التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1094 - عددالزوار : 127797 )           »          أدركتني دعوة أمي! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 18 )           »          الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية .. روائع الأوقاف في الصحة العامة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          حقيقة الإسلام ومحاسنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          المرأة .. والتنمية الاقتصادية في الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          أسباب الثبات على الدين (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »          مكارم الأخلاق (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 7 - عددالزوار : 4794 )           »          مفاسد الغفلة وصفات أصحابها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          من جهود علماء الكويت في ترسيخ عقيدة السلف الصالح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          سفراء الدين والوطن .. الابتعاث فرص تعليمية وتحديات ثقافية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 16 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 09-11-2009, 03:00 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية

قال شيخ الاسلام احمد بن تيمية قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبى بعده الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله منشرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهدان لا اله الا الله وحده لا شريك له ونشهد ان محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآلهوسلم
اما بعد فهذه كلمات مختصرات فى اعمال القلوب التى قد تسمى المقامات والاحوال وهيمن اصول الايمان وقواعد الدين مثل محبة الله ورسوله والتوكل على الله واخلاص الدينله والشكر له والصبر على حكمه والخوف منه والرجاء له وما يتبع ذلك اقتضى ذلك بعض مناوجب الله حقه من اهل الايمان واستكتبها
وكل منا عجلان فأقول هذه الاعمال جميعها واجبة على جميع الخلق المأمورين فىالاصل باتفاق أئمة الدين والناس فيها على ثلاث درجات كما هم فى اعمال الابدان علىثلاث درجات ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات
فالظالم لنفسه العاصي بترك مأمور او فعل محظور
والمقتصد المؤدي الواجبات والتارك المحرمات
والسابق بالخيرات المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب ومستحب والتارك للمحرموالمكروه وان كان كل من المقتصد والسابق قد يكون له ذنوب تمحى عنه إما بتوبة واللهيحب التوابين ويحب المتطهرين واما بحسنات ماحية واما بمصائب مكفرة وإما بغير ذلكوكل من الصنفين المقتصدين والسابقين من اولياء الله الذين ذكرهم فى كتابه بقوله إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فحد اولياءالله هم المؤمنون المتقون ولكن ذلك ينقسم الى عام وهم المقتصدون وخاص وهم السابقون وان كان السابقون هم اعلى درجات كالانبياء والصديقين
وقد ذكر النبى صلى الله عليه و آله وسلم القسمين فى الحديث الذي رواه البخاري عن ابي هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم انه قال يقول الله من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الي بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع بهوبصره الذي يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها فبى يسمع وبي يبصر وبىيبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطينه ولئن استعاذنى لاعيدنه وما ترددت عن شىء انا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت واكره مساءته ولابد له منه
واما الظالم لنفسه من أهل الايمان فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه كما معه من ضد ذلك بقدر فجوره إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب حتى يمكن ان يثاب و يعاقب وهذا قول جميع اصحاب رسول اللهصلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الاسلام وأهل السنة والجماعة الذين يقولون أنه لايخلد فى النار من فى قلبه مثقال ذرة من ايمان وأما القائلون بالتخليد كالخوارج والمعتزلة القائلين أنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره فى أهل الكبائر لا قبل دخول النارولا بعده فعندهم لا يجتمع فى الشخص الواحد ثواب وعقاب وحسنات وسيئات بل من اثيب لا يعاقب ومن عوقب لم يثب ودلائل هذا الأصل من الكتاب و السنة و إجماع سلف الامة كثير ليس هذا موضعه وقد بسطناه فى مواضعه .
وينبنى على هذا أمور كثيرة ولهذا من كان معه إيمان حقيقى فلابد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمان هو إن كان له ذنوب كما روى البخارى فى صحيحه عن عمر بنالخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان يسمى حماراً وكان يضحك النبى صلى الله عليه وسلم وكان يشرب الخمر ويجلده النبى صلى الله عليه وآله وسلم فأتى به مرة فقال رجل لعنةالله ما اكثر ما يؤتى به الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبى صلى الله عليهوسلم لا تلعنه فانه يحب الله ورسوله .
فهذا يبين ان المذنب بالشرب وغيره قد يكون محبا لله ورسوله وحب الله ورسوله اوثقعرى الايمان كما ان العابد الزاهد قد يكون لما فى قلبه من بدعة ونفاق مسخوطا عليه عند اللهورسوله من ذلك الوجه كما استفاض فى الصحاح وغيرها من حديث أمير المؤمنينعلى ابن ابى طالب وابي سعيد الخدري وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم انهذكر الخوارج فقال يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم أجراً عند اله لمن قتلهم يوم القيامة لئن ادركتهملاقتلنهم قتل عاد .
وهؤلاء قاتلهم اصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم مع أمير المؤمنين على إبن أبىطالب بأمر النبى صلى الله عليه وسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فى الحديث الصحيح فرقة من المسلمين يقتلهم ادنى الطائفتين الى الحق .
ولهذا قال أئمة الإسلام كسفيان الثوري وغيرهإن البدعة أحب الى ابليس من المعصية لأن البدعة لا يتاب منهاوالمعصية يتاب منها ومعنى قولهم إن البدعة لا يتاب منها إن المبتدع الذي يتخذ دينا لم يشرعه الله ولا رسوله قد زين له سوء عمله فـرآه حسنـاً فهولا يتوب ما دام يراه حسنا لان اول التوبة العلم بأن فعله سىء ليتوب منه او بأنه تركحسنا مأمورا به أمر ايجاب أو استحباب ليتوب ويفعله فما دام يرى فعله حسناً وهو سيءفى نفس الأمر فانه لا يتوب .
ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدىسبحانه تعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم وقال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا واذا لآتيناهم من لدنا أجراً عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى : ()اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور) وقال تعالى : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) وشواهد هذا كثيرة فى الكتاب والسنة وكذلك من اعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعا لهواه فان ذلك يورثه الجهل والضلالحتى يعمى قلبه عن االحق الواضح كما قال تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً ) وقال تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وهذا استفهام نفى وانكار أي وما يدريكم انها اذا جاءت لا يؤمنون وانا نقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة على قراءة من قرأ انها بالكسر تكون جزما بأنها اذا جاءت لا يؤمنون ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرةولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير ان من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وان من عقوبة السيئة السيئة بعدها .
وقد ثبت فى الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم انهقال عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر وان البر يهدى الى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا واياكم والكذب فان الكذب يهدى الىالفجور وان الفجور يهدى الى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن الصدق أصل يستلزم البر وأن الكذبيستلزم الفجور .
وقد قال تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ولهذا كان بعض المشائخ إذا أمر بعض متبعيه بالتوبة وأحب أن لا ينفره ولا يشعب قلبه أمره بالصدق ولهذا كانيكثر فى كلام مشائخ الدين وائمته ذكر الصدق والإخلاص حتى يقولون قل لمن لا يصدق لايتبعني ويقولون الصدق سيف الله فى الأرض وما وضع على شيء الا قطعه ويقول يوسف بن أسباط وغيره ما صدق الله عبد الا صنع له وأمثال هذا كثير .
والصدق والإخلاص هما فى الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام فان المظهرين الإسلامينقسمون الى مؤمن ومنافق والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق فان أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب ولهذا إذا ذكر الله حقيقة الإيمان نعتة بالصدق كما فى قوله تعالى (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا الى قوله انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وانفسهم فى سبيل الله اولئك هم الصادقون وقال تعالى للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله هم الصادقون) .
فأخبر أن الصادقين فى دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبةوجاهدوا فى سبيـله بأموالهم وأنفسهم وذلك إن هذا هو العهد المأخوذ على الأولينوالآخرين كما قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) قال ابن عباس ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وامره ان يأخذ الميثاقعلى امته لئن بعث محمد وهم احياء ليؤمنن به ولينصرنه .
وقال تعالى لقد ارسلنا رسلنا بالبينات وانزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وانزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسلهبالغيب ان الله قوي عزيز فذكر تعالى انه انزل الكتاب والميزان وانه انزل الحديد لاجل القيام بالقسط وليعلم الله من ينصره ورسله ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدىوسيف ينصر وكفى بربك هاديا ونصيرا والكتاب والحديد وان اشتركا فى الانزال فلا يمنع أن يكون أحدهما نزل من حيث لم ينزل الآخر حيث نزل الكتاب من الله كما قال تعالىتنزيل الكتـاب مـن الله العزيز الحكيم وقال تعالى : (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) والحديد أنزل منالجبال التي خلق فيها .
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 09-11-2009, 03:00 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية

وكذلك وصف الصادقين في دعوى البر الذي هو جماع الدين في قوله تعالى ليس البر أنتولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم اللآخر والملائكةوالكتاب والنبيين الي قوله اولئك الذين صدقوا وأؤلئك هم المتقون وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة كقوله تعالى في قولبهم مرض فزادهم الله مرضاولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وقوله تعالى اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم أنكلرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون وقوله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ) ونحو ذلك في القرآن كثير ومما ينبغي ان يعرف ان الصدق والتصديق يكون فيالاقوال وفى الاعمال كقول النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم فى الحديث الصحيح كتبعلى ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر والاذنان تزنيان وزناهما السمع واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيانوزناهما المشي والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك او يكذبه ويقال حملوا على العدو حملة صادقة اذا كانت ارادتهم للقتال ثابتة جازمة ويقال فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك ولهذا يريدون بالصادق الصادق فى ارادته وقصده وطلبه وهو الصادق فى عملهويريدون الصادق في خبره وكلامه والمنافق ضد المؤمن الصادق وهو الذي يكون كاذبا فىخبره او كاذباً فى عمله كالمرائي فى عمله قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً) الآيتين .
واما الاخلاص فهو حقيقة الاسلام اذ الإسلام هو الإستسلام لله لا لغيره كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ .....الآية) فمن لم يستسلم لله فقد استكبر ومن استسلم لله ولغيره فقد اشرك وكل من الكبر والشرك ضدالإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر ويستعمل لازما ومتعديا كما قال تعالى اذ قال لـه ربه إسلم قال أسلمت لرب العالمين وقال تعالى : (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وامثال ذلك فى القرآن كثير .
ولهذا كان كان رأس الإسلام شهادة أن لا اله إلا الله وهى متضمنة عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا سواه كما قال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وقال تعالى : (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) إن الدين عند الله الإسلام وهذا الذي ذكرناه مما يبين ان اصل الدين فى الحقيقة هو الامور الباطنة من العلوم والاعمال وان الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذي رواه احمد فى مسنده الاسلام علانية والايمان فى القلب ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبى صلى الله عليه وسلم الحلالبين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثيرمن الناس فمن إتقى الشبهاتفقد استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمىيوشك ان يقع فيه ألا وان لكل ملك حمى ألا وان حمى الله محارمه ألا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد الا وهي القلب وعن أبى هريرة قال القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثتجنوده .
فصل وهذه الأعمال الباطنة كمحبة الله والإخلاص لـه والتوكل عليه والرضا عنه ونحوذلك كلها مأمور بها فى حق الخاصة والعامة لا يمكن تركها محمودا فى حال أحد وانارتقى مقامه
واما الحزن فلم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وان تعلق بأمر الدين كقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) وقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) وقوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وامثالذلك كثير .
وذلك لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه ومالا فائدة فيه لا يأمر الله بــه نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم كما يحزن على المصائب كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ان الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم واشار بيده الى لسانه وقال صلى الله عليه وسلم تدمع العينويحزن القلب .
ولا نقول الا ما يرضي الرب ومنه قوله تعالى : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) وقد تبين بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه فيكون محموداً من تلك الجهة لا منجهة الحزن كالحزين على مصيبة فى دينه وعلى مصائب المسلمين عموما فهذا يثاب على ما فى قلبه من حب الخير وبغض الشر وتوابع ذلك ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى الى تركمأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثمعنه من جهة الحزن .
وأما أن أفضى الى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر الله ورسوله به كان مذموماً عليه من تلك الجهة وان كان محمودا من جهة اخرى وأمـا المحبة لله والتوكل عليه والإخلاص له ونحو ذلك فهذه كلها خير محض وهى حسنة محبوبة فى حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن قال أن هذه المقامات تكون للعامةدون الخاصة فقد غلط فى ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها فان هذه لا يخرج عنها مؤمن قطوانما يخرج عنها كافر أو منافق وقد تكلم بعضهم فى ذلك بكلام بينا غلطه فيه وانهتقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه ، ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها الى خصوص وعموم فللخاصة خاصها وللعامة عامهامثال ذلك أن هؤلاء قالوا أن التوكل مناضلة عن النفس فى طلب القوت والخاص لا يناضلعن نفسه وقالوا المتوكل يطلب بتوكله أمراً من الأمور والعارف يشهد الأمور بفروعهامنها فلا يطلب شيئا فيقال أما الأول فان التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا فإن المتوكل يتوكل على الله فى صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وارادته وهذا اهم الأمور اليه ولهذا يناجي ربه فى كل صلاة بقوله إياك نعبد وإياك نستعين كما فى قوله تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) وقوله تعالى : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) فهو قد جمع بين العبادة والتوكل فى عدة مواضع لان هذين يجمعان الدين كله ولهذاقال من قال من السلف ان الله جمع الكتب المنزلة فى القرآن وجمع علم القرآن فىالمفصل وجمع علم المفصل فى فاتحة الكتاب وجمع علم فاتحة الكتاب فى قوله إياك نعبدوإياك نستعين ، وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد كما فى الحديث الذي في صحيحمسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه : عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال يقول الله سبحانه قسمتالصلاة بيني وبين عبدى نصفين نصفها لي ونصفها لعبدى ولعبدى ما سأل قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدنى عبدي يقولالعبد الرحمن الرحيم يقول الله اثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين يقول الله مجدني عبدى يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين يقول الله فهذه الآية بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل يقول العبد إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله فهؤلاء لعبدى ولعبدى ما سأل فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير والعبد له نصف الدعاء والطلــب وهاتـان جامعتان ما للرب سبحانه وماللعبد فاياك نعبد واياك نستعين للعبد ، وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه قال كنت رديفا للنبى صلى الله عليه وسلم علىحمار فقال يا معاذ اتدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله ما حق العباد علىالله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم والعبادة هيالغاية التى خلق الله لها العباد من جهة أمر الله ومحبته ورضاه كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب وهي إسم يجمع كمال الحب لله ونهايته وكمال الذل لله ونهايته فالحب الخلي عن ذل والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة وانما العبادة ما يجمع كمال إلا مرين ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا اللهوهي وإن كانت منفعتها للعبد والله غني عن العالمين فهي له من جهة محبته لها ورضاهبها ولهذا كان الله اشد فرحا بتوبة العبد من الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه فى أرض دوية مهلكة إذا نام آيسا منها ثماستيقظ فوجدها فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته وهذا يتعلق به أمور جليلةقد بسطناها وشرحناها في غير هذا الموضع .
والتوكل والإستعانة للعبد لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة فالاستعانة كالدعاء والمسئلة وقد روى الطبراني فى كتاب الدعاء عن النبىصلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل يا ابن آدم إنما هي أربع واحدة لي وواحدة لك وواحدة بيني وبينك وواحدة بينك وبين خلقى فأما التى لي فتعبدنى لا تشرك بي شيئاوأما التى هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه وأما التى بينى وبينك فمنكالدعاء وعلى الإجابة وأما التى بينك وبين خلقى فأت للناس ما تحب ان يأتوا اليك .
وكون هذا لله وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا إبتداء فان العبد إبتداءيحب ويريد ما يراه ملائما له والله تعالى يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة فى رضاهويحب الوسيلة تبعاً لذلك وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد وكل ذلك يحبهالله ويرضاه وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلببه إلا حظوظ الدنيا وهو غلط بل التوكل فى الامور الدينية اعظم .
وأيضاً التوكل من الأمور الدينية التى لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بهاوالزاهد فيها زاهد فيما يحبه الله ويأمر به ويرضاه ، والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع فى الدار الآخرة وهو فضول المباحالتى لا يستعان بها على طاعة الله كما أن الورع المشروع هو ترك ما قد يضر فى الدارالآخرة وهو ترك المحرمات والشبهات التى لا تستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع فى الدار الآخرة فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل فى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) كما أن الإشتغال بفضول المباحات هو ضد الزهد المشروع فان اشتغل بها عن فعل واجب او فعل محرم كان عاصياً وإلا كان منقوصا عن درجة المقربين الى درجة المقتصدين ، وأيضا فان التوكل هو محبوب لله مرضي لـه مأمور به دائماً وما كان محبوبا للهمرضياً لـه مأموراً به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين فهذه ثلاثة أجوبةعن قولهم المتوكل يطلب حظوظه .
وأما قولهم أن الأمور قد فرغ منها فهذا نظير ما قاله بعضهم فى الدعاء أنه لاحاجة اليه لأن المطلوب أن كان مقدرا فلا حاجة إليه وإن لم يكن مقدراً لم ينفع الدعاء وهذا القول من أفسد الأقوال شرعاً وعقلاً .
وكذلك قول من قال التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة وانما هوعبادة محضة وان حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض وهذا وان كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضاً وكذلك قول من قال إن الدعاء انما هو عبادة محضة .
فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد وهو ان هؤلاء ظنوا ان كون الأمور مقدرةقضية يمنع ان تتوقف على اسباب مقدرة ايضا تكون من العبد ولم يعلموا ان الله سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التى جعلها معلقة بها من أفعال العباد وغير أفعالهمولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الاعمال بالكلية .
وقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم وآله وسلم عن هذا الأصل مرات فأجاب عنه كماأخرجا فى الصحيحين عن عمـران بن حصين قال قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وآلهوسلم يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قالوا ففيم العمل قال كلميسر لما خلق له وفى الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة فى الأرض ثم رفع رأسه وقالما من نفس منفوسة الا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة إلا وقد كتبت شقية او سعيدةقال : فقال رجل من القوم يا نبى الله أفلا يمكث على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن الى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن الى الشقاوة قال أعملوافكل ميسر لما خلق له اما أهل السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قال نبى الله صلى الله عليه وسلم فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنىفسنيسره لليسرى واما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى أخرجه الجماعة فيالصحاح والسنن والمسانيد .
وروى الترمذى ان النبى صلى الله عليه وآله وسلم سئل فقيل يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقة بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي منقدر الله وقد جاء هذا المعنى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى عدة احاديث .
فبين صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة وشقاوة هذا بالأعمال السيئة فانه سبحانهيعلم الأمور على ما هي عليه وكذلك يكتبها فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة والشقي يشقى بالأعمال السيئة فمن كان سعيدا ييسر للأعمال الصالحة التى تقتضي السعادة ومن كان شقياً ييسر للأعمال السيئة التى تقضي الشقاوة وكلاهما ميسر لما خلق له وهو ما يصير اليه منمشيئـة اللهالعامة الكونية التى ذكرها الله سبحانه فى كتابه فى قوله تعالـى : (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم) ، واما ما خلقوا له من محبة الله ورضاه وهو إرادته الدينية التى امروا بموجبهافذلك مذكور فى قوله وما خلقت الجن والأنس الا ليعبدون والله سبحانه قد بين في كتابه فى كل واحدة من الكلمات والأمر والإرادة و الأذن و الكتاب والحكم و القضاء والتحريم ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة الله ورضاهوامره الشرعى وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية .
مثاـل ذلك انه قال فى الأمر الدينى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذيالقربى وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ونحو ذلك وقال فى الكونى إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون وكذلك قوله تعالى : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) على احدى الاقوال فى هذه الاية
وقال فى الإرادة الدينية يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ما يريد اللهليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وقال فى الإرادة الكونية ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام ومنيردان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد فى السماء وقال نوح عليه السلام ولاينفعكم نصحي ان أردت ان انصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم وقال تعالى : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وقال تعالى فى الاذن الديني : (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى في الكونى : (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) وقال تعالى فى القضاء الدينى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أي أمر وقال تعالى فى الكونى : (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) وقال تعالى فى الحكم الدينى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) وقال تعالى : (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وقال تعالى في الكونى عن ابن يعقوب : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) وقال تعالى : قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) .
وقال تعالى فى التحريم الدينى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ .....الآية) وقال تعالى فى التحريم الكونى : (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) وقال تعالى : ()وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (المعارج:24)
)لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:25)
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 09-11-2009, 03:01 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية

وقال تعالى في الكلماتالدينية )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ )(البقرة: من الآية124) وقال تعالى فى الكونية وتمت كلمة ربكالحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا ومنه قوله صلى الله عليه وسلم المستفيض عنه من وجوه فى الصحاح والسنن والمسانيد انه كان يقول فى استعاذته اعوذ بكلمات الله التامات التى لايجاوزهن برولا فاجر ومن المعلوم أن هذا هو الكونى الذي لا يخرج منه شيء عن مشيئته وتكوينه واما الكلمات الدينية فقد خالفها الفجار بمعصيته .
والمقصود هنا انه صلى الله عليه وسلم بين ان العواقب التى خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالاعمال التى يصيرون بها الى ذلك كما ان سائر المخلوقاتكذلك فهو سبحانه يخلق الولد وسائر الحيوان في الارحام بما يقدره من اجتماع الابوين على النكاح واجتماع المائين فى الرحم فلو قال الانسان انا اتوكل ولا أطأ زوجتى فانكان قد
قضي لى بولد وجد والا لم يوجد ولا حاجة الى وطء كان أحمق بخلاف ما إذا وطيء وعزلالماء فان عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء الله إذ قد يسبق الماء بغيراختياره .
ومن هذا ما ثبت فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري قال خرجنا مع رسول الله صلى اللهعليه وسلم فى غزوة بنى المصطلق فاصبنا سبيا من العرب فاشتهينا النساء واشتدت عليناالعزبة واحببنا العزل فسألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عليكمألا تفعلوا فان الله قد كتب ما هو خالق الى يوم القيامة وفى صحيح مسلم عن جابر أنرجلاً أتى النبى صلى الله عليه سلم فقال أن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخلوانا أطوف عليها واكره أن تحمل فقال أعزل عنها إن شئت فانه سيأتيها ما قدر لها .
وهذا مع ان الله سبحانه قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كماخلق آدم ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير ومن خلقه من أم فقط كماخلقالمسيح بن مريم عليه السلام لكن خلق ذلك بأسباب اخرى غير معتادة .
وهذا الموضع وان كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع فقد وقع فى كثير مندقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل احدهم مع القدر .
غير محقق لما أمر به ونهى عنه ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل والجري معالحقيقة القدرية ويحسب أن قول القائل ينغي للعبد أن يكون مع الله كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به ويفعل ما نهى عنه وحتىيضعف عنده النور والفرقان الذى يفرق به بين ما أمر الله به واحبه ورضيه وبين ما نهىعنه وأبغضه وسخطه فيسوى بين ما فرق الله بينه كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) وقال تعالى : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) وقال تعالى : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) وقال تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون) وقال تعالى : ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وأمثال ذلك .
حتى يفضي الأمر بغلاتهم الى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوى الإلهيالفرقاني الشرعى الذي دل عليه الكتاب والسنة وبين ما يكون فى الوجود من الاحوال التى تجري على أيدي الكفار والفجار فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء الله وقدره وربوبيته وارادته العامة .
وأنه داخل فى ملكه ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق الله به بين أوليائه وأعدائهوالأبرار والفجار والمؤمنين والكافرين وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الدينى وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر ويستشهدون في ذلك بكلمات نقلت عن بعض الأشياخ أو ببعض غلطات بعضهم .
وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الإعتناء به على أهل طريق الله السالكين سبيل الإرادة إرادة الذين يريدون وجهه فانه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان مالا يعلمه الا الله حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوانللمسلطين فى الأرض من أهل الظلم والعلو كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو فى الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها فى ذلك كانوا بذلك من أولياء الله فان القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحا وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً فالأحوال يكون تأثيرهامحبوبا لله تارة ومكروها لله أخرى وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتلغيره فى الباطن حيث يجب القود فى ذلك ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو تأثير يوافق إرادته هو كرامة منالله له ولا يعلمون أنه فى الحقيقة إهانة وأن الكرامة لزوم الاستقامة وإن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهمالا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين وإن كانوا موافقين فيماأوجبه واحبه فهم من المقربين مع ان كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجباً وأما مايبتلي الله به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء فليس ذلك لأجلكرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه فى ذلك وقد يشقىبها قوم إذا عصوه فى ذلك
قال الله تعالى : (فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) كلا ولهذا كان الناس فى هذهالامور على ثلاثة اقسام :
قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة اذا استعملوها فى طاعة الله .
وقوم يتعرضون بها لعذاب الله اذا استعملوها فى معصية الله كبلعام وغيره وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات
والقسم الأول هم المؤمنون حقاً المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي انما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين الله أو لحاجة يستعين بها على طاعة الله ولكثرة الغلط فى هذا الأصل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد فروى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفى كل خير أحــرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وان أصابك شيء فلا تقل لو أنى فعلت كانكذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فان لو تفتح عمل الشيطان وفي سنن أبى داود أن رجلين اختصما الى النبى صلى الله عليه وسلم فقضي على أحدهما فقال المقضى عليهحسبى الله ونعم الوكيل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فاذا غلبك أمر فقل حسبى الله ونعم الوكيل فأمر النبى صلى اللهعليه وسلم لقوله تعالى إياك نعبد واياك نستعين وقوله تعالى : ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فان الحرص على ما ينفع العبد هو طاعة الله وعبادته إذ النافع له هو طاعة الله ولا شيءأنفع له من ذلك وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة وان كان من جنس المباح .
قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح لسعد إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا إزددت بها درجة ورفعه حتى اللقمة تضعها فى في امرأتك فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن الله يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس وهو التفريط فيما يؤمر بفعله فان ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل وان كان لا ينافىالقدرة المتقدمة التى هى مناط الأمر والنهي .
فإن الإستطاعة التى توجب الفعل تكون مقارنة له ولا تصلح إلا لمقدورها كما ذكرهاالله تعالى في قوله : (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْع) وفى قوله : (وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) وأماالإستطاعة التى يتعلق بها الأمر والنهي فتلك قد يقترن بها الفعل وقد لا يقترن كمافى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وقول النبى صلى اللهعليه وسلم لعمران ابن حصين صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطيع فعلىجنب .
فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه الى أربعة اقسام :
قوم ينظرون الى جانب الأمر والنهي والعبادة والطاعة شاهدين لآلهية الرب سبحانه الذي أمروا أن يعبدوه ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة وهوحال كثير من المتفقهة والمتعبدة فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات الله ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان لأن الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه والدعاء له هي التى تقوى العبد وتيسر عليه الأمور .
ولهذا قال بعض السلف من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله وفى الصحيحينعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة انا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين أنت عبدى ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزى بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء فأفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفابأن يقولـوا لا اله الا الله .
ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم لا حول ولا قوة الا باللهوقد ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة قال تعالى : ( يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) وقال تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وفى صحيح البخارى عن إبن عباس رضي الله عنه في قوله وقالوا حسبناالله ونعم الوكيل قالها إبراهيم الخليل حين ألقى فى النار وقالها محمد صلى اللهعليه وسلم حين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم .
و قسم ثان يشهدون ربوبية الحق وإفتقارهم اليه ويستعينون به لكن على أهوائهم واذواقهم غير ناظرين الى حقيقة امره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته وهذا حال كثير من المتفقرة والمتصوفة ولهذا كثيرا .
ما يعملون على الأحوال التى يتصرفون بها فى الوجود ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه وكثيراً ما يغلطون فيظنون أن معصيته هي مرضاته فيعودون الى تعطيل الامر والنهييسمون هذا حقيقة ويظنون ان هذه الحقيقة القدرية يجب الإسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التى هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهراوباطنا .
وهؤلاء كثيراً ما يسلبون أحوالهم وقد يعودون الى نوع من المعاصي والفسوق بل كثيرمنهم يرتد عن الإسلام لأن العاقبة للتقوى ومن لم يقف عند أمر الله ونهيه فليس من المتقين فهم يقعون فى بعض ما وقع المشركون فيه تارة بدعة يظنونها شرعة وتارة فىالإحتجاج بالقدر على الأمر والله تعالى لما ذكر ما ذم به المشركين فى سورة الأنعاموالأعراف ذكر ما إبتدعوه من الدين وجعلوه شرعه كما قال تعالى : (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ) وقد ذمهم على أن حرموا مالم يحرمه الله وأن شرعوا مالم يشرعه الله وذكر احتجاجهم بالقدر فى قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)ونظيرها فى النحل ويس والزخرف وهؤلاء يكون فيهم شبه من هذا وهذا .
واما القسم الثالث وهو من أعرض عن عبادة الله واستعانته به فهؤلاء شرالأقسام .
و القسم الرابع هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا إياك نعبد واياك نستعين وقوله فاعبده وتوكل عليه فاستعانوا به على طاعته وشهدوا انه الههم الذي لا يجوز انيعبد الا اياه بطاعته وطاعة رسوله وانه ربهم الذي ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع وانه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وانيمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله قل افرأيتم ماتدعون من دون الله أن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هنممسكات رحمته .
ولهذا قال طائفة من العلماء الإلتفات الى الأسباب شرك فى التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص فى العقل والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع وإنماالتوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع .
فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق فقد غلط غلطاً شديداً وأن كانمن أعيان المشائخ كصاحب علل المقامات وهو من أجل المشائخ وأخذ ذلك عنه صاحب محاسنالمجالس وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه ان المطلوب به حظ العامة فقط وظنه أنه لا فائدة له فى تحصيل المقصود وهذه حال من جعل الدعاء كذلك وذلك بمنزلة من جعل الاعمالالمأمور بها كذلك كمن اشتغل بالتوكل عن ما يجب عليه من الاسباب التى هى عبادة وطاعـةمأمـور بها فان غلط هذا في ترك الأسباب المأمور بها التى هي داخلة فى قوله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) كغلط الاول في ترك التوكل المأمور به الذي هو داخل فى قوله تعالىفاعبده وتوكل عليه .
لكن يقال من كان توكله على الله ودعاؤه له هو فى حصول مباحات فهو من العامة وانكان فى حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة كما أن من دعاه وتوكل عليه فى حصول محرمات فهو ظالم لنفسه ومن أعرض عن التوكل فهو عاص لله ورسوله بل خارج عن حقيقةالإيمان فكيف يكون هذا المقام للخاصة قال الله تعالى : (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وقال تعالى : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وقال تعالى : ( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وقال تعالى : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وقد ذكر الله هذه الكلمة حسبى الله فى جلب المنفعة تارة وفى دفع المضرة اخرىفالأولى فى قوله تعالى ولو انهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا اللهسيؤتينا الله من فضله ورسوله الآية .
و الثانية فى قوله الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهمإيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وفى قوله تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك فانحسبك الله هو الذي أيدك بنصره وقوله ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالواحسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله يتضمن الأمر بالرضا والتوكل والرضا والتوكليكتنفان المقدور فالتوكل قبل وقوعه والرضا بعد وقوعه ولهذا كان النبى صلى الله عليهوسلم يقول فى الصلاة اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياةخيراً لي وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لي اللهم أنى أسألك خشيتك في الغيب والشهادةوأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا واسألك القصد فى الفقـر والغنى واسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع اللهم أنى أسألك قرة عيــن لا تنقطع الللهم أني أسالكالرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك وأسألك الشوق الى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان وأجعلناهداة مهتدين رواه احمد والنسائى من حيث عمار بن ياسر .
وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لا حقيقة الرضا ولهذا كان طائفة منالمشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء فاذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلكفى الصبر وغيره كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ *إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) نزلت هذه الآية لما قالوا لو علمنا أى الأعمال أحب الى الله لعملناه فانزلالله سبحانه وتعالى آية الجهاد فكرهه من كرهه .
ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء بأن يوجب على نفسه مالا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك أو يطلب ولاية او يقدم على بلد فيه طاعون كما ثبت فىالصحيحين من غير وجه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال أنه لاياتى بخير وانما يستخرج به من البخيل وثبت عن في الصحيحين انة قال لعبد الرحمن بنسمرة لاتسأل الإمارة فانك أن أعطيتها عن مسألة وكلت اليها وان أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذى هو خير وكفر عنيمينك وثبت عنة فى الصحيحين أنة قال فى الطاعون اذا سمعتم بة بأرض فلا تقدموا علية وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منة وثبت عنة فى الصحيحين انة قاللاتتمنوا لقاء العدو وأسألوا اللة العافية ولكن إذا لقيتموهم فأصبروا وأعلموا أنالجنة تحت ظلآل السيوف وأمثال ذلك مما يقتضى أن الإنسان لاينبغى أن يسعى فيما يوجب علية أشياء ويحرم علية أشياء فيبخل بالوفاء كما يفعل كثير ممن يعاهد اللة عهودا علىأمور وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود .
ويقتضى أن الإنسان إذا أبتلى فعلية أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجالالموقنين القائمين بالواجبات ولا بد فى جميع ذلك من الصبر ولهذا كان الصبر واجباً باتفاق المسلمين على أداء الواجبات وترك المحظوراتويدخل فى ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها والصبر عن أتباع أهواء النفوس فيمانهى اللة عنة .
وقد ذكر الله الصبر فى كتابه فى أكثر من تسعين موضعا وقرنه بالصلاة فى قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) وقوله تعالى : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) إلى قوله تعالى : (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فاصبر ان وعد الله حق واستفغر لذنبك الآية .
وجعل الإمامة فى الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله وجعلنا هم أئمة يهدون بأمر لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فإن الدين كله علم بالحق وعمل به والعمل به لا بد فيه من الصبر بل وطلب علمه يحتاج الى الصبر كما قال معاذ بن جبل رضى الله عنه عليكم بالعلم فان طلبه لله عبادة ومعرفته خشية والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقةومذاكرته تسبيح به يعرف الله ويعبد وبه يمجد الله ويوحد يرفع الله بالعلم أقواما يجعلهم للناس قادة وائمة يهتدون بهم وينتهون الى رأيهم .
فجعل البحث عن العلم من الجهاد ولا بد فى الجهاد من الصبر ولهذا قال تعالى : (والعصر إن الإنسان لفى خسر الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) وقال تعالى : (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) فالعلم النافع هو أصل الهدى والعمل بالحق هوالرشاد وضد الأول الضلال وضد الثانى ألغى فالضلال العمل بغير علم والغى إتباع الهوى وما غوى فلا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرشاد الا بالصبر ولهذا قالعلى ألا ان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا انقطع الرأس بان الجسد ثمرفع صوته فقال ألا لا إيمان لمـن لا صبر له .
وأما الرضا فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم فى الرضابالقضاء هل هو واجب أو مستحب على قولين فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين وعلى الثانى يكون من أعمال المقربين قال عمر بن عبد العزيز الرضا عزبز ولكن الصبر معول المؤمن وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس إن استطعت أن تعمللله بالرضا مع اليقين فأفعل فان لم تستطع فان فىالصبر على ما تكره خيرا كثيرا ولهذا لم يجئ فى القرآن الا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا فى الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب كالمرض والفقر والزلزال كما قال تعالى والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) فالبأساء فى الأموال والضراء فى الأبدانوالزلزال فى القلوب .
وأما الرضا بما أمر الله به فأصله واجب وهو من الإيمان كما قال النبى صلى اللهعليه وسلم فىالحديث الصحيح ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء الله تعالى قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ...... الآية) وقال تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) وقال تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) .
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 09-11-2009, 03:02 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية

ومن النوع الأول ما رواه أحمد والترمذى وغيرهما عن سعد عن النبى صلى الله عليهوسلم أنه قال من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله لـه ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته لله وسخطه بما يقسم الله له .
وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان فأكثر العلماء يقولون لا يشرعالرضا بها كما لا تشرع محبتها فان الله سبحانه لايرضاها ولا يحبها وان كان قدرها وقضاها كما قال سبحانه والله لا يجب الفساد وقال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر وقال تعالى وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول بل يسخطها كما قال الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ) .
وقالت طائفة ترضى من جهة كونها مضافة الى الله خلقا وتسخط من جهة كونها إلى العبد فعلا وكسبا وهذا القول لا ينافىالذى قبله بل هما يعودان الى أصل واحد وهوسبحانه إنما قدر الأشياء لحكمة فهى باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية وقد تكون فى نفسها مكروهة ومسخوطة إذ الشئ الواحد يجتمع فيه وصفان يجب من أحدهما ويكره من الآخر كما فى الحديث الصحيح ما ترددت عن شئ انا فاعله ترددى عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه .
وأما من قال بالرضا بالقضاء الذى هو وصف الله وفعله لا بالمقتضى الذى هو مفعوله فهو خروج منه عن مقصود الكلام فان الكلام ليس فى الرضا فيما يقوم بذات الرب تعالى من صفاته وافعاله وانما الكلام فىالرضا بمفعولاته والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه فى غير هذا الموضع .
والرضا وان كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد حتى أن بعضهم فسرالحمد بالرضاولهذا جاء فى الكتاب والسنة حمد الله على كل حال وذلك يتضمن الرضا بقضائه وفى الحديث أول من يدعى الى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله فى السراء والضراء وروىعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال الحمد لله الذىبنعمته تتم الصالحات واذا أتاه الأمر الذى يسوءه قال الحمد لله على كل حال وفى مسندالإمام أحمد عن أبى موسى الأشعرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا قبض ولد العبد يقول الله لملائكته أقبضتم ولد عبدى فيقولون نعم فيقول اقبضتم ثمرة فؤاده فيقولون نعم فيقول ماذا قال عبدى فيقولون حمدك واسترجع فيقول أبنوا لعبدى بيتا فى الجنة وسموه بيت الحمد ونبينا محمد صلىالله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد وامته هم الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء والحمد على الضراء يوجبه مشهدان .
أحدهما علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك مستحق له لنفسه فانه أحسن كل شئخلقه واتقن كل شئ وهو العليم الحكيم الخبير الرحيم .
والثانى علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن خير من اختياره لنفسه كما روى مسلم فى صحيحه وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم قال والذى نفسى بيده لا يقتضى اللهللمؤمن قضاء الأ كان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكانخيراً له وان أصابته ضراء صبر فكان خيراً له .
فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذى يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له قال تعالى : (ِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) وذكرهما فى أربعة مواضع من كتابه .
فأما من لايصبر على البلاء ولا يشكر على الرخاء فلا يلزم أن يكون القضاء خيراً له ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضى على المؤمن من المعاصى بجوابين .
أحدهما أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد كما فى قوله تعالى : (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) اى من ضراء وكقوله تعالى : (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أى بالسراء والضراء كما قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) فالحسنات والسيئات يراد بها المسار والمضار ويراد بها الطاعات والمعاصى .
والجزاب الثانى أن هذا فى حق المؤمن الصبار الشكور والذنوب تنقض الإيمان فاذاتاب العبد أحبه الله وقد ترتفع درجته بالتوبة قال بعض السلف كان داوود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير أن العبد ليعملالحسنة فيدخل بها النار وأن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستفغر الله ويتوب اليه منها وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال الأعمالبالخواتيم والمؤمن اذا فعل سيئة فان عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب .
أن يتوب فيتوب الله عليه فان التائب من الذنب كمن لاذنب له أو يستغفر فيغفراً له أو يعمل حسنات تمحوها فان الحسنات يذهبن السيئات أو يدعو له أخوانه المؤمنون ويستغفرون له حياً وميتاً أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به أو يشفع فيهنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أو يبتليه الله تعالى فى الدينا بمصائب تكفر عنه أو يبتليه فى البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه أو يبتليه فى عرصات القيامة من أهوالها بما يكفرعنه أو يرحمه أرحم الراحمين فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن الا نفسه كما قال تعالى فيما يروى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبادى انما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم أياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الانفسه .
فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له اذا كان صباراً شكوراً أو كان قد إستخار الله وعلم إن من سعادة ابن آدم استخارته لله ورضاه بما قسم الله له كان قد رضى بماهو خير له وفى الحديث الصحيح عن على رضى الله عنه قال إن الله يقضى بالقضاء فمن رضى فله الرضا ومن سخط فله السخط ففى هذا الحديث الرضا والإستخارة فالرضا بعد القضاء والإستخارة قبل القضاء وهذا أكمل من الضراء والصبر فلهذا فى ذكر الرضا وفى هذاالصبر .
ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيراً له فكيف مع الرضا ولهذا فى الحديث المصاب من حرم الثواب فى الأثر الذى رواه الشافعي فى مسنده أن النبى صلى الله عليه وسلم لمامات سمعوا قائلاً يقول يا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فى الله عزاء منكل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فأرجوا فان المصابمن حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط مع أنه لا فائدة فيه فقد يكونفيه مضرة لكنه عفى عنه اذا لم يقترن به ما يكرهه الله لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب وذلك لاينافى الرضا بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه وبهذا يعرف معنى قول النبى صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال إن هذه رحمة جعلها اللهفى قلوب عبادة وانما يرحم الله من عباده الرحماء فان هذا ليس كبكاء من يبكى لحظه لالرحمة الميت فان الفضيل بن عياض لما مات إبنه على فضحك وقال رأيت ان الله قد قضىفأحببت أن أرضى بما قضى الله به حاله حال حسن بالنسبة الى أهل الجزع وأما رحمةالميت مع الرضا بالقضاء وحمد الله تعالى كحال النبى صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل كما قال تعالى : (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) فذكر سبحانهالتواصى بالصبر والمرحمة .
والناس أربعةاقسام منهم من يكون فيه صبر بقسوة ومنهم من يكون فيه رحمة بجزعومنهم من يكون فيه القسوة والجزع والمؤمن المحمود الذى يصبر على ما يصيبه ويرحمالناس وقد ظن طائفة من المصنفين فى هذا الباب أن الرضا عن الله من توابع المحبة له وهذا انما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لإستحقاقه ذلك بنفسه مع قطع العبدالنظر عن حظه بخلاف المأخذ الثانى وهو الرضا لعلمه بأن المقضى خير له ثم ان المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه لكن قد يقال فى تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه إنالمحبة لله نوعان محبة به نفسه ومحبة له لما فيه من الإحسان وكذلك الحمد له نوعانحمد له على ما يستحقه نفسه وحمد على إحسانه الى عبده فالنوعان للرضا كالنوعينللمحبة .
وأما الرضا به وبدينه وبرسوله فذلك من حظ المحبة ولهذا ذكر النبى صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان كما ذكر فى المحبة وجود حلاوة الإيمان وهذان الحدثيان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيمانى الشرعى دون الضلالى البدعى ففى صحيح مسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما ومنكان يجب المرء لا يحبه إلا الله ومن كان يكره أن يرجع فى الكفر بعد إذ أنقذه اللهمنه كما يكره أن يلقى فى النار وهذا مما يبين من الكلام على المحبة فنقول .
فصلمحبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصولهوأجل قواعده بل هى أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين وكما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين فان كل حركة فى الوجود انما تصدر عن محبة إما عن محبةمحمودة أو عن محبة مذمومة كما قد بسطنا ذلك فى قاعدة المحبة من القواعد الكبار .
فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لاتصدر الا عن المحبة المحمودة وأصل المحبةالمحمودة هى محبة الله سبحانه وتعالى إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند اللهلايكون عملا صالحا بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله فإن الله تعالى لا يقبــل من العمل ما أريد به وجهه كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى اللهعليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً فأشركفيه غيرى فانا منه برئ وهو كله للذى أشرك وثبت فى الصحيح فى حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار القارئ المرائى والمجاهد المرائى والمتصدق المرائى .
بل إخلاص الدين لله هو الدين الذى لايقبل الله سواه وهو الذى بعث به الأولينوالأخرين من الرسل وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أئمة أهل الإيمان وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذى تدور عليه رحاه .
قال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) والسورة كلها عامتها فى هذا المعنى كقوله قل أنى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لان أكون أول المسلمين إلى قوله قل الله أعبد مخلصاً له دينى الى قوله أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين مندونه الى قوله قل أفرأيتم ما تدعون من دون تالله أن أرادنى الله بضر هل هن كاشفاتضره الآية الى قوله أم أتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانـوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم اليه ترجعون وإذ ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لايؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون الى قوله قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون الى قوله بل الله فاعبد وكن منالشاكرين .
وقال تعالى فيما قصه من قصة آدم وابليس أنه : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وقال تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) وقال تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)فبين أن سلطان الشيطان وأغواءه إنما هو لغير المخلصين ولهذا قال فى قصة يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واتباع الشيطان هم أصحاب النار كما قال تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) وقد قال سبحانه : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء) وهذه الآية فى حـق من لم يتب ولهذا خصص الشرك وقيد ما سواه بالمشيئة فأخبر أنه لايغفر الشرك لمن لم يتـب منه وما دونه يغفره لمن يشاء وأما قوله قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهـم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فتلك فى حق التائبين ولهذا عم وأطلق وسياق الآية يبين ذلك مع سببنزولها .
وقد أخبر سبحانه أن الآولين والآخرين إنما أمروا بذلك فى غير موضع كالسورة التى قرأها النبى صلى الله عليه وسلم على أبى لما أمره الله تعالى أن يقرأ عليه قراءة إبلاغ وإسماع بخصوصه فقال : (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة) وهذا حقيقة قول لا اله إلاالله وبذلك بعث جميع الرسل قال الله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) وقال تعالى : (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) وقال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) وجميع الرسل افتتحوا دعوتهم بهذا الأصل كما قال نوح عليه السلام اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وكذلك هود وصالح وشعيب عليهم السلام وغيرهم كل يقول أعبدوا اللهمالكم من إله غيره لا سيما افضل
الرسل الذين إتخذ الله كلاهما خليلا إبراهيم ومحمداً عليهما السلام فان هذا الأصل بينه الله بهما وأيدهما فيه ونشره بهما فابراهيم هو الإمام الذى قال الله فيه إنى جاعلك للناس إماماً وفى ذريته جعل النبوة والكتاب والرسل فأهل هذه النبوة والرسالةهم من آله الذين بارك الله عليهم قال سبحانه : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فهذه الكلمة هى كلمة الإخلاص لله وهى البراءة من كل معبود الأمن الخالق الذىفطرنا كما قال صاحب يس مالى لا أعبد الذى فطرنى واليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إنى إذا لفى ضلال مبين وقالتعالى فى قصته بعد أن ذكر ما يبين ضلال من إتخذ بعض الكواكب ربا يعبده من دون الله قال فلما أفلت قال ياقوم إنى برئ مما تشركون إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين الى قوله ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل بهعليكم سلطاناً وقال إبراهيم الخليل عليه السلام أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكمالأقدمون فانهم عدو لي إلا رب العالمين الذى خلقنى فهو يهدين والذى هو يطمعنى ويسقينواذا مرضت فهو يشفين والذى يميتنى ثم يحيين وقال تعالى : (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) ، ونبيا صلىالله عليه وسلم هو الذى أقام الله به الدين الخالص لله دين التوحيد وقمع به المشركين من كان مشركاً فى الأصل ومن الذين كفروا من أهل الكتب وقال صلىالله عليه وسلم فيما رواه الامام أحمد وغيره بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبدالله وحده لا شريك له وجعل رزفى تحت ظل رمحى وجعل الذلة والصغار على من خالف أمرى ومن تشبه بقوم منهم وقد تقدم بعض ما أنزل الله عليه من الآيات المتضمنة للتوحيد وقال تعالى ايضا والصافات صفا الى قوله إن إلهكم لواحد الى قوله إنهم كانوا إذاقيــل لهم لا اله الا الله يستكبرون ويقولون ائنا لتاركوا الهتنا لشاعر مجنون بل جاءبالحق وصدق المرسلين الى قوله أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون الى ما ذكره من قصص الأنبياء فى التوحيد واخلاص الدين لله الى قوله سبحان الله عما يصفون إلاعباد الله المخلصين وقال تعالى : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) وفى الجملة فهذا الأصل فى سورة الأنعام والأعراف والنور وآل طسم .
وآل حم وآل المر وسور المفصل وغير ذلك من السور المكية ومواضع من السور المدنية كثير ظاهر فهو اصل الأصول وقاعدة الدين حتى فى سورتى الاخلاص قل يا أيها الكافرون وقل هوالله أحد وهاتان السورتان كان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما فى صلاةالتطوع كركعتى الطواف وسنة الفجر وهما متضمنتان للتوحيد .
فأما قل يا أيها الكافرون فهى متضمنة للتوحيد العملى الأرادى وهو إخلاص الدين للهبالقصد والإرادة وهو الذى يتكلم به مشائخ التصوف غالبا واما سورة قل هو الله أحد فمتضمنة للتوحيد القولى العملى كما ثبت فى الصحيحين عن عائشة أن رجلاً كان يقرأ قل هو الله أحد فى صلاته فقال النبى صلى الله عليه وسلم سلوه لم يفعل ذلك فقال لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها فقال أخبروه أن الله يحبه .
ولهذا تضمنت هذه السورة من وصف الله سبحانة وتعالى الذى ينفى قول أهل التعطيل وقول أهل التمثيل ما صارت به هى الأصل المعتمد فى سائل الذات كما قد بسطنا ذلك فى غير هذا الموضع وذكرنا اعتماد الأئمة عليها مع ما تضمنته من تفسير الأحد الصمد كما جاء تفسيره عن النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين وما دل على ذلك منالدلائل .
لكن المقصود هنا هو التوحيد العملى وهو إخلاص الدين لله وان كان أحد النوعين مرتبطاً بالأخر فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيهنوع من الشرك العملى إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين الله وبين خلقه أو بينه وبين المعدومات كما يسوى المعطلة بينه وبين المعدومات فى الصفات السلبية التى لا تستلزممدحاً ولا ثبوت كمال أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات فى صفات النقص وكما يسووى إذا أثبتوا هم ومن ضاها هم من الممثلة بينه وبين المخلوقات فى حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدونها فيعدلون بربهم ويجعلون له أندادا ويسوون المخلوقات بربالعالملين .
واليهود كثيراً ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجزوالفقر والبخل ونحـو ذلك من النقائص التى يجب تنزيهه عنها وهى من صفات خلقه والنصارى كثيــراً ما يعدلون المخلوق بالخالق حتى يجعلوا فى المخلوقات من نعوت الربوبية وصفات الإلهية ويجوزون له ما لا يصلح إلا للخالق سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواًكبيراً .
والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالينوقد قال النبى صلى الله عليه وسلم اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون وفى هذه الأمة من فيه شبه من هؤلاء وهؤلاء كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن والحديث فى الصحيحين .
فاذا كان أصل العمل الدينى هو إخلاص الدين لله وهو إرادة الله وحده فالشئ المرادلنفسه هو المحبوب لذاته وهذا كمال المحبة لكن أكثر ما جاء المطلوب مسمى باسم العبادة كقوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله يا أيها الناس أعبدوا ربكمالذى خلقكم والذين من قبلكم وامثال هذا والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته فالمحبوب الذى لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبوداً والمعظم الذى لا يحبلا يكون معبوداً ولهذا قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دونالله أندادا وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله فالذين آمنوا اشد حباً لله منهم للهولأوثانهم لأن المؤمنين أعلم بالله والحب يتبع العلم وأن المؤمنين جعلوا جميع حبهملله وحده أعلم بالله والحب يتبع العلم ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا بينه وبين الأنداد في الحب ومعلوم أن ذلك اكملقل تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) .
واسم المحبة فيه إصلاق وعموم فإن المؤمن يحب الله ويجب رسله وأنبياءه وعبادهالمؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله وإن كانت المحبة التى لله لا يستحقها غيره ولهذا جاءت محبة الله سبحانه وتعالى مذكورة بما يختص به سبحانهمن العبادة والإنابة إليه والتبتل له ونحو ذلك فكل هذه الأسماء تتضمن محبة اللهسبحانه وتعالى .
ثم أنه كما بين أن محبته أصل الدين فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصهافان النبى صلىالله عليه وسلم قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله فاخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه وقد قالتعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والنصوص فى فضائل الجهاد واهلهكثيره
وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد والجهاد دليل المحبة الكاملة قال تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ .... الآية) وقال تعال فى صفة المحبينالمحبوبين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب ما يحب محبوبه ويبغض ما يبغض محبوبه ويوالى من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به وينى عنه فهو موافق له فى ذلك وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم إذ هم انما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر فى طائفـة فيهـم صهيـب وبلال لعلك أغضبتهم لأن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك فقال لهم يا إخوتى هل أغضبتكم قالوا لا يغفر الله لك يا أبا بكر وكان قد مر بهم أبو سفيان بن حرب فقالوا ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها فقاللهم أبو بكر أتقولون هذا لسيد قريش وذكر أبو بكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال له ما تقدم لأن أولئك إنما قالوا ذلك غضباً لله لكمال ما عندهم من الموالاة للهورسوله والمعاداة لأعداء الله ورسوله .
رد مع اقتباس
  #5  
قديم 09-11-2009, 03:03 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية

ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح فيما يروى عن ربه لا يزالعبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها بي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطيته ولئن إستعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددى عنقبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يد له منه فبين سبحانه أنهيتردد لأن التردد تعارض إرادتين وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما يكرهه وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال وأنا أكره مساءلته وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت فسمى ذلك تردداً ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك .
وهذا إتفاق واتحاد فى المحبوب المرضى المأمور به والمبغض المكروه المنهى عنه وقديقال له إتحاد نوعى وصفى وليس ذلك إتحاد الذاتين فان ذلك محال ممتنع والقائل به كافر وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم وهو الاتحاد المقيد فى شئ بعينه .
وأما الإتحاد المطلق الذى هو قول أهل وحدة الوجود الذين الذين يزعمون أن وجودالمخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له وهو جامع لكل شرك فكما إن الإتحاد نوعان فكذلك الحلول نوعان قوم يقولون بالحلول المقيد فى بعض الأشخاص وقوم يقولون بحلوله فى كل شئ وهم الجهمية الذين يقولون أن ذات الله فى كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء فى المحبة أن يغيب بمحبونه عن نفسه وحبه ويغيـب بمدكـوره عـن ذكره وبعروفة عن معرفته وبموجوده عن وجوده حتـى لا يشهد الا محبوبه فيظن فى زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه كما قيل أن محبوباً وقع فى اليمفألقى المحب نفسه خلفه فقال أنا وقعت فأنت ما الذى أوقعك فقال غبت بك عنى فظننت أنكأنى فلا ريب أن هذا خطأ وضلال ، لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورا فى زوال عقله فلا يكون مؤاخذا بما يصدر منه من الكلام فى هذه الحال التى زالفيها عقله بغير سبب محظور كما قيل فى عقلاء المجانين إنهم قوم آتاهم الله عقولاً وأحوالاً فسلب عقولهم وأبقى احوالهم وأسقط ما فرض بما سلب ، وأما إذا كان السبب الذى به زوال العقل مخطوراً لم يكن السكران معذوراً وان كان لا يكم بكفره فى أصح القولين كما لا يقع طلاقة فى أصح القولين وأن كان النزاع فى الحكم مشهورا وقد بسطنا الكلام فى هذا وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم فى قاعدة ذلك وبكل حال فالفناء الذى يفضى بصاحبه الى مثل هذا حال ناقص وإن كان صاحبه غير مكلفولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلىالله عليه وسلم وهو افضل الرسل وإن كان لهؤلاء فى صعق موسى نوع تعلق وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الآلهية على بعض التابعين ومن بعدهم وأن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب فى محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته فمن المعلوم ان من احبالله المحبة الواجبة فلا بد ان يبغض أعداءه ولا بد ان يحب ما يحبه من جهادهم كماقال تعالى : ()إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ، والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللأئم وعذل العاذل بل ذلك يغريه بملازمة المحبةكما قد قال أكثر الشعراء فى ذلك وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافونمن يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه فان الملام على ذلك كثير وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام بل الرجوع الى الحق خير من التمادى فى الباطل وبهذا يحصل الفرق بي الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم فى ذلك وبينالملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام فى ذلك .
فصل وإذا كانت المحبة اصل كل عمل دينى فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبةويرجع اليها فان الراجى الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ) ورحمته إسم جامع لكل خير وعذابه إسم جامع لكل شر ودار الرحمة الخالصة هى الجنة ودار العذاب الخالص هى النار وأما الدنيا فدار إمتزاج فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنـة فالجنـة إسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر الى وجه الله كما فى صحيح مسلم عـن عبد الرحمنبن أبى ليلى عن صهيب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد لأن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار قال فيكشف الحجاب فينظروناليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة .
ومن هنا يتبين زوال الإشتباه فى قول من قال ما عبدتك شوقاً الى جنتك ولا خوفاً من نارك وانما عبدتك شوقاً الى رؤيتك فان هذا القائل ظن هو ومن تابعه إن الجنة لا يدخلفى مسماها الا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماح ونحو ذلك مما فيه التمتعبالمخلوقات كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية أو من يقربها ويزعمأنه لاتمتع بنفس رؤية الله كما يقولـه طائفـة مـن المتفقهة فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخـل فيه الا التمتع بالمخلوقات ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله منكم من يريد الدينا ومنكم من يريد الآخرة قال فأين من يريد الله وقال آخر فى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن لهم الجنة قال إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر اليه وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخلفيها النظر ، و التحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم وأعلى ما فيها النظر الى وجه اللهوهو من النعيم الذى ينالونه فى الجنة كما أخبرت به النصوص وكذلك أهل النار فإنهممحجوبون عن ربهم يدخلون النار مع إن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنماقصده إنك لو لم تخلق ناراً أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب اليكوالنظر إليك ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق ، وأما عمل الحى بغير حب ولا إرادة أصلاً فهذا ممتنع وان تخيله بعض الغالطين من النساك وظن أن كمال العبد ان لاتبقى له ارادة اصلا فذاك لأنه تكلم فى حال الفناء والفانى الذى يشتغل بمجبوبه له ارادة ومحبة ولكن لا يشعر بها فوجود المحبة شىءوالإرادة شئ والشعور بها شئ آخر فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط فالعبد لايتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وارادة ولهذا قال النبى صلىالله عليه وسلم أصدق الأسماء حارث وهمام فكل إنسان له حرث وهو العمل وله هم وهو أصل الإرادة ولكن تارةيقوم بالقلب من محبـة الله ما يدعوه الى طاعته ومن إجلاله والحياء منه ماينهاه عن معصيته كما قال عمر رضى الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أى هو لميعصه ولو لم يخفه فكيف إذا خافه فإن إجلاله وإكرامه لله يمنعه من معصيته .
فالراجى الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه والتنعم بتجليهله فمعلوم أن هذا من توابع محبته له فالمحبة هى التى أوجبت محبة التجلى والخوف منالإحتجاب وان تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل محبة ولهذا يكون إشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شئ كما فى الحديث أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته فالخوف من التعذببمخلوق والرجاء له يسوقه الى محبة الله التى هى الأصل وهذا كله ينبنى على أصلالمحبة فيقال قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين كما فى قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) وقوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) وقوله تعالى : ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيهوجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وأن يجب المرء لا يحبهالا الله وأن يكره أن يرجع فى الكفر بعد إذ انقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار بل محبة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله كما فى قوله تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وكما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قالوالذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفى صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب أنه قال والله يارسول الله لأنت أحب إليّ من كل شئ إلا من نفسى فقال لا ياعمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والله لأنت أحب إليّ مننفسى قال الآن ياعمر .
وكذلك محبة صحابته وقرابته كما فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الإنصار وقال لا يبغض الإنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر وقال على رضى الله عنه انه لعهد النبى الأمى أنه لا يحبنى إلا مؤمن ولا يبغضنى الا منافق وفى السنن أنه قال للعباس والذى نفسى بيده لا يدخلونالجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتى يعنى بنى هاشم وقد روى حديث عن إبن عباس مرفوعاً أنه قال أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبونى يحب الله وأحبوا أهل بيتى لأجلى .
وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلاً وقال تعالىيحبهم ويحبونه وقال تعالى وأحسنوا إن الله يحب المحسنين واقسطوا إن الله يحب المقسطين فاتموا اليهم عهدهم الى مدتهم إن الله يحب المتقين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفاً كأنهمبنيان مرصوص بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين .
وأما الأعمال التى يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون .
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة والذى عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون وأئمة التصوف أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقة بل هى أكمل محبة فانها كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) وكذلك هوسبحانه يحب عباده المرمنين محبة حقيقة .
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين زعماً منهم أن المحبة لاتكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة وكان أول منإبتدع هذا فى الإسم هو الجعد بن درهم فى أوائل المائة الثانية فضحى به خالدين بن عبد الله القسرى أمير العراق والمشرق بواسط خطب الناس يوم الأضحى فقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فانى مضح بالجعد بن ردهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيمخليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأطهره وناظرعليه واليه أضيف قول الجهمية فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ثم انتقل ذلك الى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا الى الموافقة لهم على ذلك .
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلاً وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها وهم ينكرون فى الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلا وموسى كليما لأن الخلة هى المحبةالمستغرقة للمحب كما قيل قد تخللت مسلك الروح منى * وبذا سمى الخليل خليلا ويشهدلهذا ما ثبت فى الصحيح عن ابى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال لوكنتمتخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسهوفى رواية انى أبرأ الى كل خليل من خلتهولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لا تخذتأبا بكر خليلا وفى رواية ان الله إتخذنى خليلا كما إتخذ إبراهيم خليلا فبين صلىالله عليه وسلم أنه لايصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا وانه لو أمكن ذلك لكانأحق الناس بها أبو بكر الصديق رضى الله عنه .
مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً كما قال لمعاذ والله أنىلأحبك وكذلك قوله للأنصار وكان زيد بن حارثة حب رسول الله عليه وسلم وكذلك إبنه أسامة حبه وأمثال ذلك وقال له عمرو بن العاص أى الناس أحب اليك قال عائشة قال فمن الرجال قال أبوها وقال لفاطمة إبنته رضى الله عنها ألا تحبين ما أحب قالت بلى قال فأحبى عائشة وقال للحسن اللهم أنى أحبه فأحبه وأحب من يحبه وأمثال هذا كثير.
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال أنى أبرأ الى كل خليل من خلته ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هى من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوباً لذاته لا لشئ آخر إذ المحبوب لشئ غيره هو مؤخر فى الحب عن ذلك الغير ومن كمالها لاتقبل الشركة والمزاحمة لتخللهاالمحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب فالخلة تناقى المزاحمة وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبا لذاته محبة لا يزاحمه فيها غيره وهذه محبه لا تصلح الا لله فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره إذا كان محبوباً بحق فانما يحب لأجله وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة فالدنيا ملعونة ملعون مافيها إلا ما كان لله تعالى واذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكونالله محبوباً لذاته ينكر مخاللته وكذلك أيضاً أن أنكر محبته لإحد من عباده فهو ينكرأن يتخذه خليلا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد .
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعالفكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو أعلم أو أن يستوى أو أن يجئ فكذلك ينكرون أنيتكلم أو يكلم فهذا حقيقة قولهم كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهتقلوبهم .
لكن لما كان الإسلام ظاهراً والقرآن متلوا لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام أخذوايلحدون فى أسماء الله ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب اليه وهذا جهل عظيم فان محبة المتقرب الى المتقرب اليه تابع لمحبته وفرع عليه فمن لا يحب الشيء لا يحب التقرب إليه إذ التقرب وسيلة ومحبةالوسيلة تبع لمحبة المقصود فيمتنع أن تكون الوسيلة الى الشئ المحبوب دون الشئ المقصود بالوسيلة وكذلك العبادة والطاعة اذا قيل في المطاع المعبود ان هذا يجبطاعته وعبادته فان محبته ذلك تبع لمحبته والا فمن لا يجب لا يحب طاعته وعبادته ومنكان لايعمل لغيره الا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فانه يكون معاوضا له أو مفتدياً منه لا يكون محباً له ولا يقال أن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فان محبة المقصود وأن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فان محبة المقصود وان إستلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة فان ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين محبة العوض والسلامة عن محبة العمل أما محبة الله فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض ألا ترى أن منإستأجر أجيراً بعوض لإيقال أن الأجير يحبه بمجرد ذلك بل قد يستأجر الرجل من لايحبهبحال بل من يبغضه وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال أنه يحبه بل يكونمبغضاً له فعلم ان ما وصف الله به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أن لا يكون معناه الا مجرد محبة العمل الذى ينالون به بعض الفرائض المخلوقة من غير أن يكونربهم محبوبا أصلاً .
وأيضاً فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات .
أحدها العلاقة وهو تعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة وهو إنصباب القلب إليه ثمالغرام وهو الحب اللازم ثم العشق وآخر المراتب هو التتيم وهو التعبد للمحبوبوالمتيم المعبود وتيم الله عبد الله فان المحب يبقى ذاكراً معبداً مذللًا لمحبوبه ، وأيضاً فاسم الإنابة اليه يقتضى المحبة أيضاً وما أشبه ذلك من الأسماء كماتقدم ، وأيضاً فلو كان هذا الذى قالوه حقاً من كون ذلك مجازا لما فيه من الحذف والإضمارفالجاز لا يطلق إلا بقرينه تبين المراد ومعلوم أن ليس فى كتاب الله وسنة رسوله ما ينفى أن يكون الله محبوباً وأن لا يكون المحبوب إلا الأعمال لا فى الدلالة المتصلةولا المنفصلة بل ولا فى العقل أيضاً وأيضاً فمن علامات المجاز صحةاطلاق نفيه فيجب أنيصح اطلاق القول بأن الله لايحب ولا يحب كما أطلق إمامهم الجعد بن ردهم أن الله لميتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ومعلوم أن هذا ممتنع باجماع المسلمين فعلمدلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازاً بل هى حقيقة .
وأيضاً فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له فى قوله تعالى احب اليكم من الله ورسولهوجهاد فى سبيله كما فرق بين محبته ومحبة رسوله فى قوله تعالى احب اليكم من اللهورسوله فلو كان المراد بمحبته ليس الا محبة العمل لكان هذا تكريراً أو من باب عطفالخاص على العام وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذى لا يجوز المصير اليه الا بدلالة تبين المراد وكما ان محبته لايجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله فكذلك لا يجوز تفسيرهابمجرد محبة العمل له وان كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له .
وأيضاً فالتعبير بمحبة الشئ عن مجرد محبته طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف فىاللغة لا حقيقة ولا مجازاً فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضاً وقد قررنا فى مواضع منالقواعد الكبار أنه لايجوز أن يكون غير الله محبوباً مراداً لذاته كما لا يجوز أنيكون غير الله موجوداً بذاته بل لارب الا الله ولا اله الا هو المعبود الذى يستحق أن يحب لذاته وبعظم لذاته كمال المحبة والتعظيم .
وكل مولود يولد على الفطرة فانه سبحانه فطر القلوب على أنه ليس فى محبوباتهاومراداتها ما تطمئن اليه وتنتهى اليه الا الله وحده وان كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئاً سواه ويحب أمراًغيره يتألهه ويصمد اليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الاجناس ولهذا قال اللهتعالى فى كتابه الا بذكر الله تطمئن القلوب وفى الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عنالنبى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى انه قال إنى خلقت عبادى حنفاء فاجتالتهمالشياطين وحرمت عليهــم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى مالم انزل به سلطانا كمافى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال كل مولود يولد علىالفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتح البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئام فطرة الله التى فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .
وأيضاً فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال وكل ما فى غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى فهوالمستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال وإنكار محبة العبد لربه هو فى الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رباً خالقا فصار إنكارها مستلزماً لإنكار كونه رب العالمين ولكونه إله العالمين وهذا هو قول أهلالتعطيل والجحود .
ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى صلوات الله عليهما وسلامه إن أعظم الوصايا أن تحب الله بكل قلبك وعقلك وقصدك وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة ابراهيم التى هى أصل شريعه التوراة والانجيل والقرآن وإنكار ذلك هو مأحوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذ عن هؤلاء وظهر ذلك فى القرامطة الباطنية من الإسماعيلية ولهذا قال الخليل أمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه أفرأيتم ماكنتم تعبدون أنتم وآباؤكم القدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين وقال إيضاً لا أحب الآفلين وقال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو السليم من الشرك .
وأما قولهم أنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر اليهفهذا الكلام مجمل فان أرادوا بالمناسبة انه ليس بينهما توالد فهذا حق وان أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلكفهذا أيضاً حق وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبا عابداً والآخر معبوداً محبوباً فهذا هو رأس المسأله فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب ويكفىفى ذلك المنع .
ثم يقال بل لا مناسبة تقتضى المحبة الكاملة إلا المناسبة التى بين المخلوق والخالق الــذى لا إله غيره الذى هو فى السماء وفى الآرض إله وله المثل الأعلى فى السموات والأرض وحقيقة قول هؤلاء جحد كون الله معبوداً فى الحقيقة ولهذا وافق على هذه المسأله طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون الله محباً فى الحقيقة فأقروا بكونه محبوباً ومنعوا كونه محبا لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة فأخذوا عن الصوفية مذهبهم فى المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكاراً ومنكروها قسمان قسم يتأولونها بنفس المفعولات التى يحميها العبد فيجعلون محبته فيخلقه .
و قسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات وقد بسطنا الكلام فى ذلك فى قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلفالأمة على أن الله يحب ويرضى ما أمر بفعله من أوجب ومستحب وإن لم يكن ذلك موجوداً وعلى أنه قد يريد أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر وقد قال الله تعالى : ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وقال تعالى : (ْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) والمقصود هنا انما هو ذكر محبة العباد لآلهتهم .
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع فى ذلك وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع الله أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية كالعرفان الإيمان الإيمانى والسماع الفرقانى قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى آخر السورة ثم أنه لما طال المد صار فى طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكرهذه المحبة .
وصار فى بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير وسماع المكاء والتصدية فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذى يحرك منكل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والأخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكانوالإمكان والخلان وربما اشترطوا له الشيخ الذى يحرس من الشيطان ثم توسع فى ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه الى أنوا من المعاصى بل إلى أنواع من الفسوق بل خرج فيه طوائف الى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد مماهو من أعظم أنواع الفساد وتنتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه كما تنتج لعباد المشركينواهل الكتاب عباداتهم بحسبها .
رد مع اقتباس
  #6  
قديم 09-11-2009, 03:04 AM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: التحفة العراقية في الأعمال القلبية شيخ الإسلام بن تيمية

يتبـــــــــــع
رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 200.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 196.07 كيلو بايت... تم توفير 4.01 كيلو بايت...بمعدل (2.01%)]