قصة عيسى ابن مريم عليه السلام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4957 - عددالزوار : 2061544 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4533 - عددالزوار : 1330154 )           »          ابتسامة تدوم مدى الحياة: دليلك للعناية بالأسنان في كل مرحلة عمرية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 44 )           »          كم يحتاج الجسم من البروتين يوميًا؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          أطعمة ممنوعة للمرضع: قللي منها لصحة طفلك! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          مكملات البروبيوتيك: كل ما تحتاج معرفته! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          التخلص من التوتر: دليلك لحياة متوازنة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 51 )           »          أطعمة مفيدة لمرضى الربو: قائمة بأهمها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 32 )           »          كيفية التعامل مع الطفل العنيد: 9 نصائح ذكية! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 34 )           »          كيف يؤثر التدخين على لياقتك البدنية وأدائك الرياضي؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث > ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم قسم يختص بالمقاطعة والرد على اى شبهة موجهة الى الاسلام والمسلمين

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 11-09-2022, 10:57 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (1)
د. محمد منير الجنباز




سنتعرَّض لسيرة عيسى عليه السلام من خلال استعراض الآيات الواردة في سورتي آل عمران ومريم، وتبدأ القصة من ولادة مريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 33 - 35]، الاصطفاء بمعنى الاختيار والصفوة، وقد بدأ بآدم وهو أبو البشر، ثم اصطفى من ولد آدم نوحًا، ثم اصطفى من ولد نوحٍ إبراهيمَ، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيلَ وإسحاق، واستمرت النبوة في ولد إسحاق حتى عيسى ابن مريم عليه السلام، ووالد مريم عمران الذي يرجع نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام، وكان خاتمُ الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل.

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فقد نذَرت مولودها عتيقًا خالصًا لخدمة بيت المقدس، متفرغًا من شواغل الدنيا، ورجَتْ من ربها أن يتقبل ذلك منها، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، وكان في نيتها أنَّ حملَها سيكون غلامًا؛ لأنه الأقدر على الخدمة، فلا يعتريه ما يعتري البناتِ من حيض وحجاب يمنعها من المخالطة للرجال، وهذا ما درج عليه مَن يهَب أو يحرِّر للخدمة في المسجد، ومع ذلك وفَّتْ بنذرها، وسمت المولودة مريم، وقامت هي بالأمر؛ لأن زوجها عمران قد توفي قبل أن تضع المولودة، وقد عوذتها بالله هي وذريتها من الشيطان الرجيم، فاستجاب الله لها ذلك، وقد ورد في الحديث الصحيح: ((ما من مولود إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا، إلا مريم وابنها))، ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: 37]، وقبِلها الله من أمها، وكان علامة ذلك أنه أنبتها نباتًا حسنًا، فكانت تنمو نموًّا مختلفًا عن أقرانها؛ جسمًا وعقلًا وخلقًا، فلما كملت أتت بها إلى الأحبار، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا في كفالتها؛ لأنها بنت إمامهم، فقال زكريا: أنا أحق بكفالتها؛ لأن خالتها تحتي، والخالة كالأم، فقالوا: لا حتى نقترع، وكانوا تسعة وعشرين حبرًا، فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقَوا فيه أقلامهم، على أن من يثبت قلمه في الماء يكون كفيلها، وهذا ما ذكرته الآية: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، وكانت النتيجة أن الماء قد جرف الأقلام ما عدا قلم زكريا، فتم له كفالتها، ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ولما كفلها كانت المعجزة؛ فلقد تكفل الله لها الرزق، فكان كلما جاء زكريا يتفقدها ليرى حاجتها يجد عندها رزقًا، وكما ذكر المفسرون، كان يجد أمرًا غريبًا، يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ لتتحقق المعجزة، فلا يظنن ظان أن أحدًا يأتيها بالطعام، فلما استبانت المعجزة لزكريا تجاه مريم، ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [آل عمران: 38]، وكانت الاستجابة لدعائه؛ فرُزق بيحيى، وأما مريم فكان لها شأن آخر، فلم تكن العناية بها من رب العالمين إلا لإعدادها لأمر مهم، ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]، فقد أخبرها جبريلُ بكيفيةٍ ما بأن الله اختارها؛ لطُهرها وعفافها وفضلها على نساء زمانها؛ فهي أفضلهن منزلة وتدينًا وقربًا من ربها؛ ولذلك كان حثها على زيادة الطاعة والسجود والركوع؛ أي: زيادة التقرب إلى الله بالصلاة والتسبيح، ثم كانت المفاجأة المدهشة لمريم، ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، فكانت البِشارة لمريم بهذا التغير الجديد مفاجأة مذهلة؛ لذلك كان وقع البشارة عندها في فتور وتساؤل وحساب دقيق لوضعها بين قومها، ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ [آل عمران: 47]، وفي سورة مريم: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 20]، سؤال وجيه رغم أنها صبية صغيرة لم تكن قد جربت هذا الأمر بزواج، وإنما هي تعلم أنه لا يكون حَمْلٌ إلا بممارسة جنسية، فكيف يكون هذا وهي تخشى بعد سمعتها الطيبة وتصوُّنها وعفافها أن تُتَّهَم بالزنا؟ وألسنة السوء جاهزة للانطلاق والخوض في عِرضها، فكان الهمُّ مسيطرًا عليها، فهي ليست بذات زوج، وليست من البغايا، وكان من تدينها أن اعتزلت أهلها واتخذت مكانًا شرقيًّا؛ حيث أصبحت في سن البلوغ وجاءها الحيض، ففي هذا المكان تخلع ثيابها للتطهر، وهو بعيدٌ عن أعين الناس وحركة مرورهم؛ صونًا لعِرضها، وتفرغًا للعبادة، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 16، 17]، فبعد هذا الحرص والتدين تحمل غلامًا! ماذا يقول قومها عنها؟ ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]، ومِن أجل هذا الأمر ليتمَّ ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17]، فتملَّكها خوف شديد؛ لذلك لجأت إلى الله واستعاذت به، ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 18] إن كنت من أهل التقوى فتنتهي عني وتتركني لشأني، وهو كذلك، ولكنه عبد مأمور، جاء لينفذ ما أُمِر به، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 19]؛ فالنقاش في هذا الأمر لا يجدي؛ فقد تقرر هذا من قبل قيام السموات والأرض، وأما الخوف من قيل وقال، فإن الله تكفل به، وأعَدَّ لإسكات ألسنة السوء معجزات تظهر لكل ذي عينين؛ لذلك أراده الله معجزة بذاته، ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21] هذا أمر قد قضاه الله وحتَّمه وقدَّره وقرَّره، فجرى فيه القضاء، وكتب له الوجود، ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 22، 23]، كانت الولادة في مدينة بيت لحم، كما ورد أن حملها كان ككل النساء، تسعةَ أشهُر، ولا اعتدادَ لقول مَن قال: تسع ساعات؛ لذلك كان لا بد لها من الابتعاد عن مجتمعها؛ لأن الحمل مع الوقت سيظهر بكبر البطن، وفي العادة فإنه لا يخفى أمر المرأة الحامل على الآخرين، وذكر أن أول من لاحظ عليها الحمل ابن خالها يوسف النجار، وكان يخدم معها في المسجد، فجعل يتعجب من ذلك عجبًا شديدًا؛ وذلك لِما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حُبلى، وليس لها زوج، فعرَّض لها ذات يوم في الكلام، فقال: يا مريم، هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، فمَن خلق الزرع الأول؟! ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: نعم، فمن خلق الشجر الأول؟ ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، قال لها: فأخبريني خبرك، فقالت: إن الله بشَّرني، ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، وكذلك فإن يوسف النجار رغم تديُّنه لم يسلم من التهمة بالخَلوة بمريم، وذكر أن خالتها لما زارتها قالت لها: إني حامل، وقالت مريم لها: وأنا حامل، ولما ضمتها إلى صدرها قالت: أشعر أن الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، وهذا تفسير قول يحيى: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 39]؛ لأن المسيح كلمة الله، والسجود هنا في ديانة مَن كان قبلنا للتعظيم، وليس للعبادة، وبالرغم من التطمين الذي قيل لمريم بأن لا تخاف، وأن الله معها، فإنها ظلت وجِلة خائفة، جللها الهم، وخامرها الخوف، فأحزانها بادية قلقة، وخطواتها متعثرة، وأفكارها مضطربة مما سينتظرها؛ لأن ما سيحصل لها بعد الإنجاب هو خلاف المعهود، وهي منزَّهة العِرض، حافظة الفَرْج والشرف، وكان أكثر ما يقلقها نظرات الآخرين المريبة ولمزات الأخريات؛ لذلك تمنت الموت، وألا تكون قد وُجدت على ظهر هذه الأرض، أو أن تكون نسيًا منسيًّا لم تخلق بعد، أو متاعًا متروكًا لا يأبه له أحد، وكانت في هذه اللحظة الحرجة بحاجة إلى التثبيت وبث الثقة في النفس، وأن الله هو الذي سخرها لهذا الأمر العظيم، وجعلها محضنًا لميلاد النبوة المعجِز، فكان هذا التثبيت من جبريل الذي كان يراقب ما يعتَوِرها، ويدرك جيشان خواطرها وما يعتمل في فِكرها من خيالات مخيفة تراودها بعد الولادة واستهلال الولد: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 24 - 26]، كان يريدها ألا تكون بائسة تنظر للأمر وكأنه خطيئة، وإنما يريد لها ولادة ميسرة، تلتفت فيها إلى نفسها من حيث إعطاؤها الاهتمام الكافي من الغذاء والماء، وأن تقر عينًا بهذا المولود الذي سيكسبها شرفًا أبديًّا، وأن ترفع بذلك رأسًا، وتشرف عزًّا، فلتلتفت الآن إلى غذائها الذي وفره الله لها، وهو المناسب لحالة الولادة، نخلة تحمل الرطب، وجدول ماء زلال قراح، وقد حار المفسرون من أين للنخلة هذا الرطب والولادة كانت في الشتاء، ولا بد لهذه الولادة المعجزة أن يرافقها آيات معجزة؛ كوجود هذا الرطب في مثل هذا الوقت؛ فهو لها غذاء طبيعي لا يحتاج لإجراء تحضير له، وهو أيضًا توجيه لمن بعدها من النساء إلى أهمية هذا الغذاء للائي يلِدْن، ومع ذلك لم يلغ دور العمل للإنسان ليحصل على المنفعة: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، ثم زودها بالرد الوافي الشافي إن سُئلت عن المولود، وستُسأل، ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وكان الصومُ عن الكلام في شريعتهم مشروعًا ومعمولًا به، وبعد الولادة الميسرة والتزوُّد بما وصاها به جبريل عقدت العزم وتوكلت على الله فحملَتْه عائدة إلى دارها، ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ [مريم: 27] حملَتْه جهارًا نهارًا ليشهده الناس، وهذا هو المقصد؛ لكي يتعرف عليه الناس منذ ولادته، وكان بإمكانها إخفاؤه، ولكن الله يريد هذا، فوقعوا فيها، واتهموها كما توقعت، فهذا الفعل بحقها - كما قالوا - ذنب كبير لا يغتفر، ثم ذكَّروها بأهلها وما كانوا عليه من الدين والأخلاق، ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28]، أنت من دوحة عظيمة، وعائلة كريمة، لم تقترف الإثم في حياتها، وأنت بفعلك هذا تشوِّهين تاريخ هذه الأسرة القويم، ونداؤهم لها بأخت هارون لا يستوجب أن يكون لها أخ اسمه هارون، ولكن نسبوها لرمز الشرف؛ فقد كان اسم هارون عندهم يعني السمو الروحي والديني، فكثرت التسمية به؛ لأن أمها يوم نذرت ولدًا للخدمة في المسجد لم يكن عندها ولد، فولدت مريم، ولو كان عندها ولد لوهبته للخدمة، وبعد هذا التقريع والتبكيت، ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 29]، لقد أفهمَتْهم أنها نذرت للرحمن صومًا عن الكلام، فانتبهوا إليه ما بين منكر لما أشارت إليه، وغير مصدق أنها تعني ما تقول، فكيف يكلمون صبيًّا ما زال في المهد وعمره لا يزيد عن أربعين يومًا؟! ولكن بهذا التوجه تحقق الأمر الثاني، وهو أن ينتبهوا ويقروا بأنه طفل في المهد جرت العادة أنه لا يتكلم، فسايروها على غير اقتناع منهم وسألوه: من أنت؟ ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]، سألوه: مَن أنت؟ فأفاض بالجواب الشامل الوافي، ولم يذكر أبًا؛ لأن الله خلقه من غير أب، ذكر أمه وحسب، ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ﴾ [مريم: 32]؛ فكل إنسان مطلوب منه بر الوالدين، وهو فقط مطلوب منه بر الوالدة؛ لأنه لا والد له، فقد أعطاهم تصورًا من بداية حياته ووظيفته في الدنيا وعمله خلال فترة حياته وطبيعة نفسه الرضية المتواضعة إلى أن يتوفاه الله، وذكر أنه لما ولد خرَّت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها، كما روي أنه ظهر نجم عظيم في السماء، وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك، فقالوا: هذا لمولد عظيم في الأرض، فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى هذا المولود، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عمَّ أقدمهم؟ فذكروا له عن ظهور النجم، ودلالة ذلك على ميلاد عظيم في هذه الديار، فسأل عن ذلك الوقت ومن ولد فيه، فقالوا: وُلد عيسى ابن مريم ببيت لحم، واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد، فأرسلهم إليه بما معهم، وسألهم عن سبب اختيار هذه الهدايا، فقالوا: الذهب سيد المتاع، والمولود سيد أهل زمانه، وأما المر فهو دواء يجبر فيه الجرح والكسر، وكذلك هذا المولود يشفي به الله كل سقيم، وأما اللبان فإن دخانه ينال السماء، ولا ينالها دخان غيره، وكذلك هذا المولود يرفعه الله إلى السماء، ولما سمع منهم قيمة هذا المولود حسَده وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا، فقيل لها: إن رسل ملك الشام جاؤوا ليقتلوا ولدك، فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت فيها اثنتي عشرة سنة.

ورد أن النصارى يتجهون إلى الشرق في صلاتهم إكرامًا لهؤلاء الذين أتوا بالهدايا من الشرق.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 11-09-2022, 11:00 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (2)
د. محمد منير الجنباز



فترة حياته قبل التكليف بالرسالة والبدء في الدعوة


ورد عند كتَّاب السير أن لمريم ابن عم اسمه يوسف النجار، وقيل: ابن خالها، وهو الأرجح - كان يعمل معها في خدمة المسجد في النظافة وتأمين المياه والفرش والصيانة - فلما رأى حالها وحال مولودها وهو يعرف طهارتها وتقواها من خلال العمل معها في المسجد - قرر أن يساعدها ويبعدها عن أعين بني إسرائيل؛ حفاظًا عليها وعلى ابنها من مكرهم، فأحضر حمارًا له فأركبها وابنها، واتجه بهما إلى مصر، وهذا وجه من أوجه تفسير الآية: ﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾ [المؤمنون: 50]، وقيل: بيت المقدس، وقيل: دمشق، وروي أن مريم مكثت في مصر اثنتي عشرة سنة حتى شب ولدها عيسى، وكانت تلتقط السنابل من الأرض بعد الحصاد فتجمع ما يتركه الناس استقلالًا له وتطعمه ولدها، وورد أنها نزلت في دار دهقان خصص غرفًا ضيافة للمساكين يقيمون فيها ما شاؤوا، وقد كان له خزنة في الحائط سرقت فحزن عليها، وحزنت مريم لحزنه، فقال عيسى لأمه: يا أمه، أتريدين أن أدله على ماله؟ قالت: نعم يا بني، قال: قولي له أن يجمع مساكين الدار، فقالت للدهقان، فجمعهم، فقال: هذا المُقعَد وهذا الأعمى، لقد حمل الأعمى المُقعَد على عاتقه فوصل إلى الخزانة فسرقها، فكانت السرقة نتيجة التعاون بين الأعمى القوي والمقعد الذي يبصر، ولعاهتيهما لم يكونا موضع شك من الدهقان أو أي أحد غيره، فأسقط في أيديهما، وأعادا المال المسروق، فقال الدهقان: يا مريم، خذي نصف المال، فقالت: إني لم أخلق لذلك، قال: فأعطيه ابنك، قالت: هو أعظم مني شأنًا، وزار الدهقانَ قومٌ من الشام ولم يكن قد استعد لشرابهم، فدخل عيسى بيته وفيه جرار فارغة فأمَرَّ يده عليها فامتلأت شرابًا، ولما ظهر أمره في مصر وهو في هذه السن خافت أمه عليه، فأوحى الله إلى أمه أن عودي به إلى الشام، وفي الشام مر بعدد من الأعمال، فقد روي أنه عمل قصَّارًا - صبَّاغًا - للثياب، وأعطاه ربُّ عمله مجموعة من الثياب ليصبغها وقد وضع خيطًا ملونًا على كل ثوب لكي يصبغ بمثل لون الخيط، وأوصاه بإنجاز العمل، ثم انصرف رب العمل لحاجة له، ورُوي أن عيسى عليه السلام رماها كلها في مصبغة واحدة فيها لون واحد وتركها إلى أن عاد رب عمله، فقال له: صبغت الأثواب كما قلت لك؟ قال: نعم، وها هي في المصبغة، فقال: كلها بلون واحد! لقد خرَّبت الثياب على أصحابها، وكاد أن يتكلم كلامًا لا يليق بحق عيسى، فقال عيسى: لا تعجل، أخرجها من المصبغة، فأخرجها، فوجد ألوانها كما أراد، وكل ثوب وفق علامته، وكان عيسى يلعب مع الصبيان، فكان يقول لهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم، فيخبره، فيذهب الغلام إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأتِ لي، فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا، بما أخبره به عيسى، فتعجب أمه وتقول: من أخبرك؟ فيقول: عيسى، فخاف الناس على أولادهم أن يفسدهم عليهم، فمنعوهم من مخالطة عيسى، وكان يروي العجائب في صباه، وفشا ذلك في بني إسرائيل، حتى هموا بإيذائه، فخافت عليه أمه، فأخفَتْه عن العيون، وهكذا عاش عيسى في فترة شبابه حياة حرجة إلى أن بعث.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 11-09-2022, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (3)
د. محمد منير الجنباز
الرسالة


أجمع المفسرون على أن عيسى عليه السلام نُبِّئ وهو في سن الثلاثين، وقام بالأمر مدة ثلاث سنين؛ حيث تعرضت حياته للخطر، وسعى بنو إسرائيل لقتله، فرفعه الله إليه، وقد زوده الله تبارك وتعالى بآيات إعجازية مؤيدة له ولدعوته، وكانت خارقة تناسب ما كان في عصره من حضارة وتقدم، وهذه الآيات تتفوق عليها بالطبع؛ فقد بدأت الآيات المعجزة بالكلام وهو في المهد، ثم توقفت هذه الآية، وكانت آيات في فترة صباه، منها إخبار الناس عن أمور غيبية وجَّهت إليه الأنظار وعرضته للخطر، فاضطرت والدته إلى إخفائه عن العيون درءًا لهذا الخطر، وكانت المعجزات التي زوده الله بها فترة النبوة مهمة جدًّا، منها كما ذكرها القُرْآن الكريم: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 48، 49]، عملُ طيرٍ من الطين ثم النفخ فيه ليكون طيرًا بلحم ودم وريش وحياة كاملة: عملٌ يذكِّر الناس بخلق آدم من الطين ابتداء بلا أب أو أم، وكذلك هذه الطيور التي تخلق بإذن الله ابتداءً كخلقها الأول على غير ما عرَفه الناس من البيضة، جملة من الآيات المعجزة التي أيد الله بها عيسى هي على درجة كبيرة من الأهمية والنفع للناس في مجتمعه، ويبدو أن الزَّمْنى من الناس وأهل العاهات قد كثروا في مجتمعه وأصبحوا بحاجة ماسة إلى العلاج، ولكن دون جدوى؛ لعجز الطب المتقدم عن شفاء هذه الأمراض.

ولخطورة هؤلاء المرضى فقد ملَّهم الناس وهجروهم وأبعدوهم خشية العدوى، فلم يخالطوهم أو يؤاكلوهم أو يشاربوهم، وكان من أخطر هذه الأمراض الأكمه، وهو الذي فقد سمعه وبصره ومسحت معالم وجهه، وكذلك الأبرص الذي اشتد بياض جلده ورشحت منه مياه منتنة وقروح لا تلتئم، وذكر أيضًا الجذام وهو مرض معدٍ يفتك بالإنسان فتتآكل أعضاؤه من الأطراف زاحفة نحو الجسم حتى تقضي عليه، وقد وفد أهل العاهات على عيسى بأعداد كبيرة فكان يداويهم ويمسح عليهم فيتم لهم البُرء والشفاء بإذن الله، وكان مَن لا يستطيع القدوم إليه يذهب هو إليهم ويمسحهم، وكان كل هؤلاء يصبحون من أتباعه، مما أغاظ أهل المصالح الدنيوية من الأحبار؛ حيث تعطلت مصالحهم وما كانوا يجنون مِن مناصبهم الدينية، وأما إحياؤه للموتى فكان بأعداد محدودة حسب الحاجة لإحياء هذا الميت، فمنهم من كان إحياؤه لفترة محدودة لسؤاله عن أمر ما ثم يموت، ومنهم ما يطول به العمر لسنوات، فعلى سبيل المثال طلب منه الحواريون أن يحييَ لهم سام بن نوح ليسألوه عن السفينة وشكلها، فأتى قبره فأحياه لهم بإذن الله وسألوه ما خطر لهم من أسئلة حول السفينة، حتى إذا ما كونوا فكرة تامة عنها قالوا لعيسى عليه السلام: دعه ليأتي معنا، فقال: كيف يأتي معكم من لا رزق له؟

ورُوي أن امرأة كانت تبكي عند قبر بكاء شديدًا، فسألها عيسى عمَّ يبكيها؟ فقالت: ماتت ابنة لي ولم يكن لي ولد غيرها، وإني عاهدت ربي ألا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فأنظر إليها، فقال لها عيسى: أرأيت إن نظرت إليها أراجعة أنت؟ قالت: نعم، فصلى عيسى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى: يا فلانة، قومي بإذن الرحمن فاخرجي، فتحرك القبر، ثم نادى الثانية فانصدع القبر بإذن الله، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب، فقال لها عيسى: ما أبطأ بك عني؟ فقالت: لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملَكًا فركب خلقي، ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجعت إليَّ روحي، ثم جاءتني الصيحة الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجباي وأشفار عيني - أهداب - مخافة القيامة، ثم أقبلت على أمها فقالت: يا أماه، ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه، اصبري واحتسبي؛ فلا حاجة لي في الدنيا، يا روح الله وكلمته، سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت، فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الأرض، فبلغ ذلك اليهود، فازدادوا عليه غضبًا، هذا نموذج ممن أحياهم بإذن الله لفترة قصيرة.

وأما نموذج من أحياه بإذن الله فكان صديق عيسى عازر، فقد مرض، فأرسلت أخته إلى عيسى أن عازر يموت، فسار إليه وبينهما ثلاثة أيام، فوصل إليه وقد مات منذ ثلاثة أيام، فأتى قبره فدعا له فعاش وبقي حتى ولد له، وأحيا بإذن الله امرأة وعاشت ووُلد لها.

معجزات خارقة أيد الله بها عبده عيسى، وذكر ابن كثير تعليقًا طريفًا على هذه المعجزات، قال: "كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان؛ فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء، فبعث بالآيات التي بهرت الأبصار وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخوارق على يديه تصديقًا له - أسلموا سراعًا ولم يتلعثموا، وهكذا عيسى ابن مريم بُعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأُرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنى لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوأ حالًا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومَن به مرض مزمن؟ وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره؟ هذا مما يعلمه كل أحد أنه معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله، ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]، وقد بيَّن لهم أنه لم يكن بدعًا؛ فهو على شريعة موسى مصدقًا بالتوراة؛ فقد علمه الله إياها وعلمه أحكامها، وزاد عليها للتجديد كتاب الإنجيل، كما بعثه الله لتخفيف بعض الأحكام التي كان بنو إسرائيل قد ألزَموا بها أنفسهم، وهذا يدل على أن عيسى قد أرسل إليهم رحمة وإنقاذًا لحالهم المتردي دينًا وخلقًا، فقد سرى الكفر والإلحاد بين الناس، وابتعدوا عن منهج الدين الحق، وكان رأس هذا الانحراف الكهنة ورجال الدين الذين مالوا بالدين حسب الهوى والمصلحة الخاصة بهم؛ ليقيموا لهم كيانًا مسيطرًا على الحياة في بني إسرائيل، فكان لا بد - وفق سنة الله - من منقذ ومخلص ومسدد للنهج ومصحح للمسار، وكان عيسى هو النبي المختار لهذا الأمر بما آتاه الله من الآيات المعجزة من حيث طريقة خلقه المتفردة ومعجزاته التي لا يتردد مَن يراها في الإيمان الراسخ والتسليم لله طاعة وخضوعًا، ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 52]، كان المتنفِّذون الخادعون للشعب ما تزال لهم الكلمة في مجتمعهم؛ لسيطرتهم على سبل المعيشة والنفوذ الاقتصادي والمالي والسيطرة السياسية، وقد بثوا الدعايات ضد عيسى، فلم يقروا يومًا بولادته بلا أب بهذه المعجزة الخالدة وكلامه في المهد، ولقد أكثر اليهود القول فيه وفي أمه، وكانوا يسمونه ابن البغية، ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 156]، ويروى أن إبليس اللعين عرض لعيسى ابن مريم فقال له: أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك؟ فارْقَ بذروة هذا الجبل فتردَّ منه فانظر هل تعيش أم لا؟ فقال عيسى: أما علمت أن الله تعالى قال: "لا يجربني عبدي؛ فإني أفعل ما شئت"، وروي أنه قال: "إن العبد لا يَبتلي - يختبر - ربه، ولكن الله يبتلي عبده"، وفي رواية أخرى: أن عيسى عليه السلام كان يصلي على رأس جبل فأتاه إبليس فقال: أنت الذي يزعم أن كل شيء بقضاء وقدر؟ قال عيسى: نعم، قال: فألقِ نفسك من هذا الجبل وقل: قُدِّر عليَّ، فقال: يا لعين، الله يختبر العباد، وليس العباد يختبرون الله عز وجل.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 11-09-2022, 11:03 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (4)
د. محمد منير الجنباز
الحواريُّون


هم النُّخبة مِن أتباع عيسى عليه السلام؛ قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]، والحواريون مفردها حواري، وحواريُّ الرجل: صفوته وخلاصته، وهو النصير، والحور في الأصل البياض، ويعني بياض الثياب، أو من يعمل في تبييض الثياب، وهم القصَّارون، وقد مر من قبل أن عيسى عليه السلام عمل في صباه عند أحدهم، ولما بدأ عيسى دعوته انضم إليه هذا القصَّار وأهل مهنته، وهم الحواريون، وورد أن عيسى عليه السلام كان يُطعم الحواريين ويعطي كل واحد منهم طعامًا مختلفًا عن الآخر، فاستمروا كذلك فترة، ثم قالوا: أي الطعام أطيب؟ قصدوا بذلك الطعام الذي كان يوزعه عليهم، فقال عيسى: ما كان من كسب اليد، فانتبهوا لما هم فيه من البَطالة، فعملوا قصَّارين، والله أعلم.

وأصبح الحواريون من خاصة عيسى وأتباعه المقربين والملازمين له، الذين يتلقون عنه العلم، ويرسلهم نيابة عنه للدعوة وتعليم الشريعة للمؤمنين، وقد ذُكروا في القُرْآن الكريم في أكثر من موضع، فعندما دعا عيسى بني إسرائيل للإيمان وشعر بعدم استجابتهم وغدرهم، قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 51، 53].
♦ ♦ ♦

المائدة:
وعلى الرغم من أن الحواريين يمثِّلون الصفوة لكن كان لهم أحيانًا طلبات طلبوها من عيسى فيها غرابة، ومثلهم كان ينبغي ألا تكون هذه طلباتهم، ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 111، 112]، هذا طلب عجيب غريب، وقولهم: ﴿ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾ [المائدة: 112] فيه غرابة أكثر، فهل ما زالوا مترددين في الإيمان والتسليم حتى قالوا: ﴿ رَبُّكَ ﴾؟ ولو أن إيمانهم كان قويًّا لقالوا: ربنا، كما أن طرح السؤال وفق هذه الصيغة فيه نوع من الشك بقدرة ربهم، ولو كانوا تمنوا لكان أجدى لهم؛ فإبراهيم قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى ﴾ [البقرة: 260]، ولم يقل: أتستطيع أن تحيي الموتى؟ وكان هذا ديدنهم من قبل مع موسى، ولكن عيسى استهجن منهم هذا الطلب؛ فلا يطلبه مؤمن راسخ الإيمان، ألم يقل مؤمنوهم لموسى: ﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا ﴾ [المائدة: 24]، ولم هذا الطلب؟ ﴿ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة: 113]، إذًا ما زال في النفس شيء من دعوة عيسى رغم الآيات الباهرة الواضحة في شفاء المرضى وذوي العاهات المزمنة وإحياء الموتى.. فلمَ هذه المائدة؟ هل سيكون إنزالها أقوى معجزة في اعتقادهم من إحياء الموتى؟ وقيل: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كرِه ذلك منهم، فقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء؛ فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود من حين سألوا نبيهم آية فابتُلوا بها حتى كان بوارهم فيها، فأبوا إلا أن يأتيهم بها؛ فلذلك قالوا: ﴿ نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾ [المائدة: 113]، وأمام هذا الإصرار لم يجد عيسى بدًّا من دعاء الله لتلبية طلبهم؛ لتكون آية عظيمة، جاعلًا منها مناسبة دينية على مدى الزمان، قالوا: فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود وجبة من شَعر وعباءة من شَعر، ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه، فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام مستقبلًا القبلة وصفَّ قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ووضع اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعًا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك، دعا الله، ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المائدة: 114]، وجاءت تلبية طلبهم مشروطةً بتحذير قوي؛ لأنها معجزة ظاهرة مشهودة، جاءت وفق طلبهم، ولكيلا تكون طلباتهم متكررة لمجرد التشهي نريد كذا ونريد كذا بلا ضابط أو التزام، وكل واحد يطلب ما يتخيل ويشتهي، ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115]، قال: فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها أن يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين، وهو يدعو الله في مكانه ويقول: اللهم اجعلها رحمة لهم ولا تجعلها عذابًا، ثم ذكر أنها كانت مغطاة بمنديل وطلبوا من عيسى كشفه، فكشفه، فإذا عليها حوت كبير مشوي، ويحدق به البقول من كل صنف مع خل وملح وخبز وزيتون وخمس رمانات وبضع تمرات، ثم قالوا لعيسى: ابدأ الأكل لنأكل بعدك - كأنهم خافوا - فقال: معاذ الله أن أبدأ، ليبدأ من سألها؛ فهو أولى، وهنا امتنعوا عن الأكل، فدعا عيسى الفقراء والمرضى ومن به عاهة فأكلوا منها فشفوا جميعًا، واستمرت تنزل أربعين يومًا وقت ارتفاع النهار، ثم بدأ الناس يشككون في أمرها، وقذف الشيطان وساوسه في القلوب حتى مرجوا في أمرها، فرفعها الله، وعذَّب المكذِّبين بأن مسخهم خنازير.

هذا ما كان في التفاسير، ولكن سياق الآيات لا يوحي بذلك؛ فالذين طلبوها هم من الحواريين خلصاء عيسى عليه السلام، ومن غير المعقول بعد تعهدهم لعيسى بالتصديق بها وأنها ستكون آية يرون فيها قدرة الله تأتيهم عيانًا من السماء ألا يكونوا قد أكلوا منها، ومعنى عدم أكلهم منها هلاكهم، ولم نسمع بأن الحواريين كانوا أهل شقاق وتكذيب، بل هم مضرب المثل بالطاعة والتقوى والتدين، وتزكيهم آيات كثيرة في القُرْآن، والآية لا تدل على أنهم عذبوا، وإنما شرطت أن من يكفر بعد مشاهدة الآية يعذب، ﴿ قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [المائدة: 115]، وورد في حديث ليس بالقوي: "أنهم أمروا حين أنزلت المائدة ألا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا؛ فمُسخوا قردةً وخنازيرَ".

هناك مَن قال: إن المائدة لم تنزل، فعندما علموا الشرط توقفوا عن طلب نزولها وقالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل، وقيل: إن المائدة لم تذكر في كتبهم، لكن رأي جمهور العلماء المسلمين أنها نزلت، وتعد مثل هذه الآياتُ آياتِ امتحان واستدراج، وقد روي أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك، قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة، "فاختار عليه الصلاة والسلام باب الرحمة والتوبة".

أقول فيما ورد بشأن المائدة، حيث ورد "أن الذين طلبوها امتنعوا عن الأكل منها وكذلك عيسى" وإني أشك في هذا القول؛ فالحواريون هم صفوة أتباع عيسى عليه السلام، ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 52]، وهل يمتنع مؤمن عن طعام قدمه الله لهم بعد أن طلبوه؟ ولماذا يمتنع عيسى أيضًا عن هذا الطعام؟ فإن مما يقبله العقل أن يُقبِل عيسى وحواريوه على الأكل منها، شاكرين الله على ما أنعم عليهم، متبرِّكين بهذا الطعام الرباني المنزل من السماء، متنعمين بلذته؛ فهو شفاء للأسقام، وعافية للأبدان، ولا يمتنع عن الأكل منها إلا مكابر غير معترف بهذه المنحة الربانية، والمعجزة الخالدة.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 11-09-2022, 11:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (5)
د. محمد منير الجنباز

رفع عيسى عليه السلام إلى السماء


قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، لقد بدأ المعادون للدعوة في الكيد لها وعيسى ما يزال بين أظهرهم يدعوهم إلى الله؛ فقد استغلوا ما آتاه الله لعيسى من الخوارق المؤيدة لدعوته، فلبَسوا الأمر على الناس بقولهم: هذا إله، ولو لم يكن كذلك لما أحيا الموتى، ويشكل من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرًا، وهكذا، كما ورد أنه كان يمشي فوق الماء، فقد قيل لعيسى ابن مريم: يا عيسى، بأي شيء تمشي على الماء؟ قال: بالإيمان واليقين، قالوا: فإنا آمنا كما آمنت وأيقنَّا كما أيقنت، قال: فامشوا إذًا، قال: فمشوا معه في الموج فغرقوا، فقال لهم عيسى: ما لكم؟ قالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج، قال: فأخرجهم ثم ضرب بيده الأرض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى حصى - تراب - فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: هذا الذهب، قال: فإنهما عندي سواء.

وفي رواية قال إبليس لعيسى: إنه لا ينبغي أن تكون عبدًا، إن غضبك ليس بغضب عبد؛ فإني أدعوك لأمر هو لك، آمر الشياطين فليطيعوك، فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك، أما إني لا أقول أن تكون إلهًا ليس معه إله، ولكن الله يكون إلهًا في السماء، وتكون أنت إلهًا في الأرض، فلما سمع عيسى ذلك منه استغاث بربه وصرخ صرخة شديدة، فإذا إسرافيل قد هبط، فنظر إليه جبريل وميكائيل، فكف إبليس، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس، ثم ضربه أخرى فأقبل إبليس يهوي، فمر بعيسى وهو يقول: يا عيسى، لقد لقيتُ فيك اليوم تعبًا شديدًا، ثم لم يعد إليه بعد ذلك.

إن إبليس حاول جاهدًا إغواء عيسى وصرفه عن التوحيد بأن زين له أنه الإله، ولكن عيسى النبي العابد الموحِّد زجره وأعانه الله عليه بالملائكة، ولما يئس من إغواء عيسى مال إلى الناس ليبث فيهم هذا الاعتقاد المنحرف، فلما كان عيسى عليه السلام يداوي المرضى بالدعاء ومسحه عليهم بيده المباركة، حضر إبليس في هيئة رجل وسيم ثري ومعه بعض أعوانه، فبدأ يتكلم ويخبر الناس بالأعاجيب، فلما التفت الناس إليه قال: إن شأن هذا الرجل لعجيب، تكلم في المهد وأحيا الموتى وأنبأ عن الغيب وشفى المريض، فهذا الله، قال صاحبه: جهلت أيها الشيخ، وبئس ما قلت، لا ينبغي لله أن يتجلى للعباد ولا يسكن الأرحام ولا تسعه أجواف النساء، ولكنه ابن الله، وقال الثالث: بئس ما قلتما، كلاكما قد أخطأ وجهل، ليس ينبغي لله أن يتخذ ولدًا، ولكنه إله معه، ثم غابوا بعد أن بثوا هذه السموم وبلبلة أفكار الدهماء من الناس والمغرضين، وعيسى لا يزال مقيمًا بينهم، فكيف بعد أن غادرهم؟ لذلك كان رد عيسى عليه السلام: ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]؛ فليس من حقي أن أقول مثل هذا الكلام؛ لأن الرسالة التي كلفتني بإبلاغها لم تتضمن هذا الكلام، وأنا التزمت بنص الرسالة ودعوتهم إلى توحيدك وعبادتك وحدك لا شريك لك، ومع ذلك ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 116، 117]، ومعنى توفيتني في هذه الآية: قبضتَني إليك بالرفع إلى السماء؛ فعيسى لم يترك وراءه في الدنيا إلا دعوة الحق والخير، دعوة كل الأنبياء من لدن آدم وحتى محمد عليه الصلاة والسلام، ألم يأتِ مبشرًا برسولنا الكريم: ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]، فكانت رسالتُه مكملة لرسالة موسى وعلى خطها وخُطاها، مع بعض التعديلات التي كتبت على بني إسرائيل بسبب تعنتهم وتشددهم وسؤالهم الأنبياء عن أشياء سكت الشارع الحكيم عنها وأرادوا هم معرفتها مفصلة بكل تفصيلاتها دون الاعتماد على الأساسيات وترك المسألة لاجتهاد المجتهدين، ومثال ذلك ما طلبوه من مواصفات البقرة الدقيقة التي أمروا بذبحها، وقد كانت تجزئهم أية بقرة، وكان من نتائج ذلك أن حددت لهم بقرة بصفات لا تشتبه مع غيرها، فامتنع الاختيار، فدفعوا الثمن باهظًا، فكان مسير عيسى على مسار الرسل السابقين توحيدًا وعبادة، متواصلًا مع الرسالة الخاتمة التي بشر بها وبرسولها محمد صلى الله عليه وسلم.

فكيف انقلب المتنفذون في بني إسرائيل على عيسى وقرروا قتله؟

لقد أصبح بنو إسرائيل مضرب المثل في قتل الأنبياء وتعذيبهم وتصفيتهم جسديًّا، وكانوا في عهد عيسى قد بلغوا القمة في هذا الشأن دون خوف من وازع أو ضمير، وقتل يحيى وزكريا ليس ببعيد، ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61]؛ ولهذا ليس غريبًا عليهم أن يُجمعوا أمرهم على قتل عيسى ويزهقوا روح هذا النبي الطاهرة، لقد جهد ما وسعه الجهد في أن يحمل همومهم وأن يكون معهم ينصحهم ويأخذ بأيديهم إلى السعادة في الدارين، فهو لم يطلب منهم مالًا ولا أجرًا، كان يلبس الصوف والشعر، وتكفيه اللقمة واللقمتان، ولم يكن جبارًا ولا طاغية، لكن لسانه لسان الحق، وقوله الحكمة، وميزانه العدل، وليس الذي حرك عليه رؤوس الكفر هذا التواضع، وإنما جرأة في الحق ونهي عن المنكر، ولو أمسك لسانه عن الحق واقتنى الغلمان والجواري وكنز الذهب والفضة لكان عندهم مقربًا، وطاعته واجبة، فهذا مقياسهم في المسالمة والمحاربة، وقد قيل في سبب طلب اليهود عيسى ليقتلوه، أن مجموعة من اليهود الأفاكين تلقوا عيسى في بعض الطرقات وانهالوا عليه شتمًا وقذفًا لأمه، وقالوا: هذا الساحر ابن الفاعلة - يعنون الزانية - فسمع قذفهم له وحاول الصبر والتريث ومقابلة الإساءة بالصفح؛ لعل هذه الأخلاق تردهم وتزجرهم، لكنهم زادوا في التمادي والإيذاء، فدعا عليهم فاستجاب الله دعاءه ومسخهم خنازير، فلما رأى ذلك المتنفذون من الكهنة أجمعوا أمرهم على قتله، وإلا حل بالجميع السخط والمسخ، واستقر أمرهم على ذلك وطلبوا المرتزقة من القتلة الذين لا يرحمون صغيرًا ولا كبيرًا ولا طفلًا ولا امرأة، وإنما معبودهم المال، وبالمال ينفذون ما يطلب منهم مهما كان العمل قذرًا ودونًا أو مستهجنًا، فقام هؤلاء السفلة يطلبون عيسى في كل مكان يغلب على ظنهم أنه فيه، ومع القتلة رأس الكهنة ليكون الموت تحت إشرافه، ولما وجدوه قال لهم: يا بني إسرائيل، إن الله يبغضكم، فتبعوه للإمساك به، فأخذه جبريل وأدخله بيتًا فيه روزنة - طاقة علوية - في السقف، ومنها رفعه الله إلى السماء، وتبعه رجل منهم - قطيبانوس - ليقتله، فألقى الله عليه شبه المسيح، ولما دخل البقية لم يجدوا إلا هذا، فأخذوه فقتلوه وصلبوه، وكان يصرخ بأنه ليس عيسى، فلم يلتفتوا إلى دعواه، وقد وردت روايات أخرى في هذه الحادثة، منها: أن الله أعلمه بأنه خارج من الدنيا فجزع من الموت فدعا الحواريين فصنع لهم طعامًا، فقال: احضروني الليلة؛ فإن لي إليكم حاجة، فلما اجتمعوا عشاهم وقام يخدمهم، فلما فرغوا أخذ يغسل أيديهم بيده ويمسحها بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: من يرد علي الليلة شيئًا مما أصنع فليس مني، فأقروه حتى فرغ من ذلك - تركوه يقوم بخدمتهم - ثم قال: أما ما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة، فلا يتعاظم بعضكم على بعض، وأما حاجتي التي أستعينكم عليها فتدعون الله لي وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي، فلما نصبوا أنفسهم للدعاء أخذهم النوم حتى ما يستطيعون الدعاء، فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله ما تصبرون لي ليلة! قالوا: والله ما ندري ما لنا؛ كنا نسمر فنكثر السمر وما نقدر عليه الليلة، وكلما أردنا الدعاء حيل بيننا وبينه، فقال: يذهب بالراعي، ويتفرق الغنم، وجعل ينعى نفسه، ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، ولَيبيعَنِّي أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه - أي يبحثون عن عيسى لقتله - فأخذوا أحد الحواريين - شمعون - وقالوا: هذا صاحبه، فأنكر، وقال: ما أنا بصاحبه، فتركوه، ثم أخذه آخرون - ممن يطلبون عيسى لقتله - فجحد أنه من أصحابه، ثم سمع صوت الديك فبكى - لأن ما قاله عيسى لهم قد تحقق - فهذا الذي كفر به - ثم أتاهم من الصباح أحد الحواريين فقال: ما تجعلون لي إن أنا دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلهم عليه - فهذا الذي باعه - ولكن الله ألقى عليه شبه عيسى، فقبضوا عليه وأوثقوه وقتلوه ثم صلبوه.

أقول: إنه يظهر في ثنايا هذه القصة تلفيق ظاهر، فليس عيسى الذي يجزع من الموت، فقد عاش متقشفًا لا زوج له ولا ولد، ورأى كثيرًا من خزي بني إسرائيل، فلمَ الخوف من الموت وما عند الله له أفضل وأحسن؟! فليس عنده من مظاهر الدنيا ما يغريه للتمسك بها، ولو أراد ذلك لطلب من ربه أن يزيد في أجله ولا حاجة ليلجأ إلى أصحابه ليتوسطوا له عند ربه بأن يزيد في أجله وهو يعلم أن أحد أصحابه سيبيعه والآخر سيرتد جاحدًا، أبمثل هؤلاء يرجو شفاعتهم عند ربه؟ ثم إن قصة هذين الخائنين من أصحابه فيها لا تصح؛ فالحواريون قد مدحهم الله وجعلهم صفوة الأتباع وهم اثنا عشر حواريًّا، وضرب بهم المثل في التضحية: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53]، فلمَ يشوهون سمعتهم بالخيانة؟ وهذا من تلفيق اليهود؛ كيلا يقال في المتدينين خير، وليبقى المتدينون موضع شك وتهمة، ولقد اتهموا الأنبياء من قبل بكل قبيح؛ ولذلك فإن هذه القصة ملفَّقة لا ترقى إلى الصحة والتصديق.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 11-09-2022, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (6)
د. محمد منير الجنباز




حقيقة النهاية للمسيح


قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 157، 158]، وقال تعالى: ﴿ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 55]، وفي سورة المائدة: ﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ [المائدة: 110]، فهذه الآيات كلها تدل على الآتي:
نفي القتل والصَّلب عن عيسى عليه السلام.

فالذي جرى في ظاهر الأمر من حيث القتل والصلب على الشبيه، والله قادر على ذلك، وهو الذي يقول هذا في كتابه العزيز.

من شهد حادثة القتل والصلب الذي وقع على الشبيه التبس عليه الأمر، فلم يفرِّق بين الأصل والشبيه، وكان في غالب ظنه أنه عيسى.

فاليقين لمن كان حاضرًا الحادثة لو دقق في الأمر واستعاد ما قاله الشبيه حين قال: أنا لست عيسى، ولكن لم يسمعوا له؛ لأن الصورة واحدة، ولأنهم كانوا في هيجان لا يسكنه إلا القتل والانتقام.

ثبوت الرفع إلى السماء بنص الكتاب: ﴿ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ﴾ [النساء: 158].

وعبارة: ﴿ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ﴾ [آل عمران: 55] لها معانٍ، وينبغي أخذ المعنى الذي يوافق سياق الآية في سورة النساء؛ لأن القُرْآن يؤيد بعضه بعضًا، ومن معاني متوفيك: النوم؛ ﴿ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 42]؛ فكلمة ﴿ يَتَوَفَّى ﴾ أعطت في هذه الآية معنيين، الموت الحقيقي، والنوم، فالنائم بحكم المتوفى الذي حجزت روحه عن جسمه، فإذا لم يكن مع الميتين ترسل إليه روحه فيصحو من النوم، وورد عن ابن عباس قال: "للإنسان نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش، فإن كان ممن قضى عليه الموت قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين))، ومثل هذا قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ [الأنعام: 60]، وأما الوفاةُ بمعنى الموت فقد ورد فيها عدد من الآيات، منها: ﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾ [السجدة: 11]، وبمعنى توفية الحق: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، وفي قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [النحل: 111].

وعليه، قال أهل التفسير: إن الله ضرب النوم على عيسى عليه السلام ثم رفعه إلى السماء.

كف الله أيدي الذين كفروا عن عيسى وحماه من شرهم، فرفعه الله تعالى إلى السماء، وهو في السماء الأولى، وهذا ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج؛ فقد رأى عيسى عليه السلام ومعه يحيى بن زكريا.

عظمة الحوار:
لنعُدْ إلى الآيات من سورة المائدة ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]، تهمة افتراها أهل الكفر والضلال على عيسى عليه السلام بأن قال لهم: اتخذوني وأمي إلهين، والله تعالى هو الحكم العدل، وأمامه يقف الخصوم ويُدلي كل بما عنده، وبناءً على ما ادعاه أهل الضلال يقف عيسى عليه السلام للسؤال، ويعطى فرصة الدفاع عن نفسه، ولا ينبغي له السكوت بأن يقول: أنت يا رب عالم بما فعلت وبما تكلمت، وليس عندي ما أقول، وإنما عليه أن يدفع التهمة بتقديم براءته ورد التهمة بالحجة الدامغة؛ لذلك أجاب عيسى: ﴿ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]، هذا القول ليس من حقي أن أدعيَه؛ فأنا عبدك ورسولك، وكذلك أمي العابدة الناسكة المعترفة بألوهيتك، ولم يكن ضمن دعوتي أن أدعي ما افتراه هؤلاء الخصوم أهل الأهواء والمصالح، ما أنا إلا عبد مأمور، قلت ما كُلِّفت به ولم أتجاوز الرسالة التي أمرت بأن أبلغها، ﴿ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 116]، وبعد تقديم ما عنده من أدلة منطقية جعل اللهَ شهيدًا، وهو الحكَم العدل، ومع ذلك فهناك شهود أقوالهم معتبرة وذات قيمة لا يستهان بها، وهم مثال الصدق، وتأدية الشهادة على وجهها الحق، إنهم المسلمون أتباع الرسالة الخاتمة، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، وتأتي هذه الشهادة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم تعزيزًا لموقف عيسى عليه السلام، وتصديقًا لأقواله؛ بأنه أدى الرسالة كما أمره الله؛ فهم شهود عدول، ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم يزكي شهادتهم، وهذا مثل يحتذى في الدنيا بضرورة الحوار وإعطاء الفرصة للمتهم بأن يُظهر براءته بما يجد من وسيلة لذلك.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 11-09-2022, 11:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,695
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قصة عيسى ابن مريم عليه السلام

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (7)
د. محمد منير الجنباز




ماذا قالوا عن نهاية المسيح؟


قال الله تعالى: ﴿ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [مريم: 37]، وقصد بالأحزاب اليهود والنصارى، وقالت اليهود: هو ساحر، ولم يعترفوا بنبوته، كما اتهموه بأنه ابن يوسف النجار، وما إلى ذلك من التهم، أما النصارى فقد اختلفوا على ثلاثة أقوال، فقسم منهم قالوا: كان فينا عبد الله ورسوله، فرفعه الله إلى السماء، وهم طائفة على الحق، وقسم قالوا: هو الله، وقسم قالوا: هو ابن الله، وقد تكلم القُرْآن عن هذه الطوائف، وبيَّن الأقوال الضالة، وتوعدهم بالعذاب الأليم، وحذر أن مثل هؤلاء لا نصير لهم؛ قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة: 72]، لقد كفر أصحاب هذا الاعتقاد بقولهم: إن عيسى هو الله، مع بيان أن دعوة عيسى عليه السلام هي دعوة توحيد لله الخالق العظيم، وعدم الشرك به، أو إشراك أحد معه، وأن من يعتقد عقيدة الشرك فقد حرَّم الله عليه الجنة، وأن النار مثواه خالدًا فيها، ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [المائدة: 73].

تخطئة أخرى لفئة أخرى ضلت القصد وتاهت عن الطريق المستقيم، وألغتِ العقل والتفكير السوي، واتخذت من عقيدة التثليث منهجًا لها، وهذا بعيدٌ عن التفرد الإلهي والتصرف في الكون بلا منازع، وهي صفة الخالق التي ينبغي ألا تكون إلا له، وكيف تكون له وحده وقد جعلوه ثالث ثلاثة؛ ولهذا تلقوا الوعيد الشديد والعذاب الأليم إن أصروا على هذه العقيدة، وأما من اشتبه عليه الأمر من طريقة خَلْق عيسى بلا أب فعليه ألا يأخذه تفكيره إلى التصور الخاطئ بأن يوصله بالله بنسب أو قرابة، فهذا لا ينبغي أبدًا؛ فالله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [الشورى: 11]، وإنما ليتذكر كيفية خلق آدم بلا أب أو أم، ومع ذلك لم ينسب أحدٌ آدمَ إلى صلة قرابة أو نسب مع الله، رغم أن معجزة خلقه وتكوينه أكبر من معجزة خلق عيسى وتكوينه، وكلاهما هين على الله؛ ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، فلماذا الخطأ بشأن عيسى؛ ألِئَنَّ الشيطان لبس الأمر على مريديه فغالوا فيه بغير الحق فحرفهم عن الطريق السوي ومال بهم إلى الضلال والتيه؟ ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]؛ فهذا القول الحق الذي ينبغي أن يقال عن عيسى عليه السلام، ولا ينبغي الغلو في القول والافتراء، قد يكون أمر الرفع قد اشتبه على النصارى ورأوا المقتول أو المصلوب شبه عيسى، لكن غاب عنهم قول هذا الشبيه لهم وهو يتقدم إلى الموت بأنه ليس عيسى، وأنه هو الذي دلهم عليه فلم يصدقوه، وقد رآه وسمعه بعض الحواريين وعرفوا أن المصلوب ليس هو؛ بدليل افتقاد أهل الشبيه لولدهم فلم يرجع إليهم، كما يروى أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أيكم يحب أن يلقى عليه شبهي وهو مقتول؟ فقال رجل منهم: أنا يا روح الله، فألقي عليه شبهه فقتل وصلب، وهذا هو الراجح من الأقوال، وبهذا قالت الفرقة الناجية منهم: بأنه عبد الله ورسوله، رُفع إلى السماء، ولو أن الأمر فيه التباس لما قالت هذه الفرقة هذا القول؛ فمن أين أخذت العلم لو كان أمره معمًّى على الجميع؟ ولهذا جاء النداء من الله تعالى لأهل الكتاب بالعودة إلى الصواب وتصحيح ما أدخله عليهم المغرضون من أهل الزيغ والضلال، الذين اتبعوا أهواءهم بتلبيس الشيطان عليها، ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171]، ويلاحظ أنه في كل مرة يذكر فيها المسيح في القُرْآن الكريم يذكر باسمه الكامل؛ ليمنع اللبس والتأويل بأن المقصود هو عيسى ابن مريم نصًّا، فلا يستطيع بعض المغرضين وأهل الزيغ أن ينفُذوا من خلال النص لتحقيق مآربهم في الإضلال، مثلما أولوا في سورة يوسف: ﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ ﴾ [يوسف: 63]، فقالوا: إن اسم أخي يوسف نكتل، ونكتل: فعل مضارع مجزوم بفعل الطلب أرسل، وكذلك عندما ذكرت قصة موسى مع الخضر قالوا: ليس المقصود بموسى النبي، علمًا بأن موسى لم يذكر في القُرْآن الكريم إلا باسمه العلمي "موسى"، أما عيسى فقد ذكر عند المواقف الحساسة باسمه كاملًا؛ لمنع التأويل والتدليس.

وتتابع الآيات ذكر عبودية عيسى لله؛ ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [النساء: 172]؛ أي: والملائكة المقربون لن يستنكفوا؛ فالكل عبيد مهما آتاهم الله من القوة وأحدث على أيديهم المعجزات، فهم أولًا وأخيرًا عبيد، فبأمر الله يُعطَوْن القوة، وبأمره يُسلَبونها، ﴿ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ [النساء: 172، 173]، وفي الصحيحين عن عبادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم، ورُوح منه، والجنة حق، والنار حق - أدخَله الله الجنة على ما كان من العمل))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 128.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 123.95 كيلو بايت... تم توفير 4.44 كيلو بايت...بمعدل (3.46%)]