|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() وقفات مع سورة التكوير د. أمين بن عبدالله الشقاوي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: فمن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة التكوير. قال تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ؛ فَلْيَقْرَأْ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وأحسب أنه قال:«سورة هود»[1]. أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة تميز الخلق وعلم كلٌّ ما قدمه لآخرته وما أحضره فيها من خير وشر. قوله تعالى: ﴿الشمس﴾ الشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة، في يوم القيامة يكورها الله تعالى فيلفها جميعًا ويطوي بعضها على بعض، فيذهب نورها، ويلقيها الله تعالى في النار إغاظة للذين عبدوها من دون الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 98]، ويستثنى من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله، فإنه لا يلقى في النار؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101، 102]. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ»[2]، وفي رواية: «ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ»[3]. قال الخطابي رحمه الله: ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلًا. قال الشيخ الألباني رحمه الله: «وهذا هو الأقرب إلى لفظ الحديث، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى كما في الفتح 6/214: (ليراهما من عبدهما)، ولم أرها في مسنده، والله تعالى أعلم»[4]. قوله تعالى: ﴿كُورت﴾؛ أي انقضت وتساقطت من السماء فذهب نورها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار: 2] وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ [المرسلات: 8]. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 3]؛ أي صارت كثيبًا مهيلًا، ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيرت وصارت هباء منبثًا وأزيلت عن أماكنها. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ [التكوير: 4]؛ أي عطل الناس يومئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها، ويراعونها في جميع الأوقات فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار وهي النوق الحوامل التي مر على حملها عشرة أشهر وهو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، جمع عُشراء وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 5] المراد بها جميع الدواب؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38]، فتحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس، ويقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت ترابًا [5]، وإنما يفعل ذلك تعالى لإظهار عدله بين خلقه وغير ذلك من الحكم. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ [التكوير: 6]، البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر، هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تسجر، أي تشتعل نارًا عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبقى فيها ماء. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [التكوير: 7]؛ أي قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، واقترن الكافرون بالشياطين؛ كقوله تعالى: ﴿ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ﴾ [الواقعة: 7] وقال تعالى: ﴿ حْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ [الصافات: 22]. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴾ [التكوير: 8]؛ أي: الطفلة المدفونة حية، وكان أحياء من العرب في الجاهلية يقتلون البنات بدفنهنَّ في التراب خوفًا من الفقر أو العار؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 57 - 59]. أما قوله: ﴿ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 9]؛ أي تُسأل الموؤدة: لم قتلت ودفنت حية؟ وفي ذلك توبيخ لقاتلها وتقريع، فإن المجني عليها إذا سئلت بحضور الجاني عن سبب الجناية كان ذلك أدعى لتبكيته وأكمل في افتضاحه. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 10]، هي صحاف الأعمال تنشر عند الحساب، أي تفتح وتبسط لتقرأ بعد أن كانت مطوية بموت صاحبها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ﴾ [الإسراء: 13]، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11]؛ أي قلعت وأزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104]، وكما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25]. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴾ [التكوير: 12]؛ أي أوقد عليها فاستعرت والتهبت التهابًا لم يكن لها قبل ذلك، ووقودها الناس أي الكفار والحجارة، حجارة من نار عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم. قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴾ [التكوير: 13]؛ أي قُربت لأهلها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الشعراء: 90]، ولم يذكر بروز الجحيم في مقابل إزلاف الجنة، بل ذكر بدله التسعير وهو أشد تهويلًا من ذلك. قوله تعالى: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ﴾ [التكوير: 14]؛ أي علمت كل نفس ما أحضرت في صحائفها من عمل، خيرًا كان أو شرِّا؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30]، وقال تعالى: ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [القيامة: 13]. وهذه من الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم[6]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] 8/424 برقم 4806، وقال محققوه: إسناده حسن. [2] صحيح البخاري برقم (3200). [3] شرح مشكل الآثار للطحاوي (1/170) برقم (183)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (124). [4] السلسلة الصحيحة: (1/ 245). [5] أخرجه ابن جرير في تفسيره عن بعض الصحابة (10/ 8438)، وأورده الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (1966). [6] تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص69 – 87)، وتفسير ابن كثير (14/ 257- 272)، وتفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي (ص1238 – 1240)، وتفسير جزء عم وفوائده للشيخ عبدالرحمن البراك (ص73 – 77).
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() وقفات مع سورة التكوير(2) د. أمين بن عبدالله الشقاوي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد: قوله تعالى: ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 15 - 29]. قوله تعالى:﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ﴾ قد يظن بعض الناس أن لا نافية وليس كذلك، بل هي مثبتة للقسم، ويؤتى بمثل هذا التركيب للتأكيد، فالمعنى: «أقسم بالخنس» وهي النجوم التي تخنس بالنهار؛ أي يختفي ضوؤها لضوء الشمس. و(الجوار) جمع جارية وهي النجوم، «الكنس» جمع كانس؛ أي التي تكنس أي تستر في مغيبها كما يأوي الظبي إلى كناسه وهو بيته. قوله تعالى:﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾؛ أي أدبر وهذا قول أكثر المفسرين، وقيل: «عسعس» أقبل؛ لأن اللفظ من قبيل المشترك، ورُجِّح الثاني لمطابقته ما بعده وهو قوله: «والصبح إذا تنفس»، ولا يبعد أن يكون المعنيان مقصودين لعدم تعارضهما، ولكل منهما شاهد في القرآن؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ﴾ [الليل: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ [المدثر: 33]، فيكون الله مقسمًا بالليل مقبلًا ومدبرًا. قوله تعالى: ﴿ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾؛ أي بدت علائم الصبح، وانشق النور شيئًا فشيئًا حتى يستكمل وتطلع الشمس. وإقسامه تعالى بهذه المخلوقات العظيمة، لما فيها من الدلالة على بديع حكمته وعظيم قدرته، وعظم المقسم به يدل على عظم المقسم عليه، وهو قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ «أي القرآن». الرسول الكريم هو جبريل وأضاف القول إليه؛ لأنه الذي نزل بالقرآن، وملك كريم أي شريف حسن الخلق، بهي المنظر. قوله تعالى:﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾؛ أي شديد الخلق، شديد البطش، رآه النبي صلى الله عليه وسلم في ستمائة جناح قد سد الأفق كله[1]. ﴿ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾؛ أي جبريل مقرب عند الله له منزلة رفيعة وخصيصة من الله اختص بها، «مكين»؛ أي له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم. قوله تعالى: ﴿ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ أي جبريل مطاع في الملأ الأعلى، لأنه من الملائكة المقربين، نافذ فيهم أمره مطاع رأيه، «أمين» أي ذو أمانة وقيام بما أُمر به لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حد له، وهذا كله يدل على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنه بعث به هذا الملك الكريم الموصوف بتلك الصفات الكاملة، والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات وأشرف الرسائل. ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن ودعا إليه الناس، فقال: ﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ بمجنون ﴾ كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته المتقولون عليه (من) الأقوال التي يريدون أن يطفؤوا بها ما جاء به بل هو أكمل الناس عقلًا، وأجزلهم رأيًا وأصدقهم لهجة. قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾؛ أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق المبين الذي هو أعلى ما يلوح للبصر. قوله تعالى:﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾؛ أي وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص، أو يكتم بعضه، بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الأرض، الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين، فلم يشح بشيء منه عن غني ولا فقير ولا رئيس ولا مرؤوس، ولا ذكر ولا أنثى، ولا حضري ولا بدوي، ولذلك بعثه الله في جاهلية جهلاء فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماءَ ربانيين وأحبارًا متفرسين، إليهم الغاية في العلوم وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والفهوم، وهم الأساتذة وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم. قوله تعالى: ﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ﴾، لَما ذكر جلالة كتابه وفضله بذكر الرسولين الكريمين اللذين وصل إلى الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى، دفع عنه كل آفة ونقص مما يقدح في صدقه. قوله تعالى: ﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ﴾؛ أي كيف يخطر هذا ببالكم؟ وأين عريت عنكم أذهانكم حتى جعلتم الحق الذي هو في أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب الذي هو أنزل ما يكون وأرذل وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق. قوله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ﴾، يتذكرون به ربهم وما له من صفات الكمال، وما ينزه عنه من النقائص والرذائل والأمثال، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها، ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية، وبالجملة يتذكرون به مصالح الدارين وينالون بالعمل به السعادتين. قوله تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ﴾ بعدما تبيَّن الرشد من الغي والهدى من الضلال. قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾، فمشيئته نافذة لا يمكن أن تعارض أو تمانع، وفي هذه الآية وأمثالها رد على فرقتي القدرية النفاة والقدرية المجبرة والله أعلم. ومنفوائدالسورةالكريمة: 1- أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴾؛ لأن في ذلك توبيخًا لوائدها، فقوله: ﴿ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ استفهام معناه نفي أن يكون لقتلها سبب من جهتها؛ مما يدل على أن قتلها محض الظلم والعدوان والجهل. 2- نشر صحف الأعمال ليقرأ كل ما فيها مما أُحصي عليه. 3- الرد على الفلاسفة في زعمهم دوام هذا العالم، وأن الأفلاك - وهي السماوات - لا تقبل الانشقاق والزوال. 4- تسعير النار وهو إيقادها تهيئة لأهلها، وفي هذا وعيد لهم. 5- تقريب الجنة حتى يراها أهلها، وفي هذا وعد وبشارة لهم. 6- إقسام الله بالخنس وهي النجوم إذا اختفت بالنهار دليل على قدرته تعالى. 7- إقسام الله بالصبح إذا انشق في ظلام الليل يبشر بالنهار. 8- علو قدر جبريل عند الله لقوله: ﴿ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ﴾. 9- ثناء الله على جبريل بسبع صفات وهي الرسالة والكرم والقوة والقرب من الله، والمنزلة العالية، والطاعة والأمانة. 10- الرد على غلاة الرافضة الذين يزعمون أن جبريل خان فحوَّل الرسالة عن علي رضي الله عنه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. 11- فضل القرآن وعظم شأنه يدل لهذا ثناء الله على جبريل وهو الموكل بتنزيل القرآن، فإنه لا يُوكل العظيم إلا بعظيم. 12- تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الجنون والبخل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴾، على قرائتها بالضاد المعجمة»[2]. والحاصل أن هذه السورة عظيمة، فيها تذكرة وموعظة ينبغي للمؤمن أن يقرأها بتدبر وتمهل، وأن يتعظ بما فيها[3]. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] صحيح البخاري رقم (3232). [2] تفسير جزء عم وأحكامه وفوائده، للشيخ عبدالرحمن البراك، (ص73 - 84). [3] تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص69 - 87)، تفسير ابن كثير رحمه الله (14/ 257 - 272)، تفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي (ص1238 - 1240).
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |