعرفُ النساءُ الحملَ بانقطاعِ الدّمِ ".
أي: أن الحمل من طبيعته، ومن شأنه أنه يُعرفُ بانقطاع دم الحيض، فدلّ على أنه لا يجتمع الحيض، والحمل، وهذا هو مذهب الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد هي المذهب رحمة الله على الجميع.
وقال طائفة من العلماء: إنه يجتمع الحيض، والحمل، وهو مذهب بعض أهل العلم منهم المالكية، وعندهم تفصيل في ضوابط الحيض في الحمل، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد رحم الله الجميع.
فائدة الخلاف: أنه لو حملت المرأة، وجرى معها دم،
فإن قلنا:
إن الحامل تحيض، وجاء في أمد الحيض حكم بكونه دم حيض، ومُنعت من الصلاة، والصيام،
وإن قلنا:
إن الحامل لا تحيض؛ ففي هذه الحالة يُحكم بكونه دم فساد، وعلّة، وهي طاهرة.
قال رحمه الله: [وأَقلّهُ]: أي: أقلّ الحيض [يومٌ، وليْلَةٌ] أي: أن أقل الحيض أن يستمر جريان الدم يوماً، وليلة، ويُستفاد منه أنه إذا جرى أقلّ من ذلك فليس بحيض، وإنما هو إستحاضة، وهذا هو أحد أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة رحمة الله على الجميع.
وهذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا حدّ لأقلِّ الحيض كما هو مذهب المالكية، والظاهرية، واختيار شيخ الإسلام إِبن تيمية -رحمة الله على الجميع-.
القول الثاني: أقلّه يوم، وليلة، وهو كما تقدم مذهب الشافعية، والحنابلة -رحمة الله على الجميع-.
القول الثالث:
أن أقلّه ثلاثة أيام، وهو مذهب الحنفية رحمهم الله.
فائدة هذا الخلاف: أنك إذا قلت: لا حدّ لأقلّ الحيض فإنك تقول: إذا رأت المرأة دم الحيض في زمان الحيض، وإمْكَانه، وجرى معها، ولو ساعةً من نهار؛ فإنها تحكم بكونها حائضاً.وإن قلت أقلّه يوم، وليلة؛
فإنك تقول:
إن جرى الدم مع المرأة ننظر إن إستمر يوماً كاملاً أربعاً، وعشرين ساعة؛ فهو دم حيض، وإن إستمر أقل من ذلك فهو دم استحاضة، لا يمنع صوماً، ولا صلاةً.
وإن قلت: أقلّه ثلاثة أيام فكذلك.
والذي يترجح في نظري،
والعلم عند الله هو القول:
بعدم التّحديدِ،
أي:
أن الحيض لا حدّ لأقله فما دام أنه جرى مع المرأة الدم في وقت الحيض، فهو حيض حتى ولو كان دفعة واحدة.وذلك لأن اليقين أنه حيض لأنه جاء في وقته، وفي أمده، وليس في الشرع دليل قوي يدلّ على التّحديد لأن ما استدلوا به عليه إما ضعيف لضعف سنده، أو دلالته كما بيّناه في شرح البلوغ، فبقينا على الأصل.
قوله رحمه الله:
[وأكثرُه خمسةَ عشرَ يوماً]: إذاً الآن عرفنا من هي المرأة التي تحيض؟ وعرفنا ما هو أقل الدم الذي يمكن أن نحكم بكونه حيضاً، وأنّ الصحيح لا حدّ له.
يرد سؤال بعد هذا وهو: هب أن هذه المرأة عمرها تسع سنوات، وجرى معها الدم، إن قلنا على مذهب من يقول جرى معها الدم، ولو دفعة جرى معها، واستمر، وإن قلنا على مذهب من يقول يوم وليلة جرى معها، واستمر أكثر من ثلاثة أيام، وحكمنا بأنها حائض على الأقوال كلها واستمر حتى بلغ أياماً،
فهل نقول:
إنه ما دام أننا حكمنا بكونها حائضاً تبقى حائضاً طيلة جريانه معها، أم أن دم الحيض مؤقّت، وما زاد عن تأقيته نعتبره إستحاضة؟
الجواب: أن دم الحيض بالإجماع مؤّقت؛ بدليل أن الله أخبر في كتابه عن دم الحيض أنه ينقطع عند حدِّ معين،
وهو طهر المرأة كما في قوله سبحانه:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (4) فأخبر أن للحيض غاية، وكذلك بين عليه الصلاة والسلام أن للحيض أياماً مخصوصة،
وذلك في قوله: [لتَنْظُره الأيامَ التي كَانت تَحيضُهُنَّ] فبين أن الحيض مختص بأيام، وليس بمستديم، بل له غاية ونهاية، مؤقت بها، وإذا ثبت أن له نهاية، وغاية؛
فإنه يرد السؤال:
ما هي هذه الغاية التي إذا بلغها الدم، وجاوزها حكمنا بكون المرأة قد إنتهى حيضها وأصبحت مستحاضة؟
والجواب أنها: خمسة عشر يوماً؛ أي أن المرأة إذا جرى معها دم الحيض، واستمر معها لأكثر من خمسة عشر يوماً جزمنا بأن ما زاد على الخمسة عشر إستحاضة؛ لأنه لا حيض بعد خمسة عشر يوماً؛ ثم يرد السؤال هل كل الخمسة عشر يوماً حيض، أو بعضها؟ فيه تفصيل سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
وهذا على قول الجمهور؛
وفيه حديث:
[تَمكُثُ إِحدَاكُنّ شَطرَ عُمْرِها لا تُصلّي]؛ ولكنه متكلّم في سنده، والعمل عند أهل العلم -رحمة الله عليهم- على أن ما جاوز الخمسة عشر ليس بحيض، وهو إجماع لأن الخمسة عشر لم يقل أحد بعدد أكثر منها فما زاد عليها متفق على عدم إعتباره حيضاً، والخلاف بين العلماء رحمهم الله في ما دون الخمسة عشر، وفوق الثلاثة عشر؛ فالجمهور رحمهم الله على التَّحديد بالخمسة عشر، والحنفية رحمهم الله على التَّحديد بثلاثة عشر يوماً لحديث ضعيف الإسناد،
وفيه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحيض:
[أقلّه ثلاثةَ أيامٍ، وأكثرُه ثلاثةَ عشرَ يوماً] وهو حديث ضعيف الإسناد عند المحدثين، فأصبح القول بخمسة عشر محل إتفاق فكان أرجح؛ لأن ما دونها إذا شُكَّ فيه بقي على الأصل، وهو كونه حيضاً.
إذاً ففائدة معرفة أكثر الحيض: أنه إذا نزف معها الدم، واستمر حتى جاوز أكثر الحيض علمت أنها مستحاضة، هذا بالنسبة لمعرفة أكثر الحيض.
لكن يرد السؤال: إذا علمنا أنه لا حدّ لأقل الحيض، وأن أكثره خمسة عشر يوماً؛ فما هو غالب حيض النساء؟
فقال رحمه الله: [غالبُه ستٌ، أو سَبْعٌ]: والدليل على ذلك: قوله -عليه الصلاة والسلام-
في حديث حمْنةَ بنتِ جَحْشٍ رضي الله عنها:
[تَحيّضي في علمِ اللهِ سِتاً، أو سَبْعاً] وقد حسّنه الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي رحمهم الله، وقد دلّ على أن الغالب في المرأة أن يجري معها دم الحيض، وتكون عادتها ستة أيام، أو سبعة، و " أو " في قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [ستّاً، أو سبعاً] للتنويع في الغالب أي: أن من النساء من تحيض ستاً، ومنهم من تحيض سبعة أيام.
قوله رحمه الله: [وأَقلّ طُهرٍ بَيْنَ حَيضتينِ ثلاثةَ عشرَ يوماً]: الطُّهر هو: النقاء من الدنس،
وأصل الطهر:
النظافة يقال: طَهُرَ الشيءُ إذا نظف، ومن حكمة الله -جل وعلا- أن المرأة يجري معها دم الحيض، وينقطع عند أمد معيّن هذا على الغالب، وتكون هناك علامة على إنقطاعه، وهي ما يُسَمَّى القَصّةَ البيضاءَ، وهي: ماء كالجِيرِ يخرج من الموضع، ويعرفه النساء،
وعنتها أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها كما في صحيح البخاري:
[إِنتظرْنَ لا تَعجَلِنّ حَتّى تَرينَّ القصةَ البيضاءَ] هذه علامة الطهر الأولى.
وهناك علامة ثانية مختلف فيها وهي: الجُفوفُ، والجُفوفُ: أن تضع المرأة القطن في الموضع فيخرج نقياً لا دم فيه، يعني يجفُّ الموضع،
هذه مختلف فيها:
هل هي علامة طهر، أو لا؟فمن حكمة الله -جل وعلا- أن المرأة يجري معها الدم، ثم ينقطع بعلامة، وهي الطهر، فتبقى طاهراً أمداً، هذا الأمد يقلّ، ويكثر، ولذلك يحتاج الفقيه، وطالب العلم أن يعرف ما هو أقلُّ الطُّهر بين الحيضة، والحيضة لكي يتمكن من الحُكم بدخول المرأة في الحيضة الثانية بعد مجاوزتها أقل الطهر إذا كان الدم مستمراً معها،
أو عاودها بعد إنقطاعه فبيّنه المصنف رحمه الله بقوله هنا:
[وأقلُّ طهرٍ بين حيضتينِ ثلاثةَ عشرَ يوماً].
سبعاً] للتنويع في الغالب أي: أن من النساء من تحيض ستاً، ومنهم من تحيض سبعة أيام.
قوله رحمه الله: [وأَقلّ طُهرٍ بَيْنَ حَيضتينِ ثلاثةَ عشرَ يوماً]: الطُّهر هو: النقاء من الدنس،
وأصل الطهر:
النظافة يقال: طَهُرَ الشيءُ إذا نظف، ومن حكمة الله -جل وعلا- أن المرأة يجري معها دم الحيض، وينقطع عند أمد معيّن هذا على الغالب، وتكون هناك علامة على إنقطاعه، وهي ما يُسَمَّى القَصّةَ البيضاءَ،
وهي: ماء كالجِيرِ يخرج من الموضع، ويعرفه النساء،
وعنتها أم المؤمنين رضي الله عنها بقولها كما في صحيح البخاري:
[إِنتظرْنَ لا تَعجَلِنّ حَتّى تَرينَّ القصةَ البيضاءَ] هذه علامة الطهر الأولى.
وهناك علامة ثانية مختلف فيها وهي: الجُفوفُ،
والجُفوفُ:
أن تضع المرأة القطن في الموضع فيخرج نقياً لا دم فيه، يعني يجفُّ الموضع،
هذه مختلف فيها:
هل هي علامة طهر، أو لا؟فمن حكمة الله -جل وعلا- أن المرأة يجري معها الدم، ثم ينقطع بعلامة، وهي الطهر، فتبقى طاهراً أمداً، هذا الأمد يقلّ، ويكثر، ولذلك يحتاج الفقيه، وطالب العلم أن يعرف ما هو أقلُّ الطُّهر بين الحيضة، والحيضة لكي يتمكن من الحُكم بدخول المرأة في الحيضة الثانية بعد مجاوزتها أقل الطهر إذا كان الدم مستمراً معها،
أو عاودها بعد إنقطاعه فبيّنه المصنف رحمه الله بقوله هنا: [وأقلُّ طهرٍ بين حيضتينِ ثلاثةَ عشرَ يوماً].
(1) النور، آية: 15.
(2) البقرة، آية: 148.
(3) الطلاق، آية: 4.
(4) البقرة، آية: 222.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #45  
قديم 29-07-2020, 04:09 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (45)

صـــــ395 إلى صــ405


قوله رحمه الله: [ولا يَصِحّانِ مِنْها، بلْ يَحرمانِ]: قوله: [ولا يصحان منها]:أي أن المرأة إذا حاضت فلا يجوز لها أن تصوم، وتصلي، فإذا صامت لم يصحّ صومها، وإذا كانت عالمة بالتحريم، وصامت؛ فهي آثمة شرعاً، لكن لو كانت لا تدري أن هذا الدم دم حيض فكانت تظنّه دمَ استحاضة، وصامت، أو صلّت ظانّة أنها طاهر، وتبيّن أن هذا الدم دم حيض؛ فإنه لا إثم عليها؛ لأنها لم تقصد المخالفة؛ ولا يحكم بصحة صومها، ولا صلاتها، فيلزمها أن تُعيد الصّوم، دون الصلاة.
قوله رحمه الله: [ويحرمُ وطْؤُها في الفَرجِ]: أي: يحرم على الرجل أن يجامع امرأته الحائض في فرجها؛ والدليل على ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ووجه الدلالة: في قوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} فالمحيض: إِسم مكان كالمقيل، أي مكان الحيض.
فقوله: {إعْتَزِلُوا} أمر بالإعتزال،
وقيّد المعتزل بالمكان في قوله: {فِي الْمَحِيضِ} وهو: إِسم مكان للحيض كالمَقيلِ اسم مكانٍ للقيلولة، فدلّ على حُرمة الوطء في الفرج الذي هو مكان الحيض مدة الحيض، وخصّ الله التحريم بالوطء، وجعل الإعتزال منحصراً فيه، ومفهوم ذلك أنها لا تُعتزلُ في غيره، ومن هنا جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمؤاكلة الحائض، ومشاربتها، ومجالستها على خلاف ما كان يفعله أهل الكتاب من اليهود، وغيرهم من عدم مؤاكلة الحائض ومجالستها حتى ينتهي حيضها، وثبتت السنة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الوطء في الفرج بالنسبة للمرأة الحائض،
كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
[إصنَعُوا كل شيءٍ إلا النِّكاحَ]،
فقوله:
[إِلا النِّكاحَ]
التقدير: فلا تصنعوه أي لا تفعلوه لأن ما بعد إلا مخالف لما قبلها في الحكم، كما هو مقرّر في علم الأصول.وكما دلّ دليل، الكتاب، والسنة على إعتبار هذا المانع، كذلك دلَّ دليل الإجماع، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم وطء الحائض كما نقله الإمام النووي رحمه الله، وغيره.
إذاً فالحيض يمنع الوطء في الفرج، لكن هل يجوز للزوج أن يُستمتع منها بغير الفرج؟
هذه المسألة خلافية عند العلماء:
الأصل عندهم أنه يجوز له أن يستمتع بالمرأة إذا كانت حائضاً بغير الجماع، لكن يأمرها فتتّزر، فتلبس إزارها من ثوب، ونحوه ويُغَطّى الموضعُ المحرّم، وبعضهم يحدّده بما بين السُّرة، والركبة؛ " لأنّ ما قاربَ الشيءَ أَخذَ حُكْمَه "،
وقد قال عليه الصلاة والسلام:
[كالرّاعِي يرعَى حولَ الحِمى يُوشِكُ أَنْ يقع فيه]،
وأكدوا ذلك بقولها:
[كانَ يأمرُ إِحدَانا فَتتّزرَ فيباشِرُها، وهي حائضٌ] والوزرة: لا تكون إلا إذا غطّت هذا الموضع، فالإزار الغالب فيه أن يكون بهذا القدر.
وقال بعض العلماء رحمهم الله:
المحرّم عليه الفرجان،
ولا مانع أن يستمتع بغير الفرجين:
ولو كان بالمباشرة، يعني أن المراد بالاتزار أن تشدّ الموضع فقط، ثم لو لامس غير موضع الجماع،
وإستمتع به لا حرج عليه على ظاهر القرآن في قوله سبحانه:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}.
وهذا المذهب الثاني أقوى من جهة النصِّ، وهو ظاهر القرآن، والسنة.
والمذهب الأول أحوط، وأبعد عن الشّبهة في بقائه على الأصل الموجب لتحريم الوطء، وما قارب الفرج وسيلة للمحرم.وفرّق بعض العلماء -وهو قول ثالث- يفرق بين الذي يستطيع أن يضبط نفسه، والذي لا يستطيع أن يضبطها،
فقالوا:
يباشر بما دون الفرج قريباً من الفرج إذا كان يملك نفسه، والغالب عليه السلامة وإلا فلا، وهذا القول له أصل من السنة في قبلة الصائم كما سيأتي إن شاء الله، وهو مبني على القياس ومعارَضٌ بعموم الوارد هنا.
حرم الله وطء الحائض رحمة بالعباد، حتى ذكر بعض الأطباء المعاصرين أنه في إحدى المؤتمرات الطبية،
قالت طبيبة غربية متخصصة: إنها وصلت إلى أمر هام في الطب، وهو أن من يجامع المرأة، وهي حائض أنه تلتهب عنده البروستات، وهي الغُدّة المعروفة.
فقال أحد الأطباء المسلمين:
هذا الذي توصلت إليه اليوم عرفه المسلمون منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً؛ فإن الله -عز وجل-
يقول:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فأخبر أنه أذى، فهو يشمل أذى الحسِّ، والمعنى، فكان هذا من إعجاز القرآن، فالمسلمون يعرفون أن هذا الشيء يفضي إلى الضرر، ويستوي في ذلك عوامهم، وعلمائهم.
فمن رحمة الله أنه حرم الجماع في هذا الوقت، وذكر بعض الأطباء أنه كما يؤدي إلى الضّرر بالرجل فإنه كذلك يؤدي إلى أضرار في نفسية المرأة.
قوله رحمه الله: [فإِنْ فَعَل فعليهِ دينارٌ، أو نِصْفُه كفارةً]
قوله: [فإن فَعل]: أي المكلف، فجاوز حدود الله عز وجل وجامع امرأته، وهي حائض.
قوله رحمه الله: [فعَليْه دينارٌ، أو نِصْفُه]: الأصل في هذا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وقد اختلف في رفعه، ووقفه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال في الذي يأتي إمرأته،
وهي حائض:
[يتصدّقُ بدينار، أو نصفِ دينارٍ] رواه الخمسة،
وقال أبو داود:
هكذا الرواية الصحيحة قال: [بدينار، أو نصفِ دينار] وحسنه غير واحد من أهل العلم؛
قال الإمام أحمد:
ما أحسنَ حديثَ عبد الحميدِ عن مِقْسم عن إبنِ عباسٍ، فقيل: تذهب إليه؟
فقال:
نعم، وقد صحّح هذا الحديث الحاكم، وابن القطان، وابن دقيق العيد، وغيرهم، هذا الحديث أمر فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يتصدق من جامع الحائض بدينار، أو نصفِ دينار، ثم اُختلف في هذه الصدقة،
فقال بعض العلماء:
دينار، أو نصف دينار على التخيير، أي أنه مخيّرٌ، إن شاء تصدّق بدينار، وإن شاء تصدّق بنصفه، وهذا القول هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه-، واستشكل بعض العلماء كيف يؤمر بالأقل، والأكثر في كفّارة واحدة، وهذا ليس بإشكال؛ فإن الله -عز وجل- أمر من أفطر، وكان شيخاً كبيراً، أو لا يطيق الصوم بالفدية إطعام مسكين وهو الأقل،
ثم قال:
{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} (1) فبين أنّ له أن يزيد بأكثر، فدل على أنه قد ترد الكفارة بالجمع بين الأقل والأكثر،
فنقول: لا مانع من أن الشرع يأمر بالدينار، ونصفه، ولا يتجه اعتراضهم بأنه جمع بين الكامل، ونصفه؛ لأنه جمع بين إِجْزاءٍ، وكمال، لا بين إجزاءين،
وله نظائر منها:
أن الله أباح قصر الصلاة في السفر، وثبت في السُّنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الرباعية تقصر إلى ركعتين، ومع هذا فإن المسافر لو أتم صلاته فإنه لا حرج عليه، والأفضل القصر على السنة.وقال بعض السلف، وهو فتوى ابن عباس -رضي الله عنهما-: إن هذا التخيير بين الدينار،
ونصفه سببه:
أن الجماع في الحيض يختلف، فإن كان في أول الحيض فعليه دينار، وإن كان في آخره فعليه نصفه.وقال بعضهم -وهو قول ثان لبعض السلف-
أيضاً: دينار إن كان في أول الحيض، ونصفه إن كان في أوسط الحيض، أو آخره.
وتقسيم الحيض إلى أوله، وأوسطه، وآخره يكون إما بالزمان، وإما بالتمييز،
مثال ذلك بالزمان: مثاله أن تكون عادتها ستة أيام،
فأوله:
اليومان الأول والثاني،
وأوسطه:
الثالث والرابع،
وآخره:
الخامس والسادس.
أما تأقيته بالصفات فكأن يجري معها دم حيض الأيام الأولَ، أحمر شديد الحمرة إلى قريب السواد، فيجري بهذه الصفة لمدة يومين مثلاً، ثم يجري معها أحمر شديد الحمرة في اليومين الأوسطين، ثم يجري معها أحمر أقلّ حمرة، أو قريباً إلى الصُّفرةِ في اليومين الأخيرين فيكون ترتيبه بأوله، وأوسطه، وآخره بصفات الدم، هذا بالنسبة للتأقيت بالزمان والصفة.
فإذا وقع في زمان شدّة الدم، وحمرته في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصفه.
والحقيقة فتوى ابن عباس تقوّي التفصيلَ: وهو إنه إن كان في أوله فدينار، وإن كان في آخره فنصف ويقَوّيها النظر، فلا يبعد أن الشرع فرَّق بين من جامع في أول الحيض، وآخره من جهة كون المجامع في آخر الحيض تضرّر بالمنع من الجماع أكثر ممن هو في أوله، لأنه قريب العهد بوقت الحل، فناسب أن تكون العقوبة أقوى لمن جامع في أول الحيض بخلاف من جامع في آخره.
ويكون تأقيت الأول، والآخر، بالزمان، وبالصفة في قوة الدم، وضعفه.
أما بالنسبة لقدر الدينار فإن الدينار القديم في عهده عليه الصلاة والسلام، وعهد من بعده من الخلفاء الراشدين، وبني أمية لم يكن مضروباً من المسلمين وأول ما ضُرب الدينار في عهد عبد الملك بن مروان رحمه الله، وكان وزن القديم منه، والجديد واحداً، وهو المثقال فالدينار يعادل المثقال، وهو يعادل الغرامين وربع الغرام فإذا وجب الدينار نَظرَ إلى قيمة الغرام من الذهب بالريالات فأخرجها،
فلو كان الغرام يساوي أربعين ريالاً فمعناه أن الدّينار:
يساوي تسعين ريالاً،
ونصفُه: يساوي خمسة وأربعين ريالاً وإن وجد ذهباً أخرج ما يعادل الغرامين، والنصف، أو نصفها وهو الغرام، والربع على التفصيل المتقدم.
قوله رحمه الله: [ويَسْتَمْتِعُ مِنْها بِما دُونَه]:
قوله رحمه الله: [ويستمتع] من المتعة، وهي اللّذة.
قوله رحمه الله: [بما دُونَه]: أي بما دون الموضع الذي حرّم الله الجماع فيه،
وظاهر كلام المصنف كما قلنا العموم أي: سواء وُجد حائل، أو لم يُوجد؛
ودليله حديث عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: [إِصْنعُوا كل شيءٍ إلا النكاحَ] فقوله: [كلَّ شيءٍ] عامّ، لأن [كل]
كما يقول الأصوليون:
من ألفاظ العموم، فله أن يستمتع بكل شيء، ما لم يصل إلى الحرام، وهو الوطء في الفرجين، وعمَّمَ حيث لم يذكر الحائل، والإزار،
وظاهر فعله عليه الصلاة والسلام:
أن تتزر المرأة.
قوله رحمه الله: [وإِذَا انقطعَ الدّمُ، ولم تغتسلْ لم يُبَح غيَرُ الصِّيامِ، والطلاقِ]: للحيض طُهران:
الأول: طُهرٌ للموضع بانقطاع الدم، وبدوّ علامة الطُّهر،
والثاني:
طهر للمرأة باغتسالها بعد ذلك، فالأول ليس بيدها، والثاني بيدها.
فإذا طَهُرتْ المرأة بانقطاع دمها، ووجود علامة الطهر، وتَطهّرت بالاغتسال بعد ذلك فإنه بالإجماع ترتفع جميع موانع الحيض، ولا إشكال، لكن الإشكال لو طهرت من حيضها، ولم تُطَهِّر نفسها بالغسل، فهل يجوز له أن يجامعها، أو لا يجوز؟ وهل يجوز لها الصيام، وغيره من الموانع؟
قال رحمه الله: [لم يُبَحْ]: أي أن موانع الحيض،
ومنها: الجماع لا تُباح إلا بعد غُسلها،
وقوله:
[غَير الصّيامِ, والطّلاقِ] أي أنه يباح لها فعل الصّيام، والطّلاق فقط، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.وقال الإمام أبو حنيفة النعمان -رحمة الله عليه-: إذا إنقطع دم الحيض جاز للرجل أن يجامع امرأته، ولو لم تغتسل.
فالإمام أبو حنيفة يقول:
إن الغاية في التحريم في قوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} هي الطُّهر، فإذا طهرت المرأة بانقطاع الدم عنها إِنتهى منع الجماع؛ فإذاً الجماع مؤقت بوجود الحيض، " وما شُرِعَ لعلّةٍ يبطل بزوالها "كما هي القاعدة في الأصول، فلما زال دم الحيض زال المانع؛ فجاز له أن يجامع.
لكن الجمهور قالوا: إن في الآية غاية، وشرطاً،
فالغاية في قوله:
{حَتَّى يَطْهُرْنَ}،
والشرط في قوله:
{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}.
قال الإمام أبو حنيفة: العبرة بالغاية؛
لأن القاعدة في الأصول:
" أنَّ ما بعدَ الغايةِ يُخالف مما قَبلَها في الحُكْمِ "، لأنه لو كان الذي بعد الغاية كالذي قبلها لم تكن هناك فائدة من ذكر الغاية، وهذا صحيح إذا كانت الغاية ليس معها شرط، أما إذا اقترنت بالشرط فلا بد من تحققه معها لإفادة الحكم وعليه؛ فإنه يترجح مذهب الجمهور رحمهم الله من إعتبارهما معاً،
وقد جاءت في الشريعة نظائر لمسألتنا منها:
قوله سبحانه وتعالى في بيان رفع الحجر عن اليتامى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (2) فقال: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فهذه غاية،
وهي:
البلوغ،
ثم قال سبحانه:
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم} وهذا شرط، فلا مانع أن تثبت الغاية مع ثبوت الشرط،
فنقول:
إن آية الحيض فيها غاية، وشرط،
والقاعدة:
" أنه إِذا تخلّف الشرطُ تخلّف المشروطُ، وإذا وجدَ الشرطُ حُكم بالمَشْروطِ ". فإذًا تقول: إذا وجد الاغتسال؛ جاز له أن يجامع، وإلا فلا.
الدليل الثاني على رجحان مذهب الجمهور: أن الله عز وجل قال: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} ثم عقب بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فأسند الطهر لأنفسهن بقوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} أي: فعلن الطُّهر،
وعلى هذه القراءة يكون الطهر الثاني هو: الغسل فالغاية الطهر الأول،
والشرط: الطهر الثاني لأن الله نسبه إلى النساء فدلّ على أنه من فعلهن، فصار طُهراً زائداً على الطهر الأوّل لا نفسه،
وهناك قراءة بالتشديد:
{حَتَّى يَطَّهَرْنَ} بالتشديد، وهي تصلح أن تكون دليلاً لمذهب الجمهور كما أشار إليه غير واحد من أهل العلم، واختاره الإمام الماوردي في جوابه في الحاوي،
فالمقصود أن أصحَّ القولين هنا:
أنه لا بد في إباحة جماع المرأة بعد الحيض من أن تَطْهر، وتغتسل، فإذا طَهرتْ، ولم تغتسل لا تُجامَع، وإنما يتريث حتى يتحقق الشرط الذي أمر الله -عز وجل- به.
قال رحمه الله:
[لم يُبَح غيرُ الصِّيام، والطلاقِ] معناه: أنه يجوز لها فعل الصيام قبل أن تغتسل، فلو طهرت قبل أذان الفجر ولم تغتسل، ونوت الصيام ثم أذنَ، واغتسلت بعده صحّ صومُها، وأما الطلاق فإنه محرم، فلا يجوز طلاق الحائض؛ ولذلك غضب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته، وهي حائض،
وقال عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر رضي الله عنه مبيّناً له طلاق السنة:
[مُرهُ فليراجِعْها، ثمّ ليُمْسِكْها حتى تَطْهُر، ثم تَحيض، ثم تطهر، ثم إن شاءَ طلّق، وإن شاءَ أمسكَ، فتلكَ العدةُ التي أمرَ الله أن تطلق لها النساءُ]، فدلّ على تحريم طلاق المرأة الحائض،
وأجمع على ذلك العلماء رحمهم الله وسمّوه طلاقاً بدعياً أي: أنه مخالف للشرع، فكلهم متفقون على أن الحيض يمنع الطلاق، وينتهي هذا المنع بطهر المرأة، ولا يُشترط إغتسالها كالجماع، بل يجوز أن يطلقها بعد الطهر مباشرة للحديث السابق حيث بين أن المنع من الطلاق حال الحيض ينتهي عند الطهر، ولم يشترط الإغتسال بعده،
وقوله رحمه الله:
[لم يُبَح غير الصيام، والطلاق] معناه أن بقية الموانع لا بد فيها من الطُّهرين: الطهر الأول بانقَطاع الدم، ورؤية علامة الطهر،
والطّهر الثاني:
بالغسل، فلا يباح لها أن تصلي، ولا أن تدخل المسجد، ولا أن تمسّ المصحفَ، ولا أن تقرأ القرآن، ولا غيرها من بقية الموانع إلا بعد حصول هذين الأمرين.
قال رحمه الله: [والمبتدأةُ تَجلسُ أقله، ثم تَغتسلُ، وتصلّي] شرع المصنف -رحمه الله- بهذه العبارة في ذكر أحوال النساء،
فالمرأة الحائض لا تخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون مُبتدأَةً، بمعنى أنها لأول مرة يأتيها دم الحيض.
والحالة الثانية: أن تكون مُعتادةً، بمعنى أن دم الحيض عاودها حتى ثبتت لها فيه عادة معينة.
والحالة الثالثة:
أن تكون متحيِّرةً، بمعنى أنه لا يمكنها أن تعرف عادتها لأجل النسيان، سواء نسيت قدر العادة، أو مكانها من الشهر، هذه ثلاثة أحوال للمرأة.ومن عادة أهل العلم أنهم يبدأون بالنوع الأول، وهذا فيه مراعاة لأحوال النساء.
يقولون:
توصف بكونها مبتدأة إذا كان الحيض قد جاءها لأول مرة، هذا أول شرط للحكم بكونها مُبْتدأَةً.
(1) البقرة، آية: 184.
(2) النساء، آية: 6.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #46  
قديم 29-07-2020, 04:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (46)

