|
رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#21
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الحادي والعشرون: عقوبات أكل الميراث السيد مراد سلامة الحمد لله لم يزل عليًّا، ولم يزل في علاه سميًّا، قطرة من بحر جوده تملأ الأرض ريًّا، نظرة من عين رضاه تجعل الكافر وليًّا، الجنة لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا، والنار لمن عصاه ولو شريفًا قرشيًّا، أنزل على نبيه ومصطفاه قولًا بهيًّا، ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63]. فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثاتها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. اللهم لا تعذِّب جمعًا التقى فيك ولك، ولا تعذب ألسنًا تُخبر عنك، ولا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لذة النظر إلى وجهك الكريم. أمة الإسلام، إن الأمر ليس باليسير، فبعض الناس يظنه هينًا وهو عند الله تعالى عسير، فيا آكِلَ الميراث، اسمع إن كان لك قلب تلك العقوبات التي توعَّدك بها ربُّ الأرض والسماوات. أولًا: أنه متعدٍّ لحدود الله: اعلم - هداني الله تعالى وإياك - أن أكلك للميراث فيه تعدٍّ لحدود الله تعالى، وانتهاك لحرماته فالله سبحانه بعد أن بين الأنصبة؛ قال: ﴿ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ﴾، ولا تُجاوزوها، ولهذا قال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾؛ أي: فيها، فلم يزِد بعض الورثة، ولَم ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة، بل ترَكهم على حُكم الله وفريضته وقِسمته، ﴿ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ [النساء: 13، 14]؛ أي: لكونه غيَّر ما حكَم الله به، وضادَّ الله في حُكمه، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسَم الله وحَكَم به، ولهذا يُجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المُقيم. ولا شك أن من منع امرأة - أختًا كانت، أم أمًّا، أم جدة أم زوجة - ميراثها، فقد تعدى حدود الله، وتعرَّض لعقوبته، والله قد قسَّم الميراث قسمة عدلٍ لا جور فيها ولا حيف؛ أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوْصَى حافَ في وصيَّته، فيُختم له بشرِّ عمله، فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيَعدل في وصيَّته، فيُختم له بخير عمله، فيدخل الجنة))، قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾[1]. ثانيًا: أنه آكل حق الضعيفين: ونقولُ لهؤلاء الذين فرَّقوا دينهم، وطبَّقوا آية وعطَّلوا أخرى، وصلَّوا ثم ظلموا، وزكَّوا ثم بَخِلوا، وصاموا ثم تركوا، وحجُّوا ثم ختموا حياتَهم بحجة إلى الشيطان: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ)[2]. ثالثًا: أنه قاطع لأرحامه: فالله تعالى يجازي أهل الصلة بالصلة في الدنيا والآخرة، ويجازي أهل القطيعة بالقطية في الدنيا والآخرة، والجزاء من جنس العمل؛ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا من ذَنْب أَجْدَر أَن يعجل لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخرة مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْبَغْيِ"[3]. يعني: أنه تحصُل له عقوبة في الدنيا والآخرة، فيجمع له بين العقوبة الدنيوية والأخروية؛ حيث يجعل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخر له في الآخرة، فيجمع له بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، والضرر الذي يحصل في الدنيا، والضرر الذي يحصل في الآخرة، وهذا يدل على عِظم وخطورة شأن البغي وقطيعة الرحم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحبهما جدير بأن يحصل له هذا وهذا، وأن يجمع له بين هذا وهذا، وهذا يدل على خطورة أمر البغي وقطيعة الرحم. الحجب والحرمان من دخول الجنان: فالجنة هي صلة الله التي جعلها لأهل كرامته ولأهل طاعته، فإذا قطَع المسلم رحمه حجبه الله من جنته؛ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ»؛ يعني قاطع رحم (مسلم)، ولفظ أبي داود: ((لا يدخل الجنة قاطعُ رحمٍ)[4]. وفي معنى هذا الحديث قولان: • أنه لا يدخلها من أول وهلة؛ أي: إنه يتأخر في دخول الجنة، وأنه يدخل النار ويعذَّب بها، ولكنه إذا دخل النار لا يستمر فيها أبدًا، بل لابد أن يخرج منها، وأن يدخل الجنة ما دام أنه مرتكبٌ لكبيرة فقط، ولا يُمنع من دخول الجنة أبدًا إلا الكفار الذين هم أهل النار، فلا سبيل لهم إلى الخروج منها أبدًا. • أنه لا يدخلها أبدًا إذا كان مستحلًّا؛ لأن استحلال الذنب كفرٌ، فيكون ذلك مانعًا من دخول الجنة أبدًا؛ لأنه يكون بذلك كافرًا، والكافر لا يخرج من النار ولا يدخل الجنة أبدًا. صلة الله للواصل وقطعه للقاطع والطرد من رحمته: عَنْ أبِي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِن الرَّحِمَ شُجْنة من الرَّحْمَنِ، فقال الله: من وَصَلكِ وصلتُه، ومن قَطَعَكِ قطعتُه»، وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِن اللهَ خَلَقَ الخلق، حتى إِذا فَرَغَ منهم قامَتِ الرَّحِمُ، فأخذت بحَقْوِ الرحمن، فقال: مَهْ؟ قالت: هذا مقامُ العائِذ [بكَ] من القطيعة، قال: نعم، أَمَا تَرضينَ أن أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وأقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قالت: بلى، قال: فذلك لكِ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا إِن شئتم: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرضِ وَتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَأصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ، أَمْ على قُلُوب أقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 23، 24]»[5]. فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل مَن وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقرباءه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه، ولا يقطع رحمه، فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي، ولكنه يصل رحمه، فإن الله تعالى قد يغفر له؛ لأن صلة الرحم عظيمة جدًّا؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد:22 -23]. فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم، أصمَّ الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم. رابعًا: الإفلاس يوم القيامة: يا آكلًا للميراث، لا تظُنَّ أن ذلك فيه الغنى، كلا بل فيه الإفلاس، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]. توهَّم نفسك وقد بُعثر ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، وقد أُوتيتَ بصلاة وزكاة وصوم وحج، ولكنك قد أكلت المواريث، انظر إلى نفسك في عرصات يوم القيامة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال، فيأتي وقد شتم هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيقتص هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنِيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه ثم طرح في النار"[6]. خامسًا: الإثم الكبير: اعلم علَّمني الله وإياك: أن التعدي على المواريث جُرمٌ عظيم وإثم مبين؛ قال الله تعالى: ﴿ وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2]. والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثمٌ عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه. سادسًا: أكلة الميراث أكلة النار: أيها الأحباب، الذين يأكلون الميراث هم الذين وصفهم الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. إن اليتامى مَظنة أن يُبخسوا في الميراث، فأكل مالهم هنا ظلمًا هو بخسُهم حظَّهم في الميراث، أو أكل الأوصياء أموالهم والأخذ من مال اليتيم، سماه الله تعالى أكلًا؛ لما فيه من معنى الأخذ، وأن يَقصِد به تنميةَ ماله كما ينمِّي جسمه بالأكل، ولكنها تنمية آثمة مالها البوار، "ومن نبت لحمه من حرام فالنار أَولى به"، وقال سبحانه: (ظُلْمًا) لكمال التشنيع على الأكل؛ إذ هم يظلمون ضعيفًا لا يقوى على الانتصاف منهم، وقد ذكر سبحانه إثم ذلك الأكل بقوله: ﴿ إِنَّمَا يَأْكلُونَ في بُطُونِهِمْ ﴾، وهذا تصويرٌ لضرر الأكل عليهم؛ لأنه يكون أكلهم كمن يأكل النار ويضعها في بطنه؛ أي: يملأ بطنه بها، فهو في ألَمٍ دائم حتى يهلك، وكذلك دائمًا من يأكلون أموال اليتامى لَا يأكلون أكلًا هنيئًا ولا مريئًا، بل هم في وسواس دائم حتى يقضى الله عليهم، وقد رأينا بيوتًا خرِبت؛ لأنها أكلت مال اليتيم، وهذا عقابهم في حاضرهم، أما العقاب الذي ينتظرهم في الآخرة، فقال: ﴿ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾؛ أي ستوقد بهم نار شديدة الأوار، يستمرون في بلاء شديد منها. قال القاسمي رحمه الله: ما أشد دلالة هذا الوعيد على سعة رحمته تعالى، وكثرة عفوه وفضله؛ لأن اليتامى لما بلغوا في الضعف إلى الغاية القصوى، بلغت عناية الله بهم إلى الغاية القصوى. سابعًا: الفضيحة يوم القيامة: ألا فلتعلم أن ما أكلتَ من حق أختك - من مال وعقار - ستُطوقه يومَ القيامة بإذن الله، لو ظلمتها جنيهًا سيأتي عليك نارًا، ولو ظلمتها شبرًا من أرضِ، فسيأتي حول عنقك يومَ القيامة نارًا من سبع أرضين، قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنْ الأرْضِ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"[7]. وهذا الحديثُ له قصةٌ عجيبة في صحيح مسلم، وذلك أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنه أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ سَعِيدٌ - وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة -: أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الأرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ"، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا! فَقَالَ سَعِيدُ بْن زَيْدٍ ـ رضي الله عنه ـ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً؛ فَعَمِّ بَصَرَهَا، وَاقْتُلْهَا فِي أَرْضِهَا! قال بعض الرواة: فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا، ثُمَّ بَيْنَا هِيَ تَمْشِي فِي أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِي حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ)[8]؛ أخرجه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "َخَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَوْ نَهْبُ مُؤْمِنٍ، أَوْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ، أَوْ يَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ"[9]. ثامنًا: أن أكل الميراث يدخل في السبع الموبقات: قال - صلى الله عليه وسلم -: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ"!، "قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)[10]. روائع من تاريخ المرأة المسلمة: ونختم خطبتنا بروائع من تاريخ أمتنا تبيِّن العدل وتُبرز الخوف من الله تعالى، وهذه القصص هي لنسوة عرفنَ الله تعالى وقالوا: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285]. القصة الأولى: استَمِع لهذه القصة، ومُلَخَّصها أنَّ رجلًا كان ببغداد يعمل بزَّازًا - يَبيع البزَّ؛ أي: الثياب؛ يعني: قمَّاش - له ثروة، فبينا هو في حانوته، أقْبَلَت إليه صبيَّة، فالْتَمَست منه شيئًا تَشتريه، فبينما هي تُحادثه، كشَفَت وجهها في خلال ذلك، فتحيَّر، وقال: قد والله تحيَّرت مما رأيت، فقالت: ما جِئْت لأشتري شيئًا، إنما لي أيَّام أتردَّد إلى السوق؛ ليقع بقلبي رجلٌ أتزوَّجه، وقد وقَعْت أنت بقلبي ولي مالٌ، فهل لكَ في التزوُّج بي؟ فقال لها: لي ابنة عم وهي زوجتي وقد عاهَدتها ألاَّ أُغَيِّرها، ولي منها ولد، فقالت: قد رَضِيت أن تَجِئ إليّ في الأسبوع نوبتين، فرَضِي، وقام معها فعَقَد العقد، ومضى إلى منزلها، فدخَل بها، ثم ذهب إلى منزله، فقال لزوجته: إنَّ بعض أصدقائي قد سألني أن أكون الليلة عنده، ومضى فبات عندها، وكان يمضي كلَّ يوم بعد الظهر إليها، فبَقِي على هذا ثمانية أشهر، فأنْكَرَت ابنه عمه أحوالَه، فقالت لجارية لها: إذا خرَج، فانظري أين يمضي؟ فتَبِعتْه الجارية وهو لا يدري، إلى أن دخل بيت تلك المرأة، فجاءَت الجارية إلى الجيران، فسألتْهم: لِمَن هذه الدار؟ فقالوا لصبيَّة قد تزوَّجت برجلٍ تاجر بزَّاز، فعادَت إلى سيدتها، فأَخْبَرَتْها فقالت لها: إيَّاكِ أن يعلمَ بهذا أحد، ولَم تُظهر لزوجها شيئًا، فأقام الرجل تمام السنة، ثم مَرِض ومات، وخلَّف ثمانية آلاف دينار، فعَمدت المرأة التي هي ابنة عمه إلى ما يستحقُّه الولد من التركة - وهو سبعة آلاف دينار - فأفْرَدَتْها، وقَسَمت الألف الباقية نصفين، وتَرَكت النصف في كيس، وقالت للجارية: خذي هذا الكيس واذْهَبي إلى بيت المرأة، وأعْلِميها أنَّ الرجل مات وقد خلَّف ثمانية آلاف دينار، وقد أخَذ الابن سبعة آلاف بحقِّه، وبَقِيَتْ ألف، فقَسَمتُها بيني وبينك، وهذا حقُّك، وسَلِّميه إليها، فمَضَت الجارية، فطَرَقت عليها الباب ودخَلت، وأَخْبَرَتها خبرَ الرجل، وحَدَّثتها بموته، وأَعْلَمتها الحال، فبَكَت وفتَحَت صندوقها، وأخْرَجَت منه رقعة، وقالت للجارية: عودي إلى سيِّدتك، وسَلِّمي عليها عني، وأَعْلميها أنَّ الرجل طَلَّقني، وكتَب لي براءة، ورُدِّي عليها هذا المال؛ فإني ما أستحقُّ في تَرِكته شيئًا، فرَجَعت الجارية، فأَخْبَرَتها بهذا الحديث[11]. القصة الثانية: ومن ورع نساء السلف ما حكاه الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: أن امرأة من الصالحات كانت تعجن عجينة، فبلغها - وهي تعجن - موت زوجها، فرفعت يدها منه، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء[12]؛ أي: إن مال الرجل إذا توفِّي انتقل وصار ملكًا لورثته الشرعيين، فلم يُصبح لها وحدها، فلذلك رفَعت يدها من العجين، وقالت: هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء. القصة الثالثة: وأخرى كانت تستصبح بمصباح - يعني: بالزيت أو شيء من هذا - فجاءها خبرُ زوجها، فأطفأت المصباح، وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شركاء[13]؛ يعني: ما يجوز لها أن تستقل بالانتفاع به. فيا ويل من يأكلون أموال الميراث! وينفقون أموال الطفل اليتيم في السرادقات والتفاخر، وهم لا يخافون الله سبحانه وتعالى من أكل أموال اليتامى ظلمًا، ويتلفون أموالهم في أشياء حرَّم الله أن تنفق فيها كالمباهاة والفخر. [1] أخرجه أحمد (2 /278، رقم 7728)، وابن ماجه (2 /902، رقم 2704) (ضعيف) انظر حديث رقم: 1458 في ضعيف الجامع. [2] أخرجه ابن ماجه (2 /1213، رقم 3678)، قال البوصيري (4 /103): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والحاكم "الصحيحة" برقم (1015). [3] أخرجه أحمد (5 /36) والبخاري في الأدب المفرد (29)، وأبو داود (4902)، وابن ماجه (4211) والترمذي (2511) الصحيحة 915، 978. [4] رواه البخاري 10 / 347 في الأدب، باب إثم القاطع، ومسلم رقم (2556) في البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، وأبو داود رقم (1696) في الزكاة، باب صلة الرحم. [5] أخرجه أحمد (2 /330، رقم 8349)، والبخاري (5 /2232، رقم 5641) ، ومسلم (4 /1980، رقم 2554). [6] أخرجه أحمد (1 /38) (3626) والبخاري في الأدب المفرد (154 و155). ومسلم (8 /30). [7] أخرجه أحمد (6 /64، رقم 24398)، والبخاري (3 /1167، رقم 3023)، ومسلم (3 /1231، رقم 1612). [8] أخرجه أحمد 1 /188(1633) والبخاري" 4/130 (3198) و"مسلم" 5/58 (4141). [9] أخرجه أحمد (2 /361 رقم 8722) صحيح الترغيب والترهيب (2/ 59) (حسن لغيره). [10] أخرجه البخاري (3 /1017، رقم 2615)، ومسلم (1 /92، رقم 89). [11] صفة الصفوة (2/ 533). [12] صفة الصفوة (4/ 439). [13] صفة الصفوة (4/ 440).
__________________
|
#22
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثاني والعشرون: علاج قسوة القلب: السيد مراد سلامة الحمد لله الذي تفرَّد بالعز والجلال، وتوحَّد بالكبرياء والكمال، وجلَّ عن الأشباه والأشكال، ودل على معرفة فزال الإشكال، وأذلَّ مَن اعتزَّ بغيره غاية الإذلال، وتفضَّل على المطيعين بلذيذ الإقبال، بيده ملكوت السماوات والأرض ومفاتيح الأقفال، لا رادَّ لأمره ولا معقِّب لحكمه وهو الخالق الفعال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير. هو الأول والآخر والظاهر والباطن الكبير المتعال، لا يحويه الفكر ولا يحدُّه الحصر، ولا يدركه الوهم والخيال، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه الذي أيَّده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وزينه بأشرف الخصال، ورفعه إلى المقام الأسنى، فكان قاب قوسين أو أدنى، وخلع الجمال. أخي المسلم، بعدما رأينا أحوال السلف في التأثر بذلك المشهد مشهد الجنازة، نأتي إلى سؤال ما هو علاج تلك القسوة؟ وكيف نخرج من تلك الغلفة؟ الجواب بحول الملك الوهاب: إن رقة قلب وغزارة دمعة منةٌ وعطية نعمة من نعم الله تعالى، ﴿ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر:22]. المعرفة بالله تعالى: اعلم أن مَن تعرَّف على الله تعالى حق المعرفة، رقَّ قلبه ودمِعت عيناه من خشية ربه ومولاه؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. يقول ابن كثير رحمه الله: أي: إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفين به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كانت المعرفة به أتَمَّ والعلم به أكملَ، كانت الخشية له أعظم وأكثر؛ عن أبي حيان [التميمي] عن رجل قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمر الله، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله ويعلم الحدود والفرائض، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود ولا الفرائض، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض، ولا يخشى الله عز وجل[1]. تذكر الموت وما بعده: ومما يعين على التأثر والخشية والإنابة أن تُكثر من تذكُّر الموت وأنه أقرب إليك، فلا تدري متى يأتيك. زيارة القبور والتفكر في حال أهلها: واعلموا أن العبرة من زيارة القبور أخذُ العظة والعبر من المقبور، وأن يدرك المرء أنه إلى الله تعالى راجعٌ وإن هذا هو مسكنه، كان لبعض العصاة أمٌّ تعظه ولا ينثني، فمر يومًا بالمقابر، فرأى عظمًا نخرًا فمسَّه، فانفتَّ في يده، فأنِفت نفسه، فقال لنفسه: أنا غدًا هكذا، فعزم على التوبة، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: يا إلهي، اقبلني وارحمني، ثم رجع إلى أمه حزينًا، فقال: يا أماه، ما يصنع بالآبق إذا أخذه سيده، فقالت: يَغُلُّ قدميه ويديه، ويُخشن ملبسه ومطعمه، قال: يا أماه، أُريد جبة من صوف وأقراصًا من شعير، وافعلي بي ما يفعل بالعبد الآبق من مولاه، لعل مولاي يرى ذلي فيرحمني، ففعلت به ما طلب، فكان إذا جن عليه الليل، أخذ في البكاء والعويل، فقالت له أمُّه ليلةً: يا بني، ارفق بنفسك، فقال: يا أماه، إن لي موقفًا طويلًا بين يدي رب جليل، فلا أدري أيؤمر بي إلى ظل ظليل، أو إلى شر مقيل، إني أخاف عناءً لا راحة بعده أبدًا، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: فاسترح قليلًا، فقال الراحةَ أطلُب يا أماه، كأنك بالخلائق غدًا يساقون إلى الجنة وأنا أساق إلى النار، فمرت به ليلة في تهجُّده هذه الآية: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الحجر: 92، 93]. فتفكر فيها وبكى واضطرب وغُشي عليه، فجعلت أمه تناديه ولا يجيبها، فقالت له: قرة عيني، أين الملتقى، فقال بصوت ضعيف: إن لم تجديني في عرصة القيامة، فسلي مالكًا عني، ثم شهق شهقة، فمات رحمه الله، فخرجت أمه تنادي أيها الناس هلمُّوا إلى الصلاة على قتيل النار، فلم يُر أكثرُ جمعًا ولا أغزرُ دمعًا من ذلك اليوم[2]. تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها: ومما يُعينك على إذابة قسوة القلب أن تتفكَّر في ذلك اليوم الرهيب الذي يفر المرء فيه من أبيه وأمه وأخيه، أن تتفكر وأن تتوهم أنك موقوف بين يدي الله تعالى، وأنه سيحاسبك على أعمالك وأقوالك، وهذا أبو الدرداء كان يقول: إن أشد ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال لي: يا أبا الدرداء، قد علِمت، فكيف عملت فيما علمت؟ وكان يقول: لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت لَما أكلتم طعامًا على شهوة، ولا شربتم شرابًا على شهوة، ولا دخلتم بيتًا تستظلون فيه، ولخرجتُم إلى الصعدات تضربون صدوركم، وتبكون على أنفسكم، ولوددتُ أني شجرة تُعضد ثم تؤكل. وكان عبد الله بن عباس أسفل عينيه مثل الشراك البالي من الدموع، وكان أبو ذر يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد، ووددت أني لم أُخلق وعُرضت عليه النفقة، فقال: ما عندنا عنز نحلبها وحمر ننقل عليها، ومحرر يخدمنا، وفضل عباءة، وإني أخاف الحساب فيها. عن محمد بن المنكدر أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي، إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاه، فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره، فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، قال: يا أخي، ما الذي أبكاك قد رعتَ أهلك، أفمن علة أم ما بك؟ قال: فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل، قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى: ﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ﴾ [الزمر: 47]، قال فبكى أبو حازم أيضًا معه، واشتد بكاؤهما، قال: فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتُفرج عنه، فزدتَه، قال: فأخبرهم ما الذي أبكاهما[3]. كان يزيد الرُّقاشي رحمه الله يقول لنفسه: ويحك يا يزيد من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه والقبر بيته والتراب فراشه والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر يكون حاله؟ ثم يبكي حتى يسقط مغشيًّا عليه[4]. قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر رحمه الله: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينيك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي، إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام، لكنت حريًّا ألا تجف لي عين، قال: فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، فقال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام بين يدي، فيعرض لي فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكاني، ولربما أضجَرَ ذلك امرأتي، فتقول يا ويحها: ما خصصت به من طول الحزن معك في الحياة الدنيا، ما تقر لي معك عين[5]. مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها: ومما يجعلك تتأثر ويجعل قبلك يلين وعينك تدمع: المحاسبة؛ أي: أن تحاسب نفسك على أعمالك وأقوالك قبل أن تحاسب عليها يوم القيامة؛ قال خويل بن محمد: "كأن خويلًا قد وُقف للحساب، فقيل له: يا خويل بن محمد، قد عمَّرناك ستين سنة فما صنعت فيها؟ فجمعت نوم ستين سنة مع قائلة النهار، وإذا قطعة من عمري نوم، وجمعت ساعات أكلي فإذا قطعة من عمري قد ذهبت في الأكل، ثم جمعت ساعات وضوئي، فإذا قطعة من عمري قد ذهبت فيها، ثم نظرت في صلاتي، فإذا صلاة منقوصة وصومٌ منخرق، فما هو إلا عفو الله أو الهلكة". قال إبراهيم التيمي: "مثَّلت نفسي في الجنة آكُل ثمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانق أبكارها، ثم مثَّلتُ نفسي في النار آكُل من زقومها، وأشرَب من صديدها، وأُعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدنيا فأعمَل صالحًا فقلت: فأنت في الأمنية فاعملي"[6]. [1] تفسير ابن كثير-ط دار طيبة (6/ 544) [2] التبصرة لابن الجوزي (1/ 18). [3] حلية الأولياء (3/ 146). [4] التذكرة للقرطبي ص (124). [5] حلية الأولياء، 5/ 164. [6] محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (ص: 26).
__________________
|
#23
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثالث والعشرون: لماذا يتمنى الميت الصدقة؟ السيد مراد سلامة أحبَّتي في الله، لقد كشف للميت الغطاء، ورأى عظمَ الجزاء، رأى ثمرات تورث صاحبها جنة تجري من تحتها الأنهار، هيَّا لنرى ما رأى: أولًا: أنها تطفئ غضب الله سبحانه وتعالى؛ كما في عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -: "الصَّدَقَةُ تطفئ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ"[1]. ثانيًا: أنها تمحو الخطيئة، وتُذهب نارها؛ كما في قوله عَنْ جَابِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا كَعْب أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ إِنَّهَا سَتَكُونُ أُمَرَاءُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَنْ يرد عَليّ الْحَوْض وَمن لم يدْخل عَلَيْهِم وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلاةُ قُرْبَانٌ وَالصَّوْمُ جنَّة وَالصَّدَقَة تطفئ الْخَطِيئَة كَمَا يطفئ الْمَاءُ النَّارَ، وَالنَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقٌ رقبته أَو موبقها، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجنَّة لحم نبت من سحت"[2]. ثالثًا: أنها وقاية من النار؛ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ، وَقَالَ: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»[3]. رابعًا: أن المتصدق في ظل صدقته يومالقيامة؛ عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "كلُّ امْرِئ فِي ظِلِّ صَدقَتِهِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ"، قَالَ يَزِيدُ: فَكَانَ أبو الْخَيْرِ مَرْثَدٌ لا يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إلاَّ تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيءٍ، وَلَوْ كَعْكَة، أوْ بَصَلَةً"[4]. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا فَقَالَ: إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"[5]. خامسًا: أن في الصدقة دواءً للأمراض البدنية؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ"[6]. يقول ابن شقيق: (سمعت ابن المبارك وسأله رجل: عن قرحةٍ خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقد عالجها بأنواع العلاج، وسأل الأطباء فلم ينتفع به، فقال: اذهب فاحفر بئرًا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن تنبُع هناك عين ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ)[7]. سادسًا: أن الله يضاعف للمتصدق أجره؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحديد:18]، وقوله سبحانه: ﴿ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة:245]. سابعا: أن صاحبها يُدعى من باب خاص من أبواب الجنة يقال له باب الصدقة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ"، قَالَ أبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَلَى مَنْ دُعيَ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ، فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»؛ هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ. ثامنًا: أن العبد إنما يصل حقيقة البر بالصدقة؛ كما جاء في قوله تعالى: ﴿ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران:92]. تاسعًا: أنه لا يبقى لصاحب المال من ماله إلا ما تصدق به؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ ﴾[البقرة:272]؛ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بَقِيَ مِنْهَا؟»، قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلا كَتِفُهَا، قَالَ: «بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا»[8]. عاشرًا: أن الله يدفع بالصدقة أنواعًا من البلاء؛ كما في وصية يحيى عليه السلام لبني إسرائيل: عن الحَارِثَ الأَشْعَرِيَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُ، فقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا - وذكر منها - وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ العَدُوُّ، فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ: أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالقَلِيلِ وَالكَثِيرِ، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ[9]. فالصدقة لها تأثيرٌ عجيب في دفع أنواع البلاء ولو كانت من فاجرٍ أو ظالمٍ، بل من كافر، فإن الله تعالى يدفع بها أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض مقرون به؛ لأنهم قد جربوه. الحادي عشر: أن المنفق يدعو له الملك كل يوم بخلاف الممسك؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا [في الصحيحين]. الثاني عشر: أن صاحب الصدقة يبارك له في ماله؛ كما أخبر النبيصلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"[10]. الثالث عشر: أنها متى ما اجتمعت مع الصيام واتباع الجنازة وعيادة المريض في يوم واحد - إلا أوجب ذلك لصاحبه الجنة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[11]. [1] (أخرجه الترمذي "664 صحيح بمجموع طرقه وشواهده ). [2] أخرجه أحمد (3/ 321 ، رقم 14481). [3] أخرجه البخاري (6539)، ومسلم (1016). [4] أخرجه أبو يعلى 3/ 300 - 301 [5] أخرجه : البخاري 2/ 138 ( 1423 ) ، ومسلم 3/ 93 ( 1031 ) ( 91 ) . [6] صَحِيح الْجَامِع: 3358 , صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب:744 [7] السير للذهبي (8/ 407). [8] أخرجه الترمذي (4/ 644، رقم 2470) انظر الصَّحِيحَة: 2544 [9] صَحِيح الْجَامِع: 1724, صحيح الترغيب والترهيب: 552. [10] أخرجه مسلم 8/ 21 ( 2588 ) ( 69 ). [11] أخرَّجه البخاري في «الأدب المفرد» (515) ومسلم (3/ 92) و(7/ 110).
__________________
|
#24
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الرابع والعشرون: التحذير من اللامبالاة بالكلمة وأثرها السيد مراد سلامة الحمد لله الذي تفرَّد بجلال ملكوته، وتوحَّد بجمال جبروته، وتعزَّز بعُلوِّ أحديته، وتقدَّس بسُموِّ صمديته، وتكبَّر في ذاته عن مضارعة كل نظيرٍ، وتنزَّه في صفائه عن كل تناهٍ وقصورٍ، له الصفات المختصة بحقِّه، والآيات الناطقة بأنه غير مشبه بخلقه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده. يا واحد في ملكه أنت الأحد ولقد علِمت بأنك الفرد الصمدُ لا أنت مولودٌ ولست بوالدٍ كلا ولا لك في الورى كفوًا أحدُ وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. اعلم - علمني الله وإياك -: أن الكلمة شأنها خطير وضررها عظيم، فهي مفتاح كل خير، أو مفتاح كل شر، وبها ينال العبد الرضا والرضوان، أو ينال السخط والخيبة والخسران، فكم من كلمة رفَعت صاحبها إلى عنان السماء، ونال بها الرفعة في الدنيا والآخرة، وكم من كلمة أورثت صاحبها الذل والمهانة، ولذا قيل: احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنَّك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقائه الشجعانُ وهيَّا لنقف مع ابن القيم - رحمه الله - وهو يوضح لنا خطورة الكلمة يقول - رحمه الله -: وأما اللفظات فحفظُها بألا يُخرِجَ لفظةً ضائعةً، بل لا يتكلَّم إلا فيما يرجو فيه الربح والزيادة في دينه، فإذا أراد أن يتكلم بالكلمة نظر هل فيها ربح وفائدة أم لا، فإنْ لم يكن فيها ربح أمسك عنها، وإن كان فيها ربح نظر: هل يفوته بها كلمة هي أربح منها، فلا يضيِّعها بهذه. وإذا أردت أن تستدلَّ على ما في القلب، فاستدِلَّ عليه بحركة اللسان، فإنه يُطلِعُ ما في القلب شاء صاحبه أم أبى. قال يحيي بن معاذ:القلوب كالقدور تغلي بما فيها، وألسنتها مغارفها، فانظر الرجل حين يتكلَّم، فإن لسانه يغترف لك مما في قلبه: حلو وحامض، وعذب وأجاج، وغير ذلك، ويبيِّن لك طعم قلبه اغترافُ لسانه؛ أي: كما تطعم بلسانك طعمَ ما في القدر من الطعام، فتدرك العلم بحقيقته، كذلك تطعم ما في قلب الرجل من لسانه، فتذوق ما في قلبه من لسانه، كما تذوق ما في القدر بلسانك، وفي حديث أنس المرفوع: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[1]. سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يَلِجُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ "»[2]. وقد سأل معاذ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن العمل الذي يُدخله الجنة ويباعده من النار، فأخبره برأسه، وعموده، وذروة سنامه، ثم قال: ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ:» اكْفُفْ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَإِنَّا لَمَأْخُوذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»[3]. ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة، وشرب الخمر ومن النظر المحرَّم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلَّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلُّ بالكلمة الواحدة منها أبعد مما بين المشرق والمغرب! وكم ترى من رجل متورِّع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول[4]. ويقول النووي - رحمه الله -: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام، إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة والسلامة لا يَعدِلها شيء؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[5]. وهذا الحديث صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة، فلا يتكلم. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حفظ اللسان مع حفظ الفرج جوازًا إلى الجنة، ونجاة من النار، فمن ضمن اللسان والفرج ضمِن له النبي صلى الله عليه وسلم الجنة؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»[6]. قال الحافظ: الضمان بمعنى الوفاء بترك المعصية، فأطلق الضمان وأراد لازمه وهو أداء الحق الذي عليه، فالمعنى من أدَّى الحق الذي على لسانه من النطق بما يجب عليه، أو الصمت عما لا يعنيه، وأدى الحق الذي على فرْجه من وضعه في الحلال، وكفه عن الحرام، وقوله: (لحييه)، هما العظمان في جانبي الفم، والمراد بما بينهما اللسان، وما يتأتَّى به النطق، وبما بين الرجلين الفرج»[7]. وفي بيان أن اللسان قائد الأعضاء في الاستقامة والاعوجاج، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ أَعْضَاءَهُ تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ، تَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا، فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[8]. تكفير الأعضاء للسان كناية عن تنزيل اللسان منزلة الكافر بالنعم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم اللسان أخوفَ ما يُخاف؛ عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: " قُلْ: رَبِّيَ اللهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ، «قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا»[9]. خوف السلف من اللامبالاة بالكلمة: هيَّا لنقف مع الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وكيف أنهم كانوا يخافون من خطورة الكلمة واللامبالاة بها: • أبو بكر الصديق - رضي الله عنه روى عمر - رضي الله عنه- «أنه دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبِّذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر الله لك، قال أبو بكر هذا الذي أوردني الموارد». • عبد الله بن عباس رضي الله عنه حبر الأمة وترجمان القرآن، عن سعيد الجريري عن رجل قال: رأيت ابن عباس آخذًا بثمرة لسانه وهو يقول: «ويحك قل خيرًا تغنَم، واسكُت عن شر تسلَم»، فقال له رجل: يا أبا عباس، ما لي أراك آخذًا بثمرة لسانك تقول: كذا وكذا؟ قال: «إنه بلغني أن العبد يوم القيامة ليس هو على شيء أحنق منه على لسانه». • عبد الله بن أبي زكريا - رحمه الله - قال: «عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة، قل أن أقدِر منه على ما أريد، قال: وكان لا يدع يغتاب في مجلسه، أحد يقول: إن ذكرتُم الله أعناكم، وإن ذكرتم الناس تركناكم». • عبد الله بن وهب - رحمه الله - قال: «نذرتُ أني كلما اغتبت إنسانًا أن أصوم يومًا، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم، فنويتُ أني كلما اغتبتُ إنسانًا أن أتصدَّق بدرهم، فمن حب الدراهم تركت الغيبة». • قال الإمام النووي - رحمه الله - في الأذكار: بلغنا أن قسَّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيتُه ثمانيةُ آلاف عيب، ووجدتُ خصلةً إن استعملتها سترتَ العيوبَ كلَّها، قال: ما هي: قال: حفظ اللسان». • قال سفيان الثوري - رحمه الله - لأصحابه: «قال أخبروني لو كان معكم من يرفع الحديث إلى السلطان، أكنتم تتكلمون بشيء، قالوا لا، قال: فإن معكم من يرفع الحديث إلى الله عز وجل». كأن رقيبًا منك يرعى خواطري وآخر يرعي ناظري ولساني فَمَا رمقت عيناي بعدك منظرًا يسوؤك إلا قُلْت: قَدْ رقاني ولا بدرت من فِي دونك لفظة لغيرك إلا قُلْت: قَدْ سماني ولا خطرت فِي السر بعدك خطرة لغيرك إلا عرجًا بعناني وإخوان صدق قَدْ سئمت حَدِيثهم وأمسكت عَنْهُم ناظري ولساني وَمَا الزهد أسلي عَنْهُم غَيْر أنني وجدتُك مشهودي بكل مكان ما ظنُّك بمن يحصي جميع كلماتك، ويضبط كل حركاتك، ويشهد عليك بحسناتك ترفع الصحائف وهي سود وعمل المنافق مردود، يحضره الملكان لدى المعبود، يا شر العبيد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17]. يضبطان على العبد ما يجري من حركاته، وما يكون من نظراته وكلماته واختلاف أموره وحالاته، لا ينقص ولا يزيد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾ [ق: 17]. قوله تعالى: ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾؛ أي: ما يتكلم من كلام فيلفظه أي يرميه من فيه إلا لديه رقيب عتيد؛ أي: حافظ وهو الملك الموكل به، والعتيد الحاضر معه أينما كان. سجعٌ على قوله تعالى: ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾، يا كثير الكلام حسابك شديد، يا عظيم الإجرام عذابك جديد، يا مؤثرًا ما يضرُّه ما رأيك سديد، يا ناطقًا بما لا يجدي ولا يفيد، ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]. كلامك مكتوب وقولك محسوب، وأنت يا هذا مطلوب، ولك ذنوب وما تتوب، وشمس الحياة قد أخذت في الغروب، فما أقسى قلبك من بين القلوب، وقد أتاه ما يصدع الحديد ﴿ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴾[10]. [1] أخرجه ابن أبي الدنيا في "الصمت" (9)، وفي "مكارم الأخلاق" (342)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (887). [2] أخرجه الترمذي "2004" في البر والصلة: باب ما جاء في حسن الخلق. [3] أخرجه ابن ماجه (3973)، والترمذي (2616). [4] الداء والدواء (ص 204/205)؟ [5] أخرجه البخاري في "صحيحه" (6019)، (6476). [6] أخرجه البخاري [1609، 6422]، والترمذي [2408]، وأحمد [5/ 333]. [7] فتح الباري لابن حجر (11/ 309). [8] أخرجه الترمذي في "الزهد" باب "6": ما جاء في حفظ اللسان. [9] شأن الكلمة في الإسلام (ص 16-18) وأخرجه الترمذي (2410)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (7)، وابن حبان (5699)، والبيهقي في "الشعب" (4920). [10] التبصرة (ص:617).
__________________
|
#25
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الخامس والعشرون: موانع قبول العمل العشر السيد مراد سلامة الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مقدِّر الأقدار، مصرِّف الأمور مكوِّر الليل على النهار، تبصرة لأولى القلوب والأبصار، الذي أيقظ من خلقه مَن اصطفاه، فأدخله في جملة الأخيار، ووفَّق من اختار من عبيده، فجعله من الأبرار، وبصَّر مَن أحبَّه للحقائق فزهِدوا في هذه الدار، فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار، واجتناب ما يسخطه والحذر من عذاب النار. وأشهد أن لا إله إلا الله إقرارًا بوحدانيته، واعترافًا بما يجب على الخلق كافة من الإذعان لربوبيته. يا رب إن ذنوبي في الورى كثُرت وليس لي عمل في الحشر ينجيني وقد أتيتك بالتوحيد يصحبه حبُّ النبي وذاك القدر يكفيني وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.... أما بعد: فحياكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوَّأتم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. حديثنا اليوم عن أمر خطير ألا وهو موانع قبول الأعمال، فهناك موانع كثيرة أذكر منها في هذا اليوم عشرة، فأعيروني القلوب والأسماع. المانع الأول: ألا يكون صاحب العمل مؤمنًا بالله عز وجل: معاشر الموحدين، هذا هو المانع الذي يقبل لصاحبه عمل، فلو تقرب العبد إلى الله عز وجل بقربات كثيرة من صلاة وصيام وغيرها، وهو مشرك بالله عز وجل الشرك الأكبر، وذلك بصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فإنه بذلك لا ينتفع بأي عمل صالح عند الله عز وجل؛ لأن توحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك وأهله، يُعَدُّ الشرطَ الأعظم في الانتفاع من بقية الأعمال والأقوال، وبدون ذلك تُحبط جميع الأعمال؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام:88]. قال: محمد رشيد- رحمه الله -: أَيْ وَلَوْ فُرِضَ أَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ أُولَئِكَ الْمَهْدِيُّونَ الْمُجْتَبَوْنَ، لَحَبِطَ - أَيْ بَطَلَ - وَسَقَطَ عَنْهُمْ ثَوَابُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ بِزَوَالِ أَفْضَلِ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الَّذِي هُوَ الْأَسَاسُ لِمَا رُفِعَ مِنْ دَرَجَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ الْمُزَكِّي لِلْأَنْفُسِ، كَانَ ضِدُّهُ وَهُوَ الشِّرْكُ مُنْتَهَى النَّقْصِ وَالْفَسَادِ الْمُدَسِّي لَهَا، وَالْمُفْسِدِ لِفِطْرَتِهَا، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ تَأْثِيرٌ نَافِعٌ لِعَمَلٍ آخَرَ فِيهَا - يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَجَاتُهَا وَفَلَاحُهَا[1]. وقوله تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ﴾ [الأنبياء:94]. إن الشرك بالله تعالى من أخطر الأعمال التي تُقصي العبد عن رحمة الكبير المتعال، وتجعل الأعمال كسراب يحسبه الظمآن ماءً؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [النور: 39]. المانع الثاني: إرادة العبد بعمله الدنيا وليس الآخرة: أمة الإسلام، قد يكون العبد مؤمنًا بالله تعالى، ولكنه يقع في الشرك الخفي، ألا وهو الرياء من حيث لا يشعر، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا منه، وأخبرنا أنه أخفى من دبيب النمل؛ كما في حديث أبي علي - رجلٍ من بني كاهلٍ - قال: خطبَنا أبو موسى الأشعريُّ، فقال: يا أيها الناسُ، اتَّقوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النملِ، فقام إليه عبدُ الله بن حَزَن وقيسُ بن المُضارِب فقالا: والله لَتخْرُجَنَّ مما قلتَ، أو لنأتينَّ عُمَرَ مأذونًا لنا أو غيرَ مأذونٍ، فقال: بل أخرجُ مما قُلتُ، خطبنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ، فقال: "يا أيها الناسُ، اتّقُوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النَّملِ"، فقال له من شاءَ اللهُ أن يقولَ: وكيف نَتَّقيه وهو أخفى من دبيبِ النملِ يا رسول الله، قال: "قولوا: اللهمَّ إنّا نَعوذُ بك من أنْ نُشركَ بك شيئًا نَعلمُه، ونستغفرُكَ لما لا نعلمُه"[2]. ذلك هو محض الرياء والسعي وراء الشهرة والأنا، وهذا مانع كبير يحول بين العبد وبين أن ينتفع بعمله يوم القيامة، وهذا يكثُر في عمل المرائين والمريدين بأعمالهم شهرة أو منصبًا أو مالًا، أو أي عرض من أعراض الدنيا الفانية، فهؤلاء لا خلاق لهم في الآخرة من تلك الأعمال الملوَّثة؛ قال الله تبارك وتعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ﴾ [هود: 15]. قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يُظلمون نقيرًا، يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا، صومًا أو صلاة أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله: أُوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين. وهكذا روي عن مجاهد، والضحاك، وغير واحد. وقال أنس بن مالك، والحسن: نزلت في اليهود والنصارى. وقال مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء. وقال قتادة: من كانت الدنيا همه وَسَدَمه[3]، وطَلِبَته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يُعطى بها جزاءً، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة، وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا[4]. وها هم بين يدي الله تعالى؛ ليحاسبهم على أعمالهم وليجازيهم على نياتهم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ لَهُ نَاتِلٌ الشَّامِيُّ: أَيُّهَا الشَّيْخُ، حَدِّثْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى فِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى قُتِلْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ هُوَ عَالِمٌ، فَقَدْ قِيلَ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَّادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ"[5]. عبدِ الله بنِ عمرٍو قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني عن الجهاد والغزو، فقال: ((إنْ قاتلت صابرًا محتسبًا، بعثك الله صابرًا محتسبًا، وإنْ قاتلتَ مُرائيًا مُكاثرًا، بعثَك الله مُرائيًا مُكاثرًا، على أيِّ حالٍ قَاتَلْتَ أو قُتِلْتَ، بعثكَ الله على تِيك الحالِ))[6]. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (يقولُ الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّركاءِ عن الشِّرك، مَنْ عَمِل عملًا أشركَ فيه معي غيري، تركته وشريكَه)[7]، وخرَّجه ابنُ ماجه، ولفظه: ((فأنا منه بريءٌ، وهوَ للَّذي أشركَ))[8]. وخرَّج الإمام أحمد عن شدَّاد بن أوسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (( مَنْ صَلَّى يُرائِي، فقد أشرَكَ، ومنْ صَامَ يُرائِي فقد أشرَكَ، ومن تَصدَّقَ يُرائِي فقد أشرك، وإنَّ الله - عز وجل - يقولُ: أنا خيرُ قسيمٍ لِمَنْ أشرَكَ بي شيئًا، فإنَّ جُدَّةَ عَمَلِهِ قليله وكثيره لشريكِهِ الذي أشركَ به، أنا عنه غنيٌّ))[9]. المانع الثالث: أن يكون سعيه وعمله مخالفًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: أحبيتي في الله، اعلموا أن من شروط الانتفاع بالسعي والعمل أن يكون موافقًا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير مبتدع ولا مبدِّلٍ، وهذا هو الذي أشار إليه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند تفسيره لآية الإسراء؛ حيث قال: ﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ [الإسراء: 19]؛ أي: طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أوضح الأدلة في أن تخلف المتابعة عن العمل يمنع من الانتفاع به عند الله عز وجل؛ عن عَائِشَةَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَأَمْرُهُ رَدٌّ"[10]. ومن هنا وجب الحذر من الابتداع والتعبد لله عز وجل بما لم يأذَن به سبحانه، أو يُشرِّعه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن التفريط في ذلك يضيِّع على العبد سعيه وعمله، ولو كان صاحبه مخلصًا لله فيه مريدًا منه الدار الآخرة؛ لأن قبول العمل عند الله عز وجل مقيد بالشروط السالفة الذكر مجتمعةً كلها في العمل، فلو تخلف واحدٌ منها بطل العمل وحِيلَ بين صاحبه وبين الانتفاع منه. المانع الرابع: حقوق العباد ومظالِمُهم: من موانع الانتفاع بالأعمال مظالم الناس والتعدي على حقوقهم وأعراضهم؛ يقول الله عز وجل: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ [الزمر:30-31]، والخصومة تكون فيما بين العباد من مظالم؛ فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما أُنزلت هذه الآية قال: أيْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم! أيكرَّر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: «نعم ليُكررنَّ عليكم حتى يؤدَّى إلى كل ذي حقٍّ حقَّه»[11]، قال الزبير: والله إن الأمر شديد. ومن الأحاديث المشهورة في ذلك حديث المفلس وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟))، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)[12]. المانع الخامس: النفاق: أيها الكرام، إن من موانع قبول الأعمال النفاق، والنفاق مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض الذي يُستَتَر فيه، سُمِّي النفاق بذلك؛ لأنَّ المنافق يستر كفرَه، وبهذا قال أبو عبيد. النفاق شرعًا: هو إظهار الإسلام وإبطان الكفر. وهو اسم إسلامي لم تعرفه العرب بهذا المعنى الخاص، وإن كان أصله الذي أُخذ منه في اللغة معروفًا. العبادات لا تقبل من المنافقين: بيَّن الله لنا أن من موانع قبول الأعمال النفاق، وأن أعمالهم مردودة عليهم في عليهم حسرة يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء:142]، الآية قد أخبر الله فيها عن المنافقين أنهم يُصلون ويزكون، وأنه لا يقبل ذلك منهم، ومثلها قوله تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة:54]. إن من أوصاف المنافقين أنهم ارتضوا الخداع والكسل عند الصلاة والمراءاة بها، وهذه أوصاف مشينة، وفيه تحذيرٌ للمؤمن من هذه الأوصاف، فلا ينبغي للمؤمن أن يخادع، بل يجب أن يكون أمره واضحًا، وكذلك على المؤمن أن يقوم إلى الصلاة برغبة ولا يقوم بكسلٍ وتثاقل، وكذلك يحذر المؤمن من الرياء، ويُخلص عمله لله، فإن الرياء من صفات المنافقين، وعدم ذكر الله عز وجل كثيرًا من صفاتهم أيضًا، فهذه أربعة أوصاف من أوصاف المنافقين: الخداع، والكسل عند إقامة الصلاة، والرياء، وقلة ذكر الله. سبب عدم قبول عبادات المنافقين: بيَّن الله سبحانه وتعالى أن المنافقين لا تُقبل منهم نفقاتهم، ولا تُقبل صلاتهم، وبين العلة، وهي كفرهم بالله ورسوله، فقال تعالى: ﴿ مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]. [1] تفسير المنار، (7 / 492). [2] مسند أحمد، 4/408، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (716) «صحيح الترغيب والترهيب» (1/ 121): «حسن لغيره» [3] السَّدَم: اللَّهَجُ والوُلوعُ بالشيء (في الدر النثير: قال الفارسي: هو همّ في ندم) النهاية في غريب الأثر (2/ 899). [4] تفسير ابن كثير - (4 / 310). [5] أخرجه أحمد ح 8260 رواه مسلم في صحيحه كتاب الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار ورقم (1905). [6] أخرجه أبو داود ح (2519)، وأخرجه أيضًا الحاكم 2/ 85 و112، والبيهقي 9 /168 من حديث عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف؛ فإنَّ العلاء بن عبد الله مقبول حيث يتابع ولم يتابع. [7] أخرجه مسلم، ح 2985. [8] أخرجه ابن ماجه ح (4202)، وأخرجه الطيالسي (2559)، وأحمد 2/301 و435، وأبو يعلى (6552). [9] أخرجه أحمد 4/126، وأخرجه الطيالسي (1120)، والطبراني في " الكبير " (7139)، والحاكم 4/329. [10] رواه مسلم، ح/3243. [11] الترمذي، 9/11، وقال حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد، 1/ 167. [12] خرجه أحمد ح 8016 مسلم، كتاب البر والصلة، ح/ 2581.
__________________
|
#26
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السادس والعشرون: تابع موانع قبول الأعمال السيد مراد سلامة الحمد لله البعيد في قُربه، القريب في بعده، المتعالي في رفيع مجده، عن الشيء وضده، الذي أوجد بقدرته الوجود بعد أن كان عَدمًا، وأودع كل موجود حكمًا، وجعل العقل بينهما حَكَمًا، ليميز بين الشيء وضدِّه، وألْهَمه بما علَّمه فعلم مُرَّ مذاق مصابه من حلاوة شهده، فمن فكر بصحيح قصده، ونظر بتوفيق رُشده، علم أن كل مخلوق موثوق في قبضتي شقائه وسعده، مرزوقٌ من خزائن نعمه ورفده. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه. صلوا على هذا النبي الكريم تَحْظَوْا من الله بالأجر العظيم وتظفَروا بالفوز من ربكم وجنة فيها نعيم مقيم طوبى لعبد مخلص في الورى صلى على ذاك الجناب الكريم وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسَّك بسنته، واقتدى بهديه، واتَّبعهم بإحسان إلى يوم الدين ونحن معهم يا أرحم الراحمين. المانع السادس: معصية الله في الخلوات: اعلم علمني الله وإياك أن من أسباب عدم الانتفاع بالأعمال، وردِّها على صاحبها انتهاك محارم الله تعالى في الخلوات؛ في سنن ابن ماجه بسند جيد من حديث عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا»، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[1]. قال محذرًا بلال بن سعد رحمه الله: "لا تكن وليًّا لله في العلانية وعدوًّا له في السر"؛ ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]. إذا ما خلوتَ الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيبُ ﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ [النساء: 108]. إذا خلو بالمعاصي بين الحيطان والجدران ارتكبوها وفعلوها، ولا يبالون بنظر الله عز وجل لهم، ولا باطلاع الله تبارك وتعالى إليهم. لخص أحد علماء السلف رحمهم الله نتيجة ذنوب الخلوات في جملة وكأنها معادلة حسابية، فقال رحمه الله (ذنوب الخلوات.... انتكاسات، وطاعات الخلوات.... ثبات). المانع السابع: الـمَنٌّ الأعمال: اعلم زادك الله علمًا أن من موانع قبول الأعمال المنَّ بها، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 264]. يأيها المؤمنون، لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، فيكون مثلكم كمثل المنافق الذي ينفق ماله من أجل الرياء، لا من أجل رضا الله، وإن مثل هذا المنافق في انكشاف أمره وعدم انتفاعه بما ينفقه رياءً وحبًّا للظهور مثل حجر أملس لا ينبت شيئًا، ولكن عليه قليل من التراب الموهم للناظر إليه أنه منتج، فنزل المطر الشديد فأزال ما عليه من تراب، فانكشف حقيقته وتبين للناظر إليه أنه حجر أملس صلد لا يصلح لإِنبات أي شيء عليه؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ»[2]. قال الخطابي في المعالم: المنان يتأول على وجهين: أحدهما: من المنة وهي إن وقعت في الصدقة أبطلت الأجر، وإن كانت في المعروف كدرت الصنيعة وأفسدتها. والوجه الآخر: أن يراد بالمن النقص يريد النقص من الحق والخيانة في الوزن والكيل، ونحوهما، ومن هذا قال الله سبحانه: ﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ﴾ [القلم: 3]؛ أي: غير منقوص، قالوا ومن ذلك يسمى الموت منونًا؛ لأنه ينقص الأعداد ويقطع الأعمار انتهى[3]. المانع الثامن: مولاة غير المسلمين: اعلم علمني الله وإياك أن من موانع قبول الأعمال وذهابها هباءً منثورًا، موالاة غير المسلمين من اليهود والنصارى والكفرة الملحدين المعاندين المعادين لله رب العالمين، ولنبيه - صلى الله عليه وسلم - الأمين، يقول أحكم الحاكمين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 51 - 53]. قال في تيسير الكريم الرحمن: "وأما من يزعم أنه يؤمن بالله واليوم الآخر، وهو مع ذلك موادٌّ لأعداء الله، مُحب لمن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا الإيمان زعمي لا حقيقة له، فإن كل أمر لا بد له من برهان يصدِّقه، فمجرد الدعوى لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها"[4]. والولاء والبراء أصل عظيم من أصول الدين؛ قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "لا يستقيم للإنسان إسلام ولو وحَّد الله وترك الشرك إلا بعداوة المشركين, والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء"[5]. المانع التاسع: الشحناء والعداوة والبغضاء: أخي المسلم، مما يمنع من قبول الأعمال العداوة والشحناء التي توغر الصدور، وتشعل بين الطرفين الحقد والحسد، فلا يُرفع للمتخاصِمَين عملٌ حتى يصطلحا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"[6]. عَنْ أَبِي صَالِحٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَرَّةً، قَالَ: "تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلَّ يَوْمٍ إِثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمَيْنِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْركُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"[7]. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ»[8]. عَنْ أَبِي خِرَاشٍ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ"[9]. المانع العاشر: كراهية ما أنزل الله: من محبطات الأعمال أن تكره النفس ما شرَعه الكبير المتعال وسنه سيد الرجال - صلى الله عليه وسلم - ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 54]. واعلموا عباد الله أن من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفَر))، وهذا باتفاق العلماء كما نقل ذلك صاحب "الإقناع" وغيره. وبغض شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم - سواء كان من الأقوال أو الأفعال - نوع من أنواع النفاق الاعتقادي الذي صاحبه في الدرك الأسفل من النار، فمن أبغض شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أمرًا كان أو نهيًا، فهو على خطر عظيمٍ. فمن ذلك ما يتفوَّه به كثيرٌ من الكتَّاب الملحدين الذين تغذَّوْا بألبان الإفرنج، وخلعوا ربقة الإسلام من رقابهم من كراهيتهم لتعدُّد الزوجات، فهم يحاربون تعدُّد الزوجات بشتى الوسائل، وما يعلم هؤلاء أنهم يحاربون الله ورسوله، وأنهم يردون على الله أمره. ومثل هؤلاء في الكفر والبغض لما جاء به الرسول مَن يكره كون المرأة ليست بمنزلة الرجل؛ ككرههم أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وغير ذلك، فهم مبغضون لقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في الحديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، لِكَثْرَةِ اللَّعْنِ وَكُفْرِ الْعَشِيرِ، مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ، أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ قَالَ: "أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ: فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ"[10]. فلذلك تجدهم يَمدون ألسنتهم نحو هذا الحديث العظيم: إما بصرفه عن ظاهره، وإما بتضعيفه، بحجة أن العقل يخالفه، وإما بمخالفته للواقع، وغير ذلك مما هو دال ومؤكِّد لبُغضهم لما جاء به الرسول. قال الله تعالى حاكمًا بكفر مَن كَرِهَ ما أنزل على رسوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 28]، فالله - جل وعلا - أحبط أعمالهم، وجعلها هباءً منثورًا؛ بسبب كراهيتهم ما أنزل على رسوله من القرآن الذي جعله الله فوزًا وفلاحًا للمتمسكين به، المؤتمرين بأمره، المنتهين عن نهيه. [1] أخرجه ابن ماجه (4245)، وقال الألباني: (صحيح)؛ انظر حديث رقم: 7174 في صحيح الجامع. [2] أخرجه أحمد ح 21442 ومسلم ح 106. [3] عون المعبود - (9 / 120). [4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي ص787. [5] الدرر السنية 8 / 331. [6] أخرجه مسلم ح 4652. [7] أخرجه مسلم ح 4653. [8] أبو داود (4914) وقال الألباني (3/ 928): صحيح والإرواء أيضا، المشكاة (5035). [9] أبو داود (4915)، وقال الألباني (3/ 928): صحيح- الصحيحة (3/ 925). [10] أخرجه مسلم (79) (132)، وابن ماجه (4003).
__________________
|
#27
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس السابع والعشرون: موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة السيد مراد سلامة الحمد لله العفو الكريم، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، جعل الحياة الدنيا دارًا للابتلاء والاختبار، ومحلًّا للعمل والاعتبار، وجعل الآخرة دارين، دارًا لأهل كرامته وقربه من المتقين الأبرار، ودارًا لأهل غضبه وسخطه من الكفار والفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الأخيار، ومن تبِعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار؛ أما بعد: يا أيها الناس، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [لقمان: 33]. العنصر الأول: حتمية الرجوع إلى الله: أمة الإسلام، أخرجنا الله تعالى إلى هذه الدار وجعلها دار ابتلاء وامتحان، وأخبرنا أننا إليه راجعون، وأن الدنيا ممرٌّ لا مقر، فقال الله تعالى وهو يحدثنا عن حتمية الرجوع إليه - عَزَّ وَجَلَّ – ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]. "ترقَّبوا وخافوا يومًا يَردُّكم الله سبحانه وتعالى إليه، فلا تملكون من أموركم شيئًا فيه، فإذا ملكتم المال في الدنيا، ففي هذا اليوم لَا تملكون شيئًا، وإذا ملكتم المنح والمنع اليوم ففي اليوم الآخر لَا تملكون شيئًا، وفي هذا اليوم ﴿ تُوَفَّى كلُّ نَفْسٍ ما كسَبَتْ ﴾؛أي: جزاء ما كسبت إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وكأن ما توفاه عين ما كسبت للمماثلة بين الجزاء والعمل، ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾؛أي لَا ينقصون شيئًا من ثواب ما عملوا، ولا يعاقبون على ما لم يعملوا[1]. وقال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 4]، ستأتي ربك وستجرع إليه، ولكن على أية حال ترى أنت من السعداء أم أنك من الأشقياء؟ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾ [طه: 74 - 76]. العنصر الثاني: التعريف بيوم القيامة: الشمس كورت، لُفَّت وذهب ضوؤها، النجوم انكدرت وتناثرت، الجبال نُسفت وسيِّرت، فأصبحت كالقطن المنفوش، العشار عطِّلت، الأموال تُركت، التجارات والعقارات والأسهم نُسيت، السماء كُشطت ومُسحت وأُزيلت، البحار سُجِّرت، وإلى كُتَلٍ من الجحيم تحوَّلت، الجحيم سُعِّرت وأُوقدت، والجنة أُزلفت وقُرِّبت. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2]. إنه يوم القيامة، يومُ الصاخةِ والقارعةِ والطامةِ، ويومُ الزلزلةِ والآزفةِ والحاقة، يومَ يقومُ الناس لرب العالمين، يومٌ عظيم وخَطْبٌ جَسِيم، يوم مقداره خمسون ألف سنة، يجمع الله فيه الخلائق أجمعين، من لدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة؛ ليفصل بينهم ويحاسبَهم. وتدنو الشمس من الخلائق مقدارَ مِيل، ويفيضُ العرقُ منهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حِقْوَيه، ومنهم يبلغ إلى مَنْكِبَيه، ومنهم من يُلْجِمه العرق إلجامًا، وتبقى طائفة في ظل الله جل جلاله، يوم لا ظل إلا ظله. لقد صور الله تعالى لنا يوم القيامة في كتابه بأبدع تصوير وأبلغ تعبيرٍ، حتى إن الذي يقرأ تلك الآيات ليرى القيامة كأنها رأي العين، وتأمل الحديث الذي أخرجه الترمذي عن ابْن عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ: سُورَةَ هُودٍ"[2]. العنصر الثالث: الوقاية من أهوال يوم القيامة: الأول: كن من المتقين تكن من الفائزين: اعلموا عباد الله أن من أعظم أسباب السلامة من أهوال يوم القيامة - أن ترجع إلى الله وأنت في قافلة المتقين، تأملوا أيها الأحباب إلى تلك القافلة وهي تزف في عرصات يوم القيامة؛ قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ﴾ [مريم: 85، 86]. يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا، واتَّبعوا رسله، وصدقوهم فيما أخبروهم، وأطاعوهم فيما أمروهم به، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة، وفدًا إليه، والوفد هم القادمون ركبانًا ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم، فإنهم يساقون عنفًا إلى النار ﴿ وِرْدًا ﴾عطاشًا، وقال ابن أبي حاتم عن ابن مرزوق ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحًا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما تعرفني؟ فيقول لا، إلاّ أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن وجهك، فيقول: أنا عملك الصالح، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه، فطالما ركبتك في الدنيا، فهلم اركبني فيركبه، فذلك قوله: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال ابن عباس: ركبانًا، وقال أبو هريرة ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: على الإبل، وقال الثوري: على الإبل النوق، وقال قتادة: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾ قال: إلى الجنة، عن ابن النعمان بن سعيد قال: كنا جلوسًا عند علي رضي الله عنه، فقرأ هذه الآية ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْدًا ﴾، قال: لا والله ما على أرجلهم يُحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ترَ الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة. ثانيًا: كن من أهل العدل تكن على منابر من نور: عباد الله، أما العادلون ففي مقام رفيع، يجلسون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين عن زُهَيْرٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»[3]. ثالثًا: كن من المتحابين في ذات الله: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمُ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي»[4]. عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، قَالُوا: فَنَحْنُ نَسْأَلُهُ إِذًا، قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ أَعْرَابِيُّ، فَقَامَ فَحَثَى عَلَى وَجْهِهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْشَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، مِنْ بُلْدَانٍ شَتَّى، وَقَبَائِلَ شَتَّى مِنْ شُعُوبِ الْقَبَائِلِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا، وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا، يَتَحَابُّونَ بِرُوحِ اللَّهِ، يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا، وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ»[5]. رابعًا: جاهد نفسك لتكون من أولياء الرحمن: فهم أهل الأمن والسلامة من أهوال يوم القيامة فمعهم حصانة ربانية، فهم لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ولا يعطشون إذا عطش الناس، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101-103]. يقول أبو السعود رحمه الله ﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر ﴾، بيان لنجاتهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار؛ لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة؛ عن الحسن رضيَ الله عنه أنَّه الانصرافُ إلى النار، وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار، وقيل: حين يُذبح الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ، وقيل: النفخةُ الأخيرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 87]، وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله: ﴿ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ﴾ [النمل: 87]، لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة، على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة؛ كما سيأتي في سورة النمل: ﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنبياء: 103]؛ أي: تستقبلهم مهنِّئين لهم، ﴿ هذا يَوْمُكُمُ ﴾ على إرادةِ القولِ؛ أيْ: قائلين هذا اليومُ يومُكم، ﴿ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103] في الدنيا، وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات، وهذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بالذين[6]. خامسًا: احذر ذنوب الخلوات فإنها أصل الانتكاسات: وإذا أردت أخي المسلم أن تقي نفسك من أهوال يوم القيامة، فاحذر ذنوب الخلوات، فإنها أصل الانتكاسات، توهَّم نفسك الآن واقف في عرصات يوم القيامة، وبينما أنت كذلك إذا رأيت رجلًا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم معه أعمال كأمثال الجبال من الحسنات، فهذا قيام ليل وهذا صيام رمضان، وهذه صدقات وتلك قراءة للقرآن، وفجأة يجعلها الله تعالى هباءً منثورًا، ترى ما الذي ضيعها، اسمع إلى كلام نبيك صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأُلْفِيَّنَ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا», فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا لِكَيْ لَا نَكُونُ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا»[7]. إذا أغلقت دونك الباب، واسْدِلت على نافذتك الستائر، وغابت عنك أعينُ البشر، فتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية، تذكر من يرى ويسمع دبيبَ النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، جل شأنه وتقدس سلطانه، أخشى بارك الله فيك أن تَزِلَّ بك القدم بعد ثوبتها، وأن تنحرف عن الطريق بعد أن ذقتَ حلاوته، واشرأبَّ قلبك بلذته؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "أجمع العارفون بالله بأن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات، وأن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات". فهل يفرط موفَّقٌ بصيد اقتنصه، وكنز نادر حَصَّله؟ احذر سلمك الله، فقد تكون تلك الهفوات المخفية سببًا لتعلُّق القلب بها؛ حتى لا يقوى على مفارقتها، فيُختمَ له بها، فيندمَ ولات ساعة مندمٍ؛ يقول ابن رجب الحنبلي عليه رحمة الله: "خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس". خامسًا: احذر الغدر فإنه فضيحة يوم القيامة: أخي في الله، إذا أردت أن تقي نفسك نارًا حرُّها شديد وقعرها بعيد، ومقامعها من حديد، يوم أن ترجع إلى الله تعالى، فاحذر الغدر فإنه فضيحة على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ"[8]. والغادر: الذي يواعد على أمر ولا يفي به، واللواء: الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحبُ جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش، ويكون الناس تبعًا له، فالغادر تُرفع له راية تسجل عليها غدرته، فيُفضَح بذلك يوم القيامة، وتجعل هذه الراية عند مؤخرته؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[9]. وكلما كانت الغدرة كبيرة عظيمة، ارتفعت الراية التي يُفضَح بها في يوم الموقف العظيم؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ»[10]. [1] زهرة التفاسير (2/ 1062). [2] أخرجه أحمد (2/ 27) (4806) و(2/ 36) (4934) و(2/ 100) (5755) قال: حدثنا عبد الرزاق. وفي (2/ 37) (4941). والترمذي (3333) انظر: الصحيحة (1081) [3] رواه مسلم (1827)، وابن منده في «الرد على الجهمية» رقم (73). [4] أخرجه الدارمي (2757)، ومسلم (2566)، وابن حبان (574)، والبيهقي في "الشعب" (8990)، والبغوي (3462). [5] أخرجه أحمد (5/ 343، رقم 22957) والطبراني (3/ 290، رقم 3433) قال الهيثمي (10/ 276): رجاله وُثِّقوا. [6] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (6/ 87). [7] أخرجه ابن ماجه (2/ 1418، رقم 4245)، قال البوصيري (4/ 246): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، والروياني (1/ 425، رقم 651)، وأخرجه أيضًا الطبراني في الأوسط (5/ 46، رقم 4632). [8] أخرجه البخاري (5/ 2285، رقم 5823)، ومسلم (3/ 1359، رقم 1735). [9] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأبو يعلى (2/ 441، رقم 1245). [10] أخرجه مسلم (3/ 1361، رقم 1738)، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (2/ 419، رقم 1213).
__________________
|
#28
|
||||
|
||||
رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة
الدرس الثامن العشرون: تابع موجبات النجاة العشرة من أهوال يوم القيامة السيد مراد سلامة الحمد لله الحي الذي أضاء نوره الآفاق، ورزق المؤمنين حسن الأخلاق، وتجلَّت رحمته بهم إذا بلغت أرواحهم التراق، نحمَده تبارك وتعالى ونستعينه على الصعاب والمشاق، ونعوذ بنور وجهه الكريم من ظلمات الشك والشرك والشقاق، ونسأله السلامة من النفاق وسوء الأخلاق. وأشهد أن لا إله إلا الله القوي الرزاق، الحكم العدل يوم التلاق، خلق الخلق فهم في مُلكه أسرى مشدودو الوثاق، أنذِر الكافرين بصيحة واحدة ما لها من فواق، وبشر الطائعين بسلام الملائكة عليهم إذا التفَّت الساق بالساق، أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليعلم الناس أن إليه يومئذ المساق. وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المتمم لمكارم الأخلاق، لم يكن لعانًا ولا سبابًا، ولا صخابًا في الأسواق. سابعًا: لا تظلم أحد لأنك إلى الله تعالى راجع: أحبتي في الله، إذا علمنا أننا إلى الله تعالى راجعون، وأننا عن أعمالنا مسؤولون، وجب علينا أن نتحلل من المظالم قبل أن نرجع إلى الله تعالى، فالظلم ظلمات يوم القيامة. فتوهَّم نفسك عبد الله وأنت واقف بين يدي الله، انظر إلى هؤلاء الذين شخصت أبصارُهم، وصارت أفئدتهم هواءً، يسألون الرجعة فلا يجابون، ترهَق وجوههم الذلة. أيها الموحِّدون، تدبَّروا معي هذا المشهد الذي يخلع القلب، تدبَّروا الحديث، عيشوا مع هذا الحديث الذي يكاد يخلع القلب إن تدبرناه ووعيناه، تصوَّر معي هذا المشهد في أرض المحشر، ها هو الظالم في أرض المحشر يقف بين يدي الله في ذلٍّ وخشوع وانكسارٍ، لا يرتد إليه طرفه، شخص ببصره، لا يلتفت أعلى ولا أسفل ولا يَمنة ولا يَسرة، لا يرتد إليه طرفه، وقفز قلبه من جوفه! الشمس فوق الرؤوس، تكاد حرارتها تصهَر العظام، والزحام يكاد يخنق الأنفاس، والعرق يكاد يغرق الناس، وجيء بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! تزفر وتُزمجر غضبًا لغضب الجبار جل وعلا، فإن الله قد غضب في هذا اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، في هذه اللحظات ومع هذا الهول يرى الظالم نفسه وقد أحيط بمجموعة من الناس، من أنتم؟! من هؤلاء؟! هؤلاء هم الذين ظلمهم في الدنيا! ظلم من ظلم ونسِي! فيتعلق المظلومون بالظالم، يتعلق كلُّ مَن ظلمته بك يوم القيامة، يجرونه جرًّا ليوقفوه بين يدي الله جل وعلا، هذا يتعلق به من يده، وهذا يجره من ظهره، وهذا يَجُرُّه من لحيته، يتعلقون به ليوقفوه بين يدي الملك جل جلاله، فإذا ما وقف بين يدي الله تبارك وتعالى، وأذن الله لدواوين المظالم أن تُنْصَبَ، وللقصاص أن يبدأ، يقول هذا: يا رب، هذا شتمني، والآخر يقول: يا رب، ظلمني، والآخر يقول: يا رب، اغتابني، والآخر يقول: يا رب، غشَّني في البيع والشراء، والآخر يقول: يا رب، وجدني مظلومًا وكان قادرًا على دفع الظلم، فجامل ونافق الظالم وتركني، والآخر يقول: يا رب، جاورني فأساء جواري، سترى كل من عاملته في الدنيا - نسيته أو تذكَّرته - قد تعلق بك بين يدي الله جل وعلا، كلٌّ يطالب بحقه، وأنت واقف يا مسكين! ما أشد حسرتك في هذه اللحظات، وأنت واقف على بِساط العدل بين يدي رب الأرض والسماوات، إذا شوفِهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس عاجز فقير مهين، لا تملك درهمًا ولا دينارًا، لا تستطيع أن ترد حقًّا، ولا تملك أن تبدي عذرًا، فيقال: خذوا من حسناته إلى من ظلمهم في الدنيا، تنظر إلى صحيفتك التي بين يديك، فتراها قد خلت من حسنات تعِبتَ في تحصيلها طول عمرك، فتصرخ وتقول: أين حسناتي؟! أين صلاتي؟! أين زكاتي؟! أين دعوتي؟! أين علمي؟! أين قرآني؟! أين بري؟! أين عملي الصالح؟! أين طاعاتي؟! فيقال: نقلت إلى صحائف خصومك الذين ظلمتهم في الدنيا! وقد تفنى حسناتك ويبقى أهل الحقوق ينادون الله جل وعلا أن يعطيهم حقَّهم من الظالم، فيأمر الحق سبحانه أن يؤخذ من سيئات من ظلمتهم في دنياك لتُطرح عليك، فتصرخ وتقول: يا رب، هذه سيئات والله ما قاربتها، والله ما عملتها، فيقال لك: نعم، إنها سيئات من ظلمتهم في الدنيا، فتمد عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعلك تنجو في هذه اللحظات ولست بناجٍ؛ لأن الله قد حرم الظلم على نفسه، وحرَّم الظلم على العباد، فيقرع النداء سمعك ويخلع قلبك؛ قال الله جل وعلا: ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ [إبراهيم:42-52]. ثامنًا: احذر أن تُطرَد من حوض صاحب الشفاعة صلى الله عليه وسلم: يا من يعلم أنه إلى الله راجع، احذر كل الحذر أن تُطرد من حوض صاحب الشفاعة - صلى الله عليه وسلم - توهَّم نفسك الآن وأنت واقف على حوض صاحب الحوض، والناس قد لهثت ألسنتهم من شدة العطش، والحبيب - صلى الله عليه وسلم - يسقي أصحابه، وبينما هو كذلك إذا رأيت الملائكة تَطرُد أقوامًا من على الحوض؛ ينظر النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة إليهم وهم يطردون، تُرى ما الخطأ أو الذنب الذي وقع فيه هؤلاء؟ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ»)[1]. تاسعًا: الخوف من الله: معاشر الموحدين، إن الخوف من الله تعالى ومن سخطه، يحمل الإنسان منا على طاعة الله تعالى، والمسارعة إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، فالخوف سوطٌ تُساق به النفوس الشاردة عن بابه - سبحانه وتعالى - وهو شرط الإيمان؛ كما أخبر بذلك الملك الديان: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]. فهيَّا إخوة الإسلام لنرى كيف سيكون الخوف من الله تعالى سبيلًا من سبل النجاة، فالخوف من الله يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا قَالَ: "وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة"[2]. عاشرًا: كن من أهل سورتي البقرة وآل عمران: في ذلك اليوم العظيم العصيب الشديد، والقرآن ظل لأصحابه، بل سورة البقرة وآل عمران تظلان صاحبهما يوم القيامة؛ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ شَافِعٌ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ يُحَاجَّانِ عَنْ أَهْلِهِمَا"، ثُمَّ قَالَ: "اقْرَؤُوا الْبَقَرَةَ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلَا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"[3]؛ أي: تظلان من قرأهما وحفِظهما، وعقَل معناهما وعمل بهما، فلك من أجر الظل في البقرة وآل عمران بقدر ما معك من مصاحبتهما. [1] أخرجه البخاري (7050) و(7051) وأخرجه مسلم (2290) و(2291). [2] أخرجه أيضًا: ابن حبان (2/406، رقم 640)، والدارقطني في العلل (8/38، رقم 1396). [3] صحيح مسلم (1/ 553 رقم 804).
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |