الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         ابتسامة تدوم مدى الحياة: دليلك للعناية بالأسنان في كل مرحلة عمرية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 20 )           »          كم يحتاج الجسم من البروتين يوميًا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          أطعمة ممنوعة للمرضع: قللي منها لصحة طفلك! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          مكملات البروبيوتيك: كل ما تحتاج معرفته! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          التخلص من التوتر: دليلك لحياة متوازنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          أطعمة مفيدة لمرضى الربو: قائمة بأهمها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          كيفية التعامل مع الطفل العنيد: 9 نصائح ذكية! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          كيف يؤثر التدخين على لياقتك البدنية وأدائك الرياضي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          كل ما تحتاج معرفته عن لقاح السعال الديكي للأطفال والبالغين! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          لمرضى السكري: 9 فواكه ذات مؤشر جلايسيمي منخفض! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > الحدث واخبار المسلمين في العالم
التسجيل التعليمـــات التقويم

الحدث واخبار المسلمين في العالم قسم يعرض آخر الاخبار المحلية والعالمية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 03-09-2012, 09:59 AM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي

تسارع قوى عديدة في الثورة إلى تبنيها!!! ولما نقول واقعة فإننا لا نستثني منها الوفاة الغامضة لرأس المخابرات المصرية اللواء عمر سليمان وكذا مدير وحدة المعلومات في جهاز « الشين بيت » « الإسرائيلي». وإذا تتبعنا ردود الفعل السورية والدولية فلن نقع على أية خيوط يمكن ملاحقتها للوقوف على حقيقة الواقعة المثيرة بكل ما في الكلمة من معنى. لكننا سنقع على تصريحات من بان كيمون ووزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس وهي تصف الواقعة بـ « الإرهاب» تماما مثلما وصفها فلاديمير بوتين وإيران!!! كل هذا المكر والغموض والتناقضات أفسح المجال لكثير من التكهنات لكن دون جدوى.

واقع الأمر؛ لو أن نظاما آخر خسر هذا الكم والنوع كالذي خسره النظام لما استطاع الصمود دقيقة واحدة!!! لكن النتيجة مع النظام السوري كانت معاكسة تماما وهو يحصل على حماية دولية فورية عبر الفيتو الروسي - الصيني المزدوج، والثالث في مجلس الأمن!!! والسؤال: إذا كانت الثورة السورية شأنا محليا؛ فلماذا يحظى النظام بكل هذه الحماية الدولية؟


« العائلة الأسدية» والنظام


ثمة قناعة لدى بعض السوريين ترى بأن المشكلة واقعة فيما يسمونه بهيمنة « العائلة الأسدية» على الحكم والطائفة. فإذا ما تخلص الشعب السوري من هذه العائلة سيكون سهلا عليه التخلص من النظام. لكن واقع الأمر أن النظام في سوريا ليس نظاما عائليا يماثل النظام الليبي أو اليمني، ولا نظاما مافياويا كما كان الحال في تونس أو مصر .. بل هو نظام طائفي بامتياز، أسسته فرنسا منذ اللحظة الأولى للانتداب سنة 1920. وفي تلك اللحظة من الزمن لم تكن « العائلة الأسدية» واردة في الحسبان بقدر ما كانت المسألة تتعلق بتأمين طائفة على البلاد لحماية النظام الدولي الجديد الذي بني على أشلاء العالم الإسلامي. وعليه فإذا كانت الطائفة امتيازا استعماريا فإن « العائلة الأسدية» لم تكن إلا امتيازا في إطار الطائفة وليس خارجها. فما الذي يعنيه هذا التوصيف بالنسبة لهوية الثورة؟

يعني أن « العائلة الأسدية» لا يمكن أن تكون امتيازا دوليا في مثل هذه اللحظات العاصفة والخطرة بقدر ما تحظى به الطائفة العلوية، وبالتالي فمن الممكن إزاحة « العائلة » مع الاحتفاظ بالطائفة بوصفها الثابت الاستراتيجي الوحيد الذي يمكن ائتمانه، حتى اللحظة، على سلامة النظام الدولي الإقليمي وأمنه واستقراره.

ضمن هذا التوصيف يمكن استحضار كافة التصريحات الدولية والمحلية والإقليمية التي استعملت تعبير « الحرب الأهلية» وهي تحذر من وقوعها وتمددها في المنطقة. كما يمكن استحضار تصريحات بشار الأسد، بداية الثورة، وهو يهدد « المركز» بـ « إشعال الشرق الأوسط في ست ساعات»!!! تهديد أقرب إلى العتاب الشديد من أي أمر آخر. إذ أن « المركز» هو الذي أطلق يد الطائفة، طوال عقود، ضد السنة في المنطقة، وخاصة ضد المجتمع السوري. وهو الذي صمت، إن لم يكن شجع، على أبشع مذابح النظام الطائفي في سوريا ولبنان. كما صمت على فرض النظام علاقة طائفية دموية وأمنية مرعبة، طالت الدولة ومكوناتها، والمجتمع بمدنه وقراه وأحيائه، والمؤسسات المدنية والإثنيات التي تشكل قوام المجتمع السوري بما يزيد عن 25 إثنية، وكافة الطبقات والشرائح والفئات العمرية، إلى الحد الذي لم يفلت من بطش هذه العلاقة المتوحشة طفل أو شيخ أو امرأة أو شاب أو معارض أو سياسي أو ناشط أو مثقف ..

لا ريب أن « العائلة الأسدية» تستند إلى الطائفة التي تحظى بحماية دولية وإقليمية خاصة من إيران ذات المشروع الصفوي الذي يستعمل الطائفة جسرا للعبور إلى المنطقة. ولا ريب أيضا أن الطائفة تعلم جيدا أنها أوقعت في المجتمع السوري، لاسيما أهل السنة منه، من الأذى ما لا يمكن التسامح معه بقدر ما يبدو اليوم مبررا يسمح بالانتقام منها .. انتقام أصلته وقائع السياسة الدموية المتوحشة التي انتهجها النظام ضد الثورة. وبالتالي فقد صار حال الطائفة كمن يسائل « المركز»: ما هو مصيرنا بعد كل الدم الذي سفكناه، والأعراض التي انتهكناها، والأجساد التي مزقناها، والوحشية التي تغنينا بها؟

ما هو المصير؟ ليس سؤالا طائفيا محليا فحسب، بل هو في الأساس سؤال دولي!!! وتبعا لذلك فالثورة السورية، شاء السوريون أم أبوا، ليست شأنا محليا أبدا رغم أنها تبدو كذلك بالمقارنة مع الثورات الأخرى. والأطروحة التي تحاول، عبثا، التأكيد على محلية الثورة والنأي بنفسها عن أية صدامات دولية، لم تقرأ الثورة جيدا أو أنها تتهرب من لحظة الحقيقة.


النظام برؤية دولية


في الجوهر لا وجود لفرق يذكر بين جناحي « المركز»، الشرقي والغربي، فيما يتعلق بالثورة السورية إلا في إدارتها والبحث عن أفضل السبل في وقف تهديدها للنظام الدولي. ففي حين يبدو الغرب شديد التخوف من أن تفلت الثورة من طوق السيطرة والتحكم يبدو الروس ومعهم الصينيون أكثر ثقة فيما يفعلون، وأحوج إلى احترام الغرب لدورهم ولـ « ذكائهم» وقدراتهم في التحكم والسيطرة، خاصة أن روسيا هي من تولى الملف السوري تاريخيا بعد حرب العام 1956، فضلا عن صراع النفوذ بين القوى الكبرى.

التصريحات الدالة على كون الثورة السورية شأن دولي رافقت الثورة منذ لحظاتها الأولى. بل أن بعض التصريحات المجردة من الأغطية الدبلوماسية كتعبير « الحرب الأهلية» صارت صريحة بصراحة قائليها. ويكفي التذكير ببعضها.

فحين صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لإذاعة « كومرسانت إف إم – 21/3/2012» قائلا: « إنّ الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قوية وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنِّي في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد»، إنما كان في واقع الأمر يخاطب زملاءه في « المركز» لاسيما أمريكا وبريطانيا وفرنسا وليس العرب أو السوريين كما توهم البعض وهو يرد على لافروف ببلاهة عجيبة متهما إياها بـ « الطائفي»!!!! وكأن هذا ما ينقص لافروف. فالثلاثي الملطخة أيديه بالدماء في أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين والجزائر ولبنان .. والذي اعترض الثورات العربية بوحشية .. استغلها بمكر شديد وهو يحاول على حساب الروس تحسين صورته الدموية عبر التباكي على الحرية وحقوق الإنسان والمذابح المروعة، فما كان من لافروف إلا وفضح الموقف الغربي ولسان حاله يقول: « أتريدون حكما سنيا في سوريا»؟

هذا التصريح الذي ألجم انتهازية الغرب أدلى به لافروف ليذكّر الغرب بأن الاتحاد السوفياتي البائد، وقلبه روسيا، هو الذي تَسلَّم من الفرنسيين حماية الطائفة في سوريا بعد حرب السويس سنة 1956 وإيصالها إلى منصة الحكم، وهو الذي حافظ على أمن النظام الدولي الإقليمي بعد تبنيه حركات التحرر في العالم، وهو الذي حال دون إحداث أي فارق في الصراع مع « إسرائيل»، وهو الذي سحب مستشاريه من مصر وأبقى عليهم في سوريا عشية حرب تشرين أول / أكتوبر 1973!!!

في مقالة له نشرتها صحيفة الواشنطن بوست 19/7/2012 بعنوان: « دعوة واشنطن للتخطيط لما بعد الأسد» كتب ديفيد إغناتيوس يقول: « إن واشنطن لا تزال ترغب في مساعدة موسكو في إدارة انتقال سوريا»، وإن الرئيس باراك أوباما يسعى لـ « انتقال للسلطة مسيطر عليه»، عبر (1) « الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد بأسرع وقت ممكن»، و (2) « إنجاز ذلك بدون تبخر سلطة الدولة». لذا فإن: « المسؤولين الأميركيين يحذرون من أنه كلما أصبح الوضع أكثر عنفا فإن الباب لتعاون دولي فعال ربما يتم إغلاقه»

إذن الروس أمناء على أمن النظام الدولي وشركاء في حمايته وخبراء في التعامل معه وليسوا هواة أو انتهازيون أو بلهاء أو طائفيون كما يحلو للبعض أن يثرثر!!! ورغم ما بدا مراوغات سياسية وإعلامية، فيما يتعلق بمصير الأسد، إلا أن الروس، كما الغرب، أعلنوا أكثر من مرة أنهم لا يأبهون لبقاء الأسد من عدمه في السلطة. وصاروا، ولمَّا يزالوا، أشد وضوحا من الغرب فيما يتعلق بمصير النظام الدولي وليس بمصير الأسد. فبعد تصريح لافروف قال الناطق الرسمي باسم الخارجية الروسية، الكسندر لوكاشيفيتش، في مؤتمر صحفي عقده بموسكو 21/6/2012: « من الواضح تماما أن الوضع السوري مرتبط بأسس النظام العالمي المستقبلي، وكيفية تسوية الوضع ستحدد إلى حد كبير كيف سيكون هيكل نظام الأمن الدولي الجديد والوضع في العالم عموما». وردا على التصريحات الغربية التي أعقبت بيان مؤتمر جنيف في 30/6/2012، واتهام روسيا بالتمسك بالأسد قال ألكسندر أورلوف، السفير الروسي في باريس(20/7/2012)،: } إن ما تدافع عنه روسيا ليس نظام بشار الأسد، « لكنه النظام الدولي»{. فهل تصمد الثرثرة والأيديولوجيات أمام هكذا توصيفات؟ عجبا!!!!

من باب التذكير نشير إلى اللحظات الأخيرة قبل التصويت على مشروع القرار الذي اصطدم بالفيتو الروسي – الصيني (24/2/2012). فقد تناقلت وسائل إعلام عديدة التحذير القطري للمندوب الروسي فيتالي تشوركين من مغبة استعمال الفيتو، فما كان من هذا الأخير إلا التهديد بمحو قطر عن الخريطة مذكرا وزير الخارجية القطري بأنه هنا ( في مجلس الأمن) مجرد ضيف. وذات الأمر تكرر في مؤتمر جنيف ( 30/6/2012)، وهو ما أشارت إليه الصحفية راغدة ضرغام (6/7/2012) نقلا عن أحد المصادر التي حضرت المؤتمر قوله:} إن الروس بالذات استاؤوا جداً من تركيا وقطر على أساس أنه » لا يحق« لهما التدخل في نص لمشروع قرار يخص مجلس الأمن وأن عليهما ألا يتصرفا وكأنهما عضوان في المجلس{. ومن باب التذكير أيضا فقد نفى السفير الروسي صحة الواقعة الأولى في مؤتمر صحفي، إلا أن أحدا لم ينف أو يعلق على واقعة جنيف!!!

لكن الخشية الغربية من خروج الأمر عن السيطرة ربما تكون دفعت الروس إلى التعجيل بانتقال السلطة. ويبدو أن الروس توصلوا إلى تفاهم ما حول تنحي الأسد. فحين صرح ألكسندر أورلوف، السفير الروسي في فرنسا، بأن بشار الأسد وافق على التنحي عن السلطة (20/7/2012)، سارعت الخارجية السورية إلى النفي. وبحسب السفير الروسي، فإن فكرة « انتقال السلطة في سوريا» طرحت في البيان الختامي لمؤتمر جنيف، وأن الأسد وافق عليها، « وعين مبعوثا له ليقود المفاوضات مع المعارضة من أجل هذا الانتقال»، وأضاف السفير: « هذا يعني أنه قبِل أن يرحل لكن بطريقة منظمة»، مشيرا إلى أنه: « من الصعب عليه البقاء بعد كل ما حدث، لكنه قبِل أساسا أن عليه أن يرحل». لكن الغرب تحفظ على مثل هذه التصريحات التي أثارت غضبا سوريا عارما. وفي السياق نقلت وكالة « رويترز» عن دبلوماسي غربي القول: « لم نسمع الأسد يقول من قبل إنه مستعد للتنحي، لكن ماذا يقصد هل يقصد الآن، أو في غضون عامين .. علينا توخي الحذر». ومن الواضح للمراقبين أن « التحفظ» الغربي يحيلنا إلى مهلة العام التي منحها مؤتمر جنيف للروس لإدارة الملف السوري .. والتي قد ترتقي إلى عامين بحسب التحفظ الغربي مذكرة، من طرف خفي، بـ « عامي روبرت فيسك» عشية مؤتمر جنيف!!!!


إيران وإسرائيل: مخاوف مشتركة


أما ساسة « إسرائيل» الذين استفاقوا فجأة ( 10/6/2012) على ما وصفوه بـ « الفضيحة التي لا يمكن تصديقها .. الإبادة الجماعية .. صمت قوى العالم يتناقض مع المنطق الإنساني .. الوجه القبيح لمحور الشر .. المجازر ... » فلم تكن إلا تعبيرا عن صراع القوى الدولية حول الملف النووي الإيراني انطلاقا من سوريا. إذ أن كل ما أراده قادة « إسرائيل» من الدخول العلني المفاجئ على خط الثورة السورية هو ليّ ذراع إيران التي صارت بنظر « المركز» أجدر من « إسرائيل» في حماية النظام الدولي والحفاظ على أمنه واستقراره، ولا ريب أن صعود الدور الإيراني سيعني بالمحصلة تراجع في مكانة « إسرائيل» لدى « المركز» .. تراجع يثير فزعا في « إسرائيل»، ويستثير فيها « عقلية الغيتو»، التي تؤشر على الشعور بخطر الزوال .. « عقلية» تجد تعبيراتها في سلسلة القوانين العنصرية، والرغبة الجامحة في الانزواء بدولة يهودية الطابع!!! ولعل التاريخ يشهد بأنه كلما اتجه اليهود نحو « الغيتو» كلما دل ذلك على الشعور بقرب الخطر وفداحته!!!

إذا كان هذا التوصيف مغاليا؛ فلنقرأ تصريحات يئجال بلمور، الناطق بلسان الخارجية « الإسرائيلية»، في تعليقه ( 21/7/2012) على حادثة مقتل خمسة يهود في بلغاريا (18/7/2012)، واتهام « إسرائيل» لإيران وحزب الله بارتكابها. فقد اعترف بلمور بوجود « توتر بين إسرائيل وإيران»، وهذا لا يخفى على أحد، لكنه أفصح بصريح العبارة عن مخاوف مشتركة تجاه سقوط الأسد، حين قال: « إن التوتر بين إسرائيل من جهة وإيران وحزب الله من جهة أخرى كبير ومنذ سنوات, ( لكن ) الجانبين يخشيان جدا سقوط بشار الأسد ... »، أما المصدر الأوحش لـ « الخشية الإسرائيلية - الإيرانية» بحسب يئجال بلمور فهي: « من إرادة الشعب السوري» .. خشية تصل إلى حد الشعور بالخطر المصيري الذي يتهدد وجود المشروعين الصهيوني والصفوي في المنطقة.


البأس والعصبية والخيارات


لا شك أن بأس الثورة السورية أصابت العالم بالصداع والعصبية الشديدة، فلا « المركز» قادر حتى اللحظة على احتواء الثورة السورية وتجنيب النظام الدولي خطر الانهيار، ولا غزارة الدماء ووحشية الاعتراض دفعت السوريين إلى الانكفاء. ولقد كانت لفتة بالغة الخطورة ذلك التصريح الذي أدلى به مصدر في البحرية الروسية. فمن المعروف أن البريطانيين اعترضوا في الشهر الماضي سفينة الشحن الروسية « ألايد»، التي تحمل طائرات مروحية هجومية كانت متوجهة إلى سوريا، ورفعوا عنها غطاء التأمين الدولي، مما اضطرها للعودة. لكنها عادت للإبحار مجددا تحت العلم الروسي بدلاً من علم جزيرة كوركاو في البحر الكاريبي.

وبحسب صحيفة « ميل أون صندي - 15/7/2012» فإن مصدراً بارزاً في البحرية الروسية أكد أن أوامر رسمية ستصدر في القريب العاجل لسفن البحرية الروسية لتأمين المرافقة الوثيقة للسفينة التي قد تبحر على مقربة من الجزر البريطانية، مما يثير مخاوف من احتكاك دولي مسلح. وتعقيبا على ذلك نقلت الصحيفة أيضا عن مصدر في البحرية الروسية قوله: « نأمل ألا يُطلق أحد شرارة الحرب العالمية الثالثة بسبب ذلك، فنحن لم نتلق أوامر حتى الآن لمرافقة السفينة ألايد، لكننا نتوقع صدورها في أي وقت بعد أن تم التخطيط للعملية»!!!

بهذا المنطق الدولي المتوتر تغدو الثورة السورية مسألة دولية صرفة، وبالغة الخطورة. ولا يمكن لها أن تفلت من خيارين لا ثالث لهما:

• إما أن تقبل بالحل الدولي القائم على بقاء الطائفة في الحكم بوصفها البنية المركزية للنظام، والأمينة على مصالح النظام الدولي. وفي السياق تجدر الإشارة إلى أن ضربة « خلية الأزمة» تقع في سياق التمهيد للحل الدولي. فإذا لم تكن الضربة من فعل القوى الثورية فستبدو استجابة لما احتوته وثيقة جنيف، التي حرصت على استبعاد عناصر التوتر من أية حكومة انتقالية قادمة. وفي كل الأحوال فإن الفشل الذريع سيكون حليف الثورة السورية. إذ أن ما سيحصل بالضبط هو، في المحصلة، بقاء الصيغة التاريخية للحكم « النظام – الطائفة» بقطع النظر عن التكوينات الأخرى للسلطة الانتقالية، مع بعض التحسينات الشكلية التي لا تلبث أن تنفجر في أية لحظة، وقبل أن تتبلور.

• وإما أن تدخل في مواجهة صريحة مع « المركز» بكافة تشكيلاته وأطروحاته وأدوات النفوذ فيه. وهذا يعني مواجهة « المركز» والمشروع الصفوي والمشروع الصهيوني. لكن في هذه الحالة ينبغي ملاحظة أن الثورة السورية التي انتقلت من الحالة الشعبية السلمية إلى الحالة الشعبية المسلحة ستحتاج إلى (1) قيادة موحدة وصارمة، تلملم شتات المجموعات المقاتلة، وإلى (2) خطاب صريح يجمعها لا غبار عليه البتة. أي أنه لا مفر من مواجهة المشاريع العقدية الثلاثة بمشروع عقدي صريح، بعيدا عن كل الدعوات التي تدور في فلك الأيديولوجيات أو السقف الدولي مثل الدولة المدنية أو الديمقراطية أو الحرية أو العدالة ..... ، والتنصل من الأطروحات العلمانية واللبرالية التي حرصت على إرضاء « المركز» واستبعدت كل مرجعية إسلامية دون أن تظفر بأي مكسب يذكر إلا ما يعرضه عليها المركز.

يتبع ...
  #22  
قديم 03-09-2012, 10:03 AM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي


الثورة السورية ومسارات التدويل


نحو الوصاية العسكرية!!!


(9)


د. أكرم حجازي

25/8/2012








بخلاف النظام الدولي، وحتى بعض مضي نحو ثمانية عشر شهرا على الثورة السورية، إلا أن السوريين لم يتجرؤوا بعد على مواجهة لحظة الحقيقة العاصفة في مسار الثورة وما بعدها. ففيما خلا الجماعات الجهادية، ذات المنحى العقدي في خوض الصراع وإدارته، فإن بعض البقية الباقية، والغالبية من القوى السياسية والمقاتلة، (1) يتمنع أو يتردد أو يتهرب خشية من استحقاقات اللحظة القادمة، لا محالة، وبعضها الآخر (2) ما زال يتأمل الخلاص عبر تدخل دولي يختصر الوقت والجهد، ويعفيه من الحرج، وبعضها (3) لم يتردد، منذ اللحظة الأولى للثورة، في نسج تحالفات واتصالات مع القوى الدولية، غير آبهٍ بأية عواقب عقدية أو حقائق تاريخية وموضوعية أو حتى أخلاقية تجاه خياراته. والسؤال: أين عين الحقيقة في الثورة؟


أولا: قبل تنحي الأسد


عين الحقيقة ما قاله الرئيس السوري بشار الأسد، حين سئل بعد الثورة التونسية والمصرية، عما إذا كان من الممكن أن تندلع ثورة في بلاده فأجاب بالنفي، مشيرا إلى أن « سوريا مختلفة»!!! ولما وقعت الثورة هدد بـ « إشعال الشرق الأوسط في ست ساعات»، وفي مقابلة عاصفة مع صحيفة « الصندي التلغراف – 30/10/2011 » البريطانية، ذكّر الأسد « المركز» بالواقع الذي لم يختلف عليه أحد منذ تم اختيار الطائفة العلوية لتكون الأمينة على النظام الدولي وأمن المنطقة، فقال:

« إن سوريا اليوم هي مركز المنطقة .. سوريا مختلفة كل الاختلاف عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف، والواقع السياسي مختلف .. إنها الفالق الذي إذا لعبتم به تتسببون بزلزال، .. هل تريدون رؤية أفغانستان أخرى أو العشرات من أفغانستان؟ .. أي مشكلة في سوريا ستحرق المنطقة بأسرها .. إذا كان المشروع هو تقسيم سوريا، فهذا يعني تقسيم المنطقة برمتها ...».

لم يكن الأسد غبيا ولا مبالغا حين اختار أن يكون الحوار مع المركز هو « عين الحقيقة». فالشام هي أرض الخلافة وذات الكفالة الربانية وملاذ المؤمنين في زمن الفتن والملاحم وأرض المحشر والمنشر. وانفكاك أسرها يعني زلازل في المنطقة والعالم وليس زلزالا واحدا.

عين الحقيقة في التسليم بالقول: لو أن نظاما ما تعرض لهزة واحدة كالتي يتعرض لها النظام في سوريا لسقط على الفور. ومع ذلك فقد اندلعت ثورة من رحم المستحيل، ولم يعد فيها للنظام جيشا آمنا ولا جهازا أمنيا ولا قائدا، وخسر قادة ما يسمى بـ « بخلية الأزمة»، علاوة على خسارته لأكثر من 70% من سيطرته على الأرض، وبدأ السياسيون، كالعسكريين، يبحثون عن هوامش للإفلات من قبضة النظام، حتى أن شخصية بحجم رئيس الحكومة لم تعد شخصية مأمونة، فضلا عن نائب الرئيس .. ومع أن النظام يتعرض في صلبه لاستنزاف مرعب في عناصر القوة لديه إلا أنه ما زال يبدو نظاما قويا وعصيا على الكسر!!! فمن أين له كل هذه القوة!!!؟ سؤال في « عين الحقيقة»!!!

عين الحقيقة هو ما ينبغي التسليم به بلا مواربة من أن الطائفة العلوية في سوريا هي امتياز دولي جرى تأهيلها منذ لحظة الانتداب الفرنسي على سوريا كي تؤدي وظيفة واحدة هي امتصاص كافة حركات التحرر والتمرد التي يمكن أن تهدد لاحقا استقرار أو بقاء النظام الدولي الحالي، الذي أقيم على أنقاض العالم الإسلامي من جهة أخرى. ومن يجادل في هذه الحقيقة البديهية عليه يتذكر ما سبق وقاله أمين الحافظ، الرئيس السوري الأسبق، في برنامج شاهد على العصر على قناة « الجزيرة»: « في سوريا نظام حكم طائفي حاقد على كل ما يمت للإسلام والعروبة بصلة»، وعليه فما من طائفة في الشام يمكن ائتمانها على المنطقة والنظام الإقليمي الدولي، الذي مركزه سوريا، كما هي الطائفة العلوية. ولأن بذور البغض والحقد على العروبة والإسلام متأصلة فيها .. ولأنها طائفة مطاريد؛ فقد كانت مهيأة، استعماريا، للقيام بأية مهمة لقاء نزولها عن الجبال، والتمتع بخيرات السهل ( = المدينة). وقد مضت عقود طويلة، منذ الانتداب الفرنسي وإلى يومنا هذا، حالت فيه هذه الطائفة من إحداث أي فارق في الصراع العربي « الإسرائيلي»، ونجحت في تجميد أو تفكيك كل عناصر القوة في الأمة، فضلا عما فعلته على وجه الخصوص في المجتمع السوري من قهر وقتل وتجهيل وعنصرية وإشاعة للفاحشة والظلم والفساد والاستبداد.

ولأن عين الحقيقة تكمن في إدراكها، وإدراك مكانة سوريا في النظام الدولي، فلا مفر من التذكير بأن الروس هم الذين تسلموا حماية الطائفة العلوية من الفرنسيين في أعقاب « حرب السويس» سنة 1956، وهم الذين أوصلوها، فيما بعد، إلى الحكم، وسهروا على رعايتها، إلى أن لحق بهم الإيرانيون بعد 17/2/1982. وبالتالي فإن « المركز» هو المسؤول عن حماية النظام وبقائه في سوريا وليس الروس وحدهم. ولنتأمل ما قاله الناطق الرسمي باسم الخارجية الروسية، الكسندر لوكاشيفيتش، في مؤتمر صحفي عقده بموسكو 21/6/2012: « من الواضح تماما أن الوضع السوري مرتبط بأسس النظام العالمي المستقبلي، وكيفية تسوية الوضع ستحدد إلى حد كبير كيف سيكون هيكل نظام الأمن الدولي الجديد والوضع في العالم عموما». أما ألكسندر أورلوف، السفير الروسي في باريس (20/7/2012)، فقال: } إن ما تدافع عنه روسيا ليس نظام بشار الأسد، « لكنه النظام الدولي»{. وما يبدو خلافا بين شقي المركز، الشرقي بقيادة روسيا، والغربي بقيادة الولايات المتحدة، ليس في الحقيقة إلا صراعا على النفوذ مصدره العقلية القيصرية الإمبراطورية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وضعف « الرأسمالية» مقابل صعود الروس والصينيين اقتصاديا. وفي السياق نذكر بالتصريح المثير له حين قال في 11/7/2012: « إن نفوذ الغرب آخذ في الاضمحلال مع تراجع اقتصاده .. وأنه .. مشارك في دبلوماسية منفردة خارج الأمم المتحدة للحفاظ على نفوذه في السياسة العالمية».

لكنه، مع ذلك، يظل صراعا لا يخرج عن خشية الغرب من انهيار مفاجئ للنظام، قد يؤدي إلى كوارث على النظام الدولي، مقابل اعتراضات روسية وصينية تجهد في توظيفه لخدمة مصالحها والاستئثار بمكانة أعلى في النظام الدولي، إنْ لم يكن السعي لقيادته. وبالتالي ينبغي أن يُفهَم جيدا أن اعتراضات الروس والصينيين لمساعي الغرب في مجلس الأمن الدولي لا تمت بصلة، من قريب أو من بعيد، لنصرة الشعب السوري أبدا، هذا الفهم هو « عين الحقيقة» أيضا فيما يتعلق بدعوات بعض قادة الحزب الجمهوري الأمريكي لتسليح الثوار السوريين أو التحريض على التدخل العسكري الأمريكي بزعم الحرص على مصداقية القيم الأمريكية!!! فهي دعوات لا تخرج عن نطاق الاجتهاد في اعتراض السياسات الروسية أو تأمين خط الرجعة للسياسات الأمريكية في قادم الأيام أو الأسابيع أو حتى السنين.

عين الحقيقة فيما لا يمكن للعين أن تخطئه من أن الثورة السورية تحاصرها ثلاثة مشاريع عقدية دولية ضارية هي « صليبية المركز» و « صفوية إيران» و « يهودية إسرائيل». والكل فيها يتسلح ويصنع وينتج ويهاجم ويتمدد على حساب المسلمين الذين لا يمتلكون حتى الآن مشروعا عقديا صريحا تجتمع عليه الأمة دون وجل من هذه القوة أو تلك. وغني عن القول أن أصحاب هذه المشاريع أباحوا لشعوبهم ودولهم السعي لامتلاك كل أدوات القوة واستعمالها في الغزو والعدوان والقتال في شتى بقاع الأرض في حين لم يكن لأي مشروع إسلامي من نصيب إلا الإدانة والعدوان والتصفية والتشويه. بل أن « الجهاد» صار حقا لدى ملل الكفر قاطبة ومحرما على ملة الإسلام أن تدافع عن نفسها. وفي المحصلة تبدو الثورة السورية، شاءت أم أبت، في مواجهة صريحة مع النظام الدولي برمته، عاجلا أم آجلا، أو في مواجهة نفسها إذا ما أصرت القوى السياسية على التهرب من هذه الحقيقة أو أنكرتها أو خاصمت أهلها.


ثانيا: بعد التنحي


وعليه فإن عين الحقيقة أيضا تقع في الإقرار بفرضية جدلية تميل إلى القول بأنه حتى لو انشق بشار الأسد نفسه، وأنّى له ذلك، فلن يغير انشقاقه من الأمر شيئً فيما يتعلق بمصير النظام في سورية، باعتباره ملكية دولية. فحتى هذه اللحظة لا يمتلك « المركز» أي بديل عن النظام في سوريا إلا النظام نفسه، أو بمعنى أدق الطائفة نفسها. وهي حقيقة سبق وأكدها رفعت الأسد، في مقابلة مشتركة مع وكالة « فرانس برس» وصحيفة « لوموند – الفرنسية - 14/11/2011»، حين قال بأن: « الحل يكمن في أن تضمن الدول العربية لبشار الأسد سلامته كي يتمكن من الاستقالة وتسليم السلطة لشخص لديه دعم مالي ويؤمن استمرارية جماعة بشار بعد استقالته، يجب أن يكون شخصًا من عائلته: أنا أو سواي». وفي السياق ينبغي إعادة التأكيد الحاسم الذي لا يقبل الجدل على أن النظام في سوريا ليس هو الأسد ولا عائلته بل الطائفة نفسها. وهنا بالضبط تقع تصريحات قدري جميل، نائب رئيس الحكومة السورية، حول إمكانية مناقشة استقالة الأسد في حوار محتمل مع المعارضة خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده في موسكو مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (21/8/2012).

عين الحقيقة أن « المركز» الذي عمل على تنصيب الطائفة حاكمة على سوريا يشعر وكأنه يواجه لحظة لم تكن في الحسبان .. لحظة المفاصلة الشعبية الحاسمة مع النظام واحتمال زوال حكم الطائفة. ولأنه لا بديل لديه فلا حل عنده إلا إطالة أمد النزيف الدموي بانتظار التحضير لبديل قادم ليست له أية ملامح حتى الآن إلا النظام نفسه. وبالتالي فهو يعمل منذ بداية الثورة على معادلة « الحل مع النظام» سواء على الصعيد الأمني أو على الصعيد السياسي أو حتى على صعيد تدمير سوريا برمتها حتى لا تقوم لها قائمة لعشرات السنين. وهو حل لا يدرك تبعاته غوغاء الثورة السورية ولا يلقي له ربائب « المركز» بالا.

عين الحقيقة أن « المركز» بات مقتنعا باستحالة استمرار الأسد في السلطة، لذا فقد بدأ الشق الغربي منه، يسابق الزمن لترتيب الوضع في سوريا عبر تكثيف اتصالاته مع (1) القوى الدولية خارج الأمم المتحدة و (2) الاستخبارات الإقليمية و (3) عسكريين منشقين. فمنذ الفيتو الروسي – الصيني الثالث في مجلس الأمن (21/7/2012) أعلنت سوزان رايس، المندوبة الأمريكية، أن: « الولايات المتحدة ستعمل خارج الأمم المتحدة لدعم المعارضة السورية» في ضوء « الأداء السيئ» لمجلس الأمن. ونشطت الدبلوماسية الأمريكية والفرنسية والبريطانية فعليا في التنسيق لتأمين ما أسموه « انتقالا سلميا للسلطة» و « تأهيل المعارضة السورية»، وتبعا لذلك أعلن كوفي أنان، المبعوث العربي الدولي المشترك، استقالته في 3/8/2012 احتجاجا على تبادل « الاتهامات والسباب» في مجلس الأمن، في حين أن سبب الاستقالة يكمن في نهاية المهمة.

أما على الصعيد الأمني فقد تصاعدت الاتصالات الأمريكية - التركية، تمهيدا لما أسمته هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، بـ « اليوم التالي» قائلة: « أعتقد أننا نستطيع أن نبدأ في الحديث عن والتخطيط لما سيحدث بعد ذلك» .. وقد جرى ترجمة هذا « الاعتقاد» في أعقاب لقائها بنظيرها التركي أحمد داوود أوغلو في اسطنبول (7/8/2012)، فقالت: « نحن بحاجة إلى الخوض في التفاصيل الحقيقية مثل التخطيط العملي ويجب أن يتم ذلك عبر حكومتينا»، وأضافت: إن الولايات المتحدة وتركيا اتفقتا على التنسيق المشترك والعميق بشأن الحاجة لدعم جماعات المعارضة السورية، وذلك من أجل إعدادها لمرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد». وفي السياق كشفت كلينتون عن: « وحدة أزمة جديدة تشكلت للتعامل مع أسوأ حالة من السيناريوهات بسوريا» مضيفة أن: « أجهزة مخابراتنا وجيشانا أمامهم مسؤوليات مهمة وأدوار عليهم القيام بها ومن ثم سنشكل مجموعة عمل لتحقيق هذا الأمر»، يجيء الإعلان عن « الوحدة» على خلفية الكشف عن « أمر سري» وقعه الرئيس الأمريكي باراك أوباما يقضي بتقديم دعم لوجستي للمعارضة دون الدعم القتالي، ولا ريب أنها ستعمل بالتنسيق مع مركز القيادة السري في أنطاكيا، والذي تديره الولايات المتحدة وتركيا والسعودية وقطر، لتحديد وجهة الدعم الحيوي لمقاتلي المعارضة، بحيث لا تصل إلى قوى إسلامية معارضة.

ومن عين الحقيقة في السياق أيضا؛ أن الاستخبارات البريطانية والفرنسية والألمانية ولاسيما الأمريكية، التي تعاني، بحسب صحيفة « الواشنطن بوست – 25/7/2012 » الأمريكية من فجوة استخبارية في سوريا حول هوية القوى العسكرية المقاتلة والنظام السوري، تنشط منذ شهور في بناء شبكة اتصالات مع كبار الضباط المنشقين وحتى في تجنيد العملاء، سواء بهدف المراقبة أو لتحقيق اختراقات في صفوف القوى المقاتلة من الجيش الحر وغيره أو للحصول على معلومات ميدانية وأخرى حساسة تتعلق بمخزون الأسلحة الكيماوية لدى النظام السوري، وتمهيدا لبناء ذراع ضاربة تتولى مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية وضبط السلاح والحدود في حالة رحيل سلس أو مفاجئ للأسد. وفي مقالة له كتبها في صحيفة « التايمز – 10/8/2012 » البريطانية قال وليم هيغ، وزير الخارجية،: « أن بلاده ستواصل العمل مع المعارضة السورية وخصوصا مع ممثلي الجيش الحر لتأمين استعدادهم للسقوط الحتمي للأسد». ولم يكن غريبا أن تتسرب مؤخرا قائمة بأسماء عشرة ضباط منشقين من مناطق درعا والسويداء وريف دمشق وحمص وحماه واللاذقية وإدلب وحلب ودير الزور، قيل أن الأمريكيين التقوا بهم فرادى، بهدف تشكيل أطر عسكرية وأخرى سياسية لاستقطاب رموز القوى في مرحلة أولى كمقدمة لاستقطاب العناصر التي ستنضوي تحت هذه التشكيلات قبل الإعلان عنها.

والعجيب في أمثال هؤلاء أنهم حين يجلسون مع الأمريكيين أو يتم استدعاءهم من قبل المخابرات الدولية يظنون أنهم أندادا لهم، ويمكن أن يعتمدوا عليهم، كقادة مؤهلين، أو خبراء يتمتعون بالكفاءة، في حين أن أمثلهم طريقة سرعان ما يقع في فخ انعدام الوزن، حتى أنه لا يدري الفرق بين السلطة الحاكمة والنظام.

وفي الولايات المتحدة أيضا، وفي ذات السياق من التواصل مع المعارضة أو صناعتها، نقلت وسائل إعلام في 12/8/2012 عن وزيرة الخارجية، بعد لقائها نظيرها التركي،: « أنها التقت مجموعة من الناشطين السوريين والخبراء والقانونيين والصحفيين والقيادات الطلابية في محاولة لمعرفة ما يمكن للولايات المتحدة فعله لمساعدتهم». وفي وقت لاحق 11/8/2012 أُعلن في واشنطن عن تشكيل جماعة سورية معارضة من ستين عضوا باسم « جماعة الدعم السورية»، لجمع التبرعات المالية والعينية، وبحسب لؤي السقا، أحد الأعضاء الاثني عشر في مجلس الإدارة، فإن الجماعة: تمثل آلاف المقاتلين في تسع محافظات، وأن هؤلاء الذين يمثلون ما يقارب نصف المقاتلين في الجيش الحر»، وأنهم: « وقعوا إعلان مبادئ يدعو إلى دولة ديمقراطية لجميع السوريين بغض النظر عن الطائفة أو الدين أو العرق، وترفض المبادئ كذلك الإرهاب والتطرف والقتل بغرض الانتقام».

أما الأتراك فـ عين الحقيقة واقعون بين المطرقة والسندان. فهم كمجتمع وريث الإمبراطورية العثمانية يعج بعشرات القوميات المختلفة، مثل سوريا تماما، وأكثر ما يؤرقهم في مسألة القوميات أولئك العشرة ملايين علوي أو أكثرممن يعيشون بعمق يصل إلى أضنة، فضلا عن المشكلة الكردية ممثلة بـ « حزب العمال الكردستاني - PKK». أما النفوذ الصهيوني والرأسمالي في البلاد فما زال بالغ القوة. وإذا أضفنا الشيعة إلى هؤلاء؛ فيمكن القول ببساطة أن تركيا تقف على فوهة بركان قد ينفجر في أي لحظة غير محسوبة، وأسوأ ما في هذا أن المشروع التركي الذي من المفترض أن تصبح البلاد بموجبه من العشرة الكبار في العالم بحلول العام 2023 يصبح في مهب الريح. لذا فقد تحرك الأتراك على عجل لضمان مصالحهم في المنطقة في حالة سقوط الأسد. وتصرفوا وكأنهم في حالة حرب حين تجاوزوا الأعراف الدبلوماسية بين الدول واجتمعوا بأكراد العراق في كركوك، المدينة التي يُنظر إليها بمثابة الشرارة التي يمكن أن تفجر الأوضاع في العراق بين الأكراد وحكومة المالكي، وبدا أن أكراد العراق قد حصلوا من الأتراك على ما لم يحصلوا عليه من المالكي، مقابل التوقف عن دعم حزب العمال الكردستاني و « الاتحاد الديمقراطي» في سوريا. وفي المحصلة فإن التعويل على دعم تركي حاسم للثورة السورية بعيدا عن الغطاء الدولي يبدو شبه مستحيل. ولا يفوتنا في السياق التذكير بالتصريح الشهير لوزير الخارجية أحمد داوود أوغلو لوكالة « أنباء الأناضول – 9/7/2012 » والذي قال فيه: « حاولنا إسقاط النظام في سوريا وفشلنا».

أما الإيرانيون فقد أرسوا بعد « مجزرة حماة – 1982» بنية تحتية أمنية في سوريا، اخترقت كل مفاصل الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأكثر من هذا عملوا على تركيز بنية تشيُّع عريضة تبدأ من العاصمة دمشق وتمتد حتى حمص وحماة والرقة وإدلب وحلب. ونسجوا علاقات تحالف مع النظام ترى في سوريا بلدا يحكمه « آل البيت» ولا يمكن أن يسمحوا بسقوطه بأيدي « النواصب» على حد تعبير أحمد جنتي، عضو مجلس الخبراء، الذي قال في خطبة الجمعة بطهران (25/5/2012): « على الشيعة العرب الدخول إلى سوريا والجهاد إلى جوار النظام السوري حتى لا تقع سوريا بأيدي أعداء آل البيت». ثم تبعه محمد رضا رحيمي نائب الرئيس الإيراني في تصريحات نقلها التلفزيون الرسمي بالقول: « إن الشعب الإيراني له موقف لا يقبل التغيير إزاء السوريين وسيقف دائما إلى جوارهم»، وكذلك أمين سر مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي الذي قال في 31/7/2012 أن: « طهران مستعدة لدعم دمشق أكثر من ذي قبل في مواجهة الضغوط الأجنبية .. سنقرر وفقا للظروف كيف سنساعد أصدقاءنا والمقاومة في المنطقة». وبعدهم وزير الدفاع الإيراني الجنرال أحمد وحيدي وتأكيده لوكالة « مهر – 22/8/2012 » الإيرانية أن: « اتفاقية الدفاع المشترك بين بلاده وسوريا لا تزال قائمة وسارية المفعول» .. لكن دمشق .. « لم تتقدم حتى الآن بأي طلب يتعلق بهذه الاتفاقية»، وقبله بيوم؛ نقلت صحيفة « الوطن» القريبة من النظام السوري تصريحات إيرانية حذرت فيها تركيا من « رد قاس» .. في حال تدخلها عسكريا في سوريا .. و « تغيير قواعد اللعبة». ومن جانبه نقلت صحيفة « شرق – 31/7/2012 » الإيرانية عن مسعود جزائري، نائب رئيس أركان الجيش الإيراني، قوله أن إيران: « لن تسمح للعدو بالتقدم في سوريا»، لكنها لا ترى ضرورة للتدخل في الوقت الحالي، مضيفا أن: « تقييمنا هو أنهم لن يحتاجوا لذلك».

باختصار فإن المشروع « الصفوي» الإيراني الذي تضخم بالتواطؤ مع « المركز»، وواصل تمدده حتى بلغ أصقاع الأرض لا يرى أية إمكانية للتراجع عما حققه من إنجازات، لاسيما أنه بات أكثر جدوى وفائدة، بالنسبة لـ « المركز» من المشروع « اليهودي»، بالنظر إلى إمكانياته الضخمة وعداءه العقدي مع المسلمين وتوفر القدرة لديه على اختراق الحواضر الإسلامية في العالم الإسلامي بما لا يقارن مع قدرة « إسرائيل»، العدو العقدي الصريح. وإذا كانت الطائفة العلوية تمثل ضمانة أمنية متميزة لعشرات العقود السابقة؛ فمن الأولى القول بأن المشروع « الصفوي» بات أكثر ضمانة لـ « المركز» حتى من المشروع الصهيوني نفسه، وفي هذا يكمن سر التحريض « الإسرائيلي» على ضرب إيران بعد أن شعرت « إسرائيل» أن المشروع « الصفوي» يهدد مكانتها الدولية إنْ لم يهدد وجودها ذاته. فهل يستوي بعد هذا القول بأن إيران أو « المركز» عدوان!!!!؟ أو أن « المركز» يمكن أن يضحي بالمشروع « الصفوي» وهو العاجز عن إيجاد بديل للطائفة الحاكمة في سوريا!!!؟

عين الحقيقة أن « المركز» قد يتدخل عسكريا لكن ليس من أجل إسقاط النظام بل بعد سقوطه. فعشية الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الأمريكية لتركيا واجتماعها مع نظيرها أحمد داوود أوغلوا قال المسؤولون الأمريكيون أن كلينتون ستجري « محادثات عميقة» لمناقشة خطة من ثلاثة محاور تهدف إلى تنحي الأسد وتحقيق انتقال سلمي للسلطة، (أولها) « تقييم مدى نجاعة الدعم المقدم حاليا للمعارضة السورية»، و (ثانيها) « مضاعفة المساعدات الإنسانية لتركيا لدعم جهودها في مساعدة اللاجئين السوريين»، و (ثالثها) « التخطيط للمرحلة الانتقالية وما بعد التخطيط». وفي ذات الإطار، يؤكد الأمريكيون أنهم: « لا يستطيعون وضع تاريخ محدد لرحيل الأسد، ولا يعرفون متى سيكون هذا ممكنا»!!! وكل ما يفعلونه هو تهيئة: « المجموعة الدولية أن تكون مستعدة لمساعدة السوريين في التعامل مع التحديات التي ستواجههم في الانتقال إلى سوريا الجديدة». لكن ما هو مضمون التدخل المحتمل؟ وما هي دواعيه وأهدافه؟ وماذا يعني بالنسبة للثورة السورية؟

عين الحقيقة أن « المركز» لم يعد قادرا على القيام بمغامرات عسكرية بعد تجارب أفغانستان والعراق على وجه الخصوص. فهو يعلم علم اليقين أن هناك من يتحين الفرصة لخطأ من هذا النوع، ويتحرق لمنازلته كما تحرق الشعب السوري عقودا طويلة شوقا لمنازلة النظام الطائفي. ويعلم أيضا أن الأزمة الرأسمالية الطاحنة في العالم لن تتيح له خيارات كبرى أو حتى صغرى لإرسال الجيوش إلى حيث يرغب، إلى الحد الذي اضطر الولايات المتحدة، بداية هذا العام، إلى تغيير استراتيجيتها القتالية والاعتماد على الحروب الرقمية والأمن والطائرات المسيرة بدلا من الجيوش التي ستستخدم فقط في أضيق الحدود.

لذا فإن الأمريكيون ليسوا متحمسين لأي تدخل في سوريا يسبق رحيل الأسد!! ونقلا عن صحيفة « نيويورك تايمز – 22/8/2012 » الأميركية فقد أوضح مسؤولون أمريكيون أن: « العمليات العسكرية الأميركية ضد سوريا ستهدد بجرّ حلفاء سوريا خصوصا إيران وروسيا، إلى التدخّل أكثر مما كان أصلاً، وستسمح للرئيس بشار الأسد بحشد مشاعر شعبية ضد الغرب وستوجه اهتمام القاعدة ومجموعات إرهابية أخرى تقاتل النظام السوري إلى ما قد تعتبره حربا صليبية أميركية جديدة في العالم العربي». وبحسب مسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاغون) فإن: « السيناريو الأسوأ سيتطلب مئات الآلاف من الجنود وهو أمر سيشعل المنطقة المشتعلة أكثر».

في تقرير نشرته صحيفة « نيويورك تايمز – 29/7/2012» لمراسلتها في أفغانستان، نقلت أليسا جي روبن عن السفير الأمريكي ريان سي كروكر تقييمات مثيرة، قال فيها عن سوريا: « أنفقنا عقودا من الزمن نكتب المذكرات لصناع القرار حول الإصلاح في سوريا، وكما تعلمون لم يكن هناك وجود لإصلاحات .. والآن، لستُ متأكدا من أننا نستطيع عمل الكثير للسيطرة على الوضع».

ومع ذلك فقد يضطر « المركز» إلى التدخل بصيغة « مكرها أخاك لا بطل». فبما أن سوريا تمثل إحدى أقوى مرابط النظام الدولي في أشد المناطق حساسية وخطورة في العالم فإن التدخل يصبح أرجح. إذ أن الخيارات الماثلة أمام « المركز» تؤكد أنه أمام خيارين لا ثالث لهما: (1) إما التسليم بالفوضى العارمة وبخطر انهيار النظام الدولي و (2) إما التدخل.

لذا فإن عين الحقيقة تؤكد: أن « قضية التدخل العسكري قضية حية. وربما يكون القادة السياسيون الغربيون ليست لديهم الرغبة للتدخل الأعمق، لكن وكما يعلمنا التاريخ، فنحن لا نختار دائما الحروب التي نخوضها، أحيانا الحروب هي التي تختارنا ... يتحمل المخططون العسكريون مسؤولية إعداد خيارات التدخل في سوريا لقادتهم السياسيين في حال اختارهم هذا الصراع. والإعداد سيتم اليوم في عدة عواصم غربية وفي الميدان بسوريا وفي تركيا» !!! هذا التصريحات نقلتها صحيفة « الديلي تلغراف – 27/7/2012» البريطانية عن ريتشارد كيمب، العقيد والقائد السابق في أفغانستان، وجاءت في سياق ورقة أعدتها مجموعة للبحث في شؤون الدفاع بعنوان: « سوريا: توجه للتدخل»، وقُدمت إلى المعهد الملكي البريطاني للخدمات المتحدة « رويال يونايتد سيرفيسس إنستتيوت».

وبحسب الورقة فإن: « 75 ألف جندي هو العدد المطلوب لتأمين مخزون الأسلحة الكيميائية السورية والتخلص منها بسلام» .. لكن بحسب مايكل كودنر، مدير قسم العلوم العسكرية بالمعهد، يقول أن: « نقطة البدء لحساب التدخل الكامل ستكون 300 ألف جندي على الأقل». أما لماذا هذا الجيش العرمرم؟ فلأن مجموعة البحث ترى في النهاية أن الثورة السورية: « بدلا من أن تنفجر انفجارا داخليا مثل الدول العربية الأخرى التي شهدت ثورات، فإن سوريا سوف تنفجر إلى الخارج لتتقيأ مشاكلها على نطاق الشرق الأوسط بأكمله، مع احتمال حدوث تداعيات كارثية» .. هذه « عين الحقيقة»!!!

أما قبل سقوط الأسد، فإن عين الحقيقة من وجهة النظر الأمريكية ترى، بحسب صحيفة « لوس أنجلوس تايمز – 23/8/2012» الأمريكية، أن: « البنتاجون أعد خططا طارئة لإرسال قوات متخصصة إلى سورية إذا ما قرر البيت الأبيض تأمين مستودعات الأسلحة الكيميائية .. وأن تأمين مواقع تلك الأسلحة قد يقتضي غارات تشنها خلسة فرق القوات الخاصة المدربة على التعامل مع هذا النوع من الأسلحة». لكن في هذا السياق يجري الحديث الأمريكي المرتبك عن فرض حظر جوي جزئي أو إقامة ممرات آمنة تسمح بالتحرك، وهو ما اعترفت به وزيرة الخارجية (12/8/2012) ووافقها فيه كبير مستشاري الأمن القومي الأميركي جون برينان حين قال: « إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة» في حين استبعده وزير الدفاع ليون بانيتا (15/8/2012).

لكن بعد السقوط، وبحسب صحيفة « كريستيانس ساينس مونيتور – 27/7/2012» فإن: « الولايات المتحدة ربما يتوجب عليها أن تتسلم زمام المبادرة لمنع الفوضى في قلب الشرق الأوسط بتأمين الأسلحة النووية ومنع أي تدخل من إيران في سوريا»، وتنقل الصحيفة عن الأدميرال وليام ماكرافن، رئيس قوات العمليات الخاصة، شهادة سابقة قال فيها أن: « تأمين الأسلحة الكيميائية يحتاج لجهد دولي لدى سقوط الأسد».

ومن جهتها تنقل وكالة الأنباء البريطانية « رويترز – 17/8/2012» عن مصادر دبلوماسية أميركية، ناقشوا سرا أسوأ السيناريوهات المحتملة في سوريا، أنهم توصلوا إلى خلاصة ترى: « إن تأمين مواقع الأسلحة الكيميائية قد يتطلب ما بين خمسين وستين ألف جندي». لكن مصدران آخران شاركا في النقاش قالا للوكالة: « حتى في حال نشر قوة من ستين ألف جندي فلن تكون كافية لحفظ السلام بل لحماية مواقع الأسلحة فقط، وستبدو مثل قوة احتلال أجنبية على غرار ما حدث في العراق .. وأنه لم يتضح بعد كيف سيجري تنظيم هذه القوة العسكرية وما هي الدول التي قد تشارك فيها؟».

عين الحقيقة أن « المركز» يفتش عن أقل التدخلات تكلفة. فهو يخشى من تدخل قبل سقوط الأسد وبعده. ولأن (1) استراتيجيات « المركز» تقوم على احتلال الجيوش وأجهزة الأمن وتوظيفها في خدمة مصالحه وأهدافه؛ ولأن (2) « المركز» لا يمتلك بديلا عن النظام إلا النظام، وفق صيغة « الحل مع النظام»، فمن الأولى والأجدى له أن يحتفظ بكل الإرث الأمني والعسكري للنظام كي يستخدمه في السيطرة على الوضع في سوريا بعد سقوط الأسد وليس النظام. وإنْ لم يفعل ذلك فسيخسر.

إذن عين الحقيقة أن « المركز» صار لديه خياران: (1) إما الاحتلال وإخضاع سوريا لـ « وصاية عسكرية وأمنية» مباشرة و (2) إما إخضاعها محليا عبر تمرير صيغة « الحل مع النظام». أما أهدافه فهي: (1) منع خروج الثورة السورية من حدودها، و (2) تأمين الأسلحة الكيميائية، و (3) الحيلولة دون تحول سوريا إلى فضاء مفتوح لتيارات « الجهاد العالمي».

وبحسب الخيارين تبدو الولايات المتحدة نادمة على ما فعلته في العراق حين فككت الجيش وأجهزة الدولة!! وتبعا لذلك فهي عازمة على تجاوز ما تراه « أخطاء حرب العراق» التي لا تريد أن تكررها في سوريا. وعليه فهي تسعى إلى تمرير « صيغة الحل مع النظام» على ظهر « عسكريين منشقين» و « قوى سياسية» وأخرى « مدنية» يوفرون لها الغطاء الشرعي المطلوب، عبر يافطة شعبية يمكن خلقها إن لم تكن موجودة. هذا ملخص ما قاله وزير الدفاع ليون بانيتا في مقابلة تلفزيونية في 31/7/2012: « إن الحفاظ على الاستقرار في سوريا سيكون مهما وفق أي خطة تتضمن رحيل الأسد عن السلطة، وأن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هو الحفاظ على أكبر قدر من الجيش والشرطة متماسكاً». وهو عين ما تناقلته وسائل الإعلام عن كلينتون 12/8/2012: « يتوجب على الشعب السوري قيادة عملية الانتقال السياسي وأن يحافظ على سلامة المؤسسات السياسية بالبلاد». وليس هذا ، بطبيعة الحال، بعيدا عن موقف المبعوث الدولي الجديد الأخضر الإبراهيمي وهو يعبر عما قاله بانيتا وكلينتون بالصيغة الدبلوماسية: « على السوريين أن يجتمعوا معا على كلمة واحدة من أجل التوصل إلى صيغة جديدة. هذا هو السبيل الوحيد ليتمكن جميع السوريين من العيش معا في سلام في مجتمع لا يقوم على الخوف من الانتقام بل على التسامح».

عين الحقيقة أنهم يسارعون الخطى لاحتواء الثورة السورية خشية « أسلمة الصراع في سوريا» كما تقول صحيفة « لوفيغارو – 12/8/2012» الفرنسية، فـ: « كلما طال أمد الصراع .. كلما انجذب إليه المزيد من الجهاديين الذين لا تعنيهم مسألة بناء سوريا جديدة»!!! وكأن « الجهاديين» هم الذين دمروا سوريا!!! هذا من جهة. أما من الجهة المقابلة فبسب الخشية على وجود « إسرائيل». فلنتابع مع يقوله المسؤولون اليهود:

ففي أعقاب « عملية سيناء - 6/8/2012» التي قتل فيها 16 جنديا وضابطا مصريا؛ ثار جدل بين الخبراء اليهود حول أمن « إسرائيل» ومستقبلها في ضوء الثورة السورية. ونقلت صحيفة « ديلي تلغراف – 10/8/2012» عن تحليل بموقع « ذي ديلي بيست الأميركي» تصريحا لديفد بوكاي، أستاذ دراسات الشرق الأوسط بجامعة حيفا بإسرائيل، قوله: « أعتقد أننا بدأنا نستيقظ ونفهم أخيرا أن عدم الاستقرار، في سوريا أكثر منه في مصر، يسمح للجماعات الجهادية بأن تأخذ مكانها. وعلى الشعب أن يفهم أن البديل عن بشار الأسد هو القاعدة». أما أفيف كوتشافي، لواء بالجيش، فقال بأن: « منطقة الجولان عرضة لأن تصير ساحة عمليات ضد إسرائيل بنفس الطريقة التي تحدث في سيناء الآن, وأن هذا نتيجة التحصن المتزايد للجهاد العالمي في سوريا».

وفي سياق الجدل الدائر في « إسرائيل» حول جدوى مهاجمة إيران قد يبدو ملفتا للنظر أن يعين، رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في 12/8/2012 زميله الجنرال المخضرم آفي ديختر وزيرا لـ « الجبهة الداخلية» لأول مرة في تاريخ « إسرائيل». لكن المدهش ليس في التعيين بل فيما جاء بكلمة ألقاها ديختر في 19/8/2012 في « قاعدة رابين» بمدينة « تل أبيب»، بمناسبة تعيينه: « إن الربيع العربي أحدث زلزالا في المنطقة, ويتعين تبعا لذلك على القيادة الإسرائيلية أن تراجع سياستها, معتبرا أن وجود إسرائيل بات مهددا بشكل جدي». أما الأشد دهشة وخطورة فيكمن فيما أضافه بالقول: إن القدرات الدفاعية والهجومية الضخمة للجيش الإسرائيلي تهدف لضمان عدم تحول الجبهة الداخلية إلى خط الجبهة».


أخيرا


لم يبق من عين الحقيقة إلا التذكير بـ (1) أن صيغة « الحل مع النظام» يعني طي ملفات عقود الدم من القهر والذل والمذابح والعنصرية والخوف والإرهاب والتشريد ... ومكافأة المجرمين والقتلة، مثلما يعني بقاء سجل الإجرام مفتوحا على مصراعيه، بل ومشفوعا بامتيازات للطائفة لن تتغير أبدا. وفي مثل هذه الحالة سينطبق على الثورة السورية القول المأثور: « كأنك يا أبو زيد ما غزيت». فما الذي يخيف السوريين من حسم خياراتهم إذا كانت النتيجة كارثية؟

و(2) أنه إذا كان إخضاع سوريا لـ « وصاية عسكرية» أجنبية مباشرة تستهدف إحكام السيطرة على الحدود، والحيلولة دون تدفق عشرات أو مئات الآلاف من المسلمين على البلاد، بما ينذر بانفجار المنطقة، إلا أنه سيظل خيارا خطرا على « المركز»، كونه سيوفر تمايزا عقديا، تنكشف بموجبه كافة القوى والجماعات والأفراد والشخصيات، ويصب في النهاية في صالح الجهاديين الذين سيشعرون بتوفر فرصة ذهبية لمنازلة « المركز» في ساحة بالغة الحساسية وقابلة عقديا للاستقطاب الإسلامي من شتى أنحاء العالم، باعتبار أن « الوصاية العسكرية» غير مقبولة عقديا، فضلا عن أنها لا يمكن لمخرجاتها أن تصب في صالح الثورة السورية أو المسلمين. ومن الطريف أن الذين يؤيدون تدخل « المركز» في إسقاط الأسد أو ضبط الأوضاع لا يفكرون بأية مسؤولية عقدية أو تداعيات لما قد يتمخض عنه التدخل الدولي.

أما (3) لجوء الطائفة إلى بناء جيب علوي على امتداد الساحل، وهو ما حذر منه الملك الأردني، فهو حقيقة واقعة، وخيار يمكن أن يمثل الملاذ الأخير للنظام. لكن مثل هذه الخيار سيعني الشروع في تقسيم سوريا وتشجيع الطوائف الأخرى كالأكراد وغيرهم على تحصين أنفسهم بجيوب مماثلة. ومع أنه خيار وارد إلا أنه تداعياته كبيرة للغاية، كونه سيؤدي إلى انفلات النظام الدولي ووقوعه في حروب إقليمية وطائفية وعقدية لن تكون « إسرائيل» نفسها بمنآى عن شررها.

في المحصلة فإن كل ما يجري حتى الآن من تحركات سياسية أو عسكرية أو أمنية في المسارات الدولية تقع في نطاق السيناريوهات وليس في نطاق الحسم. ربما تكون مسألة الأسلحة الكيميائية هي الوحيدة التي حظيت بالحسم لدى « المركز». لكن لا أحد لديه القدرة حتى اللحظة على تقديم تصور حاسم فيما يتعلق بمصير الثورة السورية أو الطائفة أو النظام أو النظام الدولي. وهذا يعني أن الثورة السورية هي الثابت الوحيد في الحدث في حين يظل ما حولها عواصف عاجزة حتى اللحظة عن إحداث أي فارق ميداني .. لكن إلى متى والمخاطر تحدق في الثورة من كل جانب؟

يتبع ...
  #23  
قديم 23-10-2012, 07:27 AM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي

الثورة السورية ومسارات التدويل


« الشام» و « الملحمة»


(10)

د. أكرم حجازي


2/10/2012







لا يعرف « المركز»، الذي لا يجد بديلا عن « الطائفة العلوية» كضمانة لأمن النظام الدولي، ماذا يفعل إزاء شعب لا يريد أن يهدأ أو يصمت، رغم كل ما لحق به من كوارث ودمار!!! أما السوريون الذين عرفوا كيف بدؤوا ثورتهم فلا يريدون أن يصدقوا أنهم يواجهون ثلاثة مشاريع جهنمية تجتمع على أمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يدرون كيف سيتوقفون؟ ولا متى؟ !!! لكن الجميع مقتنع كل القناعة أنه يخوض معركته الأخيرة؛ بين أن يكون أو لا يكون!!! ينطبق هذا على « المركز» ودول الخليج وتركيا وإيران و « حزب الله» و « إسرائيل» والنظم العربية. ترى: ما هي استراتيجية « المركز» في حماية أدواته القاتلة في سوريا؟ وكيف أدارت الثورة حربها مع النظام؟ وأخيرا ما هو التوصيف العقدي لـ « الشام»، وما علاقته بالثورة؟

أولا: « المركز» وأمن الطائفة

بداية؛ من الضرورة التفريق بين كون الصراع الدائر في سوريا هو في الحقيقة الظاهرة صراع سياسي وليس صراعا طائفيا وإن كان بالمبدأ والمنتهى صراعا عقديا. فالثابت أن النظام الحاكم هو الطائفي وليس المجتمع. أما لماذا هو سياسي؟ فلأن « الطائفة العلوية»، كما سبق وأشرنا في الحلقات السابقة من السلسلة، هي امتياز دولي صممته فرنسا وبريطانيا، بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1913، ليكون أحد أقوى ثلاث مرابط للنظام الدولي الذي أقيم على أشلاء العالم الإسلامي .. هذا المربط تسلمه الاتحاد السوفياتي بعد حرب السويس سنة 1956، وهو الذي أوصل الطائفة إلى السلطة، وهو الذي غطى عدوانا « إسرائيليا» سنة 1967 على المشرق العربي، انتهي باحتلال هضبة الجولان، وحتى بيعها لـ « إسرائيل»، مع سيناء والضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة وأجزاء من الأراضي الأردنية.

إذن المشكلة سياسية كونها تتصل مباشرة بأمن النظام الدولي. فـ « المركز» لم يسبق له أن شعر بالخطر الشديد الذي يتهدد نظامه الدولي كما يشعر به اليوم مع الثورة السورية، لذا فهو يخوض حربا وحشية بأدواته الطائفية في سوريا، ولأن المهمة ثقيلة عليه، فقد لجأ إلى إدارتها عبر لعبة تقاسم الأدوار، بطريقة أقرب ما تكون إلى مسطرة تتوزع وحداتها القياسية على الدبلوماسية والإغاثة وحقوق الإنسان والمبادرات وأصدقاء سوريا والمعارضة والأمن والإرهاب و« الجيش الحر» ... وكل وحدة من هذه الوحدات وغيرها خصص لها ما يلائمها من التصريحات والاتصالات والاجتماعات والمؤتمرات. والنتيجة أنه بعد أكثر من عام ونصف من القتل والتدمير حققت مسطرة « المركز» نجاحات ملموسة سواء على مستوى تطويع الوحدات ذات الصلة لاحتياجاته، أو على مستوى عزل الشعوب العربية والعالم عن الثورة السورية .. وفي المقارنة يكفي تأمل ردود الفعل الشعبية، العربية والدولية، حين تعلق الأمر بالعدوان « الإسرائيلي» على غزة أو بتدخل الناتو في كوسوفو رغم أن المشكلة في يوغوسلافيا السابقة كانت قومية وطائفية معا !!!

كما أنها سياسية مع إيران الخميني، ذات المشروع « الصفوي»، والساعي إلى بعث « الحضارة» الفارسية، ففي الوقت الذي تتلفع فيه إيران بما تزعم أنه مذهب « حب آل البيت»، وتمتطي الشيعة، بينما تكن عداء عنصريا ضد العرب حتى لو كانوا من الشيعة، وتفسد في الدين أيما إفساد، وتتطاول على الرسول صلى الله عليه وسلم، وتؤله عليا رضي الله عنه. لذا فالتدخل الإيراني حتى لو بدا طائفيا، في الظاهر، وهو يقف في المقدمة دفاعا عن النظام الطائفي في سوريا، إلا أنه يقدم خدمات جليلة لـ « المركز»، صارت تفوق في النتائج ما كانت تقدمه « إسرائيل»، وتمارس نفس الخداع الذي سبق ومارسه الاتحاد السوفياتي بحق القضايا العربية .. الخداع التاريخي الذي قام على مسطرة الدعم السياسي والعسكري دون أن يسفر، في أية محصلة، عن إحداث أي فارق في الصراع مع « إسرائيل» .. وهو ذات الخداع الذي يمارسه النظام الطائفي في سوريا باسم « جبهة الصمود والتصدي» تارة « والتوازن الاستراتيجي» تارة ثانية ومحور « المقاومة والممانعة» تارة ثالثة.

أما ما يبدو، لدى الكثير، صراعا بين شقي « المركز»، الشرقي ( الصين وروسيا) والغربي ( أمريكا وبريطانيا وفرنسا)، في المحافل الدولية، فليس هو في الحقيقة إلا من قبيل الصراع على النفوذ. أي بين من تكون له الغلبة أو الحصة الأكبر في قيادة النظام الدولي في المرحلة القادمة: روسيا والصين؟ أم أمريكا وبريطانيا وفرنسا؟ ولعل المتابع يتذكر جيدا تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين صرح في 11/7/2012 قائلا: « إن نفوذ الغرب آخذ في الاضمحلال مع تراجع اقتصاده .. وأنه .. مشارك في دبلوماسية منفردة خارج الأمم المتحدة للحفاظ على نفوذه في السياسة العالمية».

وعليه؛ فما من فائدة ترجى على الإطلاق من « المركز»، ولا من أية محاولة لتجريم النظام السوري، أو إحراجه قيميا أو أخلاقيا على ما يرتكبه من جرائم بالغة الوحشية، وتدميره المتعمد للبلاد وكأنها بلاد أجنبية معادية. إذ أن الحقيقة الصارخة تكمن في بنيوية الصراع في سوريا، والتي تقع أصلا خارج حسابات المنظومات السياسية والعلاقات الدولية، وكافة المنظومات القانونية والأخلاقية والإنسانية، وتبعا لذلك فإن أي محاولة لإحراج النظام أو استدراج « المركز»، أو حتى استعطاف ما يسمى بـ « الرأي العام الدولي»، في أيٍّ من هذه السياقات، لا يمكن تصنيفها إلا بالوهم الذي لا قيمة له، فضلا عن أنها إضاعة للوقت، وتبديد للجهد، وخسارة في الأرواح والممتلكات.

ومن الطبيعي ألا يبقي هذا التوصيف أي خيار للثورة إلا الاعتماد على النفس في خوض صراع مسلح ضد النظام الطائفي، وهو ما وقع فعلا بعد بضعة شهور. لكن نقطة الضعف في الثورة تكمن في تلك الدعوات التي تحسن الظن في « المركز» أو التي أنهكتها الرغبات وهي تجهد نفسها في مد جسور التحالف معه وتَلَقي نصائحه وتوجيهاته، وتصر حتى بعد مضي أكثر من عام ونصف على طلب « الحظر الجوي» أو « تسليح الثورة» لمساعدتها في إسقاط النظام، وكأن « المركز» جمعية خيرية تقدم الخدمات للشعوب دون حساب .. بينما يصر، من جهته، إصرارا عنيدا على الرفض القاطع للتسليح أو التدخل الدولي، ما لم يكن بغطاء مزعوم من مجلس أمن لا يسيطر عليه أحدا غيره!!! وبطبيعة الحال فالخشية من وقوع السلاح بيد الجماعات الإسلامية العقدية كان ولا يزال هو المبرر الوحيد في كل التصريحات ذات الصلة. وإنْ كان هذا يشكل جزء من الحقيقة فإن الحقيقة الفاضحة جاءت أخيرا على لسان السفير زلمان خليل زادة، الأفغاني الأصل، الذي عينته الأمم المتحدة سفيرا لها بعد غزو أفغانستان سنة 2001.

ففي مقالة له نشرتها مجلة « فورين بوليسي – 20/9/2012» الأمريكية دعا خليل زادة واشنطن إلى « تشجيع انقلاب على النظام»، وإلى ضرورة « تسليح المعتدلين»، محذرا من: « عواقب مسؤولية احتمال استخدام الثوار السوريين للسلاح الأميركي ضد المدنيين من الطائفة المنافسة». هذا التصريح يكشف عن جواهر المراوغات والخداع الدولي الذي يقوده « المركز» ضد الثورة السورية. فلما تكون الطائفة امتيازا دوليا فإن تأمينها سيعني حصرا أن (1) كافة مبادرات الحل الدولي لن تتجاوز سقف النظام الطائفي، وأن (2) مبادرات الحل الإقليمي ينبغي ألا تقبل بأي تدخل دولي، وأن (3) « تسليح الثورة»، ولو بمستوى رشاش متوسط أو مدفع هاون، سيعني قدرة الثورة على مهاجمة النظام في عقر داره وحصونه الطائفية.

إذن الأولوية الإستراتيجية الأولى لدى « المركز» تقضي بتأمين الطائفة، كي تبقى بمنآى عن الخسائر في الأرواح والممتلكات والمدن والأحياء والقرى. وتعني على وجه التحديد وجوب نقل المعركة أو حصر الحرب في مناطق السنة، وإعمال القتل والتدمير فيها بأقصى قدر ممكن، وبغطاء دولي حتى ينشغل الشعب السوري بنفسه لعدة عقود قادمة بعد أن تكبد خسائر في الممتلكات تصل إلى ألف مليار دولار. وهي نفس العقيدة القتالية لدى « المركز» و « إسرائيل» مثلا، حيث تبقى الدول والمجتمعات آمنة في مقابل تحطيم دول ومجتمعات الخصم. وفي السياق سيكون مفهوما لكل مراقب ذلك (1) الصمت الدولي الكبير على ما يبدو جيبا علويا آمنا أقيم على امتداد الساحل السوري، و (2) ضرورة الحفاظ على سلامة الكتلة السكانية « العلوية» في سوريا من الاستنزاف، وتقليل خسائرها إلى أدنى الحدود عبر (3) حشد مقاتلين من « الطائفة العلوية» في تركيا، والشيعية القادمة من إيران والعراق واليمن و «حزب الله»، كوقود للحرب، وكذا (4) الاعتماد ما أمكن على أبناء الطائفة السنية نفسها في حرب النظام ضد الدولة والمجتمع السوريين.

هذه الاستراتيجية لـ « المركز» والنظام، على السواء، ترمي ببساطة إلى احتواء أي تذمر أو تمرد أو انشقاقات في صفوف الطائفة فيما لو تعرضت لخسائر بشرية ومادية كبرى، عبر طمأنتها، والتأكيد لها بأنها ستظل بحماية النظام الدولي، وبمنآى عن أي تهديد، فضلا عن أن مكانتها في أية صيغة حل ستبقى محفوظة، وفي المقدمة، وهو ما أكده وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا حين دعا إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة والجيش والأمن ومنع تفكيكها كي لا يتكرر، بزعمه، خطأ العراق حين هدمت الولايات المتحدة مؤسسات الدولة وأعادت بناءها وسلمتها للطائفة الشيعية. أما في سوريا فالطائفة هي التي تسيطر على الدولة والمجتمع وليس السنة، وبالتالي ما من معنى يذكر إلا الانتحار فيما لو أسقطت الولايات المتحدة التجربة العراقية على سوريا.

وهي أيضا ذات الاستراتيجية التي اتبعتها فرنسا في تأهيل الطائفة وحمايتها إلى أن تسلمت السلطة. وغني عن البيان القول بأن رسائل الطمأنة للطائفة من قبل القوى السياسية السورية، أيا كان شكلها ومحتواها، لن يكون لها أية قيمة تذكر مقابل ما يفعله « المركز» من إقامة المزيد من التحصينات والدفاعات الاستراتيجية التي يجري ترجمتها على أرض الواقع. وهذا يؤكد أن « المركز» لا يمتلك، حتى اللحظة، أي بديل عن الطائفة يمكن ائتمانه على مصالحه أو على سلامة النظام الدولي وأمنه واستقراره، مثلما يؤكد أن ضمانات المعارضة للطائفة ليست سوى هذيان. فما الجدوى إذن من المراهنة على « المركز» أو أي سياق آخر؟

ثانيا: الأداء السياسي والعسكري للثورة

لم تكن منظومة « سايكس – بيكو» لتسمح ببناء أي شكل من أشكال القيادات في الدول والمجتمعات العربية، لا على مستوى الأفراد، ولا على مستوى الجماعات السياسية والاجتماعية، ولا على مستوى منظمات المجتمع المدني. وتبعا لذلك ظلت الدول والمجتمعات تعاني من غياب كلي للقيادات مما سهل على النظم السياسية الإفلات التام نت أية مراقبة سياسية أو اجتماعية. وما أن انتصرت الثورات، في مراحلها الأولى، حتى وجدت نفسها كالأيتام على موائد اللئام. هذا ما حصل للثورات في اليمن وليبيا وتونس ومصر، ويحصل الآن في سوريا.

فبدلا من أن ترجع القوى السياسية إلى الشعب الذي حملها من الشوارع والمنافي وأجلسها على كراسي السلطة، وتستمد قوتها منه ذهبت إلى البيت الأبيض لتثبيت ما تعتقد أنها شرعية لا تكتمل أو تستمر ما لم تحصل على رضى « المركز». وبدا الأمر في سوريا عجيبا حين تعاملت القوى السياسية مع الثورة كما لو أنها أزمة سياسية تعصف بالنظام. والحقيقة أن بنية المعارضة السياسية التي حطمها النظام الطائفي مبكرا، ودمر مدنا للتخلص منها، ثم طاردها بأحكام الإعدام، جعلها أقرب ما تكون إلى المعارضة « اللقيطة» وهي تنحصر في صيغة أفراد أو أحزاب أو مسميات هلامية ومستحدثة ليس لها أية مواقع على الأرض. فكان من الطبيعي أن تدخل في صراعات بينية أو تبحث عن أغطية دولية أو حتى تستعمل المال لشراء المواقف والولاءات وصناعة الذات في الوقت الذي تسفك فيه الدماء وتنتهك فيه الأعراض وتدمر فيه البلاد. وصار من الطبيعي أكثر أن تبدو الثورة في واد والمعارضة السياسية في واد آخر.

أما على المستوى العسكري فقد أبى السوريون، في محاولة منهم لاستعطاف الرأي العام الدولي واستدراج « المركز»، إلا أن يتعاملوا مع النظام باعتباره « نظاما أمنيا أسديا» مع أنهم في الواقع يخوضون حربا طائفية من جهة النظام، وبرعاية دولية تاريخية. لذا شدد الناشطون الذين ظهروا في الواجهات الإعلامية على الانحياز إلى سلمية الثورة رغم اختيار النظام للقتل من اللحظات الأولى لها. وفي البداية لجأ النظام إلى قواته الأمنية وميليشياته المعروفة باسم «الشبيحة». ولأنه لا يملك أية فرصة في المصالحة أو الإصلاح، وبسبب تزايد أعداد المنشقين من الجنود والضباط وتمرد الريف، فقد صعد من حربه وأدخل أسلحته الثقيلة من الدبابات والمدافع والصواريخ مبتدئا بمدينة درعا. ومع اتساع دائرة الاحتجاجات الشعبية إلى مئات البؤر الاجتماعية في مدن درعا وإدلب والرقة وحماة وحمص وريف دمشق وصولا إلى مدن الساحل لاسيما اللاذقية، وكذا الإعلان عن تشكيل « لواء الضباط الأحرار» و « الجيش الحر»، بدأت الثورة تميل إلى الطابع العسكري.

هنا بالضبط حدثت الانعطافة عبر الانتقال من الحالة المدنية إلى الحالة العسكرية، وهي حالة لا مثيل لها في تجارب الثورات السابقة حيث تكون البداية، في العادة، بمجموعة منظمة ذات أيديولوجية معينة، تعلن الكفاح المسلح ثم تتوسع تدريجيا إلى أن تصبح ثورة شعبية مسلحة لها قواعدها الاجتماعية وتشكيلاتها العسكرية وقياداتها وهياكلها السياسية والإعلامية ومناصروها. لكن في الحالة السورية جاء الأمر معاكسا تماما. ففي كل مدينة وقرية وحي وشارع وزاوية ثمة مجموعة من النشطاء المدنيين حملوا السلاح دون أن تكون لهم أية مؤهلات أو خبرات أو تجارب أو هياكل أو مؤسسات أو قيادات أو انتماءات حزبية أو أيديولوجية .. وصار حال الثورة كحال عذراء أرغمت على الزواج قبل أن تبلغ الحيض!!!

كل هؤلاء اتخذوا من « الجيش الحر» راية لهم. ولأن « الجيش الحر» نفسه ليس تنظيما أو حزبا أو حركة أو جماعة متجانسة فقد تحول إلى « راية شعبية» يمكن أن ينضوي تحتها كل المجتمع السوري: المدني والعسكري، والوطني والإسلامي، والملحد والمؤمن، والقبلي والمدني، والحزبي والمستقل، والصادق والكاذب، والصالح والفاسد، والمجنون والعاقل، والمنضبط والفوضوي، والشاب والعجوز، والشيخ والمخمور، واللص والأمين، والانتهازي والمسؤول ... فكيف يمكن ضبط هؤلاء وقيادتهم وتوجيههم لاسيما أنهم يشكلون نحو 90% من « الجيش الحر» مقابل 10% من العسكريين؟

هذا المشهد الفريد للثورة السورية استعصى على الفهم والقيادة والإدارة وحتى الاختراق. فكل تشكيل فيها زعم أنه صاحب فضل أو قيادة، وله صولاته وجولاته مع النظام، وكل بضعة عشرات أو أقل شكلوا كتيبة أو جماعة أو حتى لواء!! وصار له قراءاته وشعاراته وتفسيراته لما يجري في سوريا، وله استراتيجياته وتكتيكاته في التعامل مع النظام أو المجتمع أو النظام الدولي .. وكي نتلمس الحجم الفعلي للمشهد على الأرض يمكن أن نستعين بالثورة الليبية للمقارنة. ففي ليبيا لا يزيد عدد السكان فيها عن ستة ملايين في مساحة تصل إلى 1.8 مليون كم مربع مقابل 24 مليون في سورية، وبمساحة لا تزيد عن عُشْر مساحة ليبيا. فإذا كانت الإحصاءات في ليبيا تقول أن فيها 1700 مليشيا؛ فكم سيكون عددها في سوريا؟ وإذا كانت مدينة صغيرة مثل مصراتة تؤوي 250 ميليشيا فكم ستؤوي مدينة بحجم حمص أو حلب أو دمشق؟

واضح أننا إزاء آلاف المجموعات المسلحة. ولا ريب أن مشهد المعارضة السورية في الداخل أو في الخارج يعكس إلى حد كبير واقع الثورة، وكذا حالة العسكرة الشعبية التي اجتاحت المجتمع السوري. أما الطريف في المشهد فكان من نصيب المراقبين والمحللين والدارسين والمتخصصين وفي مقدمتهم أجهزة الأمن العالمية التي أيقنت أنها واقعة في ورطة لا سابق لها في كيفية التعامل مع مثل هذه الحالة غير المسبوقة. ففي حين تتلهف أجهزة الأمن على المعلومة باعتبارها الهدف الأول لها إلا أن الواقع السوري يؤكد أنه ما من حقيقة يمكن الثقة بها، لا من جهة المعارضة ولا من جهة المجموعات المسلحة، وتبعا لذلك فما من موقف يمكن تمريره بسلاسة لا من الغرب ولا من الشرق. وحتى النظام الطائفي فشل في التعامل مع الثورة، واضطر إلى إخلاء الكثير من مناطقه في المدن والريف، ولم يعد ثمة وجود آمن للسلطة إلا في مناطق شبه مغلقة.

ولا ريب أن هذه الوضعية تمثل نقطة قوة جبارة للثورة السورية. إذ سيكون من الصعوبة على أجهزة الأمن الدولية تقييم الثورة والوقوف على نقاط الضعف والقوة والتأثير فيها ما لم تتوفر لها المعلومات اللازمة. وستكون مغامرة محفوفة بالعواقب والمخاطرة إذا ما ركنت الولايات المتحدة إلى معلومات عملائها في المعارضة أو مَن هُم على صلة بها من الضباط المنشقين، بالنظر إلى سوء التجارب السابقة في أفغانستان والعراق على وجه الخصوص، لذا فقد اضطرت إلى النزول إلى الميدان بنفسها، ودفعت بخبرائها المتخصصين في جمع المعلومات إلى الساحات لتكوين قاعدة معلومات تمكِّن من التقييم الدقيق تمهيدا لاختراق الثورة أو احتوائها أو مراقبتها أو السيطرة عليها أو التحكم بها.

وعليه فليس من الموضوعية في شيء استبعاد أن يكون الإعلان عن توحيد المجموعات المسلحة في مجالس عسكرية واقع فعليا في هذا السياق رغم الصراعات الطاحنة بين العسكر ومحاولات الاستقطاب السياسي والأمني لهم .. أي سياق جمع المعلومات وليس اتخاذ القرار كما يتوهم المتطوعون لتقديمها. وهنا تكمن الخطورة على الثورة. فالذين تطوعوا، بحماس، لتقديم المعلومات يبدون مقتنعين بأن واشنطن تربط « تسليح الثورة» بتوحيد الجماعات المسلحة!!! وهم بهذا التفكير غفلوا أو تغافلوا عن إدراك حقيقة أنهم ربما يكونون واقعون بمصيدة أمنية لا هدف لها إلا جمع المعلومات وليس تزويد الثورة بالسلاح .. نقول هذا ونحن نستحضر ما أوردته صحيفة « الواشنطن بوست – 25/7/2012 » من أن الاستخبارات البريطانية والفرنسية والألمانية ولاسيما الأمريكية، تعاني من فجوة استخبارية في سوريا حول هوية القوى العسكرية المقاتلة!!!

مشكلة الثورات دائما تكمن في أولئك الذين يتسلقونها أملا في مكاسب شخصية دون أن يقيموا أي اعتبار لأية مسؤولية أو مخاطر تتهدد الأمة ومصيرها، وكذا أولئك الذين يعانون من قصور في القراءة لحقيقة الثورة السورية ومكانتها دوليا باعتبار « الطائفة العلوية» هي الامتياز الدولي وليس سوريا أو حقوق أهلها ودمائهم وأعراضهم. وإلا فلماذا يجري تدمير البلاد مدينة مدينة وحيا حيا وقرية قرية؟ ولماذا لا يتعظون من تجارب معارضات أفغانستان والعراق وأمثالهم؟

ولا ريب أن الأسوأ في انعطافة الثورة، من الحالة المدنية إلى الحالة العسكرية، وقع وسط غياب لأية خبرة سابقة في المعارك والحروب لدى الأجيال الجديدة من السوريين. وسيعني الغياب بالضرورة تَقدُّم في المبادرات الفردية والحدس، في التعامل مع النظام، على حساب كل تخطيط عسكري منظم يأخذ بعين الاعتبار كافة القراءات اللازمة على المستوى الأمني والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والقدرة .. وكلها عوامل تساهم في بلورة الموقف ومن ثم تحديد المكاسب والمخاسر من أي تحرك عسكري. ولأن الثورة السورية ولدت عذراء كحال المجتمع السوري الذي لا يمتلك أية مرجعية للاسترشاد والتوجيه فقد ظهر الأداء العسكري للثورة أقرب ما يكون إلى « فزعة عرب»، الأمر الذي تسبب بكوارث وخسائر فادحة من حيث:

• أن التحصن في الأحياء والقرى والمدن أعطى النظام هدفا واضحا في حين أن الأجدر كان التعمية عليه. وهذا حصل في دمشق ودرعا وحماة وأحياء حمص وإدلب واللاذقية وأخيرا في حلب. ولعله من المفيد التذكير بتقييم أحد الضباط الأردنيين في أعقاب احتكاك مع جنود سوريين على الحدود الشمالية أسفر عن مقتل جندي أردني وإصابة آخرين بجراح، حيث قال: « إن القوات النظامية تعاني من الإرهاق .. وهي مستفزة» !!! وهو تصريح يشي بأن الأداء العسكري كان سيكون أفضل لو أن الثوار لجؤوا إلى ضرب القوى النظامية في مختلف المناطق، وفي صيغة مجموعات سريعة الحركة وفعالة. وهو أسلوب يزيد من الإرهاق، ويتسبب بالصدمة وفقدان القدرة على السيطرة والتحكم ويقلل من الخسائر البشرية، بخلاف أسلوب التحصن في الأحياء الذي يوفر للنظام هدفا سهل المنال.

• كما أن كثرة الميليشيات والجماعات المقاتلة تسبب بحالة من الفوضى وصعوبة السيطرة، ولأن الأهداف واضحة فقد لجأ النظام إلى سياسة التدمير أو الأرض المحروقة والقتل الجماعي. فـ « الجيش الحر»، سواء كان « راية شعبية» أو « راية نظامية»، لا يمتلك القدرة على مواجهة جيش نظامي مجحفل. ومع ذلك فقد تعاملت الوحدات الشعبية والنظامية لـ « الجيش الحر» مع قوات النظام كما لو أنها جيش نظامي، وهذا لا ريب خطأ جسيم. فلا هي مؤهلة لذلك، ولا هي قادرة، بأسلحتها البدائية، على مواجهة النظام من جهة، ولا هي قادرة على حماية السكان من جهة ثانية. بل أن « الجيش الحر» وقع في فخ إنقاذ السكان المرة تلو الأخرى بسبب تحصنه في أحياء لم يستطع الاحتفاظ بها. وليس ببعيد تجربة بابا عمرو وداريا ودوما والحافة والرستن وغيرها من الأحياء والقرى التي تعرضت لانتقام دموي جماعي من قوات النظام.

• القصور الشديد في قراءة الموقف العسكري سواء لدى الثوار أو المحللين وبعض الفضائيات أو أولئك الممولون ممن لا يملكون أية ثقافة أو تجربة أو خبرة عسكرية أو أمنية لكنهم لا يتوانون عن فرض رؤاهم والمشاركة في اتخاذ القرار، وحتى التشجيع على بدء معركة دمشق مثلا!!! وبحسب تقييم أحد العسكريين فإن دخول « الجيش الحر» إلى مدينة حلب لم يكن سوى استدراجا لمقاتلي الريف الحلبي كي يتوجهوا إلى المدينة. ويدلل على ذلك بندرة القصف الجوي لعديد التجمعات العسكرية في الريف، مشيرا إلى أن السؤال الذي كان يتبادر إلى الذهن لدى بعض المجموعات هو: لماذا لا تقصف الطائرات المقاتلين؟ ولماذا أخلى النظام مراكزه الأمنية في الريف وسلم أربعة مناطق لمجموعات الـ pkk التابعة لحزب العمال الكردستاني؟ ولماذا يمنع الفرقة 17 المرابطة بمدينة الرقة من السيطرة على الريف أو التوجه نحو حلب حيث الطريق أمامها سالكة تماما؟

لو كان ثمة قيادة عسكرية قادرة على التقييم الجيد لكان السؤال الأولى بالطرح من قبل الثوار هو: لماذا يحاول النظام إغراء المقاتلين بالتوجه إلى قلب مدينة حلب؟ وأيهما أجدى: اقتناص الفرصة؟ أم تعطيل استراتيجية النظام؟ لو كان من جواب؛ فلا نظن أنه سيقع خارج سياق رغبة « المركز» والنظام في تدمير المدينة التي ظلت إلى حد ما بمنآى عن أن تكون هدفا سهلا .. فالتدمير هو الهدف الاستراتيجي للنظام بقطع النظر عن موقف أهالي المدينة من الثورة أو باقء الغالبية منهم في دائرة تقاطع المصالح مع النظام .. وتبعا لذلك فقد كان من الأولى، ولو مرحليا، إفساد مخططات النظام وإيقاعه في حيرة وارتباك والعزوف عن دخول حلب في هذه المرحلة.

ثالثا: التوصيف العقدي لـ « الشام»

كان العالم الإسلامي، قبل سنة 1913، يتمظهر في صيغة كتل جغرافية وسكانية ضخمة تعرف باسم « بلاد العرب» ( الجزيرة) و « بلاد الشام» و « بلاد المغرب» و « بلاد الرافدين» و « أرض الكنانة» و « بلاد الهند» و « بلاد الترك» ... وقبل هذا التاريخ، أيضا، لم يكن ثمة نظام دولي يتمتع بالمركزية والرقابة والهيمنة كما هو اليوم، فالعلاقات الدولية والمعاهدات كانت ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو خماسية، وفي أحسن الأحوال ذات طابع إقليمي. لكن بعده صار العالم الإسلامي في بؤرة التمزيق الدولي بقيادة بريطانيا وفرنسا، وانتهى به الحال إلى هدم الخلافة الإسلامية وتثبيت النظام الدولي بمرابط قوية تحول دون ائتلافه ثانية. ومن هذه المرابط كانت ولمّا تزل « إسرائيل» و « الطائفة العلوية» في سوريا، والتي تتولى إيران « الصفوية» رعايتها اليوم ومساندتها واقعيا.

وبطبيعة الحال لا يمكن التسليم بالقول أن « بلاد الشام» هي سوريا اليوم أو « دمشق» كما أشاعت ثقافة نظم « سايكس - بيكو» بين العامة. إذ ما من مصدر تاريخي قبل الميلاد وبعده، أعجميا كان أو عربيا، فضلا عن المصادر الشرعية، يقبل بهذا التوصيف، لمنطقة عريقة تمتد حدودها إلى الجزيرة العربية شرقا والبحر الأبيض المتوسط غربا وجنوب تركيا بدءً من حدود أضنة شمالا وعريش مصر جنوبا.

إلى جانب التوصيفات السياسية والعسكرية والأمنية فإن التوصيف العقدي لبلاد الشام يبقى هو الأكثر حسما في فهم حالة الثورة السورية. وبموجبه تبدو الكتلة البشرية والجغرافية لـ « الشام» واقعة في بؤرة الثورة رغم ما تتميز به من سكون ظاهر. بمعنى أن ما ينطبق على « شام» الثورة سينطبق بالضرورة على « الشام العقدية» أو « الشام التاريخية». فما هي مكانة « الشام» في التوصيف العقدي؟

وردت « الشام» في روايات عديدة في الأحاديث النبوية الشريفة. وبحسبها فهي البلاد التي استأثرت بـ « كفالة الله في الأرض»، و « حماية الملائكة لها»، وهي « الأرض المباركة»، و « عَقْرُ دارِ الإسلامِ»، و « أرض الإيمان»، و « موطن الملحمة»، و « خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ»، و « أرض الفسطاط»، و « في عنق أهلها صلاح الأمة وفسادها». وتاليا بعض الأحاديث النبوية:

• قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « سَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ تَكُونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً جُنْدٌ بِالشَّامِ وَ جُنْدٌ بِالْيَمَنِ وَ جُنْدٌ بِالْعِرَاقِ قَالَ ابْنُ حَوَالَةَ خِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْكَ بِالشَّامِ فَإِنَّهَا خِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ يَجْتَبِي إِلَيْهَا خِيرَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ فَأَمَّا إِنْ أَبَيْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِيَمَنِكُمْ وَاسْقُوا مِنْ غُدُرِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَوَكَّلَ لِي بِالشَّامِ وَ أَهْلِه». قال ربيعة: فسمعت أبا إدريس يحدث بهذا الحديث يقول: ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه.

• وروى البخاري: « أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا". وروى أبو داوود: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: « إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ».

• وروى الترمذي عن رَسُولُ اللَّهِ أنه قَالَ: « إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَال:َ « كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ طُوبَى لِلشَّامِ فَقُلْنَا: لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ِ قَالَ: لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا». وفي رواية أخرى عن زيد بن ثابت: ‏"‏ ... « إن الرحمن لباسط رحمته عليه‏».‏

• وأخرج ابن ماجة والحاكم وصححه وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: « إِذَا وَقَعَتِ الْمَلاحِمُ خرج بَعْثٌ مِنَ الْمَوَالِي من دِمَشْق هُمْ أَكْرَمُ الْعَرَبِ فَرَسًا وَ أَجْوَدُهُم سِلاحاً يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِمُ هذا الدِّينَ».

• وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : « إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام». وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : « ستخرج نار في آخر الزمان من حضرموت تحشر الناس قلنا: بما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: عليكم بالشام».

• وأخرج السيوطي والطبراني أن رَسُولُ اللَّهِ قَال: « عَقْرُ دارِ الإسلامِ بالشام». وعن ابن عمر أن رسول الله قال: « اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا‏.‏ فقال رجل‏:‏ وفي شرقنا يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏‏اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا‏‏‏.‏ فقال رجل‏:‏ وفي مشرقنا يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏« اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا، إن من هنالك يطلع قرن الشيطان وبه تسعة أعشار الكفر وبه الداء العضال‏».‏

• وعن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله ‏: « لا يزال أربعون رجلاً من أمتي قلوبهم على قلب إبراهيم، يدفع الله بهم عن أهل الأرض، يقال لهم‏:‏ الأبدال‏». وعن شريح بن عبيد قال‏:‏ ذكر أهل « الشام» عند علي وهو بالعراق، فقالوا‏:‏ العنهم يا أمير المؤمنين، قال‏:‏ لا إني سمعت رسول الله يقول‏:‏ « ‏البدلاء بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يستقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويُصرف عن أهل الشام بهم العذاب‏»‏‏.‏

الثابت إذن أن إرث أو مكانة « الشام العقدية» أو « الشام التاريخية» ثقيل جدا في العقيدة. فهي البلاد التي استأثرت بكفالة الله في الأرض، وحماية الملائكة لها، وهي الأرض المباركة، وعَقْرُ دارِ الإسلامِ وأرض الإيمان وموطن الملحمة وخِيرَةُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ والفسطاط وفي عنق أهلها صلاح الأمة وفسادها. فما هو المتغير فيما يجري في « الشام»؟

المتغير هو في تلك القراءات السياسية التي تأبى أو تتجاهل القراءات العقدية. وهو سلوك درجت عليه كافة الجماعات السياسية والفكرية التي أعرضت عن الاسترشاد في الخطاب الديني واكتفت بالاجتهادات السياسية والأيديولوجية. وهذا ينطبق على الدول ومؤسساتها مثلما ينطبق على القوى الوطنية سواء كانت إسلامية أو علمانية. وفي حالة الثورة السورية يبدو الخطاب الديني أكثر ثقة وإغراء في التحليل دون أن يتعارض مع أي قراءة موضوعية بقدر ما يكشف عن الغوامض منها ويحسم الموقف في بقية القراءات.

في التوصيف العقدي لن يكون الحديث متاحا عن إسقاط النظام دون النظر في التداعيات. إذ أن إسقاط النظام يعني إسقاط الطائفة، باعتبارها أداة « المركز» في الحفاظ على أمن النظام الدولي واستقراره. كما لا يمكن اعتبار « تحرير دمشق» علامة حاسمة على إسقاط النظام القائم. ولا يمكن، أيضا، التسليم بفكرة أن الخلاص يكمن في « تسليح الثورة» أو « الحظر الجوي» أو « إقامة المناطق العازلة». فلا « المركز»، صاحب النظام الدولي، ولا مربطه الأقوى « إسرائيل»، ولا إيران ولا العراق ولا كل أطياف الشيعة ولا حتى النظام العربي، صنيعة النظام الدولي، سيقفون متفرجين أو منتظرين مصائرهم وهم يراقبون مربط النظام الدولي يجري انتزاعه من موضعه، متسببا بفراغ يهدد كافة الكيانات الإقليمية والمشاريع الصليبية والصهيونية و « الصفوية». إذ أن لكل من هؤلاء مصالح استراتيجية تجتمع على تأمين الطائفة كمدخل لتأمين النظام الدولي وحماية كل هذه المصالح.

الثابت الوحيد أن كل ما هو مطروح على السوريين هو « الحل مع النظام» .. بل « الحل في صلب النظام» وبنيته التاريخية. وعليه فإن « تحرير دمشق» وفق الفهم السياسي للمعارضة ليس، في الحقيقة، سوى صيغة موازية لصيغة « الحل مع النظام» وليس إسقاطا له. لكن إذا ما رأى البعض أن « تحرير دمشق» يقصد به إسقاط النظام برمته في سوريا فسيعني هذا حتما، بلسان « المركز»، أن المنطقة ستدخل في دوامة خطيرة جدا من الفوضى يصعب السيطرة عليها .. ولعل هذه الدوامة ستكون أولى ملامح « الملحمة» .. لذا، ورغم كل ما يجري في سوريا من قتل وتدمير ليس إلا إرهاصات لـ « ملحمة» قد تكون قادمة. والسؤال هنا: من هم أطراف « الملحمة»؟

لا ريب أنهم كل الكتلة الجغرافية والسكانية لـ « الشام العقدية» أو « الشام التاريخية» في مواجهة « المركز» و« إسرائيل» و « الصفوية». فـ « الملحمة» هي تلك التي « الملحمة العقدية » التي تخص كل أهل « الشام» وليس سوريا « سايكس – بيكو» أو سوريا النظام الطائفي. ولعل الحيرة في التعامل مع الثورة السورية في ضوء عذريتها العقدية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية، وكذا غياب أية حقيقة موضوعية، وانسياق السوريين في ثورة يصعب التوقف فيها تدفع بالتفكير إلى أن ما يجري هناك ليس سوى تدبير رباني فشلت كل الجهود في احتوائه أو التحكم به أو السيطرة عليه أو حتى مجرد فهمه.

أخيرا

تبدو الثورة السورية كجوهرة ثمينة لا يدرك أحد قيمتها. ويبدو أن السوريين، أكثر من غيرهم، لا يريدون أن يصدقوا ما يفعلون. والحقيقة أن ما حققوه في عام ونصف يفوق ما حققته كل قوى الأمة منذ تقسيم العالم الإسلامي إلى يومنا هذا. فللمرة الأولى تشعر كافة القوى الدولية والإقليمية أن بنية النظام الدولي تهتز بشراسة، وتنذر بخط عظيم يتهدده ويتهدد كل ما شيده طوال عقود مديدة. ولأول مرة تستفيق الأمة على حقيقة مدى خطر المشروع « الصفوي» في تحالفه مع المشاريع « الصليبية» و « الصهيونية» ضد الأمة والدين، في حين أن قطاعات واسعة من الأمة، وإلى حين وقوع الثورة السورية، لم تكن تصدق أن الشيعة يمكن أن يكونوا خطرا بقدر ما كانت تدعو لـ « حزب الله» الذي « رفع رأس الأمة عاليا».

واليوم يخوض « المركز» كما إيران و « حزب الله» و « إسرائيل» معاركهم الأخيرة في سوريا. لذا لم يعد ثمة تقية في أن يحاصر « المركز» الثورة ويعلن صراحة رفضه لتسليحها خشية المساس بـ « الطائفة العلوية»، ويصر على الاحتفاظ بالنظام وكافة مؤسساته الدموية، والعمل على اختراق الثورة والتربص بالمجاهدين فيها؛

ولم يعد ثمة تقية حين يعلن الإيرانيون أن معركتهم في سوريا هي معركة طهران، وأنهم سيحتلون الكويت إذا سقط النظام، وأنهم يشاركون في حماية النظام وغرف العمليات المشتركة، ويفتون بوجوب الجهاد في سوريا حتى لا تسقط بيد « النواصب»، وهم الذين لم يخوضوا جهادا في كل التاريخ الإسلامي بقدر ما تحالفوا مع الغرب على إسقاط البلدان الإسلامية والنزول مع القوات البرتغالية على شواطئ الجزيرة العربية لاحتلال مكة؛

ولم يعد ثمة تقية لدى « حزب الله» وزعيمه حين يتحدى ويهدد الثورة بالحرب إذا لم تطلق سراح المختطفين من عملائه في سوريا، ويعلن صراحة، كما النظام الطائفي، أن الثورة السورية ليست سوى مجموعة عصابات متآمرة على نظام « الممانعة والمقاومة» الذي قتل عشرات الآلاف وشرد الملايين وانتهك الحرمات ودمر سوريا، وكلاهما لم يطلق طلقة واحدة باتجاه « إسرائيل» حين كانت تذبح غزة على مرآى من عينه وعين الأسد؛

ولم يعد أيضا ثمة تقية لدى « إسرائيل» وهي تجاهر بخشيتها من سقوط « ملك ملوك إسرائيل»، وتسمح له بتحريك فرقه وطائراته ومدافعه وصواريخه ودباباته على بعد كيلومترات من حدودها.

لم يعد ثمة تقية ...

يتبع ....


نشر بتاريخ 02-10-2012
  #24  
قديم 26-12-2012, 07:22 PM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي

« فورمات» الثورة السورية

د. أكرم حجازي

31/10/2012







تتعدد مشاهد الثورة السورية وتتنوع إلى الحد الذي تستحق فيه وصف « الملحمة» .. وصف يعني أنه من المستحيل (1) اختزال المشاهد كلها كما لو أنها مشهدا واحدا يهم الشعب السوري وحده، أو (2) الفصل بين مشهد وآخر، أو (3) المفاضلة فيما بينها.

بداية؛ ثمة مشهد النظام الطائفي وهو يتفنن في أعتى صور الوحشية، حيث القتل والذبح والسلخ والحرق والاختطاف والاغتصاب والتدمير والتجويع والتعطيش والسلب والنهب و ... مشهد أعجب ما فيه أنه لا يخجل البتة، هو وحلفاؤه وأبواقه، من التحصن المقرف بالمزاعم والكذب والنفاق والكفر والغطرسة والإجرام ... مشهد نظام لا تعنيه أية روادع قيمية أو أخلاقية أو إنسانية أو بشرية أو عقدية ... مشهد نظام غبي لا يفكر للحظة أنه من المستحيل أن يستمر في الحكم؛ وقد صار بحوزة كل مسلم في بلاد الشام والعرب خاصة وبلاد المسلمين عامة ملفات حساب وعقاب لا يمحوها الزمن.

وثمة مشهد نظام دولي، بشقيه الشرقي والغربي، خبيث ولئيم، ولا يقل وقاحة وإجراما عن النظام الطائفي نفسه .. نظام يأتي العجائب وهو يتباكى على مشاهد الإبادة والتدمير، ويشتكي من نفسه في مجلس الأمن!! بينما يخوض حروبه الوحشية ضد الثورة السورية، ويحول دون تسليحها .. ويحرص على أمن الطائفة « النصيرية» أكثر من حرصه على الانزلاق في حرب أهلية أو خشيته من مصير السلاح أن يصل إلى أيدي « التطرف» و « الإرهاب» .... مشهد نظام يخشى من انفجار الثورة إلى الخارج السوري؛ فتكون الطامة الكبرى عليه وعلى نظامه ومصالحه .. مشهد نظام يتميز غيظا بعد أن بات عاجزا عن وقف الثورة أو احتوائها؛ فسعى جاهدا لاختراقها بعد فشل النظام الطائفي في المهمة.

في هذا الوقت، حيث الرعب من الثورة، يستوطن النظام الدولي وحلفائه وأدواته من المخذلين والمحبطين والمجرمين؛ وحيث يتمتع النظام الطائفي بالغطاء السياسي الدولي، ويتلقى منه الدعم العسكري والفني والاستشاري، ويستقبل عشرات آلاف المقاتلين من شيعة إيران ولبنان والعراق واليمن فضلا عن علوية تركيا؛ ...

في هذا الوقت وفي هذا الحال، يخرج علينا أولئك الذين خرجوا من قبل قي العراق وأفغانستان، لينادوا بترك سوريا للسوريين، بدعوى أن « أهل مكة أدرى بشعابها»!!! وليت هؤلاء شعروا بأحوال مكة أو كانوا أوفياء لأهلها في يوم ما .. هؤلاء وأمثالهم ممن استمرؤوا الذل والعبودية والتبعية؛ سيخرجون لاحقا، وقد خرجوا، ليقولوا للثوار: « لا نريد إرهابيين في سوريا .. لا نريد وافدين»!! ولسنا نستبعد أن يقولوا لاحقا أيضا: « لا توجد راية جهادية في سوريا» .. بل ربما سيقولون أن الثوار في سوريا « يقاتلون في سبيل الطاغوت»، كما سبق وقالوها عن العراق!!! والعجيب في هؤلاء وأمثالهم أنهم يصلون الليل بالنهار بحثا عن « الناتو» وكل قتلة البشر، ويجيزون لهم ما لا يجيزونه لأحد من المسلمين .. والأعجب أن « الناتو» لم يصلهم، ولن يصلهم أبدا إلا كقوة احتلال أو وصاية .. ولا شك أنهم بهذا فرحون!!! لا أفرحهم الله في الدنيا والآخرة.

هؤلاء غفلوا حقيقة عن مشهد ثورة سلمية فرضت عليها وحشية النظامين، الطائفي والدولي، التسلح للدفاع عن نفسها وشعبها .. مشهد ثورة، رغم شراسة الأعداء، إلا أنها بدت عصية على الانكسار وحتى الاختراق أو الاحتواء ... مشهد ثورة تنزف أغزر الدماء، وتشهد دمار البلاد، وانتهاك الأعراض، وتدفع أفدح الأثمان، ومع ذلك تسجل وقائعها أعظم مدونات الشعوب في الصبر والإصرار والتضحية والتحدي والبطولة والإقدام .. وتخرق، في عنادها، السجلات التاريخية للنظام الدولي والإقليمي والطائفي .. وتهدم كافة أبنية الزيف والخداع والنفاق والغدر لكل الأيديولوجيات والفلسفات الوطنية والقومية واليسارية ...

لكن الحقيقة التي يتعين على من يرائي فيها أن يعلم جيدا، ويفهم رغم أنفه، أن الثورة السورية في (1) وقائعها الملحمية الجبارة؛ وفي ضوء (2) عمق الشام العقدي والتاريخي؛ وإزاء (3) وحشية الحرب الدولية عليها، ليست شأنا محليا، ولن تكون .. بل أن مشاهدها الملحمية أقرب ما تكون إلى « فورمات» شامل، قطعت فيه شوطا طويلا، إلى الحد الذي بات فيه مطلب الحرية هدفا وضيعا أمام (1) حرية الأمة و (2) تحرير العقيدة.
  #25  
قديم 26-12-2012, 07:26 PM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي


الثورة السورية ومسارات التدويل


الاختراق


(11)


د. أكرم حجازي


18/11/2012







الاختراق هو (1) إقرار بوجود جسم صلب، و (2) تعبير عن الحاجة إلى نافذة تسمح بالولوج إليه، بغية إضعافه أو احتوائه أو السيطرة عليه أو التحكم به أو إتلافه بشكل تام. هذا هو ما تتعرض له الثورة السورية، منذ انطلاقتها. وتبعا لذلك فإن كل المستويات العسكرية والأمنية والإنسانية والعقدية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية ... باتت عرضة للاستهداف والمطاردة عبر المبادرات السياسية أو الإغراءات العسكرية والأفخاخ الأمنية أو العروض المالية أو الإنسانية ... .

لا أحد يختلف، إلا من أبى، على أن الثورة السورية أصابت الجميع بصداع مزمن يهدد، لأول مرة، بإصابة النظام الدولي بخطر التفكك. وفي السياق ليس مهما ما يحتاجه السوريون أو يفكرون به .. وليس مهما أن تتفتت سوريا وتُدمَّر على مرآى العين ومسمع الأذن .. وليس مهما أن يغدو الجسد السوري موضعا لأوحش مشاهد التمزيق والتعذيب والقتل والردع .. ذلك أن المهم الوحيد اليوم ألا ينجح السوريون، ومن ورائهم العرب والمسلمون، في خلع المربط الطائفي الدولي من موضعه، لأن النجاح سيعني أن المربط اليهودي هو الهدف التالي قطعا .. وأن خلعه يعني بلا مواربة انزواء الحضارة الغربية .. وهذا ليس قولنا بل قول أهل المركز بلسان قادته. ومن لم يصدق أو يتعامى أو يعبث بالحقائق فليتابع ويتأمل ما سيلي!!!

ففي مقالة له في صحيفة «التايمز» البريطانية، سبقت الثورات العربية، (17/6/2010)، قال رئيس الوزراء الإسباني الأسبق، خوسيه ماريا أزنار، أن: « إسرائيل هي خط دفاعنا الأول في منطقة مضطربة تواجه باستمرار خطر الانزلاق إلى الفوضى، ومنطقة حيوية لأمن الطاقة لدينا بسبب الاعتماد المفرط على النفط الموجود في الشرق الأوسط، والمنطقة التي تشكل خط الجبهة في الحرب ضد التطرف، فإن سقطت فسنسقط معها ... إسرائيل هي جزء أساسي من الغرب وما هو عليه بفضل جذوره اليهودية / المسيحية، ففي حال تم نزع العنصر اليهودي من تلك الجذور وفقدان إسرائيل، فسنضيع نحن أيضاً وسيكون مصيرنا متشابكاً وبشكل لا ينفصم سواء أحببنا ذلك أم لا».


سبق للرئيس السوري بشار الأسد، حين سئل بعد الثورة التونسية والمصرية، عما إذا كان من الممكن أن تندلع ثورة في بلاده فأجاب بالنفي، مشيرا إلى أن « سوريا مختلفة»!!! ولما وقعت الثورة هدد بـ « إشعال الشرق الأوسط في ست ساعات»، وفي مقابلة عاصفة مع صحيفة « الصندي التلغراف – 30/10/2011 » البريطانية، ذكّر الأسد « المركز» بالواقع الذي لم يختلف عليه أحد منذ أن تم اختيار الطائفة « النصيرية» لتكون الأمينة على النظام الدولي وأمن المنطقة، فقال:

« إن سوريا اليوم هي مركز المنطقة .. سوريا مختلفة كل الاختلاف عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف، والواقع السياسي مختلف .. إنها الفالق الذي إذا لعبتم به تتسببون بزلزال، .. هل تريدون رؤية أفغانستان أخرى أو العشرات من أفغانستان؟ .. أي مشكلة في سوريا ستحرق المنطقة بأسرها .. إذا كان المشروع هو تقسيم سوريا، فهذا يعني تقسيم المنطقة برمتها ... ».

ذات الأمر كرره مؤخرا في حديث خاص لقناة « روسيا اليوم» نشرت مقتطفات منه في 8/11/2012، حيث حدد الأسد مكانة سوريا، أو بتعبير أدق الطائفة النصيرية، في النظام الدولي قائلا: « أعتقد بأن كلفة الغزو الأجنبي لسوريا، لو حدث، ستكون أكبر من أن يستطيع العالم بأسره تحملها، لأنه إذا كانت هناك مشاكل في سوريا، خصوصا وأننا المعقل الأخير للعلمانية والاستقرار والتعايش في المنطقة، فإن ذلك سيكون له أثر الدومينو الذي سيؤثر في العالم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي .. لا أعتقد بأن الغرب يمضي في هذا الاتجاه، لكنه إذا فعل فلن يكون بوسع أحد أن يتنبأ بما سيحدث بعد ذلك».

لغة صريحة وبليغة في توصيف الأسد لنظامه باعتباره خط الدفاع الأول والأخير عن « إسرائيل» وعن النظام الدولي .. لغة سبق وأثنت عليها صحيفة « هآرتس»، حين وصفت الأسد، أوائل انطلاقة الثورة، بـ « ملك ملوك إسرائيل»، أو حين اعترف رافي نوي، العميد الاحتياطي بالجيش الإسرائيلي، في مقال له بصحيفة « معاريف» بأن: « مصلحة إسرائيل هي أن يبقى الحكم العلوي في دمشق». لكن المرارة لم تفارق إيهود باراك، وزير الدفاع، وهو يرى: « النظام يتفكك بصورة مؤلمة» أو حين يطلق نتنياهو، رئيس الحكومة، صيحة فزع (14/11/2012) من أن: « النظام السوري يتفكك إلى قوى جديدة، وأن عناصر أكثر تطرفا ضد إسرائيل، تابعة للجهاد العالمي، باتت تترسخ على الأرض، ونحن نستعد للتعامل مع ذلك».

ولمن راقب صيحات الفزع « الإسرائيلي»، منذ بدء الثورة السورية، سيصاب بالدهشة. فهم مصابون بالرعب من جماعات إسلامية وطنية يشنون عليها حربا وحشية في غزة .. فكلها بالنسبة لهم منظمات إرهابية حتى لو كانت ملحدة!!! فكيف بحال « إسرائيل» إذا تعلق الأمر بجماعات إسلامية أو بثورة اجتماعية مميزة تهدد مجمل النظام الدولي؟

يقول بيني غانتس، رئيس أركان الجيش « الإسرائيلي»، لدى استقباله جنودا بمناسبة عيد « العُرش اليهودي – 4/10/2012»، إن الرئيس السوري: « يذبح شعبه ويفقد السيطرة في المكان الذي سيشكل في نهاية المطاف مخزن أسلحة في متناول أيدي جميع المنظمات الإرهابية». ويحذر من: « أن المنظمات الإرهابية، وبينها منظمات جهاد عالمي، أخذت تستقر في المنطقة»، مشيرا إلى أن: « إسرائيل ستواجه في سوريا وهضبة الجولان إما تهديداً عسكرياً عادياً إذا صمد النظام، أو تهديداً إرهابياً متصاعداً مع قدرة على الحصول على أسلحة بكميات كبيرة». وتنقل وكالة « يو بي آي – 11/10/2012» عن « إذاعة الجيش» تحذيرات ومخاوف عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية الأمنية بوزارة الدفاع « الإسرائيلية»، من عواقب سقوط نظام الرئيس السوري. فيقول: « لست متأكدا من أنه سيكون في سوريا نظام ديمقراطي كما نأمل»!!! .. طبعا هو يقصد ديمقراطية الأقليات والملحدين واللبراليين وأرباب « المركز». ثم يتابع: « أخشى أن الأسد سيبقى بالحكم بضعة شهور، وربما سنة أو سنتين، لكن في نهاية المطاف ثمة إمكانية بأن تتحول سوريا إلى كيان تسوده الفوضى، ولن يكون هناك عنوان للتحدث معه».

هكذا .. وبدون لف أو دوران؛ فإن المرابط الدولية الثلاثة في المنطقة، تضطلع بمهمة واحدة، تتمثل بالحفاظ على النظام الدولي بالصيغة التي استقر عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وبما يضمن بقاء « العلمانية» ( بديلا عن الإسلام) و « الاستقرار» ( الأمن الدولي) و « التعايش» ( أمن إسرائيل). ولأنه لا بديل عن المربط الطائفي حتى الآن، لحماية المرابط الأخرى، إلا الطائفة النصيرية نفسها، فمن الطبيعي أن تتجه كافة التدخلات الدولية والإقليمية نحو تحقيق اختراق في عمق الثورة السورية.

هكذا؛ وبقطع النظر عن أية معايير أو خلفيات قيمية أو أخلاقية أو تباينات في موقف هذا الطرف بالمقارنة مع ذاك، مما يتصل بدعاوى حسن الظن وما إلى ذلك، فإن مبادرة الأخضر الإبراهيمي واجتماعات المعارضة السورية في العاصمة القطرية – الدوحة ( 4 – 8/11/2012) مثلتا أخطر محاولتين في هذا السياق. وكالعادة سنجتهد في حشد أكبر قدر ممكن من التصريحات الموثقة لأصحاب الشأن كي تكون منارة يهتدي به من ضل السبيل.


أولا: مبادرة الإبراهيمي


ما من مبادرة اتسمت بالغموض الشديد والعجب كما اتسمت به مبادرة الإبراهيمي. فعلى امتداد أسابيع طويلة، من الجولات الماراثونية بين العواصم الدولية واللقاءات والتصريحات، حرص الإبراهيمي منذ اللحظة الأولى على التكتم الشديد على « خطته» في احتواء الثورة السورية، وخاض صراعا إعلاميا مكشوفا، وحادا، مع بعض وسائل الإعلام على خلفية تصريحات نسبت إليه ونفاها، بغضب، جملة وتفصيلا. ولعل أغرب ما في مبادرة الإبراهيمي ذلك الحرص الشديد منه ومن القوى الدولية على « فكرة» غياب أي « خطة» له .. وادعائه، كلما سئل عن ذلك، بأنه بصدد استطلاع المواقف وإجراء مناقشات مع الأطراف المعنية أو تقديم أو تلقي « مقترحات» و « أفكار» تمهيدا منه لبناء تصور عن الأزمة أو « خطة متكاملة» كما يقول!!! ولسنا ندري كيف يمكن لشخصية دولية متمرسة في العمل الدبلوماسي كالأخضر الإبراهيمي لا تمتلك أية تصورات عن حقيقة ما يجري في سوريا أو حقيقة المواقف الإقليمية والدولية.

ولعل الحقيقة الثابتة لدينا أننا لم نقع على « زلات» للإبراهيمي في الفترة الواقعة بين تعيينه مبعوثا دوليا (17/8/2012 ) خلفا لسلفه كوفي أنان، واقتراحه لـ « هدنة» الأيام الأربعة خلال عيد الأضحى المبارك. وفي غياب هذه « الزلات»، التي تسمح بالتتبع والتحليل والربط بين الأحداث والمواقف، يصعب القول أن ما فعله الإبراهيمي كان مبادرة بقدر ما كان محاولة اختراق بالغة الدهاء. فما الذي أراده الإبراهيمي من هدنة يقل عدد أيامها عن عدد أصابع اليد الواحدة؟ .. « هدنة» من المستحيل أن تنجح وسط ركام هائل من الدمار وإرث عظيم من الوحشية وصدور فاضت قهرا وغيظا .. « هدنة» أقرب إلى الاستفزاز والاستغفال والاستهتار بعشرات آلاف من المفقودين والجثث المستوطنة تحت ملايين الأطنان من ركام البراميل المتفجرة .. « هدنة» استهدفت البحث عن التزام كل فرد من القتلة والضحايا!!! باختصار: ما الذي أراده الإبراهيمي من هدنته؟ وكيف أدار مبادرته الهلامية؟

كانت الانطلاقة من السؤال « ما البديل عن النظام»؟ ذلك السؤال المركزي الذي فرضته الثورة السورية على القوى الدولية والإقليمية والطائفية، وهو الذي يمكن أن يفسر إلى حد كبير النشاط المحموم الذي بذله الإبراهيمي، منذ تعيينه في إدارة ما فضل الجميع تسميته بـ « الأزمة السورية»!!! فالسؤال هو انعكاس استراتيجي وتاريخي لوظيفة سوريا « النصيرية» في الحفاظ على أمن النظام الدولي واستقراره عبر التحكم (بـ ) والسيطرة (على) القوى الوطنية أو المتمردة على « إسرائيل» والنظام الدولي، الذي مزق العالم الإسلامي وفي القلب منه العالم العربي. لذا فهو سؤال دولي وعربي وإيراني و « إسرائيلي» وتركي وطائفي. وتبعا لذلك لم يخرج الإبراهيمي في تقييمه لـ « الأزمة السورية» عن أي تقييم سابق، سواء كان دوليا أو إقليميا أو طائفيا.

لكن الإبراهيمي التزم مبدئيا في مؤتمر صحفي (24/9/2012) في أعقاب عرض قدمه أمام مجلس الأمن عن اتصالاته بدول المنطقة، وبصريح العبارة، بالتأكيد على أنه: « لا يمتلك خطة واضحة حتى الآن بل مجموعة أفكار»، وأن خطة « النقاط الست» التي تبناها المبعوث السابق كوفي أنان بالإضافة إلى مقررات « إعلان جنيف»، التي يتمسك بها الروس بأظافرهم وأسنانهم، ستشكل « عناصر» ضمن خطة عمله، وهو ما أكده الروس أنفسهم، لاحقا، عبر تصريحات أدلى بها ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، في 16/10/2012 تقول بأن: « الإبراهيمي ليس لديه بعد خطة لحل الأزمة السورية، وإن موسكو مستعدة لتقديم مقترحاتها بهذا الشأن له». لذا فقد وجدت « أفكار» الإبراهيمي استجابة ودعما من جميع القوى دون أن تلتزم بأي مشروع للحل، ودون أن يضطر الإبراهيمي إلى تحمل تبعات الفشل، كما قال ريتشر غوان من جامعة نيويورك (28/10/2012)، بعد فشل الهدنة: « إن الإبراهيمي لم يزعم مطلقا أن هناك فرصة كبيرة لنجاح وقف إطلاق النار»، معتبرا أن الدبلوماسيين في الأمم المتحدة « لن يحملوه تبعية هذا الفشل».

ففي مؤتمر صحفي، عقده عقب زيارة قصيرة إلى لبنان (17/10/2012) وعشية الهدنة الفاشلة، قال الإبراهيمي: « على دول الجوار السوري أن تدرك أن الأزمة لن تبقى في الداخل السوري إلى الأبد, وإنها باتت تهدد بالانتشار لتأكل الأخضر واليابس، وهو ما يحتم البحث عن مخرج لإخراج سوريا من أزمتها». وفي 5/11/2012 شدد الإبراهيمي بالقول أنه: « لا حل عسكري للأزمة السورية، وأن الحل الوحيد هو إيجاد عملية سياسية يتفق عليها الجميع، أو أن المستقبل سيكون سيئا للغاية، وستتدفق الأزمة على دول الجوار وحتى إلى دول بعيدة عن المنطقة». ولتجنب الانهيار « اقترح» الإبراهيمي « فكرة» أن يقدم كل صاحب شأن « أفكاره» و « مقترحاته» وإجاباته على السؤال: « ما البديل»؟ على قاعدة (1) « وقف العنف المتبادل» و (2) عبر صيغة « الحل السياسي مع النظام»، دون الاقتراب من الأسد من حيث بقائه أو رحيله، وبما يحقق (1) مصلحة كل طرف، و (2) يؤدي إلى « التغيير»، وبـ (3) موافقة جميع الأطراف. وبموجب ذلك يقدم أطراف « المركز» أفكارهم على قدم المساواة مع « أفكار» إيران والعرب وحتى اليهود والطائفة النصيرية.

هكذا وفرت المبادرة غطاء للأفاعي السابتة كي تغادر أوكارها بحثا عن الفرائس. فاختبرت كافة السيناريوهات التي يمكن التعامل معها. واستطاع الروس والأمريكيون إدارة الاختبارات إعلاميا وسياسيا بصورة مبهرة. وفي تصريح له لوكالة الأنباء الروسية « نوفوستي – 3/9/2012»، قال وزير الخارجية، سيرغي لافروف: [ « إن روسيا والولايات المتحدة تصبوان إلى تحقيق الهدف الواحد في سورية، وهو أن « تتحول سورية إلى نظام ديمقراطي تعددي يمارسه السوريون بأنفسهم في حين تحترم جميع الدول الأخرى سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها»، ولكن تختلفان على كيفية تحقيق هذا الهدف» ]. لكن هذا الاختلاف لا يتعلق في واقع الأمر بطريقة تنحية الأسد بقدر ما يتصل الأمر في الصراع على النفوذ الذي تخوضه روسيا ضد الغرب. ولقد كان لافروف صريحا في ذات التصريح، لمن لا يريد أن يعقل الحقائق بلسان أهلها، حين قال: « من الواضح أن تواجدنا الإنساني في العالم لا يساوي قدراتنا ونحن نلاحظ هذا بسهولة .. إننا نستعيد بشكل واسع مواقعنا التي خسرناها في تسعينات القرن السابق، ونحن متخلفون جداً عن اللاعبين الدوليين في هذه المنطقة مثل الفرنكوفونيين، ومعهد جوته».

كما أن الروس قالوا بصراحة في 6/9/2012، بلسان الرئيس بوتين،: « نحن نفهم جيدا ضرورة التغيير ... لكن ليس التغيير الدموي» .. عبارة تَحصَّن بها الإبراهيمي وطار فيها إلى سوريا ليقول للأسد في أول اجتماع له به: « الشعب السوري يريد التغيير الشامل ولن يكتفي بمصطلحات الإصلاح خصوصًا بعد كل ما مر عليه من مآس ومحن وقتلى وجرحى ومشوهين ومعتقلين ومهجرين». هذا ما نقلته صحيفة الرأي في24/9/2012. والحق أن الإبراهيمي، وتحت السقف إياه، انتزع من الرئيس السوري « فكرة الرحيل» ولو تحت غطاء وهمي أطلق عليه الانتخابات!!! فحين سئل عن لقائه بالأسد في 21/10/2012 أجاب: « لن أتكلم عما دار بيني وبين الرئيس من حديث، تكلمنا بهذا الموضوع (هدنة العيد)، وأعتقد أنه فاهم القصد من كلامنا، وهو وحكومته سيقولون رأيهم بهذه الفكرة». أما مقاصد الرئيس التي أخفاها الإبراهيمي فليست، على الأرجح، إلا تلك التي أفصح عنها ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي، في تصريحات سابقة أدلى بها لصحيفة « لوفيغارو» الفرنسية (10/9/2012)، وقال فيها: « إن الأسد أبلغنا بنفسه، لكني لا أعرف إلى أي مدى هو صادق في ذلك، لكنه أبلغنا بوضوح أنه إذا لم يكن الشعب يريده؛ وإذا اختاروا زعيما آخر في انتخابات؛ فإنه سيرحل».

وقد تبدو مثل هذه التصريحات متناقضة مع ما أدلى به لافروف عقب لقائه مع نظيره الأردني ناصر جودة حين اعتبر بأن: « مَن يريد تغيير نظام الرئيس الأسد فإنه يسعى إلى إكمال حمام الدم». لكنه في الواقع تصريح بالغ الدقة والصراحة. فالروس يتحدثون عن تغيير الأسد وليس عن تغيير النظام. وهم متفقون مع الغرب على بقاء النظام لكنهم لا يختلفون على تغيير الأسد إلا بالطريقة كما يقول لافروف، فضلا عن سعيهم الجوهري لكسب أكثر ما يمكن كسبه قبل التضحية بالأسد.

ومن جهتها سعت إيران نحو العراق بخطىً حثيثة لتثبيت ما تراه حقوقا لها أو بدائل مرضية في حالة رحيل الرئيس السوري. وقبل لقائه بالإبراهيمي قدم الرئيس الإيراني أحمدي نجاد معادلة إيران للحل في 3/10/2012. فمن جهة قَبِلَ التقييم الدولي للأزمة السورية، مشيرا إلى أن: « كل القوى العالمية التي انخرطت في الأزمة السورية ارتكبت أخطاء، ومحذرا في الوقت نفسه من أن الأزمة السورية ستمتد إلى دول أخرى في المنطقة إذا لم تحل». ومن جهة أخرى طالب باستحقاقات إيرانية للحل بالقول: « كل الشعب السوري محترم، ولكن البعض يريدون تصفية الحسابات مع إيران».

وفي 15/10/2012 حل الإبراهيمي ضيفا على بني فارس. وهناك التقى الرئيس وكذا وزير خارجيته علي أكبر صالحي ومستشار الأمن القومي سعيد جاليلي. وأعلن صالحي أن إيران سلمت الإبراهيمي « مقترحات خطية غير رسمية» لتسوية الأزمة, دون أن يكشف عن فحواها، وأن المقترحات سُلمت أيضا إلى السعودية وتركيا ومصر!!! لكن كل ما رشح عن اللقاءات، في حينه، هو دعم إيران للحل السياسي، مع التشديد على ضرورة وقف العنف، قبل اتخاذ أي إجراءات في الميدان. أما الإبراهيمي فعلق على المقترحات بالقول: « إن الأفكار أو المقترحات الإيرانية ستضاف إلى مقترحات قدمتها دول أخرى من أجل الخروج بخطة متكاملة».

لكن لم يمض يوم واحد على اللقاءات حتى طار وزير الدفاع الإيراني إلى العراق ( 16/10/2012) في أول زيارة له منذ احتلال البلاد سنة 2003 استهدفت توقيع اتفاق أمني مع الحكومة العراقية التي حولت العراق فعليا إلى محافظة تابعة لإيران خاصة بعد سيطرتها على البنك المركزي. ويبدو أن الإيرانيين رؤوا في مبادرة الإبراهيمي فرصة لإحياء فكرة البديل عن سوريا، التي سبق وطرحها مقتدى الصدر عشية الانسحاب الأمريكي من العراق وأوائل انطلاقة الثورة السورية. وبدا أن زيارة وزير الدفاع الإيراني تحاول صياغة معادلة من نوع: إذا كان هناك من يسعى إلى تصفية الحساب مع إيران في سوريا فالإيرانيون أيضا على استعداد لتصفية الحساب معهم في العراق.

لم ينكر علي شاكر شبر، النائب عن التحالف الوطني في العراق، خفايا التحرك الإيراني المباغت دبلوماسيا حين علق على الزيارة بالقول: « إن العلاقات بين العراق وإيران علاقات طيبة ومتطورة، وتأخذ مديات أوسع منذ عام 2003 ولحد الآن، ولأن المنطقة تمر بحالة قلقة وغير مستقرة فمن الضروري أن تكون هناك اتفاقيات أمنية، سواء مع إيران أو غيرها من دول الجوار».

ومن جهته فسر النائب أحمد العلواني، عن القائمة العراقية، تصريحات غريمه بالقول: « إن الاتفاقية الأمنية التي تسعى إيران لإبرامها مع العراق تتعلق بتخوفها من تداعيات الأزمة السورية وانهيار نظام بشار الأسد، ولإيجاد ساحة أخرى تكون بديلاً عن سوريا، معتبرا أن زيارة وزير الدفاع الإيراني المفاجئة للعراق ترتبط بهذا الموضوع». ومحذرا من أن: « الاتفاقية ستقود إلى تسليم البلد إلى إيران ويكون الملف الأمني بيدها كاملاً. أما أحمد الأبيض، المحلل السياسي العراقي، فقد ذهب، كالكثيرين، أبعد من ذلك حين ربط بين: « زيارة وزير الدفاع الإيراني التي استبقت بيومين زيارة رئيس الحكومة نوري المالكي إلى روسيا»، مشيرا إلى أنها: « تعطي دلالات بأن موسكو وطهران تسعيان لسحب العراق إلى محور الدعم الروسي الإيراني لسوريا، وهذا ما يراه الكثير من المهتمين بالشأن العراقي والسوري».

هكذا، وبعد أن ضمن العراق بديلا عن سوريا، جرى تمهيد الطريق أمام أحمدي نجاد كي يتوقف عن إطلاق التهديدات، ويعلن من الكويت، خلال مشاركته في قمة آسيوية – 17/10/2012، عن دبلوماسية ناعمة تقضي بدعم بلاده لـ: « فكرة وقف إطلاق النار في سوريا»، وليؤكد في الوقت نفسه على أن: « الحرب لا يمكن أن تكون حلا مناسبا، وأن أي جماعة تحصل على السلطة من خلال الحرب؛ وتهدف للاستمرار فيها ليس لها مستقبل» .. بل أنه كرر ما أفشاه بوغدانونف، نائب وزير الخارجية الروسي، عن تنحي الأسد عبر صندوق الاقتراع، مشيرا إلى أن: « وقف إطلاق النار والمفاوضات بشأن انتخابات حرة هو من وجهة نظري الطريق الصحيح إلى الحل»!!! .. هذه هي إيران التي لم تترك بلدا إسلاميا إلا وأنشأت فيه طابورا خامسا وأغرقته بالأسلحة والفتن والحروب باتت تنبذ الحروب وتتحدث فجأة عن حلول سياسية وديمقراطية وطرق صحيحة!!!


ثانيا: آلية الاختراق وعناصره


وفي الوقت الذي كانت تخضع فيه مختلف القوى الإقليمية والدولية لعمليات اختبار حاسمة، عبر مبادرة الإبراهيمي، كانت القوى المقاتلة في الثورة السورية تتعرض، هي الأخرى، لأقسى عملية اختبار أمني وعسكري منذ انطلاقة الثورة. إذ أن القوى الوحيدة التي يصعب اختبارها، وتحتاج إلى الترويض والاحتواء هي القوى المسلحة التي تمسك بالأرض وتخوض القتال. وكان الطُّعم الذي ألقي على العسكر هو تسليح الثورة، ومن الطريف أنه ذات الطُّعم الذي سبق وألقي على قوى المعارضة السياسية ولمّا تزل حتى هذه اللحظة. لكنه بالقطع ذو وقع مميز حين يكون العسكر هم الأداة التي تلتقطه فيما الثورة هي الهدف الذي يدفع ثمن مرارته.

من المعلوم جيدا أن « المركز، بشقيه الغربي والشرقي، وعبر آلية التسلح، يتحكم في اندلاع الحروب وإطفائها مثلما يتحكم في تحديد هوية المنتصر من المنهزم، وكذا في استمرار الحروب دون السماح لأي طرف بتحقيق انتصار حاسم على الطرف الآخر، وأخيرا التحكم بحالة اللاحرب واللاسلم الدائمين. ومن المعلوم أيضا أن تدفق الأسلحة باتجاه النظام السوري لم ينقطع، في حين يجري التحكم بها بشدة فيما يتعلق بالثورة السورية. فتارة تتدفق وفقا لمعايير كمية ونوعية وتارة تختفي حتى الذخائر .. الأمر الذي أصاب المقاتلين بالكثير من القهر والمرارة مما اعتبروه سياسات عدوانية وشريرة كونها تتعمد منع المقاتلين من إحداث فوارق حاسمة في الصراع مع النظام. بل أن أحد قادة المقاتلين علق على هذه السياسية بمحتوى مفجع ومرير حين قال لصحيفة « الغارديان – 10/11/2012» إنهم: « يعطوننا ما يكفي لمواصلة القتال لكن ليس ما يكفي لكسبه. وأنا متأكد أن هذا الوضع لن يتغير حتى بعد الانتخابات الأميركية. وغير متأكد من أن كل امرئ يستطيع أن يبقى على قيد الحياة حتى هذا الوقت».

والثابت أن الثوار شعروا مبكرا جدا بهذه السياسات الدولية حتى قبل « الغارديان»، وقبل أن يتحدث أحد عن الخشية من تحول سوريا إلى ملاذ للقوى الإسلامية أو « جماعات الجهاد العالمي»، بل قبل أن تتجه الثورة السورية نحو العسكرة. لكن نمو العامل الإسلامي في الثورة عزز التذرع بعدم التسليح، في حين أن المشكلة تتصل بالدرجة الأساس بافتقاد « المركز» للبديل عن الطائفة الحاكمة في سوريا، وبالتالي غياب أي حل سياسي، والاكتفاء بإدارة الأزمة على أمل أن يتمكن النظام من القضاء عليها أو احتوائها أو انزوائها تحت ضغط آلة عسكرية شديدة التوحش والإجرام، ومحصنة برعاية دولية وأغطية سياسية وأمنية وزمنية مفتوحة.

المشكلة التي تواجه « المركز» اليوم تتطلب أجوبة على استيعاب ثورة مدنية انقلبت إلى ثورة مسلحة يصعب السيطرة عليها. وكنا قد أشرنا إلى هذا الأمر في حلقات سابقة من السلسلة قبل أن يكتب بنجامين هال، كنموذج، مقالته في صحيفة « نيويورك تايمز – 19/10/2012» واصفا الثوار باعتبارهم: « مجموعات مختلفة ومشتتة لا يربط بينها رابط تنظيمي أو قيادة موحدة، ومن مشارب فكرية متنوعة، وتستولي كل واحدة منها على شارع أو شارعين بالمدينة ولا تتوفر الثقة بينها». لينتهي بتوصية تفيد بأنه: « سيكون من الخطأ أن تسلح أميركا وأوروبا الثوار بالأسلحة أو أن تتدخل على الأرض». لكننا نبهنا في مواضع سابقة من السلسلة أن قوة الثورة في الوقت الراهن تكمن في شتاتها باعتباره تعبيرا عن حالة اجتماعية شاملة، وفعالة وعصية على الاختراق مع تداعي الأعداء والخصوم عليها.

لكن في هذه النقطة بالضبط تدخل « المركز» ومخططيه الاستراتيجيين وحلفائه وأجهزتهم الأمنية والإعلامية عبر الدعوة إلى توحيد القوى المسلحة في إطار ما أسمي بـ « المجالس العسكرية» .. وتحت شعار « لا سلاح بلا قيادة موحدة»!!! وتوثيقا لـ « الشعار» كشفت صحيفة « إندبندنت – 1/10/2012» البريطانية: « إن مزودي الأسلحة من القطريين والأتراك أبلغوا ممثلي المعارضة، أثناء نقاشات عالية المستوى، أن الأسلحة الثقيلة لن تتاح لهم حتى تتفق الفصائل المختلفة على تشكيل هيكل قيادة متماسك، وأن مخزونات من الأسلحة ... موجودة في تركيا لكي يستخدمها ثوار سوريا في الحرب الدائرة هناك، لكن توزيعها متوقف بسبب الشقاق والتنازع بين المجموعات المختلفة من المقاتلين». ونقلت صحيفة « الغارديان – 11/10/2012» عن مسؤولين أمريكيين قولهم: إن « الطبيعة الغامضة للمعارضة والوجود الزاحف للجهاديين الأجانب من أسباب ضغطهم على الرياض والدوحة»، مضيفة أن: « السعوديين يضغطون الآن على المعارضة السورية المسلحة لتشكيل "جبهة إنقاذ" بقيادة وسيطرة موحدة على الأرض وقدرة على جمع الأسلحة بمجرد انتهاء القتال»، وهو ما اعترف به، لاحقا، المقدم الركن ياسر عبود، قائد العمليات في المنطقة الجنوبية في الجيش الحر، خلال مقابلة مع « الجزيرة نت – 31/10/2012 » حين سئل عن الغاية من توحيد القوى المسلحة فقال بأن: « المطلوب من العسكر الاتفاق ضمن مجالس مناطقية في المحافظات وإيجاد غرفة عمليات موحدة في كل محافظة أي توحيد البندقية في الداخل تحت إطار الحد الأدنى من التوافق والانضباط ... (ولأن) الخارج لا زال خائفا من تفلت عمليات التسلح في الداخل، فهو يريد إطارا واحدا يسلحه ثم يعود السلاح للدولة بعد إسقاط النظام». وحتى مختار لماني، نائب الإبراهيمي لم يخف تذمره، (1/10/2012) من شتات المقاتلين مشيرا إلى أن: « هناك الكثير من أحزاب المعارضة داخل سوريا وخارجها بالإضافة إلى الجماعات المسلحة، مشيرا إلى أن العلاقات بين هذه المجموعات يشوبها الخلاف والاقتتال والاتهامات بالخيانة، واعتبر أن ذلك يعقد المهمة».

ولا ريب أن المنطق الأمريكي، على وجه التحديد، بعيدا حتى عن الضغوط العربية، بدا مقنعا لكثير من العسكريين والسياسيين والمدنيين وحتى لبعض المشايخ. والخلاف الوحيد يقع في مستوى خلفية القناعات والأهداف والأجندات. فثمة شريحة من هؤلاء غافلون تماما عن أية حقيقة أو معرفة أو تقييم لحقيقة الثورة أو مكانة سوريا الطائفية في النظام الدولي، لذا فإن القسم الأكبر من هذه الشريحة أحسن الظن في فكرة تشكيل « المجالس العسكرية» اعتقادا منها أن الثورة تتوحد بعد شتات بغيض وغياب للقيادة جعل من فعاليات الثورة خاضعة للاجتهاد والمبادرة الفردية بعيدا عن التخطيط المبدئي، ناهيك عن التخطيط الاستراتيجي، وشريحة ثانية واهمة وحالمة، يكسوها الغرور والطموح في دور مستقبلي لها في سوريا ما بعد الأسد، باعتقادها القدرة على انتهاز الفرصة والتفاهم مع « المركز» والدخول معه في تبادل مصالح مشتركة إلى حين، وكأن المركز أبلها أو غافلا أو أقل ذكاء منها في التحليل والمراوغات والمكر!!! ومع ذلك فهي تظن أن إسقاط الأسد يكفي، مع علمها اليقين أنه لا يعني بالضرورة إسقاط النظام. هذه الشريحة لا تتحرج من لقاءاتها مع عناصر أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية، وحتى التباهي في الاجتماع بوكلاء الـ CIA. أما الشريحة الثالثة فهي من صنف « إسرائليو الثورات» الذين يحركهم الهوى، فلا تعنيهم عقيدة ولا أمة، ولا يتعظون من أية سوابق لأمثالهم، أو روادع عقدية أو أخلاقية حتى لو تحالفوا مع الشياطين. وغني عن البيان القول بأن أن الشرائح الثلاثة وقعت، كرها أو طوعا، ضحايا لاختبارات أمنية وألغام لا هدف لها إلا إصابة الثورة بأضرار بالغة أو التمهيد لمرحلة« صحوات» دموية قادمة قبل وبعد سقوط الأسد. وإذا ما أوذيت الثورة، لا قدر الله، بقواها وكتائبها ومقاتليها ومجاهديها بفعل هذه التشكيلات، فسيتحمل هؤلاء مسؤولية أخلاقية وتاريخية وعقدية جسيمة.

ومن باب التذكير فليست هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها قوى « المركز» تحقيق اختراقات في الثورة سواء في صلبها أو عبر هوامشها القريبة والبعيدة. ففي 11/8/2012 أُعلن في واشنطن عن تشكيل جماعة سورية معارضة من ستين عضوا باسم « جماعة الدعم السورية»، لجمع التبرعات المالية والعينية، وزعم لؤي السقا، أحد الأعضاء الاثني عشر في مجلس الإدارة، أن الجماعة: « تمثل آلاف المقاتلين في تسع محافظات، وأن هؤلاء الذين يمثلون ما يقارب نصف المقاتلين في الجيش الحر!!!، وأنهم: « وقعوا إعلان مبادئ يدعو إلى دولة ديمقراطية لجميع السوريين بغض النظر عن الطائفة أو الدين أو العرق، وترفض المبادئ كذلك الإرهاب والتطرف والقتل بغرض الانتقام»!!!

وفي الولايات المتحدة أيضا، وفي ذات السياق من التواصل مع المعارضة أو صناعتها، نقلت وسائل إعلام في 12/8/2012 عن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية، بعد لقائها نظيرها التركي، القول: « أنها التقت مجموعة من الناشطين السوريين والخبراء والقانونيين والصحفيين والقيادات الطلابية في محاولة لمعرفة ما يمكن للولايات المتحدة فعله لمساعدتهم». وفي تصريح إذاعي (19/9/2012) أعلن السفير الفرنسي في سوريا إريك شوفالييه، المكلف بالملف السوري عن موقف بلاده بالقول: « نعمل مع المعارضة لمساعدتها على تنظيم نفسها، ولدي تعليمات من رئيس الجمهورية للاتصال بمجمل مكونات المعارضة ومن ضمنها المجموعات المسلحة، ونحن أول دولة تقوم بذلك بهذا الشكل المنظم».

أما المستهدف هذه المرة بصورة خطيرة، كما أشرنا، فهم المقاتلون بدايةً وهوية الثورة نهايةً. وقد سبق وأشرنا إلى أن « الجيش الحر» هو راية شعبية بنسبة تزيد عن 85% من القوى المسلحة في سوريا، فيما تتوزع النسبة الباقية على المنشقين من الضباط والجنود. أما الشق الآخر من الثورة فهو ذلك الشق الإسلامي المكون من قوى محلية وأخرى متطوعة من الخارج. ويبقى شق ثالث خفي، لكن نصفه من القوى الجهادية العقدية ونصفه الآخر من قوى تحتفظ بقوتها وعددها وتحشد السلاح دون أن تخوض المعارك استعدادا لقطف الثمار.

وهكذا بات جليا أن كل ما يرمي إليه « المركز» من تشكيل المجالس العسكرية» هو تجميع القوى المسلحة في « تشكيلات مستحدثة تحت سلطة قيادة واحدة يمكن أن تكون قريبا بديلة عن « الجيش الحر» بشقيه الشعبي والنظامي .. قيادة تمارس سلطة الرقابة والتحكم والسيطرة والتجنيد. لذا فإن المشهد الأمني في هذه المجالس، والساعي إلى تأسيس قاعدة بيانات واسعة ومفصلة، يبقى حاضرا بقوة عبر الاتصال بتشكيلات القوى المسلحة وطلب بيانات عنها تشمل أعداد المنتسبين لها وأسمائهم وأرقام هواتفهم وعناوينهم وعدتهم وعتادهم وخلفيتهم المهنية أو العسكرية أو الأيديولوجية أو العقدية وما إلى ذلك من البيانات التي تساعد لاحقا على التتبع والملاحقة وحتى الاعتقال أو التصفية الجسدية إذا لزم الأمر.

وبطبيعة الحال سيعمل « المركز»، في مرحلة ما، على تمكين هذه المجالس من امتلاك الأدوات اللازمة للعمل كالشرعية الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية، فضلا عن التمويل والتسليح والإعلام لتحقيق عملية فرز ميداني للقوى المسلحة تستهدف بالدرجة الأساس القوى الإسلامية. ولم يعد غريبا أن تترافق عمليات التشكيل هذه مع حملة إعلامية شرسة استهدفت هذه القوى وكل متطوع راغب بالخدمة المدنية أو القتال بدعوى أن سوريا ليست بحاجة إلى رجال أو، في مستوى أشد، يزعم أن الوافدين تحولوا إلى عبء على الثورة. والمنطق يؤكد بأن المتطوعين لو كانوا عبءً لما كان لهم ذاك التأثير الفارق على مسارات الثورة ميدانيا، ولو كانوا كثرة لما بقيت الثورة تعاني من حالة توازن القوى مع النظام.

والحقيقة الثابتة الأولى تؤكد أن الإسلاميين هم القوى الوحيدة التي لم تتذمر أو تطلب تمويلا أو تسليحا من أحد، وبالتالي فهي أولى بالشكوى من أية قوة أخرى، بالنظر إلى توافد متطوعين يعانون من قصور في فهم الجهاد ومتطلباته الشرعية والمادية أو لانعدام أية خبرة لديهم. ولو كانت تعتمد معايير القلة والكثرة لحق لها قبل غيرها أن تندب حظها بالمقارنة مع الآلاف المؤلفة من المسلحين.

والحقيقة الثانية أن الحرب على القوى الإسلامية هي حرب إعلامية محضة تديرها وسائل الإعلام وشخصيات معروفة ماضيا وحاضرا بعدائها للقوى الجهادية، وبالتحالف مع قوى وشخصيات سياسية وعسكرية ومنابر إعلامية محلية تتميز غيظا من مجرد ذكر كلمة جهاد!!! والثابت أنه ليس لمثل هذه الهجمات المغرضة علاقة ذات أثر ملموس في الواقع، لاسيما وأنها تتصرف عبثا، وبشكل فاضح، كمن يجهد نفسه بتغطية الشمس بالغربال، بل أن هذه الحقيقة تؤشر على أن القوى الدولية هي التي تقف خلف هذه الحملات التي تستهدف في المستوى الأول وقف تدفق المتطوعين الوافدين، وفي الثاني التمهيد لإحكام إغلاق الحدود، والثالث فرز القوى الإسلامية في الميدان ومحاصرتها، وإذا تطلب الأمر ضربها في مستوى رابع.

الحقيقة الثالثة أن القوى الإسلامية كـ « جبهة النصرة» و أحرار الشام» قدمت أداء عسكريا مميزا في ميادين القتال؛ وفَّر لها حاضنة شعبية ومصداقية عالية لدى القوى المسلحة حتى من كتائب وألوية « الجيش الحر». ويشهد الكاتب البريطاني كون كوفلين في مقالة له بصحيفة « الديلي تلغراف – 29/8/2012»: « أن مشاركة تنظيم القاعدة في الصراع الدائر بسوريا مبالغ فيها، ولكن هناك خلايا للقاعدة تحمل أعلاما بيضاء وسوداء وتحارب جنبا إلى جنب على الجبهات إلى جانب الجيش السوري الحر». بل أن شهادة صحيفة « الأبزرفر – 4/11/2012 » كانت أكثر وضوحا في الوقوف على حقيقة أداء القوى الجهادية في مواجهة النظام الطائفي في سوريا حين قالت: « إن دور الجهاديين الأجانب أو من يسمون بالمهاجرين يبقى حيويا وضروريا ومطلوبا، فهم يوجدون في كل جبهة وعلى كامل الاستعداد والجاهزية، وقليل من الهجمات الكبيرة الأخيرة ضد قوات حدثت دون مشاركة فاعلة للجهاديين الأجانب فيها». ولا ريب أن مثل هذه الشهادات، القادمة من عمق ديار « المركز»، بحق القوى الجهادية تشكل إحراجا بليغا لمن يقللون من شأنها أو يعملون على تشويهها بما يخالف الواقع أو يشهدون زورا بنسبتهم لبعضٍ من أكبر العمليات العسكرية التي نفذتها مثلا « جبهة النصرة» ضد رئاسة الأركان وكتيبة الصواريخ للـ الجيش الحر»، علما أن هذا الأخير لم ينسبها لنفسه!!!


ثالثا: مسيرة الاختراق


1) المعارضة المسلحة


لما تكون الثورة السورية شأن دولي أكثر مما هي شأن محلي فإن القراءة الموضوعية تستدعي من كل مراقب أو دارس لها مراقبة السلوك الدولي وسياساته على كل مستوى بنفس القدر الذي نقرأ به وقائع الثورة أو سلوك النظام الحاكم أو أزيد منه. ولما نتحدث عن « الاختراق» باعتباره حقيقة واقعة وليس مؤامرة متخيلة فلأن وقائعه ليست خفية بقدر ما تعج بها وسائل الإعلام دون حياء أو وجل. لكن مع أن السلاح لـ « المعتدلين» إلا أن الحل سياسي!!! فما الحاجة إذن لـ « البدائل» العسكرية والسياسية الجديدة؟

فقد انطلقت « مسيرة الاختراق» من رحم قوى المعارضة السياسية التي رفضت عسكرة الثورة السورية أياً كان الثمن. واستعملت القوى الاستخبارية العالمية بعض رموز القوى السياسية في الحصول على ما لديها من معلومات. لكنها فشلت في القيام بمهمتها. فلجأت القوى الغربية إلى بعض من كبار الضباط، عبر سلاسل من الاجتماعات التي جرت معهم على انفراد بغية الحصول منها على ما يمكن الحصول عليه من معلومات تفيد في التقييم. ومن الطريف أن القوى الاستخبارية هذه كانت ترسل خبراء متخصصين في جمع المعلومات وليس في تقديم العروض أو المطالب أو فرض الإملاءات التي يتركونها عادة لحلفائهم كي لا تثير الريبة لدى السوريين، مع ذلك فقد منيت هذه المحاولات، إلى حد كبير، بالفشل إلى الحد الذي دفع صحيفة « الواشنطن بوست – 25/7/2012 » الأمريكية أن تتحدث عن « فجوة استخبارية في سوريا» حول هوية القوى العسكرية المقاتلة والنظام السوري.

والحقيقة أن القوى الأمنية لـ « المركز» كانت تدرك صعوبة المهمة لثورة مدنية انقلبت إلى ثورة مسلحة بحيث يستحيل الإحاطة بالمشهد الثورة الشعبي المسلح من جميع جوانبه. هذه « الفجوة الأمنية» مثلت أخطر عقبة في وجه القوى الدولية التي وقعت في حيرة من أمرها إزاء البحث عن أنجع السبل في التعامل مع الثورة السورية. كما أنها منعت إمداد الثورة بالسلاح، بل وحاصرتها حتى في ذخيرة البنادق، بدعوى الخشية، في المستوى الأول، من تحول المجتمع السوري إلى « التطرف»، وفي مستوى ثاني بذريعة الخشية من وقوع السلاح بيد جماعات « متطرفة» لم تكن أصلا موجودة، في حين أن المسألة برمتها تتعلق فقط بالحفاظ على أمن النظام.

وتبعا لذلك تطورت « مسيرة الاختراق» لتمس الهياكل السياسية والعسكرية على السواء عبر البحث عن قيادات وهياكل بديلة من الداخل تستجيب لاحتياجات « المركز»، وتساهم، بوعي أو بدون وعي، بسد الفجوة المعرفية. إذ أن الثورة السورية تخوض حربا عجيبة يصعب فهمها لاسيما وأنها تفتقد إلى المرجعية والقيادة والإدارة والخبرة والسابقة والأيديولوجية والتنظيم، ولكنها مع ذلك تحقق تقدما مثيرا، سواء من حيث إضعاف النظام وإرهاقه أو من حيث طرده فعليا من مناطق واسعة جدا، رغم كل الدعم الدولي الذي يحظى به فضلا عن الوحشية التي فاقت كل تصور في قمع الثورة والمجتمع وتخريب الدولة وبناها التحتية.

ومع أن التجارب السابقة في الاختراق كانت تجري من وراء ستار مع بعض الأفراد أو القوى أو الجماعات إلا أنها في الحالة السورية باتت على كل منبر وفي كل محفل!!! وبالتأكيد لم تكن هي الأولى، تلك المقالة التي كتبها وليم هيغ، وزير الخارجية البريطانية، في صحيفة « التايمز – 10/8/2012، وقال فيها: « أن بلاده ستواصل العمل مع المعارضة السورية وخصوصا مع ممثلي الجيش الحر لتأمين استعدادهم للسقوط الحتمي للأسد». فقد سبقها اعترافات أمريكية وبريطانية عن وحدات استخبارية تنشط في سوريا.

أما المجالس العسكرية بدأت في الظهور إعلاميا في أواخر شهر أيار / مايو عبر تصريحات لقادة عسكرين منشقين في الداخل. ففي تصريحات لصحيفة « الشرق الأوسط - 27/5/2012» قال العقيد الركن أحمد فهد النعمة، قائد المجلس العسكري في محافظة درعا،: « قمنا بتشكيل مجالس عسكرية في مختلف المحافظات وهي متواصلة من خلال المكاتب الإعلامية التابعة للمجالس العسكرية وهناك تواصل بين قادة المجالس ومع قيادة الجيش السوري الحر بشكل يومي ومستمر بغية التوصل إلى العمل المؤسساتي المنظم والهادف والذي يوازي المعايير الدولية». وفي مقابلة مع صحيفة « الغارديان 2/6/2012 » البريطانية أكد العقيد الطيار الركن قاسم سعد الدين، الناطق الرسمي باسم القيادة المشتركة لـ « الجيش الحر» بالداخل أن: « ثمة تنظيما أكثر وضوحا الآن مع تشكيل عشرة مجالس عسكرية إقليمية تتبعها كتائب محلية وفرق قتالية، وكلها لديها فروع إدارية تتعاطى مع التمويل والتزويد بالأسلحة والمساعدات الإنسانية».

كانت هذه التشكيلات حاضرة في لقاءات الدوحة، الساعية إلى إيجاد هياكل سياسية وعسكرية جديدة، حتى تم الإعلان في 16/10/2012، عن: « اتفاق عشرات المعارضين السوريين، ومنهم قادة الجيش السوري الحر، باجتماع داخل سوريا عقد في 14/10/2012، على تشكيل قيادة مشتركة بهدف تحسين التنسيق العسكري بين المقاتلين وخلق قيادة واحدة يأملون أن تكون القوى الخارجية مستعدة لتزويدها بأسلحة أقوى».

« قيادة واحدة»! لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعيدا عنها، وهو يخوض آخر مناظرة طاحنة له مع خصمه في الانتخابات الرئاسية مت رومني (23/10/2012)، حيث كانت الثورة السورية حاضرة بقوة في العاصفة. وخلال المناظرة كان أوباما صريحا للغاية وهو يقول: « إننا نساعد المعارضة على تنظيم صفوفها ونحرص بصورة خاصة على التثبت من أنهم يعملون على تعبئة القوى المعتدلة في سوريا .. نتثبت من أن الذين نساعدهم هم الذين سيكونون أصدقاء لنا على المدى البعيد وأصدقاء لحلفائنا في المنطقة على المدى البعيد .. فالثوار الذين يصبحون مسلحين هم الأشخاص الذين سيصبحون الأطراف المسؤولة، علينا التصرف بحيث نكون واثقين ممن نساعد، وأننا لا نضع أسلحة بأيدي أشخاص قد يوجهونها في نهاية المطاف ضدنا، أو ضد حلفائنا بالمنطقة» .. ولأن أوباما ليس وحده من يؤمن بهذا التحرك؛ فقد دعا: « للعمل مع شركائنا وبمواردنا الخاصة لتحديد أطراف مسؤولة داخل سوريا، وتنظيمها وجمعها معا في مجلس يمكنه تولي القيادة بسوريا، والتثبت من امتلاكهم الأسلحة الضرورية للدفاع عن أنفسهم».

بالتأكيد لن تنعم « المجالس العسكرية» بالمن والسلوى قبل أن تخضع لاختبارات فعلية على الأرض تثبت أنها قادرة على أداء المهمات المطلوبة منها. لكنها قد تتلقى مبدئيا بعض المال مصحوبا بغض الطرف عن تدفق محسوب للسلاح، كما ونوعا، كطعوم تساهم في بناء الثقة والمصداقية بحيث يمكنها إغراء القوى المسلحة على الانضواء تحت سلطتها. وما أن تقوى شوكتها حتى تصبح رهينة التوجيهات المذلة والشديدة الخطورة. إذ لا توجد أية ضمانات متخيلة تحمي هذه المجالس من سطوة القوى الدولية. وستفاجأ بأنها ملزمة بتلقي الإمدادات المالية والعسكرية، إنْ حصلت فعلا أو مبدئيا، من جهة أو جهات بعينها. وهو ما يعني أن خطوط إمدادها التقليدية ستنقطع بحيث تصبح تحت رحمة القوى الدولية. أما أولئك الذين سيمتنعون عن الانضواء تحت سلطة هذه المجالس، ومن بينهم أولئك الذين تصفهم صحيفة « الواشنطن تايمز – 7/11/2012 » بـ « السيئين»، أي الذين يعارضون السياسات الأمريكية أو يحملون الفكر الإسلامي فضلا عن القوى الجهادية المنظمة، فسيتعرضون بدورهم لحصار خانق وحملات تشويه إعلامية وربما حرب استئصالية ضدهم حتى قبل إسقاط الأسد. لكن ماذا عن حال المعارضة السياسية؟ هل سيكون أفضل من قرينتها العسكرية؟ لنرى.





  #26  
قديم 26-12-2012, 07:27 PM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي


الثورة السورية ومسارات التدويل


الاختراق


(11)


د. أكرم حجازي


18/11/2012







الاختراق هو (1) إقرار بوجود جسم صلب، و (2) تعبير عن الحاجة إلى نافذة تسمح بالولوج إليه، بغية إضعافه أو احتوائه أو السيطرة عليه أو التحكم به أو إتلافه بشكل تام. هذا هو ما تتعرض له الثورة السورية، منذ انطلاقتها. وتبعا لذلك فإن كل المستويات العسكرية والأمنية والإنسانية والعقدية والقيمية والاجتماعية والاقتصادية ... باتت عرضة للاستهداف والمطاردة عبر المبادرات السياسية أو الإغراءات العسكرية والأفخاخ الأمنية أو العروض المالية أو الإنسانية ... .

لا أحد يختلف، إلا من أبى، على أن الثورة السورية أصابت الجميع بصداع مزمن يهدد، لأول مرة، بإصابة النظام الدولي بخطر التفكك. وفي السياق ليس مهما ما يحتاجه السوريون أو يفكرون به .. وليس مهما أن تتفتت سوريا وتُدمَّر على مرآى العين ومسمع الأذن .. وليس مهما أن يغدو الجسد السوري موضعا لأوحش مشاهد التمزيق والتعذيب والقتل والردع .. ذلك أن المهم الوحيد اليوم ألا ينجح السوريون، ومن ورائهم العرب والمسلمون، في خلع المربط الطائفي الدولي من موضعه، لأن النجاح سيعني أن المربط اليهودي هو الهدف التالي قطعا .. وأن خلعه يعني بلا مواربة انزواء الحضارة الغربية .. وهذا ليس قولنا بل قول أهل المركز بلسان قادته. ومن لم يصدق أو يتعامى أو يعبث بالحقائق فليتابع ويتأمل ما سيلي!!!

ففي مقالة له في صحيفة «التايمز» البريطانية، سبقت الثورات العربية، (17/6/2010)، قال رئيس الوزراء الإسباني الأسبق، خوسيه ماريا أزنار، أن: « إسرائيل هي خط دفاعنا الأول في منطقة مضطربة تواجه باستمرار خطر الانزلاق إلى الفوضى، ومنطقة حيوية لأمن الطاقة لدينا بسبب الاعتماد المفرط على النفط الموجود في الشرق الأوسط، والمنطقة التي تشكل خط الجبهة في الحرب ضد التطرف، فإن سقطت فسنسقط معها ... إسرائيل هي جزء أساسي من الغرب وما هو عليه بفضل جذوره اليهودية / المسيحية، ففي حال تم نزع العنصر اليهودي من تلك الجذور وفقدان إسرائيل، فسنضيع نحن أيضاً وسيكون مصيرنا متشابكاً وبشكل لا ينفصم سواء أحببنا ذلك أم لا».


سبق للرئيس السوري بشار الأسد، حين سئل بعد الثورة التونسية والمصرية، عما إذا كان من الممكن أن تندلع ثورة في بلاده فأجاب بالنفي، مشيرا إلى أن « سوريا مختلفة»!!! ولما وقعت الثورة هدد بـ « إشعال الشرق الأوسط في ست ساعات»، وفي مقابلة عاصفة مع صحيفة « الصندي التلغراف – 30/10/2011 » البريطانية، ذكّر الأسد « المركز» بالواقع الذي لم يختلف عليه أحد منذ أن تم اختيار الطائفة « النصيرية» لتكون الأمينة على النظام الدولي وأمن المنطقة، فقال:

« إن سوريا اليوم هي مركز المنطقة .. سوريا مختلفة كل الاختلاف عن مصر وتونس واليمن. التاريخ مختلف، والواقع السياسي مختلف .. إنها الفالق الذي إذا لعبتم به تتسببون بزلزال، .. هل تريدون رؤية أفغانستان أخرى أو العشرات من أفغانستان؟ .. أي مشكلة في سوريا ستحرق المنطقة بأسرها .. إذا كان المشروع هو تقسيم سوريا، فهذا يعني تقسيم المنطقة برمتها ... ».

ذات الأمر كرره مؤخرا في حديث خاص لقناة « روسيا اليوم» نشرت مقتطفات منه في 8/11/2012، حيث حدد الأسد مكانة سوريا، أو بتعبير أدق الطائفة النصيرية، في النظام الدولي قائلا: « أعتقد بأن كلفة الغزو الأجنبي لسوريا، لو حدث، ستكون أكبر من أن يستطيع العالم بأسره تحملها، لأنه إذا كانت هناك مشاكل في سوريا، خصوصا وأننا المعقل الأخير للعلمانية والاستقرار والتعايش في المنطقة، فإن ذلك سيكون له أثر الدومينو الذي سيؤثر في العالم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي .. لا أعتقد بأن الغرب يمضي في هذا الاتجاه، لكنه إذا فعل فلن يكون بوسع أحد أن يتنبأ بما سيحدث بعد ذلك».

لغة صريحة وبليغة في توصيف الأسد لنظامه باعتباره خط الدفاع الأول والأخير عن « إسرائيل» وعن النظام الدولي .. لغة سبق وأثنت عليها صحيفة « هآرتس»، حين وصفت الأسد، أوائل انطلاقة الثورة، بـ « ملك ملوك إسرائيل»، أو حين اعترف رافي نوي، العميد الاحتياطي بالجيش الإسرائيلي، في مقال له بصحيفة « معاريف» بأن: « مصلحة إسرائيل هي أن يبقى الحكم العلوي في دمشق». لكن المرارة لم تفارق إيهود باراك، وزير الدفاع، وهو يرى: « النظام يتفكك بصورة مؤلمة» أو حين يطلق نتنياهو، رئيس الحكومة، صيحة فزع (14/11/2012) من أن: « النظام السوري يتفكك إلى قوى جديدة، وأن عناصر أكثر تطرفا ضد إسرائيل، تابعة للجهاد العالمي، باتت تترسخ على الأرض، ونحن نستعد للتعامل مع ذلك».

ولمن راقب صيحات الفزع « الإسرائيلي»، منذ بدء الثورة السورية، سيصاب بالدهشة. فهم مصابون بالرعب من جماعات إسلامية وطنية يشنون عليها حربا وحشية في غزة .. فكلها بالنسبة لهم منظمات إرهابية حتى لو كانت ملحدة!!! فكيف بحال « إسرائيل» إذا تعلق الأمر بجماعات إسلامية أو بثورة اجتماعية مميزة تهدد مجمل النظام الدولي؟

يقول بيني غانتس، رئيس أركان الجيش « الإسرائيلي»، لدى استقباله جنودا بمناسبة عيد « العُرش اليهودي – 4/10/2012»، إن الرئيس السوري: « يذبح شعبه ويفقد السيطرة في المكان الذي سيشكل في نهاية المطاف مخزن أسلحة في متناول أيدي جميع المنظمات الإرهابية». ويحذر من: « أن المنظمات الإرهابية، وبينها منظمات جهاد عالمي، أخذت تستقر في المنطقة»، مشيرا إلى أن: « إسرائيل ستواجه في سوريا وهضبة الجولان إما تهديداً عسكرياً عادياً إذا صمد النظام، أو تهديداً إرهابياً متصاعداً مع قدرة على الحصول على أسلحة بكميات كبيرة». وتنقل وكالة « يو بي آي – 11/10/2012» عن « إذاعة الجيش» تحذيرات ومخاوف عاموس جلعاد، رئيس الدائرة السياسية الأمنية بوزارة الدفاع « الإسرائيلية»، من عواقب سقوط نظام الرئيس السوري. فيقول: « لست متأكدا من أنه سيكون في سوريا نظام ديمقراطي كما نأمل»!!! .. طبعا هو يقصد ديمقراطية الأقليات والملحدين واللبراليين وأرباب « المركز». ثم يتابع: « أخشى أن الأسد سيبقى بالحكم بضعة شهور، وربما سنة أو سنتين، لكن في نهاية المطاف ثمة إمكانية بأن تتحول سوريا إلى كيان تسوده الفوضى، ولن يكون هناك عنوان للتحدث معه».

هكذا .. وبدون لف أو دوران؛ فإن المرابط الدولية الثلاثة في المنطقة، تضطلع بمهمة واحدة، تتمثل بالحفاظ على النظام الدولي بالصيغة التي استقر عليها بعد الحرب العالمية الثانية، وبما يضمن بقاء « العلمانية» ( بديلا عن الإسلام) و « الاستقرار» ( الأمن الدولي) و « التعايش» ( أمن إسرائيل). ولأنه لا بديل عن المربط الطائفي حتى الآن، لحماية المرابط الأخرى، إلا الطائفة النصيرية نفسها، فمن الطبيعي أن تتجه كافة التدخلات الدولية والإقليمية نحو تحقيق اختراق في عمق الثورة السورية.

هكذا؛ وبقطع النظر عن أية معايير أو خلفيات قيمية أو أخلاقية أو تباينات في موقف هذا الطرف بالمقارنة مع ذاك، مما يتصل بدعاوى حسن الظن وما إلى ذلك، فإن مبادرة الأخضر الإبراهيمي واجتماعات المعارضة السورية في العاصمة القطرية – الدوحة ( 4 – 8/11/2012) مثلتا أخطر محاولتين في هذا السياق. وكالعادة سنجتهد في حشد أكبر قدر ممكن من التصريحات الموثقة لأصحاب الشأن كي تكون منارة يهتدي به من ضل السبيل.


أولا: مبادرة الإبراهيمي


ما من مبادرة اتسمت بالغموض الشديد والعجب كما اتسمت به مبادرة الإبراهيمي. فعلى امتداد أسابيع طويلة، من الجولات الماراثونية بين العواصم الدولية واللقاءات والتصريحات، حرص الإبراهيمي منذ اللحظة الأولى على التكتم الشديد على « خطته» في احتواء الثورة السورية، وخاض صراعا إعلاميا مكشوفا، وحادا، مع بعض وسائل الإعلام على خلفية تصريحات نسبت إليه ونفاها، بغضب، جملة وتفصيلا. ولعل أغرب ما في مبادرة الإبراهيمي ذلك الحرص الشديد منه ومن القوى الدولية على « فكرة» غياب أي « خطة» له .. وادعائه، كلما سئل عن ذلك، بأنه بصدد استطلاع المواقف وإجراء مناقشات مع الأطراف المعنية أو تقديم أو تلقي « مقترحات» و « أفكار» تمهيدا منه لبناء تصور عن الأزمة أو « خطة متكاملة» كما يقول!!! ولسنا ندري كيف يمكن لشخصية دولية متمرسة في العمل الدبلوماسي كالأخضر الإبراهيمي لا تمتلك أية تصورات عن حقيقة ما يجري في سوريا أو حقيقة المواقف الإقليمية والدولية.

ولعل الحقيقة الثابتة لدينا أننا لم نقع على « زلات» للإبراهيمي في الفترة الواقعة بين تعيينه مبعوثا دوليا (17/8/2012 ) خلفا لسلفه كوفي أنان، واقتراحه لـ « هدنة» الأيام الأربعة خلال عيد الأضحى المبارك. وفي غياب هذه « الزلات»، التي تسمح بالتتبع والتحليل والربط بين الأحداث والمواقف، يصعب القول أن ما فعله الإبراهيمي كان مبادرة بقدر ما كان محاولة اختراق بالغة الدهاء. فما الذي أراده الإبراهيمي من هدنة يقل عدد أيامها عن عدد أصابع اليد الواحدة؟ .. « هدنة» من المستحيل أن تنجح وسط ركام هائل من الدمار وإرث عظيم من الوحشية وصدور فاضت قهرا وغيظا .. « هدنة» أقرب إلى الاستفزاز والاستغفال والاستهتار بعشرات آلاف من المفقودين والجثث المستوطنة تحت ملايين الأطنان من ركام البراميل المتفجرة .. « هدنة» استهدفت البحث عن التزام كل فرد من القتلة والضحايا!!! باختصار: ما الذي أراده الإبراهيمي من هدنته؟ وكيف أدار مبادرته الهلامية؟

كانت الانطلاقة من السؤال « ما البديل عن النظام»؟ ذلك السؤال المركزي الذي فرضته الثورة السورية على القوى الدولية والإقليمية والطائفية، وهو الذي يمكن أن يفسر إلى حد كبير النشاط المحموم الذي بذله الإبراهيمي، منذ تعيينه في إدارة ما فضل الجميع تسميته بـ « الأزمة السورية»!!! فالسؤال هو انعكاس استراتيجي وتاريخي لوظيفة سوريا « النصيرية» في الحفاظ على أمن النظام الدولي واستقراره عبر التحكم (بـ ) والسيطرة (على) القوى الوطنية أو المتمردة على « إسرائيل» والنظام الدولي، الذي مزق العالم الإسلامي وفي القلب منه العالم العربي. لذا فهو سؤال دولي وعربي وإيراني و « إسرائيلي» وتركي وطائفي. وتبعا لذلك لم يخرج الإبراهيمي في تقييمه لـ « الأزمة السورية» عن أي تقييم سابق، سواء كان دوليا أو إقليميا أو طائفيا.

لكن الإبراهيمي التزم مبدئيا في مؤتمر صحفي (24/9/2012) في أعقاب عرض قدمه أمام مجلس الأمن عن اتصالاته بدول المنطقة، وبصريح العبارة، بالتأكيد على أنه: « لا يمتلك خطة واضحة حتى الآن بل مجموعة أفكار»، وأن خطة « النقاط الست» التي تبناها المبعوث السابق كوفي أنان بالإضافة إلى مقررات « إعلان جنيف»، التي يتمسك بها الروس بأظافرهم وأسنانهم، ستشكل « عناصر» ضمن خطة عمله، وهو ما أكده الروس أنفسهم، لاحقا، عبر تصريحات أدلى بها ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، في 16/10/2012 تقول بأن: « الإبراهيمي ليس لديه بعد خطة لحل الأزمة السورية، وإن موسكو مستعدة لتقديم مقترحاتها بهذا الشأن له». لذا فقد وجدت « أفكار» الإبراهيمي استجابة ودعما من جميع القوى دون أن تلتزم بأي مشروع للحل، ودون أن يضطر الإبراهيمي إلى تحمل تبعات الفشل، كما قال ريتشر غوان من جامعة نيويورك (28/10/2012)، بعد فشل الهدنة: « إن الإبراهيمي لم يزعم مطلقا أن هناك فرصة كبيرة لنجاح وقف إطلاق النار»، معتبرا أن الدبلوماسيين في الأمم المتحدة « لن يحملوه تبعية هذا الفشل».

ففي مؤتمر صحفي، عقده عقب زيارة قصيرة إلى لبنان (17/10/2012) وعشية الهدنة الفاشلة، قال الإبراهيمي: « على دول الجوار السوري أن تدرك أن الأزمة لن تبقى في الداخل السوري إلى الأبد, وإنها باتت تهدد بالانتشار لتأكل الأخضر واليابس، وهو ما يحتم البحث عن مخرج لإخراج سوريا من أزمتها». وفي 5/11/2012 شدد الإبراهيمي بالقول أنه: « لا حل عسكري للأزمة السورية، وأن الحل الوحيد هو إيجاد عملية سياسية يتفق عليها الجميع، أو أن المستقبل سيكون سيئا للغاية، وستتدفق الأزمة على دول الجوار وحتى إلى دول بعيدة عن المنطقة». ولتجنب الانهيار « اقترح» الإبراهيمي « فكرة» أن يقدم كل صاحب شأن « أفكاره» و « مقترحاته» وإجاباته على السؤال: « ما البديل»؟ على قاعدة (1) « وقف العنف المتبادل» و (2) عبر صيغة « الحل السياسي مع النظام»، دون الاقتراب من الأسد من حيث بقائه أو رحيله، وبما يحقق (1) مصلحة كل طرف، و (2) يؤدي إلى « التغيير»، وبـ (3) موافقة جميع الأطراف. وبموجب ذلك يقدم أطراف « المركز» أفكارهم على قدم المساواة مع « أفكار» إيران والعرب وحتى اليهود والطائفة النصيرية.

هكذا وفرت المبادرة غطاء للأفاعي السابتة كي تغادر أوكارها بحثا عن الفرائس. فاختبرت كافة السيناريوهات التي يمكن التعامل معها. واستطاع الروس والأمريكيون إدارة الاختبارات إعلاميا وسياسيا بصورة مبهرة. وفي تصريح له لوكالة الأنباء الروسية « نوفوستي – 3/9/2012»، قال وزير الخارجية، سيرغي لافروف: [ « إن روسيا والولايات المتحدة تصبوان إلى تحقيق الهدف الواحد في سورية، وهو أن « تتحول سورية إلى نظام ديمقراطي تعددي يمارسه السوريون بأنفسهم في حين تحترم جميع الدول الأخرى سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها»، ولكن تختلفان على كيفية تحقيق هذا الهدف» ]. لكن هذا الاختلاف لا يتعلق في واقع الأمر بطريقة تنحية الأسد بقدر ما يتصل الأمر في الصراع على النفوذ الذي تخوضه روسيا ضد الغرب. ولقد كان لافروف صريحا في ذات التصريح، لمن لا يريد أن يعقل الحقائق بلسان أهلها، حين قال: « من الواضح أن تواجدنا الإنساني في العالم لا يساوي قدراتنا ونحن نلاحظ هذا بسهولة .. إننا نستعيد بشكل واسع مواقعنا التي خسرناها في تسعينات القرن السابق، ونحن متخلفون جداً عن اللاعبين الدوليين في هذه المنطقة مثل الفرنكوفونيين، ومعهد جوته».

كما أن الروس قالوا بصراحة في 6/9/2012، بلسان الرئيس بوتين،: « نحن نفهم جيدا ضرورة التغيير ... لكن ليس التغيير الدموي» .. عبارة تَحصَّن بها الإبراهيمي وطار فيها إلى سوريا ليقول للأسد في أول اجتماع له به: « الشعب السوري يريد التغيير الشامل ولن يكتفي بمصطلحات الإصلاح خصوصًا بعد كل ما مر عليه من مآس ومحن وقتلى وجرحى ومشوهين ومعتقلين ومهجرين». هذا ما نقلته صحيفة الرأي في24/9/2012. والحق أن الإبراهيمي، وتحت السقف إياه، انتزع من الرئيس السوري « فكرة الرحيل» ولو تحت غطاء وهمي أطلق عليه الانتخابات!!! فحين سئل عن لقائه بالأسد في 21/10/2012 أجاب: « لن أتكلم عما دار بيني وبين الرئيس من حديث، تكلمنا بهذا الموضوع (هدنة العيد)، وأعتقد أنه فاهم القصد من كلامنا، وهو وحكومته سيقولون رأيهم بهذه الفكرة». أما مقاصد الرئيس التي أخفاها الإبراهيمي فليست، على الأرجح، إلا تلك التي أفصح عنها ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي، في تصريحات سابقة أدلى بها لصحيفة « لوفيغارو» الفرنسية (10/9/2012)، وقال فيها: « إن الأسد أبلغنا بنفسه، لكني لا أعرف إلى أي مدى هو صادق في ذلك، لكنه أبلغنا بوضوح أنه إذا لم يكن الشعب يريده؛ وإذا اختاروا زعيما آخر في انتخابات؛ فإنه سيرحل».

وقد تبدو مثل هذه التصريحات متناقضة مع ما أدلى به لافروف عقب لقائه مع نظيره الأردني ناصر جودة حين اعتبر بأن: « مَن يريد تغيير نظام الرئيس الأسد فإنه يسعى إلى إكمال حمام الدم». لكنه في الواقع تصريح بالغ الدقة والصراحة. فالروس يتحدثون عن تغيير الأسد وليس عن تغيير النظام. وهم متفقون مع الغرب على بقاء النظام لكنهم لا يختلفون على تغيير الأسد إلا بالطريقة كما يقول لافروف، فضلا عن سعيهم الجوهري لكسب أكثر ما يمكن كسبه قبل التضحية بالأسد.

ومن جهتها سعت إيران نحو العراق بخطىً حثيثة لتثبيت ما تراه حقوقا لها أو بدائل مرضية في حالة رحيل الرئيس السوري. وقبل لقائه بالإبراهيمي قدم الرئيس الإيراني أحمدي نجاد معادلة إيران للحل في 3/10/2012. فمن جهة قَبِلَ التقييم الدولي للأزمة السورية، مشيرا إلى أن: « كل القوى العالمية التي انخرطت في الأزمة السورية ارتكبت أخطاء، ومحذرا في الوقت نفسه من أن الأزمة السورية ستمتد إلى دول أخرى في المنطقة إذا لم تحل». ومن جهة أخرى طالب باستحقاقات إيرانية للحل بالقول: « كل الشعب السوري محترم، ولكن البعض يريدون تصفية الحسابات مع إيران».

وفي 15/10/2012 حل الإبراهيمي ضيفا على بني فارس. وهناك التقى الرئيس وكذا وزير خارجيته علي أكبر صالحي ومستشار الأمن القومي سعيد جاليلي. وأعلن صالحي أن إيران سلمت الإبراهيمي « مقترحات خطية غير رسمية» لتسوية الأزمة, دون أن يكشف عن فحواها، وأن المقترحات سُلمت أيضا إلى السعودية وتركيا ومصر!!! لكن كل ما رشح عن اللقاءات، في حينه، هو دعم إيران للحل السياسي، مع التشديد على ضرورة وقف العنف، قبل اتخاذ أي إجراءات في الميدان. أما الإبراهيمي فعلق على المقترحات بالقول: « إن الأفكار أو المقترحات الإيرانية ستضاف إلى مقترحات قدمتها دول أخرى من أجل الخروج بخطة متكاملة».

لكن لم يمض يوم واحد على اللقاءات حتى طار وزير الدفاع الإيراني إلى العراق ( 16/10/2012) في أول زيارة له منذ احتلال البلاد سنة 2003 استهدفت توقيع اتفاق أمني مع الحكومة العراقية التي حولت العراق فعليا إلى محافظة تابعة لإيران خاصة بعد سيطرتها على البنك المركزي. ويبدو أن الإيرانيين رؤوا في مبادرة الإبراهيمي فرصة لإحياء فكرة البديل عن سوريا، التي سبق وطرحها مقتدى الصدر عشية الانسحاب الأمريكي من العراق وأوائل انطلاقة الثورة السورية. وبدا أن زيارة وزير الدفاع الإيراني تحاول صياغة معادلة من نوع: إذا كان هناك من يسعى إلى تصفية الحساب مع إيران في سوريا فالإيرانيون أيضا على استعداد لتصفية الحساب معهم في العراق.

لم ينكر علي شاكر شبر، النائب عن التحالف الوطني في العراق، خفايا التحرك الإيراني المباغت دبلوماسيا حين علق على الزيارة بالقول: « إن العلاقات بين العراق وإيران علاقات طيبة ومتطورة، وتأخذ مديات أوسع منذ عام 2003 ولحد الآن، ولأن المنطقة تمر بحالة قلقة وغير مستقرة فمن الضروري أن تكون هناك اتفاقيات أمنية، سواء مع إيران أو غيرها من دول الجوار».

ومن جهته فسر النائب أحمد العلواني، عن القائمة العراقية، تصريحات غريمه بالقول: « إن الاتفاقية الأمنية التي تسعى إيران لإبرامها مع العراق تتعلق بتخوفها من تداعيات الأزمة السورية وانهيار نظام بشار الأسد، ولإيجاد ساحة أخرى تكون بديلاً عن سوريا، معتبرا أن زيارة وزير الدفاع الإيراني المفاجئة للعراق ترتبط بهذا الموضوع». ومحذرا من أن: « الاتفاقية ستقود إلى تسليم البلد إلى إيران ويكون الملف الأمني بيدها كاملاً. أما أحمد الأبيض، المحلل السياسي العراقي، فقد ذهب، كالكثيرين، أبعد من ذلك حين ربط بين: « زيارة وزير الدفاع الإيراني التي استبقت بيومين زيارة رئيس الحكومة نوري المالكي إلى روسيا»، مشيرا إلى أنها: « تعطي دلالات بأن موسكو وطهران تسعيان لسحب العراق إلى محور الدعم الروسي الإيراني لسوريا، وهذا ما يراه الكثير من المهتمين بالشأن العراقي والسوري».

هكذا، وبعد أن ضمن العراق بديلا عن سوريا، جرى تمهيد الطريق أمام أحمدي نجاد كي يتوقف عن إطلاق التهديدات، ويعلن من الكويت، خلال مشاركته في قمة آسيوية – 17/10/2012، عن دبلوماسية ناعمة تقضي بدعم بلاده لـ: « فكرة وقف إطلاق النار في سوريا»، وليؤكد في الوقت نفسه على أن: « الحرب لا يمكن أن تكون حلا مناسبا، وأن أي جماعة تحصل على السلطة من خلال الحرب؛ وتهدف للاستمرار فيها ليس لها مستقبل» .. بل أنه كرر ما أفشاه بوغدانونف، نائب وزير الخارجية الروسي، عن تنحي الأسد عبر صندوق الاقتراع، مشيرا إلى أن: « وقف إطلاق النار والمفاوضات بشأن انتخابات حرة هو من وجهة نظري الطريق الصحيح إلى الحل»!!! .. هذه هي إيران التي لم تترك بلدا إسلاميا إلا وأنشأت فيه طابورا خامسا وأغرقته بالأسلحة والفتن والحروب باتت تنبذ الحروب وتتحدث فجأة عن حلول سياسية وديمقراطية وطرق صحيحة!!!


ثانيا: آلية الاختراق وعناصره


وفي الوقت الذي كانت تخضع فيه مختلف القوى الإقليمية والدولية لعمليات اختبار حاسمة، عبر مبادرة الإبراهيمي، كانت القوى المقاتلة في الثورة السورية تتعرض، هي الأخرى، لأقسى عملية اختبار أمني وعسكري منذ انطلاقة الثورة. إذ أن القوى الوحيدة التي يصعب اختبارها، وتحتاج إلى الترويض والاحتواء هي القوى المسلحة التي تمسك بالأرض وتخوض القتال. وكان الطُّعم الذي ألقي على العسكر هو تسليح الثورة، ومن الطريف أنه ذات الطُّعم الذي سبق وألقي على قوى المعارضة السياسية ولمّا تزل حتى هذه اللحظة. لكنه بالقطع ذو وقع مميز حين يكون العسكر هم الأداة التي تلتقطه فيما الثورة هي الهدف الذي يدفع ثمن مرارته.

من المعلوم جيدا أن « المركز، بشقيه الغربي والشرقي، وعبر آلية التسلح، يتحكم في اندلاع الحروب وإطفائها مثلما يتحكم في تحديد هوية المنتصر من المنهزم، وكذا في استمرار الحروب دون السماح لأي طرف بتحقيق انتصار حاسم على الطرف الآخر، وأخيرا التحكم بحالة اللاحرب واللاسلم الدائمين. ومن المعلوم أيضا أن تدفق الأسلحة باتجاه النظام السوري لم ينقطع، في حين يجري التحكم بها بشدة فيما يتعلق بالثورة السورية. فتارة تتدفق وفقا لمعايير كمية ونوعية وتارة تختفي حتى الذخائر .. الأمر الذي أصاب المقاتلين بالكثير من القهر والمرارة مما اعتبروه سياسات عدوانية وشريرة كونها تتعمد منع المقاتلين من إحداث فوارق حاسمة في الصراع مع النظام. بل أن أحد قادة المقاتلين علق على هذه السياسية بمحتوى مفجع ومرير حين قال لصحيفة « الغارديان – 10/11/2012» إنهم: « يعطوننا ما يكفي لمواصلة القتال لكن ليس ما يكفي لكسبه. وأنا متأكد أن هذا الوضع لن يتغير حتى بعد الانتخابات الأميركية. وغير متأكد من أن كل امرئ يستطيع أن يبقى على قيد الحياة حتى هذا الوقت».

والثابت أن الثوار شعروا مبكرا جدا بهذه السياسات الدولية حتى قبل « الغارديان»، وقبل أن يتحدث أحد عن الخشية من تحول سوريا إلى ملاذ للقوى الإسلامية أو « جماعات الجهاد العالمي»، بل قبل أن تتجه الثورة السورية نحو العسكرة. لكن نمو العامل الإسلامي في الثورة عزز التذرع بعدم التسليح، في حين أن المشكلة تتصل بالدرجة الأساس بافتقاد « المركز» للبديل عن الطائفة الحاكمة في سوريا، وبالتالي غياب أي حل سياسي، والاكتفاء بإدارة الأزمة على أمل أن يتمكن النظام من القضاء عليها أو احتوائها أو انزوائها تحت ضغط آلة عسكرية شديدة التوحش والإجرام، ومحصنة برعاية دولية وأغطية سياسية وأمنية وزمنية مفتوحة.

المشكلة التي تواجه « المركز» اليوم تتطلب أجوبة على استيعاب ثورة مدنية انقلبت إلى ثورة مسلحة يصعب السيطرة عليها. وكنا قد أشرنا إلى هذا الأمر في حلقات سابقة من السلسلة قبل أن يكتب بنجامين هال، كنموذج، مقالته في صحيفة « نيويورك تايمز – 19/10/2012» واصفا الثوار باعتبارهم: « مجموعات مختلفة ومشتتة لا يربط بينها رابط تنظيمي أو قيادة موحدة، ومن مشارب فكرية متنوعة، وتستولي كل واحدة منها على شارع أو شارعين بالمدينة ولا تتوفر الثقة بينها». لينتهي بتوصية تفيد بأنه: « سيكون من الخطأ أن تسلح أميركا وأوروبا الثوار بالأسلحة أو أن تتدخل على الأرض». لكننا نبهنا في مواضع سابقة من السلسلة أن قوة الثورة في الوقت الراهن تكمن في شتاتها باعتباره تعبيرا عن حالة اجتماعية شاملة، وفعالة وعصية على الاختراق مع تداعي الأعداء والخصوم عليها.

لكن في هذه النقطة بالضبط تدخل « المركز» ومخططيه الاستراتيجيين وحلفائه وأجهزتهم الأمنية والإعلامية عبر الدعوة إلى توحيد القوى المسلحة في إطار ما أسمي بـ « المجالس العسكرية» .. وتحت شعار « لا سلاح بلا قيادة موحدة»!!! وتوثيقا لـ « الشعار» كشفت صحيفة « إندبندنت – 1/10/2012» البريطانية: « إن مزودي الأسلحة من القطريين والأتراك أبلغوا ممثلي المعارضة، أثناء نقاشات عالية المستوى، أن الأسلحة الثقيلة لن تتاح لهم حتى تتفق الفصائل المختلفة على تشكيل هيكل قيادة متماسك، وأن مخزونات من الأسلحة ... موجودة في تركيا لكي يستخدمها ثوار سوريا في الحرب الدائرة هناك، لكن توزيعها متوقف بسبب الشقاق والتنازع بين المجموعات المختلفة من المقاتلين». ونقلت صحيفة « الغارديان – 11/10/2012» عن مسؤولين أمريكيين قولهم: إن « الطبيعة الغامضة للمعارضة والوجود الزاحف للجهاديين الأجانب من أسباب ضغطهم على الرياض والدوحة»، مضيفة أن: « السعوديين يضغطون الآن على المعارضة السورية المسلحة لتشكيل "جبهة إنقاذ" بقيادة وسيطرة موحدة على الأرض وقدرة على جمع الأسلحة بمجرد انتهاء القتال»، وهو ما اعترف به، لاحقا، المقدم الركن ياسر عبود، قائد العمليات في المنطقة الجنوبية في الجيش الحر، خلال مقابلة مع « الجزيرة نت – 31/10/2012 » حين سئل عن الغاية من توحيد القوى المسلحة فقال بأن: « المطلوب من العسكر الاتفاق ضمن مجالس مناطقية في المحافظات وإيجاد غرفة عمليات موحدة في كل محافظة أي توحيد البندقية في الداخل تحت إطار الحد الأدنى من التوافق والانضباط ... (ولأن) الخارج لا زال خائفا من تفلت عمليات التسلح في الداخل، فهو يريد إطارا واحدا يسلحه ثم يعود السلاح للدولة بعد إسقاط النظام». وحتى مختار لماني، نائب الإبراهيمي لم يخف تذمره، (1/10/2012) من شتات المقاتلين مشيرا إلى أن: « هناك الكثير من أحزاب المعارضة داخل سوريا وخارجها بالإضافة إلى الجماعات المسلحة، مشيرا إلى أن العلاقات بين هذه المجموعات يشوبها الخلاف والاقتتال والاتهامات بالخيانة، واعتبر أن ذلك يعقد المهمة».

ولا ريب أن المنطق الأمريكي، على وجه التحديد، بعيدا حتى عن الضغوط العربية، بدا مقنعا لكثير من العسكريين والسياسيين والمدنيين وحتى لبعض المشايخ. والخلاف الوحيد يقع في مستوى خلفية القناعات والأهداف والأجندات. فثمة شريحة من هؤلاء غافلون تماما عن أية حقيقة أو معرفة أو تقييم لحقيقة الثورة أو مكانة سوريا الطائفية في النظام الدولي، لذا فإن القسم الأكبر من هذه الشريحة أحسن الظن في فكرة تشكيل « المجالس العسكرية» اعتقادا منها أن الثورة تتوحد بعد شتات بغيض وغياب للقيادة جعل من فعاليات الثورة خاضعة للاجتهاد والمبادرة الفردية بعيدا عن التخطيط المبدئي، ناهيك عن التخطيط الاستراتيجي، وشريحة ثانية واهمة وحالمة، يكسوها الغرور والطموح في دور مستقبلي لها في سوريا ما بعد الأسد، باعتقادها القدرة على انتهاز الفرصة والتفاهم مع « المركز» والدخول معه في تبادل مصالح مشتركة إلى حين، وكأن المركز أبلها أو غافلا أو أقل ذكاء منها في التحليل والمراوغات والمكر!!! ومع ذلك فهي تظن أن إسقاط الأسد يكفي، مع علمها اليقين أنه لا يعني بالضرورة إسقاط النظام. هذه الشريحة لا تتحرج من لقاءاتها مع عناصر أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية، وحتى التباهي في الاجتماع بوكلاء الـ CIA. أما الشريحة الثالثة فهي من صنف « إسرائليو الثورات» الذين يحركهم الهوى، فلا تعنيهم عقيدة ولا أمة، ولا يتعظون من أية سوابق لأمثالهم، أو روادع عقدية أو أخلاقية حتى لو تحالفوا مع الشياطين. وغني عن البيان القول بأن أن الشرائح الثلاثة وقعت، كرها أو طوعا، ضحايا لاختبارات أمنية وألغام لا هدف لها إلا إصابة الثورة بأضرار بالغة أو التمهيد لمرحلة« صحوات» دموية قادمة قبل وبعد سقوط الأسد. وإذا ما أوذيت الثورة، لا قدر الله، بقواها وكتائبها ومقاتليها ومجاهديها بفعل هذه التشكيلات، فسيتحمل هؤلاء مسؤولية أخلاقية وتاريخية وعقدية جسيمة.

ومن باب التذكير فليست هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها قوى « المركز» تحقيق اختراقات في الثورة سواء في صلبها أو عبر هوامشها القريبة والبعيدة. ففي 11/8/2012 أُعلن في واشنطن عن تشكيل جماعة سورية معارضة من ستين عضوا باسم « جماعة الدعم السورية»، لجمع التبرعات المالية والعينية، وزعم لؤي السقا، أحد الأعضاء الاثني عشر في مجلس الإدارة، أن الجماعة: « تمثل آلاف المقاتلين في تسع محافظات، وأن هؤلاء الذين يمثلون ما يقارب نصف المقاتلين في الجيش الحر!!!، وأنهم: « وقعوا إعلان مبادئ يدعو إلى دولة ديمقراطية لجميع السوريين بغض النظر عن الطائفة أو الدين أو العرق، وترفض المبادئ كذلك الإرهاب والتطرف والقتل بغرض الانتقام»!!!

وفي الولايات المتحدة أيضا، وفي ذات السياق من التواصل مع المعارضة أو صناعتها، نقلت وسائل إعلام في 12/8/2012 عن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية، بعد لقائها نظيرها التركي، القول: « أنها التقت مجموعة من الناشطين السوريين والخبراء والقانونيين والصحفيين والقيادات الطلابية في محاولة لمعرفة ما يمكن للولايات المتحدة فعله لمساعدتهم». وفي تصريح إذاعي (19/9/2012) أعلن السفير الفرنسي في سوريا إريك شوفالييه، المكلف بالملف السوري عن موقف بلاده بالقول: « نعمل مع المعارضة لمساعدتها على تنظيم نفسها، ولدي تعليمات من رئيس الجمهورية للاتصال بمجمل مكونات المعارضة ومن ضمنها المجموعات المسلحة، ونحن أول دولة تقوم بذلك بهذا الشكل المنظم».

أما المستهدف هذه المرة بصورة خطيرة، كما أشرنا، فهم المقاتلون بدايةً وهوية الثورة نهايةً. وقد سبق وأشرنا إلى أن « الجيش الحر» هو راية شعبية بنسبة تزيد عن 85% من القوى المسلحة في سوريا، فيما تتوزع النسبة الباقية على المنشقين من الضباط والجنود. أما الشق الآخر من الثورة فهو ذلك الشق الإسلامي المكون من قوى محلية وأخرى متطوعة من الخارج. ويبقى شق ثالث خفي، لكن نصفه من القوى الجهادية العقدية ونصفه الآخر من قوى تحتفظ بقوتها وعددها وتحشد السلاح دون أن تخوض المعارك استعدادا لقطف الثمار.

وهكذا بات جليا أن كل ما يرمي إليه « المركز» من تشكيل المجالس العسكرية» هو تجميع القوى المسلحة في « تشكيلات مستحدثة تحت سلطة قيادة واحدة يمكن أن تكون قريبا بديلة عن « الجيش الحر» بشقيه الشعبي والنظامي .. قيادة تمارس سلطة الرقابة والتحكم والسيطرة والتجنيد. لذا فإن المشهد الأمني في هذه المجالس، والساعي إلى تأسيس قاعدة بيانات واسعة ومفصلة، يبقى حاضرا بقوة عبر الاتصال بتشكيلات القوى المسلحة وطلب بيانات عنها تشمل أعداد المنتسبين لها وأسمائهم وأرقام هواتفهم وعناوينهم وعدتهم وعتادهم وخلفيتهم المهنية أو العسكرية أو الأيديولوجية أو العقدية وما إلى ذلك من البيانات التي تساعد لاحقا على التتبع والملاحقة وحتى الاعتقال أو التصفية الجسدية إذا لزم الأمر.

وبطبيعة الحال سيعمل « المركز»، في مرحلة ما، على تمكين هذه المجالس من امتلاك الأدوات اللازمة للعمل كالشرعية الاجتماعية والسياسية وحتى الدينية، فضلا عن التمويل والتسليح والإعلام لتحقيق عملية فرز ميداني للقوى المسلحة تستهدف بالدرجة الأساس القوى الإسلامية. ولم يعد غريبا أن تترافق عمليات التشكيل هذه مع حملة إعلامية شرسة استهدفت هذه القوى وكل متطوع راغب بالخدمة المدنية أو القتال بدعوى أن سوريا ليست بحاجة إلى رجال أو، في مستوى أشد، يزعم أن الوافدين تحولوا إلى عبء على الثورة. والمنطق يؤكد بأن المتطوعين لو كانوا عبءً لما كان لهم ذاك التأثير الفارق على مسارات الثورة ميدانيا، ولو كانوا كثرة لما بقيت الثورة تعاني من حالة توازن القوى مع النظام.

والحقيقة الثابتة الأولى تؤكد أن الإسلاميين هم القوى الوحيدة التي لم تتذمر أو تطلب تمويلا أو تسليحا من أحد، وبالتالي فهي أولى بالشكوى من أية قوة أخرى، بالنظر إلى توافد متطوعين يعانون من قصور في فهم الجهاد ومتطلباته الشرعية والمادية أو لانعدام أية خبرة لديهم. ولو كانت تعتمد معايير القلة والكثرة لحق لها قبل غيرها أن تندب حظها بالمقارنة مع الآلاف المؤلفة من المسلحين.

والحقيقة الثانية أن الحرب على القوى الإسلامية هي حرب إعلامية محضة تديرها وسائل الإعلام وشخصيات معروفة ماضيا وحاضرا بعدائها للقوى الجهادية، وبالتحالف مع قوى وشخصيات سياسية وعسكرية ومنابر إعلامية محلية تتميز غيظا من مجرد ذكر كلمة جهاد!!! والثابت أنه ليس لمثل هذه الهجمات المغرضة علاقة ذات أثر ملموس في الواقع، لاسيما وأنها تتصرف عبثا، وبشكل فاضح، كمن يجهد نفسه بتغطية الشمس بالغربال، بل أن هذه الحقيقة تؤشر على أن القوى الدولية هي التي تقف خلف هذه الحملات التي تستهدف في المستوى الأول وقف تدفق المتطوعين الوافدين، وفي الثاني التمهيد لإحكام إغلاق الحدود، والثالث فرز القوى الإسلامية في الميدان ومحاصرتها، وإذا تطلب الأمر ضربها في مستوى رابع.

الحقيقة الثالثة أن القوى الإسلامية كـ « جبهة النصرة» و أحرار الشام» قدمت أداء عسكريا مميزا في ميادين القتال؛ وفَّر لها حاضنة شعبية ومصداقية عالية لدى القوى المسلحة حتى من كتائب وألوية « الجيش الحر». ويشهد الكاتب البريطاني كون كوفلين في مقالة له بصحيفة « الديلي تلغراف – 29/8/2012»: « أن مشاركة تنظيم القاعدة في الصراع الدائر بسوريا مبالغ فيها، ولكن هناك خلايا للقاعدة تحمل أعلاما بيضاء وسوداء وتحارب جنبا إلى جنب على الجبهات إلى جانب الجيش السوري الحر». بل أن شهادة صحيفة « الأبزرفر – 4/11/2012 » كانت أكثر وضوحا في الوقوف على حقيقة أداء القوى الجهادية في مواجهة النظام الطائفي في سوريا حين قالت: « إن دور الجهاديين الأجانب أو من يسمون بالمهاجرين يبقى حيويا وضروريا ومطلوبا، فهم يوجدون في كل جبهة وعلى كامل الاستعداد والجاهزية، وقليل من الهجمات الكبيرة الأخيرة ضد قوات حدثت دون مشاركة فاعلة للجهاديين الأجانب فيها». ولا ريب أن مثل هذه الشهادات، القادمة من عمق ديار « المركز»، بحق القوى الجهادية تشكل إحراجا بليغا لمن يقللون من شأنها أو يعملون على تشويهها بما يخالف الواقع أو يشهدون زورا بنسبتهم لبعضٍ من أكبر العمليات العسكرية التي نفذتها مثلا « جبهة النصرة» ضد رئاسة الأركان وكتيبة الصواريخ للـ الجيش الحر»، علما أن هذا الأخير لم ينسبها لنفسه!!!


ثالثا: مسيرة الاختراق


1) المعارضة المسلحة


لما تكون الثورة السورية شأن دولي أكثر مما هي شأن محلي فإن القراءة الموضوعية تستدعي من كل مراقب أو دارس لها مراقبة السلوك الدولي وسياساته على كل مستوى بنفس القدر الذي نقرأ به وقائع الثورة أو سلوك النظام الحاكم أو أزيد منه. ولما نتحدث عن « الاختراق» باعتباره حقيقة واقعة وليس مؤامرة متخيلة فلأن وقائعه ليست خفية بقدر ما تعج بها وسائل الإعلام دون حياء أو وجل. لكن مع أن السلاح لـ « المعتدلين» إلا أن الحل سياسي!!! فما الحاجة إذن لـ « البدائل» العسكرية والسياسية الجديدة؟

فقد انطلقت « مسيرة الاختراق» من رحم قوى المعارضة السياسية التي رفضت عسكرة الثورة السورية أياً كان الثمن. واستعملت القوى الاستخبارية العالمية بعض رموز القوى السياسية في الحصول على ما لديها من معلومات. لكنها فشلت في القيام بمهمتها. فلجأت القوى الغربية إلى بعض من كبار الضباط، عبر سلاسل من الاجتماعات التي جرت معهم على انفراد بغية الحصول منها على ما يمكن الحصول عليه من معلومات تفيد في التقييم. ومن الطريف أن القوى الاستخبارية هذه كانت ترسل خبراء متخصصين في جمع المعلومات وليس في تقديم العروض أو المطالب أو فرض الإملاءات التي يتركونها عادة لحلفائهم كي لا تثير الريبة لدى السوريين، مع ذلك فقد منيت هذه المحاولات، إلى حد كبير، بالفشل إلى الحد الذي دفع صحيفة « الواشنطن بوست – 25/7/2012 » الأمريكية أن تتحدث عن « فجوة استخبارية في سوريا» حول هوية القوى العسكرية المقاتلة والنظام السوري.

والحقيقة أن القوى الأمنية لـ « المركز» كانت تدرك صعوبة المهمة لثورة مدنية انقلبت إلى ثورة مسلحة بحيث يستحيل الإحاطة بالمشهد الثورة الشعبي المسلح من جميع جوانبه. هذه « الفجوة الأمنية» مثلت أخطر عقبة في وجه القوى الدولية التي وقعت في حيرة من أمرها إزاء البحث عن أنجع السبل في التعامل مع الثورة السورية. كما أنها منعت إمداد الثورة بالسلاح، بل وحاصرتها حتى في ذخيرة البنادق، بدعوى الخشية، في المستوى الأول، من تحول المجتمع السوري إلى « التطرف»، وفي مستوى ثاني بذريعة الخشية من وقوع السلاح بيد جماعات « متطرفة» لم تكن أصلا موجودة، في حين أن المسألة برمتها تتعلق فقط بالحفاظ على أمن النظام.

وتبعا لذلك تطورت « مسيرة الاختراق» لتمس الهياكل السياسية والعسكرية على السواء عبر البحث عن قيادات وهياكل بديلة من الداخل تستجيب لاحتياجات « المركز»، وتساهم، بوعي أو بدون وعي، بسد الفجوة المعرفية. إذ أن الثورة السورية تخوض حربا عجيبة يصعب فهمها لاسيما وأنها تفتقد إلى المرجعية والقيادة والإدارة والخبرة والسابقة والأيديولوجية والتنظيم، ولكنها مع ذلك تحقق تقدما مثيرا، سواء من حيث إضعاف النظام وإرهاقه أو من حيث طرده فعليا من مناطق واسعة جدا، رغم كل الدعم الدولي الذي يحظى به فضلا عن الوحشية التي فاقت كل تصور في قمع الثورة والمجتمع وتخريب الدولة وبناها التحتية.

ومع أن التجارب السابقة في الاختراق كانت تجري من وراء ستار مع بعض الأفراد أو القوى أو الجماعات إلا أنها في الحالة السورية باتت على كل منبر وفي كل محفل!!! وبالتأكيد لم تكن هي الأولى، تلك المقالة التي كتبها وليم هيغ، وزير الخارجية البريطانية، في صحيفة « التايمز – 10/8/2012، وقال فيها: « أن بلاده ستواصل العمل مع المعارضة السورية وخصوصا مع ممثلي الجيش الحر لتأمين استعدادهم للسقوط الحتمي للأسد». فقد سبقها اعترافات أمريكية وبريطانية عن وحدات استخبارية تنشط في سوريا.

أما المجالس العسكرية بدأت في الظهور إعلاميا في أواخر شهر أيار / مايو عبر تصريحات لقادة عسكرين منشقين في الداخل. ففي تصريحات لصحيفة « الشرق الأوسط - 27/5/2012» قال العقيد الركن أحمد فهد النعمة، قائد المجلس العسكري في محافظة درعا،: « قمنا بتشكيل مجالس عسكرية في مختلف المحافظات وهي متواصلة من خلال المكاتب الإعلامية التابعة للمجالس العسكرية وهناك تواصل بين قادة المجالس ومع قيادة الجيش السوري الحر بشكل يومي ومستمر بغية التوصل إلى العمل المؤسساتي المنظم والهادف والذي يوازي المعايير الدولية». وفي مقابلة مع صحيفة « الغارديان 2/6/2012 » البريطانية أكد العقيد الطيار الركن قاسم سعد الدين، الناطق الرسمي باسم القيادة المشتركة لـ « الجيش الحر» بالداخل أن: « ثمة تنظيما أكثر وضوحا الآن مع تشكيل عشرة مجالس عسكرية إقليمية تتبعها كتائب محلية وفرق قتالية، وكلها لديها فروع إدارية تتعاطى مع التمويل والتزويد بالأسلحة والمساعدات الإنسانية».

كانت هذه التشكيلات حاضرة في لقاءات الدوحة، الساعية إلى إيجاد هياكل سياسية وعسكرية جديدة، حتى تم الإعلان في 16/10/2012، عن: « اتفاق عشرات المعارضين السوريين، ومنهم قادة الجيش السوري الحر، باجتماع داخل سوريا عقد في 14/10/2012، على تشكيل قيادة مشتركة بهدف تحسين التنسيق العسكري بين المقاتلين وخلق قيادة واحدة يأملون أن تكون القوى الخارجية مستعدة لتزويدها بأسلحة أقوى».

« قيادة واحدة»! لم يكن الرئيس الأمريكي باراك أوباما بعيدا عنها، وهو يخوض آخر مناظرة طاحنة له مع خصمه في الانتخابات الرئاسية مت رومني (23/10/2012)، حيث كانت الثورة السورية حاضرة بقوة في العاصفة. وخلال المناظرة كان أوباما صريحا للغاية وهو يقول: « إننا نساعد المعارضة على تنظيم صفوفها ونحرص بصورة خاصة على التثبت من أنهم يعملون على تعبئة القوى المعتدلة في سوريا .. نتثبت من أن الذين نساعدهم هم الذين سيكونون أصدقاء لنا على المدى البعيد وأصدقاء لحلفائنا في المنطقة على المدى البعيد .. فالثوار الذين يصبحون مسلحين هم الأشخاص الذين سيصبحون الأطراف المسؤولة، علينا التصرف بحيث نكون واثقين ممن نساعد، وأننا لا نضع أسلحة بأيدي أشخاص قد يوجهونها في نهاية المطاف ضدنا، أو ضد حلفائنا بالمنطقة» .. ولأن أوباما ليس وحده من يؤمن بهذا التحرك؛ فقد دعا: « للعمل مع شركائنا وبمواردنا الخاصة لتحديد أطراف مسؤولة داخل سوريا، وتنظيمها وجمعها معا في مجلس يمكنه تولي القيادة بسوريا، والتثبت من امتلاكهم الأسلحة الضرورية للدفاع عن أنفسهم».

بالتأكيد لن تنعم « المجالس العسكرية» بالمن والسلوى قبل أن تخضع لاختبارات فعلية على الأرض تثبت أنها قادرة على أداء المهمات المطلوبة منها. لكنها قد تتلقى مبدئيا بعض المال مصحوبا بغض الطرف عن تدفق محسوب للسلاح، كما ونوعا، كطعوم تساهم في بناء الثقة والمصداقية بحيث يمكنها إغراء القوى المسلحة على الانضواء تحت سلطتها. وما أن تقوى شوكتها حتى تصبح رهينة التوجيهات المذلة والشديدة الخطورة. إذ لا توجد أية ضمانات متخيلة تحمي هذه المجالس من سطوة القوى الدولية. وستفاجأ بأنها ملزمة بتلقي الإمدادات المالية والعسكرية، إنْ حصلت فعلا أو مبدئيا، من جهة أو جهات بعينها. وهو ما يعني أن خطوط إمدادها التقليدية ستنقطع بحيث تصبح تحت رحمة القوى الدولية. أما أولئك الذين سيمتنعون عن الانضواء تحت سلطة هذه المجالس، ومن بينهم أولئك الذين تصفهم صحيفة « الواشنطن تايمز – 7/11/2012 » بـ « السيئين»، أي الذين يعارضون السياسات الأمريكية أو يحملون الفكر الإسلامي فضلا عن القوى الجهادية المنظمة، فسيتعرضون بدورهم لحصار خانق وحملات تشويه إعلامية وربما حرب استئصالية ضدهم حتى قبل إسقاط الأسد. لكن ماذا عن حال المعارضة السياسية؟ هل سيكون أفضل من قرينتها العسكرية؟ لنرى.

يتبع...





  #27  
قديم 27-12-2012, 12:35 PM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي

2المعارضة السياسية

لم تكن قوى المعارضة السياسية السورية وتشكيلاتها في الداخل أو في الخارج سوى عملية تلفيق سياسي لأطروحات لا تجتمع حتى على رابط الإطاحة بالنظام الطائفي. وبينما كانت وقائع الثورة تتقدم بثبات في المدن والأرياف السورية وتدفع ثمنا باهظا في الأرواح والممتلكات والأعراض كانت القوى السياسية تخوض جدالات بيزنطية حول هوية النظام: هل هو طائفي أم أمني؟ وهل يجب خلعه أم التصالح معه؟ وحول الثورة: هل هي سلمية أم سلمية؟ ( أي بمعنى رفض العسكرة)، وحول هوية البلاد وتاريخها وحضارتها، وحول مكاسب القوى ومطالبها وشروط المشاركة في الثورة، وحول هوية الحاكم القادم ومعايير الوصول إلى السلطة وتقلد المناصب، وحول التدخل الأجنبي أو الحماية الدولية أو الحظر الجوي، وحول وحول وحول إلى أن صارت بلا حول ولا قوة ... وبلغ التخبط مداه، حتى صار الناشط قائد وثائر ومثقف وعسكري وشيخ وسياسي وتاجر ومحلل ومتسلق ومتملق وتاجر ومتعهد ومفاوض ومساوم. لماذا هذا التخبط؟

لأن المعارضة في سوريا وخارجها هي معارضة برسم الفرد وليس برسم الجماعة أو الفئة أو الشريحة أو الحزب أو الجماعة، بعد أن فككها النظام وطاردها في الداخل والخارج ومزقها شر ممزق. وبالتالي ليس هناك ما يجمع بينها إلا حرب النظام عليها أكثر من حربها على النظام!!! فبعضها أعلن معاداته للنظام، وبعضها الآخر عتب عليه، وثالث وسَّط حتى شياطين الأرض للتصالح معه، ورابع تعايش مع النظام، وخامس غلبته الأيديولوجيات الدوغمائية كالشيوعية والقومية وما أفرزتهما من مفاهيم الصمود والتصدي أو الممانعة والمقاومة ... أما الخوف من بطش النظام فقد فرقها ولامس رعبه لها شغاف قلوبها إلى أن صمتت عن الكلام المباح حتى في منافيها ومناماتها. ولا شك أن معارضة تجمع فيما بين ثناياها المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة والشريدة والطريدة والكسيرة والحسيرة والماكرة والمتسلقة وما طارد الضبع وجرح الفهد وأكل السبع والتقم الحوت لا يمكن أن تترك متنفسا لأهل الخير منها ولا أن تقدم لثورة ما عجزت هي أن تقدمه لنفسها، وهي تراهن على الشرق والغرب أو تتقاذفها القوى الدولية عن اليمين وعن الشمال.

ولا عجب أن تكون حواراتها في اللقاءات الأولى التي جمعت أطيافها في استنبول وأنطاكيا وبلجيكا وباريس وغيرها من العواصم والدول تجري وفق نظام الحُزَم الأيديولوجية كاللبرالية أو الإسلامية البراغماتية أو الأقليات الإثنية وما إلى ذلك ... لذا فقد كان شعارها الوحيد هو البحث عن « التوافق». فاللبراليون يتعاطفون مع بعضهم رغم غياب أي رابط حزبي أو تاريخي يجمعهم فضلا عن العداء المستحكم بينهم، والإخوان المسلمون يجتمعون معهم أو يتوافقون على قاعدة البراغماتية، وأصحاب الأقليات يخوضون صراعات لتأمين مصالحهم أو تثبيت هوية أقوامهم ولو على حساب عقيدة الأغلبية وهوية الأرض وتاريخها، والغالبية الساحقة من هؤلاء مغيبون أصلا وآخرون متنفذون يحرصون على ترضية « المركز» بما يحب ويهوى من الصيغ السياسية والاجتماعية التي يرتضيها للنظام والدولة بعد الأسد، وشريحة فرحة بما نالته من كراسي وسلطة وامتيازات في السفر والطعام والشراب والوجاهات التي لطالما افتقدتها.

ومع أنها أحست بخيبتها إلا أن حالها ظل مزهوا بنفسه، ينشد كما أنشد الشاعر:


ألقاب مملكة في غير موضعها ****** كالهر يحكي انتفاخة صولة الأسد



منذ لحظات تشكلها الأولى؛ ظلت المعارضة تبحث عن الشرعية في مواطن « المركز، وتستجديه، ولا تستحي من القول: « أننا قدمنا برهان غليون كواجهة مقبولة لدى الغرب»، علَّه يطيب نفسا به، أو يرق قلبه على تقديم العون والمساعدة، وله أن يطلب ما يشاء حتى لو كانت عقيدة الأمة وحضارتها وتاريخها ومستقبلها ومصيرها .. بل حتى لو حرصت على تجنب ذكر اسم الله في مطلع وثيقة فاجرة .. لكن دون جدوى!!! وليتها اتعظت من نظرائها في العراق وأفغانستان أو من تنازلات بلا ثمن أو توقفت للحظة عند تَمَنُّع « المركز» عن تسليح الثورة طوال هذه المدة من الزمن أو درست حقيقة تجاهله لها أو مبررات سكوته، بل موافقته، على تدمير سوريا والسماح بالتمثيل برجالها وأطفالها وانتهاك أعراض نسائها واستعمال أقسى وأفتك أسلحة التدمير حتى أن أركان النظام نفسه عجزوا عن فهم ما يمارسونه من وحشية بحق بلادهم وشعبهم!!!

العجيب أن المعارضة، السياسية والعسكرية، ظنت أنها البديل المنتظر، وما هي إلا بضعة أسابيع أو شهور حتى ترتفع على أكتاف الثكالى والمنكوبين والأرامل والقتلى والجرحى والمغتصبات وأنقاض سوريا. والأعجب أنها كانت آخر من يعلم فيما يحضر لها « المركز». ويبدو أنها لم تلتفت لعشرات التصريحات التي توطئ لإزاحتها عن المشهد السوري، أو أنها لم تقرأ ما نقلته واجهات العمل ابلوكالة كتلك التي أوردتها صحيفة « عكاظ » السعودية (1/10/2012) عن مصادر سياسية تقول أن: « واشنطن تبحث عن قيادة عسكرية مركزية في الجيش الحر قادرة على التعامل مع هذه المعلومات»، وأنها: « بحثت أكثر من مرة مع قيادات الجيش الحر وغيره من القيادات العسكرية مسألة وحدة القيادة من أجل تركيز الجهود على إسقاط نظام الأسد، لكنها حتى الآن لم تقتنع بمساعي وحدة الكتائب المقاتلة»، وأنها: « رهنت، منذ توسع سيطرة الكتائب المقاتلة على حلب، الدعم بالسلاح بتوحيد كافة الكتائب المقاتلة على الأرض، وإقصاء بقية العناصر الموسومة من قبل واشنطن بأنها متطرفة». هل سمع أحد في التاريخ كيف يمكن لأعداء عقديين وتاريخيين أن يوحدوا خصومهم عسكريا؟ وضد من؟ هل لأحد أن يكشف عن هوية العدو الذي يستحق هذا التوحد؟

ما أن أُعلن عن بدء اجتماعات الدوحة في 4/11/2012 حتى فاهت الولايات المتحدة على لسان وزيرة الخارجية في كرواتيا (31/10/2012) بما لا تهوى الأنفس، فقد: « حان الوقت لتجاوز المجلس الوطني السوري وضم من يقفون في خطوط المواجهة». هكذا دون أي مقدمات في عرف المعارضة! ولا ريب أن أغرب ما في تصريحات كلينتون أنها تحدثت بما يدغدغ مشاعر العسكريين والثوار وكل من ناصب المجلس الوطني العداء أو البغض. العجيب أن الولايات المتحدة تشن حربها في العادة على « المتطرفين» و « الإرهابيين» لكنها هذه المرة شنتها على عشاقها ومريدها من أهل الاعتدال والوسطية والبراغماتية!!! ولو كانت المعارضة « متطرفة» بما يكفي لربما نجت من الهجوم الأمريكي!!! إذ والكلام لكلينتون: « لا يمكن أن تكون هذه معارضة يمثلها أشخاص يتمتعون بخصال جيدة كثيرة لكنهم في كثير من الأمثلة لم يذهبوا إلى سوريا منذ 20 أو 30 أو 40 عاما»، أما الذي يمكن فهو: « أن يكون هناك تمثيل لمن يقفون في خطوط المواجهة يقاتلون ويموتون اليوم في سبيل حريتهم».

ونقلت وسائل الإعلام المزيد من تصريحات كلينتون كقولها: « أن الولايات المتحدة قد طرحت فكرة تشكيل تنظيم معارضة موحدة تحل بدلا من المجلس الوطني السوري الذي تعتبره واشنطن تنظيما غير فعال بسبب عدم نجاحه في توسيع قيادته، وأن: « واشنطن قد أعدت مرشحين سوريين للانضمام إلى أي قيادة جديدة للمعارضة يمكن أن تنبثق من مؤتمر مجموعة أصدقاء سوريا في الدوحة». أما المتحدث باسم الخارجية الأميركية باتريك فنتريل، فقد طالب في مؤتمره الصحفي بواشنطن: « المعارضة أن تكون أكثر تنظيما والتزاما بإستراتيجية»، لافتا الانتباه إلى أن: « واشنطن لم تر ذلك في المجلس الوطني السوري ولذلك تساعد في تحديد بعض الأشخاص» .. إذ: « ثمة حاجة ماسة لتشكيل تركيبة تمثل قيادة المعارضة»، أما لماذا « حاجة ماسة فلأن: « أمامها عمل سياسي وإداري للتواصل مع المجتمع الدولي والمساعدة في تنسيق التواصل والمساعدة».

هكذا بطشت الولايات المتحدة في المعارضة التي تحالفت معها دون سابق إنذار. فما كان من المعارضة، في اليوم التالي (2/11/2012) إلا أن صبت جام غضبها على أمريكا. وردا على تصريحات كلينتون أصدر المجلس الوطني بيانا قال فيه: « إن الحكومة الأميركية تريد بقاء بعض عناصر حزب البعث في السلطة بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد»!!! وكأن « البعث» الذي ليس له في العير ولا في النفير بات المسؤول عما حل بسوريا وأهلها من خراب ودمار وسفك للدماء. طبعا المجلس يقصد الطائفة النصيرية، لكنه لا يجرؤ على البوح بحقيقة المسؤولية لأنه محكوم بالسقف الدولي وأيديولوجياته وعقائده ومفرداته الدبلوماسية والسياسية. ثم تبع بيان المجلس غضب الكثير من أعضائه تجاه ما بدا لهم: « وصاية مباشرة وإملاءات لم تعد مقبولة للشعب السوري». ومن لندن، علق محيي الدين اللاذقاني، عضو المجلس، بالقول: « لا يحق لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون انتقاد المجلس في وقت لم تحدد فيه إدارة الرئيس باراك أوباما أي مسار لسوريا، مشددا على أن كل ما تحاول أميركا أن تفعله هو إلقاء اللوم على المجلس».

لكن أعجب وأميز ما في ردود الفعل جاء من جانب « الإخوان المسلمين». فقد انعقد لقاءً تشاوريا في العاصمة الأردنية عمان في 1/11/2012 بحضور 25 شخصية سورية، من بينها رئيس الحكومة السورية المنشق، رياض حجاب، وصدر الدين البيانوني، ممثلا عن الإخوان، ورياض سيف، الوكيل الحصري لـ « المبادرة الوطنية السورية»، وبحسب بيان صحفي صدر عن المكتب الإعلامي لجماعة الإخوان المسلمين في سورية يوم 2/11/2012 فقد: « تقدم الأستاذ البيانوني خلال اللقاء بمداخلة (مشروطة) أعلن فيها تأييد فكرة إيجاد قيادة سياسية جامعة للمعارضة السورية». ومع ذلك فقد علق زهير سالم، المتحدث باسم الجماعة، على تصريحات كلينتون بعصبية!! مشيرا إلى: « أن الولايات المتحدة تريد أن تفصل المعارضة السورية على مقاسات محددة»!!! بل أن اللقاء أنهى مشاوراته بالدعوة إلى تشكيل ما سمي بـ: « هيئة المبادرة الوطنية السورية», تمهيدا لإنشاء « قيادة سياسية جديدة للمعارضة» يليها « إعلان حكومة مؤقتة في المنفى» يقودها « رياض سيف».

لكن ليس من العجيب أن تواصل الولايات المتحدة تجديد عزمها على تفصيل الثوب الجديد عبر إقامة كيان بديل عن المجلس الوطني، بصريح القول والفعل، ورغم أنف قوى المعارضة، وبلسان كلينتون: « إن واشنطن أعدت مرشحين سوريين للانضمام إلى أي قيادة جديدة للمعارضة يمكن أن تنبثق من مؤتمر مجموعة أصدقاء سوريا». وبدا واضحا أن الولايات المتحدة أوكلت لقطر، محضن الاجتماعات القادمة، مهمة العرّاب. وهو ما كشفته صحيفة « الغارديان – 3/11/2012 » البريطانية حين قالت أن: « دولة قطر تقف وراء تنظيم مبادرة الدوحة»، وأنها: « حصلت على دعم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لإيجاد معارضة سورية موحدة ومتماسكة».

هكذا؛ وعلى وقعْ التصريحات الأمريكية وردود الفعل انطلقت اجتماعات « أصدقاء سوريا» و « المجلس الوطني» في العاصمة القطرية - الدوحة يوم 4/11/2012 لتنتهي بما أسمي « اللقاءات التشاورية». وجهد المجلس الوطني في الالتفاف على « المبادرة الوطنية السورية» لرياض سيف، والداعية إلى تشكيل ائتلاف للمعارضة أوسع من المجلس الوطني، بحيث ترمي، بحسب محمد العطري، المتحدث باسم رئيس الحكومة السورية المنشق رياض حجاب (4/11/2012)، إلى: « إنشاء جسم سياسي جديد للمعارضة السورية ليكون ممثلا لجميع شرائح المعارضة ويتكون من المجلس الوطني (الأعضاء الـ14) والمجلس الوطني الكردي (3) والمجالس المحلية التي تعنى بتنظيم الشؤون في الداخل، والمجالس الثورية في الداخل والشخصيات السياسية والتاريخية وهيئة علماء المسلمين ورابطة علماء المسلمين»، مشيرا إلى أن: « مشاورات ستجري لمعرفة ما إذا كانت هذه المبادرة ستشكل جسما بديلا عن المجلس الوطني أو ائتلافا جديدا».

ورغم الاستياء الشديد لرئيس المجلس، عبد الباسط سيدا (4/11/2012)، من: « جهود كثيرة بذلت وتبذل من أجل تجاوز المجلس»، وعن: « تضييق مادي» واتهام بـ « القصور والعجز والانغلاق»، وكذا حيرة جورج صبرا، الناطق باسم المجلس، وهو يقول: « تحاصرنا أفكار لا يمكننا قبولها»، إلا أن أحدا لم يسمع صراخ المجلس .. وبدا أحد أركان « البديل الجديد»، كمال اللبواني، لا يسمع صراخا ولا عويلا إلا سيمفونيته الخاصة: « لا ننافس على الشرعية ولا نتلقى أوامر من أحد»، مكتفيا بالقول أن السبب وراء المبادرة الجديدة هو: « تحول الثورة السورية إلى فوضى، والانقسام الحاد بين أطياف المعارضة، الأمر الذي: « يهدد بحرب حقيقية بعد سقوط النظام». ويبدو أن صبرا استفز حتى النخاع في تصريحاته لـ « وكالة الأنباء الألمانية – 5/11/2012 » في الدوحة حين قال إن: « المجلس يتعرض لضغط هائل لجعله ينخرط في مفاوضات سياسية مع النظام السوري، وهو شيء يرفضه كثير من قادتنا».

وعشية اللقاءات التشاورية حول مبادرة سيف (8/11/2012)، أدلى برهان غليون بدلوه محاولا التخفيف من وقع الصدمة: « ليس هناك شيء اسمه قيادة جديدة ولا بديلة والأجدر تسميتها بلجنة تنسيق للعمل المشترك فهذا هو المطلوب وليس استبدال المجلس»، مشيرا إلى أن: « الموقف الأمريكي قد لان كثيرا بهذا الشأن، وأن: « الجانب القطري عرض علينا أن نظل يوما أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة حتى يطلع الدخان الأبيض، وإذا لم يطلع سيذهب كل إلى سبيله»!!! ويبدو أن دخان انتخاب البابا لم يخرج حتى ذلك الحين ليهدئ من غيظ سمير نشار، الذي فتكت الصدمة بأعصابه، ولم يذهب في سبيله، فكان على النقيض من غليون: « لن نقبل بأي قيادة جديدة فوق المجلس الوطني»، فما: « الجدوى من خوض تجربة قيادة جديدة قد تفشل في حين أن المجلس الوطني السوري بصدد التوسعة وإصلاح نفسه؟ »، لكن وبكل برود صب رياض سيف الزيت على النار المشتعلة؛ فهدم أية مشروعية أو فاعلية للمجلس من أصله بالإشارة إلى أن: « المبادرة ليست إلغاء للمجلس الوطني باعتبار انه لم يكن في أي وقت من الأوقات سلطة أو قيادة» للمعارضة، لكن؛ وكي يُطَمْئن المجلس على مستقبله وموارده المالية فيمكن له الاعتماد على « التسول» و « النصب» و « الاحتيال»، إذ: « سيكون له ألف عمل وعمل في خدمة الثورة، أما تمويله: « فيجب أن يكون ذاتيا بحسب الأعمال والنشاطات التي يقوم بها أعضاؤه، كما يمكن له أن يتلقى دعما عربيا وأجنبيا مثل أي منظمة تطوعية وغير حكومية»، والمحسنين كثيرون. أما العمل الذي يجري الآن فهو فقط: « من أجل إيجاد قيادة وسلطة سيكون للمجلس الوطني فيها نصيب 50% إذا استثنينا مندوبي المحافظات الأربعة عشر».

باختصار؛ فقد اتسمت الاجتماعات والتصريحات بالمهاترات والمماحكات والغضب والمساومات والتطمينات والفضائح، وظهرت المعارضة كما لو أنها أزواج ضرائر لزوج كسيح. والعجيب أن المجلس الوطني واصل اجتماعاته ووسع هياكله كالأطرش في الزفة، أملا في تجاوز مبادرة سيف. فانتهت بخروج شخصيات معتبرة من أمانة المجلس مثل برهان غليون وجورج صبرا، وحصل الإخوان المسلمون على ثلث المقاعد .. ومع ذلك، وكما سبق وقدموا برهان غليون واجهة مقبولة لدى الغرب، جاؤوا بجورج صبرا أمينا عاما للمجلس، وهو مسيحي وملحد في الوقت نفسه!!! وطار مناصروهم ومؤيدوهم بهذه الخطوة « الجبارة» معتبرين أن انتخاب صبرا يثبت للعالم أن هدف الثورة السورية هو « الحرية» وليس « الطائفية»!!! وكأن أحدا، غير « المركز» والخصوم والأعداء، اتهم الثورة بالطائفية أو شكك بأهدافها. بينما لم يذكر أيا منهم، لا على مستوى الجماعة وفروعها ولا على مستوى الأفراد، أن انتخاب صبرا هو استنزاف عقدي بغيض بحق الله على العباد، وبحق الإسلام والمسلمين، وبحق شعب غالبيته الساحقة مسلمة، وبحق شلالات الدماء النازفة .. وهو سطو على دين الله وحقوق الأمة من المفرطين، والملحدين، وممن لا عقيدة لهم، ولا مبدأ ولا تاريخ .. ودون أن يرتد إليهم طرف من فعلتهم الشنيعة إلا من الرغبة المسعورة في استرضاء « المركز» بما يحب ويهوى. الله لا يعطيكم عافية على هكذا إنجاز ورسالة.

لكن « ومن يهن الله فماله من مكرم». فما أن بدأت اللقاءات التشاورية (8/11/2012) لمناقشة مبادرة رياض سيف حتى تلقى اتهامات صريحة من بعض أعضاء المجلس بأنه: « يتبنى أجندة أمريكية لتهميش المجلس». ومن جهتها تلقت وكالة « رويترز» للأنباء تصريحا من مصدر في المجلس قوله إن: « سيف لم يكن مقنعا أبدا»، لكنه قال للمجلس بأنه: « سيمضي قدما بالمبادرة بموافقة المجلس أو من دونها». لكن ما نعرفه أن رياض سيف ليس سوبرمانا في الداخل ولا في الخارج. وغني عن القول أنه ما كان لسعادة الوكيل الحصري، أن يطلق هذه التهديدات دون أن يكون محصنا بدعم حاسم من « المركز» الذي لم يعد يقبل الهياكل التقليدية.

هكذا ولد الهيكل الجديد المسمى بـ: « الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، وابتلعت المعارضة ألسنتها، وسحبت كافة تصريحاتها، ونزلت عند رغبة المركز»، وأمطرت بالشروط التي ارتضتها « المجاهدة» كلينتون. وفي 8/11/2012 أعلن صدر الدين البيانوني، المراقب السابق لجماعة « الإخوان المسلمين» في الدوحة أنه: « تم التوقيع بالأحرف الأولى وبالإجماع على اتفاق تشكيل الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة والثورة السورية»، وبعد الإعلان الرسمي انتخب الشيخ أحمد معاذ الخطيب رئيسا للائتلاف بأغلبية 54 صوتا من أصل 63، كما انتخب رياض سيف وسهير الأتاسي نائبين له.

حقا!! عجيب أمر المعارضة السورية!!! يعارضون التشكيلات الجديدة ويفاوضون عليها من وراء الكواليس، ثم ينتخبون رئيسا بالأغلبية!!! ثم يبدؤون في الثناء عليه، وكأن الأرض أزهرت. فما أن انتخب الخطيب رئيسا للتشكيل الجديد حتى بدأت الدعوات وحملات التسويق حتى من موقع الخطيب الإلكتروني، وعلى صفحات المواقع الاجتماعية تشق طريقها. وبدا أن التركيز على شخصية الرجل الذي لم تشوبه شائبة من قبل، كرياض سيف، هي محور الترويج له. لكن هذا لا يمنع من القول أن الرجل، الذي لم يعرف عنه سوء، ليس بأفضل من أولئك الذين عارضوا النظام لعشرات السنين، ودفعوا ثمنا باهظا طال حياة عشرات الآلاف منهم.

والمهم في شخصية الرجل ليس فقط ما يحظى به من شرعيه اجتماعية دمشقية ودينية عريقة، والتي استعملت في تسويقه، بل في قناعاته السياسية ومعتقداته التي رجحت اختياره كأنسب ما تحتاجه التشكيلات السياسية والعسكرية الجديدة. فهو خطيب الجامع الأموي بدمشق، ويوصف بأنه رجل وسطي معتدل يؤمن بالتعددية العقائدية والطائفية، ولعله أبعد ما يكون عن تكفير الطائفة النصيرية أو الطوائف الباطنية. ويعرف عن نفسه بموقعه قائلا: « لا نرضى الفتنة وحمل السلاح في الأمة الواحدة مهما يكن السبب، وننبذ الطائفية والعصبية وضيق الأفق، كما نرفض تحجيم الإسلام وفق أهواء العوام أو الحكام .. ونرفض الفكر التكفيري الغضوب، ونعتقد أن الإسلام رسالة هداية للبشرية جميعاً». وهو بالمحصلة وكما وصفه خالد الزيني، عضو المجلس الوطني السوري، « شخصية توافقية»، بما تكفي لتلبية احتياجات الجميع.

وفي أول بيان أصدره (14/11/2012) بعد زيارته لبعض العواصم العربية والدولية كتب على موقعه مخاطبا الشعب السوري بما يشبه التسول والاستجداء الذي لا يليق بسوريا ولا بشعبها ولا بتضحياتها ولا بتاريخها ولا عقيدتها ولا بشخصية تتبوأ منصب قيادة:

« اليوم اعترفت الولايات المتحدة بالائتلاف ممثلا وحيدا للشعب السوري ولكنها علقت ذلك على تأكدها من أن الائتلاف يمثل الشعب السوري حقيقة … هذه لحظة تاريخية .. أرجو الله أن لا نخذلكم فلا تخذلونا أرجوكم .. أريد أن يكون شعار الجمعة القادمة: ( يا أوباما لا تخاف .. كلنا مع الائتلاف).. أريد لافتات فيها شكر للرئيس الفرنسي .. ولافتات: (الشعب السوري واحد)، ولا فتات عليها: ( لا تطرف لا إرهاب .. افهم افهم يا حباب) .. وفي آخر البيان طالب بـ: تعديل: بعد التشاور مع بعض قيادات الداخل اقترحوا أن يكون العنوان للجمعة القادمة: يا أوباما اسماع اسماع كلنا مع الائتلاف» .. لكن الجمعة المقصودة أسميت: « الائتلاف يمثلني»!!! والنعم.

سؤال: ما الذي جنته المعارضة السياسية الساعية إلى تحصيل اعتراف دولي وعربي بها من تشكيلها الجديد؟

فيما خلا الموقف الفرنسي الذي قدم اعترافه وصار يلعب دور رأس الحربة في رفع الحظر عن تسليح الثورة، والاستعداد لطلب « أسلحة دفاعية»، إلا أن بقية المواقف الأوروبية والدولية نأت بنفسها عن الاندفاع الفرنسي، ابتداء من أوباما وانتهاء بالمفوضة الأوروبية كاترين آشتون، واكتفت بالإشادة بالتشكيلات الجديدة أو تعليق الاعتراف الكامل بها حتى إلى ما بعد سقوط النظام!!! ولعلها لطمة غير محسوبة من أولئك الذين يظنون دائما أن التعهدات والتنازلات والتصريحات وحرق الذات يجدي مع « المركز». وتغافلوا عن كل تاريخ وحاضر، وتناسوا أن « المركز» والخصوم والأعداء لم يقبلوا بالرئيس العراقي، صدام حسين، وهو علماني، كما تناسوا كيف دبروا اغتيال الرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، وهو من قدم لهم التعهدات والتنازلات حتى الاعتراف بـ « إسرائيل» .. ومع ذلك تآمروا عليه وحاصروه وأذلوه وقتلوه دون أن يأسف عليه أحد. فلماذا يقبلون تعهدات المعارضة القديمة أو الجديدة؟ ولماذا يثقون بها أو يسمحون لها بالوصول إلى السلطة على أنقاض طائفة ائتمنت على النظام الدولي و « إسرائيل» منذ 1913 وإلى يومنا هذا؟ فما الذي يمكن أن تقدمه المعارضة بالمقارنة مع ما قدمته الطائفة النصيرية، صاحبة الامتياز الدولي؟ وهل تعهداتها أو حتى اعترافها بـ « إسرائيل» سيكون أثمن من اعتراف عرفات بها!!!!؟

في أول رد فعل للرئيس الأمريكي، باراك أوباما (14/11/2012) على التشكيلات الجديدة التي صممتها بلاده!!! قال بصريح العبارة: « نحن غير مستعدين للاعتراف بهم كحكومة في المنفى، إلا أننا نعتقد أنها مجموعة تتمتع بصفة تمثيلية». وأعلن بوضوح: « نحن نحترس وخصوصا عندما نبدأ بالحديث عن تسليح مسؤولي المعارضة لكي لا نضع أسلحة بين أيدي أناس قد يسيئون إلى الأمريكيين أو الإسرائيليين». وأن: « إحدى المسائل التي سنواصل التشديد عليها هي التأكد من أن هذه المعارضة تتجه نحو سوريا ديموقراطية ومعتدلة وتشمل كل المجموعات»!!! ومن فاته مضمون عبارات: « ديمقراطية .. ومعتدلة .. تشمل كل المجموعات» فما عليه إلا أن يلحق بأول رد فعل آخر أدلى به الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال مؤتمر صحفي مشترك (15/11/2012) مع أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، في موسكو، حيث قدم حقوق الأقليات والطوائف على حقوق الشعب السوري برمته: « إن موقف بلاده يعطي الأولوية لتحقيق اتفاق حول المستقبل، وإنه يجب أولا تفهم كيفية ضمان احترام المصالح والحقوق المشروعة لمختلف الطوائف والقوميات قبل البدء في التغيير، وليس تنحية الرئيس السوري بشار الأسد» ثم التفكير في الخطوة التالية.

أما وليم هيغ، وزير الخارجية البريطاني، الذي التقى أحمد معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الجديد، فقد أحبط مضيفه مثلما أحبط أولئك الذين توسموا خيرا بتصريحات ديفيد كاميرون، رئيس الحكومة البريطانية حول اقتراحه الممر الآمن للرئيس السوري واستعداد بلاده لدراسة تسليح الثورة. وفي تصريحات لقناة الـ bbc استبق فيها لقاءه بالخطيب، أوضح هيغ أن: « بلاده تدرس الاعتراف رسمياً بهذا الائتلاف كممثل شرعي وحيد للشعب السوري، لكنها تسعى لمعرفة خطط هذا الائتلاف للانتقال السياسي في سوريا ومعرفة من الذين يعتزمون تعيينهم وكيفية توزيع المناصب، وهل سيكون الأكراد مشاركين، وما حجم التأييد الذي يتمتع به ائتلاف المعارضة داخل سوريا»، مؤكدا بأنه: « قد يكون قادرا على اتخاذ قرار بشأن الاعتراف بالائتلاف خلال الأيام القليلة القادمة» .. تصريحات استفزت سهير الأتاسي، نائب الخطيب، التي علقت بالقول: وكأننا تحت اختبار!!!؟ صح النوم يا مدام.

وفي تغطيتها للموقف الأوروبي بشأن تسليح الثورة ذكّرت صحيفة « وول ستريت جورنال» الأمريكية بموقف كاثرين أشتون، ممثلة السياسة الخارجية الأوروبية، وهي تردد القول: « إن إرسال السلاح إلى سوريا ربما يزيد الأمر سوءً هناك». وتنقل الصحيفة عن مسؤول أوروبي، رفيع المستوى، قوله في العاصمة البلجيكية بروكسل: « إن "محادثات مطولة" قد تجري قبل إجراء أي تغيير على حظر بيع الأسلحة لسوريا»، مشيرا إلى أن: بعض أعضاء الاتحاد لن يقبل بسهولة إرسال أسلحة للمعارضة السورية». وأن رفع الحظر يتطلب اتفاقا أوروبيا مشتركا يتم التوصل إليه بعد مفاوضات معمقة، قائلا: « أنا شخصيا لا أخفي بعض الشكوك. إذ أن: القلق الأوروبي لن يتعلق فقط بمبدأ إرسال الأسلحة، بل أيضا بتطبيقه، لافتا إلى أنه لن يكون من السهل ضمان وصول شحنات الأسلحة للمعارضة فقط». ولعلها تصريحات راقت لوزير الدفاع الألماني، توماس دي مايزيري، الذي قال إنه: « يشكك في الفكرة».

أما منظمة العفو الدولية فقد رحبت بدعوة وزير الخارجية البريطاني جماعات المعارضة السورية إلى ضرورة الالتزام بالقانون الإنساني الدولي، وحرض كريستيان بنديكت، المسؤول في المنظمة، وليم هيغ على مزيد من الضغط لاتخاذ إجراءات عملية ضد المقاتلين: « نريد رؤية مساءلة حقيقية يتم بموجبها اعتقال أي مقاتلين ارتكبوا انتهاكات، وفتح تحقيقات مناسبة حولها».

إلى هنا نقول بأن الهياكل الجديدة لا تعني أنها تتمتع بحرية الحركة والمطالب. وتوسلاتها لقوى الثورة بتقديم الدعم لها عبر تسمية يوم 16/11/2012 بـ جمعة « الائتلاف يمثلني»، المماثلة لـ جمعة « المجلس الوطني يمثلني – 7/10/2011 » كانت فاضحة كما سبق وأثبته الخطيب في كلمته إلى الشعب السوري. هذا فضلا عن أن تسميات الجُمَعْ تخضع للمساومات السياسية والأيديولوجية، لاسيما وقد سبقتها جمعة « أمريكا ألم يشبع حقدك من دمائنا؟ » و التي تأجلت في 12/10/2012، بعد معارضة من المجلس الوطني قبل أن يتم فرضها يوم 19/10/2012.

المهم أن ردود الفعل الشديدة على التشكيلات الجديدة من بعض رموز الثورة السورية استبقت اجتماع اللقاءات التشاورية في الدوحة. فالقوى الإسلامية رفضت، كالعادة، كل التشكيلات والمبادرات السياسية. ومن جهته شن العقيد رياض الأسعد، قائد « الجيش الحر» هجوما شرسا على المجلس الوطني، في تصريحات نشرتها صحيفة « الوطن» السعودية في 7/11/2012، قال فيها أن: « هناك من أعضاء المجلس الوطني من شتت الصفوف وحاول تفرقة الكتائب، هؤلاء عصابة، والمجتمع السوري يعي ذلك، كانوا فعالين في تفرقة المقاتلين لكنهم لم يتمكنوا، والثوار معنوياتهم مرتفعهم على وقع الانتصارات اليومية .. أشخاص معروفون لدينا، مؤثرون في المجلس الوطني ومُتنفذين، هم من يتحملون مسؤولية قتل السوريين»، .. هذا المجلس الذي أقصى الجيش الحر حمله الأسعد مسؤولية: « ثمن سفك دماء الشعب السوري».

وخلال انتخابات المجلس الوطني، تلقت وسائل الإعلام: « بيان مشترك من القوى الوطنية السورية في رفض مخططات اجتماع الدوحة» وقعته شخصيات وقوى عسكرية ومدنية، من بينها « الجيش الحر» و « التحالف الوطني السوري» و « الكتائب الميدانية المقاومة في سوريا»، وتضمن البيان أسماءً من بينها العقيد رياض الأسعد والعقيد حسام العواك وسعد العقيدي و د. وائل الحافظ. وجاء فيه: « إنه لواجب علينا أن نوضح للجميع أن الإصرار على إقصاء أبناء الثورة الصادقين إنما هو استمرار في السير على ذات الخطى التي لم تقدم ما هو ايجابي للثورة على مدى 13 شهرا وذلك يدفع إلى زيادة في الشكوك حول ماهية الأجندات التي تم تحضيرها والإعداد لها لما هو أبعد من ذلك من حكومة ووزارات وقيادات تريد فرض نفسها».

وأوضح سعد العقيدي، منسق الكتائب الميدانية المقاومة في سوريا، وعضو المكتب التنفيذي في مجلس القبائل العربية السورية: « إن القوى الوارد اسمها في البيان ترفض المجلس جملة وتفصيلا، وتعتبره غير موجود وأن مبادرة رياض سيف لا تعنيهم». أما فيما يتعلق في الموقف من المجلس فهو: « سبب رئيسي في تمزق المعارضة السورية وأن من يقودونه لديهم أجندة حزبية ضيقة للوصول إلى كرسي السلطة ولم يقدموا شيء للشعب السوري»، الذي: « أعطى فرصة للمجلس طيلة أكثر من سنة فما قدم شيء للشارع السوري سوى أن قام باستلام الأموال وسرقتها». وأوضح أن: « المجلس الوطني السوري أعاد إنتاج نفسه وأن جماعة الإخوان المسلمين قسموا أنفسهم في هذه الانتخابات إلى أربع كتل تحت أسماء كتل وطنية إلى آخره حتى يحظوا بالأصوات»، وتجاهل ما اعتبره: « ضعف تمثيل القبائل السورية في المجلس، مشيرا إلى أن أهم مكون في سوريا القبائل العربية التي تشكل 45 بالمائة والتي من المفترض أن تحظى بتمثيل أكبر في المجلس أعطيت فقط 8 أصوات».


ما زال الوقت مبكرا على الخاتمة


لا ريب أن « المركز» بات مقتنعا للغاية أنه من المستحيل بقاء عائلة الأسد في السلطة بالنظر إلى الإرث الدموي والأمني وما خلفته من قروح غائرة عميقا في الجسد السوري. لذا ما من أحد يشك بزوال الأسد وعائلته إلا من يصر، في اللحظة الأخيرة والحرجة للجميع، على البيع بأبخس الأثمان دون مبرر، بينما الفرصة للثراء أمامه متاحة رغم أنف أكبر التجار والمستهلكين.

لكن المشكلة في هؤلاء الذين يستقوون بأفخاخ « المركز» نفسه وإغراءاته لهم اعتقادا منهم أنهم يحققون مكاسب بإثارة مخاوفه أو الاتزام بتوجيهاته وآرائه!!! ومن أمثلة هذه المصائد ما قاله جيمس دوبينز، مدير مركز راند للأمن الدولي والسياسة الدفاعية (7/11/2012)، من أن: « الأحداث قد تجبر أوباما على التدخل بدرجة ما في سوريا وربما يقدم السلاح». وهذا احتمال مرجح فعلا، لكن ليس لخدمة الثورة بقدر ما هو الخشية منها. ولعل جاستين فايس الباحث في معهد « بروكينغز» أحسن في التشخيص حين قال: « إن عدم التدخل عسكريا في سوريا أدى إلى اتخاذ الصراع ضد النظام منحى راديكاليا، وهو ما يفسح (المجال) لدخول الجهاديين والقاعدة، ولنشوب حرب أهلية ستكون لها تبعات على الأردن والعراق وعلى التوازنات في لبنان». ولهذا السبب رأت مارينا اوتاواي، الباحثة في مركز « كارنيغي للسلام» الأمريكي (14/11/2012) أن: « الولايات المتحدة تريد تنظيما عسكريا موحدا .. يمكن أن ترسل إليه المساعدات المالية والعسكرية ويقطع الطريق أمام الجهاديين » .. وتعلق على الرغبة الأمريكية بتشكك: « إنها خطة ملفتة لكنني لست واثقة من إمكان نجاحها». فما هي، إذن، منزلة تصريحات العميد مصطفى الشيخ وهي تحذر من « تحول الثوار السوريين إلى إرهابيين - 10/11/2012» حين قال: « إذا لم يكن هناك قرار سريع لدعمنا، فإننا جميعا سنتحول إلى إرهابيين؟ » هل يمكن تصنيفها في خانة ابتزاز « المركز»؟ أم في خانة تقديم الخدمات له؟ أم في خانة المكر به؟

قلنا وما زلنا نقول بأن الحل المطروح على السوريين من « المركز» هو الحل السياسي الذي يقوم على صيغة « الحل مع النظام»، وبما يضمن بقاء الطائفة النصيرية متمتعة بذات الامتيازات التي تتمتع بها، شريكة كاملة في السلطة. وكما سبق وأعلن ليون بانيتا، وزير الدفاع الأمريكي، أن حل الجيش وأجهزة الدولة والأمن غير وارد في سوريا. وها هو الرئيس الأمريكي يتحدث صراحة عن دولة « ديمقراطية .. ومعتدلة .. تشمل كل المجموعات»، وكذا الرئيس الروسي الذي أعطى « الأولوية» لحقوق الأقليات والطوائف ومستقبلها واندراجها في السلطة قبل أن يتحدث عن حقوق الشعب الجريح.

أما الإبراهيمي فلم يفته أن يذكِّر المعارضة السورية، ومن لا يتذكر أو يتعظ، وقبل أن يطالب أحد بتسليح الثورة (5/11/2012) بأنه: « لا حل عسكري للأزمة السورية، وأن الحل الوحيد هو إيجاد عملية سياسية يتفق عليها الجميع، أو أن المستقبل سيكون سيئا للغاية، وستتدفق الأزمة على دول الجوار وحتى إلى دول بعيدة عن المنطقة».

بقي أن نقول أن هؤلاء الذين مثلوا جسرا لـ « الاختراق»، بحسن نية أو بسوء نية، بعلم أو بجهل، لم يحسبوا حسابا كما فعل « المركز» الذي أحسن استدراجهم .. وهو الآن عازم على استنزافهم من عقائدهم وأخلاقهم وقيمهم وإنسانيتهم وانتمائهم وتاريخهم حتى إذا ما سقطوا لن يأسَ عليهم أحد. فهم لا يمتلكون أية ضمانة من « المركز»، وليس لـ « المركز» حتى الآن بديلا عن الطائفة في الحكم. فهي باقية في السلطة ودواليبها .. لكنها عند السوريين مطالبة بكشف حساب ثقيل جدا. وهذا لا يعني ذبح الطائفة أو قتلها، فهي على كل حال موجودة شأنها شأن الكثير من الطوائف، لكنها من المستحيل أن تكون مقبولة في السلطة دون أن تدفع ثمن جرائم الغالبية الساحقة التي ارتكبتها بحق الشعب السوري، أو دون أن تقدم عشرات آلاف المجرمين فيها للمحاسبة، أو دون أن تتحمل مسؤولية انخراطها في النظام والقتل والرعب التاريخي الذي أوقعته في المجتمع، أو دون أن تتحمل مسؤولية استيلائها على الدولة والمجتمع وحقوق الأمة برمتها لعشرات السنين ..

هذا الأمر لا يروق لـ « المركز» ولا يقبل به!!! فما الذي ستأتي به إذن الوسطية والاعتدال والتعددية والديمقراطية والمشاركة؟ وما الجدوى أو الغاية منها إنْ لم تسترد حقوق الشعب وتنصفه في مظالمه وعذاباته؟ وما معنى ألا يتعظ عشاق « المركز» من أسلافهم أمثال محمد دحلان (فلسطين) وشيخ شريف ( الصومال) و رباني ومسعود ( أفغانستان ) وطارق الهاشمي ( العراق) وبرويز مشرف (باكستان)، هذا ناهيك عن أولئك الذين أخطؤوا الحسابات فاغتيلوا رغم ما قدموه من خدمات!!! ألا ليت قومي بعلمون.

يتبع ....
  #28  
قديم 27-12-2012, 12:37 PM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي



البديل



إما إبل الثورة أو خنازير أوباما



(12)


د. أكرم حجازي


23/11/2012







يبدو أن جهود « المركز» وحلفاءه وكل المعنيين في احتواء الثورة السورية قد أثمرت في التوصل إلى إجابة على السؤال الحاسم: « ما البديل» عن نظام الأسد « النصيري»!!؟ وهي إجابة ما كانت لتتضح لولا الإعلان عن التشكيلات السياسية والعسكرية التي يحاول البعض، عبثا، تسويقها باعتبارها تعبيرا عن احتياجات الثورة والمجتمع والدولة في سوريا. لكنها في واقع الأمر، وسواء عن علم أو عن جهل، ليست إلا « أدوات» لتمرير أخبث مشروع دولي تتعرض له سوريا، بحيث ينتهي بها المطاف إلى دولة أقليات تحكمها الطوائف باسم « الدولة المدنية»، بعيدا عن أية هوية عقدية أو حضارية أو تاريخية أو موضوعية .. دولة أشبه ما تكون بالدولة اللبنانية الطائفية، والقابلة للحروب الأهلية، والانفجارات الاجتماعية والسياسية بين الحين والحين. فهل صمتت القوى السياسية المعارضة عما يُحضِّر له « المركز» وشاركت في صناعة مشروعه؟ أم أنها عجزت عن قراءة الحدث السياسي؟

من الثوابت التي استقرت مع انطلاقة الثورة السورية، والتي لم يعد ينكرها إلا « عناتر» القوى الدوغمائية من القوميين واليساريين، أن « سوريا النصيرية» لم تخلف إلا كوارث على حركات التحرر والقضايا العربية والإسلامية، فضلا عن المجتمع السوري الذي رضع القهر والرعب جيلا بعد جيل، دون أن يشعر به أو يلتفت إليه أحد.

بداية؛ لا بد من التنويه إلى أن فكرة القوى الاستعمارية، ممثلة ببريطانيا وفرنسا، قامت، ولمّا تزل، على تمكين القوى المعادية عقديا من ديار الإسلام ورقاب المسلمين. هذا ما حصل على وجه التحديد للمسلمين بعد الحرب الأولى (1913) وما تمخض عنها من إقامة للنظام الدولي الجديد على أشلاء العالم الإسلامي وعقائد المسلمين. وما يشهد به الماضي والحاضر أن أتاتورك وحلفاءه من يهود الدونمة تصدروا السلطة في تركيا على أنقاض الخلافة الإسلامية، فيما استوطنت الحركة الصهيونية في فلسطين عبر ما يسمى بـ « دولة إسرائيل»، وعملت فرنسا، من جهتها، على تمكين الطائفة « النصيرية» من السلطة في سوريا. وحتى الآن لم تتغير فكرة تربيط العالم الإسلامي والهيمنة عليه بمثل هذه الأدوات والقوى.

وبطبيعة الحال لم يتغير الموقف فيما يتعلق بسوريا الثورة بقدر ما عبّر « المركز» عن تمسكه بالفكرة طبقا لصيغة « الحل مع النظام». وهي الصيغة التي تعني، أصلا وفصلا، أن الطائفة ما زالت تحظى بثقة « المركز»، باعتبارها ماركة مسجلة باسم النظام الدولي، لكنها باتت عاجزة عن القيام بواجبها على أكمل وجه، كما فعلت طوال العقود الستة الماضية، بعد أن تم استنزافها، وصار إرثها الأمني والدموي ثقيلا جدا. فما الحل إذن؛ بحيث يمكن تمرير بقاء الطائفة في السلطة ضمن صيغ ومصطلحات يجري الترويج لها على قدم وساق؟

الثابت أن سوريا، كتركيا بالضبط، وريثةً للمجتمع العثماني في بلاد الشام، وتشتمل على مخزون ثري من الأقليات والإثنيات، يقارب عددها ما بين 25 – 30 قومية أو إثنية أو طائفة. وبالتالي ما من سبب يمنع استثمار هذا المخزون الذي يجعل من سوريا القادمة نسخة طبق الأصل عن لبنان .. نسخة تجيب على السؤال: ما البديل»؟ وتلبي مصالح « المركز» وتركيا وإيران و « إسرائيل» والعراق والنظام الإقليمي العربي وكل القوى اللبرالية والعلمانية والطوائف والفرق الباطنية .. نسخة يجري إخراجها بمشاركة دولية ومحلية وطائفية على السواء.

إذن الحل النموذجي، بنظر « المركز»، يقضي بـ (1) وجوب الإقرار بأنه بات من المستحيل أن تواصل الطائفة « النصيرية» تَمَلُّكَها المنفرد للدولة والمجتمع في سوريا، ثم العمل على (2) تطوير فكرة التربيط الطائفي لسوريا وليس التخلي عنها. وهذا يعني بالضرورة تقاسم الطوائف والأقليات الأخرى العبء مع « النصيرية»، عبر إشراكها في السلطة وتمكينها من النفوذ باسم « الدولة المدنية» التي تؤمن بالتعددية والتعايش بين الجميع!!! وبهذه الفكرة اللئيمة يكون « المركز» بصدد تضخيم مكانة المربط الطائفي، وتقديم الحماية له والحصانة المحلية بما يكفي، أو يزيد، لضمان ائتمانه على أمن النظام الدولي وحمايته من خطر التفكك لعقود قادمة .. هذا الائتمان لا وظيفة له إلا تعطيل طاقات الأمة، واحتجاز عقيدتها من أن تكون القوة التي تحرك الأمة في مواجهة النوازل والخطوب.


أولا: تأهيل الطائفة


كان أحمد حسون، مفتي النظام، أول من طرح في 7/11/2012، فكرة تخلي الرئيس بشار عن منصبه والعودة إلى مزاولته مهنة طب العيون. ورغم أنها بدت دعوة مفاجئة، في حينه، إلا أن رفعت الأسد، عم الرئيس، ومهندس تطلعات الطائفة ونفوذها، كررها في سياق إعادة تأهيل الطائفة، حين رشح نفسه بديلا عن الرئيس، في مقابلة مشتركة مع وكالة « فرانس برس» وصحيفة « لوموند – الفرنسية - 14/11/2011»، مشيرا إلى أن: « الحل يكمن في .. تسليم السلطة لشخص لديه دعم مالي، ويؤمن استمرارية جماعة بشار بعد استقالته، يجب أن يكون شخصًا من عائلته: أنا أو سواي». ويبدو أن « المركز» لم يكن، في حينه، يرى ضيرا من بقاء عائلة الأسد في السلطة، وإلا ما كان رفعت الأسد ليتجرأ، ويقدم نفسه أو غيره، كمرشح من صلب العائلة، بديلا عن ابن أخيه بشار.

لكن الأكيد أن مراهنات « المركز» على النظام السوري في وأد الثورة تسببت باستنزاف خطير في مشروعية عائلة الأسد على رأس السلطة والطائفة. ولسنا متأكدين يقينا ما إذا كان لـ « المركز» يد في بعض البيانات التي صدرت عن رموز أو شخصيات من الطائفة، جاهرت في رفضها للنظام وما يرتكبه من جرائم بحق الشعب السوري وسوريا. لكن ما نحن متأكدين منه أن مداخلة لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي، في مجلس الأمن ضد المندوب السوري بشار الجعفري، على خلفية مناقشة مجلس الأمن لأوضاع اللاجئين السوريين في 31/9/2012 ، وقعت قبل شهر تقريبا من بدء أول اشتباكات مسلحة بين العائلات « النصيرية» وعائلة الأسد في بلدة القرداحة، المعقل التقليدي والتاريخي لعائلة الأسد.

ومن المرجح أن فابيوس أراد بمداخلته أن يعلن، إعلاميا وسياسيا، عن مرحلة أفول عائلة الأسد وانطلاق مرحلة إعادة تأهيل الطائفة. ولا ريب أن الخاتمة كانت مهينة للرئيس السوري، وريث « الصمود والتصدي» وشقيقتها « المقاومة والممانعة»، وهو يتلقى أول اعتراف رسمي من القوة الاستعمارية، ومن عقر دار « المركز»، بخيانة أجداده لسوريا. وفي المداخلة قال فابيوس للجعفري: « بما أنك تحدثت عن فترة الاحتلال الفرنسي، فمن واجبي أن أذكرك بأن جد رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقة رسمية وقع عليها ومحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وإن أحببت أعطيك نسخة عنها». بطبيعة الحال فقد كان الوزير الفرنسي يقصد سليمان الأسد، جد الرئيس بشار ووالد الأب وليس جده.

عجب المراقبون حقا من اعتراف فرنسا بواحد من أكبر عملائها، لأول مرة، والتشهير به من على منصة دولية كمجلس الأمن. وبدا الموقف الفرنسي، وهو ينزع الشرعية التاريخية والسياسية والأخلاقية عن عائلة الأسد، وكأنه يحمل شحنة « حميمية» تجاه الثورة وعذابات السوريين. لكن هذه « الحميمية» المزعومة لم تكن لتخفى على السوريين، وغيرهم من المثقفين والمؤرخين وشهود الزمن القريب، الذين يدركون دور فرنسا في زرع الطائفة وتأهيلها تاريخيا لتتبوأ قمة السلطة في البلاد. كما لا يخفى على هؤلاء وفرنسا، قبل السوفيات الذي حملوا الطائفة والأسد إلى قمة السلطة بعد حرب السويس سنة 1956، كيف تغلغلت الطائفة في البناء السياسي والأمني لسوريا؟ أو كيف نجح الأسد بتصفية كل خصومه السياسيين والعسكريين حتى من الطائفة « النصيرية» بدءً من انقلاب 8/3/1968؟ وكيف تسببت هذه التصفيات بإيغار صدور الكثير من العائلات « النصيرية» العريقة في الطائفة، دون أن يكون لها إلا الاختيار بين تميُّز الطائفة ولو بحكم آل الآسد أو خسارة السلطة وخيرات السهل الوفيرة.

بالكاد مرّ شهر على « الشجاعة» الفرنسية في مجلس الأمن؛ حتى انطلقت تصفية الحسابات القديمة في مسقط الرأس، مطلع شهر أكتوبر / تشرين الثاني 2012 لتستمر إلى حدود النصف منه. وخلالها شهدت القرداحة اشتباكات بين آل عثمان وآل الخير من جهة وآل الأسد ومخلوف وشاليش من جهة أخرى. وتبع ذلك تدخل أمني كثيف من قبل النظام، وتحليق للطيران المروحي، ونزول لعشرات الدبابات، وحملات اعتقال في المناطق « النصيرية». كما تبع الصدام الأول الإعلان عن تشكيل جماعة علوية باسم « العلويون الأحرار»، والتي دعت العلويين في كل سوريا للثورة على نظام الأسد، وبحسب البيان الصادر عنها في 5/10/2012 نادت الجماعة بتوقف الطائفة عن القتل ودعم الأسد: « يا علويي سوريا كفى. ثوروا متّحدين ضد العائلة الفاسدة التي تبحث فقط عن الخيانة والمال والسلطة».

وكان أبرز ما تبع هذه الاشتباكات ما نقلته وكالة آكي الإيطالية للأنباء عن مصدر أوروبي « رفيع المستوى» تحدث، في حينه (5/10/2012)، عن: « احتمال وقوع توافق روسي غربي ينهي الصراع ويسرّع التحول الديمقراطي في سوريا. وعن تغير في الموقف الروسي، بعد أن: « أصبحت هناك قواسم مشتركة، خاصة حول مسألة حتمية تغيير النظام». بل أن معلومات المسؤول الأوروبي رجحت، بحسب الوكالة،: [ موافقة الروس على مقترحات أوروبية - أميركية لها علاقة بتغيير النظام السوري وبالأشخاص والمراحل والأفكار، قائلا: « غالبا ما سيتم بحث تنحي الأسد والضمانات التي ترافق ذلك» ] .


ثانيا: وثائق بلا دين!!!


بطبيعة الحال كانت المعارضة السورية، على اختلاف ألوانها وأطيافها، كالطائفة « النصيرية»، قيد التأهيل المبكر الذي رعاه « المركز» بشقيه الشرقي والغربي. وقد يبدو مألوفا، بحكم البراغماتية، أن تتغلب، وكالعادة، نظرية « المقاصد لشرعية» عند « الإخوان المسلمين» على « نظرية الحاكمية». بل أن ما فعله إخوان سوريا لم يستطع أي فرع للجماعة أن يجاهر به في أية دولة تواجد بها الإخوان حتى لو كانت شريكة في غزو أجنبي كما حصل في العراق وأفغانستان أو محايدة تجاه غزو كما هو حال الجماعة في الصومال.

ففي 21/3/2012 صدر عن الجماعة ما اشتهر باسم وثيقة « العهدة الوطنية». وهي الوثيقة التي تستجيب بلا أية مواربة لشروط « المركز». وكان أهم ما نادت به اعتماد « مبدأ الكفاءة» كمعيار تقني وحيد للوصول إلى المناصب الحكومية في سوريا الجديدة، بعيدا عن أية مرجعية إسلامية أو منطق موضوعي يأخذ بعين الاعتبار عقيدة الغالبية الساحقة من السكان أو حضارة البلد أو تاريخها أو ثقلها في التراث العقدي أو حقوق المسلمين فيها.

ولا شك أن استبدال هوية الأمة وعقيدتها بما يسمى « حكم القانون» يجعل من سوريا دولة مجردة من أية ضمانة، وخاضعة بالمطلق لأهواء ومطالب ورغبات الأقليات والطوائف والأفراد والعصابات والجماعات والأحزاب والفلسفات الوضعية والأيديولوجيات وكل مخزون التمزق والتشتت. ومبدئيا يبدو عامة الناس والمسلمين، على وجه التحديد، هم الخاسر الأكبر، في حين أن الجميع سيخسرون لا محالة. إذ أن هذه القوى التي عجزت عن الاتفاق فيما بينها، وعن حماية نفسها ولو على مستوى الأفراد، فضلا عن عجزها في دعم الثورة، وحماية المجتمع والدولة والسكان من بطش النظام، ستكون أشد عجزا عن حماية سوريا ومصيرها ومستقبلها وسط هذا التمزق الهائل والمرجعيات المصطنعة بلا أي منطق ولو موضوعي.

مع كل المحاذير الخطرة والمدمرة لمثل هذه الوثيقة؛ إلا أن العناد كان سيد الموقف. وبعد بضعة أيام، خرج زهير سالم، الناطق الرسمي باسم « الإخوان المسلمين» في سوريا، على قناة « الجزيرة» ليعلق على الاعتراضات التي طعنت في الوثيقة، على خلفية قبولها بولاية الكافر على المؤمن. فقال: « لنكن صريحين .. فالذي يقبل بالديمقراطية وشروطها عليه أن يقبل باستحقاقاتها .. لا يجوز أن نتحدث عن العدالة والمساواة والحرية ثم نضع الشروط المانعة»!!! فهل الحكم الشرعي من الشروط المانعة؟ وهل عقيدة الأمة وهويتها من الشروط المانعة؟ وهل الخوف على مصير سوريا ومستقبلها من الشروط المانعة؟ وهل ثمة ضمانة منطقية واحدة، ولو موضوعية، تبرر إصدار مثل هذه الوثيقة!!!؟

بطبيعة الحال لم يتوقف العناد عند هذا الحد، بل أن محتوى الوثيقة جرى التأكيد عليه في مؤتمر القاهرة للمعارضة ( 2 – 4 / 7 / 2012). هذا المؤتمر، الذي تحول إلى حلبة ملاكمة، بالكراسي والأيدي، فيما بين المؤتمرين، تجرأ على إصدار وثيقة باسم « العهد الوطني – 3/7/2012» لا تليق إلا به وحده، ولا تلائم إلا رغبات « المركز»، المحارب لكل ما يمت للإسلام بصلة. وبحسب الوثيقة: « يحقّ لأيّ مواطن أن يشغل جميع المناصب في الدولة، بما فيها منصب رئيس الجمهوريّة، بغض النظر عن دينه أو قوميّته، رجلاً كان أم امرأة». أما هوية الشعب السوري فجاءت أشد وضوحا مما جاء في وثيقة « العهدة الوطنية»، إذ أن العلاقة الوحيدة التي تربط الشعب السوري بغيره من الشعوب العربية الإسلامية ليست سوى (1) علاقة تاريخية مشتركة، أو مجرد (2) قيم إنسانية ذات علاقة بالسماء!!! ووفقا للنص: « تربط الشعب السوري بجميع الشعوب الإسلامية الأخرى جذور تاريخية مشتركة وقيم إنسانيّة مبنية على الرسالات السماوية».

لكن أطرف ما في الوثيقة أنها استكثرت في متنها، ولو من باب ذر الرماد في العيون أو رفع العتب أو التحرص من ردود الفعل، ذِكْرَ اسم « الله» الأعظم في أية صيغة كانت، ولو في صيغة ابتدائية كـ « البسملة» أو اعتراضية كـ « الحمد لله» أو « إنشاء الله»، ولا حتى كلمة « الإسلام». وذات الأمر حصل في الإعلان المسمى بـ « إتفاق الدوحة بين أطراف المعارضة السورية ١١ / ١١ / ٢٠١٢ حول الإعلان عن تشكيل « الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، والذي ترأسه الداعية أحمد معاذ الخطيب!!!

وغني عن البيان أن هذا الفعل الهجين لا يتصل بـ « المساواة» ولا بـ « العدالة» ولا بـ « الحرية». كما أنه لا ليس بسقطة أو غفلة بقدر ما هو فعلٌ متعمدٌ وعدائيٌ ومنكرٌ ومصرٌ على محارب الله ورسوله والمؤمنين. إذ لا يمكن استبعاد الإسلام كليةً ثم الزعم بأن الشعب مسلم، ولن يستطيع أحد أن يغير هذا الواقع. ولا يمكن إدارة الظهر لعقيدة الأمة ثم الادعاء، زورا وبهتانا، بأن القانون يضمن حرية العقيدة. ولا يمكن القول بالتعددية الطائفية وحقوق الأقليات ومشاركتها التامة في السلطة وتمكينها من النفوذ بالشروط التي ترتضيها ويرتضيها « المركز» ثم تبرير هذا الزعم بالحرية والمساواة!!! فكيف يتساوى من قدم أفدح الخسائر لاستعادة حريته وحرية الأمة ودينها وتاريخها وهويتها بمن هو مسؤول عن ارتكاب أفظع الجرائم والموبقات؟ بل ما هي هوية سوريا في ظل هذه التعددية التي تعلن كل طائفة فيها أو أقلية أو إثنية عن هوية وانتماء وولاء لا يمت بصلة إلى العروبة والإسلام؟


ثالثا: انتقال السلطة


الثابت لدينا أن « المركز» لم يسبق له أن تحدث عن « إسقاط النظام» بقدر ما ركز على « إسقاط « الأسد» أو « عائلة الأسد» على أبعد تقدير. لكنه تحدث مرارا عن « التغيير» أو « الانتقال السلمي» للسلطة. أما الانتقال، في سوريا، فيعني بقاء النظام أو إعادة إنتاجه بنفس الأدوات التي دمرت سوريا، لكن بمواصفات ومعايير جديدة، تستجيب لحدث صار تجاوزه أو غض الطرف عنه من ضروب المستحيل. كما أن الانتقال يعني استحالة المراهنة (على) أو السماح ( بـ ) وقوع انقلاب عسكري يطيح بالأسد، وكذا منع الرئيس من مغادرة السلطة، تجنبا لوقوع فراغ سياسي. ولو أن النظام في سوريا بات خارج السيطرة والمراقبة والتحكم الدولي لكانت ضربة واحدة كـ « خلية الأزمة» كافية لإسقاط أعتى النظم الاستبدادية. فما هي أسس « انتقال السلطة» لدى « المركز»؟ وماذا تعني « الدولة المدنية» بعرفه؟

• المبدأ الأول: منع قيام حكم سني

تعني منع قيام حكم سني. ولا شك أن أوضح التصريحات الفاضحة، في هذا الصدد، هي التي أدلى بها أحد رموز « المركز» وحمل فيها سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، بشدة على قادة الغرب، عبر إذاعة « كومرسانت إف إم – 21/3/2012». فقال: « إنّ الصراع يدور في المنطقة كلها، وإذا سقط النظام الحالي في سوريا، فستنبثق رغبة قوية وتُمارس ضغوط هائلة من جانب بعض بلدان المنطقة من أجل إقامة نظام سنِّي في سوريا، ولا تراودني أي شكوك بهذا الصدد». وجاءت هذه التصريحات ردا على ما بدا للروس انتهازية سعى من ورائها الشق الغربي من « المركز» إلى تحسين سمعته الدموية في العراق وأفغانستان، عبر التباكي على الحرية وحقوق الإنسان والمذابح المروعة في سوريا، في حين أن المشكلة كما قال ألكسندر أورلوف، السفير الروسي في باريس (20/7/2012)، تكمن في حماية النظام الدولي وليس فيما يزعمه الغرب من دعم للرئيس السوري. ومن الواضح أن لافروف يحذر صراحة وباستهجان من قيام حكم سنى، حتى ولو علماني، ولسان حاله يقول: « أتريدون حكما سنيا في سوريا»!!!؟ وبعيدا عن المناكفات ذات الجدوى!! فلا شك أن « المركز» سيجتهد لمنع قيام نظام ينتسب إلى السنة، بقطع النظر عن كون غالبية السكان من السنة. لأن دولة يحكمها السنة تمثل، بالنسبة لـ « المركز»، خطرا شديدا على أمن النظام الدولي ومستقبله.

المبدأ الثاني: منع تفكيك النظام

لكن صراحة ليون بانيتا، وزير الدفاع الأمريكي، لا تقل عن صراحة لافروف وتحذيراته. بل أن التوافق على ترتيب انتقال سلمي للسلطة وفق الشروط الدولية بات على كل منبر، وحديث كل مقالة، وفي كل محفل ظاهر وباطن، وعلى النقيض من البيانات العنترية للمعارضة المنادية بإسقاط النظام ومحاكمة هذا وذاك وإقامة دولة مدنية وتعددية وما إلى ذلك ... ، كل هذه البيانات هدمها ليون بانيتا في مقابلة تلفزيونية ( 31/7/2012 )، وثبت النظام القائم حين أكد: « إن الحفاظ على الاستقرار في سوريا سيكون مهما وفق أي خطة تتضمن رحيل الأسد عن السلطة، وأن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هو الحفاظ على أكبر قدر من الجيش والشرطة متماسكاً». وهو ما أكدته لاحقا وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون 12/8/2012 بالقول: « يتوجب على الشعب السوري قيادة عملية الانتقال السياسي وأن يحافظ على سلامة المؤسسات السياسية بالبلاد».

ولعله كان مثيرا ذلك التبرير الذي قدمه بانيتا تعقيبا على تصريحه هذا؛ حين سئل عن سبب رغبة الولايات المتحدة في الإبقاء على مؤسسات النظام في سوريا وعدم حلها، فقال: « حتى لا نكرر خطأ العراق»!!!! وهو زعم فيه من النفاق والزور والكذب والبهتان العظيم ما لا تحتمله حتى العقول البائسة. فالعراق كان دولة يحكمها من انتسبوا إلى السنة إلى أن احتلتها أمريكا، وهدمت كافة مؤسساتها، ثم سلمتها للشيعة على طبق من ذهب، في حين أن النظام السوري طائفي أصلا، وكذلك هي مؤسسات الدولة!!! فما هي مصلحة الولايات المتحدة في هدم نظام ودولة وطائفة استئمنت تاريخيا على أمن النظام الدولي واستقراره وحماية « إسرائيل»!!!؟

• المبدأ الثالث: دولة الطوائف؛ وخاصةَ!

خلال اجتماعات المجلس الوطني في الدوحة تطوع المجتمعون بانتخاب جورج صبرا على رأس الأمانة العامة، كتعبير واضح عن قبوله قواه الكبرى أطروحة « المركز». وغداة الإعلان عن « الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية – 11/11/2012»، التشكيل السياسي الجديد في العاصمة القطرة – الدوحة، كان أول مطلب أمريكي ورد في تعقيب الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، على الإعلان حريصا على مستقبل الطوائف: « إن إحدى المسائل التي سنواصل التشديد عليها هي التأكد من أن هذه المعارضة تتجه نحو سوريا ديموقراطية ومعتدلة وتشمل كل المجموعات»!!! ومن جهته أدلى أول من اعترف بـ « الائتلاف الوطني»، فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي، وبعد ساعة ونصف من لقائه رئيسه، أحمد الخطيب، بتعليق تناول فيه الحكومة الانتقالية العتيدة (17/11/2012)، كشف فيه عن أنه: « سيكون هناك سفير لسوريا في فرنسا معين من قبل رئيس الائتلاف»، وفعلا صار هناك سفير من الطائفة « النصيرية» هو منذر ماخوس!! كما ذكَر ضيفه، في مؤتمر صحفي، بما يتوجب على الحكومة العتيدة الالتزام به: [ إن الحكومة المقبلة التي سيشكلها الائتلاف يجب أن تضم « كافة مكونات سوريا» خصوصا « المسيحيين والعلويين» ].

• المبدأ الرابع: الأولوية لحقوق الأقليات والطوائف وليس للشعب

وإذا كان فرانسوا هولاند قد اختص المسيحيين والعلويين بالأولوية فقد قدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، « كل الطوائف والأقليات على الشعب السوري». وكان في موسكو، أشد صراحة وأكثر وضوحا، خلال مؤتمر صحفي مشترك (15/11/2012) رفقة أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية، حين أعلن: « إن موقف بلاده يعطي الأولوية لتحقيق اتفاق حول المستقبل، وإنه يجب أولا تفهم كيفية ضمان احترام المصالح والحقوق المشروعة لمختلف الطوائف والقوميات قبل البدء في التغيير، وليس تنحية الرئيس السوري بشار الأسد»، ثم التفكير في الخطوة التالية!!!

المبدأ الخامس: آليات التنفيذ

هكذا فإن كل ما بقي من أمر « انتقال السلطة» ربما يجده بوتين في الاجتماع القادم لـ « أصدقاء الشعب السوري»، والذي سيعقد في مراكش ( 12 /12/2012 )، بمشاركة وزيرة الخارجية الأمريكية، وبحضور: « أكثر من مائة وفد وأعضاء الائتلاف الجديد للمعارضة السورية، إضافة إلى: « ممثلي المنظمات الدولية والمجتمع المدني». وبحسب ما أعلنته وزارة الخارجية المغربية فسيركز المؤتمر « خاصة» على ما يروق للرئيس الروسي كالبحث عن: « وسائل تأمين الانتقال السياسي»!!! ويبدو أن هذا المؤتمر الذي لم يفعل شيء للثورة السورية منذ انطلاق أولى اجتماعاته سيجد له، هذه المرة، عملا دسما في مراكش.

فهل بعد كل هذا بقي شيء للشعب السوري من « الدولة المدنية» أو « دولة القانون» التي تلوح بها المعارضة بديلا عن « الدولة الأمنية» في حين أنها ليست سوى « سلطة طوائف؟ وهل ستحظى الغالبية من الشعب السوري بالحرية والعدالة والمساواة والتسامح إذا كان الروس قد حرصوا، قبل « التفكير بالخطوة التالية»، على تقديم مصالح وحقوق الأقليات على مصالح وحقوق شعب برمته؟ وهل ثمة من يحق له لوم القوى الإسلامية، وكذا القوى المسلحة الأخرى للتشكيلات السياسية والعسكرية الجديدة، التي خرجت من رحم ضغوط وصلت إلى ما يوازي « سجن» الوفود و « عزلهم» خلال « اللقاءات التشاورية» التي انعقدت في العواصم العربية!!!!!؟


رابعا: رد القوى الإسلامية


على كل حال؛ فليست ميادين الثورة والقتال هي التي مهدت لكل هذه الاختراقات والتنازلات والانحطاط في الخطاب السياسي للمعارضة، فالغالبية الساحقة من كتائب الثورة ومقاتليها وأهلها، فضلا عن عامة الناس، تتجه نحو الإسلام، وتلتجئ إلى الله، طلبا للحماية وتوسلا إليه بالنصر والرضى. أما المعارضة السياسية فالواقع يؤكد أنه لم تأخذ بنظر الاعتبار أية تطلعات اجتماعية للمدنيين والعسكريين. ولم يعد لها من هّمْ إلا التنصل من كل حق لله وللعباد، ولم تجد من تلتجئ إليه إلا « المركز» وشياطين الإنس والجن. ولم تحرص إلا على جرّ الناس إلى الهاوية التي تسعى إليها طائعة.

أما ما بدا سطو على الثورة وإنجازاتها وسمتها الإسلامي؛ فقد تصدت له التشكيلات الإسلامية المقاتلة في مدينة حلب حين أصدرت بيانها المرئي الشهير في 18/11/2012. وبموجبه أعلن 14 تشكيلا عسكريا رفضه للتشكيلات السياسية الجديدة. وقال البيان: « نعلن نحن التشكيلات المقاتلة على أرض حلب وريفها رفضنا المشروع التآمري لما سمي الائتلاف الوطني، وتم الإجماع والتوافق على تأسيس دولة إسلامية عادلة». كما رفض البيان: « أي مشروع خارجي من ائتلافات ومن مجالس تفرض علينا في الداخل من أي جهة كانت». أما القوى المعنية فهي:

• جبهة النصرة؛
• لواء التوحيد؛
• كتائب أحرار الشام؛
• أحرار سوريا؛
• لواء حلب الشهباء الإسلامي؛
• حركة الفجر الإسلامية؛
• درع الأمة؛
• لواء عندان؛
• كتائب الإسلام؛
• لواء جيش محمد؛
• لواء النصر؛
• كتيبة الباز؛
• كتيبة السلطان محمد؛
• و لواء درع الإسلام.

بطبيعة الحال فالبيان يمثل نوعا من الانكشاف الأمني والسياسي للقوى الإسلامية في منطقة حيوية تتربص بها قوى الاستخبارات العالمية كمدينة حلب. لكنه بدا ضرورة ملحة، للقوى الإسلامية، للرد، بمشروع مضاد، على التشكيلات السياسية وما تحمله من مشاريع ذات مرجعية ومطالب دولية وليست محلية كما يحاول البعض أن يروج. والحقيقة أن الكثير من القوى الوطنية رفضت هذه التشكيلات وأطروحاتها ومطالبها وما بدا ارتباطات لها بـ « المركز». وقد شهدت العديد من المناطق في سوريا لافتات تجاهلتها وسائل الإعلام، كونها تعاكس في المضمون والاتجاه ما دعا إليه أحمد الخطيب من شعارات كتلك التي ظهرت مثلا في قرية بنش.

ومع أنها ( المعارضة السياسية) وصلت الليل بالنهار وهي تتحدث عن الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والتسامح، إلا أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها، ومارست أقصى درجات الإقصاء بحق المخالفين. ولم تر في البيان إلا مصدرا للفتنة وشقا للصفوف!!! وشرعت في ترقية حملات تشويه لم تتوقف، قبل التشكيلات الجديدة وبعدها. وبدا لها أن المحلل على بلابل الدوح محرم على الطير من كل جانب. وتناست المعارضة أن أحداً في الثورة والشعب السوري والأمة لم يفوضها بتعمد إقصاء العقيدة مرات ومرات، والتفريط بهوية البلاد والعباد، والخضوع لشروط « المركز» ومطالبه، والتمهيد لاختراق صريح في الساحة السورية، والتحضير لفتن قادمة يعلم الله وحده إلامَ ستؤول نهاياتها.

ورغم أن الدولة الإسلامية وتحكيم الشريعة هي حلم كل مسلم للخلاص من الهيمنة والتبعية والفلسفات الوضعية ودساتيرها وقوانينها الجائرة، إلا أن البيان كان يحمل، بدايةً، ردا على المحاولات المحمومة لإقصاء القوى الإسلامية العاملة على الأرض وغيرها من القوى المناهضة والرافضة للتشكيلات الجدة وأطروحاتها السياسية المستوردة. والثابت، وفق نص الإعلان، أنه تحدث عن « توافق» بين المجتمعين « على تأسيس دولة إسلامية عادلة» في مقابل مشروع « الدولة المدنية» أو بالأصح « دولة الأقليات» المنتظرة. ولم يكن إعلانا صريحا لميلاد « الدولة الإسلامية».

أما ردود الفعل من بعض القوى الإسلامية فلم تكن على خلفية الإعلان بل على خلفية الخشية من افتراق الجماعات الإسلامية بعد أن أصدرت « كتائب أحرار الشام» بيانا في اليوم التالي (19/11/2012) تنصلت فيه مما ورد في بيان « التشكيلات المقاتلة»!! ولما لاحظت « الكتائب» وجود قوى تنشط في استغلال موقفها خاصة ضد « جبهة النصرة» أصدرت بيانها الثاني في 20/11/2012 بعنوان: « كتائب أحرار الشام و مشروع الأمة»، لقطع الطريق على ما اعتبرته « الاصطياد في الماء العكر». وجاء فيه:

« سارع البعض لاستغلال الحدث، وصنّف كتائبنا كمتبنّية وداعمة لمشروع الائتلاف الوطني السوري، والحقيقة أننا لم نستشر في إنشائه وليس لنا أية صلة بأعضائه، تنظيميةً كانت أم تحالفية. وزاد البعض الآخر في الاصطياد في الماء العكر، محاولاً إظهار انقسامٍ متخيّلٍ في صفوف المجاهدين في الداخل السوريّ حيال غايةٍ؛ جلُّ من يجاهد في سورية يتطلع لأن يراها واقعاً قائماً، والحقيقة أن بعض الإخوة انطلقوا في بيانهم من محبّة صادقة للدين، وخوف من تَخطُّفِ ثمرة جهادهم وتبنّي طروحات لا تمتّ لمشروع الأمة ورؤيتها بصلة. فأصدروا بياناً دون الرجوع إلى القيادات ومدارسة جدوى وواقعيّة الطرح».

واضح من بيانات القوى الإسلامية أنها اجتهدت في مواجهة التطورات الجديدة. والأوضح أن اجتهادها، بخصوص المشروع الإسلامي الذي يأتي ردا على المشروع العلماني الطائفي، لا يخرج عن صميم السياسة الشرعية التي تتسع للتباينات وليس للافتراقات. وهو ما حرصت « أحرار الشام» على بيانه والتأكيد عليه.

سؤال:

هل يمتلك « المركز»، في مشروع التعدد الطائفي، عناصر للحل أم عناصر للانفجار؟ ذلك هو السؤال الذي يسبق أية أسئلة أخرى قد يكون الميدان أقدر على الإجابة عليها من أي تحليل. ومن حيث المبدأ فقد أثبتت التجارب أن « المركز» لا يسمح بمرور « حاكمية الشريعة» في أي مشروع إسلامي. وفي نفس الوقت يبدو من شبه المستحيل أن يقبل السوريون بدولة جديدة تحكمها الأقليات والطوائف بعد ستين عاما من الدم والهدم والرعب. وليس من المتصور أن يفلت السوريون من القطرة ليقعوا تحت المزراب.

فالطائفة التي أوغلت إيلاما وقهرا في الجسد السوري، هي ومن حالفها، لا يمكن أن تكون شريكة في السلطة إلى جانب الطوائف الأخرى، ولا يمكن أيضا الحديث العبثي عن تصفيتها. أما الممكن الصحيح فهو الإقرار بأن الطوائف باقية دون أدنى شك، وأن حقوقها ستبقى محفوظة شرعا وعقلا وأخلاقا إلا من أصاب منها دما حراما. والحل المنطقي الوحيد، الذي يعيد للجميع حقوقه، يكمن في تجريد « النصيرية»، على وجه التحديد، من كل نفوذها، ومن تملكها للمجتمع والدولة، ومن كل عناصر قوة التي تمتلكها، ومنعها من المشاركة في السلطة لقاء ما ارتكبه أبناؤها من جرائم وحشية، وخشية من إفساح المجال لها ثانية للسطو على الدولة والمجتمع. ومن المؤكد أن « المركز» لن يقبل بهذه النهاية، لكن من الممكن الوصول إليها، وفرضها بالقوة إذا نجحت قوى الثورة قاطبة، بدعم من المجتمع، أن تُحدِث فارقا عسكريا على الأرض ضد النظام. وحينها فقط يمكن الحديث عن « إسقاط النظام» وليس « إسقاط الأسد» فحسب. وإلى ذلك الحين، وطبقا للظروف الراهنة، وحتى لا يجري تعميم دول الطوائف على الأمة، حيث لن يفلت منها بلدا، فمن المؤكد أن إبل الثورة ستكون خيرا للثورة والثوار من خنازير أوباما.

يتبع ....

نشر بتاريخ 23-11-2012
  #29  
قديم 27-12-2012, 12:42 PM
الصورة الرمزية غراس الجنه
غراس الجنه غراس الجنه غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: May 2010
مكان الإقامة: الدولة الإسلامية في العراق والشام
الجنس :
المشاركات: 4,283
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي

  #30  
قديم 27-12-2012, 07:20 PM
راغبة في رضا الله راغبة في رضا الله غير متصل
مشرفة ملتقى طب الاسنان
 
تاريخ التسجيل: Feb 2011
مكان الإقامة: سوريا الجريحة
الجنس :
المشاركات: 4,393
الدولة : Syria
افتراضي رد: الثورة السورية ومسارات التدويل -البيادق والعرّاب/د اكرم حجازي

جزاكِ الله خيرا ياغراس
__________________
اللهم فرج همي ..
وارزقني حسن الخاتمة..
إن انقضى الأجل فسامحونا ولاتنسونا من صالح دعائكم ..
& أم ماسة &
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 288.44 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 282.68 كيلو بايت... تم توفير 5.76 كيلو بايت...بمعدل (2.00%)]