صـــــ405 إلى صــ415


والشرط الثاني:
أن يكون سنُّها سنَّ المرأة التي تحيض، وهو التسع على أصحّ الأقوال كما قدمنا، فإذا كان سنها دون التسع؛ فإنه لا يُحكم بكون الدم الذي يجري منها دم حيض.فالمرأة التي جاءها دم الحيض لأول مرة لا تستطيع أن تقول أردها إلى عادتها؛ لأنه ليس لها عادة، فإذاً لا بد من أن يكون لها حكم خاص،
والسؤال: ما هو هذا الحكم الخاص بها؟
والجواب: أن هذه مسألة خلافية فمن أهل العلم من قال: المبتدأة حائض إذا جاءها الدم في زمان إمكان الحيض (أي بعد بلوغها تسع سنين) فنحكم بكونها حائضاً، وليس عندنا حد لأقل الدم، فإذا جرى معها الدم إمتنعت عما تمتنع عنه الحائض، فإن انقطع دون الخمسة عشر يوماً فهو حيض فتغتسل عند إنقطاعه فإن عاودها بنفس العدد ثلاثة أشهر متتابعة ثبتت عادتها، وهذا القول مبني على القول بعدم تحديد أقل الحيض.
وقال بعض العلماء: كلُّ إِمرأة مُبتدأة أردّها إلى عادة أمهاتها، وأخواتها.
وقال بعض العلماء: كل امرأة مُبتدأة أردها إلى عادة لِدَاتها، أو أتْرابها كما يُعبر العلماء، واللِّدةُ،
والتِّرْب هي:
التي تكون في سن المرأة.
وقال بعض العلماء: المبتدأة تجلس أقل الحيض، وتحكم بكونها حائضاً ذلك القدر الذي هو أقل الحيض، ثم تغتسل، وتصوم، وتصلي حتى يعاودها الدم ثلاث مرات على وتيرة واحدة؛ فنحكم بإنتقالها إلى كونها معتادة.
إذاً عندنا أربعة أقوال:
الأول: يُحكم بكونها حائضاً، ولا حدَّ عنده لأقل الدم، وتنتقل لكونها معتادة بإنقطاعه دون الخمسة عشر يوماً بعدد يتكرر ثلاثة أشهر متتابعة.
والقول الثاني، والثالث يقول: أردّها إلى أترابها، وقريباتها،
فهذان القولان دليلهما واضح وهو:
إن الشيء إذا شابه غيره أخذ حكمه،
ولذلك يقول:
أنا لا أقول إن هذه المبتدأة تجلس أقل الحيض،
ولكن أقول:
تنظر إلى أمثالها، فإن كانت عادة أمهاتها وأمثالها في سنها ستة أيام مثلاً فهي عادتها ستة أيام حتى تثبت لها عادة جديدة.
يبقى عندنا القول الرابع:
وهو قول من يقول للحيض حدٌ أقلي الذي هو يوم وليلة كما يقول الشافعية،
والحنابلة أو ثلاثة أيام كما يقول الحنفية فأصحاب هذا القول يقولون: كلُّ مُبتدأة لا نحكم بكونها حائضاً إلا إذا جاوزت أقل الحيض، فالشافعية،
والحنابلة يقولون:
كلُّ إمرأة بلغت تسع سنوات، وجاءها الدم فإنها تجلس يوماً، وليلة حتى يثبت كونه حيضاً، فإن استمر هذا الدم معها يوماً، وليلة فهي حائض، وإن نقص عن اليوم، والليلة فهي مستحاضة، والدم دم فساد، ومرض، هذا المذهب الأول في تحديد أقل الحيض، وهو الذي درج عليه المصنف -رحمة الله عليه-.
والمذهب الثاني مذهب الحنفية يقولون: ثلاثة أيام، فهذه المبتدأة إن استمر معها الدم ثلاثة أيام حينئذٍ أَنْظُرُ في كونها حائضاً، وأما إن نقص عن الثلاثة الأيام فإنني أعتبرها مستحاضة، والدم الذي معها دم فساد، وعلِّة، وليس بدم حيض. هذا بالنسبة لقضية أقل الحيض.
الآن عرفنا مذاهب العلماء -رحمة الله عليهم- في مسألة المرأة المبتدأة.
عندنا مسلكان:مسلك يقول: المرأة المبتدأة حائض، ولو كان الدم دفعة واحدة، وهو الذي رجحناه كما قدمنا في مسألة أقل الحيض،
وقلنا:
إنه مذهب المالكية، والظاهرية، واختاره شيخ الإسلام رحمة الله على الجميع.
والمسلك الثاني يقول: تجلس أقل الحيض، إما يوم وليلة على قول، أو ثلاثة أيام على القول الثاني.
الآن يا ترى إذا استمر معها يوماً، وليلة، أو استمر معها ثلاثة أيام على القول بالتثليث، فلا يخلو إما أن ينقطع لأقل الحيض، وإما أن ينقطع على أكثر الحيض، أو ينقطع بعد أكثر الحيض.
فإذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، أو على الخمسة عشر يوماً فإنه على مذهب التحديد باليوم،
والليلة يقولون: نعتبر اليوم، والليلة حيضاً، والزائد استحاضة، ثم نترك المرأة ثلاثة أشهر،
فإذا انقطع في الثلاثة الأشهر بعدد واحد مثل:
أن يستمر معها في الشهر الأول خمسة أيام، وينقطع، والشهر الثاني،
والثالث كذلك قالوا:
تثبت عادتها خمسة أيام بعد الشهر الثالث، ثم نطالبها بقضاء الأربعة الأيام من الشهر الأول، والثاني، والثالث؛ لأننا تيقنا أن الأربعة الباقية حيض، وليست باستحاضة، وعلى هذا المذهب تغتسل غسلان في الأشهر الثلاثة الأول منهما بعد اليوم، والليلة؛
والثاني بعد إنقطاع الدم أي:
بعد اليوم الخامس، وهو تمام العدد الذي يحتمل أن يكون عادة.
لكن الذي يترجح كما تقدم بيانه أنه إذا انقطع دون أكثر الحيض، أنها تجلس القدر الذي جرى معها فيه الدم، فإذا إنقطع عنها لما دون خمسة عشر يوماً إغتسلت غسلاً واحداً.والمذهب الثاني الذي ذكره المصنف مذهب مرجوح.وعلى قول المصنف لو استمر معها الدم،
وجاوز أكثر الحيض قال:
عرفنا أنه دم فساد، وعلّة فتبقى على اليقين اليوم، والليلة أنها حائض، والزائد إِستحاضة حتى تثبت لها عادة بوتيرة معينة، أو تُميّز دمها، وسنبين كيف يكون التمييز.
الآن عرفنا بالنسبة للمبتدأة أن الجميع متفقون على أنه إذا جرى معها الدم ثلاثة أيام بالإجماع أنها تعتبر حائضاً.ولكن الخلاف إذا جرى لأقل عند من يضع للحيض " حداً أقلياً، فإن جرى أقل من يوم، وليلة فالمالكية والظاهرية يعتبرونه حيضاً، وإن جرى يوماً، وليلة فالجمهور من المالكية، والشافعية، والحنابلة يعتبرونه حيضاً، والحنفية لا يعتبرونه حيضاً حتى يبلغ ثلاثة أيام.إذاً يشترط فيها أول شيء أن يكون سنها سن حيض.
وثانياً: أن تجاوز أقل الحيض عند من يقول للحيض حد أقلي، ولا يشترط ذلك عند من لا يرى تحديد أقل الحيض.
قوله رحمه الله: [والمبتدأةُ تجلسُ أقلّه ثم تغتسلُ، وتصلّي] قوله: [أقلَّه]: الضمير عائد إلى الحيض، وأقله هو يوم وليلة على ما سار عليه المصنف رحمه الله ثم تغتسل، وتصلي،
وقوله:
[تجلس]: يعني تحكم بكونها حائضاً، كما قدمنا بيانه.
قوله رحمه الله: [فإِنْ انقطَع لأكثرِهِ، فَما دونَ اغتسلتْ عنْدَ انقطاعِهِ]: هذه مسألة ثانية، نحن قررنا أن ما دون أكثر الحيض يُعتبر فيه اليوم، والليلة، لكن عندهم أيضاً أمر آخر،
حيث قالوا:
إذا جرى معها الدم لأول مرة، واستمر يوماً، وليلة حكمنا بكونها حائضاً، ثم تغتسل بعد اليوم، والليلة، وتصوم، وتصلي، فإن انقطع لأقل من أكثر الحيض فإنه يلزمها أن تغتسل غُسلاً ثانياً؛ لاحتمال أن يكون الكلُّ حيضاً، لأنها إلى الآن ما ثبتت لها عادة،
فاحتاطوا في ذلك وقالوا: نرجع إلى اليقين أنها حائض في اليوم والليلة، فنأمرها بالاغتسال بعد اليوم والليلة؛ لأنه يقين أنه حيض، وما زاد عليه مشكوك فيه فنبقى على الأصل من كونها طاهراً فتغتسل، فإذا إِنقطع دون خمسة عشر يوماً فما الحكم؟
قالوا: تغتسل غُسْلاً ثانياً، لإحتمال أن يكون عادتها، وهكذا في الشهر الثاني، والثالث حتى تثبت عادتها.
قال رحمه الله: [فإنْ تَكَررَ ثلاثاً فحيضٌ، وتَقْضِي ما وَجَبَ فيه] قوله رحمه الله: [تكرر ثَلاثاً] أي: تكرر إتيان دم الحيض ثلاثة أشهر بعدد واحدٍ لا يزيد عليه، ولا ينقص عنه،
وقوله:
[فحيض] أي أن عادتها في الحيض تكون ذلك العدد، وتعرف هذه المسألة عند العلماء بمسألة إثبات العادة، وقد إختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة في عدد الأشهر التي يُشترط تكرارها،
وذلك على قولين:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور، وهم المالكية، والشافعية،
والحنابلة رحمهم الله:
أن العادة تثبت بثلاثة أشهر تكون بعدد واحد، فإذا تكرر دم الحيض ثلاثة أشهر متتابعة بعدد واحد حكمنا بكونها معتادة بعد الشهر الثالث.
القول الثاني: أن العادة بشهرين، يتكرر فيهما الدم بعدد واحد لا يختلف، وهذا هو مذهب الحنفية رحمهم الله.ومذهب الجمهور رحمهم الله أحوط، ومذهب الحنفية أقوى لأن المعاودة تحصل بالمرتين، وقد مشى المصنف رحمه الله على مذهب الجمهور في إثبات العادة، وهو إِشتراط التكرار ثلاثة أشهر،
فمحل الخلاف:
في اشتراط الشهر الثالث، وإذا ثبتت العادة، وجب الرجوع إليها، وقد دلّ على ذلك قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: [لِتنْظُر الأيامَ التي كانتْ تحيضهُنَّ قبلَ أنْ يُصيبَها الذي أَصابَها] فردّها عليه الصلاة والسلام إلى العادة، فدلّ على إعتبارها في الحيض، فلو أن امرأة سألتك،
وقالت:
إن الدم استمر معي عشرين يوماً فمتى أحكم بكوني طاهرة؟
تقول:
هل لك عادة؟
فإن قالت: نعم كانت عادتي من قبل خمسة أيام،
فتقول:
اُمكثي خمسة أيام، ثم إذا مضت الخمسة الأيام فاغتسلي، وصلّي، وصومي.
إذاً تردها إلى العادة، وهذه فائدة معرفة ضابط العادة، حتى يُحتكم إليها بعد إثباتها عند اختلال دم المرأة، فإذا اختل وضع المرأة إما لجراحة، أو لمرض، أو لولادة، أو غير ذلك فإننا نردها إلى العادة، وكما قلنا العادة بإجماع العلماء معتبرة.
وقوله رحمه الله:
[وتَقْضِي ما وجبَ فيه]: يعني في ذلك الأمد الذي ثبت أنه حيض بعد ثبوت العادة وهو الأيام الزائدة على اليوم، والليلة خلال الشهر الأول، والثاني، والثالث.
فالمبتدأة على ما مشى عليه المصنف رحمه الله تجلس أقل الحيض، ثم تغتسل، ثم تصوم، وتُصلي،
فلو فرضنا: أن الدم كان يجري معها خمسة أيام، واستمر ثلاثة أشهر بذلك العدد، ثبتت عادتها بالخمسة، وتبين لنا بعد الشهر الثالث أن هذه المبتدأة مكثت يوماً من الشهر الأول، وأفطرت أربعة أيام، ثم مكثت يوماً من الشهر الثاني، وأفطرت أربعة أيام،
ثم في الشهر الثالث كذلك تقول:
تقضي ما وجب عليها فيه، ما الذي وجب؟ وجب عليها الصوم، أما الصلاة فإن الحائض لا يجب عليها أن تصلي،
فتقول:
الأربعة الأيام التي كانت تصومها ظانة أنها طاهر بعد اليوم والليلة خلال الثلاثة الأشهر يلزمها قضاؤها جميعها لأنه تبين أنها أيام حيض بعد ثبوت العادة،
فهذا هو معنى قوله هنا:
[وتقْضي ما وجب فيه] أي: تقضي الأيام الزائدة على اليوم، والليلة، والتي تبين أنها حيض بعد ثبوت العادة.
قوله رحمه الله: [وإِنْ عبَر أكثرَه فمستحاضةٌ]: قوله: [وإنْ عَبَر أَكثَره]: يعني عبر الدم أكثرَ الحيض فالضمير عائد إلى الدم الذى يجري مع المرأة،
وأكثره: هو خمسة عشر يوماً كما قدمنا،
وقوله رحمه الله:
[فمستحاضة]: أي: أنه يحكم بكونها مستحاضة بعد أكثر الحيض بالإجماع،
وتوضيح ذلك: أن المرأة المبتدأة إما أن ينقطع الدم عنها دون خمسة عشر يوماً، أو على الخمسة عشر يوماً، أو بعد الخمسة عشر يوماً،
قلنا:
إذا انقطع لأقل من خمسة عشر يوماً الحكم أنها تنظر في تكراره ثلاثة أشهر على وتيرة واحدة وتحتسب يقين الحيض، وهو اليوم، والليلة قبل ثبوت العادة ثم تقضيه على ما مشى عليه المصنف، وقلنا على القول الراجح أنها تمكث كل الذي دون الخمسة عشر يوماً لا تصوم فيه، ولا تُصلي على أنها حائض حتى تثبت لها العادة، وعلى القول الذي مشى عليه تغتسل غسلين، وعلى الراجح تغتسل غسلاً واحداً.
وأما إن عبر أكثر الحيض فقد قال رحمه الله: [فمستحاضة]
والسؤال: هل نحكم بكونها مستحاضة بمجرد مجاوزتها للخمسة عشر يوماً، أو مستحاضة بعد اليوم والليلة؟
قال:
مستحاضة بعد اليوم والليلة، فاليوم والليلة حيض، فلما استمر معها الدم أكثر من خمسة عشر يوما عرفنا أن هذا المستمر دم فساد وليس بدم حيض، إذاً نريد الآن أن نفهم كلام المصنف، ونفهم ما اخترناه على القول الراجح.
فكلام المصنف ينبني على الآتي:أن المرأة المبتدأة إذا انقطع دمها في أقل من أكثر الحيض،
أو مساوياً لأكثر الحيض الذي هو خمسة عشر يوماً فحينئذٍ يقولون:
تعتبر نفسها حائضاً يوماً وليلة، في الشهر الأول، والثاني، والثالث ثم بعده تحكم بكونها معتادة إذا جاءها على وتيرة واحدة، هذا بالنسبة لما مشى عليه المصنف -رحمه الله-، أما لو انقطع فوقه فالحكم أن الحيض يوم وليلة، وما زاد استحاضة.
إذاً ما مشى عليه المصنف رحمه الله: أن الحيض يوم وليلة فتجلسه المبتدأة وتغتسل بانتهاء اليوم والليلة ولو جرى معها الدم، ثم إن انقطع الدم ثلاثة أشهر دون خمسة عشر يوماً فحينئذٍ تعتبر نفسها معتادة على ذلك القدر الذي جاءها على وتيرة واحدة، وتغتسل غُسلاً ثانياً عند انقطاعه خلال الثلاثة الأشهر، وإن جاوز أكثر الحيض الذي هو الخمسة عشر يوماً فحينئذٍ اليوم والليلة حيض والزائد استحاضة، ولا يلزمها غسل ثانٍ.
وأما على قول من لا يقول بالتحديد،
وهو القول الذي رجحناه:
فإنه بمجرد أن يجري معها الدم تعتبر نفسها حائضاً، وتمتنع من الموانع؛ لأنه زمن حيض، وأمد حيض، ولا تقدير من الشرع فالأصل، واليقين أنها حائض، حتى ينقطع ذلك الدم، فإن كان دون الخمسة عشر فهو حيض كله من أول مرة، وتغتسل بعد إنقطاعه، وإن جاوز الخمسة عشر فالزائد إستحاضة، وتغتسل بعد تمام أكثره غسلاً واحداً.
قوله رحمه الله:
[فإن كانَ بعضُ دمِها أحمَر، وبعضُه أسودَ، ولمْ يعبرْ أكثَره، ولم يَنْقُصْ عن أقلهِ فهو حيضُها تجْلِسه في الشهر الثاني، والأحمرُ إستحاضة] هذا هو النوع الثالث من النساء: وهو المُمَيِّزةُ.
والمُميّزَةُ مأخوذهَ: من التّمييزِ،
وتميز الشيء:
أن تكون له حِلْيةٌ، وأوصافٌ يتميّز بها عن غيره، وهذا النوع من النساء يعتبر في الحقيقة عند بعض العلماء أقوى من العادة، يعني المرأة التي تعرف طبيعة دمها أقوى عنده من رجوعها إلى العادة، فيردها إلى التمييز قبل أن يردّها إلى العادة، وإن كان الصحيح أن العادة أقوى من التمييز لحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح لما سألتْ فاطمةُ بنتُ أبي حبيشٍ رضي الله عنها رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
عن حيضها فقال:
[لتنظرِ الأيّامَ] وقال في الحديث الآخر: [دعي الصّلاةَ أيامَ أقرائِك] فردّها إلى عادتها، فدلّ على أن العادَة أقوى من التَّمييزِ.وخالف الإمام أبو حنيفة النعمان رحمة الله عليه فضعّف التّمييزَ، والصحيح أن التّمييز حجةٌ، ومُعتبر.
والدليل على أن التمييز يعتبرُ في الحيض قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ دمَ الحيض دمٌ أسودُ يُعرفُ, فإذَا كانَ ذلِكِ فأمسِكي عنِ الصّلاةِ] فقوله: [إِنّ دمَ الحيضِ دَمٌ أسودُ يُعرفُ] فيه دليل على إعتبار التمييز في الحيض حيث ردّها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى لونه الذي يتميّز به ,
وألوان دم الحيض: أقواها الأسود، ثم الأحمر شديد الحمرة كما يقول العلماء،
وهو:
القاني، ويختلف هذا الأحمر على مراتب، ثم بعد الأحمر الأشقرُ، وألغاه بعضُ العلماء، ثمّ الأصفرُ، ثمّ الأكدر، ثم التُّربي، فهذه ستّة ألوانٍ،
أما اللون الأسود:
فهو أقواها، ثم يليه الأحمر، وهو الطّبيعي في دم النساء،
ولكنهم قالوا: أحمر محتدم أي: شديد الحمرة حارقٌ تعرفه النساء بوصفه، ثمّ أخف منه المُشْرق،
والذي يقول بعضهم: الأشقر، أو الأشيقر،
وقيل:
إن الأشقر هو الصفرة التي وردت في حديث أمِّ عطيةَ رضي الله عنها، وأثرِ عائشةَ رضي الله عنها، ثمّ يليه الأصفر ثم الأكدر،
والأكْدَرُ: كالماء الكَدرِ المتعكِّر ضارباً إلى شيء من الخُضرة، ثمّ التُّربي هذا بالنسبة لألوان دم الحيض.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 29-07-2020, 04:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (47)

صـــــ416 إلى صــ425


وكما تميّز المرأةُ دَم الحيض باللّون، كذلك تميزه بالرّائحة، وبالكثرة، والقِلة وبالألم، وبالغِلَظِ والرِّقةِ، هذه ضوابط التمييز.فاللون تميّز المرأةُ به دم الحيض بأن تعتبر أشدّ ألوانه حيضاً،
وما خفّ بعده إستحاضة على حسب الألوان فمثلاً:
لو أن امرأة قالت: جرى معي دم الحيض ستة أيام أحمر شديد الحمرة، ثمّ أصبح بعدها أصفر،
تقول:
حيضك الستة الأيام، وما بعدها إستحاضة، وهكذا الحكم لو تخلّل الدمَ القويَّ ما هو أضعفُ،
فلو قالت:
إنه يجري معها ثلاثة أيام أسود، ثم ثلاثاً أحمر، ثم ثلاثاً أسود،
تقول:
الثلاثة الأُول: حيض،
والثلاثة الحمراء:
استحاضة،
والتي بعدها:
حيض، فأنت طاهر في الثلاث الوسطى، حائض في الأولى، والأخيرة، ويحكمُ بخروجك من الحيض في اليوم التاسع، بناء على أن عادتك ستة أيام.هذه مسألة التمييز باللون الأسود.وإما التمييز باللون الأحمر،
فمثل أن تقول:
جرى معي الدّم أحمرَ شديدَ الحُمرة لمدة يومين، ثم يومين آخرين خفيفَ الحُمرة، ثمّ يومين شديدَ الحُمرة، ثمّ يومين خفيفَ الحُمرة،
تقول: اليومان الأولان حيض، واليوم الثالث، والرابع، وهما اليومان اللذان يليانها استحاضة، ثم الخامس، والسادس اللذان إِشتَدَّت فيهما حمرة الدم هما من الحيض، فتضيفين اليومين هذين إلى اليومين الأوليين، هذه أربع، ثمّ تحكمين بطهارتك بانقضاء اليوم الرابع، وتدخلين في الإستحاضة في اليوم الخامس، والسادس، ثمّ في اليوم السابع دخلت في اليوم الخامس من حيضك، واليوم الثامن هو اليوم السادس من الحيضة فيحكم بانتهاء حيضك في اليوم الثامن، وهكذا التمييز ببقية الألوان الأخرى، فالحكم فيها كما ذكرنا هنا في اللون الأحمر.هذا بالنسبة لمسألة اختلاف ألوان الدم التمييز لها، ولا يشترط تَخلّل اللونِ الضعيفِ بين اللونِ القويِّ كما ذكرنا في المثال بل العبرة بقوةِ اللّون بغضِّ النّظر عن مكانها.
وأما بالنسبة للتّمييز بالرائحة: فإن دم الحيض له رائحة شديدة النّتن بخلافِ دمِ الإستحاضة فإنه أخفُّ منه، فإذا استطاعت أن تعرف دم حيضها برائحته،
فقالت مثلاً:
جاءني دم أحمر عشرين يوماً ولكن لاحظت أن لونه واحد، لاحظ في الحالة الأولى التمييز باللون لا بد أن تختلف الألوان، ولكن التمييز بالرائحة لا يختلف اللون، وإنما تختلف الرائحة،
فتقول لك:
جاءني عشرين يوماً دمٌ أحمر، فهل كلّه حيض؟
تقول:
لا، ليس بحيض، هل لك عادة؟
قالت:
ما لي عادة،
تقول:
إذاً هل تستطيعين أن تميزيه بالرائحة؟
قالت:
نعم رائحته في الستّة الأُول نتنةٌ شديدة، وفي الأربعة عشر الباقية ليست كذلك، فحينئذ تحكم بكونها حائضاً في الستة الأول، دون ما بقي.
أو قالت: يومين برائحته، ثم أربعاً بدون، ثم يومين برائحته، ثم أربعاً بدون، ثم يومين برائحته. فما الحكم؟
تقول: تلفقين، هذا يسمى مذهب التلفيق، اليومان اللذان فيهما رائحة دم الحيض حيضٌ، والأربع التي ليست فيها رائحة دم الحيض استحاضة، ثم بعدها دخلت في اليوم السابع وهو ثالث أيام الحيض، واليوم الثامن رابعه، وقس على هذا. هذا بالنسبة للتمييز بالرائحة.
الضابط الثالث للتمييز: التمييز بالألم، حيث جرت العادة عند النساء في دم الحيض أنه أشد ألماً من دم الإستحاضة، وكل إمرأة تعرف طبيعة دمها في ذلك،
فإذا قالت المرأة:
جاءني عشرين يوماً، لكنه الستة الأيام الأول كان مؤلماً حارقاً،
تقول:
كونه في هذه الأيام بهذه الصفة فهو دم حيض، والأيام الباقية دم استحاضة.
هذه ثلاث علامات للتّمييز: اللّونُ، والرّائحةُ، والألمُ.
الضابط الرابع للتمييز: الكثرةُ، والقِلّة،
قالوا:
إن دم الإستحاضة يكون نازفاً بخلاف دم الحيض، فإنه أقل، ولذلك لما استحيضت حمنة رضي الله عنها،
وسألتْ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت:
[إنِّي أَثُجُّ ثَجَّاً] والثجُّ: السّيلانُ.وبعضهم يضع بدل الكثرة، والقِلّة علامة أخرى،
وهي:
الرِّقة، والغِلظة،
فالغليظ: حيض،
والرقيق:
إستحاضة،
فلو قالت مثلاً:
جاءني دم الحيض عشرين يوماً لكن ألاحظ أن الستَّةَ الأُول كان الدّم فيها ثقيلاً غليظاً، والأربعة عشر يوماً الباقية كان رقيقاً،
تقول: السّت: حيض،
والباقي:
استحاضة.
هذه ضوابط التمييز: اللّونُ، والرِّيحُ، والأَلمُ، والكثْرةُ والقِلَّة، والغِلظُ والرِّقةُ.
وقد جمعها بعض العلماء بقوله:باللّونِ والرِّيح وبِالتّألُمِ ... وَكثْرةٍ وقِلّةٍ مَيْزُ الدّمِ
هذا على المذهب الذي يقول:
الكثرة، والقلة، وبعضهم يرى الغلظ،
والرقة فيقول في الشطر الثاني:
وغِلَظٍ ورِقةٍ مَيْزُ الدّمِ
قوله رحمه الله:
[وإنْ لم يكنْ دَمُها مُتَمِّيزاً جَلستْ غَالبَ الحَيْضِ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ] هذا هو النوع الثالث: وهي المتحيّرة التي لا عادة لها، ولا تمييز، أو نسيت عادتها.
وحكمها: إذا استمر معها الدم حتى جاوز أكثر الحيض نردُّها إلى غالب الحيض، يعنى غالب الأيام التي تجلسها النساء،
والغالب:
أن المرأة تحيض سِتّاً، أو سبعاً،
ودليلنا على ذلك السنة:
في قوله عليه الصلاة والسلام: [تَحيّضِي في علمِ اللهِ سِتاً أَوْ سَبْعاً] فردّها إلى الغالب،
فقال العلماء:
الستّ، والسّبع هي غالب حيض النساء، فالمرأة إذا التبس عليها، واستمر معها الدم، ولم تكن لها عادة، ولا تمييز تَردّها إلى غالب الحيض، وقد تأتيك المرأة معتادة، ولكن نسيت عادتها، ولا تستطيع أن تميّز تردُّها إلى غالب حيض النساء أيضاً على تفصيل في أحوال النسيان سيذكره المصنف رحمه الله.
قوله رحمه الله: [والمستحاضةُ المعتادةُ، ولوْ مُميّزةً تجلسُ عادَتَها]: المستحاضة: إِستفعال من الحيض،
يعني:
استمر معها دم الحيض،
فالمرأة إذا جرى معها الدم ثلاثين يوماً كما قررنا في المجلس الماضي فإنه بالإجماع لا يقال إن الشهر كله حيض بل نقول:
بعضه حيض، وباقيه إستحاضة.والدليل على ذلك: قوله -عليه الصلاة والسلام
- في الصحيح لما سألته فاطمةُ بنتُ أبي حُبيشٍ رضي الله عنها فقالت له: -يا رسولَ الله
- إني أُستحاضُ، فَلا أَطهُر، أَفأدعُ الصَّلاةَ؟،
فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[إِنما ذلِكِ عِرْق، ولَيْس بالحَيْضةِ] فبيّن لها عليه الصلاة والسلام أنّ الدم كله لا يعتبر حيضاً بل بعضه حيض، وباقيه إستحاضة،
وهكذا لما سألته حمنة بنت جحش رضي الله عنها فقالت: [يا رسولَ الله إنّي أُستحاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً] لم يعتبر عليه الصلاة والسلام جميع دمها حيضاً بل قال لها عليه الصلاة والسلام: [إِنما هذه ركضةٌ من ركَضَاتِ الشّيطانِ فتحيّضِي سِتّة أيام، أو سَبعةً في علمِ اللهِ] فإذا ثبت هذا، وهو أن الدم ليس كله حيضاً بل بعضه حيض، وبعضه إستحاضة؛
فإنه يرد السؤال:
إذا كانت المرأة ترجع إلى عادتها، وتمييزها، كما دلت السنة على إعتبار الأمرين فهل تقدم عادَتها، أو تمييزَها؟
فبيّن رحمه الله: أن العادة مُقدّمةٌ على التّمْييز،
وذلك لحديث فاطمةَ بنتِ أبي حُبيشٍ رضي الله عنها في الصحيحين حيث رَدّها عليه الصلاة والسلام إلى عادتها في قوله:
[دَعِي الصّلاةَ أيامَ أَقرائِكِ] ولم يستفصل، فلم يسألها هل لك تمييز، أو لا؟ بل ردّها إلى عادتها مباشرة، فدلّ على قوة العادة وأنها هي المعتبرة سواء وُجد تمييزٌ، أو لم يُوجدْ لأنّ
القاعدة: [أَنّ تركَ الإستفصالِ في مقامِ الإحتمالِ ينزّلُ منزلةَ العمومِ في المقالِ] فكأنه قال لها عليه الصلاة والسلام: إرجعي إلى عادتك؛ سواء كان لك تمييز، أو لم يكن.فهذا الحديث أصل في تقدم العادة على التمييز، ودلالته من هذا الوجه قويّة،
ومما يُرجح هذا القول أيضاً:
أن الحديث الذي دلّ على إعتبار العادة أقوى سنداً من الحديث الذي دلّ على إعتبار التّمييز بل ورد في إثبات العادة أكثر من حديث، وبعضها في الصحيحين بخلاف حديث التمييز إضافة إلى أن العادة مجمع على إعتبارها، بخلاف التمييز حيث لم يُجمع عليه، وبهذه الوجوه تكون العادة مقدّمةً على التمييز، والله أعلم.
قوله رحمه الله: [وإن نسِيتْها عملَت بالتّمييزِ الصَّالح]: أي: نسيت عادتها،
وقوله:
[عملتْ بالتّمييزِ الصَّالح] أي أن التمييز محلّه أن لا تكون لها عادة مثل: المبتدأة، أو تكون لها عادة، ولكن نسيتها، فلا عمل بالتمييز مع العادة التي تتذكرها المرأة،
وقوله:
[الصَّالح] أي: الذي له أوصاف مؤثرة يصلح بها لتميز دم الحيض من دم الإستحاضة كما قدمنا في صفات التمييز المعتبرة.
قوله رحمه الله: [فإِنْ لم يكُنْ لها تَمْييزٌ فَغالبُ الحيضِ]: أي: أن هذا النوع من النساء، إذا لم يكن له تمييز صالح، فإننا نردّه إلى غالب الحيض، وهو الستّ، والسبع كما تقدم بيانه، ودليله،
فرتّب المصنف رحمه الله العمل بما تقدم على النحو التالي:
أولاً: العادة، ثم يليها التمييز، ثم يليها الحكم بغالب الحيض.
قوله رحمه الله: [كالعالم بموضعه الناسي لعدده]: إذا كانت المرأة ناسية لعدد عادتها،
ولكنها تعلم موضع العادة من الشهر فإننا نقول لها:
تحيّضي بغالب حيض النساء، وهو الست، والسبع كما قدمنا ولكن يلزمها أن تعتبر الموضع الذي كانت تأتيها عادتها فيه،
وتوضيح ذلك:
أن المرأة المعتادة إذا ثبتت عادتها إشتملت تلك العادة على أمرين:
الأول: موضع العادة، وهو زمان وقوعها من الشهر، وهو أول الشهر، أو أوسطه، أو آخره.
والثاني: قدر العادة، وهو عدد الأيام التي يأتيها فيها الحيض.فإذا كانت عادتها مثلاً ستّة أيام فإما أن تكون في أول الشهر، أو تكون في وسطه، أو تكون في آخره.
فإذا نسيت عادتها فلا تخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تنسى عدد العادة دون موضعها.
الحالة الثانية: أن تنسى موضع العادة دون عددها، أي العكس.الحالة الثالثة: أن تنسى عدد العادة، وموضعها.
فإذا نسيت العدد، وعلمت بالموضع فحينئذ يحدّد العدد لها بما ورد في السُّنة، وهو غالب حيض النساء ويصبح بديلاً عما نسيته من عادتها حتى تذكره، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردّ إلى هذا العدد لكونه غالب حيض النساء، ويلزمها أن تنظر إلى الموضع الذي كانت العادة تأتيها فيه؛ سواء كان في أول الشهر، أو في أوسطه، أو في آخره،
فهذا هو مراد المصنف رحمه الله بقوله هنا:
[كالعالم بِموضعِه النّاسِي لعدَدِه] ثم أشار إلى عكس هذه الصورة بقوله
رحمه الله: [وإنْ عَلمتْ عدَدَه، ونَسِيتْ مَوْضِعَه مِنَ الشّهر، ولو في نِصْفِه جلستْ مِنْ أَوّله كمنْ لا عَادَة لَها] فبيّن أنها ترجع إلى أول الشهر، ولكن يلزمها أن تعتبر عدد عادتها،
فلو قالت:
عادتي ستة أيام، ولكني نسيت هل هي في أول الشهر، أو في نصفه،
أو في آخره فحينئذ نقول لها:
إعتدي بأوله، كالحال فيمن لا عادة لها إذا تحيضت بغالب حيض النساء مكثت الست، أو السبع من بداية الشهر.
وقوله:
[ولوْ فِى نِصْفِه] إشارة إلى خلاف مذهبي،
وتوضيحه:
أن النّاسية لموضع العادة لها حالتان:
الحالة الأولى:
أن تنسى موضع العادة نسياناً تاماً فلا تدري هل هي في أول الشهر، أو في أوسطه، أو في آخره، فليس عندها أي معرفة، ويقع هذا في بعض الحوادث كما في حال إغماء المرأة، وغيبوبتها ثم إفاقتها، وقد نسيت كل شيء من عادتها.وفي هذه الحالة لا إشكال في ردِّها إلى أَوّل الشهر.
الحالة الثانية: أن تكون ذاكرة لموضعها، وهو نصف الشهر الأول مثلاً، ثم تنسى هل الستة الأيام عادتها في أول النصف الأول من الشهر، أو في آخره، أو تكون ذاكرة لموضعه، وهو نصفه الثاني، ثم تنسى هل هي في أوله، أو في آخره.
وفي هذه الحالة إختلف العلماء رحمهم الله في حكمها على قولين:
القول الأول: نُلزمها بأوّل النِّصفِ الذي تذكره.
والقول الثاني: نُلزمها بأوّل الشّهر مطلقاً.
ومحل الخلاف: إذا كان نسيانها لموضعه من النصف الثاني هل نردها إلى أول الشهر، أو إلى أول النصف الثاني؟
والذي يترجح: أننا نُلْزِمُها بأوّل النصفِ الذي تذكره، لأننا على يقين بأن النصف الأول ليس فيه حيض فنلزمها بأول النصف الثاني كما ألزمناها بأول الشهر عند نسيان الموضع.والمصنف رحمه الله مشى على القول المرجوح فردّها إلى أول الشهر في جميع الأحوال.
قوله رحمه الله: [ومَنْ زادتْ عادتُها، أو تَقدّمتْ، أو تأَخّرتْ، فما تكرّر ثلاثة حيض]: مراده رحمه الله أن العادة تتغير بالزيادة، والنقصان بشرط أن تتكرر ثلاثة أشهر بعدد واحد من الزيادة، أو النقصان، فلو كانت عادتها ستة أيام، ثم زادت إلى ثمانية، واستمرت ثلاثة أشهر متتابعة بهذه الزيادة حكمنا بإنتقالها إلى الثمانية، ولزمها قضاء اليومين السابع، والثامن من الأشهر الثلاثة لأنه تبيّن أنها حيض، وهكذا في نقص العادة لكن في حال النقص ليس عليها قضاء كما هو معلوم.
قوله رحمه الله: [وما نَقصَ عَنِ العادَةِ طُهْر، وما عَادَ فِيها جَلسَتْه]: مراده رحمه الله: أنه إذا كان الإختلاف في العادة بالنقص فإنها تحكم بكونها طاهراً بمجرد إنقطاع الدم عنها، ولو عاد قبل إنتهاء أقلّ الطّهر حسبته حيضاً حتى يبلغ عادتها فلو كانت عادتها، مثلاً سبعة أيام، وانقطع الدم بعد خمسة أيام فإننا نحكم بكونها طاهراً بعد إنقطاعه ناقصاً،
وهو معنى قوله هنا:
[طُهْر] ثم لو عاودها بعد ثلاثة أيام فجرى معها يوماً، ثم إنقطع فإننا نحكم بكون هذا اليوم حيضاً،
وهو معنى قوله:
[وما عَادَ فِيها جَلستُه] فنضيفه إلى الخمسة السابقة، فلو عاودها يوماً آخر فإنها تضيفه إلى ما سبق فتكون حينئذ قد أتمت سِتّة أيام، وبقي لها يوم من عادتها، فإن عاودها قبل أقل الطهر أضفناه للستة فتمّت به عادتها، وإن لم يعاودها نظرنا في الشهر الثاني، والثالث، فإن عاودها بنفس العدد، وهو السِّتةُ حكمنا بنقصان عادتها، وانتقالها من سبعة أيام إلى سِتّةِ أيام.
قوله رحمه الله:
[والصُّفرةُ، والكُدْرةُ في زمنِ العادةِ حيضٌ]: قوله: [والصفرة، والكدرة]: الصفرةُ: مأخوذة من الصفار، وهو اللّون الأصفر، قال بعض العلماء -رحمة الله عليهم-: الصفرة التي تكون من المرأة: كلون القيح تخرج من الموضع، وقد إختلف العلماء رحمهم الله في حكمها،
وذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التّفصيل،
وهو مذهب الجمهور:
إن كانت الصفرة، والكدرة في زمان الحيض فهي حيض، وإن كانت بعد إنقضاء الحيض فليست بحيض.
والقول الثاني: إلغاؤها مطلقاً كما هو مذهب الظاهرية، ومن وافقهم رحمهم الله.
والقول الثالث: أنها حيض، ولو كانت بعد زمان الحيض، وهو قول للشافعي وأبي يوسف رحمهم الله.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 29-07-2020, 04:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (48)

صـــــ425 إلى صــ435


وترجح مذهب الجمهور رحمهم الله بدليل السّنة فيما ثبت من حديث أمِّ عَطّية رضي الله عنها قالت: [كُنا لا نعدُّ الصُّفرةَ، والكدرةَ بعد الطُّهرِ شَيْئاً] ومفهومه: أنها في الحيض حيض، وكذلك صحّ أن أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها كُنَّ النساءُ كما في صحيح البخاري يَبْعثنَ لها بالدُّرجةِ فيها الصُّفرةُ، والكُدْرةُ من دم الحيض،
فتقول:
[انتظِرْنَ لا تَعْجَلِنّ حَتّى تَرينّ القَصّةَ البَيْضاءَ] " الدُرْجة " مثل: الخرقة " فيها الكرسف ": الذي هو القطن.
فقولها رضي الله عنها:
[انتظِرْنَ لا تَعجَلِنَّ حتّى تَرينّ القَصّةَ البَيْضَاء] واضح في الدلالة على أنها إعتبرته حيضاً، وأمرت بالإنتظار حتى ترى السائلةُ علامةَ الطُّهر، وهي القصة البيضاء فدلّ على أنّ الصُّفرة والكُدرة حيض في زمان الحيض.
واستدل بعض العلماء رحمهم الله بظاهر القرآن في قوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}وهو عام في طهرهنّ من الدم بلونه المعتاد، أو غيره كالصّفرة، والكُدرة.
وأكدوا هذا بدليل النظر، وهو القياس على الدم، وأن الصُّفرة تنشأ من الدم كما في القيح، وتأخذ أحكامه كما في النجاسة.فهذا كلّه يدل على رجحان مذهب الجمهور رحمهم الله أن الصُّفرةَ، والكُدرة في وقت الحيض حيض، وما بعده ليست بحيض لأنها كدم الإستحاضة.
قوله رحمه الله: [ومَنْ رَأتْ يَوماً دَماً، ويوماً نقاءً؛ فالدّمُ حَيضٌ، والنَّقاءُ طُهْرٌ]: تعرف هذه المسألة بمسألة التّلفيق، فإذا رأت المرأة يوماً دماً، ثمّ يوماً نقاءً، ثمّ يوماً دماً، ثمّ يوماً نقاءً؛
فالحكم ما ذكره المصنف رحمه الله:
يوم الدم يومُ حيض، ويومُ النّقاء يومُ طُهْرٍ، فتحسب عادتها في أيام الدّماء وحْدَها، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، ودليله ظاهر الكتاب، والسُّنة، وهو أن النّصوص فيهما دلّت على أن الحيض في زمانه مترتب على وجود الدم، فإذا وجد الدم حكمنا بكونها حائضاً، وإذا لم يوجد حكمنا بكونها طاهراً، فهذا هو الأصل.وعلى هذا المذهب فلو كانت عادتها خمسة أيام، وجاءها الدم يوماً كاملاً، ثم إنقطع يوماً كاملاً بعده واستمر بهذه الصورة، فإنه يحكم بخروجها من عادتها في تمام اليوم العاشر، فتلفّق أيام حيضها حتى تتم العدد.
قال رحمه الله: [ويُستَحب غسلها لكُل صَلاة]: شرع المصنف -رحمه الله- بهذه العبارة في بيان أحكام المستحاضة،
والمستحاضة:
نوع من النساء تتعلق بها أحكام في صلاتها، وصيامها مفرّعة على الحكم بطهارتها.
والإستحاضة: استفعال من الحيض،
أي: أنّ الدم استمر معها، فالأصل أن دم الحيض يقف عند أمد معين كما قدمنا فلما استرسل دم حيضها، وزاد قيل لها إستحاضة.
قال بعض العلماء في تعريفها: (إنها دمُ فسادٍ، وعِلّةٍ يُرخيه الرحمُ من أعلاهُ، لا منْ قَعْرِه) وهذا التعريف من أنسب التعاريف.والإستحاضة أصلها عرق؛
لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما سأَلتهُ فاطمةُ رضي الله عنها عن استحاضتها قال عليه الصلاة والسلام:
[إِنما ذلِكِ عِرقٌ]، وقال عليه الصلاة والسلام لحمنة بنت جحش رضي الله عنها في إستحاضتها: [إِنها رَكْضةٌ مِنْ رَكَضَاتِ الشّيطانِ]
قال بعض العلماء:
ركضة حقيقية أي: أن الشيطان يركض، ويضرب هذا الموضع ضرباً حقيقياً كالرّكض الذي يكون من الفارس، أو من الرجل،
وقال بعض العلماء:
بل إنه ركض معنوي بمعنى: أن الشيطان يتذرّع بجريان الدم مع المرأة على هذه الصورة، فيلبّس عليها صلاتها، فيدخلها في متاهة، فلا تدري أهي حائض، فلا تصلي، ولا تصوم، أو ليست بحائض، فيجب عليها الصوم، والصلاة؟
قالوا:
فوصف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإستحاضة بكونها رَكْضة لمكان هذا التلبيس الذي يكون من الشيطان هذا من جهة المعنى.
أما بالنسبة لحقيقة هذا العرق فإنه وردت له أسماء: الأول: ورد في السنن، وهو العاذل،
والثاني:
ورد في رواية أشار إليها الإمام ابن الأثير رحمه الله: وفيها إسم العاذر،
فالرواية الأولى: باللام العاذل والثانية: بالراء، وذكر الإمام الحافظ العيني -رحمه الله- أن هناك اسماً له، وهو العادل، بدالٍ بَدَل الذَّال.
هذه ثلاثة أسماء، وهناك إسم رابع رواه الإمام أحمد في مسنده أنه العاند،
فهذه أربعة أسماء: العاذل، والعاذر، والعادل، والعاند،
قالوا:
عاذلاً وصفاً له فليس هو عرق في الجسد إِسمه عاذل؛ والسبب في ذلك أن بعض الفقهاء سأل بعض الأطباء عن عرق اسمه العاذل فلم يعرفوه،
والواقع أن العلماء قالوا:
إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصفه بكونه عاذلاً من العذل، واللّوم؛ لأنه يوجب عَذْلَ المرأة، ولومها.وأما تسميته بالعادل؛
فالعادل عن الشيء هو:
الجائر عنه، يقال عدل عن الطريق إذا مال، وجار عنه؛
قالوا:
لأنه بخروج المرأة عن عادتها بالحيض،ودخولها في الإستحاضة عدلت عن الدم الطبيعي لها،
وهو دم الجِبلّة أي:
دم الحيض، فعدلت عن الأصل؛ لأن الأصل في الدم أن يجري معها على الصّحة أيام عادتها وينقطع بعد ذلك بطهرها، فجرى معها على سبيل المرض، ولم ينقطع بعد تمام عادتها.
وأما العاذر فقالوا: لأن المرأة تعذر بوجوده،
وأما العاند:
فلمكان استمراره مكان الدم؛ فكان كالممتنع، والصّعب على الإنسان وهي صفة الشيء العنيد. هذا بالنسبة لأسماء دم الإستحاضة.وهناك فوارق بين الحيض، والإستحاضة من جهة المكان فدم الحيض يخرج من قَعْر الرّحمِ،
وأما دم الإستحاضة:
فيخرج من أعلى الرَّحم، هذا بالنسبة لمكان الدمين.أما بالنسبة لأوصاف الدّمينِ؛ فإنّ دم الحيض أقوى لوناً من دم الإستحاضة، فإذا كان أسود كان دم الإستحاضة أحمر، وهكذا كما تقدم معنا عند بيان التمييز باللّون.
أما بالنسبة للفارق الثالث: فوجود الألم، فإن دم الحيض تكون فيه حرارة، وألم للمرأة بخلاف دم الإستحاضة، فإنه يكون أخفَّ ألماً، أو ينعدم فيه الألم.
وقد تقدم معنا بيان ضوابط التمييز التي هي: اللونُ، والرِّيحُ، والألمُ، والكثْرةُ، والقلّةُ، والغِلَظُ، والرِّقةُ، هذه بالنسبة للفوارق التي بين دم الحيض، والإستحاضة، والمصنف رحمه الله بعد أن بيّن لنا أقل الحيض، وأكثَره، وأقلَّ الطّهر، وأكثَره، وشرحنا خلاف العلماء -رحمة الله عليهم- في تلك المسائل بعد بيان ذلك فإنه يرد السؤال بعد أن عرفنا من هي المرأة الحائض، والمستحاضة، فما هي الأحكام المترتبة على إستحاضة المرأة، وما الذي يلزمها من جهة الطهارة، وكيفية أداء الصلوات، وما الذي يترتب على الحكم بكونها مستحاضة من جهة وطئها؟ وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالمرأة المستحاضة؛
فشرع رحمه الله في بيان هذه الأحكام بقوله:
[والمُستحَاضةُ] أي: المرأة إذا حُكِمَ بكونها مستحاضة.[ونحوها]: نحو الشيء مأخوذ من قولهم نَحا الشيءَ نَحْواً: إذا قصده، ومال إليه، وطلبه. وقد يُطلق بمعنى الجهة،
تقول:
وجّهت وجهي نحو القبلة أي: جهة القبلة.
وقد يطلق النحو بمعنى:
المثيل، والشّبيه؛ كما في الصحيحين عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث عثمانَ رضي الله عنه لما توضأ، وأسبغ الوضوء ثم رفع فعله إلى النبي -صلوات الله وسلامه عليه-،
وأنه قال:
[من توضّأَ نحو وضُوئِي هَذا] أي مثل وشبه وضوئي هذا فهذه إطلاقات النحو فمراد المصنف هنا بقوله [ونحوها] شبهها.
أولاً: نريد أن نعرف ما هو حكم الشرع بالنّسبة للمستحاضة؟ ثم بعد ذلك نعرف من الذي يلتحق بها، ويُشْبِه حكْمُهُ حُكْمَهَا في الطهارة؟
فالمستحاضة فيها أمور:
أولاً: أجمع العلماء على أن المرأة إذا حكم بانتهاء حيضها، ودخولها في الإستحاضة أنه يجب عليها أن تغتسل، وهذا الحكم دلّ عليه ظاهر التنزيل، والنّصوص الصحيحة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال عليه الصلاة والسلام: [لتَنْظُرِ الأيامَ التي كَانتْ تَحيضُهُنّ قبلَ أَنْ يُصيبها الّذي أَصابَها فإِذا هِي خَلّفتْ ذَلِكَ فَلتغتسلْ ثُمّ لتُصَلِّ] فقوله عليه الصلاة والسلام: [فإِذَا هي خَلّفتْ ذَلِكَ] أي: خلفت أيام حيضها وهي أيام العادة، [فَلتَغْتَسِلْ]: وهو أمر بالغسل فدلّ على أن المستحاضة يجب عليها الغسل عند انتهاء أيام عادتها، مع جريان دم الإستحاضة معها، وهذا بالإجماع.
ثانياً: يلزمها طهارة فرجها، وهو موضع الإستحاضة، أما لماذا تلزمها طهارة الموضع؛ فلأن دم الإستحاضة خارج نجس من الموضع المعتبر، فكما أن المرأة يجب عليها أن تغسل فرجها إذا خرج منه البول، فكذلك يجب عليها أن تغسل الفرج من دم الإستحاضة.
وقال بعض العلماء:
غسل هذا الموضع أوجبناه على المستحاضة بدليل النقل؛
وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الصّحيح لفاطمةَ بنتِ أَبي حُبيش رضي الله عنها: [فإذا أقبلتِ الحِيضةُ فاتْركِي الصّلاةَ فإذا ذهبَ قَدْرُها فاغسِلي عَنْكَ الدم، وصَلِّي] أي: كلما أردت الصلاة؛ فاغسلي عنك هذا الدم الذي سألتِ عن حكمه، وهو دم الإستحاضة، فدلّ على نجاسته، ووجوب غسله كالبول، والغائط.
ثم يرد السؤال: لو أنها غسلت الموضع، وخرج معها الدّم، فما الحكم؟والجواب: أن المستحاضة في الأصل لها حالتان:
الحالة الأولى: إذا غسلت الموضع وسدَّت مكانه بقطن، أو بقماش إنحبس الدم، وإمتنع من الخروج، وهذه الحالة هي أخفُّ أحوال المستحاضة.
الحالة الثانية: أن يكون دمها ثجّاجاً قوياً لا يستمسك بالقطن، ولا بغيره.
فأما في الحالة الأولى فلا إشكال أنها تغسل الموضع، وتضع القطن لتمنع خروجه حال صلاتها، ولكي تبقى على طهارتها،
وقد أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حَمْنةَ رضي الله عنها بذلك فقال لها:
[أَنعتُ لَكِ الكُرسُفَ] أي: هل أصف لك القطن، ومراده آنها تضعه في الفرج؛ ليمنع خروج الدم، فدلّ على مشروعية سدّها للفرج بقطنة، ونحوها.
وأما الحالة الثانية: أن يكون الدم شديداً، أو ثَجّاجَاً ففي هذه الحالة تغسل الموضع كما تقدم في النّصِ، ثم تضعُ القُطنَ، وتشدُّ الموضع، أو تشدُّ الموضع دون وجود حائل من قطن، أو قماش.وتشدُّ الموضع إما بجمع حافتي الفرج، أو وضع الحبل، أو الذي يُشدُّ على نفس الموضع على حسب ما ترى المرأة أنه يسدُّ، ويمنع خروج الدم،
وهذا هو الذي عبّر عنه المصنف بقوله رحمه الله:
[وتَعصُبُ الفَرْجَ]، والعَصْبُ،
والعِصَابة مأخوذة من: الإحاطة، سُمّيت العِصَابَةُ عِصَابَة؛ لأنها تُحيط بالشيءِ، كما سُميّتْ عصبةُ الإنسان بذلك، وهم قرابته؛ لأنه إذا نزلت به ضائقة، أو شِدّة أحاطوا به بإذن الله -عز وجل- وكانوا معه، فالعصابة أصلها الإحاطة، وبناءً على هذا التعبير قالوا تشد طرفي الموضع.والدليل على أنه يلزمها هذا الشد ظاهر حديث حَمْنة رضي الله عنها فإنها لما قالت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنّي أُسْتَحَاض حَيضةً شديدةً، فلا أَطْهُر؟
قال عليه الصلاة والسلام: [أنعتُ لَكِ الكُرْسُفَ؟] قالت: هو أكثر من ذلك؛
فقال عليه الصلاة والسلام: [فاتّخِذي ثَوْباً] قالت: هو أكثر من ذلك،
قال:
[فتلجّمي] والتّلجم مأخوذ من: اللجام، واللجام في الأصل يكون حائلاً كما في لجام الدابة؛ لأنه يلجمها فيمنعها فهو حائل، ومانع،
ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
[تَلجّمي] معناه اُعصبي الفرج؛ لأن عصبه لجام، ومانع يَقِي من خروج الخارج، أو يحفظ الموضع من إخراج الخارج،
وبناءً على ذلك أخذ العلماء رحمهم الله من قوله عليه الصلاة والسلام:
[تَلجّمِي] أن السُّنة في المرأة المستحاضة أنها تَشدُّ الموضعَ إذا غَلبها الدمُ
.هذا بالنسبة لأحوال المستحاضة إذا حُكِمَ بانتهاء حيضها، ودخولها في الإستحاضة.
وقول المصنف رحمه الله: [ونَحْوِها] يعنى: نحو المستحاضة،
النحو:
بمعنى المثل،
والشبيه كما تقدم:
إما أن يكون نحوها بمعنى شبيهاً للمستحاضة من كل وجه، وهذه حالة، أو يكون شبيهاً لها من بعض الوجوه دون بعضها، وهي الحالة الثانية.ونبدأ بالشّبيه الذي يشبه المستحاضة من كل الوجوه، وهو الذي معه سلس البول، فإذا نظرت إلى كون دم الإستحاضة دماً نجساً من خارج معتبر غلب بكثرة خروجه، فإن الأمر كذلك بالنسبة لمن كان معه سلس البول، فإن البول خارج يوجب انتقاض الوضوء كما توجبه الإستحاضة؛ وهو نجس، وخارج من الموضع المعتبر فهو كدم الإستحاضة سواء بسواء، إذاً من كان به سلس بول نُعْطِيه حكمَ الإستحاضة، وهكذا من به سلس المذي؛ لأن المذي نجس، وكذلك من به بواسير إذا نزفت، واستمر نزيف الدم كالإستحاضة، فإن هذه الأمثلة الثلاثة البول، والمذي، والبواسير كلّها ناقضة للوضوء، وهي نجسة وخارجة من الموضع فهي تشبه الإستحاضة في مسائلها، فإذا استرسلت كدم الإستحاضة أخذت حكمه، وتعرف مسألتهم بمسألة دائم الحدث.
الحالة الثانية:
أن يكون الشبيه للمستحاضة من بعض الوجوه، ومثاله من به نواسير، والنواسير تكون على فتحة الدبر، فهي ليست من الداخل كالبواسير بل من الخارج، ومن هنا لم تُشْبِه الإستحاضة في كونها ناقضة للطهارة، وموجبة للحدث الأصغر، وكذلك الرَّعاف، ونزيف الجروح كلّها تشبه الإستحاضة من بعض الوجوه لا من كلها فهي كالإستحاضة من جهة كونها نجسة، وقد تقدم بيان الأدلة على نجاسة الدم سواء خرج من الموضع، أو خرج من غيره، فأصبحت شبيهة بالإستحاضة من جهة الحكم بنجاستها، والتخفيف فيها إن غلبت، فإذا جرى الدم في النواسير، والرعاف ولم يرقأ فُصِّل في حكمه كالإستحاضة لكنه مخالف لها في كونه لا يوجب انتقاض طهارة الحدث على أصح قولي العلماء رحمهم الله كما قدمناه في النواقض، فتلخص أن هذه الثلاثة تأخذ حكم الإستحاضة في طهارة الخبث، دون طهارة الحدث، وهذا على القول بأنها لا تنقض الوضوء، وأما على القول بأنها ناقضة تكون كالبول، تشبه من كل الوجوه.ويكون الناسور، والرعاف، ونزيف الجروح كالإستحاضة إذا استمر جريان الدم فيه، أما لو كان قطرات تنقطع فإنه لا إشكال فيه فيغسل الموضع، ثم يصلي، فإذا شابه الإستحاضة فكان نزيفه مسترسلاً، أو قطراته لا تنقطع، ولو كانت قليلة، واستمرت وقت الصلاة، فحينئذ يفصّل فيه كالإستحاضة فإن أمكن حبسه بوضع القطن، ونحوه، أو شدّه؛ فإنه يشدّ، ويُحبس، وأما إذا كان لا ينحبس فحكمه حكم دم الإستحاضة إذا إِسترسل تتطهر المرأة لدخول وقت كل صلاة، وهكذا من به السلس، والناسور، والجروح، والقروح السيّالة ثم يصلي في وقته حتى ينتهي وقت الصلاة فيطهّر الموضع ثانية.والذى يُطْعن،
أو يجرح فينزف جرحه له حالتان:
الحالة الأولى: أن يمكن إيقاف النزف بأن يكون خفيفاً؛ بحيث لو وضع في الموضع قطنة سكن نزيفه؛ فحينئذ يجب إيقاف الدم بوضع حائل من قطن، أو قماش، أو نحوه، ولو بالشُّدِ.
الحالة الثانية: أن يكون قوياً لا يرقأ، فإذا كان كذلك؛ صلى، ولو خرج معه ذلك الدم النجس، وتطهر لدخول وقت كل صلاة.
والدليل على ذلك: أن عمر -رضي الله عنه- صلى بجراحته كما في صحيح البخاري، وكذلك -أيضاً- الصحابي رضي الله عنه لما أصابه السهم حينما كان حارساً على فَمِ الشّعبِ، ومع ذلك صلى، وجرحه ينزف دماً؛ لأن نزيف السهام نزيف قوي مستحكم، فمثله لا يرقأ؛ ولذلك تكون هاتان الحالتان مستثنيتين من الأصل الذي يوجب غسل الموضع النجس.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 29-07-2020, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الطهارة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (49)

صـــــ435 إلى صــ445


قوله رحمه الله: [وتتوضأ لوقت كل صلاة]: ذكرنا الآن حكم الموضع وما يجب فيه من طهارة وهذا كله راجع إلى طهارة الخبث فبقي السؤال عن طهارة المستحاضة من الحدث،
فبيّن رحمه الله: أنها تتوضأ لوقت كل صلاة أي عند دخول وقت كل صلاة، وهذا بعد إغتسالها عند إنتهاء عادتها،وهذا الغسل محل إجماع عند العلماء رحمهم الله، وهو غسل الحيض، وأما ما بعد الغسل مما ذكره المصنف رحمه الله من وضوئها لكل صلاة، فهو مسألة خلافية فيها ما يقرب من أربعة أقوال للسلف -رحمة الله عليهم-:
القول الأول: يجب عليها أن تتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء -رحمة الله عليهم- من الحنفية في المشهور، والشافعية، والحنابلة.
القول الثاني: يستحب لها الوضوء عند كل صلاة، ولا يجب، وبهذا القول قال المالكية، والظاهرية، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، الذي يسمى ربيعة الرأي -رحمة الله على الجميع- قالوا لا يجب عليها، ولكن يستحب لها الوضوء عند دخول وقت كل صلاة.
القول الثالث: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة، وهو أشدّ الأقوال، ومأثور عن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وإحدى الروايات عن علي -رضي الله عنه وأرضاه-، وأفتى به سعيد بن المسيب من فقهاء المدينة رحمه الله.
القول الرابع: أنه يجب عليها أن تغتسل في اليوم مرة واحد دون تعيين، وهو قول علي -رضي الله عنه وأرضاه-.
واستدل أصحاب القول الأول:
بما ورد في صحيح البخاري في روايةٍ لحديث عائِشةَ رضي الله عنها في قصة فاطمةَ بنتِ أَبي حُبيش رضي الله عنها،
وفيها قوله:
[وتَوضّئِي لِكُلِّ صَلاةٍ] ومثله حديثها عند أحمد، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجة.
فقوله: [تَوضّئِي]: أمر يدل على وجوب الوضوء على المستحاضة عند دخول وقت كل صلاة،
وهو معنى قوله:
[لِكلِّ صلاةٍ].
وهذه هي أشهر الأقوال في المستحاضة.أما الذين قالوا بغسلها لكل صلاة؛ فالروايات ضعيفة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأمره للمستحاضة بالغسل، إلا ما ورد في حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أمرها أن تغتسل قال كما في الصحيح:
[وكانتْ تَغتَسلُ لكل صَلاةٍ] قالوا: هذا يدل على وجوب غسل المستحاضة لكل صلاة، وهو مذهب من ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم؛ والصحيح أنه لا يجب، وأن اغتسال فاطمة -رضي الله عنها- كان اجتهاداً منها وليس بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لها لأنه عليه الصلاة والسلام:
إنما أمرها أن تغتسل عند إنتهاء عادتها فقط كما هو ظاهر القرآن، والأحاديث الصحيحة عنه عليه الصلاة والسلام.
أما الذين قالوا: بأنه يجب عليها طُهرٌ في يوم واحد فهناك أحاديث ضعيفة، وآثار إستدلوا بها لا تقوى على إثبات ما ذكروه.
والذي يترجح في نظري والعلم عند الله: أنه يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة على ظاهر ما ذكرناه من حديث فاطمةَ بنتِ أبي حُبيشٍ رضي الله عنها، عند أبي داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي، والحاكم، وصححه غير واحد، وسئل الإمام البخاري -رحمه الله- عنه فحسّن إسناده.هذا حاصل ما يُقال في حكم المستحاضة من جهة طُهْرها.
وقوله رحمه الله: [وتُصلّي فُروضاً، ونَوافلَ]: وتصلي الفروض في الوقت، فتصلي فرض العصر، والظهر، والمغرب، والعشاء، والفجر كُلاً بحسب وقته.فإذا توضأت لصلاة الفجر صلّت بهذا الوضوء الفرض، والنوافل، فابتدأت بركعتي الرّغيبةِ فصلّتهما، ثم ثَنّت بصلاة الفجر، ثم إذا توضأت لصلاة الظهر صَلّت الرّاتبة القبلية، والبعدية، وفرض الظّهر، والفروضَ المقْضِيّة، وسائر النوافل، والتطوع ما دام أن وقت الظهر لم ينته، وهكذا الحكم في بقية الصلوات.
قوله رحمه الله: [ولا تُوطَأُ إِلا مَعَ خَوْفِ العَنَتِ]: الجمهور على أنه لا حرج في وطء المرأة المستحاضة، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولم يرد دليلٌ في الكتاب، ولا في السّنة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمنع، أو التحريم، والله -عز وجل- حرّم وطء المرأة الحائض، ولم يحرم وطء المستحاضة.
قالوا:
إن الأصل في المرأة أن يَستمتع بها الزوج،
وهذا على ظاهر التنزيل في قوله تعالى:
{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (1) فإذا ثبت أن الأصل حل الوطء، وجاء عارضٌ، وهو دم الحيض، ونقلنا عن الأصل فإن هذا العارض الناقل يتقيّد بزمانِه، ومدة وجُودِه، فإذا زالَ، وانقطع رجعنا إلى الأصل الموجب لحلِّ الوطء، فهذا هو مسلك الجمهور أنه يجوز الوطء،
وقال بعضهم: مع الكراهة.
وذهب بعض العلماء إلى أنه: يحرم عليه أن يطأها إلا إذا خشي العنت،
والعنت:
هو الزنا، يعنى إذا خشي الوقوع في الزنا له أن يطأ الزوجة، ولا حرج عليه في ذلك، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها جمع من أصحابه رحم الله الجميع.
واستدلوا بقوله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} فقالوا: إن المراد بالأذى وجود الدم في الفرج فيؤذي الزوج، وأجيب بأن تخصيص الآية لدم الحيض، دون غيره دليلٌ على أن المراد التحريم حال وجود الحيض،
دون غيره بدليل قوله:
{حَتَّى يَطْهُرْنَ} فجعله أذى إلى غاية الطّهر، فلو كان دم الإستحاضة مثله لما قيّده بغاية الطهر لأن دم الإستحاضة يأتي بعد الطُّهر سواء كان الطُّهر حقيقة، أو كان حُكماً فصارت الآية دليلاً على الحلِّ؛ لا على التحريم.
ومما يؤكد ذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عن حكم دم الإستحاضة، فلم يأمرْ مستحاضةً أن يعتزلَها زوجُها، ولا يجوز تأخيرُ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ، فلو كان وطؤها حراماً لا يجوز إلا عند خوف الزِّنا لبيّنه عليه الصلاة والسلام، فلما لم يأمر باجتناب المستحاضة دلّ على أنها قد حلّت لزوجها بطُهْرِها من الحيض كما يقول الجمهور رحمهم الله.
قوله رحمه الله: [ويُسْتحبُّ غُسلُها لِكُلّ صَلاةٍ]: يعني إذا دخل عليها وقت كل صلاة؛ فإنها يستحب لها أن تغتسل، أي تغسل البدن، ولا يجب عليها ذلك؛ لظاهر ما ذكرناه من فعل فاطمة -رضي الله عنها وأرضاها-.
قوله رحمه الله: [وأَكْثَرُ مُدّة النّفاسِ أَربعونَ يَوْماً]: شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في أحكام دم النفاس،
والنفاس: مأخوذ من النَّفْسِ،
وتطلق النَّفْسُ في اللغة بمعان فيقال: نَفْسُ الشيء بمعنى ذاته، ومنه قولهم: رأيت محمداً نَفْسَه أي: بذاته،
وتطلق النَّفْسُ بمعنى:
الرّوح على خلاف بين أهل العلم هل هما بمعنى واحد، أو مختلفان،
وتطلق النَّفْسُ بمعنى: الأخ، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2)،
وتطلق النَّفْسُ: على الدّم،
ومنه ما ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لعائِشةَ رضي الله عنها لما حاضت بسرف:
[مالكِ أنُفِسْتِ] أي هل أصابك دم الحيض؟ فلما كان الدَّمُ من أسمائه النّفْسُ؛ سُمّي النِّفاسُ نِفَاساً لذلك، من باب تسمية الشيء بسببه،
والنفاس:
هو (الدّم الذي يَخرجُ عَقيبَ الوِلادَةِ) فالمراد به دم الولادة، والفرق بينه، وبين دم الحيض أن دم الحيض دم مُعتاد، وهذا دم مخصوص بالولد يكون بعد خروجه من بطن أمه.
قال رحمه الله: [أَكثرُ النّفاسِ أربعونَ يَوْماً]: هذه مسألة خلافية،
وللعلماء فيها قولان مشهوران:
القول الأول: الجمهور على أن أكثر النفاس أربعون يوماً، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم؛
وإستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
[كَانتِ النّفساءُ تَجْلِسُ عَلى عَهْدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَربعينَ يَوْماً] فدلّ على أنّ أكثَره أربعونَ يوماً.
القول الثاني: أكثر النفاس ستون يوماً، وهو مذهب المالكية، والشافعية، وقول عبد الرحمن الأوزاعي فقيه الشام -رحمة الله على الجميع-، وما جاوز الستين فهو استحاضة، وليس بدم نفاس.وعلى مذهب الجمهور تجلس أربعين يوماً، وما زاد فهو استحاضة، وليس بدم نفاس، وهو الراجح في نظري والعلم عند الله لورود السُّنة به، وليس لأقله حدُّ معين، فلو أن امرأة ولدت ثم جرى معها الدم لحظة واحدة، فأخرجت دفعة واحدة منه ثم انقطع عنها؛ حكمنا بكونها طاهرة؛ لأنه ليس لأقل النفاس حد معتبر.هذا بالنسبة لأقل النِّفاس، وأكثره.
قوله رحمه الله:
[ومتى طَهُرتْ قَبْلَه تَطَهرتْ، وصَلتْ]: قوله: [ومَتى طَهُرتْ قَبْلَهُ] يعني: قبل أكثر النفاس، فالضمير عائد إلى النّفاس، وقوله: [تَطهّرتْ، وصَلّتْ] أي: أننا نحكم بطُهْرِها،
ومثال ذلك:
امرأة ولدت في أول الشهر، واستمر معها دمُ النّفاس عشرين يوماً، ثم طَهُرت حكمنا بطهرها، فتغتسل، وتصلّي، وتصوم.
وقوله رحمه الله: [طَهُرتْ]: يعني رأت علامات الطهر،
وهي إحدى علامتين:
الأولى: القَصّةُ البيضاء: وهي ماء أبيض كالجير تعرفه النساء،
وهو الذي قصدته عائشة رضي الله عنها بقولها:
[إِنْتَظِرْنَ لا تَعْجَلِنَّ حَتّى ترينَّ القَصّةَ البَيْضاءَ].
والثانية: الجفوف، والمراد به جفوف الفرج بحيث لو وضعت قطنة خرجت نقيّة لا دم فيها.فإذا رأت إِحدى هاتين العلامتين قبل تمام الأربعين حكمنا بطهرها، فإذا رأت الدم كما قدمنا في المثال السابق عشرين يوماً، ثم رأت علامة الطهر حكمنا بطهرها، ثم إن لم يعاودها قبل تمام الأربعين يوماً فلا إشكال، وإن عاودها قبل تمام الأربعين فهي نفساء حتى تتم أكثر النفاس.
قوله رحمه الله: [ويُكْرَهُ وطْؤُها قَبلَ الأَربعين بَعْد التَّطْهِيرِ]: قال بعض العلماء: المرأة النفساء إذا طَهُرت قبل الأربعين لا تُوطأ، وهو رواية عن الإمام أحمد -رحمة الله عليه- إختارها جمع من أصحابه رحمهم الله.ومنهم من قال إنه محمول على الكراهية، والجمهور على الجواز.لكن ذكر بعض الأطباء فائدة، وهي أن الجماع قبل الأربعين يؤثر في الفرج، وأنه لا يرجع إلى طبيعته قبل الأربعين،
ولذلك قال بعض الأطباء:
الأفضل ألا يقع جماع، وذهب بعض العلماء رحمهم الله إلى أن العلّة هي خوف رجوع الدم، ويكون إِنقطاع الطهر عندها مؤقتاً بمعنى اليوم، واليومين، وهذا يحدث فإن المرأة تكون نفساء، ثم تطهر بعد عشرين يوم، وفي اليوم الحادي والعشرين لا ترى شيئاً، ثم في اليوم الثاني والعشرين يعود عليها الدم،
ولذلك قالوا:
لا نأمن أنها ما دامت داخل الأربعين أن الدم يعود إليها بعد أن إنقطع.والقول بالجواز أرجح؛ لأنه هو الأصل، ولم يرد دليل في الشرع بالتّحريم كما قدمنا في وطء المستحاضة،
وقد نقل عن حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله:
[إِذَا صَلّتْ حَلّتْ] وهو يدلّ على أنه إذا حلّت الصلاة للمرأة حلّ وطؤها سواء كانت نفساء، أو حائضاً.
قوله رحمه الله:
[فإِنْ عَاودَها الدّمُ فَمشكُوكٌ فيه]: يعني إذا عاود الدّمُ المرأة النفساء بعد أن طهرت وقبل تمام الأربعين فمشكوك فيه بمعنى: أنه يحتمل أنه: نِفَاسٌ إستصحاباً للأصل،
ويحتمل أنه: إستحاضة، ومشى المصنف رحمه الله على كونه مشكوكاً فيه، والأصل يقتضى إلحاقه بالنفاس؛ لأنه في أمده، ووقته وهو الراجح، لكن يُعتذر للقول المرجوح بأنها رأت علامة الطهر قبله فتنازعه الأصلان؛ فهذا هو وجه إعتباره مشكوكاً فيه.
قوله رحمه الله: [تَصُومُ، وتُصلّي، وتَقضِي الوَاجِبَ]: بناءً على الأصل، واليقين أنها طاهر، والدم مشكوك فيه فنلغي الشك، ونبقي على اليقين للقاعدة المشهورة [اليَقينُ لا يُزَالُ بِالشّك] فاليقين أنها مطالبة بفريضة الصلاة، والصيام، وشكَكْنا في سقوطهما؛ فبقينا على الأصل الموجب للمطالبة بهما، فهذا هو وجه مطالبتها بالصوم، والصلاة، وقد قدمنا أن الراجح أنه نفاس إن عاد قبل تمام أكثره.
قوله رحمه الله: [وهو كالحيْضِ فِيمَا يَحِلُّ، ويَحرُمُ، ويَجِبُ]: قوله رحمه الله: [وهو] أي: النفاس،
وقوله:
[كالحيض فيما يحلُّ، ويَحرمُ، ويَجِبُ] أي: أن النفاس يمنع ما يمنع منه الحيض، وقد تقدم بيان موانع الحيض، فالمرأة النفساء لا تصوم، ولا تصلي، ولا تدخل المسجد، ولا تلمس المصحف كما ذكرنا في الحائض، ويستثني من ذلك ما ذكره -رحمه الله-
من قوله:
قوله رحمه الله: [ويَسْقُط؛ غيرَ العدةِ، والبلوغِ]: قوله: [ويَسْقُطُ]؛
أي:
أن النفاس كالحيض يسقط التكليف بالصلاة، والصوم، وقد سمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحيض نفاساً؛ لكن يستثنى من مساواة النفاس بالحيض العدة، والبلوغ، فإنك لا تحكم بكون المرأة تعتد بدمِ النّفاس بخلاف دم الحيض؛ فإنها تعتد به،
ولذلك قال تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (3) فردّهن إلى الدم الذي هو دم الحيض،
قيل:
قروء أطهار وقيل: حيضات كما سنبينه في باب الطلاق إن شاء الله تعالى، ولأن العدّة في الحامل تنتهي بوضع الحمل، لا بخروج دم النفاس،
لقوله تعالى:
{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.أما بالنسبهَ للبلوغ فقالوا: لا يثبت البلوغ بدم النفاس؛ لأنها بحملها يثبت البلوغ، ولذلك يرى العلماء أن الحمل دليل على البلوغ.
قال النّاظم رحمه الله:
وكلُّ تَكْليفٍ بِشَرْطِ العَقْلِ ... مَعَ البُلُوغِ بِدَم أَوْ حَمْلِأ
و بمنيٍ أوْ بإنباتِ الشَّعَرْ ... أو بِثمَاني عَشرةٍ حَوْلاً ظَهَرْ
وإن كان الصحيح أن خمسة عشر توجب البلوغ، لظاهر حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح، كما سيأتي بيانه في علامات البلوغ.
قوله رحمه الله:
[وإِنْ ولَدتْ تَوأَمَينِ؛ فَأوّلُ النِّفَاسِ، وآخِرهُ مِنْ أَوّلِهمَا]: أي أننا نعتد في توقيت دم النفاس بأوّل الولدين،
فعلى سبيل المثال:
لو أنّ إِمرأة ولدت ولدين: الولد الأول ولدته في اليوم العاشر من الشهر، والثاني ولدته في الثاني عشر فإننا نعتد باليوم العاشر؛ فإذا أتمّت به الأربعين طهُرت على مذهب القائلين بالأربعين.وإعتبار الولد الأول هو مذهب الجمهور؛ لأنه الأصل في الولادة، والثاني تَبع له.وقال الظاهرية ومن وافقهم العبرة بالولد الثاني، فتبدأ إحتساب مدة النفاس من الولد الثاني فبيّن رحمه الله أن العبرة بأول الولدين لا بآخرهما، وهكذا الحكم عنده فيما لو كانت الولادة لتوائم أكثر، فالعبرة بالولد الأوّل لأنه حَمْل واحدٌ آخذ حكم البطن الواحد لا فرق بين أن تضع ولداً، أو أولاداً فكلّه بطنٌ واحد كما لو ولدت واحداً.
وآخِر دَعْوانا أنِ الحمد لله رب العَاَلميْنَ وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) البقرة، آية: 187.
(2) النساء، آية: 29.
(3) البقرة، آية: 228.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 19-08-2020, 01:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,791
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الصلاة)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (50)

صـــــ1 إلى صــ11


مقدمة كتاب الصلاة

لقد عظم الشرع من شأن الصلاة فجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام؛ بل هي عمود الدين، فلا يستقيم دين العبد إلا بها، وهي الفارق بين المسلم والكافر، ولأهميتها يجب على المسلم أن يتعلم أحكامها من شروط وواجبات وأركان، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بالصلاة.
من أحكام الصلاة
تعريف الصلاة لغةً وشرعاً
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الصلاة].
قوله: (كتاب) مراد العلماء رحمهم الله بكلمة (كتاب) التعبير بها للدلالة على عِظم المبحث وسعة مسائله، ولذلك يقسمونه إلى فصول، ويقسمون الفصول إلى مباحث ومسائل، وكل مذهب بحسبه.والصلاة في اللغة تستعمل بمعانٍ،
أولها:
الدعاء،
ومنه قوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] فقوله: (صلّ عليهم) أي: ادع لهم،
ومنه قول الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فإن لجنب المرء مضطجعا ومعنى البيت: أن هذا الشاعر لما أراد أن يسافر قالت بنته: يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا فقال رداً عليها: عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي عيناً فقوله: (عليك مثل الذي صليت) أي: لك مثل ما دعوت لي من السلامة والعافية من البلاء.
ومن معاني الصلاة: البركة،
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري:
(اللهم صل على آل أبي أوفى)،
أي:
بارك لهم فيما رزقتهم.
وتطلق الصلاة بمعنى: الرحمة،
ومنه قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56] أي: إن صلاة الله على نبيه رحمته،
ومنه قول الشاعر:
صلى المليك على امرئٍ ودعته وأتم نعمته عليه وزادها فهذه معاني الصلاة في اللغة.
أما في اصطلاح العلماء فإنهم إذا قالوا: (الصلاة) فمرادهم بها أنها عبادةٌ مخصوصة مشتملة على أقوال وأفعال مفتتحةٌ بالتكبير ومختتمة بالتسليم،
فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث علي:
(تحريمها التكبير وتحليلها التسليم) أي: الصلاة.
فقوله صلى الله عليه وسلم:
(تحريمها التكبير) هي التكبيرة الأولى،
ولذلك قالوا:
إن التكبيرة الأولى تسمى تكبيرة الإحرام؛ لأن المكلف بهذه التكبيرة يدخل في حرمات الصلاة، فلا يتكلم ولا يعبث ولا يفعل أي فعلٍ يعارض الصلاة أو يخالف مقصودها،
ولذلك قالوا:
مفتتحةٌ بالتكبير.
وقالوا: (ومختتمة بالتسليم)؛ لأنه إذا أنهى صلاته خرج بالسلام، أي أن خاتمتها تكون بالسلام، ولذلك اعتبر من أركانها.وأما كونها (عبادةً مخصوصة) فقد أجمع العلماء على وصفها بكونها عبادة مشتملة على أقوال وأفعال؛
فقوله صلى الله عليه وسلم:
(إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح وذكر الله وقراءة القرآن) كما في صحيح مسلم.فهذا التعريف الاصطلاحي نفهم منه أن الصلاة عند العلماء -أعني الفقهاء- لها معنىً مخصوص، وأن معناها في اللغة أعم من معناها في الاصطلاح، والسبب الذي جعل العلماء يجعلون تعريفاً لغوياً وتعريفاً شرعياً أن الحقائق الشرعية ربما أطلقت بمعنىً أخص من إطلاقها اللغوي، ولذلك تجد معنى الصلاة في اللغة أعمّ من معناها في الاصطلاح، ولذلك يعتنون بذكر التعاريف الاصطلاحية؛ لهذه الحقائق الشرعية المخصوصة.
[أهمية الصلاة في القرآن والسنة]
الصلاة عبادةٌ عظيمة مفروضة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادة،
ولذلك ثبت في الصحيحين من حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه لليمن قال له:
(فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلواتٍ في كل يومٍ وليلة) أي أن الله أوجب عليهم هذه الصلوات الخمس، وفرضها عليهم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بيان وجوب الصلاة تابعاً لفرضية الشهادتين،
ولذلك قال العلماء رحمهم الله: إن أهم ما يعتنى بالدعوة إليه، وأمر الناس به، وحثهم عليه، وحضهم على فعله هو الصلاة بعد الشهادتين، فهي أهم المهمات بعدها،
وآكد الفرائض والواجبات بعد قول: (لا إله إلا الله)، شهادة التوحيد، وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمود الإسلام، ومن المعلوم أن العمود إذا سَقط سقط ما بُني عليه، وهذا يدل دلالة عظيمة على فضل هذا الركن العظيم وعظيم شأنه.
وثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام:
(أنها آخر ما يفقد الناس من دينهم) وأنه إذا فقدت الصلاة فقد ذهب الدين،
وثبت في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره:
(أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن صلحت نظر في بقية عمله، وإن كان لها مضيعاً فإنه لما سواها أضيع).فهذه الصلاة فرضها الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وورد ذكرها في القرآن في أكثر من موضع، يأمر الله بها تارة، وتارةً يرغب فيها، وتارةً يبين فضل أهلها ويثني عليهم، ويبين عواقبهم من دخول الجنة وحصول رضوان الله تعالى عليهم بفعلها.
وقد أمر الله بها عموماً فقال تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وأمر بها خصوصاً فقال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت:45].
وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم خطابٌ لأمته، وأمر سبحانه أن تؤمر بها الذرية والأبناء والأهل والأزواج والزوجات،
فقال تعالى:
{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وأخبر سبحانه وتعالى عن فضل أهلها الآمرين بها،
فأثنى على نبيه إسماعيل فقال:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:54 - 55] قال بعض العلماء في قوله تعالى: (وكان عند ربه مرضياً) أي: بأمره لأهله بالصلاة؛ لأنه أمرهم بأعظم شعائر الدين وأجلّها عند الله عز وجل.وأجمع المسلمون على وجوب الصلاة وفرضيتها، وأنها ركنٌ من أركان الإسلام؛
لما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة)، فأجمعوا على أنها ركنٌ من أركان الإسلام، وأنه لو جحد إنسانٌ وجوبها كفر، إلا أن يكون جاهلاً فيعلم، كما سيأتي إن شاء الله بيانه للمصنف رحمه الله.
ولما كان من عادة العلماء رحمهم الله أن يقولوا: (كتاب الصلاة)، والمقصود بهذا الكتاب بيان الأحكام والمسائل المتعلقة بعبادة الصلاة، استلزم ذلك بيان ما يشترط لصحة الصلاة من الوقت واستقبال القبلة، ففي المواقيت يتكلمون عن أفراد المواقيت،
أعني: مواقيت الصلوات الخمس، وفي استقبال القبلة يتكلمون عن مسائل استقبال القبلة، ومتى يسقط هذا الواجب -كما هو الحال في السفر- ويقوم على الاجتهاد والظن؛ لثبوت السنة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك يتكلمون على ستر العورة وأخذ الزينة، وما يتبع ذلك من مباحث، كصلاة العراة ونحوهم.ثم يتكلمون في الصلاة على صفتها، ويتضمن ذلك بيان الأركان والواجبات والسنن التي هي من هيئات الصلاة، فيبدأون ببيان أركانها التي فرضها الله عز وجل، وإذا لم يقم المكلف بها فلا تصح صلاته.ثم بيان الواجبات التي إذا فعلها أثيب، وإذا تركها عوقب وأثم ولا يحكم ببطلان صلاته إلا إذا تركها متعمداً، فهي أخف مرتبةً من الأركان، ثم السنن التي يرغب في فعلها ولا حرج في تركها.ثم بعد ذلك يتكلمون على ما يطرأ على الصلاة، كما هو الحال في باب سجود السهو، فيتكلمون على حال المكلف إذا أخلّ بالأركان أو بالواجبات أو السنن، ثم يتكلمون على أفراد الصلاة الواجبة، ثم المسنونة التي لا تجب على الأعيان وقد تجب على الكفاية، فيتكلمون على صلاة الجمعة وصفتها وشروطها وما يلزم لها، ثم يتكلمون على الصلوات النوافل التي تشترط لها الجماعة، كصلاة التراويح وصلاة العيدين على القول بأنها سنة مؤكدة، وما يتبع ذلك من صلاة الاستسقاء ونحوها.
ثم يتكلمون على مطلق النوافل بصلاة التطوع، فيذكرون المباحث المتعلقة بالسنن الراتبة والوتر -على القول بعدم وجوبه- فهذه المباحث كلها متشعبة ومتعددة، فمن العلماء من يختصر، ومنهم من يسهب،
ونظراً إلى تعددها حتى في المختصرات فإن من عادة العلماء أن يقولوا:
(كتاب الصلاة) دون قولهم: (باب الصلاة)؛ لسعة هذا المبحث، وكثرة مسائله، وتشعب أحكامه.وقد ذكر المصنف رحمه الله كتاب الصلاة عقب كتاب الطهارة، والمناسبة في هذا لطيفة، وهي أن الطهارة وسيلةٌ إلى الصلاة، وقد أمر الله عز وجل بالطهارة قبل الصلاة،
فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، فمن المناسب أن يتكلم على الوسائل قبل الكلام على المقاصد، ولذلك أتبع المصنف رحمه الله كتاب الطهارة بكتاب الصلاة.
[من تجب عليه الصلاة]
قال المؤلف رحمه الله:
[تجب على كل مسلم مكلف].
الوجوب في أصل اللغة: السقوط،
يقال:
وجب الشيء، إذا سقط،
ومنه قولهم:
وجبت الشمس، إذا سقطت،
ومنه قوله تعالى:
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: سقطت واستقرت على الأرض.ويطلق الواجب في لغة العرب بمعنى اللازم،
ومنه قول الشاعر:
أطاعت بنو عوفٍ أميراً نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب أي: أول لازمٍ عليهم أن يفعلوه.
والواجب في الاصطلاح: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، فالواجب أعلى مراتب الأوامر، والحنفية يجعلون أعلى مراتب الأوامر الفرض، ثم يليه الواجب، ويفرقون بين الفرض والواجب بأن الفرض ما ثبت بدليل قطعي، والواجب ما ثبت بدليل ظني سواءٌ في الدلالة أم في الثبوت، كما هو مفصل في مباحث الأصول.
قوله رحمه الله: (تجب) أي: الصلاة.أراد المصنف بهذه العبارة أن يبين حكم الصلاة، ولذلك ينبغي على طلاب العلم والفقه أن يبتدئوا أولاً ببيان موقف الشريعة من العبادة،
وعادةً إذا قال العلماء:
(كتاب الزكاة)، أو (كتاب الصلاة)، أو (كتاب الصوم)،
يقولون عقبه:
(تجب الصلاة)، أو: (تجب الزكاة)، أو: (يجب الصوم)؛ لأن أول ما يحتاج إليه بيان حكم الشريعة في هذا المبحث من مباحث الفقه، ولذلك قال المصنف: (تجب)، أي: الصلاة، فالأصل فيها اللزوم والوجوب.
قوله: [على كل مسلم].
أي: تجب هذه الصلاة على كل مسلم، و (كل) من ألفاظ العموم عند الأصوليين إذا جاءت في صيغ الكتاب أو السنة، وقد درج العلماء على ذلك.فأول ما يخاطب به من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، ولذلك قدم شرط الإسلام؛ لأنه لا تصح الصلاة من كافر، فيطالب المسلم أولاً بالإتيان بالشهادتين، ثم بعد ذلك يتوجه عليه الخطاب بفعل الصلاة.فلابد من وجود الإسلام أولاً، ثم توجه الخطاب ثانياً،
وهذا مفرع على حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
(إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات).
فلا يخاطب أحد بالصلوات إلا بعد أن يحقق الشهادتين،
ولذلك قال المصنف:
(على كل مسلم)، وهذا الوجوب محل إجماع،
إلا أنَّ بعض العلماء يقولون:
الصلاة واجبة،
وبعضهم يقول:
الصلاة فرضٌ، والتعبير بهما على مسلك الجمهور واحد،
ولكن الحنفية يقولون: إنها فريضة، ويرون أنها أعلى مراتب الوجوب، والخلاف بين الحنفية والجمهور في هذا عند بعض المحققين من أهل الأصول خلاف لفظي.
فالحاصل من هذا أن العلماء رحمهم الله قالوا: إنها واجبة، ونستفيد من هذا أن تَرْكها إثمٌ، وأن فعلها قربة وطاعة.ولما كانت واجبة ويردq على من تجب؟
قال:
(على كل مسلم)،
والمراد هنا:
جنس المسلم، فيشمل الذكر والأنثى، ولا فرق بين ذكرٍ وأثنى في الأحكام إلا ما خص الدليل به الرجال دون النساء، أو النساء دون الرجال.
وقوله:
[مكلفٍ].
التكليف:
مأخوذٌ من الكلفة، والشيء الذي فيه كلفة هو الذي فيه مشقة وتعب وعناء، والعلماء رحمهم الله يعبرون عن أوامر الشرع ولوزامها بأنها تكاليف؛ لأنه لا بد في الشرع من ابتلاء،
والدليل على ذلك قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فدل على أنه يكلف، لكنه يكلف بما في الوسع لا بما هو خارج عنه، والسبب في هذا أنه لو كانت الأوامر خاليةً من التكليف والمشقة لعريت عن الابتلاء، ولاستوى المطيع والعاصي؛ لأنه لا يظهر فرق بين المطيع والعاصي إلا بوجود الابتلاء،
ولذلك قال تعالى:
{لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك:2] أي: ليختبركم.وهذا يدل على أن تكاليف الشرع فيها ابتلاء،
ومن الأدلة على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
(حفت الجنة بالمكاره)،
والمكاره:
ما يكون في التكاليف سواءٌ أكانت أوامر أم نواهي، فإن كانت أوامر فالمشقة في تحصيلها، وإن كانت نواهي فالمشقة في تركها والاجتناب عنها.
والتكليف ينقسم إلى قسمين: إما تكليفٌ بمشقةٍ مقدور عليها، وإما تكليفٌ بمشقة غير مقدورٍ عليها، كان التكليف يتضمن مشقةً غير مقدور عليها فهذا لا يكلف به ولا يرد به التكليف؛ لأن النص في الكتاب دلّ على أنه لا يكلف بما فيه مشقة؛
لقوله تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]،
وقوله:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]،
وقال صلى الله عليه وسلم:
(إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)، فدلّ هذا على أن تكاليف الشرع ليس فيها مشقةٌ غير مقدور عليها.
وإن كان التكليف بالمشقة المقدور عليها، فهذه يكلف بها، ولكن هناك ضوابط عند العلماء؛ إذ قد يخفف على الإنسان، كالحال في مشقة الصوم في السفر، فأنت تقدر على الصوم في السفر ولكن بمشقة فيها حرج، فخيّرك الله عز وجل بين أن تصوم وبين أن تفطر.والتكليف يكون بالأمر والنهي.
والتكلف في قوله: (على مسلمٍ مكلف) يتضمن شرطين،
وقيل ثلاثة شروط:
الشرط الأول: العقل،
والشرط الثاني:
البلوغ،
كما قيل: وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل فلا بد في التكليف أن يكون هناك عقلٌ، وأن يكون هناك بلوغ، فلا تكليف على مجنون، ولا على صبيّ دون البلوغ.
وقال بعض العلماء: يضاف إليهما أمرٌ ثالث وهو الاختيار وعدم وجود الإكراه.
لكن هذا في مسائل مخصوصة، فقد يسقط التكليف لعدم وجود الاختيار كما في المنهيات، فلو أن إنساناً اضطر إلى حرامٍ فإنه يسقط عنه التكليف ولا يكلف، ولذلك يقتصر بعض العلماء على الشرطين الأولين في ثبوت الأهلية، ويرون أن الشرط الثالث يتقيد بأحوال مخصوصة.
أما الدليل على أنه لا يخاطب بالصلاة غير العاقل فهو ما جاء في حديث علي عند أبي داود وأحمد في المسند بسندٍ صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(رُفِع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون عن يفيق)، فدلّ على أن من كان مجنوناً لا يكلف،
لقوله:
(رفع القلم)، وفرّع العلماء عليه أن من شرط وجوب الصلاة أن يكون عاقلاً، وهذا بالإجماع، وأما بالنسبة لكونه بالغاً فللحديث نفسه، وأما أمره عليه الصلاة والسلام في حديث أحمد وأبي داود أن يؤمر الصبيان بالصلاة لسبع، وأن يضربوا عليها لعشر، فهذا من باب التعويد والترويض، لا من باب التكليف.
وعند العلماء خلاف فيما إذا أمر إنسانٌ أن يأمر غيره، فهل الأمر للأول أو للثاني؟ فعلى القول بأن الأمر للأول فإن هذا الحديث دلّ على أن لا تكليف أصلاً؛ لأن الخطاب لم يتوجه إلى صبي، وبناءً على هذا نأخذ من هذين الحديثين دليلاً على المسألتين، وهو أنه يشترط في إيجاب الصلاة البلوغ والعقل.

وعند بعض العلماء الصّبي فيه تفصيل: فإذا بلغ العاشرة فإنه يؤمر بالصلاة ويلزم بها، ويعتبرونه نوع تكليف واستثناء من عموم الخطاب الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم برفع القلم عن الصّبي،
حتى قال بعض العلماء:
إنه يثاب ولا يعاقب لقوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) وذكر منهم الصّبي،
وقال:
إن حديث: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) يدل على أنه يثاب ولا يعاقب، ويبقى الثواب معلقاً على بلوغه، فإذا بلغ جرى القلم بكسب ثوابه، وهذا مذهبٌ فيه تكلّف، وهو مذهب لبعض الأصوليين، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً، ولكن الصحيح أن ظاهر السنة عدم تكليفه، وأن الأمر متوجهٌ إلى الآباء من باب الترويض والتعويد، كما ثبت مثله في الصوم من أمر الصحابة أبناءهم بالصيام، كما في أثر أنس رضي الله عنه وأرضاه-، وإعطائهم اللعب والدمى من العهن يعبثون بها حتى ينشغلوا عن طلب الطعام والإخلال بصيامهم.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 4 ( الأعضاء 1 والزوار 3)
ابوالوليد المسلم

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 301.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 295.85 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.94%)]