|
ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() داود وسليمان عليهما السلام (1) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد نتحدَّثُ عن النبيَّيْنِ الرسولَيِنْ الملِكَيْنِ الكريمَيْنِ داودَ وسليمانَ عليهما الصلاة والسلام، وكان أوَّلُ ذِكْرٍ ثابت لداود عليه السلام هو ما قصَّه الله تبارك وتعالى عن قتلِ داودَ لجالوت في الحرب التي دارت بين طالوت وجالوت في فلسطين، والظاهر من سياق القرآن الكريم لقصة هذه الحرب يُفيد أنَّ بني إسرائيل قد حاربهم جماعة من الوثنيين، وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، وكان على رأس هؤلاء الوثنيين جالوت لعنه الله، وقد كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياءُ، كلَّما مات نبي بعث الله عز وجل لهم نبيًّا آخر، يشرح لهم التوراة، ويحكم بها فيهم، ويبيِّن لهم ما غيَّروه وحرَّفوه وبدَّلوه من الكلم عن مواضعه، على حد قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا ﴾؛ (أي انقادوا لأمر الله) ﴿ لِلَّذِينَ هَادُوا ﴾؛ (أي صاروا يهودًا) ﴿ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44]، وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلَك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي))، فكان أنبياء بني إسرائيل كعلماء أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم سوى أنه كان يُوحى إليهم، فلما اشتدَّت الحرب على بني إسرائيل طلبوا من نبيِّهم أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون تحت رايته أعداء الله من الوثنيين، فأخبرهم نبيُّهم عليه السلام أنه يخشى عليهم أن ينكلوا عن القتال إذا فرض عليهم ولا يَفُوا بما التزموا به، فقالوا: ﴿ وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ﴾ [البقرة: 246]؛ أي: أُخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد، فأخبرهم نبيُّهم عليه السلام أن الله قد عيَّن لهم ملِكًا منهم هو طالوت، فاعترضوا على هذا التعيين، وقالوا: كيف يُعيِّنُ اللهُ علينا طالوت ملكًا ولم يكن في آبائه من ملك؟! فنحن أحقُّ بالملك منه، مع أنه فقير قليل المال، فأجابهم نبيُّهم عليه السلام بأن الله عز وجل قد اختاره عليكم وفضَّلَه من بينكم، وقد أعطاه الله عز وجل بسطَةً في العلم والجسم، فهو أعلم منكم بشؤون الحروب وتدبير الأمور، وأشد منكم قوَّة وصبرًا وجلدًا لملاقاة الأعداء، فلا تعترضوا ولا تتعنَّتُوا، وأنتم تعلمون أن الله هو الذي اختارَه وعيَّنه ملكًا عليكم، والله يؤتي مُلكَه من يشاء، والله واسع عليم، وقال لهم نبيُّهم: إن الله تبارك وتعالى جاعلٌ لكم آيةً على صحَّةِ مُلْك طالوت عليكم؛ وهي رجوع الصندوق الذي يشتمل على بعض آثار موسى وهارون، وقد عجزتم عن إرجاعه من يدِ مغتصبيه، ولن يُطلب منكم بذل مجهود في استرجاعه، بل سيجيء الصندوق تحملُه الملائكة فيه طمأنينة لبني إسرائيل، ودلالة ظاهرة على أن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، فصدِّقوا وَعْدَ الله وسارِعوا إلى طاعة طالوت وآمِنوا بما أخبرتكم به عن الله عز وجل، ولَمَّا انقادوا لذلك وتهيؤوا لقتال جالوت وجنوده تحت راية طالوت رحمه الله، وكان من بينهم داود عليه السلام، أخبرهم طالوت رحمه الله أن الله عز وجل سيختبرهم؛ حيث يَمُرُّون بنهرٍ وهم عطاش وهو يمنعُهم من الشرب منه لما يعلمه الله عز وجل أن الشرب منه يضرُّهم، والعجيب أنه لا يزال بعض قادة الجيوش إلى اليوم يحرِّمون على جنودهم أن يشربوا في أثناء زحفهم على عدوِّهم؛ لما يترتَّب على ذلك من الضرر بصحتهم، إلا أنهم يجيزون لهم أن يبلوا ريقهم بلًّا خفيفًا؛ ولذلك أذن طالوت لجيشه بأنه لا مانع من أن يغترف الواحد منهم غُرفة بيد تَبُلُّ ريقَه، ولا تعتبر شربًا، وهذا من آثار بسطة عِلم طالوت رحمه الله، وقد حذَّرهم طالوت وعرَّفهم أن مَن شرب من هذا النهر لا يصحبه في قتال أعداء الله من الوثنيين أتباع جالوت، ولا يجاوز النهر، غير أنه عندما وصل هذا الجيش إلى النهر عصوا طالوت وشربوا منه سوى عددٍ قليل منهم امتنع عن الشرب من النهر طاعة لطالوت رحمه الله. وقد جاء في بعض الآثار الصحيحة أن الذين جاوزوا النهرَ مع طالوت كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا بعدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حدثني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرًا أنهم كانوا عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهرَ بضعة عشر وثلاثمائة، قال البراء: لا والله، ما جاوز معه النهر إلا مؤمن، وفي لفظٍ للبخاريِّ عن البراء قال: "كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أنَّ عدَّة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، ولم يجاوز معه إلا مؤمن: بضعة عشر وثلاثمائة"، وفي لفظ للبخاري رحمه الله من حديث البراء رضي الله عنه قال: "كنا نتحدَّث أن أصحاب بدر ثلاثمائة وبضعة عشر بعدَّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن". ولما جاوز طالوتُ النهرَ هو والذين آمنوا معه وجدوا أن عدوَّهم جالوت قد حشد جنودًا، وأعدَّ عدَّةً عظيمة، فقال بعض المؤمنين من أصحاب طالوت: لا طاقة ولا قدرة لنا اليوم على قِتال هذا العدوِّ الكثير؛ كأنهم استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم، فشجَّعهم علماؤهم العالمون بأن وعد الله حقٌّ، وأن النصر من عند الله ليس بكثرة العدد وقوة العدد، وأنه ينبغي للمسلم أن يرغب في الاستشهاد ولقاء الله في سبيل الله قائلين لهم: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾ [البقرة: 249، 250] سألوا الله عز وجل أن ينزل عليهم الصبرَ، وأن يُثبِّت أقدامهم في لقاء الأعداء، وأن ينصرهم على القوم الكافرين، فاستجاب الله دعاءهم ونصرهم على أعدائهم، وقتل داودُ جالوتَ ملكَهم، وسارع طالوت بالتنازل عن الملكِ لداود، وبعث الله عز وجل داودَ نبيًّا رسولًا، وجعله ملِكًا كريمًا على بني إسرائيل، وقد أثنى الله تبارك وتعالى على طالوت ووصفه بأوصاف كريمة. أمَّا ما زعمه بعضُ المفسرين والإخباريين من أن طالوتَ حسدَ داودَ وأصيب بالجنون وهام في الصحراء، فإنَّه زَعْمٌ باطلٌ لا دليل عليه من خبر ثابت، وقد أورد الله تبارك وتعالى قصَّةَ طالوت وحربه جالوتَ، وتمليك داود حيث قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 246 - 252].
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() داود وسليمان عليهما السلام (2) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد بعد أن مكَّن الله لداودَ في الأرض، وآتاه المُلكَ والنبوَّة، وأنزل عليه الزَّبورَ وعلَّمه ما يحتاجُه هو وبنو إسرائيل من المنهج القويم، وقد يسَّر الله عز وجل لداود قراءةَ الزبور، وخفَّفه عليه حتى إنه كان يقرؤه بمقدار ما تُسرج دوابه، كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خُفِّفَ على داود عليه السلام القرآن، فكان يأمرُ بدوابه فتسرج فيقرأ القرآن قبلَ أن تُسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يده))، والمراد بالقرآن هنا الزبور الذي أنزله الله على داود عليه السلام؛ حيث يقول: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، كما يُطلق القرآن على القراءة، يعني: قراءة الزبور، وقد كان داود عليه السلام قد منحه الله عز وجل صوتًا جميلًا يتغنَّى به وهو يقرأ الزبور ويترنَّم، ولقد وصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ترنُّمه بالزبور بصوت المزامير؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا أبا موسى، لقد أُوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود))، وروى أحمد في مسنده قال: حدثنا عبدالرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صوتَ أبي موسى الأشعري وهو يقرأ فقال: ((لقد أوتي أبو موسى مِن مزامير آل داود)). وقد التزم داود عليه السلام بأنه لا يأكلُ إلا من عملِ يده، كما اتَّخذ منهجًا في الصيام والصلاة هو أحب المناهج التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضُّ عليها في التطوُّع؛ فقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفرُّ إذا لاقى))، وفي لفظ للبخاري من حديث عبدالله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه))، كما روى البخاري في صحيحه من حديث المقداد بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكلُ مِن عمل يده)). ولقد تفضَّل الله تبارك وتعالى على داود فَأَلانَ له الحديدَ، وعلَّمه صنعةَ لَبوسٍ؛ لصيانة المقاتلين المؤمنين، فكان