التبول قائما

[ابوالوليد المسلم]

التبول قائما
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح



• عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِماً، فَتَنَحَّيْتُ. فَقَالَ: "ادْنُهْ" فَدَنَوْت حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ. فَتَوَضَّأَ، فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
• وعَنْ أَبِي وَائِلٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ. وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَوَدِدْتُ أَنَّ صَاحِبَكُمْ لاَ يُشَدِّدُ هذَا التَّشْدِيدَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ. فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ.


ألفاظ الأحاديث:
• (سُبَاطَة قَوْمٍ): السباطة بضم السين وفتح الباء وتخفيفها وهي ملقى القمامة وتسمى المزبلة والكناسة وهي الموضع الذي يُرمى فيه التراب والأوساخ وما يُكنس من المنازل انظر:" لسان العرب (7 / 309): مادة سبط..
• (جِلْد أَحَدِهِمْ): المقصود به ثوبه بدليل رواية البخاري (ثوب أحدهم) قال القرطبي: مراده بالجلد واحد الجلود التي كانوا يلبسونها، وحمله بعضهم على ظاهره وزعم أنه من الإصر (أي المشقة) الذي حملوه، ويؤيده رواية أبي داود ففيها " كان إذا أصاب جسد أحدهم " لكن رواية البخاري صريحة في الثياب فلعل بعضهم رواه بالمعنى " أ.هـ.
• (قَرَضَهُ): أي قطعه.

من فوائد الأحاديث:
الفائدة الأولى: في الحديث دلالة على ثبوت المسح على الخفين حتى في الحضر فليس المسحُ خاصاً بالسفر.
الفائدة الثانية: في الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بال قائماً واختلف في سبب بوله قائماً على أقوال أشهرها:
فقيل: لأنه لم يجد مكاناً صالحاً للقعود وقام لأن طرف السباطة كان عالياً.
وقيل: لأن السباطة رخوة لا يرتد على البائل فيها شيء من بوله.
وقيل: إنه فعل ذلك لجرح كان في مأبضه لا يتمكن معه القعود، واستدل من قال بهذا القول بما رواه الحاكم والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "إنما بال رسول الله قائماً " لجرح ٍ كان في مأبضه" والحديث ضعيف ضعفه البيهقي والدار قطني، والمأبض هو باطن الركبة.


وقيل: إنما فَعَلَه لبيان الجواز، وهذا أظهر الأقوال، فالبول قائماً جائز بشرطين:
1- أن يأمن الناظر بحيث لا يراه أحد إذا قام لأن القاعد أستر وفي حديث الباب ما يدل على ذلك حيث أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم لحذيفة حتى قام عند عقبه حتى فرغ.
2- أن يأمن التلويث بحيث لا يرتد إليه شيء من بوله.
• فإن قيل كيف الجمع بين جواز البول قائماً لحديث الباب وبين حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد والترمذي والنسائي أنها قالت: " من حدثكم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا قاعداً " الجمع بينهما من وجهين:
الأول: أن حديث عائشة رضي الله عنها لبيان أكثر فعله صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يبول قاعداً وحديث الباب لبيان الجواز.

الثاني: أنه لو سلَّمنا أن حديث عائشة رضي الله عنها يدل على أنه لم يبل قائماً أبداً فإن عائشة رضي الله عنها استندت إلى علمها فيحمل ما وقع منه في البيوت وأما خارج البيوت فلم تطَّلع هي عليه وحَفِظَه حذيفة وهو من كبار الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال النووي: وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة رضي الله عنها هذا ثابت " ونقل النووي عن ابن المنذر في الإشراق: أن البول قائماً ثبت من فعل عمر بن الخطاب وابنه عبدالله وزيد بن ثابت وسهل بن سعد وأيضاً روي عن علي وأنس وأبي هريرة وفعل ذلك ابن سيرين وعروة بن مسعود رضي الله عنهم . [انظر:" شرح مسلم" للنووي المجلد الثالث حديث رقم 273].


الفائدة الثالثة: قيل في سبب بول النبي صلّى الله عليه وسلّم في سباطة القوم ولم يدل الحديث أنه استأذنهم أقوال منها:
أ- أنهم لا يكرهون ذلك وربما يكونون أذنوا لمن أراد أن يبول فيها أو يكون مما يتسامح فيه الناس.
ب- وقيل إن هذا السباطة لم تكن خاصة بهم بل هي للناس عامة وأضيفت إليهم لقربهم منها.


الفائدة الرابعة: قول حذيفة رضي الله عنه (لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد) فيه إنكار على أبي موسى حيث كان يبول في قارورة ليأمن رشاش البول ويذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أصاب ثوب أحدهم البول قطعه وبيَّن له حذيفة رضي الله عنه أن هذا خلاف سنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بال قائماً، وعلى هذا يتوجه كل تشديد يُشَدِّدْ فيه الإنسان حتى ولو كان لمصلحة الدين كما يعتقد, فإن خير الهدي هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فكل هدي زائد على هدي النبي صلّى الله عليه وسلّم هو خلاف سنته ولو اعتقد صاحبه أنه محسن بل هو تشديد له أثر على صاحبه وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم كما عند البخاري " لن يُشاد الدين أحد إلا غلبه " وعند مسلم من حديث ابن مسعود " هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً.



مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الطهارة)