في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1109 - عددالزوار : 128554 )           »          زلزال في اليمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 17 )           »          المسيح ابن مريم عليه السلام (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 14 - عددالزوار : 4778 )           »          ما نزل من القُرْآن في غزوة تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 12 )           »          أوليَّات عثمان بن عفان رضي الله عنه (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »          القلب الطيب: خديجة بنت خويلد رضي الله عنها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          رائدة صدر الدعوة الأولى السيدة خديجة بنت خويلد (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »          طريق العودة من تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          ترجمة الإمام مسلم بن الحجاج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          مسيرة الجيش إلى تبوك (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 15 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > الملتقى الاسلامي العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-09-2019, 06:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"

في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (1)


د. محمد ويلالي



ارتباطًا بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستلهامًا لوصاياها السديدة، وإرشاداتها المديدة، نود أن نعيش لحظات مشرقة مع حديث نبوي شريف، وكلام رسالي منيف، تحت عنوان: "في ظلال حديث: (احفظ الله يحفظك)".

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: "يَا غُلاَمُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، (وفي لفظ: ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟): احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"؛ سنن الترمذي.

وفي رواية لأحمد: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، واعلَمْ أنَّ ما أخطَأَكَ لم يَكُن لِيُصِيبَكَ، وما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأنَّ معَ العُسْرِ يُسرًا".

هذا حديث عظيم الشأن رفيع القدر؛ قال فيه الإمام النووي رحمه الله: "هذا حديث عظيم الموقع". وقال فيه ابن رجب رحمه الله: "هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمةً، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلِّها، حتى قال بعض العلماء وهو ابن الجوزي: تدبرت هذا الحديث فأدهشني، فوا أسفاه من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه.

ولشدة كَلَف ابن رجب بهذا الحديث، ألَّف فيه كتابًا أسماه: "نور الاقتباس في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس".

فهذا الصحابي الجليل ترجمان القرآن: عبدالله بن عباس وهو غلام عمره لا يتجاوز عشر سنوات، يردفه النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة له، تدليلًا على تواضع نبينا الكريم، وجميل اعتنائه بالأطفال، يعلمهم أمور دينهم، ويُبصرهم بما يقوي إيمانهم، ويسدي لهم من النصائح الغالية، والتوجيهات السامية، ما يصيرون معه رجالًا.

ولقد أردف النبي صلى الله عليه وسلم معه قرابة أربعين من الصحابة الكرام، منهم: أبو بكر الصديق، وعثمان، وعلي، وأسامة بن زيد، ومعاذ، والحسن، والحسين، رضي الله عنهم أجمعين.

وقد استغل النبي صلى الله عليه وسلم قرب ابن عباس منه؛ ليُعلمه ما ينفعه في الدنيا والآخرة، فالتفت إليه وقال: "ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ ينفعُك اللهُ بهنَّ؟"، وهذا دور العلماء والمربين، وأولياء الأمور من الآباء والأمهات وغيرهم، دورُ التعليم، والتوجيه، وإسداء النصح والإرشاد، وفي الحديث: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ"؛ البخاري.

وما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ليجسد رسالة التعليم والتوجيه في أبهى صورها، وأنصع نماذجها التي بها تنهض المجتمعات الإسلامية، وترتقي بتعليمها إلى التفوق المنشود؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ"؛ سنن أبي داود.

وهذا معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، يشمتُ أحد العاطسين في الصلاة ويقول: "يَرْحَمُكَ اللهُ" بصوت مرتفع، والناس في صلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ الصحابة يرمونه بأبصارهم ويُصَمِّتُونَهُ، فزاد من رفع صوته، وقال: "وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ، مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟"، حتى إذا أنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، التفت إلى معاوية، فنبَّهه بلفتة تعليمية حانية هادفة، لم يملك معها معاوية إلا أن يصدر عن شهادة ناطقة بجميل تدبير النصيحة والتعليم، فقال: "فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا - قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ - أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ؛ فَوَالله مَا كَهَرَنِي، وَلاَ ضَرَبَنِي، وَلاَ شَتَمَنِي، قَالَ: (إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ، لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)"؛ مسلم.

ولأن التعليم يحتاج إلى تزويد المتعلم بالمعارف بشكل متدرج من السهل إلى الصعب، ومن صغار العلم إلى كباره، فقد بادر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس بقوله: "ألا أُعَلِّمُك كلماتٍ"، فجعلها مجرد كلمات يسيرات، يسهل حفظها، وفَهمها، والعمل بها، وقدمها بأسلوب العرض: "ألا" الذي يفيد التلطف وحُسن التأتي، مستهلًّا هذا العرض بقوله: "يا غلام"، ملاطفةً وتشجيعًا على التعلم، ودفعًا للاهتمام وحسن التلقي، حتى إذا تهيَّأ ابن عباس لقبول العلم، جاءت النصيحة في قوله صلى الله عليه وسلم: "احفظ الله"؛ أي: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه؛ كما قال تعالى في مدح أصحاب هذه الصفة الجليلة، صفة حفظ الله تعالى: ﴿ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112]، وهم العاملون بالأحكام التي أمر الله تعالى بها، وقال تعالى: ﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 32، 33].

والحفيظ هنا: الحافظ لأوامر الله والحافظ لذنوبه ليتوب منها.

ومن أعظم ما يحفظه المؤمن من أوامر الله: الصلاة؛ قال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، ومدح تعالى المحافظين عليها أداءً ووقتًا، فقال: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 34، 35].

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ رواه أحمد وإسناده صحيح.

وقال صلى الله عليه وسلم في صلاة العصر: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ عُرِضَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَضَيَّعُوهَا، فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ: (أجر الصلاة، وأجر المحافظة عليها)"؛ مسلم.

والحفاظ على الصلاة يكون بأدائها في وقتها، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى الله؟ قَالَ: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا"، قَالوا: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ"؛ متفق عليه، والحفاظ عليها يكون أيضًا بأداء الرجال لها في جماعة.
عَمَروا المساجدَ بالصلاة جماعةً *** فَهُمُ الأكارمُ بالورى الأشهادُ

ولقد اعتنى السلف بصلاتهم في الجماعة اعتناءً لا ينقطع منه العجب:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس؛ حيث ينادى بهنَّ، فإنهنَّ من سنن الهدى، وإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، ولعمري، لو أن كلكم صلى في بيته، لتركتم سنة نبيِّكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضلَلتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يُهَادَى بين الرجلين حتى يدخل في الصف، وما من رجل يتطهر فيحسن الطُّهور، فَيَعْمِدُ إلى المسجد، فيصلي فيه، فما يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة"؛ ص. سنن ابن ماجه.

وأصاب الربيعَ الفالجُ (نوعٌ من الشلل)، فكان يُهادَى بين رجلين إلى مسجد قومه، فقالوا له: يا أبا زيد، لقد رخَّص الله لك، لو صليت في بيتك؟ فقال لهم: "إنه كما تقولون، ولكني سمعته ينادي: "حيَّ على الفلاح"، فمن سمع منكم مناديَ "حيَّ على الفلاح"، فليجبه ولو زحفًا، ولو حبوًا".

ومن عجائب الأعمش أنه كان قريبًا من سبعين سنة، لم تفته التكبيرة الأولى، وكان من المحافظين على الصف الأول، أما سعيد بن زيد فكان إذا فاتته الصلاة في الجماعة، أخذ بلحيته وبكى، ومن شديد محافظة سعيد بن المسيب على صلاته، أنه ما فاتته الصلاة في جماعة مدة أربعين سنة،وكان يقول: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد"، وقال رحمه الله: "من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة، فقد ملأ البَر والبحر عبادة".

ويقول حاتم الأصم: "فاتتني صلاة في جماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري، ولو مات ابني لعزاني عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا"، وقال وكيع رحمه الله: "من تهاون بالتكبيرة الأولى، فاغسِل يديك منه".

وفاز أحدهم في سباق، فقالوا: سبق اليوم فلان، فقال أبو مسلم الخولاني: "أنا السابق"، قالوا: وكيف يا أبا مسلم؟ قال: "لأني أدلجت (الخروج في الدلجة وهي ظلمة الليل)، فكنت أول من دخل مسجدكم".
وصحائفُ الحسنات تربو بالتُّقَى
بصلاتِنا وصلاحِنا تزدادُ
فاحذَر من التفريط فيها إنها
للدين يا بنَ الأكرمِين عِمَادُ
واللهَ أسألُ أن يُذيقك لذةً
وسكينةً تأتيكَ في السجداتِ


ومن دواعي الحفاظ على الصلاة: فوائدها العظيمة: الإيمانية، والاجتماعية، والصحية وغيرها، ولذلك جعلها شرعنا عمود الدين الذي لا يستقيم إلا بها، ولا يصح إلا بإقامتها.

كيف والصلاة مَجلَبة للملائكة التي تصلي على المصلي وتستغفر له؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ"؛ متفق عليه.


كيف والصلاة مَطرَدة للشيطان ووساوسه، ووسيلة لقهره وإذلاله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ ثَلاَثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلاَ بَدْوٍ لاَ تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلاَةُ، إِلاَّ قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ؛ فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ الْقَاصِيَةَ"؛ سنن النسائي.

والصلاة تَرفع لصاحبها الدرجات، وتَحط عنه الخطيئات؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ، تُضَعَّفُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلاَّ رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ، كَانَ فِي الصَّلاَةِ مَا كَانَتِ الصَّلاَةُ هِيَ تَحْبِسُهُ"؛ البخاري.

والصلاة طريق راحة القلب، وطمأنينة النفس، ونشاط البدن، وقوة الحركة، والفعالية الإيجابية المنتجة، والنومُ عنها طريق الكسل وقلة المردودية، والفشل في الحياة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكَانَهَا: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ، فَذَكَرَ اللهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى، انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ"؛ متفق عليه.

ولا شك أن النائم عن الصلاة يستيقظ كئيبًا، كاسف البال حزينًا، يلوم نفسه على تقصيره في ترك الخير الكثير، وتفويت الأجر الكبير، وتكون حسرته أعظمَ حين يأتي الناس يوم القيامة بصلاتهم تَحوطهم وتُحصنهم، وتحاجُّ عنهم، ثم يأتي هو بأعذار غير مقبولة وتعلاتٍ غير مسموعة، وبعدها حسرات غير مجدية، وتَلَوُّمات غير شافعة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا"؛ متفق عليه.

بل النكوص عن الصلاة تفويت لنور ثابت تام، يستنير به المؤمن يوم القيامة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: "بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"؛ سنن أبي داود.

أما في ضبط السلوك، وتقويم الخلق، فالصلاة - عند من فقه مقاصدها - سبيل الاستقامة والصلاح؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45].

قال ابن جزي: "إذا كان المصلي خاشعًا في صلاته، متذكرًا لعظمة من وقف بين يديه، حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر، فكأن الصلاة ناهية عن ذلك".
إذا ما الليلُ أظلمَ كابِدوهُ
فيسفرُ عنهُمُ وَهُمُ ركوعُ
أطار الخوفُ نومَهُمُ فقامُوا
وأهلُ الأمنِ في الدُّنيا هُجوعُ
♦♦♦♦
صلاتي أرتني الهدى والضياءْ
وعمت وجودِي بنعمى العطاءْ
أرتني كِياني وحريتي
وأني على سَنن الأنبياءْ







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 07-09-2019, 06:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"

في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (2)


د. محمد ويلالي




من أعظم ما يحفظ الصلاة: الخشوعُ فيها


عرَفنا في المقال السابق - ونحن نتفيأ ظلال حديث احفظ الله يحفظك - أن من أعظم ما يستوجب حفظَ العبد المؤمن لربه أن يحفظ صلاتَه التي بها قوامُ هذا الدين، واستقامةُ أخلاق العابدين، وأن هذا الحفظ يقتضي أداءها على وجهها، وفي أوقاتها، وبحضور القلب فيها، والإقبال على الله في حركاتها وسكناتها، وأنها الصلاة النافعة، التي تنهى فعلًا عن الفحشاء والمنكر.

لكن، ما السبيل إلى اعتياد مثل هذه الصلاة السليمة النافعة التي تؤثِّر في الجوارح، وتطهِّر القلب، وتزكِّي النفس؟ إنها الصلاة الخاشعة لله، الخاضعة بالأركان لجلال الله، التي يحس معها المؤمن أنه انتقل بتكبيرة الإحرام من وهدة الدنيا ومشاغلها، إلى أشواق الروح التي تعلقت بربها، فلا ترى إلا جلاله، ولا تطمع في غير جنته.

قال صاحب اللسان: "خشع يخشع خشوعًا، رمى ببصره نحو الأرض، وغضَّه، وخفض صوته، وقيل: الخشوع قريب من الخضوع، إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في البدن، والصوت، والبصر؛ كقوله تعالى: ï´؟ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ï´¾ [طه: 108]؛ أي: سكنت، وكل ساكن خاضع خاشع".

وفي الاصطلاح: قال ابن القيم رحمه الله: "الخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخُضُوع والذُّلِّ".

وقال ابن رجب رحمه الله: "وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب، تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له"، وهو الموصوف في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ركوعه في الصلاة: "اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي"؛ مسلم.

وهذه حقيقة الخشوع التي تنافي ما يفعله البعض من التخاشع الذي تظهر فيه الجوارح خاشعة، والأعضاء خاضعة، والرقاب مطأطئة، ولكن القلب لاه غافل.

قال ابن القيم رحمه الله: "وقال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر، عنوان أدب الباطن، ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلًا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: (يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب)".

ورأت عائشة رضي الله عنها شبابًا يمشون ويتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: "من هؤلاء؟"، قالوا: نُسَّاك (أي عُبَّاد)، فقالت: "كان عمر بن الخطاب إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، وكان هو الناسكَ حقًّا".

وقال الفضيل رحمه الله: "كان يُكْرَهُ أن يُرِيَ الرجلُ من الخشوع أكثر مما في قلبه".

فكان لا بد من مِران القلب على الحضور في الصلاة، في قيامها، وركوعها، وسجودها، ودعائها، حتى يكون الواحد منا مقيمًا فعلًا للصلاة، وليس مجرد مصلٍّ.

فعن جُبَير بن نُفَير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ"، فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا، وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَالله لَنَقْرَأَنَّهُ، وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَقَالَ: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟"، قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ، إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ الجَامِعِ، فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا"؛ ص. سنن الترمذي.

وفي ذلك إيماء إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَّلُ شَيءٍ يرفعُ مِن هذِهِ الأمَّةِ الخُشوعُ، حتى لا تَرى فيها خاشِعًا"؛ ص. الجامع.

وقال حذيفة رضي الله عنه: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة، فلا ترى فيهم خاشعًا".

فعلى كل واحد منا أن يتحسس مواطن تأثير الصلاة على جوارحه، وأعماله، وأقواله، وعلاقاته، فإن لم يجد أثرًا، فليعد النظر في صلاته التي هي رأس ماله على الحقيقة؛ قال ابن القيم رحمه الله: "مُجْلِبَةٌ لِلرِّزْقِ، حَافِظَةٌ لِلصِّحَّةِ، دَافِعَةٌ لِلْأَذَى، مُطْرِدَةٌ لِلْأَدْوَاءِ، مُقَوِّيَةٌ لِلْقَلْبِ، مُبَيِّضَةٌ لِلْوَجْهِ، مُفْرِحَةٌ لِلنَّفْسِ، مُذْهِبَةٌ لِلْكَسَلِ، مُنَشِّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ، مُمِدَّةٌ لِلْقُوَى، شَارِحَةٌ لِلصَّدْرِ، مُغَذِّيَةٌ لِلرُّوحِ، مُنَوِّرَةٌ لِلْقَلْبِ، حَافِظَةٌ لِلنِّعْمَةِ، دَافِعَةٌ لِلنِّقْمَةِ، جَالِبَةٌ لِلْبَرَكَةِ، مُبْعِدَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، مُقَرِّبَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ".

لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة رأس مال العبد، وأن الحفاظ عليها لا يقل أهمية عن الحفاظ على العلائق الثمينة، والمعادن النفيسة، بل الحفاظ عليها أشد، ومن أعظم ما فيها أن الله تعالى ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلاَ تَلْتَفِتُوا، فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ"؛ ص. سنن الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ" ص. سنن ابن ماجه.

قال ابن القيم رحمه الله: "الالتفات المنهيُّ عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى، والثاني: التفات البصر، وكلاهما منهي عنه".

فكان على المسلم أن يحرص على أن يظفر بأجر صلاته كاملًا، وأن يجتهد في أن يغالب النفس والشيطان؛ حتى لا يسرقا من صلاته شيئًا، فالمرء لا يكتب له من صلاته إلا ما عقل منها؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ مَا يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا إِلاَّ عُشُرُهَا، تُسُعُهَا، ثُمُنُهَا، سُبُعُهَا، سُدُسُهَا، خُمُسُهَا، رُبُعُهَا، ثُلُثُهَا، نِصْفُهَا"؛ ص. سنن أبي داود.

قال ابن القيم رحمه الله: "فصلاةٌ بلا خشوعٍ ولا حضور، كبدنٍ ميِّتٍ لا روح فيه"، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويسأله القلب الخاشع الحاضر ويقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا"؛ مسلم.

وقال حسان بن عطية: "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض، وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل".
متى يا قلب تأنس بالصلاه
وتنسى عندها همَّ الحياه
أيعقل أن تصليَ كل حين
وتغرقَ في بحار اï»·منيات؟
فلا تدري إذا صليتَ ماذا
ولا كم قد ركعتَ بذي الغداه
تصلي كي تُريحَ النفس فيها
وï»» ترتاح فيها من شتات


إن الخشوع الحقيقي يُجزَى عنه صاحبه بأنواع من الفضائل؛ منها:
♦ أن الفلاح والنجاح في الدارين مقرونان بالخشوع في الصلاة؛ قال تعالى: ï´؟ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ï´¾ [المؤمنون: 1، 2].

♦ أن الخاشع يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "فَإِنْ هُوَ قَامَ، فَصَلَّى، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِله، إِلاَّ انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"؛ مسلم.

♦ أنه يغفر له ما تقدم من ذنبه، فقد توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءًا كاملًا، ثم قال: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"؛ متفق عليه.

♦ بل قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا، وَخُشُوعَهَا، وَرُكُوعَهَا، إِلاَّ كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ"؛ مسلم.

♦ كما أن الإقبال على ركعتين بالقلب والوجه كفيل بضمان الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"؛ مسلم.

أتوق لأن أصليَ في خشوع
وأن أنسى بها متع الحياه
فعد يا قلبُ من بحر التمني
وعِدْني أن تصليَ في أناه


لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتذ بالصلاة أيما التذاذ، ويأنس بها أيما إيناس، كانت له غذاءً للعقل، وقوتًا للقلب، وراحة للبدن، حتى إنه قال لبلال رضي الله عنه: "يَا بِلاَلُ، أَقِمِ الصَّلاَةَ أَرِحْنَا بِهَا"؛ ص. سنن أبي داود، بل كانت له بلسم الحياة، ولذة الروح، وقرة العين؛ قال صلى الله عليه وسلم: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ"؛ ص. سنن النسائي.

وكان صلى الله عليه وسلم يعيش لحظات الصلاة، لا يفارقه الخشوع، وربما بكى صلى الله عليه وسلم من شدة تفاعله مع الصلاة مناجاةً لله، وسؤاله ما يرجوه لأمته من الخير، فعن عبيد بن عمير أنه قال لعائشة رضي الله عنها: أخبِرينا بأعجَبِ شيءٍ رأَيْتِه مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فسكَتَتْ ثمَّ قالت: لَمَّا كان ليلةٌ مِن اللَّيالي، قال: "يا عائشةُ، ذَرِيني أتعبَّدِ اللَّيلةَ لربِّي"،قُلْتُ: واللهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك، وأُحِبُّ ما يَسرُّك، قالت: فقام، فتطهَّر، ثمَّ قام يُصَلِّي، قالت: فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ حجرَه،ثمَّ بكى، فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ لِحيتَه، ثمَّ بكى، فلم يزَلْ يبكي حتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاء بلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ، فلمَّا رآه يبكي، قال: يا رسولَ اللهِ، لِمَ تَبكي وقد غفَر اللهُ لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ لقد نزَلَتْ علَيَّ اللَّيلةَ آيةٌ، ويلٌ لِمَن قرَأها ولم يتفكَّرْ فيها: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ والْأَرْضِ..) الآيةَ كلَّها"؛ ص. الترغيب.

وربما صَلَّى صلى الله عليه وسلم، فَسُمع اهتزاز صدره من التأثر بالمناجاة، فعن عبد بن الشخير قال: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَفِى صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ"؛ ص. سنن أبي داود.

بل إنه بكى صلى الله عليه وسلم ليلة بدر وهو يصلي ويدعو، يقول علي رضي الله عنه: "مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلا نَائِمٌ، إِلاَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ، يُصَلِّي وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ"؛ ص. الترغيب.

وسئلت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل، فقالت: "يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ طُولِهِنَّ وَحُسْنِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّى ثَلاَثًا"؛ متفق عليه.

وعلى دَرْبه صلى الله عليه وسلم كان صحابته الكرام، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لا يكاد يصلي صلاة إلا ويبكي من خشية الله؛ قالت عائشة رضي الله عنها: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْتِي، قَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ؟ متفق عليه، والمقصود هنا البكاء عن غلبة ومن غير استدعاء أو تكلف.

ومضى معنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلًا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: (يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب)".

ومن جميل مزايا سعد بن معاذ رضي الله عنه قوله: "فِيَّ ثلاث خصال، لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن: كنت أنا أنا، إذا كنت في الصلاة، لا أُحَدِّث نفسي بغير ما أنا فيه، وإذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا، لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة، لم أُحَدِّث نفسي بغير ما تقول ويقال لها".
صلِّ يا قلبي إلى الله فإنَّ الموتَ آتٍ
صلِّ فالنازعُ لا تبقى له غيرُ الصلاةِ

هذا عن الصحابة، أما التابعون ومن بعدهم، فقد أثر عنهم في الخشوع في صلاتهم ما يدعونا نحن المتأخرين إلى العجب والانبهار.

قالوا لعامر بن عبدالقيس: أتُحَدِّثُ نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال: أَوَ شيءٌ أحبُّ إليَّ من الصلاة أُحَدِّثُ به نفسي؟ قالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال: أَبِالجنة والحور ونحو ذلك؟ فقالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الأسنَّة فِيَّ أحبُّ إِلَيَّ".

وأما مسلم بن يسار فكان إذا صلَّى كأنه وَتِد، لا يميل لا هكذا، ولا هكذا، وكان يقول لأهله إذا دخل في الصلاة: "تحدَّثوا، فلست أسمع حديثكم"، وذُكر أنه وقع حريق في داره وهو يصلِّي، فلما أخبروه قال: "ما شعرت".

وقال الحسن رحمه الله: "إذا قمتَ إلى الصلاة قانتًا، فقم كما أمرك الله، وإيَّاك والسَّهْوَ والالتفات، إيَّاك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره، وتسألَ الله الجنة، وتتعوَّذَ به من النار وقلبك ساهٍ لا تدري ما تقول بلسانك".

وكان البخاري رحمه الله يُصلِّي ذات يوم أو ذات ليلة، فلما قضى صلاته قال لأصحابه: "انظروا أي شيء آذاني في صلاتي"، فنظروا، فإذا الزنبور قد ورَّمه في سبعة عشر موضعًا، ولم يقطع صلاته، فسئل عن ذلك فقال: "كنت في سُورةٍ فأحببت أن أُتِمَّها".


ويبقى السؤال: ما السر في جودة صلاتهم وحضور الخشوع فيها؟ وما الأسباب المعينة على ذلك؟ ذاك ما سيكون موضوعنا القادم إن شاء الله تعالى.

أقِمِ الصلاةَ لوقتِها بشروطِها
فمِنَ الضلالِ تفاوتُ الميقاتِ
وإِذا اتَّسعتَ برزقِ ربِّكَ فاتخذْ
منه الأجَلَّ لأوجهِ الصدقاتِ





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 07-09-2019, 06:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"


في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (3)


د. محمد ويلالي





الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة (1)




عرَفنا في المقال السابق - ونحن نتأمل حديث: "احفظ الله يحفظك" - أن الخشوع وما فيه من الإقبال على الله بالقلب والوجه، هو أساس حفظ عبادة الصلاة، واستثمار مقاصدها في تقوية الإيمان، وترشيد السلوك، مع ما يرشد إليه من تذوق حلاوة هذه العبادة الجليلة، والتلذذ بالإقبال عليها، حتى قال الحسن البصري رحمه الله: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق"، وذكرنا نماذج من خشوع سلفنا الصالح، وما كانوا عليه من ارتباط بربهم، وتذلل وانكسار بين يديه.



ونود اليوم إن شاء الله تعالى أن نقف على الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة، وهي كثيرة قد تصل إلى الخمسين[1]، سنأتي على أهمها إن شاء الله، ومنها:

1- إحسان الوضوء وإسباغه، بحيث يستوعب الماءُ كل أعضاء الوضوء، فقد قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِمَاءٍ بِالطَّرِيقِ، تَعَجَّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ، فَتَوَضَّؤوا وَهُمْ عِجَالٌ، فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ"؛ متفق عليه.



ومع الوضوء دعاء التوحيد، فذلك عمل لا جزاء له إلا الجنة؛ يقول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ"؛ مسلم.



فإذا كان الوضوء سابغًا كاملًا، كان له تأثير على الخشوع، وحضورِ القلب، وخضوعِ الجوارح، بل ويتعدى هذا التأثيرُ المتوضئَ نفسَه إلى الإمام إن كان في صلاة جماعة، فعن شبيب أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ، فَقَرَأَ بِالرُّومِ، فَتَرَدَّدَ فِي آيَةٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "إِنَّهُ يُلَبِّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ أَنَّ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لاَ يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلاَةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ"؛ أحمد وإسناده حسن.



قال ابن كثير رحمه الله: "فدلَّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهِّل القيام في العبادة، ويعين العبد على إتمامها، وإكمالها، والقيام بمشروعاتها".



2- ومما يعين على استمرار الاستعداد الإيجابي للصلاة: إردافُ الوضوء بسنته، وهي ركعتان يستحضر فيهما جلال الله تعالى، وكأنه تدريب أَولي لتحقيق درجات الكمال في الخشوع في الصلاة المفروضة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثُمَّ يَقُومُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إِلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ"؛ مسلم، وفي الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، وَيُصَلِّي الصَّلاَةَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ (أي: التي تليها) حَتَّى يُصَلِّيَهَا".



3- متابعة المؤذن في ألفاظ الأذان، مع حضور القلب، استجابةً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَمَا يَقُولُ"؛ مسلم؛ فإن ذلك بمثابة التهيؤ والاستعداد للصلاة، وتفريغ القلب لأدائها على وجهها، غير أنه لا يرددها بلسانه فقط وقلبُه غافل، وإنما بتمعَّن في ألفاظ الأذان بفكره وقلبه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ أَحَدُكُمُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ.."، حتى أتى على باقي ألفاظ الأذان، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "مِنْ قَلْبِهِ"؛ أي: إذا قالها من قلبه، "دَخَلَ الْجَنَّةَ"؛ مسلم، ويقول عند سماع "حي على الصلاة، حي على الفلاح": لا حول ولا قوة إلا بالله؛ أي: لا حركة ولا استطاعة، إلا بمشيئة الله، وقيل: لا حول في دفع شرٍّ، ولا قوَّة في تحصيل خير إلا بالله، ثم يصلي ويسلم بعد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، ويسأل له الوسيلة، فإن فعل ذلك، فاز بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ"؛ مسلم.



واستمرارًا لتفريغ القلب إلى حين إقامة الصلاة، شُرع الدعاء بين الأذان والإقامة، وهو من أوقات الاستجابة بإذن الله تعالى؛ قال صلى الله عليه وسلم: "الدَّعْوَةُ لاَ تُرَدُّ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، فَادْعُوا"؛ أحمد.



4- ومما ينبغي للرجل لإتمام دائرة الخشوع المطلوب: أن يؤدي صلاته في المسجد، مستحضرًا ما في ذلك من الفضل العميم، والأجر العظيم؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً"؛ مسلم.



5- ومما يعين على الخشوع: أن يتجمل المسلم لربه بأحسن الثياب وأنظفها، لا بثياب النوم، أو ثياب المهنة؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ [الأعراف: 31]، قال الزمخشري رحمه الله: ﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾؛ أي: ريشَكم ولباسَ زينتكم"، وقال الطبري رحمه الله: "ظاهره الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد؛ تعظيمًا للمسجد، أو لما عُظم المسجد لأجله وهو الصلاة"، وحسبنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ"؛ مسلم.



6- ومما تجمل العناية به لتقوية الداعي إلى الخشوع: تجنَّب الأطعمة ذات الروائح المؤذية؛ كالبصل، والثوم، والكراث؛ قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ وَالثُّومَ وَالْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ"؛ مسلم..



وهذا المنع مقيد بأكلها نِيئَةً غير مطبوخة، فإذا أُنضجت حتى ذهب ريحها، فلا بأس بذلك؛ قال الباجي في شرح الموطأ: "هَذَا فِيمَنْ أَكَلَ ذَلِكَ نِيئًا، فَأَمَّا مَنْ أَكَلَهُ بَعْدَ الْإِنْضَاجِ بِالنَّارِ، فَلَا مَنْعَ فِيهِ"، وقد أُثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في الثوم والبصل: "فَمَنْ أَكَلَهُمَا، فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا"؛ مسلم.



7- ومما يعين على حفظ الصلاة والخشوع فيها: التزامُ دعاء الخروج من المنزل، كما علمَنَاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: "إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ فَقَالَ: بِسْمِ الله، تَوَكَّلْتُ عَلَى الله، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله، يُقَالُ حِينَئِذٍ: هُدِيتَ، وَكُفِيتَ، وَوُقِيتَ، فَتَتَنَحَّى لَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ لَهُ شَيْطَانٌ آخَرُ: كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ هُدِيَ، وَكُفِيَ، وَوُقِيَ؟" ص، سنن أبي داود.



ثم ليستحضر هذا الدعاء الجميل الذي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا، وَفِي بَصَرِي نُورًا، وَفِي سَمْعِي نُورًا، وَعَنْ يَمِينِي نُورًا، وَعَنْ يَسَارِي نُورًا، وَمِنْ َفَوْقِي نُورًا، وَمِنْ َتَحْتِي نُورًا، وَمِنْ َأَمَامِي نُورًا، وَمِنْ َخَلْفِي نُورًا، وَاجْعَلْ لِي نُورًا"؛ متفق عليه.



8- ومن تمام الوقار لما تقصده من صلاة: إحلالُ السكينة وأنت ذاهب إلى المسجد، من غير جَري ولا هرولة، حتى ولو كنت مسبوقًا بركعات، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ، فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: "مَا شَأْنُكُمْ؟"، قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ، قَالَ: "فَلاَ تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ، فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ فِي صَلاَةٍ"؛ متفق عليه.



9- وعلَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبدأ برجلنا اليمنى عند دخول المسجد، وأن نقول: "أَعُوذُ بِالله الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، ثم قال: "فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، قَالَ الشَّيْطَانُ: حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ الْيَوْمِ"، ص، سنن أبي داود، وهذا الحفظ معين على الخشوع في الصلاة.



10- ترك الالتفات في الصلاة لغير سبب؛ لأنه يشغل القلب عن الإقبال على الله، ويشغل الفكر عن التفكر في أعمال الصلاة، ويصرف الرب عن الإقبال على عبده في الصلاة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاَتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ"، ص، سنن الترمذي.



وقد سألت عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة، فقال: "هُوَ اخْتِلاَسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاَةِ الْعَبْدِ"؛ البخاري.



ومثل الالتفات كثرة الحركة بلا حاجة، كالذي يكثر الانشغال بثوبه، أو طاقيته، أو ساعته، أو نظارته، أو لحيته، أو أظافره، أو جوارحه؛ قال جابر بن سَمُرة رضي الله عنه: دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ رَافِعُو أَيْدِيهِمْ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ: "مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ (غير مستقرة)، اسْكُنُوا فِي الصَّلاَةِ"؛ مسلم.



قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وهذا يقتضي السكون فيها كلها، والسكون لا يكون إلا بالطمأنينة، فمن لم يطمئن لم يسكن فيها"، وكذلك الذي يكثر من مسح مكان سجوده، واللعب بوبر الزرابي، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يسوي التراب حيث يسجد: "لاَ تَمْسَحْ وَأَنْتَ تُصَلِّي، فَإِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا، فَوَاحِدَةً"؛ متفق عليه.



والمسلم يعظم موقفه بين يدي الله تعالى، فيحاول أن يفرغ قلبه لربه، فيتخلص من الشواغل كلها قبل الصلاة؛ كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ: إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ، حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ"؛ البخاري.



11- وهنا يأتي السبب الثاني، وهو ترك الصلاة عند حصول الشاغل المانع من الخشوع والتدبر، وهذا المانع عدة أشياء:

أ- أن يوضع الطعام وقت الصلاة، والنفس تائقة إليه، فإن قُدمت الصلاة، انشغل الفكر بالطعام الذي تطلبه المعدة، فيضيع الخشوع، ويتلاشى الخضوع؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَابْدَأُوا بِالْعَشَاءِ"؛ متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ، فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ، وَإِنْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ"؛ متفق عليه.



وكان ابن عمر رضي الله عنهما "يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلاَةُ، فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِمَامِ"؛ متفق عليه.



ب- مدافعة الأخبثين: إذ كيف يصلي من يجد نفسه حاقنًا أو حاقبًا في حاجة إلى قضاء حاجته، ثم يطلب نفسه بالخشوع؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ صَلاَةَ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ وَلاَ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الأَخْبَثَانِ"؛ متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَذْهَبَ الْخَلاَءَ وَقَامَتِ الصَّلاَةُ، فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلاَءِ"؛ ص، سنن أبي داود.



ج- الصلاة إلى ما فيه تصاوير ملهية، أو زخارف مشغلة، فقد كان لعائشة رضي الله عنها قِرَامٌ (أي: ساتر فيه ألوان)، سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ لاَ تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاَتِي"؛ البخاري.



د- ومثل الصلاة إلى ما يشغل، فكذلك النظر إلى ما يشغل، من لباس وغيره؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة (كساء أسود مربع) لها أعلام (خطوط)، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَائْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَةِ أَبِي جَهْمٍ (كساء غليظ لا عَلَم فيه)، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي"، ثم قال: "كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ، فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي"؛ متفق عليه، قال ابن حجر رحمه الله: "يُسْتَنْبَط مِنْهُ كَرَاهِيَة كُل مَا يَشْغَل عَنْ الصَّلَاة، مِنْ الْأَصْبَاغ، وَالنُّقُوش، وَنَحْوهَا".



هـ- تزيين المكان بما يَشغل كمن ابتُلي بوضع التصاوير وربما التماثيل.



و- أن يصلي إلى إنسان قُدامَه مستقبلًا وجهَه، فهذا يشوش على المصلي، ويمنعه من الخشوع؛ جاء في "الموسوعة الفقهية": "ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّة وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلَى صِحَّةِ الاِسْتِتَارِ بِالآْدَمِيِّ فِي الصَّلاَةِ.. وَأَمَّا الصَّلاَةُ إِلَى وَجْهِ الإِْنْسَانِ، فَتُكْرَهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ". ومثل ذلك الصلاة في أماكن يكثر فيها الضوضاء، والأصوات المزعجة، ومجموعات المتحدثين باللغو واللغط، ومستعملي الهواتف برناتها الصاخبة، ومكالماتها المشوشة، وغير ذلك.



12- النظر إلى موضع السجود، فعلى المصلي ألا يُجيل بصرَه في فناء البيت، أو أروقة المسجد، أو أثاثه، أو سقفه، بل يركز بصره في موضع سجوده؛ ليتمكَّن من استجماع فكره، وإحضار قلبه، وخضوع جوارحه، فقد كَانَ صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّى، طَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَرَمَى بِبَصَرِهِ نحْوَ الأَرْضِ"؛ البيهقي.



وكذلك كان يرمي ببصره إلى سبابته عند التشهد، فقد وصف ابن عمر رضي الله عنهما طريقة تشهد النبي صلى الله عليه وسلم، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ الْيُمْنَى، وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الإِبْهَامَ فِي الْقِبْلَةِ، وَرَمَى بِبَصَرِهِ إِلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: "هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ"؛ ص، سنن النسائي، وفي حديث عبدالله بن الزبير رضي الله عنه قال: "وأشار (أي: النبي صلى الله عليه وسلم) بالسبابة، لاَ يُجَاوِزُ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ"، ص سنن أبي داود.



وفي ذلك ما فيه من توحيد الله تعالى بالإشارة واللفظ والاعتقاد، بل فيه حكمة أخرى، وهي ترغيم الشيطان وقهره، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما إِذَا جَلَسَ فِي الصَّلاَةِ، وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ، وَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَهِيَ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنَ الْحَدِيدِ"؛ أحمد.






الله أكبرُ يا مآذنُ كَبِّرِي

بفريضةٍ يهفو لها العُبَّادُ


وتهيمُ أرواحُ الخلائق بالهدى


بمساجدٍ تزهو بها الأوتادُ


عَمَروا المساجدَ بالصلاة جماعةً

فَهُمُ الأكارمُ بالورى الأشهادُ


فاحذر من التفريط فيها إنها

للدين يا بنَ الأكرمين عِمَادُ






والحمد لله رب العالمين.






[1] تنظر مفصلة في كتاب: "الخشوع في الصلاة في ضوء الكتاب والسنة" للقحطاني، وكتاب: "الخشوع في الصلاة" للصباغ.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 16-10-2019, 01:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"

في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (4)


د. محمد ويلالي




سلسلة: في ظلال حديث: ((احفظ الله يحفظك)) (4)

الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة (2)

(أكل الحلال - دفع الوسوسة)





ما زلنا بصدد بيان ما يحفظ به العبدَ المؤمنَ ربُّه، انطلاقًا من حديث: ((احفظ الله يحفظك))، وقلنا: إن من أعظم ما يستوجب هذا الحفظ: اعتناء المؤمن بصلاته، وأداءها على وجهها مع الحفاظ على لُبِّها وجوهرها؛ وهو: الخشوع فيها، وحضور القلب عند أدائها، والإقبال على الله في حركاتها وسكناتها، وذكرنا في المقال الأخير أن مما يعين على ذلك أمورًا كثيرة، أتينا على اثني عشر منها؛ وهي: إحسان الوضوء وإسباغه، إرداف الوضوء بسنته - وهي ركعتان يُستحضر فيهما جلال الله تعالى - متابعة المؤذن في ألفاظ الأذان مع حضور القلب، أداء الصلاة في المسجد، التجمل بأحسن الثياب وأنظفها، تجنب الأطعمة ذات الروائح المؤذية للغير، التزام دعاء الخروج من المنزل، إحلال السكينة عند الذهاب إلى المسجد، البدء بالرجل اليمنى عند دخول المسجد مع ذكر الدعاء المخصوص في ذلك، ترك الالتفات في الصلاة لغير سبب، ترك الصلاة عند حصول الشاغل المانع من الخشوع والتدبر: كحضور الطعام وقت الصلاة مع اشتهائه، ومدافعة الأخبثين، الصلاة إلى ما فيه تصاوير ملهية أو زخارف مشغلة...، ثم النظر إلى موضع السجود.

ومدار هذه الأمور - كما ترى - على تمحيض الالتجاء إلى الله وقت الصلاة، والاستنكاف عن الصوارف والشواغل؛ حتى لا ترى أمامك إلا الله؛ فقد أتى رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، حدثني حديثًا، واجعله موجزًا، فقال النبي: ((صلِّ صلاة مودعٍ كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك، وايئس مما في أيدي الناس، تَعِشْ غنيًّا، وإياك وما يُعتذر منه))؛ صحيح الترغيب.

وهناك أمران آخران هما من أعظم ما يعين على هذا الخشوع:
1- أكل الحلال، وتطهير الرزق من الشوائب؛ إذ قبول الأعمال وزكاتها منوطان بهذا الشرط، والحرام يفسد كل ذلك، فيطرد الخشوع، ويضعف التدبر، ويمنع الخشية، ويمحق البركة؛ قال النبي: ((أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعثَ أغبرَ، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟))؛ مسلم.

قال ابن رجب رحمه الله: "وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يُقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبوله".

فقد يجتهد أحدنا في تفريغ القلب لربه، واستفراغ الوسع في الاستفادة من صلاته، ثم يرى أن باله مشغول، وأن قلبه مغلق مصروف، وهو لا يدري أن الحرام تسرب إلى بطنه، واختلط بلحمه وعظمه؛ إما لأنه يأكل الربا، وإما لأنه يضيع حقوق الناس، وإما لأنه يغش في العمل والوظيفة. فالبناء لا يكون متينًا إلا بقوة أسسه، وسلامة دعائمه؛ وقد قال بعض السلف: "الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب"، وهو ما عبر عنه وهيب بن الورد رحمه الله حين قال: "لو قمت مقام هذه السارية، لن ينفعك شيء، حتى تنظر ما يدخل في بطنك: حلال هو أم حرام"، وقال أبو عبدالله الباجي رحمه الله: "خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بالله، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإذا فقدت واحدة، لم يرتفع العمل".

ونحن حينما نتحدث عن بعض الصالحين، نعتقد وكأننا نتحدث عن أناس من طينة أخرى، أو من عالم آخر، مع أن الفارق بيننا وبينهم هو شدة التحري في ما يُدخِلون بطونهم؛ ولذلك كانوا يخشعون في صلاتهم، وتستجاب دعواتهم.

فهذا أبو بكر الصديق الذي خلد القرآن الكريم ذكره، ورفع بين العباد شأنه، تروي ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فتقول: "كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده، فقاء كل شيء في بطنه"؛ البخاري، وفي رواية أنه قال: "والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها".

وعبدالله بن المبارك رحمه الله يقول: "لأن أَرُدَّ درهمًا من شبهة، خير لي من أن أتصدق بمائة ألف درهم"، وليس هو إلا ثمرة لصدق أبيه (المبارك)، الذي تورع عن الحرام، فاستجاب الله دعاءه، ففتح عليه باب الرزق من حيث لا يحتسب؛ فقد كان عبدًا رقيقًا، أعتقه سيده، ثم عمل أجيرًا عند صاحب بستان، وذات يوم خرج صاحب البستان مع أصحاب له إلى البستان، وقال للمبارك: "ائتنا برمان حلو"، فقطف رمانات، فقدمهن إليهم، فإذا منها الحامض والتالف، فقال صاحب البستان: "أما تعرف الحلو من الحامض؟"، فقال المبارك: "أنت ما أذنتَ لي أن آكل حتى أعرف الحلو من الحامض"، فقال له: "أنت منذ كذا وكذا تحرس البستان، وتقول هذا؟"، وظن أنه يخدعه، فسأل الجيران عنه، فقالوا: "منذ أتى هذا البستان ما أكل رمانة واحدة"، فتعجب صاحب البستان ودعاه وقال: "يا مبارك، ليس عندي إلا ابنة واحدة، فلمن أزوجها؟"، فقال له: "اليهود يزوجون للمال، والنصارى للجمال، والعرب للحسب والنسب، والمسلمون للتقوى"، فقال صاحب البستان: "ما رأيت أتقى لله منك"، فزوجه ابنته.

فسبحان الله! يتورع عن رمانة، فيسوق الله له البستان، وصاحبه، والذرية الصالحة.

والإمام البخاري رحمه الله ثمرة صلاح أبيه وورعه؛ فعن أحمد بن حفص قال: "دخلت على أبي الحسن؛ يعني: إسماعيل والد الإمام البخاري عند موته، فقال: لا أعلم من مالي درهمًا من حرام، ولا درهمًا من شبهة، قال أحمد: فتصاغرت إليَّ نفسي عند ذلك"، وقلت: صلاح الآباء ينفع الأبناء؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82].

ولم تكن نساء السلف بأقل شأنًا في ذلك من الرجال؛ فقد ضربن المثل في تحري الحلال، والورع عما فيه شبهة؛ فقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن امرأة كانت تعجن عجينًا، فلما بلغها موت زوجها، رفعت يدها عن العجين وقالت: "هذا طعام قد صار لنا فيه شركاء"؛ تقصد: صار للورثة حق فيه.

وتقول إحدى الزوجات الصالحات لزوجها، كلما هم بالخروج صباحًا لتحصيل القوت: "يا فلان، اتق الله، ولا تطعمنا إلا طيبًا، إن جئتنا بقليل كثرناه، وإن لم تأتنا بشيء أعناك بمغزلنا".

بهذا الورع استقامت حياتهم، وبأكلهم الحلال حضرت في الصلاة قلوبهم، وخشعت لله أعضاؤهم، وبكت من خشية الله عيونهم، واقشعرت من ذكر الله جلودهم.

فكحِّل عينك بهذه النماذج الحية المشرقة من سلفنا الصالح، ثم اسكب العَبَرات على أحوالنا في أسواقنا، ومتاجرنا، ووظائفنا، لتقارن بعد ذلك بين صلاتهم وصلاتنا، وخشوعهم وخشوعنا، والله المستعان.

2- وهناك سبب آخر من أسباب الخشوع في الصلاة، عظمت أهميته، فكثرت الأسئلة حوله، وهو: "محاربة الوسواس" الذي قد يعرض للمصلي، فيشغله عن أعمال الصلاة، فيتيه فِكْرُه في أمور، ما تزال به حتى تلهيه عن صلاته، بل قد تُفوِّت عليه هذه الصلاة بالجملة، حين يرتقي الأمر إلى ما يسمى بـ"مرض الوسوسة"، التي من أخطر صورها: ما يشتكي منه كثير من الناس حين تتسلط عليهم أفعال وأفكار، فتضطرهم إلى التسلسل معها، وتكرارها المرة بعد الأخرى، فإن لم يفعلوا، أحسوا بتوتر وضيق، وأقنعوا أنفسهم بعدم صحة عبادتهم، ويعتقدون أن هذا التوتر لا يزول إلا إذا كرروا الفعل، وتسلسلوا مع الفكرة.

والشيطان قاعد للمصلي بالمرصاد، متربص به، فلا يتركه حتى يقنعه بأن وضوءه غير صحيح، وأنه أحدث فانتقض وضوؤه، وقد يُفاجأ بانتهاء الإمام من الصلاة، وهو لا يزال يكرر وضوءه؛ والله تعالى قال: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، وكان من دعاء النبي إذا أصبح وإذا أمسى: ((أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه))؛ رواه أبو داود.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والوسواس يعرض لكل من توجه إلى الله تعالى بذكر أو غيره، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، ﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾، وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى بقلبه، جاء من الوساوس أمور أخرى؛ فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد أن يسير إلى الله تعالى، أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف: "إن اليهود والنصارى يقولون: لا نوسوس، فقال: صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخرب؟".

ولقد دلنا رسول الله على الدواء الناجع لمغالبة الشيطان في وسواس انتقاض الوضوء بخارجٍ، بأن يجعل اليقين مطيته، والتثبت المادي سبيله، ولا يصغي لوسواس الشيطان؛ فعن عبدالله بن زيد قال: ((شُكي إلى النبي الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا))؛ متفق عليه، وقال: ((إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا - فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا))؛ مسلم.

وحتى إذا نجوت من وسواس الوضوء، قعد لك الشيطان بباب الصلاة، ما إن تكبر تكبيرة الإحرام، حتى تتكبكب عليك الأفكار من كل مكان، وتنثال عليك الوساوس من كل صوب؛ فيحضرك الغائب، ويبين لك المفقود، وتؤزك المواعد، وتأخذ لُبَّك المشاغل: فالزوجة بعثتك لشيء نسيته، والولد مريض يحتاج إلى دواء، وعمل كلفك به المدير لم تكمله، وسلعة طلبها زبون لم تحضرها...؛ يقول النبي: ((إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان، فَلَبَسَ عليه حتى لا يدري كم صلى؟ فإذا وجد ذلك أحدكم، فليسجد سجدتين وهو جالس))؛ متفق عليه، وهما: سجدتا السهو.

وفي حديث آخر في الصحيحين يقول النبي: ((إذا أُذِّن بالصلاة، أدبر الشيطان له ضراط - أي: يخرج منه ريح من شدة الخوف - حتى لا يسمع التأذين، فإذا سكت المؤذن أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة - أقيم للصلاة - أدبر، حتى إذا قُضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر من قبل، حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى))؛ وفي لفظ: ((حتى لا يدري، أثلاثًا صلى أم أربعًا، فإذا لم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا، سجد سجدتي السهو))، وبيَّن النبي أن دواء ذلك الوسواس: أن تستعيذ بالله من الشيطان، وأن تتفل برفق عن يسارك؛ فقد أتى عثمان بن أبي العاص النبي فقال: ((يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، يلبسها عليَّ، فقال رسول الله: ذاك شيطان يقال له: خَنْزَبٌ، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني))؛ مسلم.

قال ابن القيم رحمه الله: "العبد إذا تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتفل عن يساره، لم يضره ذلك، ولا يقطع صلاته، بل هذا من تمامها وكمالها"، والتفل: نفخ معه قليل من الريق، وقد نص أهل العلم أنه يكون إذا كان المصلي منفردًا، أو على يسار الصف، فإن كان في الصف، فيكفيه أن يلتفت قليلًا عن يساره، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

والاستعاذة تنفع في وسواس الوضوء والصلاة، وتنفع فيما هو أكبر من ذلك، حين يأتي الشيطان إلى أحدنا، فيحاول تشكيكه في عقيدته، فيجعله يطرح السؤال مثلًا حول فائدة خلق الجنة والنار، مع أن الله خالق الإنسان وعالم بمصيره، وهي أسئلة يلهج بها اليوم كثير من شبابنا - بل وأطفالنا - بفعل نزغات شياطين الجن وأيضًا شياطين الإنس؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]؛ يقول النبي: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك، فليستعذ بالله، وليَنْتَهِ))؛ مسلم، وعند أبي داود: ((... فإذا قالوا - يعني: الناس - ذلك، فقولوا: ﴿ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾، ثم ليتفل عن يساره ثلاثًا، وليستعذ من الشيطان)).

وبذلك يستعين على صرف ذهنه عن التمادي في التفكير في الأمر، والإعراض عن هذه الخواطر الشيطانية، وترك الاسترسال معها، مع دعاء الله المستمر في صرف الوساوس عنه، ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175]؛ وقد سُئل ابن حجر الهيثمي رحمه الله عن داء الوسوسة: هل له دواء؟ فأجاب: "له دواء نافع، وهو الإعراض عنها جملة، وإن كان في النفس من التردد ما كان، فإنه متى لم يلتفت لذلك، لم يثبت، بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفَّقون".



والحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 16-10-2019, 01:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"

في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (5)


د. محمد ويلالي


(2) الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة



(ترك المعاصي - كثرة ذكر الله)


كنا تحدثنا آنفًا عن جملة من الأسباب المعينة على الخشوع في الصلاة، باعتبار الصلاة من أعظم ما أمر المؤمن بحفظه، وأوصلنا تلك الأسباب إلى أربعة عشر سببًا، ختمناها بضرورة دفع الوسواس، الذي قد ينتقل إلى درجة "مرض الوسوسة"، حين يجثم الشيطان بكلكله على المصلي، فيلهيه عن صلاته، ويلبس عليه فيها حتى لا يدري كم صلى.


ونختم هذا الموضوع بذكر سببين آخرين، نحتاج إلى حفظهما والاعتناء بهما إذا ما أردنا الاستفادة من صلاتنا، والانتفاع بثمرتها في استقامة حياتنا، وتحصيل الأجر العظيم المترتب على قبولها في آخرتنا، وهما:
1- ترك المعاصي، والابتعاد عن الذنوب، وتجنب ما يغضب الله عز وجل:
فلا شك أن شؤم المعصية يورث سوء الحفظ، وقلة التحصيل، وضعف التركيز، وذهاب الخشوع، فالقلب العاصي لا يخشع؛ لأن استمراء المعصية محاداة لله ولرسوله، وبرهان على عدم الخوف من الله وعقابه، فكيف يُقابَل العاصي بتمكينه من الخشوع في صلاته، وصدقه في دعائه، وهو قائم على اقتراف الذنوب واجتراح الخطايا؟


والصلاة علم ونور، ودعاء ومناجاة، فيها قرآن يُتلى، وفيها أدعية مأثورة تُستجلب بها الرحمات، وتستدر بها البركات، وكل ذلك لا يستقيم مع المعصية؛ لأن المعصية ظلمة ما تلبث أن تطفئ نور الطاعة، والخشوع لب طاعة الصلاة وجوهرها؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق".


وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "العبد يخلو بمعاصي الله عز وجل، فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر".
فمثل هذا، كيف يرزق الخشوع في صلاته؟ إنه شؤم المعصية، الذي يذهب بالوقار والسكينة، والخضوع والإخبات، ويستجلب الحزن والقلق، بل ويورث الجهل محل العلم، والظلمة محل النور؛ قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282]؛ قال القرطبي رحمه الله: "وعد من الله تعالى بأن من اتقاه علمه؛ أي: يجعل في قلبه نورًا يفهم به ما يلقى إليه ... ومنه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29].


وهذا الإمام الشافعي رحمه الله جلس بين يدي الإمام مالك رحمه الله، فلمح عليه مخايل النجابة والذكاء، فقال له: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية".


وكان وكيع بن الجراح شيخ الشافعي يقول:
أحب الصالحين ولستُ منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعه
وأكره من تجارته المعاصي
وإن كنا سواءً في البضاعه




وجاءه تلميذه الشافعي فسأله عن أحسن دواء للحفظ فقال: "والله ما رأيت للحفظ مثل ترك المعاصي"، فأنشد الشافعي قائلًا:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور
ونور الله لا يهدى لعاصي



وقال الضحاك بن مزاحم رحمه الله: "ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه؛ وذلك بأن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30]، ونسيان القرآن من أعظم المصائب".



وقال ابن الجلاد رحمه الله: "نظرت منظرًا لا يحل لي، فقال لي أحد الصالحين: أتنظر إلى الحرام؟ والله لتجدن غبَّه ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة".


وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها".
وسأل رجل مالكًا رحمه الله فقال: "يا أبا عبد الله، هل يصلح لهذا الحفظ شيء؟" قال: "إن كان يصلح له شيء، فترك المعاصي".


نعم، إنها المعاصي، خراب الديار، وهلاك النفوس.
قال العلامة السعدي: "إن المعاصي تخرب الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة، فكم لها من العقوبات والعواقب الوخيمة! وكم لها من الآثار والأوصاف الذميمة! وكم أزالت من نعمة، وأحلت من محنة ونقمة!".


ولا شك أن من أعظم هذه النقم أن ترى الرجل يصلي الساعات ذوات العدد، فيشكو أنه لم يفقه من صلاته شيئًا، ولم يعقل منها شيئًا؛ قال يحيى بن يحيى: "عندما يقارف الإنسان ذنبًا، فإن خطيئته تحيط به، ويلحقه من جراء ذلك هم وحزن، وينشغل تفكيره بما قارفه من إثم، فيطغى ذلك على أحاسيسه، ويشغله عن كثير من الأمور النافعة، ومنها حفظ العلم"، ونحن نقول: ومنها الخشوع والتركيز في الصلاة.


وليس ترك المعاصي سبيلًا إلى إقامة الصلاة ركوعًا وسجودًا وخشوعًا وحسب، بل كل يوم خلا من المعاصي فهو عيد حقيقي، حق للمسلم أن يفرح به، وأن يهنئ نفسه به؛ قال الحسن رحمه الله: "كل يوم لا تعصي الله، فهو لك عيد".
رأيت الذنوب تميت القلوب
وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب
وخير لنفسك عصيانها




2- كثرة ذكر الله عز وجل من التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وغيرها؛ فإنها من أنفع ما يحفظ العقل، ويدفع الشرود والنسيان، ويعين المسلم على حسن التدبر في صلاته؛ قال الله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف: 24].


ومن أعظم هذا الذكر: قراءة القرآن الكريم وحفظه؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]، وفي الحديث: "إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب"؛ صحيح سنن الترمذي.


فمن أراد حفظ ذاكرته، وتقوية حافظته، وزيادة تركيزه وخشوعه، فعليه بكتاب الله؛ فهو حفظ للعقول، وسلامة للنفوس، وقوة للأبدان؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من قرأ القرآن، لم يرد إلى أرذل العمر؛ وذلك قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [التين: 5، 6]، قال: الذين قرأوا القرآن"؛ صحيح الترغيب.


وقال عبدالملك بن عمير رحمه الله: "كان يُقال: إن أبقى الناس عقولًا قُرَّاء القرآن".
وقال الأمين الشنقيطي رحمه الله: "وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله، المداوم على تلاوته، لا يصاب بالخرف ولا بالهذيان"؛ أي: يكون حاضر العقل، قوي التركيز.


قال الطبري رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [التين: 5، 6]: "ثم رددناه إلى أرذل العمر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات في حال صحتهم وشبابهم، فلهم أجر غير ممنون بعد هَرَمهم، كهيئة ما كان لهم من ذلك على أعمالهم، في حال ما كانوا يعملون وهم أقوياء على العمل".
يا أمة القرآن إن كتابكم
لهو الشفاء وصحة الأبدان
وهو الدواء لكل جرح غائر
وهو المحارب نزغة الشيطان
فهو الخطاب لكل عقل نابه
وهو الضياء بنوره الرباني
يهدي إلى الخير العميم وإنه
أمن القلوب وراحة الأبدان



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 06-11-2019, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"


في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (6)


د. محمد ويلالي




(3) حفظ الرأس وما وعى




لا زلنا بصدد التأمل في بعض دلالات حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ((احفظ الله يحفظك))؛ حيث يقتضي حفظنا لربنا عز وجل حفظ كثير من الآداب الشرعية.




عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله، إنا لنستحيي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة، ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء))؛ صحيح سنن الترمذي.




فحفظ الله تعالى بتحقيق الاستحياء، لا يتم بمجرد ألفاظ الحمد والثناء حتى يعقبهما العمل الصالح؛ لأن الحياء في حقيقة أمره هو الدين كله، وهو الخير كله؛ وقد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ((يا رسول الله، الحياء من الدين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل هو الدين كله))؛ صحيح الترغيب.




ذلك أن الحياء خَصلة تحمل العبد على الكف عن ركوب الرذائل، وارتكاب القبائح، واجتراح الموبقات، وتدفعه إلى السمو بالأخلاق إلى معارج الفضائل، وسامي المنازل؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء خير كله، أو قال: الحياء كله خير))؛ مسلم.




بل إن الإيمان يضمحل وينمحق وقد يغيب إذا غاب الحياء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((الحياء والإيمان قُرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))؛ صحيح الجامع، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت))؛ البخاري.




فمن أراد أن يحفظه ربه، فليتزين بثوب الحياء، وليجعله رداء جمال، وسربال طهارة؛ قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه))؛ صحيح سنن ابن ماجة.




فكان توقير الله عز وجل وإجلاله كامنًا في الاستحياء منه حق الحياء، وهو ما لا يتم إلا بأمور، ذكرها حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، نقتصر اليوم على أحدها، وهو: ((حفظ الرأس وما وعى)).




ولا شك أن الرأس من أشرف الأعضاء؛ لأنه وعاء لأشرف الحواس: السمع، والبصر، واللسان، التي ما تفضَّل بها علينا الباري جل شأنه إلا لتحقيق الحياء المطلوب؛ قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]، وهي ناطقة يوم القيامة بكل أعمالك، سواء أكانت أعمال خير، أم أعمال شر؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36].




وحفظ هذه الجوارح سبيل لإحراز حفظ الله عز وجل؛ قال تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها))؛ البخاري.




فكان حفظ الجوارح من أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه؛ قال ابن رجب رحمه الله: "كفُّ الجوارح عن المحرمات أفضل من التطوع بالحج وغيره".




فالذي لا يحفظ الرأس وما وعى يطلق العنان لهذه الجوارح تعُبُّ من الموبقات ما تشتهي، وتستمرئ من اللذات والشهوات ولا تنتهي.




كان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول: "من أرضى الجوارح في اللذات، فقد غرس لنفسه شجر الندامات".




يا غاديًا في غفلة ورائحا

إلى متى تستحسن القبائحا؟


وكم إلى كم لا تخاف موقفًا

يستنطق الله به الجوارحا؟








ومن هذه الندامات إرسال البصر فيما حرم الله؛ من تتبع العورات، والنظر إلى الصور الساقطة، والأفلام والمسلسلات الغرامية الرخيصة.




قال القرطبي رحمه الله: "البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله".




فعلى المسلم المستحيي من الله أن يكف بصره عن المحرمات، وأن يحجزه عن الموبقات، فلا يتتبع مفاتن النساء العاريات، ولا يترصد أماكن الشبهات؛ كالشواطئ، والمسابح، وبعض المتنزهات التي لا يتورع أصحابها عن انتهاك حرمات الله.




قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "إذا مرت بك امرأة، فغمض عينيك حتى تجاوزك".




وقال سعيد بن أبي الحسن رحمه الله: "قلت للحسن: إن نساء الأعاجم يكشفن رؤوسهن وصدورهن، قال: اصرف بصرك عنهن؛ يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30]"؛ رواه البخاري، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((زنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق...))؛ متفق عليه.




ولا يظنَّنَّ ظانٌّ أن الله يخفى عليه من حيل ابن آدم شيء وهو القائل: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر: 19]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هو الرجل يكون جالسًا مع القوم، فتمر المرأة فيسارقها النظر إليها"، وقال أيضًا: "هو الرجل ينظر إلى المرأة، فإذا نظر إليه أصحابه غضَّ بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها".




ليس الشجاع الذي يحمي مطيته

يوم النزال ونار الحرب تشتعلُ


لكن فتًى غضَّ طرفًا أو ثنى بصرًا

عن الحرام فذاك الفارس البطلُ







ومما وعاه الرأس مما يجب حفظه: هذا السمع الذي استأمننا الله عليه، والذي تكمن خطورته في ارتباطه الوثيق بالقلب؛ فقد يستقبل السمع من المحرمات ما يفسد هذا القلب؛ كسماع الكلام البذيء، وألفاظ التغنج والميوعة كما في بعض الأغاني الوضيعة، وسماع ألفاظ السب والقدح في كتاب الله أو في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ والله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء: 140].




ومثل السمع اللسان، تلك العضلة الخطيرة التي قد توبق صاحبها فتودعه في النار إن لم يحسن استعمالها في الحق، ويلهج بها في السداد؛ قال تعالى: ﴿ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [الأحزاب: 70]، وقال تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83]، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكثر خطايا ابن آدم في لسانه))؛ صحيح الجامع، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول للسانه: "ويحك، قل خيرًا تغنم، وإلا فاعلم أنك ستندم"، وقال أحد الصالحين: "إذا استمرأ اللسان المعاصي، أصبح مثل الطيور الجارحة يعيش على اللحم والدم، ولا يرتاح إلا باقتناص الفريسة"، ورحم الله الإمام الشافعي إذ يقول:





إذا شئت أن تحيا سليمًا من الأذى

ودينك موفورٌ وعرضك صيِّنُ


فلا ينطقن منك اللسان بسوأة

فكلُّك سوءات وللناس أعينُ


وعينك إن أبدت إليك معايبًا

فصنها وقل: يا عينُ للناس أعينُ


وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى

ودافع ولكن بالتي هي أحسنُ





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 06-11-2019, 09:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك"

في ظلال حديث: "احفظ الله يحفظك" (7)


د. محمد ويلالي




احفظ الله تجده تجاهك (4)




قصدنا اليوم إن شاء الله تعالى الحديث عن جواب الأمر في العبارة النبوية: "احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ"، المدعمة بقوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ" في رواية الترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ" في رواية أحمد.




وبما أن الجزاء من جنس العمل، فكل من حفظ حدود ربه، حفظه الله في بدنه، وفي ماله، وفي علمه، وسائر أمور معاشه ومعاده؛ كقوله تعالى لبني إسرائيل: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي [البقرة: 40]؛ أي: بالإيمان به وبرسله، ﴿ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40]؛ أي: الرضا عنكم، وإدخالكم الجنة جزاءً لذلك؛ قال أبو العالية رحمه الله: "عهدُه إلى عباده: دينُ الإسلام أن يتبعوه، (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)؛ يعني: الجنة".




وقال ابن زيد رحمه الله: "أوفوا بأمري، أوفِ بالذي وعدتكم، وقرأ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة: 111]، حتى بلغ: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه [التوبة: 111]؛ قال: هذا عهده الذي عهده لهم"، ومثله قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 10]، والله عز وجل لا يخلف الميعاد: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [الروم: 6].




ومثل هذه المقابلة بجنس العمل وزيادة، قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152]؛ قال سعيد بن جبير رحمه الله: "اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي"، وقال الربيع رحمه الله: "إن الله ذاكرُ من ذكره، وزَائدُ من شكره، ومعذِّبُ من كفَره"، وقال السدي رحمه الله: "ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله: لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب"، فالله سبحانه يتفضل على عبده الذي يحفظه في السر والعلن، بأن يَجزيه على عمله، ويزيده بما يدهشه ويُعَجِّبه؛ كما في الحديث القدسي الذي يقول فيه ربنا عز وجل: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي: فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْراً، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي، أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"؛ متفق عليه.




ومَن حفظ الله تعالى بنصره ونشرِ دينِه، ورفع كلمته، والذَّودِ عن سُنة نبيه، والغيرةِ لانتهاك حرماته، حَفِظَه الله بنصره على عدوه، وتثبيت قدمه، والتمكين له في أرضه؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]؛ قال قتادة رحمه الله: "قوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)؛ لأنه حقٌّ على الله أن يعطي من سأله، وينصر مَن نصَره، وقوله: (وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، يقول: ويقوِّكم عليهم، ويجرِّئكم؛ حتى لا تولوا عنهم، وإن كثر عددُهم، وقلَّ عددُكم"، وهو كلام نهاية في الدقة؛ إذ العبرة في ميزان القوى بين المسلمين وأعدائهم، ليس بمجرد العدد والعتاد، وإنما بمدى ما مع المسلمين من حفظ لربهم في أوامره ونواهيه؛ مما يقوي إيمانهم بالله، والعلم أن النصر منه وحده، ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 126]، ولذلك صُدِّرت هذه المقابلة بقوله: تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [محمد: 7]؛ إشارة إلى أن قانون النصر والهزيمة، محكوم بمقدار ما مع المسلمين من الإيمان، فلا غرابة أن تكون أعداد المسلمين في أعظم عشر معارك شهدوها، أقل من نصف عدوهم، منها غزوة بدر (314 مقابل 1000)، وغزوة مؤتة بين المسلمين والروم والغساسنة (3000 مقابل 200 ألف)، ومعركة حطين بين المسلمين والصليبيين (25 ألفًا مقابل 63 ألفًا)، ومعركة نهاوند بين المسلمين والفرس (30 ألفًا مقابل 150 ألفًا)، ومعركة اليرموك بين المسلمين والروم (36 ألفًا مقابل 240 ألفًا)، ومعركة القادسية بين المسلمين والفرس (30 ألفًا مقابل 200 ألف).




هؤلاء صدَقوا ما عاهدوا الله عليه، فلم يكلهم الله إلى أنفسهم، وعقولهم، وحيلهم، وتخطيطهم، وعدتهم، وإنما قوَّى عزائمهم، وشدَّ أعضادهم، ورفع معنوياتهم، ثم أمرهم باتخاذ الأسباب، بل تدخلت العناية الربانية أحيانًا، فأنزل الله جندًا لم يروها، وهيَّأ أسبابًا لم يخططوا لها؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [آل عمران: 160].




ولقد أحسن من قال في هذا المقام:




إنَّ البلاءاتِ لم تنزِلْ بأمتنا

إلا بذنبٍ عظيمٍ قد فعلناهُ


قوموا اتَّقوا اللهَ وادعوه فلا أمَلٌ

في النصرِ يا أمَّتي إلا بتقواهُ


يا أمتي وحِّدوا للحق صفَّكُمُ

إنَّ التنازعَ للخُسرانِ عُقباهُ


يا أُمتي اتَّجهوا للهِ في ثقةٍ

إن تنصُروا ربَّكم يَنْصُرْكم اللهُ







قوله صلى الله عليه وسلم: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ" أو "أَمَامَكَ"؛ أي: إذا حفظت ربك كما أمرك، تجده معك بتأييده، وتوفيقه، وإرشاده، وهديه، يختار لك ما فيه خيرك، ويسددك إلى ما فيه صلاحك، ويهديك إلى ما فيه نفعك ونجاحك، في أي مجال من مجالات الحياة.




ففي التجارة، يحفظ الله المتبايعين ما داما حفِظا ربهما بالصدق في تجارتهما؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا، بُورِكَ لَهُمَا فِ بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا، مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا"؛ متفق عليه، وفي لفظ عند البخاري: "وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا فَعَسَى أَنْ يَرْبَحَا رِبْحًا، وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا".




وفي باب الزواج يحفَظ الله المتزوج الذي يبغي بزواجه العفاف، فيعينه عليه، ويحفظه في أهله وفي نسله؛ قال صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى الله عَوْنُهُمُ... وذكر منهم: وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ"؛ صحيح سنن الترمذي.




وفي باب النسل والذرية ترى الذي حفظ الله تعالى في حدوده، يحفظه الله في عقبه؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف: 82]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنهما حُفظا بصلاح أبيهما"، وقال ابن المنكدر رحمه الله: "إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر".




وفي باب الصحة والعافية، يحفظ الله من حفظ جوارحه واستعملها في طاعة الله، بحفظ بدنه من العلل والأعطاب؛ قال تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هم الملائكة، يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه".




وكان العالم أبو الطيب الطبري قد جاوز مائة سنة، وهو ممتع بقوته وعقله، فوثَب يومًا وثبة شديدة، فعوتب في ذلك، فقال: "هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر".




وهكذا كلما حفظ العبد المؤمن ربه، وجده أمامه بعونه، وبركته، وتوفيقه.




لا تَرْكَننَّ لِمخلوقٍ وكُنْ أبَدًا


مِمَّنْ تَوكَّلَ في الدنيا على الله



ولا تَمِلْ لِسِوَاهُ مَا حَيِيتَ فَمَن

يَرْجُو سِوَى الله هَاوٍ حَبْلُهُ واهِ







والحمد لله رب العالمين.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 179.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 175.24 كيلو بايت... تم توفير 4.43 كيلو بايت...بمعدل (2.47%)]