أوَّلَ من صنع الدروع التي قد تسمى الزرد، وقد أرشده الله عز وجل إلى الطريقة المُثلى في صناعتها، فجعلها حلقًا بعد أن كانت صفائح ليسهل استعمالها، وأمره عز وجل أن يعملها سابغات تغطي كلَّ جسم لابسها ويجرها على الأرض، وتصلح للأجسام المختلفة طولًا وعرضًا، فيعم نفعها جميعَ المقاتلين، وأن يقدِّر في السرد؛ أي: في نسج الدرع، وهو إدخال الحلقات بعضها في بعض ولا تجعل المسامير غلاظًا فتكسر الحلقة، ولا دقاقًا فتتقلقل فيها، ولا تزاد في متانتها فتثقل على المقاتل؛ وهذه نعمة جزيلة، لفت الله المؤمنين إلى وجوب شكره عليها حيث يقول: ﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]. كما سخَّر الله عز وجل لداود الجبالَ والطير إذا سبَّح سبَّحتْ معه، وآتاه الحكمةَ وفصلَ الخطاب، وفي ذلك كلِّه يقول الله عز وجل في سورة الأنبياء: ﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 79، 80]. ويقول عز وجل في سورة سبأ: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10، 11]. ويقول تعالى: في سورة (ص) آمرًا شيخ المرسلين محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء في الصبر بداود عليه السلام: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 17 - 20]. وقد افترى اليهودُ على داود عليه السلام أكاذيبَ كثيرة، كما كذبوا على أنبياء الله من قبله ومن بعده، وقتلوا بعضَ الأنبياء؛ فقد ادَّعوا أن داود خرج يتمشَّى على سطح بيت الملك مساءً، فوجد امرأة جميلة تغتسل، فأرسل رجالًا فأخذوها وجاؤوا بها إلى داود، فدخلت عليه فاضطجع معها وحبلت منه، وأنه عمل على قتل زوجها؛ فقد جاء في الإصحاح الحادي عشر من سفر صموائيل الثاني الذي بأيديهم في الفقرة الثانية منه: وكان في وقت المساء أن داود قام عن سريره وتمشَّى على سطح بيت الملك؛ فرأى من على السطح امرأةً تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدًّا، وفي الفقرة الثالثة فأرسل داود وسأل عن المرأة فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي؟ وفي الفقرة الرابعة: فأرسل داودُ رسلًا وأخذها، فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثمَّ رجعت إلى بيتها، وفق الفقرة الخامسة: "وحبلت المرأة، فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حُبلى"، وبعد أن يسوق سفر صموائيل الثاني محاولة داود التخلُّص من أوريا زوج المرأة وإرساله إلى الحرب ليُقتل، بعد ذلك يقول السفر في الفقرة 26: فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلُها ندبت بعلها، وفي الفقرة 27: ولما مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته، وصارت له امرأة وولدت له ابنًا، وأما الأمر الذي فعله داود فقبُح في عيني الرب، ثم يتابع السفر المذكور سرد معاتبة الرب لداود وإماتة الله للولد الذي جاءت به بثشبع، ثم توبة داود وصيامه، ثم دخوله على امرأة أوريا واضطجاعه معها فتحبل وتلد ولدًا اسمه سليمان، والعجيب الغريب أن هذه الأكذوبة انطلت على بعض من ينتمي إلى علم التفسير ففسَّروا بها قوله الله عز وجل: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 21 - 25]. وتفسيرُ هذه الآيات بأن داودَ عشِق امرأة أوريا وقهره على التنازل له عنها، وسعى في قتله حتى قُتل، وكان لداود تسعٌ وتسعون امرأة، ولأوريا هذه المرأة الواحدة، ومجيء ملكين في صورة متخاصمين لداود لتنبيهه على قبح ما فعل، أقولُ: إن تفسير هذه الآيات الكريمات بهذا هو تفسير عاطل باطل، فاسد كاسد، وإفكٌ مفترًى مبتدَع يأباه لنفسه السوقة والرعاع، ومكر يهودي مخترع تمجُّه الأسماع، وتنفر منه الطباع؛ ولذلك أثر أن عليًّا رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدتُه مائة وستين جلدة، وهي حدُّ الفرية على الأنبياء، كما أُثر أن رجلًا صالحًا من أهل العلم كان جالسًا مع عمر بن عبدالعزيز بالمسجد وبالقرب منهما رجل يقصُّ على الناس هذه القصة المخترعة على داود، فقال الرجل الصالح: يا هذا، إن كان الأمر على خلاف ما تزعم فقد افتريتَ على نبيِّ الله داود، وإن كان على ما تزعم وستر الله على نبيِّه داود وكنَّى وقال نعجة ولم يقل امرأةً فما يحلُّ لك أن تفضح نبيَّ الله داود، فقال عمر بن عبدالعزيز: "هذا الكلام أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس".
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() داود وسليمان عليهما السلام (3) ذكرتُ في ختام الفصل السابق أنَّ تفسير من فسَّر قوله تعالى: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21] إلى قوله: ﴿ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾ [ص: 24]، بأن داود عشق امرأة أوريا، وقهره على التنازل له عنها، وسعى في قتله حتى قُتل، وتفسير النعجة في الآية بأنها المرأة، قلت: إن هذا تفسير عاطل باطل، فاسد كاسد وإفك مبتدع، يَأْبَاه لنفسه السوقة والرعاع، ومكر يهودي تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، وأذكر هنا أن سياق القرآن يأباه، فإنَّ الله تبارك وتعالى ذكر في مقدمة هذه السورة إلى قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 16] ما لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتمالُئِهم عليه واستهزائهم به، فأمره الله عز وجل بالصبر على ما يقولون، وأمره بأن يذكر قصَّةَ العبد الصالح الأوَّاب داود عليه السلام، ثم قصة سليمان ثم قصة أيوب، وما أصابهم من الضيق فصبروا، فجاءهم الفرج من عند الله، والمعروف أن القرآن العظيم كالدُّرِّ النظيم، كلُّ آية مرتبطة تمام الارتباط بما قبلها وبما بعدها، فهل يأمر الله عز وجل رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر اقتداءً بداود العبد الصالح الأوَّاب، ثم يصف هذا الأوَّاب بأنه العاشقُ الطامعُ في زوجة رجل مؤمن ليس له غيرُها، ولداود تسعٌ وتسعون امرأة، إن ذلك لمنكرٌ من القول وزُورٌ، وإنما يأمر الله رسولَه محمدًا صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات بالصبر على أذى قومه له، ويذكره بما كان من أخيه العبد الصالح الأوَّاب داود عندما تسوَّر عليه المحراب - أي القصر - متخاصمان، ففزع منهم، وخاف أن يغتالوه، ولما طمأنوه بأنهم لم يجيئوا لإلحاق أذًى به، وإنَّما جاؤوا متخاصمين، وتقدَّم المدعي وقال مشيرًا إلى المدَّعى عليه: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ﴾، أي: شاة من الغنم، ﴿ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ [ص: 23]، أي: شاة من الغنم واحدة، وأنه رحمني في أول الأمر عندما رآني أسرح بها وحدَها، فطلب مني أن يجعلها مع نعاجه لترعى معها دون مشقة عليَّ، فلمَّا مضت مدَّةٌ وجئت لأطلبها منه أنكر حقِّي فيها وقهرني، وجحد أن تكون لي عنده شاةٌ، وادَّعى أنها ملكه، فلما سمع داود عليه السلام الدعوى ولم يسمع من المدَّعى عليه إنكارًا لما يقول المدعي حكَم داود على المدعى عليه وقال للمدعي: ﴿ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ [ص: 24]، وإن هذا دأب الخُلطاء الذين لا يخافون الله بخلاف المؤمنين الصالحين وهم قليل، فلما انصرفوا من عنده راضين بحكمه عاتب نفسَه على الفزع منهم، وظن أنه فُتِن بسبب فزعه منهم عندما رآهم يتسوَّرون المحراب، فخرَّ لله راكعًا وأنابَ، فغفر الله ما وقع منه.الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد وكأن الله تعالى يقول لشيخ المرسلين وإمام المتقين وسيد أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم: "إياك أن تفزع من تهديدات قريش لك، واذكر قصةَ أخيك العبد الصالح الأوَّاب عليه السلام عندما تسوَّر عليه المحراب متخاصمون ففزع منهم؛ فاعتذر إلى الله من هذا الفزع، وظنَّ أنه لا يليق بالنبيين والمرسلين، فأنت أَولى ألا تفزع من قريش مهما تمالؤوا عليك وهددوك؛ فإنَّ العاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة لك، والله يَعصمك من الناس، وليس في قصَّة داود في سورة (ص) ذِكر حُبٍّ وغرامٍ واعتداءٍ على امرأة رجل مؤمن في عِصمة زوجها؛ بل لا ذِكر للمرأة أبدًا في هذه القصة، وإنما فيها ذكر النَّعجة، والعرب - كما ذكرت في مقدمة هذا الكتاب قصص الأنبياء في الفصل الثاني - لا يُسمُّون المرأةَ نعجةً، وإنما يطلقون النعجةَ على أنثى الضأن أو بقر الوحش فقط، ولا ترضى المرأة أبدًا أن تُشبه بأنثى الضأن، ولكنها ترضى أن تشبه بنعاج الفلا، أي: بقر الوحش، فإذا شُبهت المرأة بالنعجة فإنما يراد بها المها، وهي بقر الوحش؛ على حد قول الشاعر في امرأتين: هما نعجتان من نِعاجِ تبالةٍ ![]() لدى جؤذرينِ أو كبعضِ دُمى هكر ![]() ![]() ![]() و(تبالة) مكانٌ بين بيشة والنماص، كانت توجد فيه بقر الوحش بكثرة، و(جؤذرين) تثنية جؤذر؛ وهو ولد البقرة الوحشية، ودُمى هكر: الدُّمى جمع دمية وهي صور الرخام، وهكر: موضع فيه هذه الصورة، ويقال: هو ديرٌ رومي أو قصر؛ فالمرأة تفرح إذا شبهت ببقر الوحش لجمال عيونها؛ وحسن عنقها؛ ولذلك قال الشاعر: عيونُ الْمَها بينَ الرصافةِ والجسرِ ![]() جلبْنَ الهَوَى منْ حيثُ أدرِي ولا أَدْرِي ![]() ![]() ![]() وقال الآخر: إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ ![]() قَتَلْنَنا، ثمَّ لم يحيينَ قتلانا ![]() يصرعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ بهِ ![]() وَهُنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ إنسانا ![]() والمعروفُ أن بقرَ الوحش لا يسرحُ تحت كفالة راعٍ؛ فإطلاق النعجةِ على المرأة ليس بالوضع العربي، وإنما يأتي على سبيل التشبيه ببقرة الوحش لا بأنثى الضأن. قال أبو حيان في تفسيره المعروف بالبحر المحيط عند قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ [ص: 23] قال: والظاهرُ إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها من كونها أنثى الضأن، ولا يُكنى بها عن المرأةِ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ثمَّ قال أبو حيان: والذي يذهب إليه ما دلَّ عليه ظاهر الآية من أن المتسوِّرين المحراب كانوا من الإنسِ دخلوا عليه من غير المدخلِ، وفي غير وقت جلوسِه للحكم، وأنه فزع منهم ظانًّا أنهم يغتالونه؛ إذ كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه، فلمَّا اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكُم كما قصَّ الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظنَّ أن دخولَهم عليه في ذلك الوقتِ ومن تلك الجهة إنفاذٌ من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنَّه، فاستغفر من ذلك الظنِّ؛ ولذلك أشار بقوله: ﴿ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ﴾ ولم يتقدم سوى قوله: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾، ويُعلم قطعًا أن الأنبياء عليه السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها، ضرورة أن لو جوَّزنا عليهم شيئًا من ذلك بطلت الشرائع ولم نثِقْ بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم؛ اهـ. أما قول البخاري رحمه الله في كتاب أحاديث الأنبياء من صحيحه: يقال للمرأة: نعجة، ويقال لها أيضًا: شاة، فقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري إلى أنه استقى ذلك من أبي عبيدة معمر بن المثنَّى حيث قال: قال أبو عبيدة في قوله: ﴿ وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾، أي: امرأة، قال الأعشى: فرميتُ غفلةَ عينِهِ عن شاتِهِ ![]() فأصبتُ حبةَ قلبِها وطحالِها ![]() ![]() ![]() والمعروف عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه كان يتأَوَّلُ بعضَ ألفاظ القرآن على أن ذلك من مجازِ القرآن، وقد أنكر عليه كثيرٌ مِن الأئمَّة في هذا السبيل، وهو ليس من الثِّقات في نقل الأخبار، وإطلاق الأعشى لفظ الشاة على المرأة إنما أراد بالشاة البقرة الوحشية تشبيهًا لها بها، وقد قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ لَمَّا ذَكَر أبا عبيدة معمر بن المثنى: وليس هو بصاحب حديث، بل سبق قلمي بكتابته؛ اهـ. وقد قال ابن كثير في قصة داود من البداية والنهاية: وقد ذكر كثيرٌ من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصًا وأخبارًا أكثرها إسرائيليَّات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة، تركنا إيرادها في كتابنا قصدًا، اكتفاءً واقتصارًا على مجرَّد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وقال في تفسيرِه بعد سياق الآيات: قد ذكر المفسرون هاهنا قصَّةً أكثرها مأخوذ من الإسرائيليَّات، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديثٌ يجب اتِّباعه، ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثًا لا يصح سنده؛ لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه، ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيفُ الحديث عند الأئمَّة، فالأَوْلَى أن يقتصر على مجرَّد تلاوة هذه القصة وأن يردَّ علمها إلى الله عز وجل.
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() داود وسليمان عليهما السلام (4) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد أجزلَ اللهُ تعالى لداود النعمةَ، فآتاه الملكَ والحكمةَ وعلَّمه مما يشاء، ووَهَبَ له العبد الصالح والملِك الكريم والنبيَّ العظيمَ الأوَّاب سليمان بن داود، وقد نشأ سليمان عليه السلام في حِجْر داود، وترعرع في بيت النبوَّة والملك، وعندما بلغ الحُلُم ملأه الله حِلمًا؛ أي: أناةً وعقلًا، وكان يحرص على مجالس حكم أبيه داود عليه السلام؛ ليشهد قضاءه بين الناس، وقد كان يشير أحيانًا على أبيه بأنه لو كان هو القاضي في هذه القضية لحكم بغير ما حكم أبوه، وقد ذكر القرآن العظيم صورة من صور هذه القضايا، فذكر الله تبارك وتعالى في سورة الأنبياء قضيَّةَ الحرث إذ نفشَتْ فيه غنمُ القوم، أي: انتشرت فيه ليلًا بلا راعٍ فأفسدت الزرع، فيُذكر أن داود قضى بالقيمة لصاحب الزرع، فقال سليمان عليه السلام: لو كنتُ أنا القاضي لقضيتُ بغير ذلك، فقال داود عليه السلام: بمَ كنتَ تقضي يا بنيَّ؟ قال: أدفع الغنمَ إلى أصحاب الزرع فينتفعون بألبانها ومنافعها، ويقوم أصحاب الغنم بإصلاح الحرث حتى يعود كما كان، فيرد إلى أصحابه وترد الغنم إلى أصحابها، ففضَّل الله تبارك وتعالى حكمَ سليمان، وذكر أنه فهمه الحكم في هذه القضية، ولا يحطُّ ذلك من قدر داود عليه السلام؛ لأن فرحه بتوفيق ابنه للحكم في القضيَّة لا يقل عن فرحه لو كان فهمها هو كذلك؛ ولذلك مدح الله تعالى داود وسليمان معًا فقال: ﴿ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ وليس حكم داود هنا خطأ، ولكن حكم سليمان في هذه القضية أولى منه، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾ [الأنبياء: 78، 79]. قال ابنُ كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أما الأنبياء عليهم السلام فكلُّهم معصومون مؤيَّدون من الله عز وجل؛ وهذا ممَّا لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف، وأما مَنْ سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر))؛ اهـ. كما قصَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صورةً من صور حكم داود، ثم أظهر سليمان عليه السلام أنه لو كان القاضي في هذه القضية لقضى بغير ذلك؛ فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى؛ فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعلْ، يرحمُك اللهُ، هو ابنها، فقضى به للصغرى)). وقد استمرَّ داود في حكمه وملكه ما شاء الله تعالى، فلمَّا أدركه الموتُ أرسل الله عز وجل سليمانَ عليه السلام وجعله ملِكًا كريمًا ورسولًا عظيمًا، وعلَّمه منطقَ الطير، وجعله أحدَ الأئمة مِن الرسل الذين أمر رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم. وقد بدأ بذكر داود وسليمان بعد ذكر نوح عليه السلام في سورة الأنعام؛ حيث يقول عز وجل: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 83، 84]. وبعد أن ذكر مجموعة من المرسلين قال لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 89، 90]؛ ولذلك سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة (ص) لما قرأ سجدة داود؛ فقد روى البخاري في صحيحه من طريق مجاهد قال: سألت ابن عباس - يعني عن سجدة (ص) - من أين سجدتَ؟ قال: أوما تقرأ: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ﴾ [الأنعام: 90]؟ فكان داود ممَّن أُمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به، فسجدها داود عليه السلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي قيام سليمان عليه السلام بعد أبيه بالمُلك والنبوَّة يقول تعالى في سورة النمل: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 15، 16]؛ إذ المراد بالميراث هنا هو ميراث المُلْكِ والنبوَّة، لا ميراث المال؛ ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا معشرَ الأنبياء لا نُورثُ، ما تركنا فهو صدقةٌ)). وكما أن اليهود كذبوا على داود عليه السلام واختلقوا عليه أشياء كثيرة؛ فقد أكثروا من الكذب على سليمان عليه السلام واتَّبعوا في ذلك الشياطين، وزعموا أنَّ سليمان عليه السلام كان يحكُم بواسطة خاتمه السحري وأنه كان ساحرًا، وأنه كان إذا دخل بيت الخلاء دفع الخاتم لزوجته لما فيه من ذكر الله حتى يخرج من الخلاء، وأنَّ الشيطان جاء إلى امرأة سليمان في صورة سليمان فدفعت إليه الخاتم، فذهب الشيطانُ وجلس على كرسي الملك يحكم في بني إسرائيل، وأنَّ سليمان لما خرج من بيت الخلاء قال لامرأته: هاتِي الخاتم، فقالت: قد خرج سليمان قبلَك وأخذه، وأنكرت سليمان، فهام سليمان على وجهه حتى عَمِلَ عند صيادٍ، فكان الصيَّادُ يعطيه أجرتَه عن كل يوم سمكتين، كان يبيع سمكةً يشتري بثمنها خبزًا، ويطبخ السمكةَ الأخرى، وأنه استمرَّ على ذلك أربعين يومًا، ثم إن بني إسرائيل قاموا على هذا الشيطان الجالس على كرسي سليمان فهرب منهم - ولا أدري كيف لم ينفعْه الخاتم - وألقى بالخاتمِ في البحر فابتلعته سمكة، ثم وقعت في شباكِ الصيَّاد، فلما دفع لسليمان أجرتَه سمكتين باع واحدة وطبخ الأخرى وهي التي كان في جوفها الخاتمُ، فلما فتحها وجد خاتمَه، فلبسه ورجع إلى ملكه. والعجيبُ أن هذا الإفك تسرَّب إلى بعض أكابر أهل العلم فصدَّقوه حتى تجدَ أكثر كتب التفسير في قوله: ﴿ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ﴾ [ص: 34] يقولون: شيطانًا، وانتشر على ألسنة العامة والخاصة ذِكْر خاتم سليمان، وخواصه، مع أن الله تبارك وتعالى نبَّه في سورة البقرة إلى كذِبِ اليهود على سليمان اتِّباعًا للشياطين في هذا الباب حيث يقول عز وجل: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ [البقرة: 102] الآية، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسَّر فتنةَ سليمان وإلقاء الجسد على كرسيه بأنه حلف ليطوفَنَّ على مائة من نسائه، فتحملُ كلُّ واحدة منهنَّ بفارسٍ يحمل السلاحَ ويجاهد في سبيل الله، ونسي أن يقول: إن شاء الله، فطافَ عليهنَّ فلم تحملْ إلَّا واحدة جاءت بشقِّ ولد، فأخذ وألقي على كرسيه، فاعتذر إلى الله عز وجل فقبل الله معذرتَه، وأنه ما طلب الولد تكثُّرًا وافتخارًا، وإنما ليقاتلوا في سبيل الله فقبل الله منه وأبدله ﴿ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ ﴾ [ص: 36 - 38].
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() داود وسليمان عليهما السلام (5) الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد ذكرت في ختام الفصل السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسَّر قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ص: 34] بقصة حلفه على أن يطوف على مائة من نسائه لتَحْبَلَ كلُّ واحدةٍ منهنَّ، وتأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ونَسِيَ أن يقول: إن شاء الله، فطافَ عليهنَّ فلم تحبلْ إلا واحدة جاءت بشق ولدٍ، فأُخِذَ وطُرِحَ على كرسيه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلةَ بمائة امرأةٍ، تلِدُ كلُّ امرأةٍ منهنَّ غلامًا يقاتلُ في سبيل الله، ونسي أن يقول: إن شاء الله، فأطاف بهنَّ فلم تلد منهن امرأة إلا واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركًا لحاجته))، وفي لفظ للبخاري: ((فلم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شِقَّيْهِ))، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لو قالها لجاهدوا في سبيل الله))، فأَعْجَبُ كيف ترك بعض العلماء هذا التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتنة سليمان وأتوا بأكاذيب اليهود والشياطين! قال ابنُ كثير في قصص الأنبياء من البداية والنهاية: "وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ص: 34] ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما من المفسرين هاهنا آثارًا كثيرة عن جماعة من السلف، وأكثرُها أو كلُّها متلقاةٌ من الإسرائيليَّات، وفي كثير منها نكارة شديدة، وقد نبَّهنا على ذلك في كتابنا التفسير، واقتصرنا هاهنا على مجرد التلاوة"؛ اهـ. وقد تفضَّل اللهُ تبارك وتعالى على سليمان فمنحَه الكثيرَ من أسباب القوة، وعوَّضه ما يزيدُ في قوته على مائة ولد مجاهد، فسَخَّر له: ﴿ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 36 - 39]، وكما أن الله أعزَّ منزلةَ سليمان في الدنيا فإنه أعدَّ له في الآخرة درجة عالية وحسنَ مآب، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 34 - 40]. وقد وصف اللهُ تبارك وتعالى الريحَ التي سخَّرها لسليمان بما يفيد أنها تخضع لإرادة سليمان عليه السلام، فإن أحبَّ أن تكون لينةً هادئةً صارت كذلك، وإن أحبَّ أن تكون عاصفةً شديدةً سريعةً تَقطع في الغداة - أي: من أول النهار إلى الزوال - ما يقطع بالسير المعتاد في شهر، وتقطع في الرواح - أي: في الزوال إلى الغروب - ما يقطع بالسير المعتاد في شهر؛ أي: ما يقارب ثمانين وأربعمائة ميل في رحلة الصباح ومثلها في رحلة المساء، وإلى ذلك كله يشير قوله تعالى في سورة (ص): ﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ﴾ [ص: 36]، وقوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 81]، وقوله تعالى في سورة سبأ: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ [سبأ: 12]. وكما أَلانَ الحديد لداود فقد أَسَالَ عينَ القطر لسليمان عليه السلام؛ أي: أذابَ له عين النحاس والحديد، فصارَ النحاس والحديد يخرج من معدنه كالعين الجارية من الماء دون أن يُشعل عليه نارًا؛ تيسيرًا له ومدًّا في أسباب قوَّته، كما سخَّر له الشياطين وهم مردة الجنِّ فمَن دونهم، يعملون بين يديه بأمر ربه خاضعين لا يجرؤ واحدٌ منهم على الهربِ من خدمة سليمان، ولو أراد الهرب لعجل الله بعقوبته، يعملون لسليمان ما يشاء من محاريب - أي قصور عالية ممرَّدة من قوارير - فالمحرابُ القصرُ، وإطلاقه على ما يعرف باسم القِبْلة، وهي في العادة تجاويف في جدار المسجد من جهة قبلته للتعريف بها - إطلاقُ المحراب على ذلك من الإطلاقات المحدثة التي لا يعرفها العرب، ومن الأخطاء الفاحشة كتابة قوله تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾ [آل عمران: 37] على هذا التجاويف، فإنها غير مرادة من هذه الآية الكريمة، كما كانت الجنُّ تعمل لسليمان ما يشاء من التماثيل؛ أي: زخارف الجدران من صور الأشجار والزهور ونحوها، كما كانوا يصنعون قصاعًا كبارًا كأنها الحياض يقدم فيها الطعام، كما كانوا يعملون له قدورًا لطبخ الطعام ثابتة لا تحرَّك من مكانها لضخامتها، كما كانت الجنُّ تقوم بأعمال الغوص لاستخراج الجواهر، وفي ذلك كلِّه يقول الله عز وجل في سورة الأنبياء: ﴿ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴾ [الأنبياء: 82]. ويقول في سورة سبأ: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 12، 13]. ويقول في سورة (ص): ﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 37 - 40]. وكما سخَّر الله لداودَ الطيرَ محشورة تؤوبُ وتسبِّح الله بتسبيحه، فكذلك سخَّرَ الطير لسليمان يجمعها متى شاء ويعلم لغاتها ولغات الحشرات، وفي ذلك يقول الله عز وجل في سورة النمل: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 16، 17]؛ (أي: يجمعون عنده، ويسيرون بسيره، ولا يتقدَّم أحدٌ على مرتبته، ولا يشذُّون عن إرادته). وقد قصَّ الله تبارك وتعالى قصةَ إحدى هذه المسيرات، فذكر أنه مَرَّ بجنوده هؤلاء على وادي النمل، فسارعت نملةٌ إلى نُصْحِ جماعتها بالدخول في مساكنهم، والابتعاد عن مسيرة سليمان وجنوده حتى لا يحطموهم دون علم منهم، فعرف سليمان لغتها وسمع نصحها لقومها فضحك، وسأل الله تعالى أن يُوزِعَه شكرَ نعمه التي أنعم بها عليه وعلى والديه، وأن يعملَ صالحًا يرضاه اللهُ، وأن يدخله برحمته في عباده الصالحين، وفي ذلك يقول الله عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 18، 19]. وفي قِصَّة النمل لفت انتباه الناس إلى آيات الله في الكون، وما في العالم من أُمم، وما لهذه الأُمم من المعارف والسلوك، وما يكون في هذه العجماوات من التَناصُحِ وحبِّ الخير لبعضها بعضًا، فإن هذه النملة قد أَمَرَتْ وحَذَّرَتْ، واعتذرت عن سليمان وجنوده بأنهم لا يتعمَّدون الإضرار بأحد، ولا شَكَّ في أن الدَّارس لأخلاق النمل والنحل... وغيرها من العوالم يجد آيات شاهدات بأنه ربُّ كلِّ شيءٍ وسيده ومليكه، وأنه لا ينبغي الاعتداء على شيء من خلق الله بلا حَقٍّ؛ ولذلك روى مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قَرَصَتْ نبيًّا من الأنبياءِ نملةٌ، فأَمَرَ بقريةِ النملِ فأُحْرِقَتْ، فأوحى اللهُ إليه: أفِي أنْ قرصَتْكَ نملةٌ أَهْلَكْتَ أمةً من الأُمَمِ تُسبِّحُ؟! فهلَّا نملة واحدة)).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |