الإسلام وتكريمه للعلم والعلماء - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         حدث في مثل هذا اليوم ميلادي ... (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4967 - عددالزوار : 2074673 )           »          إشــــــــــــراقة وإضــــــــــــاءة (متجدد باذن الله ) (اخر مشاركة : أبــو أحمد - عددالردود : 4545 - عددالزوار : 1345783 )           »          شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 610 - عددالزوار : 343302 )           »          فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 384 - عددالزوار : 157762 )           »          شرح صحيح مسلم الشيخ مصطفى العدوي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 329 - عددالزوار : 55278 )           »          فتاوى فى الصوم (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 53 )           »          موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 60 )           »          افطرت فى رمضان ولا تستطيع القضاء ولا الإطعام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 49 )           »          و دخل رمضان ،، مكانة شهر رمضان و أجر الصيّام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 43 )           »          هل العدل في الهدايا بين الزوجات واجب؟! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 42 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى الشباب المسلم
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى الشباب المسلم ملتقى يهتم بقضايا الشباب اليومية ومشاكلهم الحياتية والاجتماعية

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
Prev المشاركة السابقة   المشاركة التالية Next
  #1  
قديم 21-02-2020, 01:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,441
الدولة : Egypt
افتراضي الإسلام وتكريمه للعلم والعلماء

الإسلام وتكريمه للعلم والعلماء


سيد مبارك




الإسلام رسالة الله للعالمين (4)




الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، وبعد:

فإن حاجة البشرية للعلم والعلماء للتقدم والرقي والتكيُّف في هذه الدار التي خلقها الله مستقرًّا ومقامًا لآدم وحواء - عليهما السلام - وذرِّيتهما إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها - لا تحتاج لبيان أو إقناع؛ لماذا؟.



لأن العلوم والمعارف الشرعية والدنيوية هي المعيارُ الذي تُقاس به قوة وصلابة المجتمعات روحيًّا ودنيويًّا، وتبين بجلاء مدى كبريائها وعزَّتها وهُوِيَّتها، والجهل بهذه العلوم أو تجاهلها دليلٌ على انحطاط هذه المجتمعات وهمجيَّتها وجاهليتها.



ولا يخفى على مَن له أدنى بصيرة بالتاريخ البشري الفترة الحالكة في تاريخ قارَّة أوروبا قبل عصرِ النهضة، فقد كانت تتخبَّط في ظلمات الجهل بسبب هَيْمنة رجال الدين والكنيسة على مختلف شؤون الحياة، وحاربوا العلماء وحكموا على بعضهم بالقتل والحبس، فتفشَّتِ الخرافات والأساطير بين العامَّة والخاصة، وانتشرت الحروب لأسباب مختلفةٍ، لسنا في صدد رصدها في هذا المبحث.



هذا، في الوقتِ الذي كان فيه المسلمون والمجتمعاتُ المسلمةُ تتطوَّر وتتقدَّم على شعوب الأرض بتعاليمَ ساميةٍ تجمع بين الدين والدنيا، ويمضون قُدُمًا بخطواتٍ ثابتة حثيثة واثقة على أرضية صلبة وتشريع إلهي يرفع من قدر العلم وأهله، في إقامة حضارة شامخة عملاقة، أضاءت ظلماتِ الجهل في ربوع العالَمين، وخرج من رحمِها نوابغ وعباقرة في مختلف العلوم والمعارف في الفقه والحديث واللغة والتفسير وغيرها من العلوم الشرعية، فضلاً عن العلوم الدنيوية النافعة التي لا بد منها؛ كالجغرافيا، والتاريخ، والفلسفة، والطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وما أشبه ذلك، ومقامهم وفضلهم في السبق وبصماتهم في المجال العلمي والإنساني معتَرَفٌ به، ومشهود بين خلق الله تعالى في عصرنا هذا، وكانوا المصباح الذي أضاء الطريق لكل عالِم دينٍ أو دنيا، ورفع الله بهم راية الإسلام، وأعز بهم دينه، ولسنا في صدد ذكر أسمائهم، فهي معلومة للقاصي والداني.



وأفاقت أوروبا وبدأت خطوتها الأولى للتخلص من هَيْمنة رجال الدين، وبإقرارهم واعتراف أهل الإنصاف منهم، كانت الحضارة الإسلامية وعلماؤها وعلومهم التشريعية والدنيوية النافعة لها تأثيرات واضحة نهل منها علماء أوروبا، ما أعانهم على نهضتهم، وعكفوا يدرسون ويترجِمون علوم المسلمين، وزادوها بعلومهم المادية والكونية حتى صاروا ما هم عليه اليوم في دنيا الناس، ولكنهم أهملوا العلم الشرعي الذي يربطهم بخالقهم، ويبين لهم الحق من الباطل، والتوحيد من الشرك، ولعل تجربة ما قبل عصر النهضة وسيطرة رجال الدين كانت سببًا في عدم جمعهم بين العلم والإيمان، فضلُّوا عن الحق واتبعوا كل شيطان مَريدٍ.



ولا يغيب عنا انحطاطهم الأخلاقي إلا مَن رحم ربي منهم، رغم تقدُّمهم العلمي الذي سوف يفتكُ بهم ويُدمِّرهم بسبب طغيانهم وفسادهم وغرورهم بالعلم، حتى نسوا الله تعالى، وصاروا اليوم يتمنَّون الخلود، ويبحثون عن ترياق يُطِيل العمر والشباب؛ حبًّا في الدنيا وشهواتها الزائلة، كما قال تعالى: ﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 96].



قال السعدي - رحمه الله -: "﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ وهذا أبلغ ما يكون من الحرص، تمنَّوا حالةً هي من المحالات، والحال أنهم لو عُمِّروا العمر المذكور، لم يغنِ عنهم شيئًا، ولا دفع عنهم من العذاب شيئًا.



﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم"؛ اهـ[1].



وسوف نرى في هذا المبحث عظمةَ الإسلام وشريعته، التي جعلت طلبَ العلم فريضةً يُثَاب عليها العبد من ربه، وجعلت العلماء ورثة الأنبياء، ومصابيح الدجى، وحاملي لواء الحق، وشهدت لهم بالفضل والرفعة.



وسيكون مدخلُنا لذلك في بيان ثلاثة محاور أساسية، وهي كما يلي:

المحور الأول: بيان أن العلم والإيمان في الإسلام لا يفترقان.

المحور الثاني: بيان أن العلوم الشرعية هي روح الأمة وعزَّتها.

المحور الثالث: بيان أن حياة الأمة في الاهتمام بالعلم والعلماء.



وإلى القارئ البيان والتوضيح للمحاور الثلاثة، مع الالتزام بالأدلة الشرعية؛ لتقوم الحجة على مَن يقدح في الإسلام ويقول: إنه سبب التخلف والجمود من أحفاد أبي جهل، وهم في كل عصر ومصر، والله المستعان، وعليه التكلان.



المحور الأول

بيان أن العلم والإيمان في الإسلام لا يفترقان

نبدأ ونقول - بحول الله وقوته -: إن دين الإسلام وهو دين سماوي يدعو الناس لعبادة الله الواحد الأحد الخالق البارئ، وعدم الشرك به، ويدعوهم للإيمان به وبأسمائه وصفاته، فهو رسالة روحية إيمانية، وتشريعية خاتمة، تسمو بالنفس البشرية للسمو والرقي بينها وبين خالقها، إن دخل الإيمان بالله والغيب قلبَ صاحبها من أول وهلة بلا شك أو ريب، ويبين ذلك قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 2 - 5].



قال السعدي في شرح الآيات البينات ما نصه:

وقوله: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾؛ أي: هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كُتُب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم، والحق المبين، فـ ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ ولا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه يستلزم ضده؛ إذ ضد الريب والشكِّ اليقينُ، فهذا الكتاب مشتملٌ على علم اليقين المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدةٌ، أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمنًا لضده، وهو الكمال؛ لأن النفي عدم، والعدم المحض لا مدح فيه.



فلما اشتمل على اليقين، وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين، قال: ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، والهدى ما تحصل به الهداية من الضلالة والشُّبَه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة، وقال: ﴿ هُدًى ﴾ وحذف المعمول، فلم يقُلْ: هدى للمصلحة الفلانية، ولا للشيء الفلاني؛ لإرادة العموم، وأنه هدى لجميع مصالح الدارينِ، فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومُبين للحق من الباطل، والصحيح من الضعيف، ومُبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم، في دنياهم وأخراهم"؛ اهـ[2].



قلتُ:

أما النفس الأمَّارة بالسوء، فمجبولةٌ على التمرد على ربها ورازقها، لا يرضيها مجرَّد القول بالإيمان بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة، وإنما باليقين الذي تدل عليه الشواهد والثوابت، ومن ثَمَّ كان اهتمام الإسلام بالعلم المادي والكوني من العلوم الدنيوية كاهتمامه بالعلم الشرعي؛ رحمةً بهؤلاء المخدوعين وإقامة الحجَّة عليهم من جنس ما يفقهونه.



قال ابن العثيمين - رحمه الله -:

والمواعظ الكونية أشدُّ تأثيرًا لأصحاب القلوب القاسية، أما المواعظ الشرعية، فهي أعظم تأثيرًا في قلوب العارفين بالله الليِّنة قلوبُهم؛ لأن انتفاع المؤمن بالشرائع أعظم من انتفاعه بالمقدورات.



وأضاف - رحمه الله -:

إن الذين ينتفعون بالمواعظ هم المتقون، وأما غير المتقي، فإنه لا ينتفع لا بالمواعظ الكونية، ولا بالمواعظ الشرعية، قد ينتفع بالمواعظ الكونية اضطرارًا وإكراهًا؛ وقد لا ينتفع، وقد يقول: هذه الأشياء ظواهر كونية طبيعية عادية، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾ [الطور: 44]، وقد ينتفع ويرجع إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [العنكبوت: 65]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ [لقمان: 32]"؛ اهـ[3].



قلت:

إذًا الإسلام جعل من ثوابتِه حتميةَ الجمع بين العلم والإيمان لا يطغى أحدهما على الآخر؛ لينهل العباد كلٌّ حسب حاله ويزيده يقينًا وإيمانًا بالله الإله الحق المتفرِّد بالوحدانية والخلق والتدبير.



والحاصل مما ذكرنا أن العلم والإيمان لا غنى لأحدِهما عن الآخر، وقد أفاضت الشريعةُ ببيان ذلك بأدلةٍ كثيرة من الكتاب والسنة؛ منها:

قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 56].



وقوله تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الحج: 54].

وقوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].




يقول ابن القيم - رحمه الله -:

أفضل ما اكتسبَتْه النفوسُ، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة - هو العلم والإيمان؛ ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 56]، وقوله: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].



وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه، والمؤهَّلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللَّذينِ بهما السعادة والرفعة، وفي حقيقتهما، حتى إن كل طائفة تظنُّ أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تنالُ السعادةَ، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان يُنجي ولا علم يرفع، بل قد سدُّوا على نفوسِهم طُرُقَ العلم والإيمان اللَّذينِ جاء بهما الرسول ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم"؛ اهـ[4].



قلت:

وينبغي على مَن آمَن بلسانه ولم يُؤمِن بقلبه، وتكبَّر بعلمه، وكفر بنعمة الله تعالى عليه، وأبى أن يكون علمه وإنجازاته في حدود الشرع المطهَّر، ورد فضل علمه إليه وحده لذكائه وخبرته وحنكته، وحاد عن الإيمان والطريق القويم - أن يعلم أن الله تعالى هو العليم الحكيم، وإليه ينتهي العلم والحكمة، وهو الفقير إلى رحمته وكرمه وفضله، وهو سبحانه - جل جلاله - غنيٌّ عن العالمين، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].



قال السعدي - رحمه الله -: يُخاطِب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى الله من جميع الوجوه:

فقراء في إيجادهم؛ فلولا إيجاده إياهم، لم يُوجَدوا.



فقراء في إعدادِهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعدادُه إياهم بها، لما استعدوا لأي عمل كان.



فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنِّعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضلُه وإحسانه وتيسيره الأمور، لَما حصل لهم من الرزق والنعم شيء.



فقراء في صرفِ النِّقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد؛ فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرَّت عليهم المكاره والشدائد.



فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.



فقراء إليه في تألُّهِهم له وحبهم له وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يُوفِّقهم لذلك، لهلكوا وفسدت أرواحهم وقلوبهم وأحوالهم.



فقراء إليه في تعليمِهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم؛ فلولا تعليمه لم يتعلموا، ولولا توفيقه لم يصلحوا.



فهم فقراء بالذات إليه بكل معنى وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفَّق منهم الذي لا يزال يشاهد فقرَه في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له ويسأله ألاَّ يكِلَه إلى نفسه طرفةَ عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.



﴿ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾؛ أي: الذي له الغنى التامُّ من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق؛ وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها صفات كمال، ونعوت جلال.



ومن غناه تعالى أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته وأسمائه؛ لأنها حسنى، وأوصافه؛ لكونها عليا، وأفعاله؛ لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه، الغني في حمده"؛ اهـ[5].





المحور الثاني

بيان أن العلوم الشرعية هي روح الأمة وعزتها

ورب الكعبة، لن تقومَ نهضةٌ حقيقيةٌ قائمة على الصدق والتفاني والتضحية لهذه الأمة إلا بالعودة إلى دين الله تعالى، والعمل بالشريعة الخاتمة، والتمسك بنصوص الوحيين كمنهج حياةٍ للأمة، والخروج من هذه الغيبوبة الدنيوية وشهواتها الزائلة، التي جعلتنا هلكى وصرعى نتخبَّط في دروبِها بلا غاية ولا هدف، تحت رحمة أعداء الدين وأذنابهم من خطباء الفتنة وأنصار الظَّلَمة، الذين جعلونا أذلة نُشكِّك في مصدرَي قوَّتنا وعزتنا: القرآن والسنة، ونتبع مبادئ وقوانين زادتْنا ضعفًا على ضعف، ووهنًا على وهن؛ حتى ذهبت ريحُنا، وضعُفَت شوكتنا، وتكاثرت علينا الأمم كما أخبرنا الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: ((بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدورِ عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبِكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))[6].




ورضي الله عن الفاروق عمر عندما قالها واضحةً جليلةً لكل غافل وجاهل بعظمة الإسلام ورسالته، قال: "كنا أذلاَّء، فأعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا العزة في غيره، أذلنا الله".



ونقولُها واضحةً جلية: إن أسباب النصر والتمكين بالعودة إلى ديننا وشريعتنا الغرَّاء، وفهمها وتطبيقها، والدعوة إليها بكل الوسائل الشرعية المتاحة، بلا إفراط أو تفريط، وهذه مسؤولية الأمراء والعلماء.



يقول ابن العثيمين:

"ولا شك أن العلم الكامل الذي هو محل الحمد والثناء هو العلم بالشريعة؛ ولذلك نقول: إن عصر النبوَّة هو عصر العلم، وليس عصرنا الآن هو عصر العلم الذي يمدح على الإطلاق، لكن ما كان منه نافعًا في الدين، فإنه يمدح عليه لهذا"؛ اهـ[7].



وقال - رحمه الله - في فتوى له بتصرف يسير:

لا شك أن الأصل هو العلوم الشرعية، ولا يمكن لإنسان أن يعبد الله حقَّ عبادته إلا بالعلم الشرعي، كما قال الله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ [يوسف: 108]، فلا بدَّ من العلم الشرعي الذي تقوم به حياة المرء في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأي دعوةٍ أن تقوم إلا وهي مبنيَّة على العلم.



وأضاف: والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:

قسم لا بد للإنسان من تعلُّمه، وهو ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه.



وقسم آخر وهو فرض كفاية، فإنه هنا يمكن الموازنة بينه وبين ما تحتاجه الأمة من العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية.



وكذلك العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1 - قسم علوم ضارة، فيَحرُم تعلمها، ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بهذه العلوم مهما تكن نتيجتها.



2 - قسم علوم نافعة، فإنه يتعلم منها ما فيه النفع.



3 - وقسم العلوم التي جهلُها لا يضر والعلم بها لا ينفع، وهذه لا ينبغي للطالب أن يقضي وقته في طلبها؛ اهـ[8].



قلت: والمسلمون اليوم بسبب محاربتهم واحتقارهم للعلم الشرعي وأهله، صار التخلف والجهل من سمات المجتمعات المسلمة، التي انتشرت في ربوعِها البدع والشركيات والخرافات والدجل، وطغت المعتقدات الباطلة على مصدرَي قوتهم وعزتهم: القرآن والسنة، إلا مَن رحم ربي، بل يرى بعض أحفاد أبي جهل - وهم منا، ويتكلمون بألسنتنا - أن الدين الإسلامي هو سبب تخلُّف المسلمين اليوم، كبُرَت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.



وكيف يصح هذا القول، وقد ثبت عن النبي أنه قال: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم))[9]؟!

قال ابن العثيمين:

"ومراده أنتم أعلم بأمور دنياكم، ليس بالأحكام الشرعية فيها، ولكن بتصريفها والتصرُّف فيها، فنحن أعلم بالدنيا من حيث الصناعة، أما من جهة الأحكام، فهي إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"؛ اهـ.



والإسلام وشريعتُه لا يحارب العلوم الدنيوية النافعة التي تترقى بالبشرية، وتخدم الإنسانية؛ لتقرِّبها من الله تعالى، وتدرك عظمته وآياته في الآفاق، كما قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 146.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 145.07 كيلو بايت... تم توفير 1.72 كيلو بايت...بمعدل (1.17%)]