ماء الرجيع - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حلية المؤمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          دعاء العبادة ودعاء المسألة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الشك في الطهارة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          حكم التشاؤم بشهر صفر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          المرأة والأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 116 - عددالزوار : 60098 )           »          تحت العشرين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 117 - عددالزوار : 57501 )           »          وأنا أبكي من الفرح ! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          من جهود علماء الكويت في ترسيخ عقيدة السلف الصالح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 263 )           »          أمسك عليك لسانك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          باختصار – حاجاتنا إلى النضج الدعوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم الصوتيات والمرئيات والبرامج > ملتقى الصوتيات والاناشيد الاسلامية > ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية ملتقى يختص بعرض الخطب والمحاضرات الاسلامية والكتب الالكترونية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 02-03-2020, 02:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,685
الدولة : Egypt
افتراضي ماء الرجيع

ماء الرجيع



الشيخ محمد جمعة الحلبوسي






نقفُ اليوم مع حادثةٍ عظيمةٍ في سِيرة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذه الحادثة حدَثتْ في مِثل هذا الشهر، شهر صفر من العام الرابع من الهِجرة النبويَّة المباركة، هذه الحادثة تُبيِّنُ لنا شيئًا من تضحيات أصحابِ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سبيلِ هذا الدِّين، وكيف أنَّ الله اصطفاهم شُهداءَ، هذه الحادثة هي حادثة "ماء الرجيع".

هذه الحادثة كثيرًا ما غفَلَ الناسُ عنها، ولم ينتبهوا إليها، كثيرًا ما كان ينبغي أن تُعْرَضَ هذه الحادثة بتفاصيلها؛ مِن أجْل أنْ يَعرِفَ الناسُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - في طريقِه لنشْر الدعوة، فَقَدَ أصحابًا وأنصارًا وإخوانًا، جاهدوا وصبروا، وصمدوا أمام الأحداث الجِسام، وثَبتوا على المبدأ مِن أوَّل أمرهم إلى نهايةِ أعمارهم، كانوا بالعهْد مُوفين، وكانوا على الصِّراط المستقيم راسخين، أقْبَلوا على الإسلام والدنيا عنهم في إدْبار، وهل قامَ بُنْيانُ الإسلام إلاَّ على هذا النَّوْع من الرِّجال؟ إنَّهم بُناةُ مَجْدِنا، وبهم دَخَلْنا التاريخ، والسَّيْر على نهْجهم طريقُ الخلاص ممَّا نُعانيه من فساد الأوضاع؛ إذ لا يصلح آخِرُ هذه الأمَّة إلا بما صلح به أوَّلها، إنها الحقيقةُ التي يجبُ أن نعيشَها، وغيرُها هو الوهْم والسراب والضلال.

فتعالَ - أخي المسلم - لننتقل إلى مدينةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنستمع إلى الحادثةِ المؤْلِمة مِن بدايتها:
بعثَ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عشرةً من أصحابه عينًا؛ أي: مِن المخبرين الذين يترصَّدون أخبارَ العدوِّ في سِريَّة؛ منهم: مَرْثد بن أبي مَرْثد، وعاصِم بن ثابت الأنصاري جَدُّ عاصم بن عمر بن الخطَّاب، وزيْد بن الدَّثِنَّة، وعبدالله بن طارق، وخالد بن البُكير، وخُبَيب بن عَدِيّ.

فأمَّر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليهم عاصمَ بن ثابت، فانطلقُوا متوجِّهين إلى "بني لِحْيان" مِن بطون قبيلة "هُذيل" في مكان يُسمَّى "الرجيع"، وهي آبارٌ لبني هُذيل قُرْب مكة، حتى إذا وصلوا الهَدْأَة - وهُو بين عُسفان ومكة - نَزَلوا في هذا المكان في السَّحَر، وأكَلوا تمرَ عَجْوة، فسقطتْ نواةٌ في الأرض، وكانوا يُخفون آثارَهم، لكن: ﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ﴾ [الأنفال: 42]، ﴿ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ﴾ [آل عمران : 140].

سقطتْ نواةٌ من نوى تَمْرِ "يثرب"؛ لأنَّ التمرَ الذي كان معهم من تمرِ المدينة، فجاءتِ امرأة من هُذيل تَرْعَى غنمًا فرأتِ النواة، فأنكرتْ صِغَرَها - صِغَر النواة بالنسبة لحجْم النوَى في تلك المنطقة - فقالتْ: هذا تمرُ "يثرب"، فصاحتْ في قومِها، فخَرَجَ لهم القومُ مِن بني لِحْيان، فتَبِعهم نحو مائة رجلٍ يجيدون الرَّمْي، فتتبعوا آثارَ الصحابة حتى لحقوهم، ففوجِئ الصحابة بهؤلاء القومِ قد غشوهم وحاصروهم، فلجَأَ هؤلاء الصحابةُ العشرة إلى مُرتَفع من الأرضِ، وبدأ المشركون بالخِداع، فقالوا لهم: لكُم العهدُ والميثاقُ إنْ نزلتُم إلينا واستسلمتُم، لا نقتلُ منكم أحدًا، ولا نمسُّكم بسُوءٍ، فقالَ عاصمُ بن ثابت أميرُ السَّرِيَّة: أمَّا أنا، فوالله لا أنزل اليومَ في ذِمَّة كافرٍ، فرفَضَ أن يستسلمَ وقاتلَ، وقبل أن يموتَ قال: اللهمَّ أخبِرْ عنَّا رسولَك، دعَا عاصمٌ الله - عز وجل - أن يُبْلِّغَ خبرَ حصار المشركين لهم، وما حصلَ لهم للنبيِّ - عليه الصلاة والسلام - فاستجابَ الله لعاصم وأخبرَ رسولَه بالخبر، فأخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - أصحابَه في المدينة بالخبر في اليوم نفسِه: أنَّ عاصمًا قُتِلَ ومعه سبعة بنبْلِ الرُّمَاة المشركين.

أمَّا زيد بن الدَّثِنَّة، وعبدالله بن طارق، وخُبيب بن عَدي، فقد رقُّوا ولانوا وظنُّوا أنَّ في القوم بقيَّةً من ذِممٍ، ومُروءة وصِدْق، ونسُوا أنَّ الكافرين إذا ظَفِروا فجَرُوا، وتنكَّروا لكلِّ القِيَم، فأخذوهم وأَسَروهم مُتَّجهين بهم إلى مكة؛ ليبيعوهم في سوقِ الرقيق، حتى إذا وصَلوا ببعض الطريق وفي مكانٍ يُسمَّى "الظهران" قُرْب مكة، فلتَ منهم عبدالله بن طارق وصاحَ: "واللهِ إنَّ لي في عاصم وصاحبيه لأُسْوَةً"، فجرَّروه وعالجوه على أنْ يصحبَهم، فأبَى فقتَلوه.

أمَّا زيد وخُبيب، فقد قَدِمُوا بهما مكةَ فباعُوهما لقريش بأسيرين مِن "هُذيل" كانَا بمكة، فاشترَى خُبيبًا حُجيرُ بن أبيإهابالتميمي لعُقْبة بن الحارث؛ ليقتلَه بأبيه، وكان خُبيب هو مَن قَتَلَ الحارثَ بن عامر يومَ بدرٍ، واشترَى صفوان بن أُميَّة زيدًا؛ ليقتلَه أيضًا؛ انتقامًا لأبيه أُميَّة بن خَلَف الذي قَتَلَه يومَ بدرٍ، فمكثَا عندهما أسيرين ينتظران مَصيرَهما.

أمَّا خبيب، فسُجِنَ في بيْت (ماوية) مولاة حُجَير بن أبيإهابالتميمي، فكان السجنُ خَلْوتَه يقضي وقتَه فيه بشتَّى أنواع العبادة، يشحن نفسَه بالإيمان، ويعدُّها للامتحان الصَّعْب الذي ينتظره، فأظهرَ الله في خَلْوتِه هذه من الكرامات ما يكون ذلك حُجَّةً على سلامةِ موقفه منهم، ودليلاً على صِحَّة دِينه وعقيدته، ولنترك الكلام لـ"ماوية" قليلاً؛ لترويَ لنا شيئًا مما رأتْه بأُمِّ عينيها بعدَ إسلامها، تقول: كان أوَّل ما وَقَعَ الإسلام في قلْبي ما رأيتُ من خُبيب بن عدي، كان خُبيب حبيسًا في بيتي، فاطلعتُ عليه يومًا، فوالله ما رأيتُ أسيرًا قطُّ خيرًا منه، واللهِ لقدْ وجدتُه يومًا يأكُلُ من قطْف عنقود عنبٍ في غير مَوْسمه، وما بمكةَ من ثمرٍ، وما أعلمُ في أرْضِ الله عِنبًا يُؤْكَلُ، وإنَّه لمُوثَقٌ في الحديد، فأيقنتُ ما ذلك إلاَّ رزقٌ ساقَه الله إليه وهو حبيس.

ولَمَّا أجْمعَ القومُ على قَتْله، وعَرَفَ مَوْعِدَ ذلك، طَلَبَ مني مُوسًا؛ أي: سِكِّينًا يُزيل بها شعرَ جِسْمه، يتطهَّر بها للقتْل، قالت: فأعطيتُ الموسَى لأحدِ غِلْمان الحيِّ، وقلتُ له: ادْخلْ بها على هذا الرجل الحبيس، وأعطِه حاجتَه، فلمَّا مَشَى إليه وناولَه الموسى، أخذَها منه ووضَعَه على فَخذِه يمازحُه مُدَاعبًا إيَّاه، قالتْ: فلمَّا رأيْتُه فزعتُ فزعة، وظننتُ أنَّه سيقتُله، وقلتُ: أصابَ واللهِ الرجلُ ثأْرَه بقتْل هذا الغلام، فيكون رجلٌ برجلٍ، فعرفَ خُبيب ذاك منِّي وفي يدِه الموسى، فنظرَ إليَّ، وقال: أَتَحْسبينَ أني أقتلُه؟! لا واللهِ ما كنتُ لأفعلَ ذلك

وفي وسط المدينةِ أعلنَ المنادي أمامَ الأشْهاد عن موْعِد قتْل خُبيب، فخرَجوا به من الحَرَم إلى التنعيم: مكان قُرْب مكة، وسار البطلُ وهو مُكَبَّل بالأغْلال، مرفوع الرأس، يشقُّ زحام المتفرِّجين الذين جاؤوا مِن كلِّ صوبٍ وناحية؛ ليشْهدوا مصرعَ أحدِ أصحاب رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدَ أنْ ظفروا به غدرًا؛ لينتقموا من سيِّدنا محمَّد في شخصِه، وليَثْأروا لقَتْلاهم في بدرٍ بقتْله.

وسِيقَ خُبيب إلى حيثُ يُقْتَل، واعْتَلى الخشبة، ووقَفَ ينشدُ للزمن وللتاريخ فيقول:

وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا
عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي

وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ
يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ



ثم قال للقوم: أيُّها الناس، إنْ شئتُم أن تتركوني أركعُ ركعتَيْن قبل مَصْرعي، ثم افْعلوا ما شئتُم، وقالوا: دونك فارْكعْ، فاستقبلَ الكعبة وشَرَعَ يُصلِّي ركعتين، ويا لحُسْنها، ويا لتمامِها من صلاة مُودِّعٍ!! ثم أقبلَ على القوم وقال لهم: واللهِ لولا أنِّي أخشى أن تقولوا: قد خَافَ مِن الموت، لطوَّلتُ فيهما - لصليتُ ركعتَين طويلتَين - أتلذَّذُ فيهما بمناجاةِ ربِّي، والوقوفِ بيْن يدي مولاي.

أترون ماذا تَمنَّى هذا الرجل قبل مَوْته؟! هل تمنَّى أنْ يُعْفَى عنه، وتمسَّك بالحياة؟! هل طلَبَ أُمْنِية كان يتمنَّاها في دُنياه؟ هل حاولَ أن ينجوَ بنفسه بأنْ يتحوَّلَ عن دِينه، ويكون مِن المشركين؛ حفاظًا على حياته؟ ولكنَّه طَلَب الصلاة؛ لتكونَ آخرَ شيءٍ فَعَلَه قبلَ الموت.

هكذا يُعلِّمنا هذا الصحابي الجليل شيئًا مِن إيمانه الشديد وحبِّه لدِينه، فليتَ البائعين لدِينهم - بدراهِمَ بخسة، وكانوا فيه من الزاهدين - يقتدون بهذا الرجل العظيم، الذي ظلَّ صامِدًا حتى الموت، فكان خُبيبٌ أوَّلَ مَن سنَّ هاتَيْن الركعتين عندَ القتْل.

ثم رفعوه على خشبةِ الموت، وأوثقوه بعدَ أنْ فرغَ من الصلاة، ثم قالوا له: ارْجِعْ عنِ الإسلام نُخَلِّ سبيلَك!! فقال: واللهِ ما أحبُّ أن أَرْجعَ عن الإسلام بعدَ أنْ هداني الله، وأنعم عليَّ بالإيمان، ولو كان لي ما في الأرْض جميعًا، وتوعَّدوه بالقَتْل الشنيع، فلم يَثْنِه ذلك عن عَزْمه، وإصْراره على التمسُّك بالإسلام، وأمامَ هذا الامتحانِ كان مِن أسْمى أماني خُبيب أن يموتَ شهيدًا، فيُكْتَب في سجل الشهداء الخالدين، ويَترك الدنيا الفانية لأُناسٍ لا يستحقُّون الحياة.


فوقفَ خُبيب يُجيل النظرَ، فلا يرَى حولَه إلا وجوهًا مُتعطِّشَة للبطْش والانتقام، فرَاحَ يناجي ربَّه - جلَّ وعلا - فيقول: اللهم إنِّي لا أرى إلا وجه عدوٍّ كالحٍ! اللهمَّ إني قد اشتقتُ إلى حبيبي وسيِّدي رسول الله، وليس ها هنا أحدٌ يُبلِّغ رسولَك عنِّي السلام، فبلغْه أنتَ عنِّي السلام.

وفي هذه اللحظاتِ بينما كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المدينة بيْن أصحابه، أخذتْه غيبة كما كان يأخُذه كعادته إذا نزلَ عليه الوحي، ثم قال لأصحابه: هذا أخِي جبريل، جاء يُقْرئُني السلام مِن خُبيب، فعليه السلام ورحمة الله وبركاته، خُبَيب قَتلتْه قريش!

أمَّا خُبيب، فانهال عليه القومُ كالكلاب المسعورة يُمثِّلون به حيًّا؛ ليموتَ موتًا بطيئًا وهم ينبحون: اقتلوا هذا الذي قَتَلَ آباءَكم ببدر! وخُبيب يدعو ربَّه ويقول: "اللهم إنَّا قد بلَّغنا رسالةَ نبيِّك، فأبْلغْه عنَّا الغَداة ما يُفعَلُ بِنا، ثم دعَا على المشركين فقال: "اللهمَّ أحْصِهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادرْ منهم أحدًا".

وأثناءَ هذا الدعاء كان هناك مِن القرشيين مَن ألْقَى بنفْسه إلى الأرض؛ خوفًا من دعوة خُبيب؛ لِمَا استقرَّ في عقيدة أهل الجاهليَّة مِن أنَّ الرجل إذا دُعِي عليه فاضطجعَ، زالتْ عنه الدَّعوة ولم تؤثِّرْ فيه، ومنهم من هَرَبَ واختفَى!

ثم أعادوا عليه الكَرَّة في التعذيب وهم يقولون له: أتُحبُّ أن يكونَ محمَّدٌ مكانَك وأنت ناجٍ؟ فيقول - والدماء تنزفُ منه -: والله ما أُحبُّ أن أكونَ آمنًا بيْن أهلي وولدي، وأنَّ محمدًا يُصاب بشوكة يُشاكها في قدمِه!

ولَفِظَ خُبيب أنفاسه الأخيرة وبه ما لم يُستطعْ إحصاؤه من ضربات السيوف، وطعنات الرِّماح، وتركوه مصلوبًا أيَّامًا عِدَّة، ولَمَّا عَلِمَ به رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك آلَمَه ذلك أشدَّ الألم، وأرسلَ المقدادَ والزبير في إنزال خُبيب من خشبته، فلمَّا وصلاَ إلى التنعيم، وجدوا حولَه أربعين رجلاً قد لعبتِ الخمر في عقولهم؛ حتى أفقدتْهم وعْيَهم، فتسلَّلاَ إلى الخشبة وأنزلاه والقوم لاهُون في عبثِهم، فحمَلَه الزبير على فَرَسِه وهو رطبٌ لم يتغيَّرْ منه شيءٌ، فرآهما بعضُهم، وتنادوا بعضهم بعضًا، وطاردوهما، فلمَّا لحقوهم، قذفَه الزبير مِن على فرسه فوقعَ على الأرض فكأنما ابتلعتْه!! حتى سُمِّي: بليعَ الأرْض، فلم يُرَ لخُبيب أثرٌ أو مَعْلَمٌ لقبره حتى الساعة.

وأمَّا زيد بن الدَّثِنَّة - رضي الله عنه - فعندما أخرجوه مِن الحرَم إلى التنعيم ليقتلوه، قامَ رهطٌ من قريش واجتمعوا عليه، وكان فيهم أبو سفيان، فقال أبو سفيان عندما أقبلَ على زيد: "أنشُدُك الله يا زيد، أتحبُّ أنَّ محمدًا عندنا الآن في مكانك تُضْرَبُ عُنقُه، وأنَّك في أهلك؟ قال: والله ما أحبُّ أنَّ محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تُصيبه شوكةٌ تُؤْذيه، وإني جالسٌ في أهلي، فقال أبو سفيان مقولتَه الشهيرة قبل إسلامه: "ما رأيتُ من الناس أحدًا يحبُّ أحدًا، كحُبِّ أصحابِ محمَّدٍ محمدًا"، ثم قامَ مولًى لصفوان بقتْل زيد - رضي الله عنه.

أيُّها المسلم:
هكذا ضحَّى أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أجْل المحافظة على دِينهم وعقيدتهم، هكذا أُزهِقتْ نفوسُهم وسالتْ دماؤهم، وخَرَجتْ أرواحهم من أجسادِهم؛ مِن أجل المبادئ السامية، ولا شكَّ أنَّ الموتَ من أجْل المبادئ شرفٌ كبير، وأمرٌ عزيز لا يَقْدِر عليه أكثرُ الناس، لكنَّهم القِلَّة في البشر الذين سَمَتْ نفوسُهم، وعَلَتْ هِممُهم، فأرخصوا أرواحَهم في سبيلِ المبادئ وبقائها.

فهل سيأخذُ المسلمُ الدرسَ والعِبرة من حياةِ الرِّجال العِظام؟ هل سنضحِّي - ولو بالشيء القليل - من أجْل ديننا؟ أو سنبقى نُضحِّي مِن أجْل الوظيفة، ومِن أجْل المال، ومِن أجْل الزوجة، ومن أجل المشْيَخَة، ولا نضحِّي من أجل الدِّين؟!

فيا مسلمون، تَمسَّكوا بدِينكم وعقيدتكم؛ كما تمسَّك بها سلفُنا الصالح، وسِيروا على نهْجِهم؛ فالسَّيْرُ على نهْجِهم طريقُ الخَلاص ممَّا نُعانيه من فساد الأوضاع؛ إذ لا يصلح آخِرُ هذه الأُمَّة إلا بما صلحَ به أوَّلها، إنَّها الحقيقةُ التي يجبُ أن نعيشَها وغيرها هو الوهْمُ والسرابُ والضلال.

اللهمَّ رُدَّنا إلى دِينك ردًّا جميلاً، اللهمَّ رُدَّنا إلى دينك ردًّا جميلاً، اللهمَّ رُدَّنا إلى دِينك ردًّا جميلاً، اللهمَّ أصْلح لنا دِيننا الذي هو عِصمةُ أمرِنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 59.46 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 57.78 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.81%)]