ثنائية الصدق والكذب في النقد الأدبي بالغرب الإسلامي - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         لجوء المدارس إلى أدوات الترجمة بالذكاء الاصطناعي لدعم متعلمي اللغة الإنجليزية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          سؤال الحقيقة والفعل في فلسفة القيم إشكالات وإيضاحات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 2 )           »          الرؤية الكونية الإسلامية والعلم الحديث (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          الإسلام والعقلانية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أهمية مَلَكَة العقل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          سعة الوجود ومحدودية الوجدان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          وقفة تأمل في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          الرد الجميل المجمل على شبهات المشككين في السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »          هل الدعاء يغير القدر؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العلمي والثقافي واللغات > ملتقى اللغة العربية و آدابها > ملتقى النقد اللغوي
التسجيل التعليمـــات التقويم

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 03-07-2021, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,580
الدولة : Egypt
افتراضي ثنائية الصدق والكذب في النقد الأدبي بالغرب الإسلامي

ثنائية الصدق والكذب في النقد الأدبي بالغرب الإسلامي


د. عبدالجليل شوقي



(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)



تمهيد:
إذا كانتْ هذه القضيةُ نَمَتْ في حِضنِ الخيال، وهذا الأخير هو موضوعُ الصناعة الشِّعريَّة، فإنَّ أوَّلَ ما يلفت الانتباهَ هو عَلاقتُها بالشِّعر والخَطابة كل على حِدة؛ ذلك أنَّ الخطابة - كما تَقرَّر في النقد الأدبي القديم - تَميَّزتْ بالإقناع، في مقابلِ الشِّعر الذي تميَّز بالتخييل/ الخيال، وإنْ كان بعضُ الدَّارسين العرب المُحْدَثين يتحدَّثون عن شِعرية الإقناع، معتبرين أنَّ للشعر طبيعةً إقناعية، كما قد يكون للخطابةِ طبيعةٌ إمتاعيَّة.

ويلخِّص الباحثُ أحمد قادِم هذه المسألةَ مِن خلال وقوفه "على مدَى رَحابة الشِّعر لاحتضان خصائصِ الخطابةِ دون أن يستحيلَ إلى خَطابة، واتِّساع الخطابةِ لامتلاك أدوات الشِّعرِ دون أن تستحيلَ إلى شِعر، وكيف أنَّ الإقناعَ شكَّل في كثير من الأحيان قاسمًا مشتركًا بينهما وفاصلاً في آنٍ واحد"[1]، لكن ما يهمُّنا مِن فصلِ الناقد القديم لهذين الجِنسين هو عَلاقتهما بقضيةِ الصِّدقِ والكذب، فهذا حازم القرطاجنِّيُّ يلخِّص ما ذَهَب إليه القدماءُ، بقوله: "فلمَّا كان اعتمادُ الصناعة الخطابيَّة في أقاويلها على تقويةِ الظنِّ لا عَلَى إيقاع اليقين، اللهمَّ إلا أن يعدلَ الخطيب بأقاويلِه عن الإقناع إلى التَّصديق، فإنَّ للخطيب أن يلمَّ بذلك في الحالِ بيْن الأحوال مِن كلامه، واعتماد الصناعة الشِّعريَّة على تخييل الأشياء التي تعبِّر عنها بالأقاويل وبإقامةِ صُورِها في الذِّهن بحُسنِ المحاكاة، وكأنَّ التخييل لا ينافي اليقين كما نافاه الظن؛ لأنَّ الشيءَ قد يُخيَّل على ما هو عليه، وقد يُخيَّل على غيرِ ما هو عليه، وجَب أن تكونَ الأقاويل الخطبيَّة - اقتصادية كانت أو احتجاجيَّة - غيرَ صادقة، ما لم يعدلْ بها عن الإقناع إلى التصديق؛ لأنَّ ما تتقوَّم به - وهو الظنُّ - منافٍ لليقين، وأن تكونَ الأقاويل الشِّعريَّة -اقتصادية كانت أو استدلاليَّة - غيرَ واقعة أبدًا في طرَف واحد مِن النقيضين اللَّذين هما الصِّدق والكَذِب، ولكن تقَع تارةً صادقةً وتارةً كاذبةً؛ إذ ما تتقوَّم به الصناعة الشعرية - وهو التخييل - غيرُ مناقض لواحد من الطرفين؛ فلذلك كان الرأيُ الصحيح في الشِّعر، أنَّ مقدِّماته تكون صادقةً وتكون كاذبة، وليس يُعدُّ شِعرًا إلاَّ مِن حيث هو كلامٌ مخيَّل"[2].

هكذا يتَّضح تطورُ تناول هذه القضية بين الشِّعر والخطابة، فقد بدأتْ في أتُّونِ التجرِبة الشِّعريَّة من خلال ما عُرِف قديمًا بـ"إنَّ أعذبَ الشِّعر أكذبُه"[3]، واختُلف في هذه المقولة بين الفَهم الخُلُقي والفَهم الفني الجمالي، فقد بُنِيَت أولَ الأمر على سلوكِ المتلقي من تأثُّر وإذعان والتذاذ للشِّعر الكاذب؛ فحاول النقادُ القدماءُ تفسيرَ أسباب ذلك ومقارنتها بتأثيرها في الأجناسِ الأخرى: الخطابة مثلاً، وفي سبيلِ هذا التنظير لهذه القضية بقِي الاختلافُ بيِّنًا بيْن النقَّاد حولَ صِدق الشِّعر وكذبه، ومدى إمكانيته وحدوده، وأنواعه وتدرُّجه بيْن ما هو خُلُقي وما هو فنِّي.

وقبل التطرُّق إلى هذه القضية في النقْدِ الأدبي بالغَرْب الإسلامي، يجدُر بنا الحديث أولاً عن بعض المصطلحات المتعلِّقة بها ضِمن سياقها بيْن التلقِّي والمثاقفة، ومِن بين هذه المصطلحات نذكُر: الغلو، والمبالغة، والكذب، والإقصاء، والإمكان، والاستحالة، والاختراع، والحُصول، والاختلاق، والصِّدق، والتقصير، والامتناع، والإفراط، والإيهام.

1. مصطلحات لها علاقة بثنائية الصدق والكذب:
يُعدُّ أسلوبَا الغلوِّ والمبالغة مِن الأساليبِ البلاغيَّةِ التي دارتْ في فَلكِ ثُنائية الصِّدق والكَذِب؛ ذلك أنَّ الشاعر يَسْمُو بنفسه عن نقلِ الواقع بشكلٍ حرفي، بل يسعَى إلى محاولة إتمام نقْصه بالغلوِّ والمبالغة.

ربَط الشريف السبتيُّ (ت 776هـ) بين الغلوِّ والمبالغة، دون أن يُغفِلَ ما بين المصطلحين من فَرْق، يقول:"وقد قال المتنبيُّ... فبالَغ وغلاَ:
كُتِبَتْ فِي صَحِيفَةِ الْمَجْدِ بِسْمٌ
ثُمَّ قَيْسٌ، وَبَعْدَ قَيْسِ السَّلاَمُ"[4]



ويَتَّضح تفريقُه بينهما مِن خلال موقفِه مِن كلِّ واحد منهما، فهو ضدُّ الغلوِّ مِن الناحية الخُلُقية، أو لنقل: مِن الناحية الدينيَّة، وهو ما يَدفعُنا إلى القول بأنَّ الرجل يجعل الغلوَّ مِن الكذب، ويتعامَل معه على هذا الأساسِ مِن وجهةِ نظرٍ دِينيَّة خُلُقيَّة، وليست فنيَّةً جماليَّة، يقول شارحًا لبيت حازم القرطاجنِّي: "والمعنَى في البيت الثاني[5]: أنَّه قد استولَى في الجود على الأمَدِ الذي ما بعدَه غاية، وعبَّر عن هذه الغاية بـ"إلى"؛ لأنَّها حرفٌ موضوعٌ للدَّلالة على معناها، ثم ذكَر أنَّ الدهر لو لم يُوَصِّل الناسَ إلى نِعم هذا الممدوح، لم يصلوا إلى نِعمة؛ لأن النِّعم كلها مِنه، نعوذ بالله من الغلوِّ!"[6]؛ فهذا الناقِدُ لم ينظرْ إلى جمالية هذا الغلوِّ وفنيَّته باعتباره أسلوبًا بلاغيًّا، بل نظَر إليه باعتباره كذبًا.

ويفرِّق الشريف السبتيُّ بيْن المبالغة والغلوِّ بقوله: "وقدْ أوقع بعضٌ مِن المتأخرين التبليغَ على نوعٍ مِن المبالغة، وهو أن يكونَ الوصف ممكنًا في العادة، ولم يخرجْ إلى حدِّ الإغراق والغلو"[7]، فالمبالغة وصفُ الممكن، في حين أنَّ الغلوَّ هو وصفُ المستحيل، وبهذا نَفهم لماذا يرفُض الشريفُ السبتيُّ الغلوَّ، ويعتبره مِن الكذب المحرَّم دِينيًّا وخُلقيًّا، في حين يقبل المبالغة وإنْ كانت هي الأخرى من الكَذِب، لكن هذا الكذب هو مِن الكذب الفنِّي الجمالي، ويتَّضح ذلك مِن خلالِ جعْل أسلوب "التبليغ" نوعًا من المبالغة، ويفهمها كذلك في مكانٍ آخَرَ بأنَّها الزيادةُ في الممكن، يقول: "وقال المعرِّي أيضًا فبالغ في المعنَى وزاد:
وَلَوْ وَطِئَتْ فِي سَيْرِهَا جَفْنَ نَائِمٍ
لَمَرَّتْ وَلَمَّا يَنْتَبِهْ مِنْ مَنَامِهِ"[8]



يربط ابنُ البناء المراكشي (ت 721هـ) بيْن الكَذِب والغلوِّ والاختراع والتخيُّل والمحاكاة؛ ويُفرِّق بين الحِكمة والشِّعر، فيرَى أنَّ الكذبَ أو الغلوَّ هو في الشِّعر، وليس في الحِكمة؛ وذلك لأنَّ الأوَّل مبنيٌّ على المحاكاة والتخيُّل، يقول: "وكلُّ ما في التشبيه مِن كَذِبٍ أو غُلوٍّ، فلا يكون في الحِكمة ويكون في الشِّعر؛ لأنَّه مبنيٌّ على المحاكاةِ والتخيُّل لا عَلَى الحقائق؛ ولذلك اختصَّ الشِّعرُ بأنواعٍ ليستْ مِن البديع بحسبِ الحِكمة، وهي مِن البديع بحسبِ اللِّسان؛ إذ الشِّعْرُ منه، ولكن ليس للشاعِر أن يحاكيَ ويتخيَّل في الشيءِ ما ليس موجودًا أصلاً؛ لأنَّه إذا فَعَل ذلك لم يكُن محاكيًا، بل يكون مخترعًا، فيركب الكذب في قوله، فتبطُل المحاكاةُ لكذِبها، وهي موضوعُ الشِّعر"[9].

يَقصُر ابنُ البناء الكذبَ والغلوَّ على الشِّعر دون الحِكمة؛ وذلك لأنَّ التخييلَ والمحاكاة هما عمود الشِّعر، والكذب والغلو لا يكونانِ إلاَّ مِن خلالهما، واعتبر أنَّ هذين الأسلوبين (التخييل والمحاكاة) هما الأنواع البلاغيَّة التي اختصَّ بها الشِّعر دون الخطابة؛ لأنَّ هذه الأخيرة اختصَّتْ بأساليبِ الحقائق: الإقناع، والحجاج...

وعلى الرغم مِن إقرارِ ابن البناء بجوازِ الكذب والغلوِّ في الشِّعر، إلا أنَّه وضع لذلك شروطًا تتمثل في كون هذا الكذب يجِب أن يكونَ ممكنًا، وليس محالاً، كأن يحاكي ويتخيل الشاعر ما ليس موجودًا أصلاً؛ لأنَّ ذلك يَعني أنَّ الشاعر يخترع أشياءَ ليست مِن قبيل المحاكاة، وإذا انتفتِ المحاكاة، بطل الشعر؛ إذ هي عمودُه لدَى هذا الناقد، فابن البناء يرفُض الاختراع، ويرفُض الكذبَ المحالَ المسبب له، ويُعطي مثالاً على توجهه هذا في قضية الغلوِّ في الكذب؛ ولذلك اعترض على قول الشاعر:
فَأَمْطَرَتْ بَرَدًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالبَرَدِ



واقتَرح بديلاً لهذا القول:
فَأَمْطَرَتْ بَرَدًا مِنْ نَرْجِسٍ وَسَقَتْ
وَرْدًا وَعَضَّتْ عَلَى العُنَّابِ بِالدُّرَرِ



"مِن حيث إنَّ إمطارَ اللؤلؤ غير مشاهَد ولا معروف، فهو قدْ حاكَى الدَّمْع في انسكابِه على خدِّها بشيءٍ غير موجود ولا معلوم إلاَّ مِن عنده اخترعَه مِن نفْسه، ومِن الناس مَن يرى أنَّ الشعر موضعُ الكذِب والإيغال في المحال، فيُجوز ذلك فيه، ويجعله مِن الترشيح، والقول الأوَّل أنسبُ لصناعة الشِّعر، والثاني أنسبُ لمعناه"[10].

بعقبِ هذا المثال يوضِّح ابنُ البناء رأيَه بشكلٍ صريح، فهو يَعترِض على الكَذِب المحال؛ أي: اختراع شيءٍ لا وجودَ له في الواقِع، وبعدَ ذلك ينقُل لنا الرأيَ المخالِف له، فيقول: إنَّ هناك مِن الناس مَن لا يعترض على هذا الكذِب؛ ثم يُقرِّر بأنَّ رأيه يجعل مِن الكذِب أنسبَ لصناعة الشِّعر، وأنَّ رأي غيرِه يجعل مِن الكَذِب أنسبَ لمعناه.

أما السجلماسيُّ (704هـ) فيَفهم "الغلو" في الشِّعر بأنَّه هو الإفراط، يقول: "وهو المدعوُّ الإفراط عندَ قومٍ في صناعة الاشتقاق، هو مِن قولهم: "غلا في الأمْر يغلو غلوًّا"، وهو يُرادِف الإفراط، ثم نقل مِن ذلك الحد إلى عِلم البيانِ على ذلك الاستعمالِ والوَضْع، فيُوضَع فيه على الإفراطِ في الأخبارِ عن الشيءِ والوصفِ له، ومجاوزة الحقيقةِ فيه إلى المحال المحضِ، والكذِب المُخترَع؛ لغَرَضِ المبالغة"[11]، فالغلوُّ في أصلِ اللُّغة لدَى السجلماسي والنقَّاد القدماء الذين استندَ إليهم هو مُجاوزة الحقيقةِ إلى الكذِبِ المحالِ المخترَع، كما ذهَب إلى ذلك ابنُ البناء المراكشي، وجعَل مِن المبالغة غرضًا لهذا الغلوِّ، ثُمَّ يُعطي لهذا المصطلحِ معناه الصناعيَّ بقوله: "وبالجملةِ هو أن يكونَ المحمول ليس في طبيعته أن يَصدُق على الموضوعِ، وليس في طبيعةِ الموضوع ولا في وقتٍ ولا على جهةٍ أن يَصدُق عليه المحمول، لكن إذا كان مَن حمل على هذا الموضوع، فإنَّما هو بقَصْدِ المبالَغة، وتبقَى هذه الغاية هي المحدِّد لوجودِ هذا الغلوِّ وقَبوله - إذا كان مِن قَبول - في الشِّعر.

والسُّؤال الذي يُطرَح - هنا -: ما مَوقِفُ السجلماسيِّ مِن الغلوِّ على ضَوءِ فَهمه السابِق؟

لا بدَّ مِن الإشارة - أولاً - إلى أنَّ هذا الناقدَ قد قارن بيْن الغلوِّ والتشكيك[12]، باعتبارهما أسلوبين بديعيين؛ يقول: "وأحَدُ الوجوه التي احتيل بها لإدخالِ الكلامِ في القلوب، وتمكين الاستفزازِ مِن النفوس، وفائدته الدَّلالةُ على قُرب الشبهين حتى لا يُفرَّقَ بينهما ولا يُميَّز أحدهما من الآخَر؛ فلذلك كان له في النَّفْس حلاوةٌ وحُسن موقِع، بخلافِ نوعِ الغلو"[13].

فما الذي يمنع الغلوَّ مِن أن يكونَ له في النفس حلاوةٌ وحُسنُ موقع، على الرغمِ مِن توفُّر عنصر المبالَغة فيه أُسوة بالتشكيك، وهو في النهاية منها؟ يجيب السجلماسي عن هذا السؤال مِن خلال عَرْض آراءِ النقَّاد السابقين في الموضوع، ثم ترجيح وجهةِ نظرِه، مِن خلال سَبْرِ أغوار التراث النقدي العربي: "واختيار هذا النوعِ مِن البلاغةِ وأساليب البديع هو أمرٌ بالإضافة والحُكم غير المطلَق، مِن قِبل أنَّ لأهل هذه الصناعة فيه رأيين: فقوم - وهم الأكثرون - يرَوْن أنَّ الشريطة فيه وملاك أمرِه هو أن يتجاوزَ فيه حال نوعي الوجودِ العَقليِّ والحسيِّ إلى المحال والكذِب المخترَع، وقوم يرَوْنَ التوسُّط فيه آثَر وأحمد وأفضل في الصناعة إحجامًا ورهبةً للاختراع والكذب"[14]، فالسجلماسيُّ هنا يُفرِّق تفييئه لهذين الرأيين على أساس حضورِ المحال والاختراع في الكذب، فيَجِد أنَّ أغلبَ النقَّاد يُجوِّزون حضورَهما، في حينِ لا يُمانع الآخَرون بشَرْط التوسُّط.

وبطريقتِه المنطقيَّة يَسعَى السجلماسيُّ لترجيحِ أحدِ الرأيين، حيث رَأى أنَّ موضوعَ الصناعة الشِّعريَّة هو التخييل، بغضِّ النظَر عن الصِّدقِ والكذِب؛ فلا يهمُّه أن يكونَ هذا الكذبُ محضًا واختراعًا ومحالاً: وأمَّا مَن اعتبر أنَّ موضوع الصناعة الشِّعرية هو الممتنعات، فإنَّ رأيه هذا مرذولٌ مردود، مستندٌ إلى رأي ابن سينا (ت 428هـ) في كتاب القياس[15].

والسجلماسيُّ بهذا الرأي الذي لا يَرَى مانعًا مِن كون الكذب في الشِّعر قد يكون اختراعًا أو محالاً، يَختلِف مع ابن البناء (ت 721هـ) فيما ذهب إليه سابقًا، مِن اعتبار أن الاختراع يُفسِد المحاكاة، وهذه الأخيرة هي عمودُ الشِّعر لديه.

مِنَ المصطلحاتِ التي التَصَقتْ بثنائية الصِّدْق والكذب نذكُر: "الإيهام"[16]، وقد ورَد هذا المصطلح لدَى الشريف السبتيِّ في أماكنَ عِدَّةٍ مِن كتابه "رفْع الحُجُب المستورة"، ونَكتفي ببعضِ الأمثلة:
يقول الشريف السبتيُّ (ت 760هـ) شارحًا بيت حازم القرطاجني (ت 684هـ): قلت: قال الناظِم: "وَظَلَّ بِالدِّيرِ يُسَاقِي أَكْؤُسًا... البيت"، فيه توريةٌ عجيبة، فإنَّه ذَكَر الدِّير وأوهم أنَّه يريد دير الخمار، وإنَّما يُريد موضع الوقيعة، وذكَر الأكؤسَ وأوهم أنه يُريد أكؤسَ الشراب، وإنَّما يريد أكؤسَ الحمام على جِهة الاستعارة، وذَكَر الإبريق وأوهم أنَّه يُريد إبريقَ الشراب وهو يُريد السيفَ، فتمَّتْ له التوريةُ وأبدع كلَّ الإبداع"[17]، فالإيهام هو نوعٌ مِن الكذِب الشِّعري الذي يَتوسَّلُ به الشاعِر، ويَزيد مِن جودةِ الإبداع.

هذه بعض المصطلحات التي تَدور في فلك قضيةِ الصِّدق والكذب، والتي تناولها الناقِد الأدبي في ثنايا مُصنَّفاته، ويُمكن أن نُلخِّص هذا الجهازَ المصطلحي لديه في:
1- يَفهم الشريف السبتيُّ مصطلح "الغُلوِّ" فهمًا دينيًّا وخُلُقيًّا، الشيء الذي جعله يَرفضه في الشعر؛ وبالمقابل جوَّز أسلوب المبالغة في الشعر، باعتبار أن الأول هو وصفٌ للمُحال، وأن الثاني هو وصْف للمُمكن. فالكذِب لدَيه: كذبٌ مرفوضٌ خُلُقًا ودِينًا؛ لأنه يصف المحُال، وكذبٌ مقبولٌ فنًّا وجَمالاً؛ لأنه يَصفُ المُمكن.

2- يَرى ابن البناء أن جَوهر الشِّعر وعَموده هو التَّخييل والمحُاكاةُ، وأنَّ الكَذِب والغُلوَّ مُلتصِقٌ بِهما؛ فلا يُتصوَّر وجودُ شِعرٍ بُدون عَمودِه، ولا وجودَ لهذا العَمود مِن دون كذبٍ وغُلوٍّ، إلا أنه لا يَنبغي أن يكونا من المحال والاختراعِ، لأنَّ ذلك يُفسدُ المحُاكاة.

3- يَرَى السجْلماسي أنَّ موضوعَ الصِّناعةِ الشِّعريَّةِ هو التَّخيِيلُ، بغضِّ النظر عن صِدق الشِّعر أو كَذِبِه، وبِغَضِّ النظر عن كَونِ هذا الكَذِبِ كذبًا مَحضًا أو اختراعًا أو مُحالاً، لكنَّه يَرفضُ أنْ يكونَ مِن المُمْتَنع.

4- يَرى الشريفُ السبتيُّ أنَّ الإيهامَ نَوعٌ مِن الكَذِبِ المقبول في الشِّعر؛ لأنَّه يَخدمُ جَودَته.

بالرُّجوعِ إلى التُّراثِ النَّقديِّ العربيِّ، نَجِدُ أنَّ هذه المُصطلحاتِ تُنُووِلَتْ في ثَنايا مُصنَّفاتِهم في النَّقد والبلاغَةِ، فنُظِر إليها باعتبارِها أَساليب بَلاغِيَّة، وأَحيانًا باعتبارها قَضايا نَقديَّة، تَختلِفُ فيها الآراء. ومِن الأَمثِلَةِ على ذلك ما ذَهَبَ إِليه قُدامَةُ بنُ جَعْفَرٍ (ت 337هـ) في قوله: "فَلنرْجِعْ إلى ما بَدْأنا بِذكْرِه مِنَ الغُلُوِّ والاقتِصارِ على الحَدِّ الأَوسَطِ، إنَّ الغُلُوَّ عِندي أَجودُ المذْهبَينِ، وهو ما ذَهَبَ إليه أَهْلُ الفَهْمِ بالشِّعْر والشُّعراء قديمًا، وقد بلَغَني عَنْ بعَضِهم أنَّه قال: (أَحْسَنُ الشِّعرِ أكْذَبُهُ)"[18].

ويَستنِدُ قُدامةُ في بناءِ تَصوُّرِهِ هذا إلى تُراثَينِ:
التُّراثُ الفَلسفيُّ القَديمُ لَدَى اليُونانِ؛ يقول: "وكذا نَرى فَلاسفةَ اليُونانيِّينَ في الشِّعرِ على مَذهبِ لُغَتِهم"[19].

التُّراثُ الأدبيُّ العربيُّ القديمُ، مِنْ خِلالِ استقراءِ وُجودِ هذا الغُلُوِّ في أَشعارِ القُدماءِ، ورَصْدِ اختلافِ القُدماءِ حَولَهُ، يَقولُ: "ومَن أنكرَ على مُهَلْهِل والنّمر وأبي نُواسٍ قولَهم المتَقدِّمَ ذِكرُه، فهو مُخْطئ؛ لأنَّهم وغَيرَهم مِمَّنْ ذهبَ إلى الغُلُوِّ إنما أرادوا به المُبالَغةَ، وكل فريق إذا أتى من المبالغة والغُلُوّ بِما يَخرجُ عَنِ المَوجودِ وَيدخُل في باب المَعدومِ، فإنَّما يُريدُ به المَثَلَ وبُلوغَ النِّهايةِ في النَّعتِ، وهذا أحسنُ مِن المذهبِ الآخَرِ"[20].

مِنْ خِلالِ تَحليلِه للتُّراثِ الأدبيِّ، يَبسُطُ بِشكْلٍ واضِحٍ رأيَه في قَضيَّةِ الكذبِ والغُلُوِّ، فهو يرى أن الغُلُوَّ جائزٌ، وقَدِ اعترَضَ على مَنْ أَنكَرَه، شَريطَةَ أنْ يَكونَ بِقَصْدِ المُبالَغَةِ، وليسَ بِقصْدِ الخُروجِ عَنِ الموجُودِ والدُّخولِ في المَعدومِ؛ أي: المحُال.

يَرصدُ ابنُ الأَثيرِ (ت 630هـ) كذلكَ اختلافَ النُّقادِ حَولَ مُصطَلحِ "الإفراط"؛ يَقولُ: "وأمَّا الإفراطُ، فقَدْ ذمَّهُ قَومٌ مِن أهلِ هَذِه الصِّناعَةِ وحَمِدَهُ آخرونَ، والمذْهَبُ عِندي استعْمالُه، فإنَّ أحْسَنَ الشِّعرِ أكْذَبُه، بَلْ أَصدَقُهُ أكذَبُه، لكنَّه تَتفاوَتُ دَرجاتُه، فَمِنه المُستحْسَن الذي عليه مَدارُ الاستعْمالِ"[21].

هكَذا يَنطلِقُ ابنُ الأَثيرِ مِنْ قَولةِ: "أحسَنُ الشِّعْرِ أكذَبُه"؛ لِيرَى أنَّ الكَذِبَ جائِزٌ في الشِّعْرِ، بَلِ الإفراطُ فِيهِ كَذلِكَ جائِزٌ، لكنْ يَجِبُ أنْ تَكونَ دَرجَةُ الكَذِبِ بِقَدْرِ الاستِعمالِ، وكَأَنَّهُ يُوحِي بالقَولِ أَنَّ الخُروجَ إلى المحالِ في الكذبِ غَيرُ مَقبولٍ، ويُؤَكِّدُ أنَّهُ لا وجُودَ لِشِعْرٍ صادِقٍ، بَلْ هناك شِعْرٌ كاذِبٌ، وهو سِرُّ صِدْقِه وجَوْدَتِه، وفَهْمُه للصِّدْقِ والكَذِبِ هُو فَهْمٌ جَماليٌّ فَنيٌّ.

ونَخْتِمُ هذهِ الجُهودَ العربيَّةَ بما جاءَ به ابنُ رشيقٍ القَيرَوانِيُّ (ت 456هـ) في مناقَشَتِه لِمُصطلَحَي "المُبالَغَة والغُلُوّ"؛ يَقولُ عنِ الأوَّلِ مِنهُما: "والنَّاسُ فيها مُختَلِفونَ: مِنهُمْ مَنْ يُؤثِرُها، ويقولُ بتفضيلِها، ويَراها الغايةَ القُصوى في الجَودةِ، وذلِكَ مَشهورٌ مِن مذهبِ نابغةِ بَني ذُبيان، وهو القائِل: أشعرُ الناسِ مَن استُجيدَ كذبُه، وضُحِك مِن رَديئِه"[22]، ويُقرِّب لنا ابنُ رشيقٍ مفهومَهُ للكذبِ، باعتباره كذبًا فنيًّا يَدعو إلى الصِّدقِ أو التصديقِ، ويُوضِّح ذلك من خلال تعقيبِه على بيت جَرِير:
"فَإِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ عَبِيدَ تَيْمٍ
وتَيْمًا قُلْتَ: أَيُّهُمُ العَبِيدُ


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 137.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 136.09 كيلو بايت... تم توفير 1.71 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]