|
ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() القيم الإنسانية في الخطاب الأدبي الإسلامي .. من المعنى إلى شعرية المعنى د. إبراهيم أنيس الكاسح المقدمة: نطرح في مقاربتنا هذه تصوراً نقدياً يزاوج بين التنظير والإجراء التحليلي؛ فهو تنظير من جهة وقوفنا عند مجموعة من المقولات النظرية التي تمثل الإطار المعرفي العام الذي يضبط إيقاع ممارستنا النقدية. ومن أهم هذه المقولات: مقولة القيم الإنسانية من جهة مفهومها، وتنوع احتمالات تضمينها في الخطاب الأدبي، ثم ستكون لنا انتقالة إلى الخطاب الأدبي الإسلامي، الذي نريد أن نجعل منه ممارسة إبداعية مبرّرة تحتفظ بكثير من مشروعيتها، بوصفها فعلاً إبداعياً يمتلك حق التأثير على المتلقي؛ انطلاقاً من خصوصيته البنائية الجمالية، ومن خلال احتوائه على مضامين (قيم) تمثل مقول الخطاب الأدبي الإسلامي؛ وبذلك نقترح مقاربة تنأى بهذا الخطاب عن إشكالية التصور المسبق والقارّ، التي لا تتحمس لكل خطاب أدبي يلتزم ارتباطاً بمرجعية عقائدية أو فكرية. أمّا المقولة الثالثة، التي نحاول طرحها للنقاش، هنا، والحوار حول وجاهتها الفكرية، فتتصل بطبيعة المقاربة أو النسق النقدي الذي نروم من خلاله البحث في الخطاب الأدبي الإسلامي، فمقاربتنا لهذا الخطاب تعتمد طرح: شعرية المعنى. والمفهوم الذي يحيل عليه هذا المصطلح؛ هو البحث في نظام جامع لدلالات الخطاب الأدبي الإسلامي؛ بما ينسجم و المعاني الإنسانية القيمية التي تستأنس بها الذات الإنسانية و تتشوف إليها. أما البعد الإجرائي الذي نحاوله في هذه المقاربة، فينصرف إلى ثلاث فئات (أجناس) من الخطاب الأدبي الإسلامي: خطاب شعري، وخطاب سردي قصصي، وخطاب مسرحي؛ إذ تمثل هذه التنويعة مناسبة حيوية تزودنا بإمكانات إقامة تصورنا النقدي الذي نستهدفه في هذه المقاربة؛ فمن خلال تنوع أجناس الخطاب الأدبي، يمكن لنا أن نبحث في شعرية المعنى للخطاب الأدبي الإسلامي، في إطار نصوص تتنوع طبيعتها البنائية بين الشعري والسردي، والعرض في حالة النص المسرحي، وعلى تنوعها في نظامها الأجناسي، فإنها تتضامن في تجسيد ما أسميناه ب (شعرية المعنى)؛ إذ جميعها تترجم عن مضامين مشتركة تسعى لإيصالها للمتلقي. مقولة القيم الإنسانية: تشكّل القيم الإنسانية في مجموعها مبحثاً مستقلاً من مباحث التفكير الإنساني الفلسفي، وهو مبحث (القيم). ويحيلنا أصل لفظة (قيمة) إلى معنى: القدر، والمنزلة والرتبة العالية، [1] فالقيمة مرادفة للثمن؛ ذلك أن قيمة أي شيء: ثمنه وما يُقدّر به، ويمكن أن نسحب هذه المعالجة على الفعل والسلوك البشريين، فقيمة أي فعل إنساني، هي ثمنه من جهة رضا الآخرين عنه، و انسجامه وتناغمه مع مصدر القيمة، فالشيء القيّم هو مادة عالية الثمن، والفعل أو السلوك القيم هما شيئان مقدّران، ويستحقان كامل الاعتراف بإيجابيتها؛ ومن ثم الرضا عنهما في مجتمع هذا السلوك الإنساني. (القيمة) لفظة واصفة؛ و من ثم فإن دلالتها التواضعية تنشأ اعتماداً على ذلك، و مفهومها يتأتى من كونها (تطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته)[2] وأن الشيء القيّم هو الذي حاز (صفةً تجعل ذلك الشيء مرغوباً فيه ومطلوباً عند شخص من الأشخاص أو طائفة معينة من الناس)[3]، ولا يُفهم من هذا القول: إن القيم مقدَّرة فقط في إطار فئة أو طائفة معينة، بل إن التقدير يطال كل القيم مهما تنوعت وتعددت، مادامت تنتمي لفئة القيم المطلقة التي تحظى بإجماع إنساني يتجاوز الاختلاف العقدي أو القومي أو العرقي، كما أنه إجماع لا يخضع لموجبات مرحلة تاريخية محددة؛ فتُقبل في مرحلة، وتنحسر وتتراجع في أخرى. فهي مطلقة؛ لأنها مستحقة للتقدير بذاتها[4]، وليست إضافية، كما توصف هذه القيم المطلقة بالقيم الأصلية تمييزاً لها عن القيم العرضية[5]؛ لأنها تتسم بالثبات والرسوخ من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تختلف عن القيم الوسيلية التي ترتبط منزلتها بمدى قدرتها على تحقيق غاية ما. فالقيم المطلقة هي كذلك؛ (لأنها غاية في ذاتها وليست لها غاية أخرى)[6]. والقيم التي جرى الاتفاق على وصفها بالمطلقة أو المثالية هي: الحق، والخير والجمال، ويُجمع تاريخ الفكر البشري على تثبيتها وفق هذه الثلاثية، وهي من فصيل القيم المعنوية التي تمثل غاية الطموح الإنساني في مجتمعاته. ومن المشتغلين بمبحث القيم من يُدرج هذه القيم الثلاث في إطار نسق يجمع بين المستوى العقلي المجرد و قيمة الحق، والمستوى الجمالي و قيمة الفن، والمستوى الأخلاقي وقيمة الخير[7]؛ ليتحقق التدرج من المجرد المتعالي المحيل على مصدر القيم ومنشأها، إلى المادي والمتجسّد الذي يتجلى في أنماط القيم المادية وتأثيرها على سلوك الأفراد داخل الجماعات البشرية، وهو يُرصد في إطار قيمتي الجمال والخير. وقد كانت الفلسفة اليونانية القديمة تقيم تمييزاً بيّناً بين: القيّم لذاته؛ لأنه يحمل في ملامحه وصفاته ما يجعله كذلك، وتوصف هذه المقاربة للقيم بالذاتية، وقد قال بها المتحمسون للنزعة المثالية في الفلسفة، أما القسم الآخر من القيم فيقصد به القيم التي تمتلك منزلتها من خلال طريقة إدراكها وتقديرها؛ فصفات هذه القيم-وفق هذا التصور- ليست كامنة فيها، وإنما (يخلعها العقل على الأقوال والأفعال والأشياء طبقاً للظروف والملابسات، وبالتالي فهي تختلف باختلاف من يصدر الحكم)[8]، وبهذا قال الطبيعيون والوضعيون. لقد تميّز التفكير الفلسفي اليوناني في النظر لمسألة القيم، بهذه الثنائية التي تذهب بها في اتجاهين مختلفين: فهي إمّا قيم ذاتية، وإما غير ذاتية، ويعود هذا الفصل لتباين الرؤى الفلسفية بين مدارس وتيارات هذه الفلسفة، وهو تباين يرتهن أساساً لاختلاف المرجعية والمنطلقات منذ السفسطائيين مروراً بسقراط وأفلاطون حتى أرسطو والأفلوطينية الحديثة. أما في المجال الفكري العربي الإسلامي، فإننا نجد أن مقولة القيم الإنسانية قد خضعت في الأساس للمصدر الإسلامي متمثلاً في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وبالذات عند أهل السنة، والمتصوفة، وإن شاب النظرة إلى القيم الإنسانية شيء من التغيير عند المعتزلة والفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا ممن تأثروا بدرجة ما بأساليب ونتائج التفكير الفلسفي الإغريقي؛ فأقاموا نقاشاً حول القيم يدور حول ماهيتها، في حين نرى أن التفكير الإسلامي السني قد باشرها انطلاقاً من مبدأ إدراجها في منظومة الأخلاق والسلوك المجتمعي، وهو ما جرى تناوله تحت مصطلحي (الحسن والقبيح) عند الغزالي ومسكويه وغيرهما[9]. لقد تعاطى الفكر الإسلامي مع مسألة القيم الإنسانية الإيجابية من منظور عملي؛ لذلك فحتى النقاش المعرفي النظري حولها كان منصرفاً لذكر مدارج هذه القيم ومنازلها كالخير والجمال، يقول مسكويه: والخيرات منها ما هي شريفة في ذاتها وتجعل من اقتنائها شرفاً وهي الحكمة والعقل... ومنها الممدوحة مثل الفضائل والأفعال الجميلة الإرادية... ومن الخيرات ما هي بالقوة مثل التهيؤ والاستعدادات التي تطلب لذاتها[10]. والمصدر الذي منه تنشأ القيم في الفكر الإسلامي، هو الله الحق والداعي إلى الحق، الجميل منتهى الحسن والبهاء، والخير الذي يشمل بعنايته جميع الموجودات[11]. لقد جاء القرآن الكريم حاوياً لكل أنماط القيم، سواء تلك المتعلّقة بعلاقة الإنسان بالله أو بنفسه أو بالآخرين في مجتمعه، انطلاقا من مبدأ مركزي هو جعل الحياة الإنسانية أكثر مثالية وإيجابية، ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا﴾ [الكهف: 44]، كما فاضت السنة النبوية الشريفة بذلك، وقد وسعت مدوّنات السنة القولية، ومدوّنات السنة الفعلية توجيهات قيمية ركّزت - كما أسلفنا - على تقدير السلوك الإيجابي، ونورد نموذجاً من ذلك جاء في صحيح مسلم من حديث ابن أبي عمر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ![]() ومن الحق يأتي الخير، ولأجل الحق يكون الخير، وعندما يتحقق تكريس الحقوق التفصيلية الطبيعية: الحق في الحرية، في العدل، في المساواة... يحصل الخير ويتجسّد في المجتمعات البشرية، والخير الذي يعنينا هنا، ما يسميه مسكويه: خير جميع الناس، ومن جميع الوجوه، وفي جميع الاوقات[18]، وبما أن الله هو الحق المطلق فإنه تعالى هو الخير الأول، و ضد الخير الشر، ويسمي فلاسفة المسلمين الخير بالحسن، والشر بالقبيح، وهي أوصاف شكلية تحاول أن تمنح المجردّ صورة تقرّبه من الوعي به و إدراكه. فالخير ما كان بهيا حسناً ينتج السعادة واللذة، والشر ما كان مناقضاً للأوصاف السابقة، وهو ما يرتب الألم لدى الناس، ويمثل تحقيق الخير غاية للأديان، ومطلباً للفلسفات والرؤى الوضعية، وكما انقسمت قيمة الحق إلى حق مطلق شامل، وحقوق نسبية تضعها في الغالب المدوّنات التواضعية و تنص عليها، فإن قيمة الخير بدورها تتوزع على ما هو خير مطلق مرغوب لكل الناس، وخير نسبي يتعلق بإنسان دون آخر، أو طائفة دون أخرى. وإذا جئنا نرصد القيمة الثالثة من القيم المطلقة وهي قيمة (الجمال) فإننا ننظر إليها بوصفها حقيقة متعالية تصدر عنها حالة السعادة لدى الإنسان، وهو مبدأ علوي كالمبدأين السابقين (الحق والخير)[19]، ولا يتحقق جوهره أي (الجمال) إلا به، أي لا تستطيع تحسس قيمة جمال الجميل إلا من خلال إقرارنا بوجوده قبل أن يتجسد[20]، وهو ما تقول به الفلسفة المثالية، وقال به الغزالي، والذي يجعل من البصيرة وسيلة لإدراك الجمال المطلق وتحسس كمالاته[21]، ومن الجمال ما هو نسبي، ويقدّر عندها من خلال الصور التي يتجسد عبرها، أي من خلال التشكيلات الفنية الجمالية المتنوعة، ومن خلال الغايات التي يدفع إليها، كما يحصل تقدير الجمال النسبي من خلال الذوات المدركة له، و تقدير الجمال عموماً يأتي مقروناً عند بعض الباحثين بالخير؛ فيجعلون الشيء الخيّر جميلاً، والجميل خيراً في اندماج يخضع لمبدأ الوسيلة والغاية، فغاية الجمال تحقيق الخير و منفعة السعادة، ومقصد الخير تحصيل اللذة والسعادة، وهي صور الشعور بالجمال والإحساس به. لقد ارتبط الانشغال على مبحث القيم بنظرة مركزية تفصل بين المطلق منها، والمؤقت، وبين المتعالي والعارض العابر، وهو فصل جدلي يترجم عن اختلاف مصادر النقاش حولها، وتنوع الانتظارات الإنسانية بخصوص ما يجب أن يكون عليه المثال والنموذج الأكثر كفاءة لتوفير إمكانية أفضل للحياة الإنسانية. تمثل القيم الإنسانية فرصة مهمة للقاء الإنساني؛ لقاء حول منزلتها إن حضرت، وتحسيس بأزمة فقدانها إن غابت، وهي تعد إطاراً عاماً للمشاعر الإنسانية، تقرّب بين الناس على اختلاف تنويعاتهم العرقية والحضارية، فهي قاسم جماعي يتصل بالمصدر الجامع، ويتجسد من خلال النفس البشرية الصافية التي تميل تلقائياً إلى البحث عن الكمالات، والتقاط المثل التي تشكّل منتهى المقدّر والسامي. مقولة الخطاب الأدبي الإسلامي: تتفق أغلب المصادر على أن لكلمة خطاب مفهوماً مركزياً يقوم على التواصل بين طرفين: مرسلٍ - متلقٍ، وقد صدر هذا الإجماع عن مصادر لغوية، وأخرى اهتمت بمفاهيم التواصل والتخاطب، سواءٌ أكانت مصادر في الدرس الأدبي أم في فروع معرفية أخرى؛ فمصطلح الخطاب يُحيل على مفهوم وظيفي تداولي ينتقل باللغة من حالتها السكونية بوصفها نظاماً ثابتاً مكوّناً من أنساق متعددة: معجمية وبنائية... إلى كونها إمكانية للتخاطب والبحث عن الآخر في إطار اللقاء الوجودي بين الذوات الإنسانية؛ ومن هنا اكتسب هذا المصطلح هذه الصفة المفهومية. وإذا انتقلنا خطوة أخرى إلى الأمام لننظر في مصطلح الخطاب وقد تحدد بكونه: (أدبياً)؛ فهذا يعني أننا أمام خطاب بهُوية خاصة؛ أي تواصلاً يُوظّف تقنيات وأساليب ترتبط بالأدبية، وتخضع لصفاتها البنائية، فالأدب صياغة فنية جمالية، ولا يمكن له أن يتحقق من دون هذا المبدأ الذي يشكّل أصل هويته، وبه يتعرّف ويتحدد. وعندما يكون الخطاب أدبياً؛ فهذا ينتقل بنا من تصور عام وُضع الخطاب فيه في أول حديثنا أي أنه فعل تواصلي لغوي بين مرسلٍ ومتلقٍ في إطار اللغة عموماً، أما إذا جئنا نفحص الخطاب الأدبي انطلاقاً من فكرة التواصل فإننا سننتقل بالتصور السابق إلى مستوى أكثر تحديداً؛ ومن ثم أكثر خصوصية؛ ذلك أن الخطاب الأدبي هو تواصل بين طرفين عبر رسالة هي النص الأدبي مهما كان الجنس الأدبي الذي يُسجل فيه: قصيدة أو قصة قصيرة أو غير ذلك، وهذا يقودنا بالضرورة إلى إظهار أن الطرف المرسل في التواصل الأدبي هو مستخدم خاص للغة، وموظّف خاص للغة الفنية والنظام البنائي الجمالي، ونريد به هنا (المبدع) فهو الطرف المرسل للنص الإبداعي؛ وبالتالي هو المستوى الأول من مستويات التخاطب الأدبي؛ والمتلقي في التواصل الأدبي هو حالة مفتوحة على تنوع ذوات المتلقين؛ ذلك أن التخاطب الأدبي لا يستهدف متلقياً محدداً، وإن توجّه إلى مخاطب معين، وإنما هو تواصل أوسع وأشمل ينفتح على اللامتناه واللامحدد من المتلقين، وهو معنىً يُغاير المألوف في التخاطب اللغوي الاعتيادي الذي يكون فيه المُخاطَبُ قابلاً للتحديد والحصر. والتلقي في حالة التواصل الإبداعي مفتوح أيضاً على الزمن؛ فهو تلقٍ عبر زمني يُستحضر فيه النص الإبداعي في أزمنة مختلفة؛ فنقرأ لزهير بن أبي سُلمى اليوم ما قاله قبل مئات السنين، ونقرأ اليوم ما يقوله الدكتور وليد قصّاب حديثاً، وسيقرأ اللاحقون ما كتبه الدكتور جابر قميحة؛ ومن هذا المنطلق يكتسب الخطاب الأدبي مفهوماً نوعياً يجعله تواصلاً بشرياً عبر- تاريخي، وإذا تُرجم الخطاب الأدبي الإبداعي إلى لغة أخرى؛ تأتّى له أن يتسرب إلى وعي أمم وأعراق أخرى غير الأمة التي نشأ في إطارها هذا الخطاب الإبداعي، وهنا إضافة أخرى إلى حساسية هذا الفعل (الخطاب الأدبي)، وهي حساسية تعكس حيوية دوره الإنساني، وما يمكن أن يُحدثه من فارق في التأثير على تشكيل وعي الأفراد والجماعات البشرية. يستثمر الخطاب الأدبي السبل والوسائل الفنية الجمالية لإحداث تأثير أكثر فاعلية على المتلقي، وهذا صحيح على مستوى شكل هذا الخطاب، كما هو صحيح أيضاً على مستوى مضامينه. فالرسالة في التواصل شكل ومضمون، كما أن النص الأدبي في التواصل الأدبي شكل ومضمون أيضاً، وعند اقترابنا من مسالة المضمون في الخطاب الأدبي فإن ذلك يدفعنا إلى الحديث عن أن هذا المضمون هو حاصل معانٍ وأفكار وقضايا أنتجتها تجربة إنسانية عاشها المبدع ودفعته إلى القول الإبداعي، فلا يستقيم للخطاب الأدبي حضور بالصورة التي رسمناها فيما مضى ما لم يطرح في ثناياه مقولة قول يستحق أن يُقرأ ويُتلقى، وقد شكَّلت هذه القضية موضوع نقاش طويل، وأحياناً متوتر بين النقّاد والمشتغلين على الأدب قديماً وحديثاً؛ منذ الجاحظ في القرن الثالث الهجري مروراً بعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، إلى أطروحات الرومانسيين والواقعيين العرب من الذين تأثروا بالفكر الغربي، وقد تحكمت في هذا الحوار أحياناً نزعة حديّة معيارية اتجهت إلى التفضيل والتغليب؛ فقال فريق بتقديم الشكل على المضمون، وقال فريق آخر بعكس ذلك، أي بتقديم المضمون على الشكل، ولكننا نرى أن مفهوم الخطاب الأدبي يُعد خير ضامن لتفادي إشكالية الانحياز إلى هذا المستوى في النص الأدبي على حساب المستوى الآخر؛ ذلك أن للخطاب مفهوماً إجرائياً، أي يمثل مبدأ التوظيف ركناً مركزياً في صياغة هذا المفهوم (الخطاب)، وإذا انتفى هذا الركن المركزي تعذّر اكتمال مفهوم الخطاب، الذي هو تخاطب (مادة خطب) عبر قولٍ له شكل يتجسد من خلاله المعنى ويتعين، وعبر معنى يُحيل عليه هذا الشكل ويعود إليه، ثم يأتي بعد ذلك نقاش من نوع آخر يتعلق بتقدير مستوى الأداء الشكلي، أو مستوى قيمة المضامين وجودتها، وهنا موضع التمايز بين الخطابات الأدبية، وموطن اختلاف درجات تقدير الموهبة الأدبية ومستوى الأداء الإبداعي. ثم نقول أيضاً إن اقترابنا من منطقة الجانب المضموني في الخطاب الأدبي يُفضي بنا إلى نسقٍ آخر يكوِّن المقولة التي صدّرنا بها هذا الحديث (الخطاب الأدبي الإسلامي)، وكأننا أمام تراتبية بدأت من مفهوم الخطاب، ثم انتقلت إلى مفهوم الخطاب الأدبي؛ لتصل بنا إلى الخطاب الأدبي الإسلامي الذي جاء تعريفه عند المهتمين بنظرية الأدب الإسلامي على النحو التالي: يقول الأستاذ سيد قطب موضحاً مفهوم مصطلح الأدب الإسلامي: (هو التعبير الناشئ عن امتلاء النفس البشرية بالمشاعر الإسلامية)[22]، ويتحدث الأستاذ محمد قطب عن الفن الإسلامي قائلاً: (هو التعبير الجميل عن الكون والحياة والإنسان، هو الفن الذي يهيأ اللقاء الكامل بين الجمال والحق، فالجمال حقيقة في هذا الكون، والحق هو ذروة الجمال. ومن هنا يلتقيان في القصة التي تلتقي عندها كل الحقائق في الوجود)[23]. ويعرّف الأستاذ عبد الرحمن رأفت باشا الأدب الإسلامي بأنه: (هو التعبير الفني الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان عن وجدان الأديب تعبير ينبع من التصور الإسلامي للخالق - عز وجل -، ولا يجافي القيم الإسلامية)[24].ويقول الدكتور مأمون جرّار عن الأدب الإسلامي أنه: (الأدب الذي يقدم التصور الإسلامي للكون والحياة والإنسان؛ وهناك يجب التركيز على شرط الأدبية والإسلامية معاً)[25]، وفي السياق نفسه يقول الأستاذ مصطفى بن عمور عن الأدب الإسلامي: (هو تلك المادة اللغوية التي تتسم بإبداعية خاصة تنسجم مع التقاليد المؤسسة لمعنى الأدبية، وهو مادة ذات شكل مرن يساير حركة الإبداع بما يُغنيه ويحقق جمالياته وديمومته، وشكل يحتوي مضامين وجدانية وشعورية مرتبطة بالإسلام رؤية وتصوراً لا بمعنى القواعد والقوانين ولكن بمعنى الإحساس الذي يفرزه الوجدان من خلال تمثله لتلك الرؤية، وذلك التصور..)[26]. تنطق النصوص التي قدّمت مفهوماً للخطاب الأدبي الإسلامي بأطروحة تنظر إلى هذا الخطاب من خلال مستويين مركزيين: مستوى الشكل الأدبي، وهو ما يميّز الخطاب الأدبي عن غيره من الخطابات الأخرى، وقد جرى التشديد على هذه الصفة عند كل من: الأستاذ محمد قطب (التعبير الجميل)، والأستاذ عبد الرحمن الباشا (التعبير الفني)، وعند كل من الأستاذين مأمون جرّار ومصطفى بن عمور باستدعائهما مصطلح (الأدبية) الذي يترجم عن قراءة حديثة للرؤى والمفاهيم النقدية وبخاصة عند النقّاد الغربيين من مثل رومان جاكبسون وتودوروف اللذين ينظران إلى الأدبية بوصفها: القوانين البنائية الداخلية المؤسِّسة لنظام الخطاب الأدبي[27]. أما المستوى الآخر الذي جرى التشديد عليه في التعريفات السابقة، فيقترن بفكرة (الرؤية والتصور الإسلاميين) فالأدب الإسلامي فن كما أخبر عن ذلك الأستاذ محمد قطب في تصور أشمل، ولكنه فن يخضع لمرجع معين هو: الرؤية الإسلامية للوجود وللإنسان، و الأدب الإسلامي سلوك لغوي جمالي يتأسس على مقررات وضوابط العقيدة الإسلامية بوصفها تصوراً شاملاً يستوعب كل تفاصيل الوجود، ويضبط حضور كل مكوناته، ويوجّه العلاقات بين عناصره، وبالذات الإنسان من جهة علاقته بخالقه - عز وجل - وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالآخرين من عناصر الوجود الأخرى، فالأدب الإسلامي مكوِّن من مكونات المشروع الإسلامي، وهي الفكرة التي يعزِّزها الأستاذ أنور الجندي قائلاً: (والواقع أن الأدب على ما أطلق له الفكر الإسلامي من حريته الكاملة في التعبير والخيال والفن؛ فقد جاء ذلك في إطار حركة الفكر نفسه، وفي تقدير كامل للأخلاق والدين والقيم الأساسية من توحيد وحق وعدل)[28] وفق (مفهوم واضح قوامه أنه (الأدب) غير منفصل عن الفكر الإسلامي كله كمفهوم أساسي)[29]. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |