|
ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث ملتقى يختص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلوم الحديث وفقهه |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() القولُ الأمتَع في حديث ![]() عبد المجيد البيانوني الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبيِّنا مُحمّد، سيّد الأوّلين والآخرين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛ فإنّ الحديث النبويّ الشريف وحيٌ من وحي الله، يخرج من مشكاة الحقّ والهدى: (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) النجم، ولقد أوتي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الحكمة وفصل الخطاب، وخُصّ بجوامع الكلم، ومنتهى الحكم، فكان كلامه القول الفصل في كل أمر أو نهي، فلا يحاط بدقائق قوله ومعانيه، ولا يبلغ الفصحاء والبلغاء، وأهل العقول والحجا أغوار ما فيه، فهو لا يزال يَهَبُ الأيام من معين الحقّ فيضاً بعد فيض، ليكون هداية الخلق إلى الحقّ، وحجّة الله على الخلق، حتّى يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هذه الأحاديث الشريفة الجَامعة، التي حوت عجائب الحكم البالغة، وأصول القيم الرفيعة، والأسرار النفسيّة والاجتماعيّة البديعة: قولُ المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)). وأحبّ في هذه العجالة الموجزة أن أقف على بعض أسرار الموازنة التي يعقدها هذا الحديث الصحيح بين طلب ذات الدين، الذي يحثّ عليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ويوصي بالحظوة به، وبين طلب ذات الجمال، وما يتصل به من المعاني الأخرى أو يشبهه. فأقول وبالله التوفيق: 1 ـ وقفة مع معاني الحَديث عند شُرّاحه: قال الإمام ابن حجر: " وَالحَسَب فِي الأَصْل الشَّرَف بِالآبَاءِ وَبِالأَقَارِبِ، مَأْخُوذ مِنْ الحِسَاب، لأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَفَاخَرُوا عَدُّوا مَنَاقِبهمْ وَمَآثِر آبَائِهِمْ وَقَوْمهمْ وَحَسَبُوهَا فَيُحْكَم لِمَنْ زَادَ عَدَده عَلَى غَيْره. وَقِيلَ الْمُرَاد بِالحَسَبِ هُنَا الْفِعَال الحَسَنَة. وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الشَّرِيف النَّسِيب يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج نَسِيبَة إِلاّ إِنْ تَعَارَضَ نَسِيبَة غَيْر دَيِّنَة وَغَيْر نَسِيبَة دَيِّنَة فَتُقَدَّم ذَات الدِّين، وَهَكَذَا فِي كُلّ الصِّفَات. قَوْله: ((وَجَمَالهَا)) يُؤْخَذ مِنْهُ اِسْتِحْبَاب تَزَوُّج الجَمِيلَة إِلاَّ إِنْ تُعَارِض الجَمِيلَةُ غَيْر الدَيِّنَة وَغَيْرُ الجَمِيلَة الدِّينَةَ، نَعَمْ لَوْ تَسَاوَتَا فِي الدِّين فَالجَمِيلَة أَوْلَى، وَيَلْتَحِقُ بِالحَسَنَةِ الذَّات الحَسَنَة الصِّفَات، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُون خَفِيفَة الصَّدَاق.. قَوْله: ((فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّين)) فِي حَدِيث جَابِر: ((فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّين))، وَالمَعْنَى أَنَّ اللاَّئِق بِذِي الدِّين وَالمُرُوءَة أَنْ يَكُون الدِّين مَطْمَح نَظَرِهِ فِي كُلّ شَيْء، لا سِيَّمَا فِيمَا تَطُول صُحْبَته، فَأَمَرَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَحْصِيلِ صَاحِبَة الدِّين، الَّذِي هُوَ غَايَة الْبُغْيَة. وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث عَبْد الله بْن عَمْرو عِنْد اِبْن مَاجَهْ رَفَعَهُ: ((لا تَزَوَّجُوا النِّسَاء لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنهنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ ـ أَيْ يُهْلِكهُنَّ ـ وَلا تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالهنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّين، وَلأَمَة سَوْدَاء ذَات دِين أَفْضَل)). قَوْله: ((تَرِبَتْ يَدَاك)): أَيْ لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، وَهِيَ كِنَايَة عَنْ الْفَقْر، وَهُوَ خَبَر بِمَعْنَى الدُّعَاء، لَكِنْ لا يُرَاد بِهِ حَقِيقَته، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِب " الْعُمْدَة "، زَادَ غَيْره أَنَّ صُدُور ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَقّ مُسْلِم لا يُسْتَجَاب لِشَرْطِهِ ذَلِكَ عَلَى رَبّه، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِير شَرْط، أَيْ: وَقَعَ لَك ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَفْعَل، وَرَجَّحَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: " مَعْنَى الحَدِيث أَنَّ هَذِهِ الخِصَال الأَرْبَع هِيَ الَّتِي يُرْغَب فِي نِكَاح المَرْأَة لأَجْلِهَا، فَهُوَ خَبَر عَمَّا فِي الْوُجُود مِنْ ذَلِكَ، لا أَنَّهُ وَقَعَ الأَمْر بِذَلِكَ، بَلْ ظَاهِره إِبَاحَة النِّكَاح لِقَصْدِ كُلّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ قَصْدَ الدِّين أَوْلَى، قَالَ: وَلا يُظَنّ مِنْ هَذَا الحَدِيث أَنَّ هَذِهِ الأَرْبَع تُؤْخَذ مِنْهَا الْكَفَاءَة أَيْ تَنْحَصِر فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد فِيمَا عَلِمْت، وَإِنْ كَانُوا اِخْتَلَفُوا فِي الْكَفَاءَة مَا هِيَ ". وقال الإمام النووي: " الصَّحِيح فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلهُ النَّاس فِي الْعَادَة، فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ هَذِهِ الخِصَال الأَرْبَع، وَآخِرهَا عِنْدهمْ ذَات الدِّين، فَاظْفَرْ أَنْتَ أَيّهَا المُسْتَرْشِد بِذَاتِ الدِّين ". " وَفِي هَذَا الحَدِيث الحَثّ عَلَى مُصَاحَبَة أَهْل الدِّين فِي كُلّ شَيْء، لأَنَّ صَاحِبهمْ يَسْتَفِيد مِنْ أَخِلاقهمْ وَبَرَكَتهمْ، وَحُسْن طَرَائِقهمْ، وَيَأْمَن المَفْسَدَة مِنْ جِهَتهمْ ". 2ـ إلى مَن يَتَوَجّهُ هذا الحديث: ولعلّ بعض الناس يظنّ أنّ هذا الحديث موجّه إلى طالبي الزواج من الشباب فحسب، ولكنّه في حقيقته ومراميه موجّه إلى فئات المجتمع كافّة، بما يناسب موقع كلّ فئة ومسئوليّتها: ـ فهو موجّه إلى الشباب ليُحسنوا النظر، ويُحكموا الموازين في أنفسهم، وفي اختيار شريكة حياتهم، فلا يؤخّروا ما حقّه التقديم، ولا يغفلوا ما حقّه الاهتمام والتعظيم، ولا يغترّوا بمظاهر خادعة، ليس وراءها ما يسعد وينجد.. ـ وهو موجّه إلى كلّ فتاة، هي محطّ أنظار الخاطبين والخاطبات، لتعْرف ما يطلبه الجنس الآخر فيها، وما تملكه من مواهب، وما ينبغي عليها أن تملك، وتتحقّق به من مزايا وصفات.. ـ وهو موجّه إلى أولياء أمور المسلمين، ليضعُوا بناء الأسرةِ موضعها في سلّم الأولويّات من خطط التنمية البشريّة، لخدمة الإنسان ذكراً كان أو أنثى، وليقفوا من الأعراف الطاغية، والعادات الجائرة موقف التقويم الجادّ، فلا يتركوها تعيث فساداً في حياة الناس وعلاقاتهم، إذ إنّ بناء الأسرةِ على الأسس الصحيحة أصل التنمية البشريّة القويمة. ـ وهو موجّه إلى أولياء أمور النساء بوجه خاصّ، كيلا تذهب بهم رياح الأعراف والتقاليد عن الموازين القسط، ولا تشتطّ بهم الأعراض عن الجواهر، ويخدعوا عن الحقائق بالمظاهر. والمجتمع أيّ مجتمع لا يخرج في جملته عن هذه الفئات. ولاشكّ أنّ معرفة المقصود بخطاب التكليف لها أهمّيّة كبيرة في تحديد المسئوليّة وطبيعتها وآثارها، فليس هذا الحديث إذن موجّهاً إلى فئة الشباب من كلا الجنسين فحسب.. 3 ـ يجمع هذا الحديث بين عالم القيم وعالم الأشياء، ويتحدّث عنهما، ويوازن بينهما: وإذ كان الإنسان مخلوقاً من روح وجسد، فكذلك هذه الحياة يتوزعها عالمان: عالم القيم، وعالم الأشياء؛ فعالم القيم يعود إلى عالم الروح وطبيعتها وأشواقها، وعالم الأشياء يعود إلى عالم الجسد وطبيعته ومتطلّباته. وطبيعة عالم الأشياء تفرض عليه أن يكون من الوسائل، ممّا يجعله وسيلة لعالم القيم، يُتّخَذُ لبلوغها، ويُبذَل لأجلها، وهو عالم متطوّر متجدّد، متغيّر النوع والملامح بين جيل وجيل، ومجتمع وآخر. وأمّا عالم القيم فهو عالم المبادئ والمقاصد، فهو على وجه العموم عالم الاستقرار والثبات والرسوخ. وما أكثر الناس الذين يقفون أمام عالم الثبات والرسوخ عاجزين عن الالتزام به، والثبات عليه، ويفتنون بعالم الأشياء، فلا يفكّرون إلاّ به، ولا يزالون يلهثون وراء مظاهره ومتغيّراته، ويكونون من عبيده وأسراه.. فهو مطمح أبصارهم، وغاية أمنياتهم. ! وما أحوجنا إلى فقه الوسائل وفقه المقاصد، ودقّة التمييز بينهما، لتستبين معانيَها، وتُوضّح حدودَها ومعالمها. وكيلا تلتبس عَلينا بعض الأنواع ببعضها الآخر، وليُوضَع كلّ قصد وعمل في موقعه الصحيح، وسيلةً كان أم مقصداً.. وإنّ من أهمّ ما يستفاد من التمييز بين هذين العالمين: ـ أنّ صورة الجمال الظاهرَة لا يدَ للإنسان في صُنعها، ولا قدرةَ له على تَغييرها وتبديلها، وربّما كان له قدرَة محدودة على تحسينها وتجميلها.. فهل من العقل وَحُسنِ التدبير لمصلحتك ـ أيّتها الفتاة ـ ألاّ تقفي إلاّ عندَها، ولا تفكّري إلاّ بِها. ؟! وتسوء نظرتك إلى نفسك وإلى الحياة كلّها، أن كان حظّك من الجمال الظاهر ضعيفاً محدوداً. ؟! وهل من العقل والحكمة ـ أيّها الرجل ـ وَحُسنِ التدبير لأمرك ألاّ يهمّك في المرأة إلا هذا الأمر، الذي لا يكشف لك عن معدن الجنس الآخر وقيمته، بل يقدّم لك بهرجاً وزيفاً، وتغفل من رغباتك ما هو أهمّ وأعلى، وأولى بالاعتبار وأجدى. ؟! ـ وأنّ جمالَ القيم وسموّها لا حدّ لهُ ولا غاية، ولا أمد له ولا نهاية، أفما يحسن بكلا الجنسين إذن أن يوجِّه كُلّ عنايته إلى الاهتمام بجوانبه التي لا يحيط بها أحد، ولا ينقطع عن بحبوحَة ساحَاتها المدد، وهيَ تزداد مع الأيّام وتنمو، بينمَا تتناقص الأخرى وتضعف، وتسير في طريقها نحو التلاشي والزوال.. كما تذبلُ الوردة المتفتّحة التي تَخلب الأنظار، بعد أيّامٍ معدودة.. وتفقد أريجها المتضوّع، ثمّ تَكون هشيماً يابساً، ليس له من الوردة إلاّ اسمها ورسمها.. ـ إنّ عالم الأشياء إن لم يهيمن عليه عالم القيم ويقده كان أشبهَ بالمالِ في يد السفيه، أو السلاح في يد المجنون. 4 ـ تأرجح الإنسان ـ ذكراً كان أو أنثى ـ بين عالم القيم وعالم الأشياء: والإنسان تبعاً لذلك يتنازعه عالم الأشياء، وعالم القيم، عالم الدنيا، وعالم الآخرة؛ فإمّا أن يغلبه هذا، أو يغلبه ذاك، وهو في صراع دائم، ومكابدة دائبة، حتّى يستقر أمره على أحد الاتّجاهين، فينحياز إليه، ويسير في سبيله، أو يبقى في تجاذبٍ مدى حياته، وصراع في كلّ مواقفه وحركاته، فأولى له ثمّ أولى، فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة. ؟! ولو نظرنا إلى العلاقة بين هذين العالمين من الوجهات النفسيّة والاجتماعيّة والواقعيّة لرأينا أنّ ميزان عالم القيم عندما يثقل يخفّ في مقابله ميزان عالم الأشياء، وعندما يثقل ميزان عالم الأشياء في اعتبارات الناس يكون ميزان قيمهم طائشَ الكِفةِ مختلَّ الكيانِ، ولا تخرج عن هذه المعادلة إلاّ نوادر الأحوال والظروف التي لا يقاس عليها، والإسلام يطلب منا الموازنة الصحيحة بين العالمين، التي تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، وتقوم على المبدأ القرآنيّ: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين)[القصص]. وإذا كانت الموازنة الصحيحة بين عالم القيم وعالم الأشياء، والانحياز إلى عالم القيم، يدلّ على كمال عقل الإنسان ومبلغ رشده؛ فإنّ لنا أن نلحظ: أنّ الأصل في الرجل أن ينحاز إلى عالم القيم، فيعيش لها، ويجتهد في نصرتها، ويضحّي في سبيلها، وهذا من بعض الحكم الإلهيّة في تحريم الحلي عليه والزينة والتشبّه بالنساء. كما أنّ المرأة تميل بفطرتها إلى عالم الأشياء، فتُعنى بها، وتحرص عليها، وتعجب ببهارجها، وتتطلّبها وتتطلّع إليها، وقد أشار الله - تعالى -إلى ذلك بقوله: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين) [الزُّخرُف] * وقد عبر الشاعر عن شيء من هذه الطبيعة أو الخليقة بقَوله: إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه*** فليسَ له في وُدِّهِنَّ نَصِيبُ وليس إلحاقنا للمرأة بالميل إلى عالم الأشياء وإيثاره نوعاً من التحكّم لا مبرّر له، وإنّما هو نظر فطريّ أغلبيّ، تحكم به سنن الفطرة، ويؤيّده الواقع، ولا ينكره إلاّ ذو نظر قاصر، ولا يكابر فيه إلاّ ذو هوىً متعصّب.. وهذا الحديث يشير إلى هذا الواقع، واقع نظرة الناس وتعاملهم، كما الإشارة إلى ذلك، وليس المطلوب رفض هذا الواقع وإلغاءه، وإنّما التسامي فيه، ووضع الأمور مواضعها، ليكون الإنسان والواقع محكومَين بعالم القيم، تابعين لها.. ولاشكّ أنّ مراعاة الواقع وتقديره مطلب شرعيّ مؤكّد، على ألا يخلّ بما هو أجلّ وأعظم، وأولى وأرجح.. من حكمة الله - تعالى -في ميل الرجل إلى عالم القيم، وميلِ المرأة إلى عالم الأشياء: وهذا التوزع بين الرجل والمرأة، هو من بديع فطرة الله - تعالى -في خلقه، التي قدرها بحكمته تقديراً، ليعمر هذا الكون، ولتكتمل سنة الله في الابتلاء، ويؤهّل كلّ مخلوق لأداء وظيفته في هذه الحياة، فتأخذ الدنيا حظّها من الفتنة والابتلاء، فيبتلى الإنسان بها ذكراً كان أو أنثى، كلّ بحسب موقعه واهتمامه، حتّى يرث الله الأرض ومن عليها. ولا يعني ذلك، أن أحد الجنسين إذا انحاز إلى عالم، أو غلب عليه أن يُلغَى العالم الآخر من كيانه وحياته، وأن يكون بعيداً عنه كلّ البعد، ولكنّنا نتحدث عن حالة الترجيح والإيثار، والانحياز والانسياق بنسب متفاوتة راجحة أو مرجوحة، وراء هذا العالم أو ذاك، وعن واقع الصراع الذي يعيشه الأفراد والمجتمعات في التجاذب بين هذين العالمين، والميل إلى أحدهما، والدوران في فلكه، وحمل لواء نصرته والدفاع عنه. 5 ـ ولعل قائلاً يقول: ومن أين لك هذا التقسيم والتفصيل، وتوزيع الميول والاتّجاهات. ؟ وما دليلك عليه؟ أفما يكفيه دليلاً أن يرى فطرة الله في خلقه أنّ الأنثى هي محلّ الزينة وموضع النظر والفتنة، ومتغنّى الشعراء، ومدار فنّ الأدباء، ومهوى أفئدة الرجال. ؟ وأنّ قصد الزينة في حياتها، وحبّها والتعلّق بها، مما تنشأ عليه، ويملأ عِطفيها. ؟ ويزداد تعلّقها به على تقدّم الأيام بها في الأعمّ الأغلب، وقد قال الحقّ- تبارك وتعالى -: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين)[الزُّخرُف]. وقال - سبحانه -: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد) [آل عمران]. ويعلّق سيّد قطب - رحمه الله - على هاتين الآيتين، فيقارب المعنى الذي نحن فيه بقوله: " وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف، إذا لم تضبط باليقظة الدائمة، وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى، وإذا لم تتعلق بما عند الله، وهو خير وأزكى إنّ الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار، ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة، ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى، ويغلظ الحسّ، فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة، ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض، واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض. ولمّا كانت هذه الرغائب والدوافع مع هذا طبيعية وفطرية، ومكلّفة من قبل البارئ - جل وعلا - أن تؤدي للبشرية دوراً أساسيّاً في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدّتها واندفاعها، وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه، وإلى تقوية روح التسامي فيه، والتطلع إلى ما هو أعلى. ومن ثمّ يعرض النصّ القرآنيّ الذي يتولّى هذا التوجيه التربويّ.. هذه الرغائب والدوافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحسّ والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحبّبة، ويحتفظون بإنسانيّتهم الرفيعة. وفي آية واحدة يجمع السياق القرآنيّ أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية؛ إمّا بذاتها، وإمّا بما تستطيع أن توفّره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: ( جنّات تجري من تحتها الأنهار وأزواج مطهّرة)، وفوقها (رضوان من الله..) وذلك كلّه لمن يمدّ ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان ". والعجب بعد ذلك كلّ العجب من مؤمن يرى زينة الدنيا الظاهرة، ويعلم أنّها محدودة زائلة، معلولة منغّصة، ويؤمن بنعيم الآخرة، ويعلم أنّه باق لا يزول، دائم لا يفنى، لا غمّ فيه ولا كدر.. ثمّ يتعلّق قلبه بالدنيا ويؤثرها، ويغفل عن الآخرة، ولا يستعدّ لها، ولا يجتهد في طلبها. ؟! وقد عبّر الشاعر عمر بن أبي ربيعة عن هذا اختلاف الاهتمامات بين الرجال والنساء، وتوزّع الأدوار بينهما بقوله: كُتبَ القتلُ والقِتَالُ عَلينا***وعَلى الغانِيَاتِ جَرُّ الذيُولِ وإذا كان هذا الحديث يذكر أربع خصال قد تُطلَبُ إحداها في المرأة، بحكم دوافع الرجال ورغباتهم، فإنّ التأمل في هذه الخصال يردّها إلى التقسيم الذي ذكرناه، لأنّ الحسب والمال هما من نوع عالم الأشياء، وهما ملحقان بالجمالِ، وتبع له. وجمال المرأة من جهةٍ أخرى يعود إلى ذاتها وفطرتها، بخلاف الحسب والمال فإنّهما يفدان إليها، ويأتيانها من أسرتها أو البيئة المحيطة بها، فلا يد لها فيه ولا اختيار، ولا أثر لها في اصطناعه ولا اقتدار. وأمّا الدين فهو الذي يمثّل عالمَ القيم الثابتة الراسخة بأجلى صورها، وأجمل معانيها، وأرقى اعتباراتها. 6 ـ مثلٌ بليغ من بيت النبوّة: ولنا من واقع السيرة النبويّة وسيرة أمّهات المؤمنين في بيت النبوّة درس بليغ، مليء بالعبر والعظات؛ فعندما لجّت تلك الدوافع بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، نتيحة ضيق النفس بشدّة العيش، والنظر في حياة مثيلاتهنّ، وما يتمتّعن به من نعمة ورخاء، وهنّ زوجات سيّد الخلق والرسل يعانين من شدّة العيش وشظفه، فاجتمعن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، يطلبن زيادة النفقة، وأن يوسّع عليهنّ فيما أباح الله له، وتكرّر منهنّ الطلب، ولم يَكُنّ في ذلك متخلّياتٍ عن قيم الدين ومبادئه وآدابه.. وإنّما هي الرغْبة بعالم الأشياء، والمَيل إلى شيء من المباح، والحرص على الأخذ منه بحظٍّ، دونَ التخلّي عن عالم القيم، وماله من منزلة الصدارة في حياتهنّ.. فلمّا فعلن ذلك، وآذين مشاعر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بإلحاحهنّ هجرهنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - شهراً، إذ إنّ حال البيت النبويّ من جهة يأبى أن يكون لعالم القيم ما ينازعه وينافسه.. كما أنّ استجابة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لطلبهنّ ـ لو كانت ـ ربّما أدّت مع الأيّام إلى التمادي في الحرص على التوسّع والازدياد من بسطة العيش وعالم الأشياء، حتّى يكون ذلك على حساب تألّقهنّ في عالم القيم والسمو فيه، فتبهت صورة الأسوة العظمى في تصوّر الأمّة عن حياتهنّ، وعن بيت النبوّة، وكلّ ما يتّصل به.. فإن لم تكن حياتهنّ هي الأسوة الحسنة لنساء الأمّة من بعدهنّ، في الصبر على شظف العيش، والتقلّل من الدنيا، فحياة مَن مِن النساء تكون كذلك. ؟! ثمّ تنزلت آيات كريمات، بصورة حازمة صارمة، تخيرهنّ بين مثل هذه الحياة المثاليّة الكريمة في ظلّ النبوة، وإيثار الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والدار الآخرة، وبين إيثار الدنيا وزهرتها، ولا يكون لهنّ ذلك إلاّ بفراق النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، والخروج من هذا الظلّ الكريم، يقول الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب] فاخترن جميعاً بإيمانهنّ وعظيم يقينهنّ: اللهَ ورسولَه - صلى الله عليه وسلم - والدارَ الآخرةَ، وكان لهذه الحادثة دلالات عميقة، في التعريف بنفوس النساء، والأسلوب الأمثل في التعامل معهن، وما ينبغي من الحكمة والحزم أحياناً في سياستهن وحسن رعايتهن. يتبع
__________________
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |