الاعتكاف - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أريد إعادة بناء شخصيتي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          أعاني من الاكتئاب والقلق الدائم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          عزلة وخوف بسبب مواقف في الطفولة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          هل أنا مريضة باضطراب الشخصية الوسواسية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          التلعثم أمام الناس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 10 )           »          أعاني من الضيق والوحشة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          شاب يعاني من الوساوس (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          ضغوط تسيطر على تفكيري (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          أعاني من أفكار ومشاعر غريبة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          القلق المصاحب للمرض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات
التسجيل التعليمـــات التقويم

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 06-04-2024, 02:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,694
الدولة : Egypt
افتراضي الاعتكاف

الاعتِكَافِ

يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف



قالَ الْمُصَنِّفُ –رَحِمَهُ اللهُ-: "هُوَ لُزُومُ مَسْجِدٍ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، مَسْنونٌ، وَيَصِحُّ بِلا صَوْمٍ، وَيَلْزَمانِ بِالنَّذْرِ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ يُجَمَّعُ فيهِ، إِلَّا الْمَرْأَةَ: فَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ سِوَى مَسْجِدِ بَيْتِهَا. وَمَنْ نَذَرَهُ، أَوِ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلاثَةِ -وَأَفْضَلُهَا: الْحَرامُ، فَمَسْجِدُ الْمَدينَةِ، فَالْأَقْصَى-: لَمْ يَلْزَمْهُ فيهِ. وَإِنْ عَيَّنَ الْأَفْضَلَ: لَمْ يُجْزِئْهُ فيمَا دونَهُ، وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ.

وَمَنْ نَذَرَ زَمَنًا مُعَيَّنًا دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ لَيْلَتِهِ الْأولى وَخَرَجَ بَعْدَ آخِرِهِ".


شَرَعَ الْمُؤَلِّفُ – رَحِمَهُ اللهُ - فِي بَيانِ أَحْكامِ الِاعْتِكافِ، وَقَدْ ذَكَرَ كَثيرًا مِنَ الْأحْكامِ:
أَوَّلًا: تَعْريفُ الِاعْتِكافِ وَبَيانُ الْمَقْصودِ مِنْهُ:
وَالْكَلامُ هُنَا مِنْ وُجوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: تَعْريفُ الِاعْتِكافِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (هُوَ لُزُومُ مَسْجِدٍ لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى).

وَالِاعْتِكافُ لُغَةً: اللُّبْثُ وَمُلازَمَةُ الشَّيْءِ أَوِ الدَّوامِ عَلَيْهِ؛ خَيْرًا كانَ أَوْ شَرًّا[1].

وَأَمَّا شَرْعًا: فَهُوَ لُزومُ مَسْجِدٍ لِطاعَةِ اللهِ تعالى[2].

الْوَجْهُ الثاني: مَقْصودُ الِاعْتِكافِ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ مَشْروعِيَّتِهِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى).

فَالْمَقْصودُ الْأَعْظَمُ مِنَ الِاعْتِكافِ هُوَ:"عُكُوفُ الْقَلْبِ عَلَى اللهِ تعالى، وَجَمْعِيَّتُهُ عَلَيْهِ، وَالْخَلْوَةُ بِهِ، وَالِانْقِطاعُ عَنِ الاِشْتِغالِ بِالْخَلْقِ، وَالِاشْتِغالُ بِهِ وَحْدَهُ سبحانهُ بِحَيْثُ يَصيرُ ذِكْرُهُ وَحُبُّهُ، وَالْإِقْبالُ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ هُمُومِ الْقَلْبِ وَخَطَراتِهِ، فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ بَدَلَهَا، وَيَصيرُ الْهَمُّ كُلُّهُ بِهِ، وَالْخَطرَاتُ كُلُّهَا بِذِكْرِهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ؛ فَيَصيرُ أُنْسُهُ بِاللهِ بَدَلًا عَنْ أُنْسِهِ بِالْخَلْقِ، فَيَعُدُّهُ بِذَلِكَ لِأُنْسِهِ بِهِ يومَ الْوَحْشَةِ فِي الْقُبُورِ حِينَ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَلَا مَا يَفْرَحُ بِهِ سِواهُ، فَهَذَا مَقْصُودُ الِاعْتِكافِ الْأَعْظَمِ"[3].

وَمِنْ مَقاصِدِهِ أَيْضًا:إِدْراكُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَالتَّفَرُّغُ فِي لَيْلَتِهَا لِلطَّاعاتِ؛ فَعَنْ أَبِي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ، قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوَّلَ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ؛ فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ، قَالَ: وَإِنِّي أُرِيتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ وَمَاءٍ؛ فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ وَالْمَاءَ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَجَبِينُهُ وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ فِيهِمَا الطِّينُ وَالْمَاءُ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»[4]


الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مُناسَبَةُ ذِكْرِ الِاعْتِكافِ بَعْدَ الصِّيامِ:
"ذُكِرَ عَقيبَ الصِّيامِ لِمُناسَبَتَيْنِ:
الْأولَى: أَنَّ جُمْلَةَ الْكَلامِ عَلَى الصِّيامِ سَيَتَناوَلُ صِيامَ شَهْرِ رَمَضانَ، وَهُوَ الَّذِي يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبابُ الاِعْتِكافِ فيهِ، لِمَا يُرْجَى فيهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ.

الثَّانِيَةُ: اتِّفاقُ الْعُلَماءِ عَلَى مَشْروعِيَّةِ الصِّيامِ مَعَ الِاعْتِكافِ؛ لِأَنَّ تَمامَ قَطْعِ الْعَلائِقِ عَنِ الدُّنْيَا يَكونُ بِالصِّيامِ"[5].

ثانِيًا: بَعْضُ أَحْكامِ الِاعْتِكافِ:
وَالْكَلامُ هُنَا مِنْ وُجوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: حُكْمُ الاِعْتِكافِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (مَسْنونٌ)؛ أي: أَنَّ الِاعْتِكافَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِلرِّجالِ وَالنِّساءِ.

وَقَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى مَشْروعِيَّتِهِ مِنَ الْكِتابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْماعِ:
أَمَّا الْكِتابُ: فَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187]؛ وَتَرْكُ الْوَطْءِ الْمُباحِ لِأَجْلِ الاِعْتِكافِ دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ للهِ تعالى، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿ وَعَهِدْنَا إِلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: 125].

وَأَمَّا السُّنَّةُ:فَقَدْ وَرَدَتْ أَحاديثُ كَثيرَةٌ فِي مَشْروعِيَّةِ الِاعْتِكافِ، وَمِنْ ذَلِكَ: حَديثُ عائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- «أَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»[6].

وَقَدْ نُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَى مَشْروعِيَّةِ الِاعْتِكافِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ، وَلَيْسَ فَرْضًا واجِبًا؛ إِلَّا إِنْ أَوْجَبَهُ الْإِنْسانُ عَلَى نَفْسِهِ بِنَذْرٍ[7].

الْوَجْهُ الثَّانِي: الِاعْتِكافُ بِلَا صَوْمٍ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (وَيَصِحُّ بِلَا صَوْمٍ).

وَالْمَسْأَلَةُ فيها خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاعْتِكافَ بِلَا صَوْمٍ اعْتِكافٌ صَحيحٌ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحَبُّ الصِّيامُ.

وَهَذَا هُوَ الْمَشْهورُ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ[8].

وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ؛ مِنْهَا:
ما جاءَ عَنِ ابِنِ عُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ»[9]. قَالُوا: فَإِذْنُ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-لِعُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِالِاعْتِكافِ لَيْلًا؛ دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الصَّوْمُ فِي الِاعْتِكافِ، وَلَوْ كانَ الصَّوْمُ شَرْطًا فيهِ لَمْ يَصِحَّ اعْتِكافُهُ بِاللَّيْلِ[10].

وَكَذَلِكَ جاءَ فِي حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيامٌ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ»[11].

وَجاءَ عَنْ عَائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أنَّ رَسُوْلَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ»[12]، وَالْمُرادُ بِهَا: الْعَشْرُ الْأَوَّلُ كَمَا فِي الرِّوايَةِ الْأُخْرَى: «اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ»[13]. قَالُوا: وَهَذَا يَتَناوَلُ اعْتِكافَ يَوْمِ الْعيدِ، وَيَلْزَمُ مِنْ صِحَّتِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ[14].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّوْمَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الِاعْتِكافِ مُطْلَقًا؛ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ.

وَهُوَ رِوايَةٌ عِنْدَ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وْالْمالِكِيَّةِ[15].

وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ؛ مِنْهَا:
مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «أَنَّ عُمَرَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجاهِلِيَّةِ لَيْلَةً، أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فَقالَ: اعْتَكِفْ وَصُمْ»[16]. قَالُوا: فَأَمَرَهُ بِالصَّوْمِ فِي الِاعْتِكافِ عَلَى الْوُجوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمَ.

وَلِأَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-لَمْ يَعْتَكِفْ إِلَّا صائِمًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكونَ الصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِذَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْبَيانِ، فَهُوَ عَلَى الْوُجوبِ.

وَلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا ذَكَرَهُ إِلَّا مَعَ الصِّيامِ[17].

وَالصَّوابُ -وَاللهُ أَعْلَمُ- الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَنابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ.

وَأَمَّا دَليلُ أَصْحابِ الْقَوْلِ الثاني، فَنَقولُ:
ثَبَتَ عَنْهُ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوُّلَ مِنْ شَوَّالٍ، وَمِنَ الْمَعْلومِ أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَّلَ أَوَّلُهَا عيدُ الْفِطْرِ، وَالْعيدُ لَا يَجوزُ صِيامُهُ.

وَأَيْضًا لَمْ يُنْقَلْ فيما أَعْلَمُ أَنُّهُ صامَ هَذِهِ الْعَشْرَ، إِنَّمَا الْمَنْقولُ أَنَّهُ اعْتَكَفَ فَقَطْ كَمَا فِي حَديثِ عائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَكُنْتُ أَضْرِبُ لَهُ خِبَاءً فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ، فَاسْتَأْذَنَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَضْرِبَ خِبَاءً، فَأَذِنَتْ لَهَا، فَضَرَبَتْ خِبَاءً، فَلَمَّا رَأَتْهُ زَيْنَبُ ابْنَةُ جَحْشٍ ضَرَبَتْ خِبَاءً آخَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- رَأَى الأَخْبِيَةَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: أَلْبِرَّ تُرَوْنَ بِهِنَّ، فَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ ذَلِكَ الشَّهْرَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ عَشْرًا مِنْ شَوَّالٍ»[18].

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لُزومُ الِاعْتِكافِ وَالصَّوْمِ بِالنَّذْرِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (وَيَلْزمان بِالنَّذْرِ)؛ أي: أَنَّ الِاعْتِكافَ وَالصَّوْمَ يَكُونَانِ واجِبَيْنِ بِالنَّذْرِ؛ لِعُمومِ حَديثِ عائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالَتْ: قالَ رَسولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ»[19]، فَدَلَّ هَذَا الْحَديثُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَ فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ بِأَيِّ عِبادَةٍ للهِ تَعَالَى؛ فَيَلْزَمُهُ الْوَفاءُ بِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الِاعْتِكافُ وَالصِّيامُ. وَهَذا بِاتِّفاقِ الْمَذاهِبِ الْأَرْبَعَةِ[20]، بَلْ نُقِلَ إِجْماعًا[21].

ثَالِثًا: مَكانُ الِاعْتِكافِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ).

وَالْكَلامُ هُنَا مِنْ وُجوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: هَلْ يَصِحُّ الِاعْتِكافُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؟
لا يَصِحُّ الاِعْتِكافُ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنابِلَةِ، وَالْمالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[22]، بَلْ نُقِلَ إِجْماعًا[23].

الْوَجْهُ الثَّانِي: صِفَةُ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَكونُ فيهِ الِاعْتِكافُ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ -بِقَوْلِهِ: (يُجَمَّعُ فيه)؛ أي: تُقَامُ فيهِ صَلَاةُ الْجَماعَةِ دُونَ الْجُمُعَةِ؛ فَلَا يُشْتَرَطُ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ – رَحِمَهُ اللهُ -.

وَالْمَسْأَلَةُ فيها خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى أَقْوالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاعْتِكافَ لَا بُدَّ أَنْ يَكونَ فِي مَسْجِدٍ تُقامُ فيهِ الْجَماعَةُ.

وَهَذَا هُوَ الْمَشْهورُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ[24].

قالَ ابْنُ قُدامَةَ – رَحِمَهُ اللهُ -: "وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَماعَةَ واجِبَةٌ، وَاعْتِكافُ الرَّجُلِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فيهِ الْجَماعَةُ يُفْضِي إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَرْكُ الْجَماعَةِ الْواجِبَةِ، وَإِمَّا خُروجُهُ إِلَيْهَا، فَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ كَثيرًا مَعَ إِمْكانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلِاعْتِكافِ؛ إِذْ هُوَ لُزومُ الْمُعَتَكَفِ وَالْإِقامَةُ عَلَى طاعَةِ اللهِ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكافُ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ إٍذَا كانَ الْمُعْتَكِفُ رَجُلًا"[25].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِكافَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تُقَامُ فِيهِ الْجُمُعَةُ، وَهَذَا إِنْ كانَ يَتَخَلَّلُ الِاعْتِكافُ جُمُعَةً، وَكانَ اعْتِكافُهُ يَزيدُ عَلَى جُمُعَةٍ، وَأَمَّا إِنْ كانَتْ مُدَّةُ الِاعْتِكافِ أَقَلَّ مِنْ جُمُعَةٍ؛ فَيَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ.

وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الْمالِكِيَّةِ[26].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاعْتِكافَ يَصِحُّ أَنْ يَكونَ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ.

وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الحنابلة، وَعِنْدَ الْمالِكِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهبُ الشَّافِعِيَّةِ[27]، بَلْ نُقِلَ الْإِجْماعُ عَلَيْهِ[28].

وَالرَّاجِحُ: -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الِاعْتِكافَ يَصِحُّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ تُقامُ فيهِ صَلاةُ الْجَماعةِ -كما تقدم-.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: اعْتِكافُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقامُ فيهِ الْجَماعَةُ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ -بِقَوْلِهِ: (إِلَّا الْمَرْأَةَ: فَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ)؛ أي: وَلَوْ فِي مَسْجِدٍ لَا تُقَامُ فِيهِ الْجَمَاعَةُ.

وَفي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلافٌ بَيْنَ الْعُلَماءِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنُّهُ يَصِحُّ اعْتِكافُ الْمَرْأَةِ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ، وَلَوْ لَمْ تُقَمْ فِيهِ الْجَماعَةُ.
وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْجُمْهورِ[29]؛ لِأَنَّ الْجَماعَةَ غَيْرُ واجِبَةٍ عَلَيْهَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِكافُ الْمَرْأَةِ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فيهِ الْجَمَاعَةُ.
وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْحَنابِلَةِ[30].

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: اعْتِكافُ الْمَرْأَةِ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (سِوَى مَسْجِدِ بَيْتِهَا). وَالْمُرادُ بِهِ مُصَلَّاهَا الَّذِي تُصَلِّي فيهِ فِي بَيْتِهَا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَعْتَكِفَ فِيهِ، وَهَذَا الَّذِي قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فيها خِلافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ.
وَهَذَا هُوَ الْمَشْهورُ مِنْ مَذْهَبِ الْحَنابِلَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمالِكِيَّةِ، وَالصَّحيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ[31]، وَهُوَ الصَّحيحُ إِنْ شاءَ اللهُ.

قَالُوا:
لِأَنَّ اللهَ قالَ: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187]، وَمَسْجِدُ بَيْتِهَا لَيْسَ بِمَسْجِدٍ تَثْبُتُ لَهُ أَحْكامُ الْمَساجِدِ.

"وَلِأَنَّ أَزْواجَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- اسْتَأْذَنَّهُ فِي الِاعْتِكافِ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَذِنَ لَهُنَّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِاعْتِكافِهِنَّ لَمَا أَذِنَ فيهِ، وَلَوْ كانَ الِاعْتِكافُ فِي غَيْرِهِ أَفْضَلَ لَدَلَّهُنَّ عَلَيْهِ، وَنَبَّهَهُنَّ عَلَيْهِ"[32].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَعْتَكِفَ الْمَرْأَةُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا.
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْقَديمِ[33].

وَلَكِنْ لَا أَعْلَمُ لَهُمْ دَليلًا واضِحًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.

رَابِعًا: نَذْرُ الِاعْتِكافِ:
وَالْكَلامُ هُنَا مِنْ وُجوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: النَّذْرُ الْمَكانِيُّ فِي الِاعْتِكافِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ -بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَهُ أَوِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلاثَةِ -وَأَفْضَلُهَا: الْحَرامُ فَمَسْجِدُ الْمَدينَةِ فَالْأَقْصَى-: لَمْ يَلْزَمْهُ فيهِ).

وَهُنَا عِدَّةُ مَسائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَذْرُ الِاعْتِكافِ أَوِ الصَّلاةِ فِي مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الْمَساجِدِ الثَّلاثَةِ:
فَمَنْ نَذَرَ هَذَا النَّذْرَ لَـمْ يَلْزَمْهُ الْوَفاءُ بِالنَّذْرِ فيمَا عَيَّنَهُ، وَلَهُ فِعْلُ الْمَنْذورِ مِنِ اعْتِكافٍ أَوْ صَلاةٍ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ يُريدُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَـمْ يُعيِّنْ لِعِبادَتِهِ مَوْضِعًا، وَلَوْ تَعَيَّنَ لَاحْتاجَ إِلَى شَدِّ رَحْلٍ، وَهَذَا ما قرَّره المؤلف.

وَالْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنُّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَفاءُ بِالنَّذْرِ فيما عَيَّنَهُ، وَيَفْعَلُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ[34].

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفاءُ بِالنَّذْرِ فيما عَيَّنَهُ.
وَهَذَا قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ[35].

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ وَفاءُ النَّذْرِ فِيمَا عَيَّنَهُ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ مَزِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ؛ كَكَوْنِهِ عَتيقًا أَوْ أَكْثَرَ جَماعَةً أَوْ ما أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَهَذَا اخْتِيارُ شَيْخِ الإِسْلامِ[36].
وَالْأَقْرَبُ -وَاللهُ أَعْلَمُ-: مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ – رَحِمَهُ اللهُ - لِمَا ذَكَرْنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: نَذْرُ الِاعْتِكافِ أَوِ الصَّلاةِ فِي أَحَدِ الْمَساجِدِ الثَّلاثَةِ:
مَنْ نَذَرَ الِاعْتِكافَ فِي أَحَدِ الْمَساجِدِ الثَّلاثَةِ لَـمْ يُجْزِئْهُ فِي غَيْرِهَا؛ لِفَضْلِ الْعِبادَةِ فِي هَذِهِ الْمَساجِدِ، وَلِأَنَّهُ يُشْرَعُ شَدُّ الرِّحالِ إِلَيْهَا[37]؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَديثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»[38].

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَفْضَلُ الْمَساجِدِ:
الْمَسْجِدُ الْحَرامُ، ثُمَّ مَسْجِدُ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى:
لِحَديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الحَرَامَ»[39].

وَلِحَديثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-:«صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي هَذَا»[40].

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: النَّقْلُ فِي نَذْرِ الِاعْتِكافِ مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى:
وَهَذِهِ ذَكَرَهَا – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ عَيَّنَ الْأَفْضَلَ: لَمْ يَجُزْ فيما دونَهُ).

وَكَلامُ الْمُصَنِّفِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالَّتِي بَعْدَهَا خَاصٌّ بِالْمَساجِدِ الثَّلاثَةِ.

وَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنُّهُ إِنْ نَذَرَ الِاعْتِكافَ فِي الْأَفْضَلِ مِنَ الْمَساجِدِ الثَّلاثَةِ لَمْ يُجْزِئْهُ اعْتِكافُهُ فِيمَا دُونَهُ؛ فَمَثلًا: لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لَمْ يُجْزِئْهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-لَمْ يُجْزِئْهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى.

الْمَسْأَلَةُ الْخامِسَةُ: النَّقْلُ فِي نَذْرِ الِاعْتِكافِ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى:
وَهَذِهِ ذَكَرَهَا – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (وَعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ)؛ أي: لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ، وَمِنْ بابٍ أَوْلَى لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحرامِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ؛ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَفْضولٍ إِلَى فاضِلٍ.

وَالدَّليلُ عَلَى هَذَا حديثُ جابِرٍ: «أَنَّ رَجُلًا قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: شَأْنُكَ إِذَنْ»[41].


الْوَجْهُ الثَّانِي: النَّذْرُ الزَّمانِيُّ فِي الِاعْتِكافِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ – رَحِمَهُ اللهُ - بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَ زَمَنًا مُعَيَّنًا دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ لَيْلَتِهِ الْأولى وَخَرَجَ بَعْدَ آخِرِهِ).

وَالْكَلامُ هنا مِنْ وُجوهٍ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَقْتُ دُخولِ الْمُعْتَكَفِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَ زَمَنًا مُعَيَّنًا دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ لَيْلَتِهِ الْأولى)؛ أي: مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ زَمَنًا مُعَيَّنًا، كَأَنْ يَنْذُرَ شَهْرًا، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُروبِ شَمْسِ يَوْمِ الثَّلاثِينَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ كَمَا قَرَّرَهُ الْمُؤَلِّفُ.

وَالْمَسْأَلَةُ فيها خِلافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:أَنَّهُ يَدْخُلُ الْمُعْتَكَفَ قَبْلَ غُروبِ الشَّمْسِ.
وَهذَا هُوَ الْمَشْهورُ مِنْ مَذْهَبِ الحنابلة، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ[42].

وَاسْتَدَلُّوا:
بِحَديثِ عائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَنَّ النَّبِيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ»[43]، وَالْعَشْرُ الْأَواخِرُ تَبْدَأُ بِغُروبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرينَ.

وَقالوا أَيْضًا: لِأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقاصِدِ الَّتِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهَا الِاعْتِكافُ: إِدْراكُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَلَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرينَ مِنْ لَيالي الْوِتْرِ، وَالَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ هِيَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ فَإِذَا دَخَلَ أَوَّلُ النَّهارِ فَقَدْ فاتَتْهُ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرينَ، وَمَنْ فَاتَتْهُ لَيْلَةٌ كامِلَةٌ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَواخِرَ كُلَّهَا.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَدْخُلُ مُعْتَكَفَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهارِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ رِوايَةٌ عَنِ الْإِمامِ أَحْمَدَ[44].

وَذَلِكَ لِحَديثِ عائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ»[45].

وَقَدْ أُجيبَ عَنْ هَذَا الْحَديثِ بِجَوابَيْنِ:
الْجَوَابُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ الْخَاصَّ وَانْقَطَعَ، وَخَلَى بِنَفْسِهِ فيهِ بَعْدَ صَلاتِهِ الصُّبْحَ، لَا أَنَّ ذَلِكَ وَقْتَ ابْتِداءِ الِاعْتِكافِ؛ ذَكَرَ قَريبًا مِنْ هَذَا النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ[46].

الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ دَخَلَ الْمُعْتَكَفَ فِي يَوْمِ الْعِشْرينَ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْقاضِي أَبُو يَعْلَى مِنَ الْحَنابِلَةِ[47]، وَاللهُ أَعْلَمُ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: وَقْتُ الْخُروجِ مِنَ الْمُعْتَكَفِ:
وَهَذَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَخَرَجَ بَعْدَ آخِرِهِ)؛ أي: وَخَرَجَ بَعْدَ مَغيبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فيها، فَإِذَا خَرَجَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَدْ أَوْفَى بِنَذْرِهِ.

وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْمالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ[48].

وَلَكِنِ اسْتَحَبَّ عامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَبيتَ الْمُعْتَكِفُ لَيْلَةَ الْعيدِ فِي مُعْتَكَفِهِ، وَيَخْرُجَ فِي ثِيابِ الِاعْتِكافِ، قالَ إِبْراهيمُ: "كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي مَسْجِدِهِ، حَتَّى يَكُونَ غُدُوُّهُ مِنْهُ"[49]، وَقالَ أَبُو مِجْلَزٍ: "بِتْ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي اعْتَكَفْتَ فِيهِ، حَتَّى تَكُونَ غُدُوُّكَ إِلَى مُصَلَّاكَ مِنْهُ"[50]، وَاللهُ أَعْلَمُ.

[1] انظر: تحرير ألفاظ التنبيه (ص:130)، والحاوي الكبير (3/ 481)، والمغني، لابن قدامة (3/ 186).

[2] انظر: تفسير القرطبي (2/ 332، 333)، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي (3/ 3).

[3] زاد المعاد (2/ 82، 83).

[4] أخرجه البخاري (2018، 2027)، ومسلم (1167)، واللفظ له.

[5] تيسير العلام (ص: 351).

[6] أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172).

[7] انظر: الإجماع لابن المنذر (ص:50)، وتفسير القرطبي (2/ 333)، والعدة في شرح العمدة (2/ 923)، والمغني لابن قدامة (3/ 186).

[8] انظر: المجموع، للنووي (6/ 484، 485)، والمغني، لابن قدامة (3/ 188).

[9] أخرجه البخاري (2032) واللفظ له، ومسلم (1656).

[10] البيان في مذهب الإمام الشافعي (3/ 579).

[11] أخرجه الدارقطني (2355)، وصححه الحاكم (1603).

[12] أخرجه البخاري (2033).

[13] أخرجه مسلم (1172).

[14] انظر: المجموع، للنووي (6/ 487).

[15] انظر: المبسوط، للسرخسي (3/ 115، 116)، والمدونة (1/ 290)، والمغني، لابن قدامة (3/ 188).

[16] أخرجه أبو داود (2474)، وقال الدارقطني في السنن (3/ 186): "سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هذا حديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه ... ، وابن بديل ضعيف الحديث"، وصححه الحاكم (1604).

[17] انظر: شرح مختصر الطحاوي (2/ 467)، وزاد المعاد (2/ 83).

[18] أخرجه البخاري (2033).

[19] أخرجه البخاري (6696).

[20] انظر: المبسوط، للسرخسي (3/ 115)، والذخيرة، للقرافي (2/ 545)، والمجموع، للنووي (6/ 475)، والمغني، لابن قدامة (3/ 186).

[21] انظر: الإجماع، لابن المنذر (ص: 50)، والمجموع (6/ 475).

[22] انظر: التبصرة، للخمي (2/ 836)، والمجموع، للنووي (6/ 480)، والمغني، لابن قدامة (3/ 189).

[23] انظر: الاستذكار (3/ 385)، والمغني (3/ 189)، وتفسير القرطبي (2/ 333)، ومجموع الفتاوى (27/ 252).

[24] انظر: المبسوط، للسرخسي (3/ 115)، والإنصاف، للمرداوي (7/ 576).

[25] المغني، لابن قدامة (3/ 189).

[26] انظر: الذخيرة، للقرافي (2/ 535، 536).

[27] انظر: المدونة (1/ 298)، والمجموع للنووي (6/ 483)، ومسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (ص:138).

[28] اختلاف الأئمة العلماء (1/ 261).

[29] انظر: الشرح الكبير، للرافعي (3/ 262)، والمغني، لابن قدامة (3/ 190).

[30] انظر: الفروع وتصحيح الفروع (5/ 141).

[31] انظر: الإشراف على نكت مسائل الخلاف (1/ 452)، والمجموع، للنووي (6/ 480)، والإنصاف، للمرداوي (7/ 575-579).

[32] المغني، لابن قدامة (3/ 191).

[33] انظر: الأصل، للشيباني (2/ 184)، والتجريد، للقدوري (3/ 1582)، وبحر المذهب (3/ 318).

[34] انظر: التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (2/ 479)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (3/ 576)، والمغني، لابن قدامة (3/ 210).

[35] انظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (3/ 577).

[36] الفتاوى الكبرى، لابن تيمية (5/ 380).

[37] انظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (3/ 576)، والمغني، لابن قدامة (3/ 210).

[38] أخرجه البخاري (1864)، ومسلم (1397).

[39] أخرجه البخاري (1190)، ومسلم (1394).

[40] أخرجه أحمد (16117)، وصححه ابن حبان (1620).

[41] أخرجه أحمد (14919)، وأبو داود (3305)، وقال ابن عبد الهادي في المحرر في الحديث (ص:436): "رجَاله رجال الصَّحِيح"، وصححه ابن الملقن في البدر المنير (9/ 509).

[42] انظر: البحر الرائق (2/ 329)، والكافي في فقه أهل المدينة (1/ 353)، والحاوي الكبير (3/ 488)، والمغني، لابن قدامة (3/ 207).

[43] أخرجه البخاري (2026)، ومسلم (1172).

[44] انظر: الإنصاف، للمرداوي (7/ 593).

[45] أخرجه البخاري (2033)، ومسلم (1172)، واللفظ لمسلم.

[46] شرح مسلم، للنووي (8/ 68).

[47] انظر: شرح العمدة، لابن تيمية (2/ 780).

[48] انظر: البحر الرائق (2/ 329)، والكافي في فقه أهل المدينة (1/ 353)، والحاوي الكبير (3/ 488)، والمغني، لابن قدامة (3/ 208).

[49] أخرجه ابن أبي شيبة (9678).

[50] أخرجه ابن أبي شيبة (9679).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 78.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 77.04 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.12%)]