|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (1): د. توفيق العبيد ( كتاب لا تنقضي عجائبه) (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) [سورة يوسف 1: 3] في أيامنا هذه التي تعصف بها المحن على أمتنا الإسلامية، حتى من هولها يكاد الحليم يكون حيرانا، يتلمس طريق النجاة .. كانت العودة للكتاب الخالد، والتدبر في معانية، ومقاصده، حبل النجاة الذي لا ينقطع ما امتد الدهر، أو اشدت الصعاب .. بجهد المقل، وبتأمل في القرآن الكريم، تلمست بعض الدروس والعبر من قصص أنبياء الله تعالى، سادة وقدوة البشر. كانت سورة يوسف عليه السلام محط النظر، ومداد الفكر بما سيخطه القلم. طالعت مطلع تلك السورة العجيبة، وتأملت في نسقها، وتناغم معانيها… فكان العجب ! يا لها من آيات لذلك الكتاب المبين! كتاب لا غموض فيه، رسالته واضحة، لا حاجة ليخفي منهجه، فهو يحمل الحق والعدل ورفعة البشرية. إنه ليس ككتب البشر التي تسطر كلماتها في أقبية الظلام، لتهلك الحرث والنسل، ولكنه بيِّن واضح لكل من يهوى معرفة الحقيقة. ويا لعجيب أمة نزل بلغتها كلام ربها! ثم بعد ذلك يهجرون تلك اللغة، التي هي مفتاح الدخول لعالم القرآن الذي رسم بها ما يسعدهم، ويرشدهم لطرق السيادة والقيادة والسعادة. ليتهم عقلوا أن القرآن هو الذي عزهم، وليتهم جعلوه منهجهم ودستورهم. ليتهم يدركون أن الله اصطفاهم بكتابه، ورفعهم بالذود عن حياضه، فلما باعوا عقولهم لزخرف الغرب وبهرجه صاروا لغيرهم أذلة. كتاب الله فيه أحسن قصص، وأبدع بيان، وأصدق قول، وأفصح لسان. لم تكن الأمة قبله موجودة، بل لا تملك مقومات الوجود، وأنى لها ذلك وأساس البناء للحضارات وهو العلم مفقود ؟ فلما جاءهم الكتاب، وحفظه الأصحاب، وانطلقوا به للآفاق صاروا أمة، وبنوا مجدا وحضارة. حقا .. كتاب فيه أحسن القصص وأعظم العبر، فهو وحي من الله، وقد كنا قبله في غفلة وضلال مبين، وعدنا لها لما جعلنا وراء ظهورنا واشتريناربه ثمنا قليلا . لخصت هذه الآيات التي كانت بمثابة تمهيد بين يدي السورة فحوى السورة كلها. لخصته بإيجاز وإعجاز عجيبين، فكل السورة واضحة المعالم، فهي سورة من كتاب مبين، رسمت حروفه بإعجاز منقطع النظير، وهي من أحسن القصص، وهي دروس لأمة تريد العيش بحرية وكرامة، وتخرج من ظلام أزماتها إلى أنوار المعرفة واليقين. ومع ختام هذه المقدمة القرآنية لسورة تحكي ملحمة إنسانية، تبدأ الآيات التالية لترفع الستارة الأولى لبداية رحلة يوسف التي تبدأ بحلم.
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (2): د. توفيق العبيد ( الأمجاد تبدأ بحلم ) (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [سورة يوسف : 4] يستكثرون علينا أن نحلم بمستقبل أجمل لنا ولأبنائنا ولأمتنا .. يحاولون زج الصعوبات أمام أحلامنا كي لا نفكر في تحقيقها .. لو استطاعوا لمنعونا أن نحلم .. بين يدي بداية الحديث عن حلم صار مجدا .. وعن تعب خلف سعادة على أمة بثبات فرد وحين اتصاله بالله. نام يوسف عليه السلام، ليبصر مستقبله العظيم، في رؤيا عجيبة، لم ير مثلها بشر قط، ولتكون تلك الرؤيا إيذانا برحلته نحو المجد، وعبر مصير ومحن لم يكن يعلمها، ولا يدري بها. إن غالب الناجحين بدأ نجاحهم بحلم، وساروا معه، وعاشوه حتى صار واقعا. لقد رأى ملكة السماء وهي الشمس مع طاقمها - السابح في ملكوت الله - تسجد له، كان عددهم أحد عشر كوكبا .. أشرقت الشمس التي رآها في المنام له ساجدة، ومضى يقص الحلم على أبيه، وياله من حلم عجيب! أتساءل: منذ متى كانت الكواكب والشمس والقمر تسجد لأحد؟ وهي المقيمة في علياء الكون، تطوف في فضائه بأمر ربها، كل في فلك يسبحون؟ بل لماذا يري الله يوسف تلك الرؤيا بتلك الرمزية التي تؤول لاحقا بإخوته الأحد عشر، وبأبويه الشمس والقمر؟ إنها إشارة إلى علو مقام الأخوة لو كان الإخوة يدركون! وإلى قداسة الأبوة لو كان أهل العقوق يعقلون. بل إنها تصف الرابط والصلة العجيبة بين الأب وابنه، في قوله: ( إذ قال يوسف لأبيه): إذ لم يكن أبا فحسب، بل كان الأب والأم والصديق، الذي نال ثقة ابنه، فراح يخص والده بأدق أمور حياته. فهل يتعظ الآباء الذين يناصبون أبناءهم العداء؟ أم هل ينتبه الأبناء الذين عقوا الآباء لأهمية الاب في حياتهم، وكونه السند لهم؟ يا إخوتي: إن ابنا لا يجد أذن أب صاغية له سيذهب لطريق آخر يبحث عمن يسمعه، ولربما لا يجده، ويجد من يقوده لطريق الدمار والخراب. وتأمل معي أي احترام وقداسة للأبوة تلك التي عاشها يوسف في تعامله مع أبيه، (يا أبت)، نداء ترجم الحنان، والحب، والاحترام. ومع الحلم كانت البداية التي تكشف عن مشهد يفتح الطريق لحكاية تبدأ لتستمر.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (3): د. توفيق العبيد (رواية حلم ونذير خطر) (قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [سورة يوسف : 5] من نافذة الحنان أبصرت ثمرة يانعة، مذاقها المودة، وريحها البر والصلة. ما أطيب ثمرة بر الابن وحنان الأب إذا امتزجا! إن ذاك التمازج يعزز ترابطا أسريا ينعكس ظله على تلاحم وتواصل المجتمع بأسره. إن الأب الذي تلقّى كلمات الود والاحترام والبر من ولده، يخاطب ذلك الابن بذات الأسلوب العاطفي السامي: ( يابني). يا لعجيب هذه الآيات، كيف ترسم لنا معالم النجاح بأسلوب أخَّاذ، يجعل الأمل يأخذ بيد الحلم ليحوله مع الثبات والإصرار إلى حقيقة تعانق عالم الشهادة، بعد أن كان في رحم الغيب . نحن نحلم بوطن حر كريم، وآخرون يسخرون من أحلامنا، وآخرون يتربصون بها، ولكن الأيام ستثبت لهم أن أحلامنا لم تكن أضغاثا لا واقع لها. بحنان الأبوة الحرَّى، وبلوعة أب أبصر من الخطر المحدق بولده بعض خيوطه، يتوجه يعقوب الأب، بالنصح لولده، أن يخفي رؤياه عن إخوته، فلا ينبغي أن نحدث أيا كان بتلك الأحلام، فلطالما أوقف الحسد تحققها!!! الرؤى قصص وليست مقالا أووخاطرة، إذ أنه في لحظة نوم يسجل العقل أحداثا تحتاج لكتاب لتدوين تفاصيلها، فليس أدق من وصفها بالقصص في قوله: ( لا تقصص رؤياك). إن كانت الآية التي قبلها ترمز للأخوة بالكواكب، وتشير كما قلت إلى قداسة تلك الرابطة فما بال الآية هنا تحذر من كيدهم؟!! الجواب يسطره آخر كلام يعقوب عليه السلام: "إن الشيطان للإنسان عدو مبين". إن من أخرج أبا البشرية من الجنة، لا يصعب عليه تأليب الأخوة على أخيهم، فالخوف ليس منهم بل من شيطان قد يغلبهم بوسوسته فيفعلون ما لا تحمد عقباه. وهنا أجدني أمام سؤال يفتح آفاق التامل أمامي: من يقص رؤياه على أحد ألا ينتظر عادة منه تأويلها؟ أليس يعقوب عليه السلام نبيا فلم لم يؤل رؤيا ولده؟! ذلك أن حكمة الله اقتضت أن يغيب عن يعقوب تأويل تلك الرؤيا، لكي تمضي سنة الله في أن يكون في خبر يوسف وإخوته العبرة والعظة. وليكون يعقوب نفسه أحد رموزها، ولو علمها لما أدركنا الدروس من فراق يعقوب ليوسف، ولا عرفنا كيف نثق بالله، وغيرها من العبر التي أجراها الله على نبيه يعقوب وهو لا يعلم. ولكنه في الوقت ذاته كان يستشعر بأن لابنه شأناً عظيماً. فقد أراد بالنصح له بعدم الإخبار لإخوته، أن يعطينا درسنا عظيما، بأن الناجحين لا يخبرون أحدا بأحلامهم كي لا يغتالها الحاسدون قبل تحققها. أما آن لنا أن ندرك أهمية الكتمان في مسيرة النجاح؟! إن البيانات التي يصدرها الثوار اليوم قبل بدء المعارك، هي كمن يبيع الدب قبل صيده، بينما في المعارك التي لها سياسة المباغته للعدو، هي الناجحة. الآية بإيجاز تحوي درسا مفاده: اخف أحلامك وامض في تحقيقها، فالحديث عنها قبل القدرة عليها يجعلها عرضة للموت قبل النمو. وتستمر الآيات لتفتح الآفاق أمام تأملاتنا، لتحكي ما أنعم الله به على يوسف وآل يعقوب، في أسلوب تصويري للقصة مبهر معجز.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (4): د. توفيق العبيد (اصطفاء الله لأوليائه) (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة يوسف : 6] قصَّ يوسف عليه السلام رؤياه على أبيه، وأبصر الوالد من خلف رؤياه خيرا محفوفا بخطر ربما لم يدركا أبعاده، ولكنها فطرة الأبوة الحانية، التي تهمس في حنو ووجل: "لا تقصص رؤياك على إخوتك". تذكرت وأنا أتأمل خوف يعقوب وتحذيره، نداء حانيا لطالما هز وجداني، وحرك أشجاني، وأبكاني، يوم نادى نوح ابنه : ( يابني اركب معنا)، ولكن الابن عقَّ أباه، وحال الموج بينهما، وكان الغرق مآله والقبر مأواه. وظلت عاطفة الأبوة تنزف والقلب يتضرع، حتى أتاه النبأ: إنه ليس من أهلك. ليت الأبناء يدركون أي وجل يتملكنا عليهم ونحن نعظهم من خطر نبصره ولا يبصرونه، ونعظمه ويحقرونه. كانت رؤيا يوسف عظيمة، وتشير إلى مكانة يريدها ربه له، فراح الأب يزف لابنه بشرى الاجتباء والاصطفاء من رب الأرض والسماء. هكذا يجب أن نعامل من أتانا هاربا من خوف أصابه، أو رؤيا أهالته وأطارت صوابه، بالتطمين، والتشجيع، فتلك الإيجابية في التعامل لها وقعها في تحفيز النفس نحو الخير. يا للمكانة التي نلتها يا نبي الله بوسف!!! إنَّ الذي يجتبيك ليس ملكا انحنت العمائم أمام دنياه، تزين إجرامه وفساده وفق هواه… وليس غنيا تتزلف النفوس الضعيفة إليه وتقبل ذلا يداه. إن الذي سيجتبيك هو الله . يارب سبحانك!!! سبحانه، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله، ولا يعترض عليه ذو عقل بعقله. أنت القادر على أن ترفع وتخفض، وتعز وتذل، وتعطي وتمنع، تعطي من تشاء بفضلك وتمنع من تشاء بعدلك.. ومع هذا جعلت للاجتباء والاصطفاء طريقا واحدا لا ثاني له، إنه العلم. وبعد حين سنجد كيف يرفع الله الابن فوق أبيه، لا بقوة ولا بجاه، ولكنه بالعلم، وقد سبق أن رفع الله سليمان على داوود عليهما السلام وكلا آتاه علما وحكمة: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الانبياء : 79] ولما ذكر سليمان نعم الله عليه، كان أولها ![]() ولما أراد الله إقامة الحجة على ملائكته بشأن آدم، علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة، فلما عجزوا، أَمَر الله آدم أن يخبرهم بها، ليدلنا على أنه لا رفعة بغير العلم. يامن لا تحسنون تلاوة القرآن كيف تفتون بفهم ما لاتحسنون تلاوته؟! بل كيف تستبيحون دما لا تعظمون حرمته؟! اعلموا أن الحكم لا يثبت بالسلاح، ولكن يثبت بالعلم، ولطالما غلب دهاة الحروب جيوشا جرارة بعلمهم وخبرتهم. ولكن ليس كل علم يرفع صاحبه، فلابد من العلم الذي يحتاجه الناس، فمن درس علما لا يحتاجه الناس لم ينل الرفعة ولا المكانة. وما أحوج الناس لعلم الرؤى اليوم لا سيما لأمة عدد ساعات نوم أبنائها أكثر من عملهم وابداعهم!!! أكثر الكتب مبيعا في مكتبات المسلمبن اليوم هي كتب الطبخ وتأويل المنامات؛ لأننا أمة اهتمت بالنوم والطعام فخضعت رقابها لحكام الظلام. "ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب"، ذلك أن صلاح الفرد ينعكس على أسرة بأكملها: العلم يرفع بيتا لا عماد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم ولأن العلم طريق نجاح وتحقق حلم يوسف، كانت خاتمة الآية :{ إن ربك حكيم عليم}. حكيم بجعل الأمور في مكانها ونصابها. عليم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. ويسدل الستار على مشهد يوسف مع أبيه، ليرفع في الآيات التالية عن مشهد جديد إيذانا بنهاية المقدمة. وبداية رحلة نخوضها في أعماق التاريخ، فنبصر طفولة وصراعا، ورحلة عناء ما كانت في حساب يوسف ولا حساب أبيه.
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (5): د. توفيق العبيد آيات للسائلين (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) [سورة يوسف : 7] بدأت الحكاية، ورفعت الستارة عن أول مشاهد قصة ملحمة الإنسان. المشهد يلمح بأن ثمة صراع بين النفس التي تلوثت بالحسد، فأخرجت علقما أسودا مرا، وخلصت لفعل ضعفت أمامه علاقة الأخوة، وبين الفطرة طمست وعلا صوت الحسد فيها لتتولد المأساة. يا لعجيب بيان القرآن! إنه يتكلم ويجيب عن حوارات تدور في النفس، بل وقبل أن تنطق الشفاه بها كان الجواب حاضرا. فحينما حذر يعقوب عليه السلام ولده من كيد إخوته، لا شك أن منا من تساءل: أليس المفترض أن يفرحوا لما سيكون لأخيهم من خير؟ أليسوا سينالهم من ذلك الخير خير؟! فلم يكيدون لمن سيكون مصدر خير لهم؟ لأجل هذا التساؤل الخفي كانت الآية الكريمة: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) لم يقل آية، بل آيات كثيرة. إن الجواب أكبر من أن تحويه سطور، لذلك اختصر الجواب بقوله: ( آيات للسائلين). وجاء بكلمة ![]() ولهذا جاءت الآية التالية تستفتح بقوله: (إذ قالوا)، في إشارة إلى أن المتساءل سيجد الجواب ابتداء من رفع الستارة عن أولى مشاهد القصة. إن قصة يوسف وإخوته تحكي صراع نوازع الفطرة والغريزة مع الإيمان في معركة ليست من السهل بمكان، وينتصر في نهايتها الإيمان. تلك الآيات التي جعلها الله في قصة يوسف عليه السلام هي التي سنبحر في أعماقها لنستخرج اللآلئ الثمينة. هاقد بدأنا نعود للزمن الماضي، وها نحن على أبواب تاريخ يمتد لآلاف السنين، لنعيش أولى أحداث القصة، في تصوير للحوار الأول الذي بين الإخوة، وما سيتمخض عنه.
