( شعب يوليو ) من روايات جائزة نوبل لكاتبة جنوب أفريقيا: نادين جورديمر - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         فوائد الحج في الدنيا والآخرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          النهضة العلمية الإسلامية في إفريقيا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ}ا (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 225 - عددالزوار : 22977 )           »          شرح طريقة فهرسة المسائل العلمية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 55 )           »          أصول في دراسة مسائل التفسير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 125 )           »          إقامة الصلا ة للمنفرد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 45 )           »          بيان سنن الفطرة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 38 )           »          موضع سجود السهو من السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 36 )           »          قيادة المشكلات الزوجية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 67 )           »          مرصد الأحداث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 68 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى اللغة العربية و آدابها ملتقى يختص باللغة العربية الفصحى والعلوم النحوية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 27-07-2022, 04:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,814
الدولة : Egypt
افتراضي ( شعب يوليو ) من روايات جائزة نوبل لكاتبة جنوب أفريقيا: نادين جورديمر

( شعب يوليو ) من روايات جائزة نوبل لكاتبة جنوب أفريقيا: نادين جورديمر
وليد سميح عبدالعال



(بدء)


حين شرعت في قراءة الرواية ظننت أنها ستحمل تعاطفا مطلقا مع قضية السود ومواقفهم، لكن صدمتني الصراحة، وإن شئت قل التجرد، في وصف العلاقات البيضاء السوداء (من كاتبة بيضاء) على هذه الأرض التي ابتليت بوجود هاتين الطائفتين المتنافرتين.



إن الأمر أعمق من المتخيل، والعلاقات تحمل في طياتها وجهات نظر كل طائفة في الأخرى، وتستدعي عملا كثيرا لمحاولات التقريب وإيجاد أراض مشتركة وأفكار مشتركة قد تحدث بعض التغيير.



يمكن القول عن (شعب يوليو) إنها رواية بالمعنى الحديث، حيث لا عقدة تحل، وإنما هي أحداث تزداد تشابكا فقط، أو هي فصل في حياة بعض البشر. وربما كانت كذلك لأن الأحوال في جنوب أفريقيا قبل 1990م كان هذا شأنها دوما حيث لا تنتهي الأمور إلى حلول حاسمة، بل مزيد من التشابك على اختلاف صوره الذي يخف شيئا ليحدث بعده مزيدا من التشابك.



تنتهي رواية (شعب يوليو) ولا يظهر في الأفق حل للعائلة البيضاء لمغادرة قرية يوليو، بل يظهر في نهاية الرواية شيء من الاعتياد والمقاومة عند (مورين) بطلة الرواية، وكأن في ذلك إشارة إلى وجوب التعايش وقبول الآخر بكل ما يحمله كل طرف للآخر من مؤاخذات ومشاعر متناقضة أو محايدة.



إن (جورديمر) بأسلوبها الغامض شيئا، ترصد بطريقة تسجل التفاصيل الدقيقة هذه العلاقات الشائكة بين جنسين بشريين متناقضين يرى أحدهما نفسه أنه الأكثر تحضرا وإن زعم غير ذلك، ويرى الآخر نفسه أنه أقل وأدون وإن حاول غير ذلك.



هذه الرواية حلقة من حلقات هاجس (جورديمر) الأكبر في رصد العلاقات البيضاء السوداء في ذلك المجتمع المختلف الغريب عن باقي مجتمعات العالم.



ولعل هذا التلخيص -الذي لا يغني عن قراءة الأصل- يشجع على قراءة الرواية كاملة



(ملخص الرواية)


عائلة (سميلز) المكونة من زوجين وثلاثة أطفال صغار لم تجد أمامها من سبيل للفرار من لهيب الصراع المتفجر بين الحكومة البيضاء في جوهانسبرج والثوار السود، إلا أن تلجأ إلى خادمها الأسود المخلص (يوليو) لتنتقل معه إلى حيث يعيش هو وأولاده وعشيرته.



كانت العائلة مكونة من الأب (بامفيلد سميلز) المهندس المعماري والأم (مورين هذرنجتون) وثلاثة أطفال صغار (فيكتور وجينا ورويس).



ركب الجميع العربة (الكارافان) [التي تحوي مكانا للنوم والعيش كغرفة صغيرة] التي كان (بام) قد اشتراها للمتعة والانطلاق في رحلات للهو والصيد وانطلقوا لبغيتهم.



كانت الأحداث متفاقمة بين البيض والسود بصورة شديدة وجاءت اضطرابات 1980م بعد ما سبقها من أحداث في (سويتو) 1967م معبرة عن غضب السود ومحاولاتهم المستمرة لنيل حقوقهم وكرامتهم، واستعانت الحكومة بالقوات المحلية وتعزيزات من المهاجرين الروديسيين البيض وبعض المرتزقة.



الرصاص والانفجارات وقذائف الصواريخ باتت تنذر بخطر الموت والتشريد لأي أبيض في منطقتهم، فلجأوا إلى منقذهم الأسود (يوليو).



تحايلوا طوال الطريق بإطفاء الأنوار حتى يصلوا إلى مكان آمن، وكان يوليو هو دليلهم في أثناء الرحلة لتفادي جولات قوات الدورية، وكان علم (يوليو) بمناطق توزيع البنزين خلف الجراجات والمجمعات السكنية وسيلتَهم لإكمال السير. في كل مرة يذهب (يوليو) ومعه أوراق مالية من مدخرات مورين وبام ويعود وفي حوزته البنزين والماء والطعام.



استمرت الرحلة ثلاثة أيام، وكان حقها أن تقطع في يوم واحد، وقد ظنوا خلالها أنهم لن يصلوا إلى الأمان، وكان يوليو هو المتصرف والمسئول الأوحد فيها، وقد أشعل النار في بعض الطرق ليبعد الأسود عن مسار العربة في الليل عند المناطق المتاخمة للغابات. وأخفوا العربة بعض الوقت عند مرور طائرتين من طائرات الثوار السود.



وصلوا إلى المكان المنشود.. لم يكن موطن (يوليو) قرية بالمعنى المفهوم، بل هو تجمع سكني من بيوت طينية يضم أعدادا من عائلته الممتدة الفروع.



كان (بام) يتساءل عن موقف هؤلاء من وجود عائلة بيضاء بينهم، فأجابه (يوليو) بأنهم قد تركوا الأمر له، وكانت العربة تلفت انتباه الجميع لأنها الدليل الحي على وجودهم بينهم.



ونظرت (مورين) إلى الأطفال وكانت قلقة من الأمراض التي قد توجد في هذا المكان، وحين وقع نظرها على العربة فكرت أن العربة هي سفينتهم التي أقلتهم لهذا المكان البعيد، وقد يدب فيها الصدأ والبلى إذا لم تبدأ رحلة العودة سريعا.



استقبلتهم عشيرة (يوليو) بود وتعرفت العائلة البيضاء زوجة (يوليو) وأقرباءه، لكن زوجة (يوليو) بعد ذلك سألته عن سبب إتيانه بهم إلى هنا، قال (يوليو): كان عليهم أن يخرجوا..إنهم يحرقون منازلهم والبيض يقتلون في منازلهم.



وأخبرها عن طائرة للبيض حاولت الإقلاع من المطار وأصابتها قذيفة من قذائف المواطنين السود. لم يكن (يوليو) يعرف هل اقتنع قومه بما فعل، لكن أحدا لم يتكلم، فقط كانت زوجة (يوليو) تفكر في أن الأموال التي كان يرسلها كل شهر من عند العائلة البيضاء قد انقطعت، فالعائلة البيضاء هاهي بينهم الآن..!



ساعد (بام) في عمل قاعدة لصهريج الماء حتى يحتفظ بماء المطر كمصدر طيب للمياه. وكان يستمع للراديو طوال الوقت ليتابع الموقف والأحداث المتسارعة والاضطرابات التي طالت كل مكان. وفي مثل هذا النوع من الأماكن ومثل هذه المعيشة تساءل الولد الأصغر (رويس): ألا يمكننا أن نذهب إلى السينما..!!



فكرت (مورين) أن الأموال هنا لا تعني شيئا بالنسبة لهم، بل لا تعدو أن تكون كقصاصات الأوراق، أما بالنسبة للقرويين فهي تعني الكثير؛ حيث يضعونها في أماكن آمنة ويحفظونها في خرق معقودة. كانت قد جلبت معها كتابا واحدا للقراءة، لم ترد أن تبدأ قراءته ليظل معها شيء تريد أن تقرأه، فإذا قرأته سريعا وبقوا هنا فماذا تفعل؟.. بعد مدة شرعت في قراءة الكتاب، كانت رواية لكن أن تتخيل كونها في زمن آخر ومكان آخر وحياة مختلفة - وهي المتعة التي تجدها في قراءة الرواية - لم يكن ذلك ممكنا في هذه الحياة الضيقة.. حدقت في ظلام كوخهم طويلا حتى تبينت الأشياء وأماكن النوم والمرآة على الحائط الطيني. تذكرت فتاة سوداء كانت تخدمهم أيام الدراسة تدعى (ليديا)، وكانت (مورين) قد عادت في ذلك اليوم خلف دراجة أحد زملائها وطلبت من (ليديا) ألا تخبر أحدا بالمنزل فقالت لها: كيف أخبرهم.. أنت صديقتي الحميمة..! وفي يوم ما التقط مصور فوتوغرافي صورة لهما مورين وليديا وكانت الأخيرة قد التقطت حقيبة مورين ووضعتها فوق رأسها ووضعت يديها حول وسطها دون أن تفقد توازن الحقيبة. وعدهما المصور بأن يرسل إليهما الصورة.



لكن مرت سنوات ولم تأت الصورة، ووجدت (مورين) الصورة بعد ذلك في كتاب بعنوان (لايف) حول جنوب أفريقيا مكتوب فيها (مواقف بيضاء وأساليب الحياة): صورة جميلة لتلميذة مدرسة بيضاء وامرأة سوداء تضع الحقيبة المدرسية للفتاة على رأسها..!



دُعي (بام) لتناول شراب في أكواخ أقارب (يوليو)، وكان (يوليو) جالسا يخبرهم عن مواقفه ونوادره مع هذا الرجل الأبيض الذي يجلس بينهم الآن، لكن (بام) عاد لكوخه متبرما يريد النوم من أثر الجلسة. استلقى للنوم وكانت هي تتحدث عن أوراق التواليت التي يجب أن يلقيها الأطفال في مكان بعيد حتى لا تلوث المكان، وقد يصابون بالملاريا، لكنه كان قد أتى بأقراص مضادة للملاريا ليتناولوها لكن بدا أنه لم يبق منها إلا القليل.



توقفت محطة الراديو عن البث لمدة 24 ساعة، ثم عادت للبث مرة أخرى دون تعليق. ما زالت الأمور كما هي، إذا تغلب السود فستتصاعد الموسيقا العسكرية وسيكون هناك اسم جديد للبلاد. كان الخبر عن استيلاء قوات السود على فندق من ذوات النجوم الخمسة. استيقظ (بام) على صوت محرك العربة فهبت (مورين) التي كانت متيقظة إلى مكان العربة كانت تتحرك مغادرة وشاهدت رأس رجلين أسودين من الخلف.. كانت المفاتيح مع (يوليو). قام (بام) ليسأل بعض الرجال لم يكونوا يعرفون سوى أن (يوليو) ذهب مع أحد الرجال، وسألت (مورين) عن المفاتيح فقال إنه هو من أعطاها له ولم يكن عنده إجابة إذا سألته لماذا أعطاه المفاتيح..



كانت (جينا) الصغيرة تحمل طفلا أسود رضيعا كأم صغيرة، قالت لهما: الطفل يريد العودة إلى أمه. أعاداه لكوخ أمه وعاد (بام) وهو يفكر في حالهم.. البقاء أو الذهاب.. أدار مؤشر الراديو، كانت هناك أصوات غضب جهنمي، قالت له: أنت تبدد حجر البطارية. أناما الأطفال على السرير بعيدا عن الأرض الموحلة للكوخ؛ لأن المطر كان ينهمر غزيرا في الخارج، ومضت ليلة ممطرة أخرى. في الصباح استيقظت (مورين) على صوت الأطفال يسعلون كما يسعل الأطفال السود، ورأت (بام) يصب الماء المغلي على أوراق الشاي وأخذ جهاز الراديو وحرك مؤشره.. عدد من صواريخ سام سقط على المدينة، مبنى شركة تأمين أصيب بأضرار بالغة، طيران منخفض نتجت عنه خسائر فادحة وتسبب في قطع الاتصالات بين الجهتين الشرقية والغربية، محاولات لاحتلال إستديوات التليفزيون في (أوكلاند بارك) تصدت لها قوات الكوماندوز بقيادة الكولونيل (مايك هوار).



كانت العائلة قد هربت من الخطر المحدق بهم.. من ضرورة الدفاع عن حياهم باسم مبادئ لم يعتنقوها في مجتمع أبيض مفكك هم غير مقتنعين به.



سمعا صوت (يوليو) عند مدخل الكوخ.. اعتاد الطرق على الباب قبل ذلك يطلب الإذن بالدخول، لم يكن هناك باب بل قطعة من الخيش..



كان قد أتى لهم ببعض الخشب. قال: أشعلوا النار في بعض الخشب، سيكون اليوم باردا بعض الشيء. وأخذ يشعل نار الموقد في حين تتأمل (مورين) (بام) وهو يغالب نفسه في إظهار اعتراضه على ما فعل خادمه، قال: أين كنت أمس، ما الحكاية؟ قال (يوليو): ذهبت إلى بعض المحال التجارية..!



كانت المسافة بينهم وبين المحال التجارية تزيد عن 40 كيلومترا..! قال مكملا: لقد أحضرت زيت البرافين والملح والشاي والمربى وأعواد الكبريت.. كل شيء.. وعندما يكف هطول المطر تأتي معي لنحضر الأشياء من هناك.



قال (بام): هل سألك أحد عن شيء.. ماذا يحدث هناك؟ ابتسم (يوليو) وقال: الكثيرون يعرفونني ويرحبون بي، أخبروني أن هناك قلاقل كثيرة، والسلع أسعارها ترتفع، وقد تحتاج لقتال حتى تحصل على سلعتك.



ارتدى (يوليو) معطف المطر مرة أخرى وتهيأ للخروج، لكنه وضع يده في جيبه وأخرج حجري بطارية صغيرين لجهاز الراديو أعطاهما (لمورين)، قالت: كم هو جميل منك أن تتذكر..!



كان قد سمعها تقول هذه العبارة عند قدوم أصدقائها جالبين معهم زهورا أو حلوى الشيكولاتة. ابتسم ابتسامة عريضة وحنى رأسه كما كانوا يفعلون.. الآن تسمع كلاما لطيفا وتزهو بنفسك يا (يوليو)..



كان (يوليو) بعد ذلك يتعلم قيادة العربة وكان يعلمه شاب أسود يدعى (دانيال).. ولم يكن (بام) يتصور أن يفعل (يوليو) شيئا يخرج عن حدود اللياقة بهذه الطريقة، فهو لم يخبره بذهابه للشراء بالعربة، ولم يخبره بتعلم قيادتها. قال ذلك (لمورين) فقالت: نحن ندين له بكل شيء.! قال إنه كان ليعطيه المفاتيح في أي وقت ويعلمه القيادة لكنه لم يسأل. وحين جاء (يوليو) لهم ببعض الخشب قال (بام): أتعبت نفسك، أستطيع قطع الخشب بنفسي، فرد (يوليو) قائلا: إن النسوة يجلبن الخشب دوما.. وأرادت (مورين) إحضار حصير أرضية العربة المطاطي حتى تضعه تحت المكان الذي ينام فيه رويس (الطفل الأصغر لهما) قالت (ليوليو): لكن المفاتيح كانت معك..!



تحدثت مع (يوليو) منفردين وكانت هي تفهمه أكثر من زوجها، ذكرها (يوليو) بأنه هو من يحضر لهم الطعام ولأطفالهم، قالت: طبعا سأعيد مفاتيح العربة لك..



إحساس مؤلم بدائي غريب ومعقد يربط بينه وبينهم يتقاسمونه في قسوة.. تحولات فجائية في عمق روحها تتحول من موقع الظالم إلى موقع الضحية.. تحولات في عمق روحها وروح زوجها وأطفالها. في اليوم التالي أعادت له مفاتيح العربة، للحظة رسمت يده صورة يد في حالة أخذ وتقبل عطاء.. تراجعت الأيدي.. اتخذت يده شكل قبضة أطبقت على صوت صلصلة المفاتيح وأسكتتها. قال (يوليو) وهو ينظر إليها: أنت لا تحبين أن أحتفظ بالمفاتيح.. كانت كل مفاتيح بيتك معي، كنت تثقين بخادمك المخلص لمدة خمسة عشر عاما. قالت: المفاتيح ليست معك بصفتك خادما، وإنما كصديق عليه أن يسأل ليأخذ ما يعطونه إياه.



بعد نقاش بدوا فيه كالمتبارزين انصرف (يوليو) والمفاتيح في جيبه، ومضى وهو يحرك رأسه كرئيس عمال يتفقد سير العمل..!



كان (بام) قد ذهب للصيد ببندقيته وكان معه الشاب دانيال. رجعا بصيدين أحدهما كبير والآخر صغير، حين دخل الكوخ همست (مورين) في أذنه قائلة: أعطهم الكبير، ثم أردفت تقول: الصغير مذاقه أفضل..



أكلت كل الأكواخ من اللحم هذه الليلة، وأحس الجميع بالسرور الذي يحدثه اللحم، ولكن زوجة (يوليو) لم تبد اهتماما كبيرا بذلك، قالت: نأكله ولا يبقى منه شيء للغد.. أريد سقفا جديدا لبيتي يقيني هطول المطر. قالت: هؤلاء البيض لا بأس بهم.. لكن المستوطنين البيض يجلبون المشاكل. كانت تعرض بذهابهم.. قال بغضب: عندما أقول يذهبون يذهبون، وعندما أقول يمكنهم البقاء عليهم أن يبقوا. كانت زوجته تذكر أيام سفره وإرساله النقود لهم، وكيف كانت الزوجات في هذا المجتمع على مدى الفصول يزرعن ويحصدن في الصيف الممطر والشتاء الجاف، وينتظرن ما يبعث به الرجال المسافرون، فالنقود يجب أن تأتي في موعدها..



بينما كان (بام) و(مورين) في كوخهما جاء رجل ليستعيد جوالا فارغا سرقه الأطفال. غضب (فيكتور) من هذه الكلمة وقال: يجب ألا يقول إنني سرقت، أنا أخذت فقط شيئا ألقي به بعيدا ولا أحد يريده. كان الجوال من الأشياء القيمة في هذا المجتمع ومما يحتاج إليه الناس. أعطى (بام) الرجل رندين كاملين مقابل الجوال..! غضب فيكتور لأنه بهذين الرندين كان يستطيع شراء قطعة خزفية جميلة. قال فيكتور: أنا أعرف شيئا واحدا.. ليس كل الأفريقيين طيبين مثل (يوليو)..!



بعد الظهر ذهب (بام) لصيد السمك وعاد في السابعة ليسمع نشرة الأخبار. كان التشويش يجعل من الاستماع مغامرة فظيعة فضلا عن تلعثم مقدم النشرة، ظن (بام) و(مورين) أن هذا الرجل هو من تبقى في مبنى الإذاعة ليقوم بهذا العمل.. في الليلة الماضية دُمر مبنى اتحاد العمال في بريتوريا، ربما يكون البيض هم من دمروه منعا لوقوعه في أيدي السود.



أغلق (بام) الراديو وأخذ ينظر لزوجته.. تبدو في هيئة غير مرتبة غير نظيفة.. هرشت جلدها، كانت تقف مثل امرأة في قسم الغسيل بمؤسسة اجتماعية. لم يصدق أن هذا العنق الجميل تحت الشعر الطويل يمكن أن يصبح مثل عنق والدها عندما كان يلعب معه البولنج في صباح الأحد..!



كانت (مورين) تذهب إلى الحقول مع النسوة لبعض المساعدة، لكن معظم النسوة تجاهلنها، وكانت ترى أم (يوليو) تجمع جذور النبات وكأنها تعرف مواضعها بحاسة خاصة. ملأت (مورين) يديها بما جمعته من الحقل ووضعته في حقيبة بلاستيكية قديمة وربطتها بحبل وعلقتها بكتفها مثلما تفعل النسوة اللاتي بغير سلال. رفعت طرف ثوبها عن ساقين بهما ندوب وشعيرات دموية، ضحكت زوجة (يوليو) من ساقيها فبادلتها (مورين) الضحك.. لماذا على المرأة البيضاء أن تخجل إذا ما شوهدت في لحظة ضعف؟!



تناولت العائلة الخضراوات في هذه الليلة وطلب فيكتور المزيد، فقال له أبوه: أخذت نصيبك.. نتعب للحصول عليه..!



خرجت (مورين) من الكوخ وسارت على غير هدى. أمسكت بغصن صغير وراحت ترسم خطوطا على الأرض. وجدت يوليو أسفل العربة هو ودانيال يقومان ببعض الإصلاحات. تبادلا بعض الحديث قالت: توقف إرسال الراديو.. كل شيء يسير من سيء إلى أسوأ، قتل، حرق، فقط نأمل أن تعود الأمور كما كانت.



قال: تعود..؟

كانت مورين تستشعر ما في ذهن يوليو وكيف تغير تعامله ونظرته بعد أن أتوا معه إلى قريته. كان دوما يذكرها بعمله الطويل عندهم وإخلاصه لهم. كان ذلك الأمر سببا في شعورها بالإذلال. عاد (يوليو) لإصلاح العربة فرأته يقوم بذلك بطريقة خاطئة، تماما مثلما كانت طريقته في وضع الحقائب مقلوبة على وجهها في السيارة. وكانت تمنع (بام) وقتها من أن يقول له شيئا يخدش شعوره. قالت له: لم تكن قادرا على إصلاحها في أي وقت، دع (بام) يفعل ذلك. صمت قليلا ثم فاجأها بقوله إن أحدهم قد حضر ويريد أن يذهبوا هي وزوجها والأطفال إلى مركز الشرطة. سألته لماذا لم يقل من قبل إن عليهم أن يذهبوا إلى مركز الشرطة؟.. نظر إلى قدمها المتسخة.. وجهها النحيل.. شعرها المشدود برباط من المطاط.. ثوبها الذي حال لونه..



قال: الآن أقول لك..!



ليس الغضب ما شعرت به (مورين) بل الصراع.. الدخول في علاقة خانعة معه. شيء لم يحدث لها حتى مع زوجها.



في الصباح استعد الجميع للذهاب لمقابلة رجل الشرطة.. كان باب العربة المجاور لعجلة القيادة مفتوحا.. اتجه (بام) للباب الأخر لكن (يوليو) كان هناك، توقف (بام) مترددا ثم رجع تحت أنظار (مورين) و(يوليو) ليتخذ مكانه خلف عجلة القيادة، وكان (دانيال) أيضا في العربة معهم بدون دعوة، وسريعا شرع يلعب مع الأطفال في الخلف.



في الطريق مروا على بعض منشآت بنيت بالطوب. كان (بام) كمهندس معماري قد أعد عن بعضها بحوثا بعنوان (احتياجات العمارة الريفية الأفريقية). كان دانيال قد أدار الراديو لتنبعث أصوات النشرة باللغة البرتغالية.. نزل يوليو من العربة وغاب بعض الوقت وعاد يتقدمه رجل يرتدي الزي الرسمي، قال بام:

بامفورد سميلز وزوجتي وأطفالنا.



أبدى الضابط تعجبه من رجل أبيض يلجأ بعائلته إلى كوخ خادمهم..! كان الضابط يريد أن يعرف ماذا يجري في جوهانسبرج، وأن يسمع من شاهد أبيض ما انتهت إليه الأوضاع، قال لهم: إن حكومته أخبرته أن الروس والكوبيين يريدون أخذ بلاده. قالوا له: إن قوات الشرطة السود انضموا للقوات المتحاربة السوداء في سويتو وغيرها.



بعد حوار طويل طلب الضابط من (بام) أن يأتي ببندقيته ليعلمه ويعلم قومه كيف يستخدمونها..!



قال الضابط: قاتل معنا هؤلاء الناس من سويتو والروس والكوبيون الذين ينوون الهجوم علينا..!



قال (بام) مندهشا من سذاجة تفكيره وغرابته: ببندقيتي..؟!

لا لن نقتل السود شعب مانديلا



لا نسمح للحكومة أن يقتل بعضكم بعضا



ثم قال (بام) آخرا:

أنا لا أطلق الرصاص على أحد من الناس..



سألهم الضابط إن كان (يوليو) يعمل على راحتهم فأجابوه أنه يوفر لهم كل شيء.



وقالت مورين: إننا ندين له بكل شيء.



حين عاد الجميع في العربة كان هناك تعليق في رأس كل من مورين وبام: إن هؤلاء الأفريقيين من ساكني القرى أمرهم غريب.. لا يريدون مخالطة أحد من الشعوب لا هذا ولا ذاك.



لم تعد مورين يعتريها القلق على الأطفال، فبعد أن تطعمهم يعرفون كيف يعتنون بأنفسهم كالأطفال السود. وكانت (جينا) تُرى كثيرا تلعب مع (نيكو) الطفل الأسود الصغير أو يمشيان متشابكي الأيدي فيبدوان كعاشقين صغيرين.



كان بام كالعادة يعالج الراديو ليتسمع الأخبار. أخبر مورين عن طائرة أمريكية سيرسلونها لإنقاذ الرعايا الأمريكيين في جنوب أفريقيا. لم يكن من الضروري أن تذكره أنهم والأولاد ليسوا أمريكيين ولا أوروبيين.



قال لها عن الضابط: لقد اعتقدت أنه سيخبرنا بضرورة الرحيل.



تحدثت زوجة يوليو معه عن زيارتهم للضابط، هل سيوفر لهم الضابط مكانا بقريته.



لم يجبها يوليو بإجابة تريحها كعادته وقال لها: عندما ينتهي القتال سآخذك لتقيمي معي أنت والأطفال. ذكر نقوده التي تركها في البنك، ولم يستطع الحصول عليها، كانت أكثر من مائة جنيه. كانوا ما زالوا يجرون حساباتهم بالعملة القديمة دون العملة الجديدة (الرند).



بعد الظهر تعالت أصوات تصم الآذان، كانت أصوات (جامبا جامبا) ذلك الصندوق الأحمر الذي لا يعدو كونه مكبر صوت يعمل بالبطارية مع جهاز تسجيل وأشرطة مسجل عليها موسيقا وأشياء، كان يعد وسيلة ترفيه متنقلة.



اجتمع الناس لمشاهدة الاحتفال بجامبا جامبا حتى العائلة التي تساءلت عن المناسبة هل هو زفاف، فقيل: ليس حفل زفاف.. في بعض الأحيان نقيم حفلا.



بدأ الناس في الهزل والمرح والشراب. تجولت العائلة البيضاء بعيدا عن المهرجان قليلا، وعندما عادوا إلى الكوخ كانت البندقية قد اختفت وكذلك صندوق الأعيرة النارية..!! كان فيكتور دوما يسأل عن العبث بهذه الأشياء لكنه قال بصدق إنه لا يعرف مكانها.



خرجت مورين من الكوخ متوجهة إلى كوخ يوليو لسؤاله عن البندقية. في الطريق وجدت نفسها بجوار النهر بين مجموعة أشجار ضخمة لم تهذبها يد إنسان وبين الثمار التي سقطت من فوق الأغصان على الأرض. أحست بتلاشي الزمان والمكان وسط سكون غمرها بسلامه الثقيل.. وجدت يوليو مستندا إلى جانب العربة، ولاحظ هو أنها تعرفت على الأجندة التي أرسلتها إحدى شركات معدات البناء إلى بام في أحد الأعياد.



قالت: لقد اختفت البندقية.. كانت مخبأة في سقف الكوخ.. عليك أن تعيدها..!!



قال يوليو: متى حدث ذلك؟ كيف يستطيع أحد أن يأخذها؟ قالت: الكوخ مفتوح لكل أحد. ثم قالت: أين دانيال؟ قال: ذهب ولن يعود.



اتضح من الكلام أن دانيال هو من ذهب بالبندقية إلى حيث لا يعلم.



قالت في حدة: يجب أن تعيدها..



اعتراها هياج وحشي ورغبة في تدمير كل شيء، قالت: أنت سرقت بعض الأشياء مني لم أعطها لك: المقص الذي على شكل طائر ومطحنة جدتي.. أفرغت ما في جعبتها ثم انصرفت غاضبة..



لما عادت إلى الكوخ واستلقت على السرير مرهقة، قالت: البندقية مع دانيال، أخذها لنفسه. لكن بام لم يسمعها؛ لأن شفتيها تحركتا بدون صوت..!!



منتصف الظهيرة في اليوم التالي.. كانت مورين سميلز وحدها في الكوخ تستشعر بداخلها تغيرا في درجة الوعي بالأصوات والصور التي تشكل فضاء المشهد.. تخيط مورين فتقا في قميص أحد الأطفال.



فجأة سمعت أزيز طائرة هليكوبتر، وظهرت من بين السحب تضرب الهواء وتقترب من الأكواخ. عندما شاهد شعب يوليو الطائرة اجتاحهم الذعر ولم يكن أمامهم إلا العدو كل إلى مكانه ومأمنه.. بعد قليل ذهبت الطائرة واختفى صوتها بعيدا.



غادرت مورين الكوخ، حثت السير في خطولت متتابعة.. دخلت منطقة الأشجار المتشابكة وركضت نحو النهر.. خلعت حذاءيها وخاضت في النهر كأنها تريد أن تتطهر وتولد من جديد في هذه المياه التي تشبه رائحتها رائحة الأرض.



عبرت إلى الجانب الآخر، وإلى جانب شجرة التين الضخمة وجدت نفسها أكثر صحة وعافية.. لبست الحذاء وأخذت تعدو وتعدو.. صمت يقظ من حولها.. رائحة بطاطس في قدر يغلي.. بيت بجوار الشجرة التالية.. مساحات من العشب.. أشجار شوكية تطرح زهورا ملونة.. تعدو واثقة من نفسها أكثر من أي وقت مضى.. متيقظة حذرة كحيوان وحيد منعزل مسئول عن وجوده.. تصغي إلى الإيقاع الذي يتردد صداه في داخلها.. تعدو إليه.. وتعدو..

- انتهت -








(نادين جورديمر):

ولدت في العشرين من نوفمبر 1923م في إقليم الترانسفال بجنوب أفريقيا. عمرها الآن يناهز التسعين عاما.



عاشت نادين فترة صباها في مجتمع أبيض مغلق لا مكان للسود فيه تقرأ أشعار ريلكه وييتس، ثم اصطدمت بعد ذلك بالواقع.



تلقت دراستها في مدرسة الدير ثم في جامعة ويتوتر ستاند بجوهانسبرج.



عملت في عدة جامعات أمريكية منها جامعة كولومبيا بنيويورك كأستاذ مساعد للكتابة الإبداعية عام 1971م.



حصلت على عدد من الجوائز منها:

جائزة سميث الأدبية 1961م.



جائزة برنجل 1969م.



جائزة بلاك التذكارية 1972م.



جائزة بوكر 1974م.



حصلت في عام 1991م على جائزة نوبل.



قالت عنها لجنة نوبل: (كتاباتها الملحمية الرائعة كانت ذات فائدة كبيرة للإنسانية).



لها ما يقرب من 13 رواية و200 قصة ومقالات كثيرة متنوعة في الأدب والسياسة.



ترجمت رواياتها وقصصها إلى أكثر من أربعين لغة.



(أعمالها):

قصص:

وجها لوجه 1949م

فحيح الأفعى الناعم 1952م

ستة أقدام من البلاد 1956م

غير صالح للنشر 1965م

شيء ما هناك 1985م وغيرها.



روايات:

الأيام الكاذبة 1953م.

عالم الغرباء 1958م.

مناسبة للحب 1963م.

العالم البورجوازي الزائل 1966م.

ضيف شرف 1970م.

ابنة برجر 1979م.

شعب يوليو 1981م.

رياضة الطبيعة 1989م.

قصة ابني 1990م.



ولها كتاب في النقد الأدبي بعنوان (المفسرون السود) 1973م



ولها مذكرات بعنوان (أوقات الحكي: الكتابة والحياة) 2008م



(المراجع):

(شعب يوليو) نادين جورديمر، الدار المصرية اللبنانية، روايات نوبل، ترجمة: أحمد هريدي 1994م.




مقدمة رواية (العالم البورجوازي الزائل) لنادين جورديمر، ترجمة: سمير عبد ربه، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2002م.



موسوعة الويكيبديا، وبعض مواقع الإنترنت.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 76.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 74.35 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.20%)]