دروس رمضانية السيد مراد سلامة - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4678 - عددالزوار : 1451109 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4231 - عددالزوار : 953078 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 403 - عددالزوار : 151787 )           »          كتاب(أدلة الوحدانية في الرد على النصرانية) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          وتلك قريش تجحد الله حقه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 39 )           »          10 توصيات عملية للتعامل مع الإدمان الرقمي في الأسرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 31 )           »          اللهم أبدلهم إماما خيرا من هذا الإمام! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 115 )           »          الفرق بين المسلمين واليهود والنصارى هو في الأسماء والصفات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 132 )           »          تحية الإسلام تعكس رسالته (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 132 )           »          خباب بن الأرت .. سدس الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 155 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > ملتقى اخبار الشفاء والحدث والموضوعات المميزة > رمضانيات
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

رمضانيات ملف خاص بشهر رمضان المبارك / كيف نستعد / احكام / مسابقات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-03-2024, 10:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الأول: ثمرات الصوم (1)
السيد مراد سلامة

الحمد لله جعل الصيام جنة، وسببًا موصلًا إلى الجنة، أحمَده سبحانه وأشكُره، هدى إلى خير طريق وأقوم سنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، بعَثه إلينا فضلًا منه ومنة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله أيها الناس، فالشهور والأعوام والليالي والأيام مواقيت الأعمال ومقادير الآجال، تمر سريعًا وتنقضي جميعًا، إنها أيام الله خلقها وأوجدها، وخصَّ بعضها بمزيد من الفضل، ما من يوم إلا ولله فيه على عباده وظيفة من وظائف طاعاته، ولطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بفضله رحمته من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم.
مرحبًا أهلًا وسهلًا بالصيام
يا حبيبًا زارنا في كل عام
قد لقيناك بحب مُفعم كل
حب في سوى المولى حرام
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم
زِدْنا من عطاياك الجسام
لا تُعاقبنا فقد عاقَبنا
قلقٌ أسهرنا جنح الظلام


ثم أما بعد:
فاعلم علمني الله وإياك أن هناك حكمًا علية وغايات سنية، من أجلها فُرض الله علينا الصيام، وإليك بعض هذه الأهداف التي ينبغي للمسلم أن يجعلها نُصب عينيه.

أولًا: لأنه أحد أركان الإسلام:
والمسلم أيها الأحباب من استسلم لَما شرع الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 51، 52].

والمسلم من اجتمعت فيه خمسةُ دعائم؛ كما في الحديث عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وأقام الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[1]؛ يقول ابن بطال - رحمه الله - قال المهلب: فهذه الخمس هي دعائم الإسلام التي بها ثباته، وعليها اعتماده، وبإدامتها يَعصم الدم والمال، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: أُمِرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها، وحسابهم على الله، وبهذا احتج الصِّدِّيق حين قاتل أهل الردة حين مَنْعِهِمُ الزكاة، وقال: واللهِ لأُقاتِلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، واتبعه على ذلك جميع الصحابة[2]؛ قال الإمام النووي - رحمه الله - قوله صلى الله عليه وسلم: (بُني الإسلام على خمس)؛ أي: فمن أتى بهذه الخمس فقد تَم إسلامه، كما أن البيت يتم بأركانه، كذلك الإسلام يتم بأركانه، وهي خمس، وهذا بناء معنوي شبه بالحسي، ووجه الشبه أن البناء الحسي إذا انهدم بعض أركانه لم يتم، فكذلك البناء المعنوي، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصلاة عماد الدين، فمن تركها فقد هدم الدين)، وكذلك البقية ومما قيل في البناء المعنوي:
بناء الأمور بأهل الدين ما صلَحوا
وإن تَوَلَّوا فبالأشرار تنقادُ
لا يصلح الناس فوصى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جهالُهم سادوا
والبيت لا يُبنى إلا له عمدٌ
ولا عماد إذا لم تُرس أوتاد

ثانيًا: ونصوم رمضان؛ لأن الله افترضه علينا كما فرضه على الأمم التي كانت قبلنا:
أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم: فالله تعالى فرض الصيام على الأمم التي كانت قبلنا وفرضه علينا، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، يُخبر تعالى بما منَّ به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام، كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، فالمسلم يسارع؛ أي صومه ويجهد في صيامه؛ حتى لا تكون الأمم السابقة خيرًا منا، وذلك من باب قوله تعالى: ﴿ وَفِي ذَلِكَ ‌فَلْيَتَنَافَسِ ‌الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].

ثالثًا: إن الله يحب الصوم والصائمين، فنصومه تزلفًا وتقربًا إلى الله سبحانه وتعالى: فقد أخبرنا الصادق المصدوق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله يحب الصوم ونحن نحب ما يحب ربنا؛ عن هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ[3].

رابعًا: ونصوم رمضان؛ حتى نحقق الغاية المنشودة من تلك الفريضة، ألا وهي تقوى الله تعالى، فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ ‌مِنْ ‌قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].

فمما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرَّم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، وهي أمور تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابَه، فهذا من التقوى.

ومنها: أن الصائم يدرِّب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه، مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.

ومنها: أن الصيام يُضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يَضعُف نفوذه، وتقِل منه المعاصي.

ومنها: أن الصائم في الغالب تَكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى.

ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساةَ الفقراء المعدَمين، وهذا من خصال التقوى[4].

فالصوم منهج رباني من خلاله يحقِّق العبد معنى التقوى؛ لأن التقوى هي كما عرَّفها طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، مخافة عذاب الله).

خامسًا: ونصوم رمضان؛ لأن الصوم جنة واقية من الوقوع في الذنوب والمعاصي:
إخوة الإسلام، اعلموا أن الصيام جنة واقية تقي المسلم من نار الشهوات المهلكات، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا[5].

لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الشباب الذين لا يستطيعون الزواج أن يصوموا، وأظهر لهم الحكمة من ذلك، وهي كما جاء في الحديث عن عَبْدُ اللَّهِ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَابًا لَا نَجِدُ شَيْئًا، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ[6].

سادسًا: ونصوم رمضان حتى نجار من فتنة القبر وعذابه:
فالصوم حصنٌ منيع إذا دخله العبد، فإنه يكون في حماية الله تعالى، والقبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، ولقد أمرنا رسولنا الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستعد لتلك الدار؛ عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ بَصُرَ بِجَمَاعَةٍ فَقَالَ عَلَامَ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ قِيلَ عَلَى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ قَالَ فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْقَبْرِ فَجَثَا عَلَيْهِ قَالَ فَاسْتَقْبَلْتُهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا قَالَ أَيْ إِخْوَانِي لِمِثْلِ الْيَوْمِ فَأَعِدُّوا[7].

فاستعد لسفرك، وتأهَّب لرحيلك، وحول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت فيه مقيم، ومن الأمور التي يتحصن بها العبد بالصيام، وتأمل أخي هذا الحديث: روى أبو حاتم في صحيحه القبر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِنَّ الْمَيِّتَ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ حِينَ يُوَلُّونَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا ‌كَانَتِ ‌الصَّلَاةُ ‌عِنْدَ ‌رَأْسِهِ، وَكَانَ الصِّيَامُ عَنْ يَمِينِهِ، وَكَانَتِ الزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَكَانَ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ: الصَّدَقَةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ، فَتَقُولُ الصَّلَاةُ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَمِينِهِ، فَيَقُولُ الصِّيَامُ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى عَنْ يَسَارِهِ، فَتَقُولُ الزَّكَاةُ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، وَيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَيَقُولُ فِعْلُ الْخَيْرَاتِ مِنَ: الصَّدَقَةِ، وَالصِّلَةِ، وَالْمَعْرُوفِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ: مَا مِنْ قَبْلِي مَدْخَلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: اجْلِسْ، فَيَجْلِسُ قَدْ مُثِّلَتْ لَهُ الشَّمْسُ تَدَنَّتْ مِنْهُ لِلْغُرُوبِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَمَّا نَسْأَلُكَ عَنْهُ، قَالَ: دَعُونِي أُصَلِّي، قَالَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، قَالَ: وَعَمَّ تَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ، مَاذَا تَقُولُ فِيهِ؟ وَمَاذَا تَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَشْهَدُ إِنَّهُ لَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُقَالُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ، وَعَلَى ذَلِكَ مُتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادَ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: ذَلِكَ كَانَ مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ، وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، وَتُجْعَلُ نَسَمَتُهُ فِي النَّسَمِ الطَّيِّبِ، وَهِيَ طَيْرٌ تَعَلَّقُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، وَيُعَادُ الْجَسَدُ إِلَى مَا بَدَا مِنْهُ مِنَ التُّرَابِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ: فَيَنَامُ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ[8].

سابعًا ونصوم رمضان: حتى نشرب يوم الظمأ الأكبر يوم القيامة، يوم أن تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ويأخذ الناس العطش، فعندها يحتاج العبد إلى ما يروي ظمأه فلن يجد إلى ذلك سبيلًا إلا الصوم؛ يقول ابن القيم - رحمه الله - قد جاء فيما ينجي من عذاب القبر حديث فيه الشفاء.... عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله ونحن في صفة بالمدينة، فقام علينا فقال: إني رأيت البارحة عجبًا....... ورأيت رجلًا من أمتي يلهث عطشًا كلما دنا من حوض مُنع وطُرد، فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه[9].

[1] أخرجه أحمد 2/143، والبخاري "8" في الإيمان: باب دعاؤكم إيمانكم، ومسلم "16" "22" في الإيمان: باب بيان أركان الإسلام).

[2] شرح البخاري لابن بطال- (ج 1 / ص 33).

[3] صحيح البخاري - (ج 6 / ص 474).

[4] تفسير السعدي - (ج 1 / ص 86).


[5] أخرجه مالك (1/10، رقم 682)، وأحمد (2/257، رقم 7484)، والبخاري (2/670، رقم 1795).

[6] صحيح البخاري - (ج 15 / ص 498).

[7]رواه أحمد في مسنده ج 4 ص 294، والبخاري في التاريخ وابن ماجه ح 4195 وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 1751.

[8] ابن حبان (3103) قال الألباني: حسن، "التعليق الرغيب" (4/ 188 - 189)، "أحكام الجنائز" (198 - 202).

[9] الروح [جزء 1 - صفحة 82].

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 12-03-2024 الساعة 05:53 PM.
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-03-2024, 05:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الثاني: فوائد صوم رمضان (2)

السيد مراد سلامة

الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب الرحمة، وبسط أسباب المغفرة، ووعَد بمنَّته بالعتق من النيران في شهر رمضان، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما أنزل من الرحمات، وما ضاعَف من الحسنات، وما محا من السيئات، نحمده جل وعلا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء الأرض والسماوات، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمدًا يوافي فضله وإنعامه، ويولي لنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيًا عن أمته، ووفَّقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء:1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب:70-71]، أما بعد:
فإخوة الإيمان أحباب النبي العدنان صلى الله عليه وسلم، ما زلنا نتكلم عن فوائد وثمرات الصوم التي تعود بالنفع على الصائم في الدنيا والآخرة.

أولًا: ونصوم رمضان؛ حتى يكفر الله عنا السيئات ويمحو تلك الخطايا:
فإذا أردت أن يغفر الله لك الذنوب، ويسترك ولا يفضَحك، فعليك بالصوم فإنه يباعد بين المرء وذنوبه، ويغسله كما يغسل البدن بالماء والثلج والبرد، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائر[1]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «‌مَنْ ‌صَامَ ‌رَمَضَانَ ‌إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[2].

يقول ي بدر الدين العيني (قوله إيمانا أي تصديقا بوجوبه واحتسابا أي طلبا للأجر في الآخرة وقال الجوهري الحسبة بالكسر الأجر احتسبت كذا أجرا عند الله وقال الخطابي أي عزيمة وهو أن يصومه على معنى الرغبة في ثوابه طيبة نفسه بذلك غير مستثقلة لصيامه ولا مستطيلة لإتمامه وانتصاب إيمانا على أنه حال بمعنى مؤمنا وكذلك احتسابا بمعنى محتسبا ونقل بعضهم عمن قال منصوبا على أنه مفعول له أو تمييز قلت وجهان بعيدان والذي له يد في العربية لا ينقل مثل هذا[3].

ثانيًا: ونصوم رمضان حتى ننال الأجر يوم القيامة بغير حساب:
فالصوم عباد الله مبناه على الصبر، فهو صبر على الطاعة وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله تعالى، عن هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يقول قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ[4].

الحافظ قطب الدين القسطلاني - رحمه الله - فان قلت فما وجه قوله: (إلا الصوم فإنه لي)، والأعمال كلها لله، فما علة تخصيصه له بالإضافة دون غيره؟ قلت: لعلماء فيه عدة من الأقوال، أحدها: معناه أنا العالم بجزائها لمالك له، ولا أطلعكم عليه كما أطلعتكم على أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فجزاء الصائم فوق هذا العدد مما أعلمه ولا أخبركم به، فإن الصيام ينقص البدن ويضعف البنية، بخلاف غيره من أركان الإسلام، فالصائم يعرض نفسه لِما هو كارهه، فكان جزاء عمله فيه معنى الصبر، وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

ثالثًا: ونصوم رمضان؛ حتى ندخل من باب الريان:
واعلَم أن من الأسباب الدافعة إلى صيام شهر رمضان أن ندخل الجنة من باب قد خصَّه الله تعالى بالصائمين، لا يدخل منه أحد غيرهم والجزاء من جنس العمل، عَنْ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ[5].

عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «‌مَنْ ‌أَنْفَقَ ‌زَوْجَيْنِ ‌فِي ‌سَبِيلِ ‌اللهِ، نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هذَا خَيْرٌ»، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْ هذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ. فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ»[6].

رابعًا: ونصوم رمضان حتى يشفع لنا يوم القيامة:
واعلموا عباد الله أن الصيام يكون لصاحبة يوم القيامة شفيعًا بين يدي رب العزة جل جلاله، عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ الصِّيَامُ؛ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ وَيَقُولُ الْقُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ قَالَ فَيُشَفَّعَانِ)[7].

خامسًا: ونصوم رمضان حتى نفرح في الدنيا والآخرة:
أخي المسلم، اعلَم بارك الله فيكأن الصوم سبب للسعادة في الدارين، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه"[8].

أما فرحته عند فطره، فهي نموذج للسعادة واللذة التي يجدها المؤمن في الدنيا؛ بسبب طاعته وتقواه لمولاه سبحانه وتعالى، وهي السعادة الحقيقية، وفرحته عند فطره تأتي من جهتين: الأولى: أن الله تعالى أباح له الأكل والشرب في تلك اللحظة، والنفس - بلا شك - مجبولة على حب الأكل والشرب، ولذلك تعبَّدنا الله - تبارك وتعالى - بالإمساك عنهما.

الثانية: سرورًا بما وفقه الله تعالى إليه من إتمام صيام ذلك اليوم، وإكمال تلك العبادة، وهذا أسمى وأعلى من فرحه بإباحة الطعام له.

سادسًا: ونصوم رمضان حتى تكون رائحة الفم أطيب عند الله من ريح المسك:
أن خلوف فم الصائم أطيبُ عند الله تعالى من ريح المسك، وخلوف فمه هو الرائحة التي تنبعث من المعدة - عند خلوها من الطعام - عن طريق الفم، وهي رائحة مكروهة عند الخلق، لكنها محبوبة عند الخالق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه -: "والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله مـن ريح المسك "[9].

وفي هذا دليلٌ على أنه لا بأس من أن يستاك الصائم بعد الزوال، بل هو أمر مستحب - على القول الراجح الصحيح - في المواضع التي يُستحب فيها السواك في كل حال: عند الصلاة، وعند الوضوء، وعند دخول المنزل، وعند الاستيقاظ من النوم … إلى غير ذلك من المواضع؛ لأن هذا الخلوف ليس من الفم، وإنما هو من المعدة.

وكما أن خلوف فم الصائم المكروه لدى المخلوقين أطيب عند الله – سبحانه - من ريح المسك، فكذلك دم الشهيد يوم القيامة له رائحة المسك، مع أن الدم - من حيث هو - مستقذرٌ، بل هو نجس عند أكثر الفقهاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما مِن مكلوم[10] يُكْلَم في الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يَدمى، اللون لون دم، والريحُ ريح مسك"[11].

[1] «مسند أحمد» (15/ 106 ط الرسالة) «وأخرجه مسلم (233) (16)، والبيهقي 10/187».

[2] وأخرجه ابن أبي شيبة 3/2، والبخاري (38)، وابن ماجه (1641).

[3] عمدة القاري ج 10 274.

[4] صحيح البخاري - (ج 6 / ص 474 صحيح البخاري - (ج 6 / ص 461).

[5] وأخرجه ابن أبي شيبة 3/5- 6، والبخاري "1896" في الصوم: باب الريان للصائمين، ومسلم "1152" في الصيام: باب فضل الصوم.

[6] مسلم (2/ 711 - 712 رقم 1027)، البخاري (4/ 111 رقم 1897)، وانظر (2841، 3216، 3666)

[7] أخرجه أحمد 2/ 174 (6626) انظر صَحِيح الْجَامِع: 3882 , صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 984

[8] أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[9] أخرجه البخاري (1904) ومسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[10] المكلوم: الذي فيه جراح، والكَلْم: الجراحة. مختار الصحاح (ص240).

[11] رواه البخاري (5533) ومسلم (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-03-2024, 03:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الثالث: ثمرات قيام الليل العشر (1)

السيد مراد سلامة

الحمد لله المجيب لكل سائل، التائب على العباد فليس بينه وبين العباد حائل، جعل ما على الأرض زينة لها، وكل نعيم لامحالة زائل، حذَّر الناس من الشيطان وللشيطان منافذ وحبائل، فمن أسلم وجهه لله فذاك الكيِّسُ العاقل، ومن استسلم لهواه فذاك الضال الغافل، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تنزَّه عن الشريك وعن الشبيه وعن المشاكل، من للعباد غيره؟ ومن يدبر الأمر؟ ومن يعدل المائل؟ من يشفي المريض؟ من يرعى الجنين في بطن الحوامل؟

ما أخبار قلبك؟ ماذا في قلبك لربك جل جلاله؟ ماذا في قلبك من محبة الدنيا؟ ماذا في قلبك من خوف ورجاء؟ أما ماذا في قلبك من فتن الشهوات؟

إخوة الإيمان، حيَّاكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتم وطاب مَمشاكم، وتبوَّأْتُم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أيها الإخوة الكرام، حديثنا في هذا اليوم الميمون الأغر العشر الأُولى من ثمرات قيام الليل وبيان فضل الله تعالى لأهل الليل.

الثمرة الأولى قيام الليل والتسبيح فيه يورث العبد الرضا:
أخي المسلم، هل تريد أن يرضى الله تعالى عنك؟
إن رضا الله من أعظم الغايات التي يسعى إليها المسلم، فإذا فاز به فقد فاز في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه:130].

ثانيًا قيام الليل سبب للفهم عن الله والتوفيق:
وهذه وصفة ربانية لطالب العلم الذي يريد التوفيق في حياته العلمية واليومية، فعليه بقيام الليل؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل:6]؛ أي: إن قيام الليل أبلغ في الحفظ وأثبت في الخير، وعبادة الليل أشدُّ نشاطًا وأتَمُّ إخلاصًا وأكثر بركة.

ثالثًا قيام الليل دأب الصالحين:
أيها الإخوة الأكارم، من عظيم ثمرات الليل ما جاء في هذا الحديث النبوي الشريف الذي اشتمل على عدة جوائز ربانية؛ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ بِلَالٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ. وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الْإِثْمِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ» وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَفْظُهُ: «عَلَيْكُمْ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ وَلَوْ رَكْعَةً وَاحِدَةً»[1].

رابعًا: قيام الليل يطرد الغفلة:
أيها الأحباب، الغفلة داء مهلك للعبد، يُبعده عن ربه، فإذا أردت أخي أن تخرج من تلك الدائرة، فعليك بقيام الليل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قام بعشرِ آيات لم يُكْتَبْ مِن الغافلين، ومَنْ قام بمائةِ آية، كُتِبَ مِن القانتين، ومَن قامَ بألفِ آية كُتِبَ مِن المقَنْطِرين». أخرجه أبو داود»[2].

قال يحيى بن معاذ: "دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.

خامسًا قيام الليل شرف المؤمن:
أيها الأحباب، إن شرفك الذي تنال به المنزلة والمكانة يوم القيامة، هو قيام الليل، فلا تفرط فيها، فيضيع شرفك؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مَفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ»[3].

(واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، وتأمل بارك الله فيك الفرق بين الشرف في الحديث وبين الشرف اليوم، فاليوم انقلبت الموازين، وسُمِّيت الأشياء بغير أسمائها، فأصبحنا نسمع عن غناء شريف، وعن رقص شريف، وعن فن شريف، وعن فواحش شريفة، فغيَّروا الأسماء، وغيروا المسميات، فيا ألله! فهذه أشراط الساعة قد ظهرت فينا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أيامًا خداعات: يُصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وتتكلم فيها الرويبضة، وتسمى الأشياء بغير مسمياتها)، بل إن كثيرًا من الناس يرى أن الشرف في الحسب والنسب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بطَّأ به عملُه، لم يُسرع به نسبُه)، والله يقول: ﴿ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ﴾ [المؤمنون:101]، ويقول: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات:13].

اللهم اجعلنا منهم ومعهم.

هذا الإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات في بيته في الصباح، فوجدت بللًا في مصلاه، فعاتبت زوجته فقالت لها: ثكلتْك أمُّك، تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ! قالت: ما هذا بول الصبيان، إنما هذا من أثر دموع الشيخ وهو يبكي في الليل.

سادسًا: الحرية والنشاط:
اعلم بارَك الله فيك أن قيام الليل سبب من أسباب النشاط والحرية من العقد الشيطانية وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: (( يَعْقِدُ الشَّيطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأسِ أحَدِكُمْ، إِذَا هُوَ نَامَ، ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ عَلَى كُلِّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فَارْقُدْ، فَإن اسْتَيقَظَ، فَذَكَرَ اللهَ تَعَالَى انحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإنْ تَوَضّأ، انْحَلّتْ عُقدَةٌ، فَإنْ صَلَّى، انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإلاَّ أصْبحَ خَبيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ))[4]؛ متفقٌ عَلَيْهِ.

فكم منا من يقوم خبيث النفس كسلان، وكم منا من يقوم وهو كما يقال: نفسه في طرف أنفه، وما ذاك إلا لأننا لا نقوم الليل، ولأننا لا نهتم بهذا الأمر، بل حتى عقدة واحدة نعجِز عن حلها، فبدلًا من أن يستيقظ أحدنا في الساعة الرابعة أو الثالثة، ثم إذا سمع جرس ساعته أطفأه وقال: لا إله إلا الله، فتنفك عقدة واحدة، وإنما تجده يتلفظ بغير الذكر ويكسل عن حل هذه العقدة.

سابعًا: الأنور الربانية:
ومن ثمرات قيام الليل أن الله تعالى يلبسهم من نورة فتتلألأ وجوهم وتشرق؛ قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس:38 - 39]؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: "من قيام الليل"، وقيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن النَّاس وجوهًا؟ قال: "لأنَّهم خلوا بالرحمن فألبسَهم من نوره"، وقال سعيد بن المسيب رحمه الله: "إنَّ الرجل ليُصلِّي بالليل، فيجعل الله في وجهه نورًا يحبه عليه كل مسلم، فيراه من لم يرَه قط، فيقول: إنِّي لأحب هذا الرجل".

[1] رواه الترمذي (3549)، وابن خزيمة (1135)، والحاكم (1156)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن لغيره (624).

[2] رواه أبو داود اللفظ له (1398)، وابن حبان (2572)، وابن خزيمة (1144)، والدارمي (3444)، والحاكم (2041)، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: حسن صحيح (639).

[3] قال الحافظ المنذري في الترغيب (2/ 23)؛ رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.

[4] البخاري برقم (1142)، ومسلم برقم (776).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 14-03-2024, 02:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

دروس رمضانية

السيد مراد سلامة




الدرس الرابع: ثمرات قيام الليل(2)


أحبتي في الله، ما زلنا نتكلم عن ثمرات قيام الليل وما فيه من عطايا وهبات ربانية، قيام الليل رياض الصالحين، وملاذ المحبين، مع جمالِ نجوم الليل، ومع حسنِ بهائها، ونضارةِ لياليها، خاصةً تلك الساعات الأخيرة المباركة من ثلث الليل، إنها أوقات غيرَ باقي الأوقات! إنها تعدِل موسمًا كاملًا من النَّفحات، وأي مواسم تلك الساعات؟ إنها لحظات تنزُّلِ الرحمات، لا يتخلى الناسُ عن بعضِ أفعالِهم المحبوبة إليهم، وشيء من تصرفاتِهم المحبوبة إلى نفوسهم، منهم مَن يعانق وثير الفراش ونعيم الوسائد، وآخر أمام القنوات والمواقع الهدَّامة! والثالث على تعاطي المسكرات والمخدرات، والعياذ بالله تعالى.

أولًا: قيام الليل سبب لإجابة الدعاء: فيا أرباب الكربات، ويا أرباب الهموم، ويا أرباب الديون، هل لكم من حلٍّ لتلك المشاكل، إنها في ركعات بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي صحيح البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ, فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ, وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ, ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لِي, غُفِرَ لَهُ، قَالَ الْوَلِيدُ: أَوْ قَالَ: دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ, فَإِنْ قَامَ فَتَوَضَّأَ, ثُمَّ صَلَّى, قُبِلَتْ صَلاَتُهُ[1].

وهذا حديث عظيم القدر، كثير المنافع لمن عَوَّدَ نفسه كلَّما استيقظ من نومه، جرى لسانه بتوحيد الله وذكره، فكان جزاؤه أن تُقبل صلاته وتُستجاب دعوته، فكم فرِّجت به من همومٍ، وكم قُضيت به من ديون، وكم صلَحت به أحوالٌ فاسدة، والموفق مَن وفَّقه الله؛ قال ابن بطال رحمه الله: «وعد الله على لسان نبيه أن مَن استيقظ من نومه لهج لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالملك، والاعتراف بنعمه يحمده عليها، وينزِّهه عما لا يليق به بتسبيحه، والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة، إلا بعونه، أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلى قُبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به ويُخلص نيته لربه سبحانه وتعالى»[2].

ثانيًا: الرحمة الرحمانية، أخي المسلم، قيام الليل من موجبات الرحمة؛ قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ وَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ»[3].


وصلة بن أشيم العدوي لَما تزوج السيدة معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي ليلة البناء أدخله ابن أخيه بيتًا حارًّا، ثم أدخله بيتًا مطيبًا، ثم بعد ذلك أدخلوا إليه معاذة، فقام يصلي صلاة الليل حتى الصباح، وقامت هي تصلي خلفه، فعاتَبه ابن أخيه في اليوم الثاني فقال له: يا عماه! في ليلة عرسك تصلي إلى الصباح! قال: وماذا أصنع يا بن أخي، إنك أدخلتني بيتًا حارًّا، فذكرتني فيه بالنار، ثم أدخلتني بيتًا مطيبًا، فذكرتني فيه بالجنة، فلم يزل خلدي فيهما إلى الصباح.

ورياح القيسي لما تزوَّج ذؤابة العابدة تناوم في ليلة البناء يريد أن يختبر صلاة زوجه، فلما كان ربع الليل الأول قالت: يا رياح، قُمْ فقد مضى ربع الليل الأول، فقال: أقوم ولَم يقم، فلما كان ربع الليل الثاني، قالت: يا رياح قُم، قد مضى ربع الليل الثاني، قال: أقوم ولم يقم، فما زال كذلك إلى صلاة الفجر، فلما كان عند الفجر قام يصلي الفجر في جماعة، فقالت: ليت شعري من غرَّني بك يا رياح؛ لأنه ما صلى إلا الفجر فقط في جماعة.

وكانت زوجة محمد بن حبيب العجمي توقِظه لصلاة الليل، وتقول له: قم يا سيدي، فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، والطريق طويل، والزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد وصلت إلى الجنة ونحن قد بقينا.

ثالثًا: قيام الليل يهوِّن من طول القيام في عرصات القيامة:
إنهم عباد الرحمن: ﴿ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان:64]، انتزعوا نفوسهم من وثر الفرش، وهدوء المساكن، وسكون الليل، وسكون الكون غالبوا هواتف النوم، وآثروا الأنس بالله، والرجاء في وعد الله، والخوف من وعيده: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر:9]، عبادٌ لله قانتون متقون: ﴿ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات:17 - 18]، لصلاة الليل عندهم أسرارُها، وللأذكار في نفوسهم حلاوتها، وللمناجاة عندهم لذتها؛ قال ابن عباس: "مَن أحبَّ أن يهوِّن الله عليه طول الوقوف يوم القيامة، فليَره الله في ظلمة الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة".

قيام الليل انقطاعٌ عن صخب الحياة، واتصال بالكريم الأكرم جل وعلا، وتلقي فيوضِه ومِنَحِه، والأنس به والتعرض لنفحاته والخلوة إليه.

الله أكبر، ما طاب لهم المنام؛ لأنهم تذكَّروا وحشة القبور، وهول المطلع يوم النشور، يوم يُبعَث ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور، ولهذا قال قتادة رحمه الله: "ما سهر الليل بالطاعة منافقٌ".

رابعًا: قيام الليل ينجي من النيران:
ففي حديث عَنْ ‌أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَرَى رُؤْيَا، فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‌وَكُنْتُ ‌غُلَامًا ‌شَابًّا، وَكُنْتُ أَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ، فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَكَانَ بَعْدُ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا"[4].

قال القرطبي: "حصل لعبد الله من ذلك تبيهٌ على أن قيام الليل مما يُتقى به من النَّار والدنو منها، فلذلك لم يترك قيام الليل بعد ذلك".

رابعًا: قيام الليل يورث سكن الغرف في أعالي الجنان:
معاشر المحبين، من ثمرات قيام الليل اليانعة ما أعده الله تعالى بكرمه وفضله من أعالي الجنان، قال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة:16 - 17]، وعَنْ عَلِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‌"إِنَّ ‌فِي ‌الْجَنَّةِ ‌غُرَفًا ‌يُرَى ‌ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرُهَا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ، وَالنَّاسُ نِيَامٌ»[5].


خامسًا: التهجد سبيل النصر على الأعداء:
فالجهاد يُسقى بدمع التهجد، ولا ينتصر على العدو في ساحة القتال إلا من انتصر على نفسه وشيطانه في قيام الليل! ولَما هُزم الروم أمام المسلمين، قال هرقل لجنوده: "ما بالكم تنهزمون؟! فقال شيخ من عظماء الروم: من أجل أنَّهم يقومون اللَّيل ويصومون النَّهار، وقال الأمراء الصليبيون: "إنَّ القسيم بن القسيم - يعنون نور الدين زنكي - له مع الله سرٌّ، فإنه لم يظفر ويُنصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا ويُنصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يُصلي بالليل، ويرفع يده إلى الله ويدعو، فإنه يستجيب له ويعطيه سؤاله فيظفر علينا".

سادسًا: الكتابة في ديوان الذاكرين الله تعالى والذاكرات:
إخوة الإسلام، من ثمرات قيام الليل أن يُكتَب العبد في لوحة الشرف، ألا وهي لوحة الذاكرين لله تعالى؛ عَنْ أَبِي سَعِيد وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنَ اللَّيْلِ ‌وَأَيْقَظَ ‌امْرَأَتَهُ، ‌فَصَلَّيَا ‌رَكْعَتَيْنِ، كُتِبَا مِنَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ»[6].

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «مَنْ قَالَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرٍ، أَوْ قَالَ مِنَ ‌الْأَجْرِ ‌كَأَلْفِ ‌أَلْفِ ‌حَسَنَةً»"[7].

سابعًا الوصول إلى محبة الله تعالى:
من ثمرات قيام الليل أن ينال العبد محبة الله تعالى، واعلموا أن العبرة ليست أن تُحِب، ولكن العبرة أن تُحَب، فإذا أحبك الله أحبَّك كلُّ شيء، عَنِ ابْنِ الْأَحْمَسِ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ فَقُلْتُ: أَبَا ذَرٍّ، مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا هُوَ فَلَا أَخَالُنِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ ‌وَثَلَاثَةٌ ‌يَشْنَؤُهُمُ ‌اللَّهُ»، قَالَ: قُلْتُهُ، وَسَمِعْتُهُ، قُلْتُ: فَمَنِ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ؟ قَالَ: «رَجُلٌ كَانَ فِي فِئَةٍ فَنَصَبَ نَحْرَهُ حَتَّى يُقْتَلَ، أَوْ يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ جَارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ، فَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ أَوْ ظَعْنٌ، وَرَجُلٌ كَانَ مَعَ قَوْمٍ فِي سَفَرٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ فَأَطَالُوا السُّرَى حَتَّى أَعْجَبَهُمْ أَنْ يَمْشُوا الْأَرْضَ فَنَزَلُوا، فَتَنَحَّى يُصَلِّي حَتَّى يُوقِظَ أَصْحَابَهُ لِلرَّحِيلِ» ، قُلْتُ: فَمَنِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمْ؟ قَالَ: «التَّاجِرُ أَوِ الْبَيَّاعُ الْحَلَّافُ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ، وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ»[8].

قلت: ما من شكٍّ أن الوصول إلى محبة الله تعالى مِن أجلِّ ما يصبو إليه المؤمن، فإذا وجد عملًا يحبه الله تعالى فعله ولو مرة واحدة؛ كما قال بعض السلف: (إذا سمعتَ بعملٍ صالح فافعله ولو مرة، تكُن من أهله).


[1] - «صحيح البخاري» (برقم 1154).

[2] - «فتح الباري» (3/ 41).

[3] - ذكره القرطبي في تفسيره (15/ 239).

[4] - أخرجه البخاري (1121) و(1122) و(3738) و(3739) ، ومسلم (2479) (140) ، وابن حبان (7070)

[5] - أخرجه أحمد من رواية علي رضي اللَّه عنه، في المسند 1/ 156 ضمن مسند علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وأخرجه الترمذي في السنن 4/ 673 كتاب صفة الجنة (39)، باب ما جاء في صفة غُرَفِ الجنة (3)، الحديث (2527)

[6] - «سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط» (2/ 361): إسناده صحيح «وأخرجه أبو داود (1309) و(1451)، والنسائي في "الكبرى" (1312) و(11342)»

[7] -«مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر» (ص109).

[8] - وأخرجه أحمد 5/153، والنسائي 5/84 والطحاوي 7/ 214 (2784)، وصحّحه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، (صحيح) انظر حديث رقم: 3074 في صحيح الجامع.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16-03-2024, 02:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الخامس: الفوائد العشرية لقراءة كتاب رب البرية (1)
السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي جعل القرآن هدايةًً للمقبلين، وجعل تلاوته بخضوع تُهل دمع الخاشعين، وأنزل فيه من الوعيد ما يَهُزُّ به أركان الظالمين، وأخبَر فيه أن الموت نهايةٌ للعالمين، وأننا بعد الموت للحساب مبعوثين، وأننا سنُحاسب عما كنا فاعلين، وسنقف بذُلٍّ وخضوعٍ بين يدي رب العالمين، ﴿ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ [الفجر: 23]، ﴿ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ﴾ [إبراهيم: 49]، ليس هناك فرقٌ بين ملك معظم وإنسان مُهين، هذا جزاء من أخلص العمل لله رب العالمين، وهذا عطاء رب الأرباب مالك يوم الدين، سبحانه من إله عظيمٍ أعزَّ الحق وأخرَس المبطلين سبحانه عددَ ما دعاه عباده المساكين، سبحانه عددَ ما انهمرَت دموعُ المنيبين، سبحانه جوَاد كريم قوي متين.
يَا مَنْ سَيْنَأَى عَنْ بَنِيهْ
كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهُ
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ
جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوهْ
وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ
قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ

أما بعد، فيا معاشر الموحِّدين يقبل المسلمون صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً على القرآن الكريم، ينهلون من نبعه الصافي ومن فيضه الشافي، ونوره الهادي ومن أسراره الدائمة، إقبال الظمآن على الماء البارد في اليوم الصائف، فما نيتُك في قراءة القرآن الكريم؟

اعلم بارك الله فيك أن تؤجَر على قدر نيتك، فباب النيات من أوسع أبواب الخيرات، وهاك أخي الكريم بعض تلك النيات:
أولًا: أَقْرأُ القرآن لأنه شفاءٌ:
القرآن الكريم هو الشفاء الناجع والدواء النافع الذي أنزله الله تعالى لشفاء البشرية من أسقامها وأمراضها الحسية والمعنوية، قال تعالى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82].

وها هو صلى الله عليه وسلم يَرقي نفسه بالمعوذات؛ عَنْ ‌عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَانَ إِذَا ‌اشْتَكَى ‌يَقْرَأُ ‌عَلَى ‌نَفْسِهِ ‌بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا»[1].

ثانيًا: أَقْرأُ القرآن لأن الله تعالى يُفرِّج به الهم، ويُذْهِب به الغموم:
إخوة الإسلام، القرآن الكريم شفاء ودواء ناجع للهموم والغموم، إذا كنت مهمومًا، فعليك بقراءة القرآن الكريم، يُزيل الله تعالى عنك ما أَهَمَّك، ويفرِّج كربَك؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "‌مَا ‌أَصَابَ ‌أَحَدًا ‌قَطُّ ‌هَمٌّ ‌وَلَا ‌حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ, فِي قَبْضَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ عَلَى أَحَدٍ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا "، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ قَالَ: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا»"[2].

ثالثًا: أَقْرأُ القرآن لأنه سبب لنزول السكينة وغشيان الرحمة:
والقرآن الكريم أيها الكرام سببٌ لهدوء النفس ونزول السكينة على العبد، وغشيان الرحمة وحضور الملائكة، والذكر في الحضرة الإلهية، فقد أخرج الإمام مسلم عن أبي هُريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "‌ما ‌اجتَمَعَ ‌قَومٌ ‌في ‌بَيتٍ ‌مِن بُيوت الله، يتلونَ كتابَ الله ويتدارسُونه بينهم، إلا نزلت عليهم السَّكِينة وغَشِيَتهُم الرَّحمَةُ، وحفَّتهم الملائكةُ، وذَكَرهُمُ اللهُ فيمَن عندَه"[3].

رابعًا: أَقْرأُ القرآن حتى يكون نورًا لي في الدنيا وذخرًا لي في الآخرة:
اعلموا عباد الله أن القرآن الكريم هو نورُكم الذي يضيء لكم دروب الحياة المظلمة التي أظلمتها الشهوات والمخالفات، وكثرة السيئات، فيحتاج المسلم إلى ذلك النور الكاشف عن حقائق الأمور، فقد أخرج ابن حبان بسند حسن عن أبي ذر - رضى الله عنه - قال: "قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: عليك بتقوى الله، فإنه رأس الأمر كله، قلت: يا رسول الله زدني، قال: عليك بتلاوة القرآن، فإنه نورٌ لك في الأرض، وذخر لك في السماء"[4].

خامسًا: أَقْرأُ القرآن حتى يُزاد لي في الإيمان:
فمَن أراد زيادة الإيمان يومًا بعد يوم، فعليه بكتاب الله، فقد قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ [الأنفال: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124].

عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ، «‌فَتَعَلَّمْنَا ‌الْإِيمَانَ ‌قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا»[5].

الحزاورة: جمع حزور، وهو الغلام إذا قارب البلوغ.

سادسًا: أَقْرأُ القرآن حتى لا أُكْتَب من الغافلين:
أمة الإسلام، من ثمرات قراءة القرآن الكريم أن من قام بعشر آيات منه في ليلة، لم يكن من الغافلين، فقد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ ‌لَمْ ‌يُكْتَبْ ‌مِنَ ‌الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ"[6].

سابعًا: أَقْرأُ القرآن حتى أتحَّصل على جبال من الحسنات:
فقد أخرج عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "من قَرَأَ حرفًا من كتاب الله فَلهُ حَسَنَة، والحسنة بِعشر أَمْثَالهَا، لَا أَقُول الم حرف، وَلَكِن ألف حرف ‌وَلَام ‌حرف ‌وَمِيم ‌حرف"[7].

ثامنًا: أَقْرأُ القرآن لأنه خير من الدنيا وما فيها:
إذا فرِح أهل الدنيا بدنياهم، وأهل المناصب بمناصبهم، وأهل الأموال بأموالهم، فجدير أن يفرح حامل القرآن بكلام الله الذي لا توازيه الدنيا بكل ما فيها من متاع زائل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ‌‌«أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ‌إِذَا ‌رَجَعَ ‌إِلَى ‌أَهْلِهِ ‌أَنْ ‌يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟» قُلْنَا: نَعَمْ قَالَ: «فَثَلَاثُ آيَاتٍ، يَقْرَؤُهُنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ»[8].

وأخرج مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بَطْحَانَ أَوْ ‌الْعَقِيقِ ‌فَيَأْتِيَ ‌مِنْهُ ‌بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؟»، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نُحِبُّ ذَلِكَ، قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيُعَلِّمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ»"[9].

بُطْحَانَ: موضع بالمدينة - الكَوْمَاءُ: هي العظيمة السنام من الإبل.


[1] «وأخرجه البخاري (4439)، ومسلم (2192)، وابن ماجه (3528) و(3529)، والنسائي في "الكبرى" (7049) و(7488)».

[2] المسند 6/ 246 (3712)، ومسند أبي يعلى 9/ 198 (5297)، وصحيح ابن حِبّان 3/ 253 (972). وأخرجه الحاكم 1/ 509 ) انظر الصَّحِيحَة: 199، صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب.

[3] أخرجه مسلم (2699)، وابن ماجه (225)، والترمذي (3174).

[4] المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 349) وقال: رواه ابن حبان في صحيحه في حديث طويل «صحيح الترغيب والترهيب» (2/ 164).

[5] «سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط» (1/ 42) «وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" 2/ 221، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في "السنة" (799) و(825)، والطبراني في "الكبير" (2678)»

[6] «صحيح ابن حبان» (6/ 311): «وأخرجه أبو داود (1398) في الصلاة: باب تحزيب القرآن، عن أحمد بن صالح، وابن خزيمة (1144)»

[7] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (1/ 216)، والترمذي (5/ 175، رقم 2910) وقال: حسن صحيح غريب. والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 342، رقم 1983)

[8] أخرجه مسلم (802).

[9] رواه مسلم رقم (803) في صلاة المسافرين، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، وأبو داود رقم (1456) في الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 17-03-2024, 01:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس السادس: الفوائد العشرية لقراءة كتاب رب البرية (2)

السيد مراد سلامة

الحمد لله الحكيم الرؤوف الرحيم الذي لا تَخيب لديه الآمال، يعلم ما أضمر العبد من السر وما أخفى منه ما لم يَخطر ببال، ويسمع همسَ الأصوات وحسَّ دهس الخطوات في وعس الرمال، ويرى حركة الذر في جانب البر، وما درج في البحر عند تلاطم الأمواج وتراكم الأهوال، أفلا يستحيي العبد الحقير من مبارزة الملك الكبير بقبح الأفعال.

وأشهد إن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، الكل تحت قهره ونظره في جميع الأحوال، فتبارك من وفَّق من شاء لخدمته، فشتان ما بين رجال ورجال.

عبد الله، يا مسكين:
يا غافلًا والجليل يحرسه
من كل سوء يدب في الظلم
كيف تنام العيون عن ملك
تأتيه منه فوائد النعم


وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.

القرآن الكريم كلام الله تعالى، وفي تلاوته فضل عظيم، وقد أمر الله سبحانه بتلاوته كما في قوله سبحانه: ﴿ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ [المزمل: 20]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ [فاطر: 29].

قال أيضًا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئًا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير الذي ليس فيه من كتاب الله شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت الذي تسمع فيه سورة البقرة..

وقال أيضًا - رضي الله عنه -: إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره.

وقال فضل الرقاشي رحمه الله: ما تلذَّذ العابدون ولا استطارت قلوبهم بشيء كحسن الصوت بالقرآن، وكل قلب لا يجيب على حسن الصوت بالقرآن، فهو قلب ميتٌ.

تاسعًا: أَقْرأُ القرآن حتى يفتح على أبواب الخير الكثيرة:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ ‌الْبَقَرَةِ ‌فِي ‌لَيْلَةٍ ‌كَفَتَاهُ»، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ: ثُمَّ لَقْيتُ أَبَا مَسْعُودٍ فِي الطَّوَافِ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَحَدَّثَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ ‌الْبَقَرَةِ ‌فِي ‌لَيْلَةٍ ‌كَفَتَاهُ»[1].

وأفضل الناس وخير الناس عند الله هم حملة كتابه العزيز؛ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُكُمْ مَنْ ‌تَعَلَّمَ ‌الْقُرْآنَ ‌وَعَلَّمَهُ»[2].

عاشرًا: أَقْرأُ القرآن حتى يُحِبُّني الله - عز وجل - وأكون من أهله:
واجعل نيتك أخي القارئ أن تصل بالقراءة إلى محبة مُنزِل القرآن الرحيم الرحمن جل جلاله، فقد أخرج الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ بِـ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، فَلَمَّا رَجَعُوا ذكروا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، ‌فَأَنَا ‌أُحِبُّ ‌أَنْ ‌أَقْرَأَ ‌بِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ[3].

فإذا أحبَّك الله أصبحت في معيته الخاصة، وصرت من أهله وخاصته؛ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ"، قَالَ: قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ ‌أَهْلُ ‌اللهِ ‌وَخَاصَّتُهُ"[4].

الحادي عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أكون سببًا في رحمة والدَيَّ:
إخوة أحباب من ثمرات قراءة وحفظ القرآن الكريم أنه يكون سببًا من أسباب رحمة الوالدين؛ قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟، فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، قَالَ: فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، ‌وَيُكْسَى ‌وَالِدَاهُ ‌حُلَّتَيْنِ، لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذَا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا"[5].

الثاني عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أُحفَظ من الزيغ والضلال:
فقد أخرج الحاكم والترمذي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع، فقال: إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في أرضكم، ولكن يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك ممَّا تحقِّرون من أعمالكم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدًا، كتاب الله وسنة نبيه"[6].

الثالث عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أنجو من فتنة القبر:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «‌سُورَةُ ‌تَبَارَكَ ‌هِيَ ‌الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»"[7].

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "‌يُؤْتَى ‌الرَّجُلُ ‌فِي ‌قَبْرِهِ فَيُؤْتَى رِجْلَاهُ فَيَقُولَانِ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلَنَا مِنْ سَبِيلٍ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى جَوْفُهُ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَيَّ سَبِيلٌ قَدْ كَانَ وَعَى فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: لَيْسَ لَكُمْ عَلَى مَا قِبَلِي سَبِيلٌ كَانَ يَقْرَأُ فِيَّ سُورَةَ الْمُلْكِ "، قَالَ عَبْدُ اللهِ: «فَهِيَ الْمَانِعَةُ تَمْنَعُ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَهِي فِي التَّوْرَاةِ هَذِهِ سُورَةُ الْمُلْكِ مَنْ قَرَأَهَا فِي لَيْلَةٍ أَكْثَرَ وَأَطْيَبَ»[8].

الرابع عشر: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى أنجو من عذاب النار:
فالعبد يسعى بكل ما يستطيع لكي ينجو من عذاب النار، وقد كتب الله تعالى لمَن حفظ القرآن ابتغاء وجهه ألا تَحرقه النار.

فقد أخرج البيهقي عن عصمة بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي ‌إِهَابٍ ‌مَا ‌أَحْرَقَهُ الله بِالنَّارِ"[9].

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ الْمُعَلَّقَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يُعَذِّبَ ‌قَلْبًا ‌وَعَى ‌الْقُرْآنَ"[10].

الخامس عشر: أَقْرأُ القرآن وأحافظ على قراءته حتى يشفع لي يوم القيامة:
معاشر الموحدين، من ثمرات قراءة القرآن الكريم أنه يكون شفيعًا لأهله يوم القيامة؛ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "القرآن ‌مشفع ‌وماحل ‌مُصَدَّقٌ مَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ ومن جعله خلف ظَهْرِهِ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ"[11].

ماحلٌ: ساع، وقيل: خصم مجادل.

إن القرآن عباد الله إما أن ينتفع به صاحبه، فيكون حجة له، وذلك إذا قام به حقَّ القيام، وإما ألا ينتفع به، فيكون حجة عليه، وذلك إذا لم يقم بحقه، فمن جعل القرآن أمامه مقتديًا به، يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه لا يعمل به ساقه إلى النار، والعياذ بالله.

السادس عشر: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى يكون سبيل لدخول الجَنَّة إن شاء اللهتعالى.
وها هي سروة من سور القرآن الكريم تدافع عن صاحبها حتى تدخله الجنة؛ أخرج الطبراني في "الأوسط" عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «سُورَةٌ مِنَ ‌الْقُرْآنِ ‌مَا ‌هِيَ ‌إِلَّا ‌ثَلَاثُونَ آيَةً خَاصَمَتْ عَنْ صَاحِبِهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ"[12].

(خاصمت عن صاحبها)؛ أي حاججت عنه ودافعت، (حتى أدخلته الجنة) بعد منعه عن دخولها.

السابع عشر: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى أرتقي في أعلى الدرجات في الجَنَّة:
بل يرتقي الإنسان في الجنة بقدر حفظه للقرآن، فعدد درجات الجنة بعدد أي القرآن الكريم، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: اقرأْ وارقَ ورتِّل كما كنت تُرتل في الدنيا، فإن منزلكَ عند آخر آية تقرأ بها"[13]؛ قال ابن حجر الهيثمي كما في "الفتاوى الحديثة" (156): الخبر المذكور خاص بمن يحفَظه عن ظهر قلب، لا بمن يقرأ بالمصحف؛ لأن مجرد القراءة في الخط لا يختلف الناس فيها ولا يتفاوتون قلة وكثرة، وإنما الذي يتفاوتون فيه كذلك هو الحفظ عن ظهر قلب فلهذا تفاوتت منازلهم في الجَنَّة بحسب تفاوت حِفْظِهم؛ قال أبو سليمان الخطابي في "معالم السنن": جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجَنَّة، فيقال للقارئ: "ارْقَ في الدَّرج على قدر ما كنت تقرأ في آي القرآن"، فمن استوفى جميع القرآن استولى على أقصى درج الجَنَّة في الآخرة، ومَن قرأ جزءًا منه كان رقِيُّه في الدرج على قدر ذلك؛ فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.

الثامن عشر: أَقْرأُ القرآن حتى أكون في أعلى الجنات مع السفرة الكرام:
فحين يفتخر أهل الدنيا بانتسابهم إلى العظماء والوجهاء والأغنياء، فإن حافظ القرآن يفتخر بأنه سيكون مع السفرة الكرام البررة الذين اختارهم الله عز جل، وشرَّفَهم بأن تكون بأيديهم الصحف المطهرة، كما قال رب العالمين في كتابه الكريم: ﴿ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ﴾ [عبس: 13-15].

فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وَيَتَتَعْتَعُ فيه وهو عليه شاق له أجران"[14].

وبعد هذا الشرف والتكريم الذي ناله أهل القرآن يتضح لنا قول الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: الثابت في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا ‌حَسَدَ ‌إِلَّا ‌عَلَى ‌اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ"[15].

فهيَّا لنكون من أهل القرآن، وهذه هي التجارة مع الله المضمونة الرابحة التي يعطى الله عليها من فضله الكريم وعطائه الذي لا ينفَد؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29- 30].

التاسع عشر: أَقْرأُ القرآن وأحافظ على قراءته حتى لا أُرَدَّ إل أرذل العمر:
فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "مَن قرأ القرآن لم يُرَدَّ إلى أرذل العمر، وذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [التين: 5-6]، قال: الذين قرؤوا القرآن"[16].

العشرون: أَقْرأُ القرآن وأحفظه حتى أَحفَظ من فتنة الدجال:
فقد أخرج الإمام عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ ‌الْكَهْفِ، ‌عُصِمَ ‌مِنَ ‌الدَّجَّالِ"[17].

المراد عباد الله أنَّ حفظ عشر هذه الآيات من سورة الكهف يكون عاصمًا من فتنة المسيح الدَّجَّال، الذي يخرج في آخر الزمان مدَّعيًا الألوهية لخوارق تظهر على يديه.

سبب ذلك ما فيها من العجائب والآيات، فمن تدبَّرها لم يفتتن بالدجال، أقول: ويمكن أن يقال: إن أولئك الفتية كما عصموا من ذلك الجبار، كذلك يعصم الله القارئ من الجبارين، اللهم اعصمنا منهم وبدِّد شملهم.





[1] «مسند أحمد» (28/ 320 ط الرسالة)، «وأخرجه مسلم (807)».

[2] «مسند أحمد» (1/ 530 ط الرسالة) «وأخرجه ابن ماجه (211)، والبزار (396)، والنسائي في "الكبرى"، (8073)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2205)، وأخرجه البخاري (5027) و(5028)، وأبو داود (1452)، والترمذي (3131) و(3132).

[3] رواه البخاري (7375). ومسلم (813) والنسائي (171/ 2).

[4] «سنن ابن ماجه ت الأرنؤوط» (1/ 146): «وأخرجه النسائي في "الكبرى" (7977)».

[5] «مسند أحمد» (38/ 42 ط الرسالة): «فضائل القرآن" ص 84-85، وابن أبي شيبة في "مسنده" كما في "إتحاف الخيرة" (7979)».

[6] «السنن الكبرى للبيهقي» (10/ 194).

[7] أخرجه أيضًا: أبو نعيم في الحلية (7/ 248)، (صحيح) انظر حديث رقم: 3643 في صحيح الجامع.

[8] «المعجم الكبير للطبراني» (9/ 131) انظر صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب: 1475 ، 1589.

[9] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 555، رقم 2700) . (حسن) انظر حديث رقم: 5266 في صحيح الجامع.

[10] «مسند الدارمي - ت حسين أسد» (4/ 2092) وأخرجه ابن أبي شيبة (11/ 505، 10128).

[11] «صحيح ابن حبان» (1/ 332) (صحيح) انظر حديث رقم: 4443 في صحيح الجامع.

[12] أخرجه الطبراني في الأوسط (4/ 76، رقم 3654)، والضياء (5/ 114، رقم 1738) وقال: إسناده حسن. وأخرجه أيضًا: الطبراني في الصغير (1/ 296، رقم 490) قال الهيثمي (7/ 127) : رجاله رجال الصحيح.

[13] (1) الترمذي (2914)، وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود (1464). وقال الألباني في صحيح الترمذي (2329): حسن صحيح.

[14] أخرجه عبد الرزاق (2/ 491، رقم 4194)، والبخاري (4/ 1882، رقم 4653)، ومسلم (1/ 549، رقم 798).

[15] أخرجه البخاري في صحيحه، في فضائل القرآن، باب اغتباط صاحب القرآن، ح 5025.

[16] نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم - النسخة المسندة ط-أخرى (3/ 474).

[17] أخرجه مسلم (809) (257)، وأبو داود (4323).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 18-03-2024, 04:30 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس السابع: ثمرات الاتباع العشر

السيد مراد سلامة

الحمد لله الغفور الذي ستَر بستره وأجمل، الشكور الذي عم ببره وأجزل، الرحيم الذي أتم إحسانه على المؤمنين وأكمل، الواحد الأحد القدوس الصمد الأول المنفرد بالعز والكمال، فلا ينتقص عزُّه ولا يتحول، الحي العليم القدير السميع البصير المتكلم بكلام قديم لا يتغير ولا يتبدل، أحمده على ما أنعم وأكرم وتفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وحبيبه الذي أوحى إليه الكتاب ونزَّل، ونَهج للمتقين طريق الهداية وسهَّل.

أما بعد، فحيَّاكم الله أيها الأخوة الأفاضل، وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله الحليم الكريم جل وعلا الذي جمعني مع حضراتكم في هذا البيت الطيب المبارك على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه..

أما بعد، فيا أحباب الحبيب صلى الله عليه وسلم، نقف اليوم مع ثمرات الاتباع العشر، وقد ذكرت عشر ثمرات لمن اتبع خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا رب حمدًا ليس غيرك يُحمد
يا من له كلُّ الملائك تسجدُ
أبواب كلِّ مُمَلك قد أوصدت
ورأيت بابك واسعًا لا يوصَدُ
المؤمنون بنور وجهك آمنوا
عافوا لوجهك نومَهم فتهجَّدوا
قالوا الهوى والحب هل تَعْنُوا له
أم أنت في ضرب الهوى مُتجَلِّد
قلت المحبة للذي حمل الهدى
فحبيبُ قلبي في الحياةِ محمدُ



اعلم زادك الله علمًا أن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم، وأوجب علينا الإيمان به وبما جاء به، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [التغابن: 8]، وقال سبحانه ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الفتح: 8]، وقال ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

فهذه الآيات دالة دلالة واضحة على وجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به؛ يقول القاضي عياض رحمه الله: وأما وجوب طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه فيما جاء به، وجبت طاعته؛ لأن ذلك مما أتي به قال الله تعالى، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20]، وقال: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32]، وقال: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ﴾ [النور: 54]، وقال: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80]، وقال: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]، وقال: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]، وقال: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 64].

فجعل الله تعالى طاعة رسوله طاعته، وقرَن طاعته بطاعته، ووعد على ذلك بجزيل الثواب، وأوعد على مخالفته بسوء العقاب، وأوجب امتثال أمره واجتناب نهيه، وقال المفسرون والأئمة: طاعة الرسول التزام سنته واجتناب نهيه، قالوا: وما أرسل الله من رسول إلا فرض طاعته على من أرسله إليه، قالوا: مَن يُطع الرسول في سنته يطع الله في فرائضه، وسُئل سهل بن عبد الله عن شرائع الإسلام، فقال: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]؛ قال السمر قندي: يقال: أطيعوا الله في فرائضه والرسول في سنته، وقيل أطيعوا الله في ما حرَّم عليكم، والرسول في ما بلغكم[1].

ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصا الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أمير فقد عصاني[2].

وهيا لنرى الفوائد الجمة في اتباع النبي والاقتداء به.

أولًا: أن اتباعه والاقتداء به صلى الله عليه وسلم سببٌ من أسباب محبة الله تعالى:
معاشر الموحدين، من أجل الثمار لاتباع النبي المختار صلى الله عليه وسلم محبة العزيز الغفار، وكفى بها عطيةً وجائزة؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]؛ يقول بن رجب - رحمه الله -: عن الحسن البصري: كان ناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقولون يا رسول الله، إنا نحب ربنا شديدًا، فأحب الله أن يجعل لمحبة علمًا، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، قد قرن الله بين محبته ومحبة رسوله في قوله: ﴿ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [التوبة: 24].

كما قال الجنيد وغيره من العارفين: الطرق إلى الله كلها مسدودة إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: ومن فوائده إتباعه صلى الله عليه وسلمالهداية إلى الصراط المستقيم:
أمة الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158]، فطرق الهداية كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ قال الجنيد - رحمه الله -: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم.

وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق، واستفتحوا من كل باب، ما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك، وصدق الله إذ قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المؤمنون: 73].

ثالثًا: الجزاء العظيم لمن أحيا سنة النبي صلى الله عليه وسلم واعتصم بها:
أيها الإخوة الأحباب، لقد كثُر خيرُ ربنا وطاب، فها هو الجزاء العظيم لمن أحيا سنة النبي الأمين، فالاعتصام بالسنة يعدل الشهادة في سبيل الله مائة مرة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتمسك بسنتي عند فساد أمتي، له أجر مائة شهيد[3].

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحيا سنتي فقد أحياني، ومن أحياني كان معي في الجنة [4].

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العلم ثلاثة فما سوى ذلك فهو فضل، أية محكمة أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة[5].

رابعًا: الفوز العظيم لمن أطاعه واقتدى به:
ومن ثمرات الاتباع أيها الأحباب: الفوز العظيم، وعندما يصفه الله تعالى بأنه فوز عظيم، فاعلم أن الله أعد لأهله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ يقول سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، ويوضِّح سبحانه ذلك الفوز في قوله: ﴿ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا ﴾ [النبأ: 31 - 34].

خامسًا: أن إتباعه صلى الله عليه وسلم سبب من أسباب الرحمة:
معاشر المحبين، إن من ثمرات الاتباع أن تنهال عليه الرحمات وتتنزل عليه الخيرات من الله تعالى، فأهل اتباعه هم أوفرُ الناس حظًّا برحمة الله تعالى، فالله تعالى وعد ووعده الصدق، وقال وقوله الحق أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه جعل الحظ الأوفر لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].

إنها الرحمة المعبر عنها في الحديث، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمَ: "لِلَّهِ ‌مِائَةُ ‌رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْإِنْسِ، وَالْجِنِّ، وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ"[6].

سادسًا: أن إتباعه سبب من أعظم أسباب الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة:
أخي المسلم، كلٌّ يسعى في هذه الحياة من أجل النجاح والفلاح، ولكن كثيرًا من الناس يخطؤون طرقَهم، وتتفرق بهم السبل، ولكن المؤمن الحصيف هو الذي يعي أن الفلاح والنجاح إنما هو في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فمن دخل مدرسة النبوة وتربى على أخلاقها، ونهل وعبَّ مِن مَعينها، فهو من الناجحين الرابحين؛ يقول سبحانه وتعالى: ﴿ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].

ما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والاقتداء بهدية[7]:
أما ما ورد عن السلف والأئمة من اتباع سنته والاقتداء بهدية وسيرته، فحدثنا رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر، ولا نجد صلاة السفر؟ فقال ابن عمر: يا بن أخي، إن الله بعث إلينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئًا، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل [8].

وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سننًا لأخذ بها تصديقًا بكتاب الله، واستعمالًا بطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، من اقتدى بها فهو مهتدٍ، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله تعالى ما تولَّى، وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا[9].

وقال ابن شهاب: بلغنا عن رجال من أهل العلم قالوا: الاعتصام بالسنة نجاة[10].

[1] الشفاء بتعريف حقوق المصطفى ج2 ص10.

[2] أخرجه البخاري (3/ 1080، رقم 2797)، ومسلم (3/ 1466، رقم 1835)، والنسائي (7/ 154، رقم 4193)، وابن أبي شيبة (6/ 418، رقم 32529)، وأحمد (2/ 252، رقم 7428)، وابن ماجه (2/ 954، رقم 2859).

[3] صحيح وفيه محمد بن صالح العدوي قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 172 وضعفه الألباني في المشكاة ح 176

[4] أخرجه الطبراني في الأوسط ح 9439.

[5] أخرجه الحاكم ح 7949، والحارث في مسنده ح 58، وضعفه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - (6 / 104).

[6] البخاري (6469)، مسلم (2752/ 18).

[7] الشفا ج2 ص 18 – 21 باختصار .

[8] الأوسط لابن المنذر - (رقم 2206) وغوامض الأسماء المبهمة - (2 / 606).

[9] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي - (رقم 449) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (رقم 118) إبطال التأويلات - (رقم 26).

[10] المدخل إلى السنن الكبرى للبيهقي - (2 / 230) رقم (708) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي - (رقم 11) العواصم من القواصم - (ص 267).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 19-03-2024, 02:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس الثامن: تابع ثمرات الاتباع

السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي لا يُسأل عما يفعل، فلا تيئَس من رحمته ولا تعجَل، فسبحانه من أقبل بجوده وبرِّه على من رجع إليه وأقبَل، ورأى زلة المسيء وجنح الظلام مُسبل، فعامله برأفته وتجاوَز عنه برحمته وأمهَل، وجعل للقبول والفضل أوقاتًا ليتدارك المقصر ما ضيَّع وأهمَل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، شهادة عبد خضَع لهيبته وتذلَّل، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيُّه من خلقه وحبيبه، أما بعد:
فحيَّاكم الله تعالى وبيَّاكم، تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وخالص الأعمال، أما بعد، فقال الشاطبي رحمه الله تعالى: «إن الصحابة كانوا مقتدين بنبيِّهم صلى الله عليه وسلم، مهتدين بهديه، وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم، وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، فقال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبينة له، فالمتبع للسنة متَّبع للقرآن، والصحابة كانوا أولى النّاس بذلك، فكلُّ من اقتدى بهم فهو من الفرقة النّاجية الدّاخلة للجنّة بفضل الله، وهو معنى قوله عليه الصّلاة والسّلام: «ما أنا عليه وأصحابي»، فالكتاب والسّنّة هو الطّريق المستقيم، وما سواهما من الإجماع وغيره فناشئ عنهما»)[1].

سابعًا: دخول الجنة:
أخي المسلم، من ثمرات الاتباع دخول الجنة؛ عَنْ أَبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «‌كُلُّ ‌أُمَّتِي ‌يَدخُلُونَ الجَنَّةَ إلَاّ مَنْ أبَى، قيلَ: وَمَنْ يَأبَى يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى»[2].

وقال الطيبي: ومن أبى عطف على محذوف؛ أي: عرفنا الذين يدخلون الجنة، والذي أبى لا نعرفه، وكان من حق الجواب أن يقال من عصاني، فعدل إلى ما ذكره تنبيهًا به على أنهم ما عرَفوا ذاك ولا هذا، إذ التقدير من أطاعني وتمسك بالكتاب والسنة، دخل الجنة، ومن اتبع هواه وزل عن الصواب، وتخلى عن الطريق المستقيم، دخل النار، فوضع أبى موضعه وضعًا للسبب موضع المسبب (3).

ثامنًا: العزة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والذل والصغار على من خالف أمره:
معاشر المحبين، إن من ثمرات الاتباع العزة والرفعة في الدنيا والآخرة، ومن أثار الابتداع الذل والصغار، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بُعِثْتُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بِالسَّيْفِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ‌وَجُعِلَ ‌الذِّلَّةُ ‌وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ[3].

هذا يدل على أن العزة والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لامتثال متابعة أمر الله؛ قال تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [سورة النساء: 80].

وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [سورة المنافقون: 8]، وقال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ﴾ [سورة فاطر: 10].

تاسعًا: الحياة الإيمانية:
فالاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم دليلُ حبِّه؛ كما أن ثمرته غفران الذنوب، وفي اتباعه صلى الله عليه وسلم فلاح العبد ونجاحه؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال: 24].

فأمر الله المؤمنين بأن يستجيبوا للرسول، فيما أمرهم ونهاهم، وذلك الحياة الطيبة؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: إذ الحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهرًا وباطنًا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه بقية الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول[4].

عاشرًا: شرط قبل الأعمال:
وهو موافقةُ العمل لسنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]، وقال اللهُ تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الحشر: 7]، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "‌مَنْ ‌أَحْدَثَ ‌فِي ‌أَمْرِنَا ‌هَذَا ‌مَا ‌لَيْسَ مِنْهُ[5]؛ أي: مَن خالَف سنَّةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في العبادةِ، فعملُه غيرُ مقبول.

قصص من حرص السلف على الاتباع:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم"[6].

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعها عن يساره فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا"[7].

وفي رواية عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟"، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا إذا جاء أحدكم إلى المسجد، فلينظر فإن رأى في نعليه قذرًا أو أذى، فليمسحه وليصلِّ فيهما"[8].

وعن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد ابنتها مسكتان (أي سواران) غليظتان من ذهب، فقال لها: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ قال: فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: هما لله عز ولرسوله[9]، عن عائشة رضي الله عنه، قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لَما أنزل الله ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 31]، شَققنَ مُروطهنَّ فاختمرنَ بها، وقال أيضًا: حدثنا أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنه، كانت تقول: لَما نزلت هذه الآية ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾، أخذن أزرهنَّ، فشققنَها من قِبَل الحواشي فاختمرنَ بها.

أبو بكر الصديقرضي الله عنه يرسم منهجه في الحكم اتباع واقتداء طاعة لا معصية:
لما تولى الخلافة رضي الله عنه تكلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس، فإني وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أساءت فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح[10] عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمَّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله[11].

حرص عمر رضي الله عنه على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم:
ومن صور حرصه رضي الله عنه على الاتباع والاقتداء أنه كان يحج بيت الله الحرام ويطوف به، حتى إذا وقف على الحجر الأسود فقال: كما عند البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبَّل الحجر الأسود وقال: لو لا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبَّلتك[12]، وفي رواية أخرى قال: أما والله أني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتُك.

قال الحافظ بن حجر: قال الطبري: إنما قال ذلك عمر؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام، فخَشِيَ عمر أن يظن الجهال أن استلام الحجر من باب تعظيم بعض الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد عمر أن يعلِّم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته كما كان الجاهلية تعتقده بالأوثان.

[1] الاعتصام للشاطبي (2/ 252).

[2] أخرجه: البخاري في الصحيح 13/ 249، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (96)، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم- (2)، الحديث (7280).

[3] أخرجه ابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في "الشعب" (1199).

[4] الفوائد لابن القيم (ص88) بتصرف.

[5] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).

[6] أخرجه البخاري برقم (5530)، وأخرجه مسلم في اللباس والزينة باب في طرح الخواتم رقم (2093).

[7] رواه أبو داود؛ السلسلة الصحيحة برقم (284).

[8] رواه أبو داود والدارمي، مشكاة المصابيح برقم (766).

[9] أخرجه أبو داود (1/ 244) والنسائي (1/ 343) وأبو عبيد في الأموال رقم (1260) وإسناده حسن، وصححه ابن الملقن (65/ 1)، وتضعيف ابن الجوزي له في [التحقيق] (6/ 197/1) مردود عليه؛ آداب الزفاف (1/ 184).

[10] أريح: أراحه: أرجعه حقه.

[11] السيرة النبوية لابن هشام وقال ابن كثير في البداية: إسناده صحيح، ومصنف عبد الرزاق - (ح 20702)، الثقات لابن حبان - (2 / 157) الكامل في التاريخ - (1 / 361) وتاريخ الطبري - (2 / 238).

[12] أخرجه البخاري في: 25 كتاب الحج: 50 باب ما ذكر في الحجر الأسود.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20-03-2024, 01:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس التاسع: الإيثار خلق النبي المختار صلى الله عليه وسلم


السيد مراد سلامة


الحمد لله الذي نوَّر بجميل هدايته قلوب أهل السعادة، وطهَّر بكريم ولايته أفئدة الصادقين، فأسكَن فيها ودادَه، ودعاها إلى ما سبق لها من عنايته، فأقبلت مُنقادة، الحميد المجيد الموصوف بالحياة والعلم والقدرة والإرادة، نحمَده على ما أَولى من فضل وأفاده، ونشكُره معترفين بأن الشكر منه نعمة مستفادة.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه.

فضل الإيثار، إخوة الإسلام، اعلموا أن الإيثار خلق إسلامي رفيع دعا إليه ربنا - سبحانه وتعالى - وحث وأثنى على أهله في غير ما آية من كتابه، فقال الله تعالى مادحًا أوليائه: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].

قال الطبري: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ يَصِفُ الأَنْصَارَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ، مِنْ قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، يَقُولُ: وَيُعْطُونَ الْمُهَاجِرِينَ أَمْوَالَهُمْ إِيثَارًا لَهُمْ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، يَقُولُ: وَلَوْ كَانَ بِهِمْ حَاجَةٌ وَفَاقَةٌ إِلَى مَا آثَرُوا بِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

وقال ابن كثير: أي: يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدؤون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك.

ويقول ابن تيمية: (وأما الإيثار مع الخصاصة، فهو أكمل من مجرد التصدق مع المحبة، فإنه ليس كل متصدق محبًّا مؤثرًا، ولا كل متصدق يكون به خصاصة، بل قد يتصدق بما يحب مع اكتفائه ببعضه، مع محبةٍ لا تبلغ به الخصاصة).

أحباب رسول الله ولن تصلوا إلى ذروة الإيمان إلا عن طريق سلم الإيثار؛ قال العزيز الغفار: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 92].

يقول السعدي: يعني: (لن تنالوا وتدركوا البر الذي هو اسم جامع للخيرات، وهو الطريق الموصل إلى الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، من أطيب أموالكم وأزكاها، فإن النفقة من الطيب المحبوب للنفوس، من أكبر الأدلة على سماحة النفس، واتصافها بمكارم الأخلاق، ورحمتها ورقتها، ومن أدل الدلائل على محبة الله، وتقديم محبته على محبة الأموال التي جُبلت النفوس على قوة التعلق بها، فمن آثر محبة الله على محبة نفسه، فقد بلغ الذروة العليا من الكمال، وكذلك من أنفق الطيبات، وأحسن إلى عباد الله، أحسن الله إليه ووفقه أعمالا وأخلاقا، لا تحصل بدون هذه الحالة).

والله تعالى أعد النعيم المقيم والدرجات العلى لمن اتصف بالإيثار، فقال الرحيم الرحمن: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴾ [الإنسان: 6 - 9].

وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 12، 13].

قال الفخر الرازي: (والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هنيء وحريرًا فيه ملبس بهي).[1]


ولقد رغَّب نبينا - صلى الله عليه وسلم- في الإيثار، وحث أصحابه، ومدح أهله، فها هو -بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم يمد الأشعريين - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني، وأنا منهم))[2].

النبي صلى الله عليه وسلم من وصفه ربه بالكمال والجمال، ومن اعتلى قمة الأخلاق؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

فقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلممن جميع الأخلاق أوفر الحظ والنصيب، فما من خلق إلا وقد تربع المصطفى صلى الله عليه وسلم على عرشه، وعلا ذروة سنامه، ففي خلق الإيثار كان هو سيد المؤثرين وقائدهم، بل وصل الحال به صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يشبع لا هو ولا أهل بيته بسبب إيثاره صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يؤثر بما عنده، فقد ثبت في الصحيحين أنه كان إذا جاءه ما فتح الله عليه من خيبر وغيرها من تمر وغيره، يدخر قوت أهله سنة، ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى، ثم كان مع ذلك إذا طرأ عليه طارئ، أو نزل به ضيف، يشير على أهله بإيثارهم، فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عندهم أو معظمه)[3].

الواقع التطبيقي في حياة الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد كان رسولنا الأسوة والقدوة الحسنة في كل عمل يحث عليه ويدعو إليه، وهاك مشهد من مشاهد الإيثار مشهد ينبض الإيثار.

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبُرْدَةٍ، فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ: أَتَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟ فَقَالَ الْقَوْمُ: هِيَ الشَّمْلَةُ، فَقَالَ سَهْلٌ: هِيَ شَمْلَةٌ مَنْسُوجَةٌ فِيهَا حَاشِيَتُهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، قَالَ يَعْقُوبُ: إِنِّي نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِي أَكْسُوكَهَا، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إزَارُهُ، وقَالَ أَبُو غَسَّانَ: فَلَبِسَهَا فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، مَا أَحْسَنَ هَذِهِ فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ قُتَيْبَةُ عَنْ يَعْقُوبَ: فَجَلَسَ مَا شَاءَ الله فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ: فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لاَمَهُ أَصْحَابُهُ، فقَالَوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ لِبَرَكَتِهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا؛ زَادَ يَعْقُوبُ: يَوْمَ أَمُوتُ، قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ[4].

المشهد الثاني مشهده صلى الله عليه وسلم وقد ألَمَّ به التعب والإرهاق، وظهر على وجهه الكريم علامات الجوع، فيذهب جابر - رضي الله عنه - ليعد له طعامًا له، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأبى إلا أن يكل الجميع من ذلك الطعام، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: "إِنَّا يَوْمَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاءُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ فِي الخَنْدَقِ، فَقَالَ: «أَنَا نَازِلٌ». ثُمَّ قَامَ وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقًا، فَأَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المِعْوَلَ فَضَرَبَ، فَعَادَ كَثِيبًا أَهْيَلَ، أَوْ أَهْيَمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي إِلَى البَيْتِ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مَا كَانَ فِي ذَلِكَ صَبْرٌ، فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: عِنْدِي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحَتِ العَنَاقَ، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ فِي البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَالعَجِينُ قَدْ انْكَسَرَ، وَالبُرْمَةُ بَيْنَ الأَثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ أَنْ تَنْضَجَ، فَقُلْتُ: طُعَيِّمٌ لِي، فَقُمْ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلاَنِ، قَالَ: «كَمْ هُوَ» فَذَكَرْتُ لَهُ، قَالَ: " كَثِيرٌ طَيِّبٌ، قَالَ: قُلْ لَهَا: لاَ تَنْزِعِ البُرْمَةَ، وَلاَ الخُبْزَ مِنَ التَّنُّورِ حَتَّى آتِيَ، فَقَالَ: قُومُوا " فَقَامَ المُهَاجِرُونَ، وَالأَنْصَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ قَالَ: وَيْحَكِ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ مَعَهُمْ، قَالَتْ: هَلْ سَأَلَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا» فَجَعَلَ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ وَالتَّنُّورَ إِذَا أَخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزِعُ، فَلَمْ يَزَلْ يَكْسِرُ الخُبْزَ، وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا وَبَقِيَ بَقِيَّةٌ، قَالَ: «كُلِي هَذَا وَأَهْدِي، فَإِنَّ النَّاسَ أَصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ»[5]؛ أخرجه البخاري.

العنصر الخامس: إيثار الصحابة الأطهار:
الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - جيل فريد، تخرَّج من أعظم جامعة عرفتها الدنيا؛ إنه تخرج من الجامعة المحمدية، من رباهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على عينه، فنهَلوا مِن مَعين أخلاقه وأفعاله - صلى الله عليه وسلم.

ضرب الصحابة أروع أمثلة الإيثار وأجملها، ومن يتأمل في قصص إيثارهم، يحسب ذلك ضربًا من خيال، لولا أنه منقول لنا عن طريق الأثبات وبالأسانيد الصحيحة الصريحة.

ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلًا أتى النّبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلنَ: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يضمُّ - أو يضيف- هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيِّئي طعامك وأصبحي سراجك، ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيَّأت طعامها وأصبحت سراجها، ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته فجعلا يريانه أنَّهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما، فأنزل الله ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر:9][6].

إيثار منبعه الإيمان:
المال للرجل الكريم ذرائعٌ
يبغي بهن جلائل الأخطار
والناس شتى في الخلال وخيرهم
من كان ذا فضلٍ وذا إيثار


أقبل المهاجرون إلى المدينة لا يملكون من أمر الدنيا شيئًا، قد تركوا أموالهم وما يملكون خلف ظهورهم، وأقبلوا على ما عند الله عز وجل يرجون رحمته ويخافون عذابه، فاستقبلهم الأنصار الذين تبوؤا الدار، وأكرموهم أيما إكرام، ولم يبخلوا عليهم بشيء من حطام الدنيا، بل قاسموهم الأموال والزوجات... في صورة يَعجِز عن وصفها اللسان، ويضعف عن تعبيرها البيان:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لما قدِم المهاجرون المدينة، نزلوا على الأنصار في دورهم، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا مثل قوم نزلنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أبذل في كثيرٍ منهم، لقد أشركونا في المهنأ، وكفونا المؤنة، ولقد خشِينا أن يكونوا ذهبوا بالأجر كله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا ما دعوتُم الله لهم وأثنيتم به عليهم))[7].

وهذا عبد الرحمن بن عوف لَما قدم المدينة آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرَض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال له: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السّوق...))[8].

إيثار... حتى عند الموت:
أُسد ولكن يؤثرون بزادهم
والأُسد ليس تدين بالإيثار
يتزيَّن النادي بحسن وجوههم
كتزيُّن الهالات بالأقمار


[1] تفسير الرازي (16/ 227).

[2] أخرجه البخاري في: 47 كتاب الشركة: 1 باب الشركة في الطعام والنهد والعروض.

[3] البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج (45/ 139).

[4] أخرجه البخاري في: باب البردة والشملة والحبرة من كتاب اللباس (5810)، وفِي بَابِ حسن الخلق والسخاء وما يكره من البخل (6036)، وفِي بَابِ النساج من البيوع (2093).

[5] رواه البخاري 7 / 304 و305 في المغازي، باب غزوة الخندق، وفي الجهاد، باب من تكلم بالفارسية، ومسلم رقم (2039) في الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك.

[6] أخرجه البخاري3798 في مناقب الأنصار: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾، وأخرجه مسلم2054 في الأشربة: باب إكرام الضيف وفضل إثارة.

[7] رواه الضيَّاء في ((المختارة)) (5/290) مِن حديث أنس رضي الله عنه. وصحَّح سنده البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (7/325).

[8] رواه البخاري (2048) مِن حديث عبد الرَّحمن بن عوف رضي الله عنه.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 21-03-2024, 01:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,403
الدولة : Egypt
افتراضي رد: دروس رمضانية السيد مراد سلامة

الدرس العاشر: التقوى غاية الغايات

السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي تفرَّد بعز كبريائه عن إدراك البصائر، وتقدَّس بوصف علاه عن الأشباه والنظائر، وتوحَّد بكمال جبروته، فلا العقل في تعظيمه حائر، وتفرَّد في ملكوته، فهو الواحد القهار الأول قبل كل أول، الآخر بعد كل آخر، الظاهر بما أبدع، فدليل وجوده ظاهر، الباطن فلا يخفى عليه ما هجس في الضمائر.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى، الرحمة المهداة والنعمة المسداة، صاحب المقام المحمود والحوض المورود، والشفاعة العظمى، سيد الأولين والآخرين على الله ولا فخر.

اعلم أن الزمان لا يثبت على حال؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾[آل عمران: 140]، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي.

فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى، زانته، وإن افتقر، فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي، تمت النعمة عليه، وإن ابتلي، جملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه، أو أشبعه، أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة، حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، ويواقف على الحدود.

والمنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى، فإنها ستحول، وتخليه خاسرًا[1].

بين يدي التقوى:
إن التقوى قد عرَّفها العلماء بتعريفات كثيرة، نذكر منها تعريف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الله عنه؛ سئل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عن التقوى التي هي ثمرة الصيام فقال: "هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل".

وقال الإمام الغزالي: "التقوى كنز عظيم، فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر، ورزق كريم، وملك عظيم، لأن خيرات الدنيا والآخرة جُمعت فيها".

وقال داود بن نصر الطائي: "ما خرج عبد من ذل المعاصي إلى عز التقوى: إلا أغناه الله بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا جليس".

الغاية من إرسال الرسل تقوى:
واعلموا عباد الله أن التقوى هي الغاية من إرسال الرسل، نلمس ذلك جليًّا في سورة الشعراء، فضلًا عن أمثلة في سور: البقرة، والأعراف، والمؤمنون؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف: 65]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [المؤمنون: 23].

الغاية من إنزال الكتب تقوى:
واعلموا عباد الله أن الغاية من إنزال الكتب هي الوصول إلى التقوى، فالقرآن الكريم كتاب هداية يأخذ بأيدي الحيارى والسكارى إلى رب الباري، ويوصلهم إلى الغاية العظمى؛ قال الله جل جلاله: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 1، 2].

والله سبحانه وتعالى قال: ﴿ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي: إن هذا القرآن هدى للجميع، فالذي يريد أن يتقي عذاب الله وغضبه، يجد فيه الطريق الذي يحدد له هذه الغاية، فالهدى من الحق تبارك وتعالى للناس جميعًا، ثم خص مَن آمن به بهدى آخر، وهو أن يعينه على الطاعة.

العبادات الغاية منها التقوى:
اعلموا أيها الأحباب أن الغاية من العبادات تحصيل تقوى الله تعالى؛ قال جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة 21].

"تتقون" من "الوقاية" أن تجعلوا بينكم وبين النار وقاية، وتجعلوا بينكم وبين العذاب وقاية، فالمعنى أن تعبدوا الله تعالى حتى تتقوا النار وتتقوا العذاب، ليس هذا فحسب ولكن تتقوا كل مضار الحياة.

أو تعبدوا الله، لَعَلَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ صُوَرِ الْبَشَرِيَّةَ، وهي صُورَةُ الْعَابِدِينَ لِلَّهِ، الْمُتَّقِينَ لِلَّهِ.

الصلاة وتقوى الله تعالى:
الصلاة من أهم ثمراتها أنها تنهاه عن فعل المحظورات وتأمره بالفعل المأمورات؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]؛ قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في الصَّلاةِ مُنتهى ومُزدجرٌ عن مَعَاصي الله تعالى، فمَن لم تأمْره صلاتُه بالمعروفِ ولم تنهَه عن المنكرِ لم يزددْ بصلاتِه من الله تعالى إلا بُعدًا.

وقال الحسنُ وقَتادةُ من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر فصلاتُه وبالٌ عليه.

تحقيق تقوى الله بالزكاة:
الزكاة عبادة مالية يتقرب بها العبد لربه عز وجل؛ حيث إنها تزكِّي النفس، وتطهِّرها من البخل والشح، وتزكي المال بالزيادة والبركة، وتضاعف لهم الأجر، والثواب، ويتجلى معنى التقوى في الزكاة حينما ينفق الإنسان من أغلى ما يحب بصدق، وإخلاص حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه يريد بذلك وجه الله – تعالى - والحصول على مرضاته، ولعل السر في ذلك أنه ينفق ماله ليحصل على التقوى، فهو يزكي ماله؛ لأنه يعلم أن في هذا المـال حـق لغيره، وليست منة يَمُنُّها على الفقراء والمحتاجين، بل هو واجب عليه، وحق لغيره، وبذلك يتبيَّن لنا أن الزكاة تحقق التقوى، وخاصة في هذا العصر، وقد انتشرت المعاصي وكثـرت الآثـام بسبب ضعف وازع التقوى، فبالزكاة نصل إلى التقوى؛ يقول ربنا سبحانه مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾ [التوبة: 103]، إنها ليست ضريبة تجبى إلى خزينة الدولة ولا إتاوة تنتزع من الإنسان عَنوة وهو كاره، وليست إحسانًا يلقيه الغني إلى الفقير، ولكنها عبادة يؤديها الغني وهو يستشعر حاجته إلى إخراجها؛ كحاجة المريض إلى الدواء، إنها لا تداوي البدن، ولكنها تداوي النفس، وتهذب البخل، وتقلِّم أظافر الشح، وتزكِّي في النفس بواعث العطاء والبذل والتضحية، وتملأ القلب بالخشية، أن يكون مصيره مصير هؤلاء الذين يشقون بأموالهم ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 35].

وهذه الخشية التي تملأ القلب هي أساس التقوى.

صيام رمضان وتحصيل التقوى:
وكتب الله تعالى علينا الصيام لغاية عظمى وهي التقوى؛ قال الله جل جلاله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يَعُد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالًا لأمره واحتسابًا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصيام نصف الصبر))؛ رواه ابن ماجه وصححه في الجامع الصغير.

فالصيام عبادةٌ تقوِّي الوازع الإيماني وتعزِّزه لدى المسلم، فتمنعه من الوقوع في المحرَّمات، أو التمادي فيها، وتشكِّل له حاجزَ وقايةٍ يحميه من تتبُّع الآثام والشرور، فالتقوى التي يحقِّقها الصيام تحمل النفس على الالتزام بما أمر به الله تعالى، واجتناب ما نهى عنه، فتحميها من ارتكاب ما يؤدِّي بها إلى الهلاك والخسران، وتجنِّبها التعرُّض لسخط الله، وعذابه في الآخرة.

في الحج والعمرة وتحصيل تقوى الله:
إخوة الإسلام الحج عبادة من أجلِّ العبادات التي ربطها الله تعالى بالتقوى، ولنقف مع بعض المواضع والآيات التي وردَ فيها الأمر بالتقوى أو الحث عليها أو الإشارة إليها، ففي آية الأمر بإتمام الحج والعمرة ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ ختم الله الآية بقوله: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196]، وفي الآية التي بعدها ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾، ختمت الآية بقوله سبحانه: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ وأكد ذلك بقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، ثم ختم آيات الحج في سورة البقرة بقوله: ﴿ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ لِـمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]..

فتأمل تَكرار التقوى في كل آية، وفي المائدة ختم أحكام الصيد بقوله: ﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [المائدة: 96]، وافتتح سورة الحج بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [الحج: 1]، ولما بدأ بالحديث عن الحج تكرر ذكر التقوى ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ [الحج: 37].

وعند التأمل في آيات الحج ﴿ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ﴾ [البقرة: 197]، وهذه أعمال ظاهرة بينة؛ نجده ختمها بقوله: ﴿ وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وسبقها ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾، ما يؤكد أنه دون التقوى لن يسلم الحاج من الجدل والرفث والفسوق، بل إن الآية التي ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾، تبيِّن حكم من اضطُرَّ إلى الإخلال بهذا الإتمام كالإحصار، وحلق الرأس بسبب الأذى وهو محرم؛ حيث بيَّن جزاء ذلك من الهدي والفدية، والبديل لذلك، وحيث إن هذه الأعمال الظاهرة لا يمكن تحقيق أدائها إلا إذا كان صاحبها مراقبًا لله في سره وعلانيته، وختم الآية بالأمر بالتقوى ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ ﴾،ثم هدد من لم يراعِ جانب التقوى بقوله: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196].

بل إن التعجل في الحج والتأجُّل عمل ظاهر، ومع ذلك قيد ذلك بقوله: ﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾، ثم أمر بالتقوى في ختام هذه الآية ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203].

ونجد أن نحر الهدي عمل ظاهر بارز، ومع ذلك جعل مدار قبول الدماء على تحقق التقوى ﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُـحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ [الحج: 37].

العلاقة بين البر والتقوى:
وها هو سبحانه يذكر لنا صفات أهل البر، وأنهم يحققون الإيمان بالله وملائكته، وكاليوم الآخر، ويتصدقون على الفقراء والمساكين، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصبرون على البأساء والضراء، ثم بيَّن أن هؤلاء هم الصادقون المتقون؛ قال تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْـمَشْرِقِ وَالْـمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْـمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْـمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].

لقد بدأت الآية الكريمة بالحديث عن حقيقة البر، ثم ذيَّلت بالحديث عن التقوى، وذلك لبيان أنه لن يقوم أحد بفعل أعمال البر الجليلة؛ حتى يتحقق قبل ذلك بمرتبة التقوى، وهي شرط رئيس للبر، ومرحلة سابقة له ومتقدمة عليه، فمن لم يتقِ الله تعالى في عمله بفعل ما أمر الله عز وجل به، وترك ما نهى عنه، لن يقبل الله جل ذكره منه الأعمال الزائدة على الواجب من أعمال البر؛ فالمرتبة الدنيا شرط للارتقاء إلى المرتبة العليا، وبيانًا لذلك قال الله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 189].

ومعنى الآية الكريمة أن إتيان المحرم بالحج أو العمرة البيوت من ظهورها، ليس من البر أصلًا، فهي بدعة لا أساس لها في الدين، وزيادة على الواجب غير مشروعة، ثم بيَّن تقدست أسماؤه أن البر المقبول عنده، والذي يكون بفعل خيرات وعبادات زائدات على الواجب، هو البر الذي يكون من المتقي، فمن كان متحققًا بمرتبة التقوى في العمل قُبلت منه زوائد العبادات والطاعات المشروعة: ﴿ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، واعتبرت له في صحيفة أعمال البر، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا ﴾ [البقرة: 189].

[1] صيد الخاطر (ص: 137).





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 227.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 221.67 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (2.57%)]