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (6): د. توفيق العبيد تآمر الباطل الكثير لا يجعله صوابا (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سورة يوسف : 8] طالما تغنى العالم بتقدمه وتطوره حينما سلم الحكم للأكثرية، متجاهلا أن الباطل عادة يفوق الحق كثرة. ها هو عدد البشرية فاق الستة مليار نسمة، خمس مليارات منهم يكفرون بالله تعالى، فهل صارت كثرتهم حقا؟! إنهم بهذا الفكر يرسخون لحكم أنطمة الباطل، بل حينما تكون الكثرة أحيانا للحق، ويوشك أهل الحق تسلم حركة الحياة، سرعان ما ينقضون عليهم ليعدوا دفة الحكم للباطل. ولكن سيبقى الحق حقا كثر أو قل وسينصتر على الباطل في المعاركه الفاصلة كثر أنصار الباطل أو قلوا، فتلك سنة الله: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة : 249] في ثنايا تأملاتنا في هذه الآية سنتحدث عن موطن الشاهد الذي دعاني للتقديم بهذه المقدمة بين يدي هذه الآية من سورة يوسف عليه السلام. الآية التي بين أيدينا تجسد حقيقة لا يمكن تغييرها وهي : أن اعتقاد أهل الباطل أنهم على الحق بداعي الكثرة، وهم مفرط ساقهم إليه عميق الجهل، والكبر والحسد اللذين طمسا نور الفطرة. وفي ذات الوقت تصور الآية، أحداثا وحوارات في مؤتمر شيطاني يعقده إخوة الدم، الذين شيطنهم الحسد ذاك الذي أخرج إبليس من الجنة. يتم فيه التباحث بشرٍّ ما كان للإخوة أن يفعلوه بأخيهم لو لم يكن هذا الشعور قد شغلهم طويلا وطفا على قلوبهم. ياله من أمر خطير وغريب ذلك الذي اجتمعوا لأجله!!! إنهم يوضحون بهذا المؤتمر سنة أهل الباطل حينما يضيقون ذرعا بالحق وأهله. لم يجتمعوا لمساعدة أخيهم، ولا لإدخال السرور عليه وصد الأذى عنه، بل للأسف اجتمعوا بشأن التخلص منه! . طريقة معالجة من شيطن إبليس قلوبهم، لا تكاد تختلف عبر الزمن، ألا نتذكر ذلك المؤتمر الذي عقدته قريش للفتك بمحمد عليه الصلاة والسلام حيث اجتمعت بدار الندوة وحضر الشيطان ذلك الاجتماع على هيئة رجل من نجد وحينها نزل القرآن يحكي مكرهم المهزوم أمام مكر العظيم الجبار سبحانه: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [سورة ا?نفال : 30] ولكن مادام الله خير الماكرين فلا نخشى مكر الطغاة والمجرمين، مهما علا صوتهم وعظم كيدهم وكثرت مؤتمراتهم. وها أنا أتأمل بهذه الكلمات التي استوقفتني زمنا: "إن أبانا لفي ضلال مبين": إنها تحكي أسلوب من يبيتون إزاحة معارضيهم من طريقهم. إنهم يحاكمونهم ويصدرون عليهم الحكم الذي يشتهون، ويبررون لأنفسهم بعد ذلك بما يزيح عن كاهلهم ألم لوم النفس التي جعلها الله بين جنبينا لتصرخ بنا وتنبهنا كلما حدثتنا بفعل السوء. إنهم بتلك الحجة الواهية، يخفون دفين حسدهم. لقد جعلوا من توهمهم ضلال أبيهم، سببا يسكت في داخلهم كل لوم، وهذه سنة الظالمين .. وهل يفوتهم أن أباهم نبيا، والنبي لا يضل؟! إنهم يكممون حتى أفواه أنفسهم، ليعلو صوت الغيظ ورغبة التخلص من أخيهم بأي وسيلة. إخوة يوسف – والكثير من الناس – يرون أن الأكثرية دائماً على صواب وغيرهم على خطأ. والآية هنا تبدد بقايا هذا الوهم الأحمق بشأن الأكثرية، في نسيج بيانها لطريقة تفكير من ظهر للعيان خطؤهم فيما بعد، مع أنهم كما قالوا عصبة: "إذ قالوا : ليوسف وأخوه أحبّ إلى أبينا منا ، ونحن عُصبة ...". وقد أكد القرآن الكريم خطأ هذه النظرة غير مرة منها مثلا : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [سورة ا?نعام : 116] ومن جانب آخر يبين أنه قد ينتصر القليل بصوابه على الكثير بخطئه: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " لأنها على الحق والله تعالى معها في دفع الباطل ومحاربته . وهذا ما قدمنا به الحديث بين يدي الآية آنفا. ويا عجبا للحسد كيف يعمي بصيرة صاحبه!!! فقد طمس الحسدُ الإحساس بالإخوة؛ لذلك لم يقولوا وأخونا، بل قالوا( وأخوه)، لقد طمست الإخوة، التي لو اتقدت بين جنبيهم لمنعتم من التفكير بأذية أخويهم. طمست لمنع أي مشاعر داخل أنفسهم من شأنها أن تحول بينهم وبين ما أرادوا من مكر وأذية لأخويهم. كما سبق وطمسوا النفس اللوامة بإسكات صوتها بحجج واهية يتخلصون بها من لومها على ما سيفعلونه من خطأ. وتتصدر كلمة ضلال مشهد الصراع في كل مرحلة من مراحل حياة وقصة يوسف عليه السلام: "إن أبانا لفي ضلال مبين". امرأة العزيز تلام من النسوة: "إنا لنراها في ضلال مبين". إخوة يوسف يؤكدون ما اعتقدوه بداية، حينما يذكر يعقوب ريح يوسف فيقولون له: "إنك لفي ضلالك القديم". وهكذا نجد أنهم أرداوا أن أباهم مخطئ بتمييز يوسف عليهم، وليس مرادهم بالضلال المرادف للكفر، عياذا بالله تعالى. ولكن يعقوب عليه السلام لم يكن مخطئا بتمييز يوسف كما يعتقد البعض، وذلك أن له أسبابه والتي منها: يوسف يتيم الأم فحاجته للحنان أكثر من إخوته الذين كانوا بسن الرجولة. إن يوسف كان صغيرا وحاجته للعناية أعظم من حاجة الكبار من أولاده. ولكن حينما يفرط بعض الآباء بتمييز أحد الأولاد عن إخوته، بحجة الاقتداء بيعقوب عليه السلام، نقول له: لا تفعل، فأنت لست كيعقوب. إن هذا الإفراط في تمييز ولد على آخر، قد يوقع بين الأولاد ما يثيرهم على بعض، ويجعل تنافسهم على قلبه، هدفا يمكن أن يصل بهم لقتل بعضهم مقابل اصطفاء قلب الأب. أيها الأب الكريم؛ لا تبن مملكتك على جماجم أولادك، ولا على حساب تغليف قلوبهم تجاه بعضهم بلون الحسد المقيت المفضي للتنازع . اعدل في عاطفتك تقتل مداخل الشيطان في نفوس أولادك نحو بعضهم. مكان الابن عند أبيه هو مطمح كل ابن، فلنمنحهم تلك المكانة، ولا نحوجهم للخطأ لينالوها. مرة أخرى أقف مذهولا أمام عظمة القرآن وأنا أتأمل هذه الجملة القرآنية: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِين) فهي تحكي لكنا كيف يؤكد ضعفاء الحجج حينما يتكلمون بما لا يقتنعون به، فيسوقون كلامهم بأساليب التوكيد، كما هو هنا: أسلوب الجملة الإسمية التي تزحلقت فيها لام الابتداء إلى الخبر بعد دخول إنَّ. ويالروعة البيان، الذي يأخذ بالقلب والجنان وأنت تتلو قوله (إذ قالوا): لقد لخص بها واقعا مؤلما نعيشه، حيث إن المتكلم على الحقيقة واحد، إذ لا يعقل نطقهم بالعبارة نفسها في الوقت ذاته، ولكن تكلم واحد وصمت الباقي جعل القول يشملهم جميعا. إن القرآن فيض معان لا ينتهي، وعجائب لا تنحصر. لطالما أبهرنا بعجائبه، فأجدني في هذه التأملات أمام إيجاز وبيان يلخص بهذه الآية - التي لم تتجاوز كتابتها السطر - مؤتمرا عقده إخوة يوسف للتخلص منه. وكأنه أعطانا البيان الختامي الذي يصدر عادة بعد الانتهاء من المؤتمر. مع أن مؤتمرات العرب اليوم تكتب البيان الختامي قبل البدء بالمؤتمر أصلا، أما هنا فالقرآن يذكر ما انتهوا إليه بعد بحث طويل. ولعل متسائلا يقول: وما الحوار الذي دار بينهم ليكون البيان الختامي بهذه الصورة؟؟!! تفاصيل ذلك المشهد، ودروسه في الآيات التالية، إن شاء الله فابقوا معنا.
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (7): د. توفيق العبيد التوبة المسبقة الصنع لا تقبل (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) [سورة يوسف : 9] مازال مؤتمرهم منعقداً، ومازال الشر يسيطر على تفكيرهم، وتكاد تستشعر من سياق البيان القرآني المعجز حرارة أنفاسهم الملوثة بسواد النية، وقد أعمى الحسد بصيرتهم، وقتل عاطفة الأخوة فيهم. الكلام الآن حول قرار النطق بالحكم في محكمة الجاني فيها بريء، بل هو غائب عن جلساتها. وأخيرا صدر الحكم باتفاق الغالبية، ولولا ضمير أحدهم المستيقظ لكان إجماعا. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا. يا لعجب الوصف، ودقة البيان !!! فقد جمع بين خيارين الموت فيهما مشترك. إما قتل أو موت في ديار الغربة وألمها وصعابها. كم هي مؤلمة حياة الغربة عن الوطن ! لقد اختاروها إحدى الأحكام القاسية التي قرروها بحق أخيهم .. حقا لولا أنها تساوي القتل في القسوة لما جعلوها محط تخيير بينها وبين قتله.. إن البعد عن الوطن له مرارته التي لا يعرفها إلا من تجرعها، فشتان بين حضن وطن يضمك، وحضن وطن ليس لك. في الغربة لا أحد يقف بجانبك حال تعرضك للذل والاستعباد. غُصْت في أعماق القصة، ورجعت عبر الزمن أفتش عن جرم ارتكبه يوسف ليستحق هذا الحكم الصادر من إخوة الدم، ترى إذا كان هذا هو حكم الإخوة فكيف حكم العدو إذاً ؟؟!! لم أجد جرما له سوى يتمه الذي أحوجه لمزيد عطف من أبيه. وصغر سن دفعت الأب الشيخ الهرم أن يلحظه بمزيد من العناية، فالنبتة الصغيرة تحتاج لرعاية أكبر لتصل لحال مثيلاتها من القوة. وأقف مندهشا وأنا اتأمل كلمات آية تتحدث في طياتها عن نبض الحدث، وأنفاس شخصياته، بدقة عجيبة!! . كلمات تصف غايتهم من اقتراف الجرم بحق أخيهم، إنه التنافس للفوز بمملكة قلب الأب وعرشه، وبوابة ذلك أن لا يبصر سواهم. «يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» .. هم لا يريدون الوجه عينه، بل يريدون قلبه، وبوابة القلوب وجه يقابل وجها، ونفس ترتاح لنفس. غرر بهم الشيطان وزيّن لهم أن غياب يوسف سيجعل أباهم ينظر لهم، لأنه سيضطر للشعور بوجودهم في حال لم يجد يوسف. آه من المكر وأهله !!! كم منا من يعتقد أن وصوله لقلب رب العمل ومحبته مرهون بإبعاد أخيه الذي كان له حظوة أكثر من غيره عند رب العمل !!! كان الأجدر بإخوة يوسف أن يخرجوا من صندوقهم المغلق ويفكروا خارجه قليلا : كيف نبدع لنلفت انتباه الآخرين لنا ؟؟! أما إشغال العقل بالتفكير في كيفية التخلص من المنافس، فهذ تخلف، وتعطيل لأعظم نعمة منحها الله للإنسان وهي العقل. يعلمنا الله تعالى أن تحقيق الأهداف لا يتعلق بإزاحة المنافس من الطريق؛ لأن هذا التفكير سيقود للإجرام. وهذه السياسة لا يستعملها إلا الحكام مع معارضيهم، ولطالما انتهت هذه الطريقة بثورة تجتث إجرامهم وتنتقم لكل معارض قتل، وما حال الشام ببعيد!. «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» ! .. وهنا يكمن العجب من فعل إخوة يوسف: حيث يزين لهم الشيطان جريمتهم، ويسول للنفوس عند ما تغضب وتفقد زمامها، وتفقد صحة تقديرها للأشياء والأحداث. أي خبث لدى الشيطان حتى أوجد تلك الحجج التي قتلت النفس اللوامة من قبل شروعها في إيقاظ ضمائر لم تعد تفكر بغير الخطأ. لقد غلا في صدورهم مرجل الحقد وتعزز في نفوسهم صواب خطأ سيتبعونه بتوبة تصلح بحسب زعمهم ما تم من جريمة! ترى هل أصابوا حينما بيتوا جريمة وتوبة معا؟ الحقيقة أن من شروط التوبة: الإقلاع عن الذنب… العزم على عدم فعله… ورد المظالم لأهلها… الندم على فعله. وعليه فلم يكن التوفيق حليفهم هذه المرة، فليس هذا طريق التوبة .. إن التوبة مسبقة الصنع لجريمة ينوي المرء فعلها لا تسمى توبة. إنما هي تبرير لارتكاب جريمة يزينها الشيطان! إنما تكون التوبة من الخطيئة التي يندفع إليها المرء غافلاً جاهلاً غير ذاكر حتى إذا تذكر ندم، وجاشت نفسه بالتوبة. لم يكن قرار محكمة الظلم المخالفة للفطرة قرارا بالاجماع، إذ خرق الإجماع شخص من بينهم، وكان رأيه هو الرأي. إن هذا المخالف رغم ضعفه وعدم وجود مناصر له وقف موقفا يعلمنا فيه أسس قيام السياسة، وكيف تنصر المظلوم من غير أن تُؤذى في حالة ضعفك. تفاصيل ذلك سيكون في المشهد التالي بإذن الله…
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (8): د. توفيق العبيد حينما يجند الله من الباطل انصارا للحق «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ». تتجلى قدرته تعالى في جعل نصرة الحق من بين صف فريق الباطل الذي بات يعتقد أن النصر بجمعه وقوته. فبينما كاد الموتمر المنعقد للبحث في أفضل حكم يشف صدور المتآمرين على يوسف، يوشك أن يخرج باجماع يقر الجريمة، كانت إرادة الله هي الغالبة، حيث أوقف زحف تلك الجريمة لحيز التنفيذ واحدا منهم ليكون في تحريك أحدهم نحو إبطال ذلك الإجماع. إن المعترض ليس بعيدا عنهم ولا غريبا عن حلفهم، إنه منهم: (قال قائل منهم). يا لعظيم قدرة الله، فقد كان سبحانه قادرا أن يجعل ليوسف أنصارا من طرفه، ولكن لتمام تصوير قدرة الله تعالى كان نصير يوسف فردا منهم، فمهما كان مكرهم فلله المكر جميعا. إن الآية تقرر حقيقة عظيمة مفادها: لا يزال الخير موجودا ما وجدت أنفس تكره الجريمة، وتواجه الباطل والطغيان، ولن يسلم للباطل مراده بموت كل معارض، أو محاولة صبغ كل البشرية بصبغته. ربما يكون صاحب تلك النفس ضعيفا أمام قوة الباطل وسطوته، فهو واحد من بين جماعة، كلهم أجمعوا على الجريمة وهو يخالفهم بها، ومع هذا لم يمنعه قوة الباطل وضعفه من الاحتيال عليهم بمقترح يصرفهم عن الجريمة، ويجعل رأيه هو الراجح عندهم على كثرتهم وقوتهم. ما أحوجنا لمثل فكر هذا المعارض الحكيم في زمن سطوة وطغيان الباطل، لقد علمنا أن منع الإجرام لا يكون بالقوة فحسب، فلربما لو استعمل معهم القوة لقتلوه قبل أي أحد. ولكم ضرب القرآن أمثلة عن رجل غير بموقفه منهج أمة. إن انتصار الحق والوقف بوجه الباطل لا يحتاج دوما لنظرية الكثرة والقوة. ها هو يشير عليهم بأن لا يقتلوا يوسف، وبذات الوقت يتحقق لهم مرادهم أن يخلو لهم وجه أبيهم، وذلك بجعل يوسف في جب يسهل على مارة أخذه بعيدا، وبهذا صرفهم عن الجريمة. ( إن كنتم فاعلين) كلمات هزتي من الأعماق، وهي تنير أمام عيني عظمة القرآن وروعة بلاغته: لقد جاءت (إن) الشرطية لتبين التشكيك في الاصرار على ايقاع الأذى بيوسف، فالنفس السليمة من شوائب الحقد والحسد لا تقبل هذا الفعل، ولا يعبر عن ذلك مثل الشرط باستعمال ( إن). وتبين مدى الحكمة وحسن السياسة من الحق الضعيف في شخص القائل، فهو يعلم إصرارهم على قتل أو ابعاد يوسف، ولا يمكنه فرض رأيه، ولذلك طرح رأيه الصارف عن قتل يوسف، بطريقة يقول لهم فيها: هذا هو أقرب ما يشفي غليلكم من يوسف دون أن ترتكبوا الجريمة، وإن كنت أشكك في قبولكم لرأي مع كونه الأخف ضرارا. بهذا التشكيك مهد لنفسوهم أن تقبله، وإن قبلوه فنفوسهم مطئنة أن القبول لم يكن بإملاءات خارجية تزعجهم، ولا بغلبة من هو أقوى منهم. الحمد لله فقد نجا يوسف من القتل، وبدأ الجميع بالإعداد لتنفيذ ما هو أخف من القتل برأيهم، وأشرفت شمس الصباح وتجهزوا للاحتيال على أبيهم ليأخذوه من أحضانه. المشهد التالي فيه أحداث مذهلة فابقوا معنا.
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (9): د. توفيق العبيد الحيل وسيلة تنفيذة المؤامرة (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى? يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) [سورة يوسف : 11] أشرقت شمس الصباح، وبان ما دبر بليل عن مخطط خطير سيفرق بين الأحبة، ويفتح نهرا من الدموع، وآلاما من الحزن. يدخل الإخوة الذين بيتوا مكرا لأخيهم، على أبيهم بلسان الناصحين، وبثوب الحب والأمان. لا يمكن للمؤمرات أن تنفذ بغير الحيل، ولهذا لجؤوا للحيل، ولبسوا ثوبا ليس ثوبهم، وتكلموا بغير ما في قلوبهم. عجبا لبيان القرآن! إنه ليس مجرد كلمات تعبر عن مراد قائلها، بل كلمات يفهم سامعها منها البنية النفسية للقائل حين قال، وتوحي بخواطره التي دارت في خلده، وهو أسلوب لا يقدر عليه بشر. هاهم يحاولون اقتحام أسوار قلب أبيهم، وأضعف أبواب قلب الأب نداء الأبوة فاسمع ما يقولون: يا أبانا : نداء منحهم مفتاح قلب أبيهم، فلا تجد كلمة ألذ وأطيب لقلب الأب من نداء الابن لأبيه بلفظ يا أبي. ولكن أي قلب يملكه الابن الذي يلتذ بقهر أبيه ؟! أو تجده عاقا لأبيه؟!. لطالما حلم الأب أصلا بهذه الكلمة أن يسمعها من بنيه. ومرة أخرى يلجأون للحيل: مالك لا تأمنا: أسلوب بياني قرآني آخر، مدهش! معجز! يأخذ بالألباب. يصف كيف عمدوا لحيلة أخرى، ارتكزت على فرض أمر لا يقصده الأب، ليسعى تلقائيا بنفيه ويسلمهم يوسف كإثبات لعدم وجود هذا الافتراض. وهو الذي يخاف عليه من حر الشمس، وتعب العمل الذي يمارسه الإخوة، ولم يكن منعه عن صحبتهم بدافع عدم استئمانهم على أخيهم. وفي حيلتهم هذه دروس منها: * أن الأمان والثقة هما مقتل المرء وحياته، فمن نال ثقة إنسان ملك قلبه وشاركه بكل شيء. فإما أن يكون الذي منحته الثقة كما اعتقدت فتسعد به، أو يكون مخادعا فلات حين مندم. *هناك من لا أمان لهم ولا يوجد في قلبهم مكان له، حينما يجعلونك تطمئن لهم وتأمن جانبهم، ولكن ويل لك من ألم طعنهم ونزيف المشاعر حينما تكون السكين بيد من أعطيته الثقة والأمان. * ليس كل من يدعي الثقة فهو ثقة، ولا كل من يلبس لباس الناصحين ناصح. * يا للخطر العظيم الذي يحصل للناس حينما يلبس أهل الشر لباس التقوى والصلاح. * ما أعظم أن يخدعك من كنت تظنه مقربا، بلباس يمنحك الأمان ظاهره، ثم ما يلبث يرسلك لجب عميق من التعب والقلق، ولعلك لا ترجو حينها سيارة ينقذونك. * ولطالما كنت أقول: حينما يسيء فهمك من هم في قلبك، فاعلم أن لغات العالم باتت عقيمة عن أن تلد المعاني. * وأكثر منه عجبا وألما حينما يطعنك بسكين النصح والظهور بمظهر الخائف على مصلحتك، وفي داخله مخطط خبيث ربما لو نفذه لجعلك بعيدا عمن تحب، ولجعلك في غياهب الألم والتعب. * سبحانك يارب: يكاد المريب يقول خذوني. إن إصرارهم على أبيهم بشتى الحيل والتي آخرها ادعاء النصح، يكاد يفضح خبيئة ما خططوا له قبلا. وهكذا شأن الذين يزكون أنفسهم: بمقدار علمهم بخبث نفوسهم يكون سعيهم لتزكيتها. وإلا فالتزكية يفرضها حسن العمل وصدق النية على الآخرين أن يقروا بها لا أن يدّعيها المرء لنفسه. ترى ما هي الحاجة التي يريدون يوسف لأجلها والتي إن ذكروها لأبيهم سمح لهم بيوسف دون تردد؟! هذا ما سوف نعلمه في المنشور القادم بإذن الله فابقوا معنا.
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() تأملات في سورة يوسف عليه السلام (10): د. توفيق العبيد يكاد المريب يقول خذوني (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة يوسف : 12] بعد أن قوَّلوا الأب ما يقل: (مالك لا تأمنا على يوسف)، وجعلوه في موضع دفاع ليس مضطرا له، أتبعوه بعروض تجعله يوافق. إنهم مستمرون في محاولة التسلل لقلب أبيهم، لكي يأخذوا يوسف نحو المجهول. بات الخطر يداهم يوسف .. ورحلة المشقة والعذاب توشك أن تبدأ. لون بدايتها لون مودة ومحبة، ووصفهم للرحلة بأنها ترفيهية، وجاذبيتها في كون اللعب جزء منها. تلك هي الثياب التي كسا بها إخوة يوسف مؤامرتهم على أخيهم، وذلك ليقتنع أبوهم بتركه معهم، تحت غطاء المحبة والترفيه. تلك هي الغاية التي أوهموا أباهم بها. لطالما تسلل أعداؤنا لديننا وقلوبنا باسم الحرية تارة، وباسم المدنية والحضارة والعلم تارة أخرى، فتخفي الذئب بجلد الحمل الوديع لهو خطر يداهم أصحاب القلوب الطيبة، يوشك أن يفتك بها. لقد تذكرت كلمة قال لي أحد مشايخي: ( إذا صعدت الحافلة فاعتقد أن كل الركاب أولياء ولكن ضع يدك على جيبك). ومرة أخرى يكاد المريب يقول خذوني… وهذا ما ألمحه في قوله: (وإنا له لحافظون): حيث البيان بجملة أسمية فيها دخول اللام التي تزحلقت من الابتداء إلى الخبر، لتضفي على الجملة معنى التأكيد والتوثيق… مما يثير حفيظة التفس للتساؤل: لم الحرص والتأكيد والتوثيق؟! ولمَ يريدونه بهذا اليوم حصرا؟ ! .. كل ذلك كاد يكشف خبيئة ما خططوا له. ويمكن التساؤل أيضا لم قالوا (ونحن له حافظون) مع أنه سبق أن وصفوا أنفسهم بالأمانة حين قالوا ![]() وهل أشعرهم أبوهم بأنه يشك بصحة نيتهم حتى يخبروه أنهم له حافظون؟ ومن تكلم أصلا بموضوع الحفاظ على يوسف من التهاون به؟! ولكن هو المخطئ لا يمكنه صناعة جريمة كاملة. يحاول الأب وضع مزيد من العقبات أمام كذبهم عليه، ليصرفهم عما أرادوا .. ولكن الشيطنة قد استلمت زمان قيادة عقول لم تعد تعي أكثر من الإصرار على تنفيذ ما خططوا له. ليتنا نعي أن شيطنة عقولنا تعني دمارا لأناس أبرياء، وقطع للأرحام، ومخططات لا تنتهي إلا بإجرام. ماهي تلك العقبات التي وضعها سيدنا يعقوب، وكيف تجاوزوها بمكر عجيب، هذا ما سنعرفه في المنشور القادم بإذن الله. ابقو معنا عبر منشورات( تأملات في سورة يوسف).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |