فقه النوازل - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أنواع الذهان: ماذا تعرف عنها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 27 )           »          الوقاية من بلع اللسان: 5 نصائح ضرورية! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 22 )           »          7 مشروبات لعلاج الإمساك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          ما هي أسباب الإسهال المستمر بعد الأكل؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 23 )           »          بخاخ النيكوتين: ما عليك معرفته للإقلاع عن التدخين! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 19 )           »          أفضل وأسوأ الأطعمة للمرضعات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          هل تظهر عليك علامات سوء التغذية؟ اكتشف الأعراض بسرعة! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 21 )           »          أعراض تليف الكبد: لا تتجاهل هذه العلامات! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 24 )           »          أخطر أنواع السرطان حول العالم، ولماذا يصعب علاجها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 30 )           »          فواصل للمواضيع . (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 21 - عددالزوار : 95 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام > فتاوى وأحكام منوعة
التسجيل التعليمـــات التقويم

فتاوى وأحكام منوعة قسم يعرض فتاوى وأحكام ومسائل فقهية منوعة لمجموعة من العلماء الكرام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 13-11-2021, 11:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,657
الدولة : Egypt
افتراضي فقه النوازل

فقه النوازل (1)
سعد بن تركي الخثلان

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فمع افتتاح هذه الدورة ومع الدرس الأول في هذه الدورة العلمية، أسأل الله - تعالى -أن يبارك فيها، وأن ينفع بها، وأن يزيدنا جميعا هدى وعلما وتوفيقا، ثم إنني أشكر الإخوة القائمين على تنظيم هذه الدورة في هذا الجامع على ما يقومون به من جهد كبير في تنظيمها، وأخص بالشكر أخي فضيلة الشيخ فهد الحسن الغراب، على ما يقوم به من جهد في تنظيم هذه الدورة وفي غيرها من المناشط العلمية في هذا الجامع، حتى أصبح هذا الجامع بحق منارة من منارات العلم.
أيها الإخوة هذه الدورة العلمية والتي يتوافد فيها أعداد من الإخوة من بلاد شتى، تذكرنا بما أثر عن السلف من الرحلة في طلب العلم، فإن السلف كانوا يرحلون في طلب العلم الشرعي في سبيل تحصيله وجمعه.
وجابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل -رضي الله عنه- رحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديث واحد فقط، من أجل سماع حديث واحد فقط من عبد الله بن أنيس ومكث في هذه الرحلة شهرين، شهرا في الذهاب وشهرا في الإياب، وسافر وحده على بعيره.
ولما وصل إلى الشام اعتنقه عبد الله بن أنيس، فقال له جابر بلغني أن عندك حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخشيت أن أموت أو تموت، ولم أسمعه، فقال نعم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، -قلنا وما بهما يا رسول الله؟ -قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قلنا يا رسول الله وكيف ذلك وليس معنا شيء؟ قال: بالحسنات والسيئات.
هذه القصة ذكرها البخاري في صحيحه معلقا لها بصيغة الجزم لكن أشار إليها مختصرة، ثم لما سمع جابر هذا الحديث رجع إلى المدينة، وهكذا أيضا أبو أيوب الأنصاري رحل من المدينة إلى مصر من أجل سماع حديث واحد فقط، والقصص كثيرة في هذا، ولهذا صنف بعض العلماء في الرحلة في طلب العلم.
وإذا قرأت في ترجمة كثير من علمائنا تجد أنه يذكر في الترجمة ورحل إلى بلاد كذا وكذا وكذا، حتى أصبحت الرحلة في طلب العلم جزءًا من تراجم كبار أهل العلم والمحدثين والفقهاء، ولهذا لا يستكثر الإنسان الحضور إلى مثل هذا المكان ولو أتى من مكان بعيد، وإذا قرأ في تراجم علمائنا وجد أنهم يرحلون إلى ما هو أبعد من ذلك مع أن وسائل المواصلات في زمنهم ليست كوسائل المواصلات في وقتنا الحاضر.
ثم إن العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، كما قال الإمام أحمد قال: طلب العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، ولهذا فإن الاشتغال بطلب العلم الشرعي أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، كما ذكر ذلك أهل العلم، وذلك لأن الاشتغال بطلب العلم الشرعي، نفعه متعد للآخرين، بينما الاشتغال بنوافل العبادات نفعها قاصر على صاحبها.
وقد عقد الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه القيم مفتاح دار السعادة، مقارنة بين العلم والمال، وذكر أكثر من مائة وخمسين وجها في تفضيل العلم على المال، ومن عجائب ما ذكر، قال: حتى الكلاب تشرف بالعلم، فإن صيد الكلب المعلم حلال، بينما صيد الكلب غير المعلم حرام "يَسْأَلونك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ" فإذا كانت الكلاب تشرف بالعلم فما بالك ببني آدم، ولم يأمر الله - تعالى -نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم فقال: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا".
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن لطلب العلم طريقين:
الطريق الأولى: طريق الاجتهاد الشخصي، وذلك بالحفظ والقراءة والتأمل في كتب أهل العلم ونحو ذلك.
والطريق الثانية: أخذ العلم عن أهله مشافهة، وقال: إن هذه الطريق الثانية أنفع الطريقين، وهي المأثورة عن كثير من السلف، والحقيقة أنه لا تغني إحدى الطريقتين عن الأخرى، لا بد من أخذ العلم عن أهله، ولا بد كذلك من بذل الجد والاجتهاد في تحصيل العلم، فإن العلم لا يحصل للإنسان دفعة واحدة وإنما شيئا فشيئا.
ثم إنني أنبه إلى أمر وهو أن بعض الإخوة يحضر دروسا كثيرة وربما دورات كثيرة، ولكنه لا يحصل علما كثيرا، وقد يكون السبب في ذلك أن آلية التحصيل عنده فيها خلل، وذلك أن الناس في الوقت الحاضر قد ضعفت الذاكرة عندهم، ليست كما كان عليه حال العرب من قبل، كان العرب متميزين بقوة الحفظ والذاكرة، حتى إن القصيدة تلقى وهي مكونة من مائتي بيت فأكثر تلقى مرة واحدة فيحفظونها كلهم، بل يستعيبون أن يطلبوا من الملقي أن يعيدها مرة ثانية.
وقد روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يحفظ الشيء من سماعه مرة واحدة، وروي كذلك عن الشعبي، وروي عن عدد من أهل العلم، أما في الوقت الحاضر فكما ترون لا يكاد يوجد أحد يحفظ الشيء من سماعه من مرة واحدة، وحينئذ فلا بد من ضبط آلية تحصيل العلم، ويختار الإنسان الطريقة المناسبة له، إما كتابة، ثم ينظم ما يكتبه، ويراجعه من حين لآخر حتى تستقر المعلومات في ذهنه، أو بالتسجيل، ثم يسمعه من حين لآخر، أو غير ذلك من وسائل التحصيل.
أما أنه يحضر الدروس من غير ضبط للعلم، فإنه سرعان ما ينسى ما سمع، وبالتالي لا يستفيد كثيرا، أقول هذا مع بداية هذه الدورة، ومن أحسن الطرق النافعة هي أن تلخص ما سمعت، ثم تراجعه من حين لآخر، فإن حياة العلم المذاكرة، حياة العلم المذاكرة، لا بد من مذاكرة العلم حتى يستقر.
ثم إنني مع بداية هذه الدورة، أوصي نفسي وإخواني بإخلاص النية لله - عز وجل - في طلب العلم، فإن النية أمرها عجيب، والإخلاص لا يقارن عملا من الأعمال إلا ويكتب له النجاح والقبول والتوفيق، بل إن طلب العلم إذا قارنه نية سيئة عاد وبالا على صاحبه يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة وذكر منهم: رجل تعلم العلم وعلمه الناس، وقرأ القرآن لاحظ تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فيؤتى به فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: يا رب تعلمت فيك العلم وعلمته للناس، وقرأت فيك القرآن، فيقال له: كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار والعياذ بالله.
كان معاوية إذا سمع بهذا الحديث بكى بكاءً عظيما، فالآن هذا الذي تعلم العلم لأجل الناس أصبح علمه وبالا عليه كما يقول بعض أهل العلم لو أنه سلم من هذا العلم لكان أحسن له، هذا العلم بهذه النية السيئة كان سببا لأن يكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فلا بد من إخلاص النية لله - عز وجل -.
فإن قلت: كيف أخلص النية لله - تعالى -في طلب العلم، ذكر أهل العلم أن إخلاص النية يكون بأن تنوي رفع الجهل عن نفسك، وأن تنوي رفع الجهل عن غيرك، والدعوة إلى الله - عز وجل - والدفاع عن دينه، ولا تنوي بذلك رياءً ولا سمعة ولا طلب محمدة من أحد من البشر.
وبعد ذلك نعود إلى درسنا. كنا في العام الماضي قد كان الدرس عن فقه المعاملات المالية المعاصرة، واحتفى به -ولله الحمد- كثير من الإخوة وحصل بذلك الدرس نفع كثير، ولح علي كثير من الإخوان، أن أخرجه في كتاب وهو سوف يخرج إن شاء الله في كتاب قريبا.
وسألني عدد من الإخوة هل ما ذكر من موضوعات في الدرس الدورة الماضية هل سيذكر منها شيء في هذه الدورة؟ أقول: لا، لن يذكر ولا موضوع واحد، ما ذكرناه العام الماضي لن يعاد ويكرر في هذه الدورة، فإن الدرس في الدورة الماضية كان في المعاملات المالية المعاصرة فقط، وأما الدرس في هذه الدورة فهو في فقه النوازل عامة، في فقه النوازل عامة، وهذا الفقه ينبغي لطالب العلم العناية به، لأنه يلحظ أن كثيرا من طلاب العلم يكون لهم عناية بالفقه المدون في الكتب، ويكون لهم حفظ وضبط وتأصيل، ولكن عندما تأتي المسائل المعاصرة والنوازل يتوقفون فلا تجد عندهم فيها شيئا، وهذا يعتبر خلل عند طالب العلم، لأن هذه النوازل وهذه المسائل المعاصرة يحتاج لها الناس، وتكثر الأسئلة حولها.
ولهذا لا بد لطالب العلم مع ضبطه لكلام الفقهاء المتقدمين أن يعنى بمعرفة الحكم الشرعي في النوازل والمسائل المعاصرة، أو على الأقل أن يعنى بضبط كلام أهل العلم في هذه المسائل وهذه النوازل.
والأمة ولله الحمد لا تزال بخير، وعلماؤها يبذلون الجهود الكبيرة في تكييف هذه النوازل وتبيين الحكم الشرعي فيها، هذا الدرس سوف نبدأ إن شاء الله - تعالى -في الجانب التأصيلي، سوف نجعله في الجانب التأصيلي لفقه النوازل، وفي الدروس القادمة إن شاء الله نبدأ بذكر عدد من النوازل، وسوف أبين إن شاء الله في نهاية هذا الدرس المنهج الذي سوف نسير عليه في دراسة تلك المسائل.
أقول إن من رحمة الله - تعالى -بالخلق أن أكرمهم بهذه الرسالة المحمدية: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" فأرسل الله - تعالى -نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين جميعا، ومن مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، كما ذكر ذلك الشاطبي وغيره من أهل العلم، من مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فلا تكاد تجد مصلحة إلا دل الشارع عليها، ولا تكاد تجد مضرة إلا نهى الشارع عنها وحذر منها، وقد جعل الله - تعالى -هذه الشريعة كاملة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".
يقول أبو ذر -رضي الله عنه- ما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطائر يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علما، وفي حديث سلمان -رضي الله عنه- في صحيح مسلم، قال أحد اليهود لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا يعني آداب قضاء الحاجة، قال سلمان: نعم، ثم ذكر شيئا من الآداب التي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم بها عند قضاء الحاجة، فيتعجب هذا اليهودي يقول: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا.
وهذه الشريعة الكاملة التي استوعبت جميع ما يحتاج إليه البشر، قد تكفل الله - تعالى -بحفظها، تكفل الله - تعالى -بحفظ القرآن: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ونحن نقرأ كتاب الله - تعالى -الذي نزل منذ أربعة عشر قرنا، ولم يتغير فيه حرف واحد فقط، وهذا من آيات الله - تعالى -لأن الله - تعالى -قد تكفل بحفظه، بينما الكتب الأخرى في التوراة والإنجيل فقد أوكل حفظها للبشر بما استحفظوا من كتاب الله فلم يحفظوها.
أما القرآن فقد تكفل الله - تعالى -بحفظه، وحفظ القرآن يتضمن حفظ السنة كما قال أهل العلم، حفظ القرآن يتضمن حفظ السنة، أشار إلى ذلك الشاطبي في الموافقات، وعلل ذلك بأنها يعني السنة بيان للقرآن: "وَأَنْزَلنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" وحفظ المبين يقتضي حفظ البيان لأنه لازم له.
أيضا تكفل الله - تعالى -بحفظ مجموع أفراد الأمة، بحفظ مجموع أفراد الأمة، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، هذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة، ولا تزال طائفة منها على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله - تعالى -.
ولهذا قال أهل العلم إنه لا يمكن أن يخلو زمان من قائل بالحق، لا يمكن أن يخلو زمان من قائل بالحق يعني إذا نزلت نازلة فلا يمكن أن يطبق جميع العلماء على غير الحق، لا بد من قائل بالحق، لكن من هو القائل بالحق هذا هو الذي يحتاج يعني من طالب علم أن يتحرى ويجتهد في معرفة هذا الحق، لكن لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء الأمة، لا بد من قائل بالحق، لأن هذا من لوازم حفظ مجموع أفراد هذه الأمة، هذه الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء هذه الأمة، ويضل جميع علماء هذه الأمة عن الحق، فلا بد من قائل بالحق.
وقد اقتضت حكمة الله - تعالى -أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فإن قلت كيف تكون الشريعة شاملة وكاملة مع وجود نوازل لا نص فيها، مع وجود نوازل لا نص فيها؟
أقول في الجواب عن هذا أجاب الشاطبي في الاعتصام، بأن المراد بالكمال في قول الله - تعالى -: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" إكمال الكليات، إكمال الكليات، فلم يبق قاعدة يحتاج إليها إلا وبينت.
وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - هذا المعنى فردوا الجزئيات إلى الكليات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مكث في البعثة والرسالة ثلاثا وعشرين سنة فقط، مكث ثلاثا وعشرين سنة بعث وعمره أربعون وتوفي وعمره ثلاث وستون، مكث فقط ثلاثا وعشرين سنة، ومع ذلك بين للأمة جميع ما تحتاج إليه.
وكما قال الشاطبي المقصود بيان الكليات والقواعد التي تحتاج إليها الأمة، والعلماء والفقهاء في كل عصر يردون الجزئيات إلى هذه القواعد وإلى هذه الكليات، وهذا ملحظ مهم سوف نشير إليه إن شاء الله عند دراسة بعض النوازل.
ثم نأتي لتعريف فقه النوازل، نبدأ أولا بتعريف الفقه
فالفقه معناه في لغة العرب: الفهم: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي" يعني يفهموا قولي، فمادة الفقه في لغة العرب تدور حول معنى الفهم: "فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُون يَفْقَهُونَ حَدِيثًا يعني يفهمون حديثا". ومعناه شرعا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
والفقه من أشرف العلوم وأنفعها لطالب العلم، وهو العلم الذي يحتاج الناس إليه في حياتهم العملية، وأضرب لهذا مثلا، لو أنك استمعت إلى أي برنامج إفتاء، انظر إلى أسئلة الناس ستجد أن ما لا يقل عن تسعين في المائة منها أو أكثر فقهية، وهذا لا يقلل من شأن العلوم الأخرى، لكن علم العقيدة والفقه هما أهم علمين يحتاج لهما طالب العلم، وبقية العلوم قد يحتاج الإنسان إليها بقدر معين، بقدر معين، لكن الفقه إذا ضبطه الإنسان فإنه ينتفع وينفع.
ولا بد من ربط الفقه عند دراسته بالحديث، ولا يمكن لطالب العلم أن يحقق المسائل الفقهية، وليس له عناية بالحديث، فمن أنفع الطرق ربط الفقه بالحديث، فلا يستغني طالب العلم بالفقه عن الحديث ولا بالحديث عن الفقه، ولكن من أنفع الطرق التي رأيتها للتفقه هو أن ينطلق طالب العلم من كتب الفقه ويرتبط بالحديث، فمثلا يعني يأخذ هذا الباب لو قلنا باب المعاملات يأخذ كل باب من كتب الفقهاء، ثم ينظر ما في هذا الباب من الأدلة يرجع مثلا للصحيحين يرجع للبلوغ، يرجع لكتب الحديث، ويربطها بهذه المسائل الفقهية.
أما لو عكس انطلق من كتب الحديث، ولم يكن له عناية بكتب الفقه، فتفوته مسائل كثيرة مبناها على النظر، لأن هناك بعض الأبواب قد لا تجد فيه إلا حديثا واحدا، وربما بعضها ليس فيها ولا حديث، لو أخذت مثلا باب الشركة في كتب الفقه فيها مسائل كثيرة جدا، بينما كتب الحديث قد لا تجد فيها إلا حديثا واحدا أو حديثين، فمن اقتصر على كتب الحديث وأهمل كتب الفقه يفوته علم كثير، فلا بد من الجمع بين العلمين، والانطلاق في التفقه من كتب الفقه وربطها مع كتب الحديث.
وأما النوازل فمعناها لغة: النوازل جمع نازلة وهي المصيبة الشديدة من مصائب الدهر تنزل بالناس، يقال نزلت بهم نازلة.
ولرب نازلـة يضيـق بها الفتى *** ذرعـا وعند الله منـها المخرج
ومنه القنوت في النوازل يعني في الشدائد التي تحل بالمسلمين.
والنوازل معناها اصطلاحا: الحوادث المستجدة التي تتطلب اجتهادا وبيانا للحكم الشرعي، ومن ذلك كلام الحافظ ابن عبد البر في كتابه القيم جامع بيان العلم وفضله، قال: باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، وقال النووي في شرحه على مسلم: قال: وفيه اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول. وابن القيم يقول في إعلام الموقعين: فصل قد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل.
وإنما نقلت هذه النقولات لأن هناك من المعاصرين من قال: إن مصطلح النوازل عند الأقدمين إنه يطلق على جميع الحوادث التي تحتاج إلى فتيا، سواء كانت قديمة أو جديدة، وهذا محل نظر؛ إذ أننا بالتأمل في كتب المتقدمين نجد أنهم يطلقون النوازل على المسائل المستجدة التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، تطلق النوازل على الحوادث المستجدة التي تتطلب اجتهادا وبيانا للحكم الشرعي فيها.
حكم الاجتهاد في النوازل:
الاجتهاد في النوازل فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن بقية العلماء، ويدل لذلك قول الله - تعالى -: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ" وإنما كان فرض كفاية لأنه يتعلق بالعمل وليس بالعامل.
أهمية العناية بفقه النوازل:
أقول: إن فقه النوازل من العلوم المهمة التي ينبغي أن يعنى بها طالب العلم، ويلحظ أن مناهج الفقه التي يدرسها طلاب الكليات الشرعية، ومعظم الدروس في المساجد، تقتصر على الكتب التي صنفت في قرون ماضية، وهي لم تكن قديمة حين وضعها واضعوها، وفيها فائدة عظيمة بل لا يستغني عنها طالب العلم، لكنها لا تغني عن معرفة طالب العلم وعنايته بالنوازل بمعرفة الحكم الشرعي في النوازل، أما اقتصاره على تلك الكتب، وعدم عنايته بفقه النوازل، فهذا كما ذكرت في مقدمة هذا الدرس فيه خلل، ولهذا تجد أن بعض طلاب العلم ليس له عناية بهذه النوازل، ومع أن الناس محتاجون إليها، وسنبين إن شاء الله - تعالى -المنهج الصحيح لدراسة هذه النوازل ومعرفة الحكم الشرعي فيها.
وقد كان السلف على جانب كبير من العناية بالنوازل مع أنهم كانوا يكرهون التسرع في الفتيا، ويود كل واحد منهم أن يكفيه أخوه، قال ابن أبي ليلى، أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كل من أفتى الناس عن كل ما يسألونه إنه لمجنون، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود، وابن عيينة كان إذا سئل عن مسائل الطلاق قال: من يحسن هذا؟! وقال عبد الله بن الإمام أحمد قال: كنت أسمع أبي يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، كنت أسمعه كثيرا يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما عندما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه، وهذه المقولة: أن أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما نقلها ابن القيم في إعلام الموقعين وعلق عليها، وقال: إن الجرأة على الفتيا إما أن تكون من قلة العلم، وإما أن تكون من غزارة العلم وسعته، إما أن تكون من قلة العلم، وإما أن تكون من غزارة العلم وسعته، فإذا قل علم إنسان أفتى ما يسأل عنه بغير علم، خاصة إذا كان عنده جرأة وقلة ورع، قال وإذا اتسع علم إنسان واتسعت فتياه أيضا كان عنده سعة في الفتيا، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الناس في الفتيا.
أقول مع كراهة السلف للتسرع في الفتيا، ومحبة كل واحد منهم أن أخاه قد كفاه، إلا أنهم كانوا يجتهدون في النوازل، بل حصل الاجتهاد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض الصحابة، كما في قصة بني قريظة في الصحيحين، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر اختلفوا في فهم المقصود من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد الحث على المسير، ولم يقصد أننا نؤخر صلاة العصر إلى أن نصل إلى بني قريظة ولو خرج الوقت، وقال آخرون: لا، بل نلتزم بظاهر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصلوا صلاة العصر إلا بعدما وصلوا بني قريظة، بعد خروج وقتها، قال ابن عمر ولم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أيا من الطائفتين.
لكن أي الطائفتين أفقه الطائفة الأولى أو الثانية، الأولى أفقه الذين صلوا في الوقت فهموا مقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فلذلك هذه الطائفة الأولى أفقه، لكن الطائفة الثانية التي أخذت بظاهر النص أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعنف عليها، هذا نوع اجتهاد حصل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الاجتهاد في النوازل الذي حصل في عهد الصحابة الاجتهاد في الجد مع الإخوة، لأن هذه المسألة لم تقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما وقعت في عهد الصحابة، فاجتهدوا فيها، كان أبو بكر يقول: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
ومن ذلك أيضا قصة رجوع عمر من الشام لما وقع بها الطاعون، قد ذكر هذه القصة البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: الآن هو أمام نازلة، هو الآن يسير في الطريق إلى الشام أخبر بأن الطاعون وقع بالشام، هل يسير ويذهب للشام، أو أنه يرجع للمدينة؟
فجمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة، وكان أول ما بدأ بالمهاجرين، قال: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فاختلفوا، أي بعضهم قالوا: نرى أن تذهب، وبعضهم قال: نرى أن نرجع، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال آخرون: معك بقية الناس وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فاختلفوا فقال عمر: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الأنصار، قال: فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال لابن عباس: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة، أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليست إن رعت الخصيبة رعتها بقدر الله، وإن رعت الجدبة رعتها بقدر الله.
قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سمعتم به - يعني الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف.
فهذه الآن نازلة وقعت بالصحابة - رضي الله عنهم -، وقع الطاعون وهم في الطريق، وقع الطاعون بأرض الشام وهم في الطريق إليها، هل يستمرون في الذهاب ويقدمون على أرض الشام وبها الطاعون، أم أنهم يرجعون ولا يعرضون أنفسهم لهذا الوباء؟
فعمر -رضي الله عنه- أراد أن يجتهد في هذه النازلة، فانظر إلى منهج عمر -رضي الله عنه- إلى منهجه في الاجتهاد فيها حتى وفق للصواب قطعا، لأن عبد الرحمن بن عوف ذكر هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستشار أولا المهاجرين، ثم استشار الأنصار وحصل الاختلاف، ثم استشار من كان عنده من المهاجرين الأولين من مهاجرة الفتح من مشيخة قريش فلم يختلفوا، فأخذ عمر برأيهم، ثم أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بأن هذا الرأي الذي رآه عمر قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا نوع من الاجتهاد الذي حصل في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -.
وانظر هنا إلى عمر كيف إنه لم يجتهد هو بنفسه، ويكتفي باجتهاده بل دعا الصحابة، وهذا يعني أصل للاجتهاد الجماعي الذي سوف نشير إليه، مثل هذه النوازل والقضايا الكبيرة التي تتعلق بمجموع الناس يحسن أن يكون فيها اجتهاد جماعي؛ لأن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى التوفيق، وإلى إصابة حكم الله ورسوله من الاجتهاد الفردي.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 419.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 417.95 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (0.41%)]