|
ملتقى الحج والعمرة ملتقى يختص بمناسك واحكام الحج والعمرة , من آداب وأدعية وزيارة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() الحج وآثاره السلوكية (1/4) د.عمر بن عبد الله المقبل الحمد لله رب العالمين ،والصلاة والسلام على خيرته من خلقه ،نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين : أما بعد : فهذه حلقات علميةٌ ،تربويةٌ ،تتصل بركن من أركان الإسلام العظام ،ألا وهو الحج ،وهي تركز على الجانب السلوكي ،والأثر الذي ينبغي أن تحدثه هذه العبادة في قلوب مؤديها. ولا ريب أن الحديث عن موضوع كهذا طويلٌ ،لكنها ورقةٌ تضاف إلى مجلدات كتب في هذا الموضوع ،لعلها تسهم في التنبيه إلى شيء من مقاصد الشرع العظيم في مشروعية هذه العبادات . أسأل الله تعالى أن يرزقنا القيام بعبادته على الوجه الذي يرضيه عنا ،وأن يعفو عن ما زلت به الجوارح ،إنه أكرم مسؤول . وسأتناول في الحلقات الأربع ـ التي تنتظم هذه الورقة ـ المواضيع الآتية : الحلقة الأولى : لماذا الحديث عن الآثار السلوكية ؟ الحلقة الثانية : كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا ؟ولماذا لا يجد الكثير آثارها في حياتهم؟. الحلقة الثالثة : من آثار الحج السلوكية (الجزء الأول). الحلقة الرابعة : من آثار الحج السلوكية (الجزء الثاني). لماذا الحديث عن الآثار السلوكية ؟ وأرى أنه يحسن ـ قبل الولوج إلى الموضوع ـ أن أوضح مفردات عنوان هذه الورقة (آثار الحج السلوكية) : أولاً : كلمة (الآثار) جمع أثر ، هو في اللغة يطلق على معان منها : بقية الشيء ، ويقال : أثّر فيه تأثيراً ، أي ترك فيه أثراً وهذا الذي يعنينا هنا ، فنحن نتحدث عما تتركه عبادة الحج العظيمة من آثار في الحجاج(1). ثانياً : كلمة ( السلوكية ) السلوك أصله من سلك طريقا ، أو مكاناً يسلكه أي دخل فيه ، ومن ذلك قوله تعالى ( أسلك يدك في جيبك ) أي أدخلها في جيبك،ومنه أيضاً ( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) أي أدخلنا الكفر والتكذيب،ونظمناه في قلوب أهل الإجرام كما يدخل السلك في الإبرة ، فتشرّبته وصار وصفاً لها (2). وهكذا الإنسان إذا تحققت فيه آثار العبادات وتحلى بالآداب الشرعية ، وأصبحت أخلاقه انعكاساً لما يعلمه ويعمل به من دين الله عز وجل ،صح أن يقال له : إن فلاناً سلوكه حسنٌ ،لأنه تشرّب الأخلاق الطيبة ،وانتظمت في تصرفاته حتى أصبحت وصفاً له . إذاً فالحديث عن بقية الآثار التي تتركها عبادة الحج ، وتؤثر في حياته ... في عباداته ومعاملاته ...في أخلاقه . أما لماذا الحديث عن الآثار السلوكية ؟ وهو عنوان هذه الحلقة ،فيمكن إجمال الأسباب فما يلي : أولاً : الحديث عن الآثار السلوكية في الحقيقة حديث عن الأخلاق ـ بمعناها الواسع ـ لأن العرب تقول عن السجية والطبع الملازم للمرء :خلُق (3) ،وهذا معنى كونه سلوكا أي صار سجية ووصفا له ، وليست هذه الورقة حديثاً عن الأخلاق ـ رغم أهميتها ـ إنما المقصود الإشارة إلى أن الأخلاق والسلوك الحسن له أهمية عظيمة وشأن كبير في حياة المسلم ،بل الأخلاق لها شأنها ـ عند جميع الأمم ـ مسلِمها وكافرها،وحسبك أن تعلم أن من أعظم الطرق التي ملك بها النبي صلى الله عليه وسلم قلوب الناس في دعوته : سلوكه الحسن ، وتعامله الفذ ، وخلقه العظيم الذي امتدحه الله سبحانه وتعالى به في قوله : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) . وما أجمل قول الشاعر الذي نبه إلى عظمة شأن الأخلاق حيث يقول : أيها الطالب فخراً بالنـسب إنما النــــــاسُ لأم ولأبْ! هل تراهم خُلقوا من فضـة ؟ أو حـديد أو نحـاس أو ذهـبْ ؟ أو تَرى فضلهـموا في خلْقهم هل سوى لحمٍ وعـظمٍ وعصـبْ ؟ إنما الفضــلُ بعـقل راجحٍ وبأخـلاق كـــــرام وأدبْ! ذاك من فاخرَ في النــاس به فـاق من فــاخرَ منـهم وغلبْ فتبين مما سبق أن الحديث عن الحج وآثاره السلوكية حديث مهم ، لارتباطه بأمر عظيم ألا وهو حسن الخلق ، وسلامة السلوك . ثانياً : أنه ما من عبادة وإلا وقد رتب الشرع المطهر عليها آثاراً على العبد في حياته. وهذه الآثار تختلف بحسب مكانة هذه العبادة ومنزلتها من الدين ،كما أنها تختلف باعتبار آخر ألا وهو العابد نفسه،إذ لا ريب أن الناس ليسوا على درجة واحد من العلم والخشية ،وبالتالي ليسوا على درجة واحدة في تعظيم هذه الشعائر ،ولا في درجة الإخلاص والصدق الذي يكون في قلوبهم حين الدخول في العبادة . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه،فإن الرب تعالى شكور،يعني لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا،من حلاوة يجدها في قلبه،وقوة وانشراح وقرة عين،فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول"(4)ا هـ . ولقد برّ في كلامه وصدق رحمه الله ،فقد ثبت في السنة أحاديث كثيرة تؤيد ما قاله منها : ما ثبت في صحيح مسلم عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ". ومنها : ما ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " . قال بعض أهل العلم : "إنما عبّر بالحلاوة ؛لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: " مثلا كلمة طيبة " فالكلمة هي كلمة الإخلاص،والشجرة أصل الإيمان،وأغصانها اتباع الأمر واجتناب النهي، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جنى الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة ،وبه تظهر حلاوتها "(5). ثالثاً : نتحدث عن الآثار السلوكية لما يلاحظ من وجود الهوة الكبيرة بين العلم والعمل ،وبين ما يتلقاه الناس ـ إما في حقول التعليم أو عن طريق خطب الجمعة أو المحاضرات أو غيرها من مجالات التلقي ـ وبين التطبيق ، وتبعاً لذلك فإنه يُلاحظ ضعف أو تلاشي آثار العبادات على كثير من المؤدين لها، حتى أصبحت العبادات جسداً بلا روح عند كثير من الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . هاهي الصلاة ـ أيها القارئ الكريم ـ عماد الدين ،أعظم الأركان الخمسة بعد الشهادتين ،والتي لها من المنزلة في الدين ما ليس لغيرها من العبادات .. الصلاة التي قال الله تعالى عنها ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) .. تأمل في أثرها في أكثر المصلين !! أليس في المصلين من يخرج للتو من صلاة الجمعة ،وهو مع ذلك يقارف كبيرة أو يصر على صغيرة ،فهو يكذب في الحديث والمعاملة ! ويطلق بصره في الحرام ـ وربما وهو في طريق عودته لمنزله من الصلاة ! أو يستمع إلى ما حرم الله !! وقل مثل ذلك عن رمضان الذي انصرم قبل شهرين تقريباً !! فأين التالون لكتاب الله تعالى ؟ وأين المحافظون على الصلاة جماعة ؟ وأين من يغضون أبصارهم ويحفظون جوارحهم عن المحرمات مخافة أن يؤثر ذلك في تمام أجرهم ؟! وهكذا الحج فكم له من الآثار العظيمة والثمرات الهضيمة ـ والتي هي موضوع حديثنا ـ ومع ذلك ، ورغم كثرة الحجاج ، بل ورغم كثرة حجِّ بعض الناس إلى بيت الله الحرام ، إلا أن المستفيد من الحج ، ومن آثاره قليل ، والله المستعان . رابعاً : من أسباب طرق هذا الموضوع ، أنك ترى كثيراً منا يحرص أن يكون أكله وشربه ، وأوقات راحته على ما اعتاده ودرج عليه ،فإذا وقع تغيير بسبب غيره تراه يغضب ،ويحرص على أن يحترم الآخرون عاداته وأوقاته ؛ لماذا ؟! لأن أكله ونومه حسب عادته مما يشرح نفسه ويريح بدنه ،وهو مع ذلك لا يبذل ولا قليلا من الجهد لتفقد عباداته حتى تحدث أثرا عظيما في شرح نفسه ،وراحة قلبه وبدنه ، وتحقيق مراد الله تعالى منه في تلك العبادة . إذا علم هذا ، فإن سؤالاً ملحاً ينبغي أن يطرح ،وهو : كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا ؟ولماذا لا يجد الكثير من الناس آثارها في حياتهم؟ هذا ما ستجيب عنه الحلقة الثانية بإذن الله . * * * * * الهوامش : (1) القاموس المحيط (435،436) مادة أثر . (2) ينظر : معجم مقاييس اللغة 3/97 ،ولسان العرب 10/442 مادة سلَكَ،وتفسير ابن كثير والسعدي للآية رقم (200) من سورة الشعراء . (3) القاموس المحيط (1137) مادة خلق . (4) نقله عنه ابن القيم في " المدارج " في منزلة المراقبة ، ينظر "تهذيبها " للعزي 1/ 498 ، ط. الرسالة ، وينظر كلام ابن القيم في 1/360 فهو مهم في هذا الموضوع . (5) فتح الباري 1/77-78 ح(16) .
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() الحج وآثاره السلوكية (2/4) د.عمر بن عبد الله المقبل كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا؟ ولماذا لا يجد الكثير آثارها في حياتهم؟ كان هذا السؤال المطروح في الحلقة الماضية، وللجواب عنه يقال: أما السبل المعينة على تفعيل أثر العبادات في النفوس، فيمكن إيضاحها فيما يلي: أولاً: قراءة النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، التي وردت في شأن تلك العبادة التي نفعلها. ثانياً: بعد جمع النصوص يستعين المسلم في فهمها بكتب التفاسير فيما يتعلق بالآيات، وعلى كتب شروح الأحاديث ـ إن أمكن ذلك ـ وإلا فبسؤال أهل العلم لفهم ما قد يشكل منها. ثالثاً: من الوسائل التي تجعل العبادات مؤثرة في سلوك الشخص: استشعار أهمية العبادة ومعناها، والحكمة منها. وأن يعلم أن الغاية العظمى من العبادات هو إصلاح القلوب، ولا يتم لها ذلك إلا بأن تذل وتخضع وتستكين لخالقها، وتنيب وتعود لربها، وترهب وترغب لمولاها، فبذلك يتم صلاح القلب، ويسعد العبد في دنياه وأخراه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: من أراد السعادة الأبدية فليزم عتبة العبودية(1). رابعاً: مطالعة سير وأحوال السلف الصالح ـ رحمهم الله تعالى ـ في تلك العبادة وهذا له أثر عظيم ومشاهد، إذ مع استشعار أن القدوة المطلقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته خير وكفاية، إلا أن المسلم أيضاً سيزداد خيراً حينما يقرأ في هذا الباب. يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ "وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك ثمرة علمه: هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك"(2) ا هـ. والمقصود أن القارىء في سير السلف الصالح سيمر بمواقف وأخبار تدمع لها العين، ويرق لها القلب، سيتذكرها القارىء لها حينما يمر بنفس المواقف التي مروا بها ـ كما سأذكر بعضاً منها في ثنايا هذه الورقة إن شاء الله تعالى ـ. فمثلاً: في الحج، وغيره من مواسم العبادات الأخرى على مدار العام، يمكن أن يقرأ الإنسان في كتاب " لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف " للحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه جمع في كتابه بين الأحكام والمواعظ بأسلوب متميز. ويمكن الاستفادة ـ أيضاً ـ من بعض الكتب التي خرجت في هذا الوقت، اعتنت بالفهرسة الموضوعية لبعض الكتب، ككتاب " نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء " فالمؤلف وفقه الله جعل في آخر المجلد الثالث فهرساً لما تضمنه المختصر من قصص وأخبار جاءت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم رحمهم الله تعالى ممن ورد ذكرهم في أصل الكتاب " سير أعلام النبلاء " للذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ. رابعاً:وهو مهم أيضاً، وقد أشار إليه ابن الجوزي في كلمته السابقة، وهو أن يصحب الإنسان رفقة صالحة، فيها طلاب علم أو علماء ـ إن تيسر ذلك ـ ليستفيد منهم في تصحيح عبادته، وليستفيد مما يلقى من الدروس والمواعظ في رحلة الحج، ولهذا قال جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله. وما سبق في ( ثالثا ورابعا ) يقودنا إلى نقطة هامة في هذا الموضوع ألا وهي أنه ينبغي للإنسان ألا يغفل عن قراءة كتب فيها مواعظ في أيامه كلها، وخاصة في مواسم العبادات كرمضان والحج، لأن القلب إذا قسا ـ والعياذ بالله ـ لم يتلذذ بالعبادة، ولم ينتفع بالمواعظ إلا ما شاء الله. ومما ينبه إليه هنا أن بعض من منَّ الله عليهم بسلوك طريق الهداية أو حتى طريق طلب العلم الشرعي يغفلون عن هذا الجانب، إما لانهماكهم في الطلب، أو ظناً منهم أن هذا من شأن العوام، وهذا خطأ يجب أن يصحح. وسبحان الله! مَن الناسُ بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؟ هذا ابن مسعود رضي الله عنه يحكي حالهم ـ كما في الصحيحين ـ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا " والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعاهد أصحابه رضي الله عنهم بالوعظ والتذكير بين الحين والآخر. وهذه لفتة من عالم مجرب، من أئمة العلم والوعظ في نفس الوقت، وهو ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ حيث يقول: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن مقصود الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها، والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق..."(3) ا هـ. إذاً.. لماذا لا يجد الكثير آثار العبادات في حياتهم؟ وهو الجزء المتمم لهذه الحلقة، فأقول: أشرت قبل قليل إلى بعض الأسباب عند الحديث عن بعض الطرق التي يمكن أن نعملها لكي نجد للعبادة آثاراً على سلوكنا، وأن للعلم أثراً في زيادة تعظيم العبد لشعائر الله التي قال الله فيها: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: من الآية32). وفرق كبير ـ أخي القارئ ـ بين مَن يتلقى تعظيم الشعائر من الاعتياد والنظر لمن حوله من أمه وأبيه، أومن المجتمع الذي يحيط به فقط، وبين من يتلقى تعظيمها غضةً طريةً من نصوص الوحي، وسير السلف الصالح؛لأن تعظيمه حينئذ يكون مبنياً على علم وخشية وإجلال لمستحق التعظيم والإجلال، ولهذا قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28)، وهذا مما يستدل به على فضيلة العلم لأنه يدعو إلى خشية الله تعالى، ولهذا قال بعض السلف " مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف". فإذا تيقن الإنسان أن هذه الشعيرة من شعائر الله أحدث ذلك له تعظيما لها، ولهذا نجد بعض العامة يعظمون الشعائر ـ تعظيم الموقن بأن هذا الشرع صادر عن علم وحكمة لأنه من عند الله ـ وهو يقين مجمل. إلا أن أهل العلم ـ وهم على درجات أيضاً ـ يتميزون بالعلم المفصل بكثير من الجزيئات التي تجعل إيمانهم أعظم، ويقينهم بإحكام هذه الشريعة أكثر، وأنها صادرة عن علم تام، وحكمة بالغة، وأن الأمر كما قال جل جلاله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: من الآية82). ولهذا قال الله عز وجل في أواخر سورة الإسراء مخاطباً كل من كذب بالقرآن ومبينا فضيلة أهل العلم (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ـ أي فليس لله حاجة فيكم، فإن لله عباداً غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع ـ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء:107-109). فهذا هو السبب الأول في فقد بعض الناس لآثار العبادات، وهو قلة العلم بالنصوص الشرعية الواردة في تلك العبادة. وأرجو ألا يفهم ـ القارئ الكريم ـ أني أحجر تعظيم الحرمات على أهل العلم فحسب فيصاب البعض بالإحباط، فقد أشرت إلى أن من العامة مَن عنده تعظيم ويقين، لكنه ليس بمنزلة تعظيم ويقين الذين أوتوا العلم، وما ذكرته إنما هو إشادة بالعلم وأهله، وحث على طلب العلم حسب القدرة والطاقة. ثانياً: من أسباب حرمان آثار العبادات وعدم التلذذ بها: ضعف الإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك العبادة، وهذان الأمران كما أنهما شرطان في قبول العمل، فهما أيضاً مؤثران تأثيراً عظيما في الشعور بلذة العبادة وأثرها، ولهذا ليست العبرة بكثرة العمل، وإنما بحسنه، كما قال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: من الآية2) ولم يقل أكثركم عملاً، والمراد بحسن العمل هو أن يكون خالصاً لله صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فسره بذلك طائفة من السلف كالفضيل وغيره. وبقدر ما يكون الإخلاص يعظم الأثر ويزداد النفع، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله، وتتفاضل أيضاً بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل، بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلاً لا يحصيه إلا الله تعالى"(4) ا هـ. والشاهد من كلامه ـ رحمه الله ـ أن الأعمال إذا كان يقع بينها هذا التفاضل بسبب ما بينها من التجريد والمتابعة، فلا بد أن تكون آثارها كذلك؛ لأن الآثار ـ في الحقيقة ـ فرع عن سلامة الأعمال من محبطاتها أو منقصات أجرها. ثالثاً: من أسباب حرمان آثار العبادات وعدم التلذذ بها: اقتراف الذنوب والمعاصي! ولله! كم لهذا السبب من أثر عميق في محق البركات السماوية والأرضية! ومن أعظم البركات التي تمحقها الذنوب محق بركة العبادة وفقد آثارها، وحرمان لذتها؟! يقول الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96). وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن ما أصاب ويصيب الأمم الغابرة واللاحقة من نقص الدين والدنيا إنما هو بسبب الذنوب، ولست بصدد الحديث عن آثار الذنوب والمعاصي، ولكنها إشارات عابرة، وأحيل القارئ الكريم في هذا إلى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ "ومن أحيل على مليء فليحتل" في كتابه ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) فقد شفى وكفى. سئل وهيب بن الورد ـ رحمه الله ـ:أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من همّ! ـ أي من همّ بالمعصية ـ! فإذا كان هذا أثر الهم بالمعصية فما الظن باقترافها، والولوغ فيها والإصرار عليها؟! وإليك ـ أيها القارئ الفاضل ـ نفثة ربانية من كلام من نوّر الله بصائرهم بهذه الأمور، فعرفوا خطورة الذنب الواحد، فضلاً عن ذنوب كثيرة، يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ: "وربما كان العقاب العاجل معنوياً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل:يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟فقيل له:كم أعاقبك وأنت لا تدري!أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟...إلى أن قال:فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك...وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس(5)"ا هـ. ويقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عندما تحدث عن عقوبات الذنوب والمعاصي: "ومن عقوبات الذنوب أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته من قلب العبد لما تجرأ على معاصيه... إلى أن قال:فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيمَ حرماته، وتعظيمُ حرماته تحول بينه وبين الذنوب(6) "ا هـ. والمقصود هنا بيان أثر الذنوب في حرمان لذة العبادة، وآثارها على سلوك الفرد. وبعد هذا، فلنلج إلى لب هذه الورقة، للحديث عن شيء من الآثار السلوكية للحج، في الحلقتين التاليتين بإذن الله. ______________ (1) نقله ابن القيم عنه في مدارج السالكين، ينظر:"تهذيبها" 1/368 في آخر كلامه على منزلة التوبة. (2) صيد الخاطر ص (292). (3) صيد الخاطر ص (292). (4) ينظر تهذيب مدارج السالكين 1/300. (5) صيد الخاطر (80) وفي نفس الصفحة تجد كلمة وهيب بن الورد السابقة. (6) الجواب الكافي ص/ 67، ط. دار البيان.
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() الحج وآثاره السلوكية (3/4) د.عمر بن عبد الله المقبل هذه الحلقة ،هي الجزء الأول من الحديث عن لب هذه الورقة ، وبيت القصيد فيها ، ألا وهو ذكر بعض آثار الحج السلوكية. وقبل أن أذكر هذه الآثار ، يقال : لا يخفى أن الحج عبادة من أعظم العبادات ، رتب الشرع عليه ثواباً عظيماً لمن كان حجه مبروراً ، كما قال _عليه الصلاة و السلام_ فيما رواه الشيخان:" الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ، وعندهما أيضاً أنه _صلى الله عليه وسلم_ قال: " من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه " . وهذه الفضيلة العظيمة إحدى بل هي من أجل المنافع التي أشار إليها _تبارك وتعالى_ بقوله : " ليشهدوا منافع لهم" ،وتأمل ـ أيها القارئ الكريم ـ قوله : " منافع " فهي عامة في المنافع الدينية والدنيوية . والمتأمل في الحج يجد أن أعظم مقاصده هو تحقيق العبودية لله_جل وعلا_ وتوحيدُه بإفراده وحده _سبحانه_ بالعبادة ، ولهذا لما ذكر الله_تعالى_ جملة من آيات الحج قال:"ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين" [الحج :34]. قال بعض أهل العلم في تفسيره لهذه الآية : " إن أجناس الشرائع وإن اختلفت في بعض التفاصيل فهي متفقة على هذا الأصل وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية،وترك الشرك به،ولهذا قال:" فله أسلموا" أي:انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلامَ له،هو الطريق الموصل إلى دار السلام وهي الجنة " ا هـ . إن مظاهر التسليم والانقياد في هذه العبادة واضحةٌ جداً ، ولهذه المظاهر أثر عظيم على زيادة الإيمان ، واستقامة السلوك . إذا عُلِمَ هذا ، فليس من المستغرب أن تكون جميع المظاهر التي يراها المسلم إنما هي نابعة من شجرة التوحيد المباركة ،ولا يمكن أن تنفصل عنه، حتى ما قد يظنه البعض من أنه مظهر اجتماعي أو نحو ذلك ،فإنه عند التأمل فرع من فروع تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ،فاجتماع المسلمين،وتآلفهم،وتعارفهم على بعض هو من ثمار الموالاة لأهل ( لا إله إلا الله ) . والمقصود أن مظاهر التوحيد في الحج كثيرة،تبرز للمسلم في كل موقف من المواقف التي تتصل بنسكه ، ولعلي أبدأ بأول هذه المواقف مع الإشارة إلى بعض آثارها السلوكية : الموقف الأول : عندما يسافر الإنسان إلى البيت الحرام لأداء شعيرة الحج ، ألا يستشعر مِنّة الله عليه وفضلَه ،أن هداه لهذا السفر المبارك في الوقت الذي يسافر فيه البعض من المسلمين يمنة ويسرة لإمضاء إجازة العيد للترويح ، أو لتحصيل شهوة قد تكون محرمة ، أو يسافر إلى بلاد الكفر من غير حاجة أو ضرورة ! وهل يتذكر ـ المسلم ـ نعمة الله عليه أن يسر له السفر والوصول إلى تلك البقاع المقدسة ،في الوقت الذي يتمنى ويشتاق كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الوصول إلى البيت فلا يستطيعون إما لقلة ذات أيديهم أو لغير ذلك من الموانع ؟! ولهذا لما رأى بعض الصالحين الحجاج وقت خروجهم من بلدهم إلى مكة يريدون الحج وقف يبكي ويقول : واضعفاه .. ثم تنفس وقال : هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت ، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت . ولعل البعض قرأ قصة ذلك المسلم الذي قدم من الجمهوريات الإسلامية ـ بعد سقوط الشيوعية ـ فلما وصل إلى المسجد الحرام ورأى الكعبة بكى بحرقة ، وأخذ يتذكر ويقول : هذا بيت الله الذي كان يحدثنا عنه والدي ، والذي كان يتحرق شوقاً إلى رؤيته لكنه منع من قبل طواغيت الكفر ، فمات قبل أن يراه . الموقف الثاني : في لباس الإحرام يتجرد المسلم من اللباس الذي اعتاده ،إلى لباس يستوي فيه الجميع :الغني والفقير، والأمير والحقير، وهو تأكيد لأصل عظيم في هذا الدين ،ألا وهو أن الناس سواء لا فضل لعربي على أعجمي ،ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى : أرى الناس أصنافاً ومن كل بقعة * *إليك انتهوا من غربة وشتات تـســاووا فلا أنساب فيها تفاوت* * *لديك ولا الأقدار مختلفات وقول الله أبلغ :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير) . هذا المشهد العظيم يبعث في النفس آثاراً عظيمة ،منها : أن توحيد اللباس فيه إشارة إلى توحيد الكلمة والمقصد، "فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين " . ومنها : أن الناس في ميزان العبودية سواء الله ربهم وهم عبيده ، فأكرمهم عنده أتقاهم ، وأرفعهم منزلة من زاد ذله لمولاه ،وعَظُمَ انكساره بين يدي ربه ،وكًثُرَ طرقه لباب سيده ،أما مناصب الدنيا فلا وزن لها هنا. الموقف الثالث : التلبية ، وما أدراك ما لتلبية ؟ التي تستمر مع الحاج منذ تلبسه بالحج إلى أن يرمي جمرة العقبة يوم العيد ، هذا النداء الخالد الذي يعلن فيه العبد استجابته لنداء الله الذي أعلنه إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ كما في قوله _سبحانه_ : " وأذن في الناس بالحج" هذه التلبية التي قال عنها جابر ـ رضي الله عنه ـ في وصفه لحجة المصطفى _عليه الصلاة والسلام_:" فأهل رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ بالتوحيد " ،وتأمل قوله: " بالتوحيد " ،وذاك لأمرين : أحدهما : أن أهل الجاهلية كانوا إذا لبوا قالوا: " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك " فكانوا يشركون في التلبية . الثاني : أن هذه الجملة العظيمة اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة؛ الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فقوله: " الملك لك" إشارة إلى توحيد الربوبية ، وقوله:" لبيك لا شريك لك" إشارة إلى الألوهية ، وقوله:" إن الحمد والنعمة لك" إشارة إلى توحيد الأسماء والصفات . إذن هي ألفاظ ومعان عظيمة ، فيها ثناء على الله _تعالى_، واعتراف باستحقاقه للعبادة وحده _سبحانه_ ،واعتراف بأن النعم كلها من عنده ، وأنه _سبحانه_ هو المستحق للحمد كله ، لهذا ينبغي أن يكون لها آثار على سلوك الحاج ، ومن ذلك : 1 ـ أن يحمد الله _عز وجل_ على هدايته للتوحيد في الوقت الذي يقع فيه بعض المنتسبين للإسلام في صور من الشرك عظيمة إما لجهلهم ، أو لاعتقادهم أن عملهم هو الدين الحق فزُين ذلك لهم حتى صار ديناً لا يتحولون عنه _والعياذ بالله_ ، فليحمد العبد ربه وليعلم أن هدايته محض فضل الله _تعالى_ عليه . 2 ـ ومن الآثار أيضاً : أن يحمد المسلم ربه أن جعل قلبه مستيقناً يقيناً لا شك فيه بأن الله _تعالى_ هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ،لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وأن ما سوى الله من المعبودات لا يستحق ذلك ، يستحضر العبد ذلك وهو يرى بعض صور الشرك التي يقع فيها بعض الحجاج الجهلة ! ويستحضر المسلم ذلك وهو يتذكر الأمم الكثيرة ـ الغابرة والحاضرة ـ التي وقعت في لوثة الشرك فرأته ديناً صواباً ـ عياذاً بالله ـ يتذكر وحمد ربه أن عصمه من ذلك ، وهذا يدعوه إلى سؤال الله _تعالى_ الثبات على التوحيد حتى الممات ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء . 3 ـ ومن الآثار أيضاً : أن يكون العبد على وجل وخوف إذا لبى من عدم إجابة تلبيته وقبول حجه ،وهذا الخوف ينبغي أن يدفعه لمزيد الإحسان في العمل ، وفي الوقت نفسه ينبغي أن يحذر من القنوط ، بل يجمع بينهما . فهذه إشارة عابرة إلى التلبية وما فيها من معان عظيمة ، والتي ينبغي أن نتذكرها حينما نلبي ، وألا نكون كحال بعض الناس الذي يرددها وكأنه يردد قصيدة ملحنة !! ولعل تذكر هذه المعاني ـ أخي القارئ ـ لعل هذا هو السبب فيما نقل عن بعض السلف أنه كان إذا لبى غلبه تذكره فأغمي عليه ،كما روى ذلك الإمام مالك عن علي بن الحسين ( زين العابدين ) ـ رحمهما الله تعالى ـ أنه أحرم ،فلما أراد أن يلبي قالها ،فأغمي عليه وسقط من ناقته فهشم _رحمه الله_ ،فقيل له في ذلك ؟ فقال : أخشى أن أجاب بلا لبيك ! وقد رأيت بنفسي رجلاً ـ صحبته في الحج ـ لما أحرم بدأ بالتلبية فغلبه البكاء،وذلك أنه تذكر موقفاً وقع لأحد أئمة التابعين وهو محمد بن المنكدر ، وذلك أنه روي عنه أنه لما بدأ في التلبية سكت في منتصفها وقال :أخشى أن أُجاب بغير ما أريد،يعني أنه خشي أن يقال له : لا لبيك ولا سعديك، فغلبه البكاء حتى سقط عن راحلته ـ رحمه الله تعالى ـ . الموقف الرابع : الحاج يفعل في حجه أموراً كثيرة ،قد لا يدرك لها حكمة سوى تحقيق العبودية والاستسلام لله_تعالى_،والمتابعة للنبي_ صلى الله عليه وسلم_ ، وهذا كله يثمر التقوى، ومن ذلك مثلاً : تقبيل الحجر الأسود ، أمر لا يعلم له المسلم تفسيراً سوى المتابعة المحضة للنبي_صلى الله عليه وسلم_ ولهذا كان عمر_رضي الله عنه_ يقول ـ كما في الصحيحين ـ :" والله إني لأقبلك،وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقبلك ما قبلتك "ولله در عمر،فإنه أراد أن يعلم ويربي من تبلغه هذه المقولة أن الأمر محض استسلام ومتابعة : فما البيت والأركان والحـجر والصفا* وما زمـزم أنت الذي قصدنـاه وأنت منانا ، أنت غايـــة سؤلــنا *** وأنت الذي دنـيا وأخرى أردناه وهكذا الشأن ـ أيها الأحبة ـ في جميع المناسك ،يسأل الحاج أحياناً : لماذا الطواف بالبيت ؟ ولماذا لم يكن خمسة أشواط بدل سبعة ؟ وما الحكمة من السعي ؟ ورمي الجمار ؟ والمبيت بمنى والنحر ، و....و.... أسئلة كثيرة ..لا نعلم لها جواباً إلا أن الأمر محض استسلام وتعبد ، وتعظيم لشعائر الله _عز وجل_ ، وإقامة ذكره _سبحانه وبحمده_ ، وأن الهدف من ذلك هو حصول تقوى الله _سبحانه_ ، ولهذا قال الله _عز وجل_:" لن ينال الله لحومها و لا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين" والشاهد قوله : " لتكبروا الله على ما هداكم" أي: لتعظموه وتجلوه جزاء هدايته إياكم فإنه يستحق أكمل الحمد ،وأجل الثناء ، وأعلى التعظيم، ويقول _تعالى_ : " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" ، ويقول _سبحانه_ :"الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب" . ومع هذه التساؤلات التي أشرت إليها آنفاً، فالمسلم لا يعتريه شك في أن هذه الأعمال هي من صلب أعمال المناسك ،وأنه لو لم يفعلها لم يصح حجه أو نقص أجر حجه ، ولكن ابحث عن أثر هذا الاستسلام في حياة بعض الحجاج خاصة والمسلمين عامة !! وابحث عن هذا الإقدام على الامتثال للأوامر ، فسترى عجباً . إن من الناس من يبلغه الأمر عن الله وعن رسوله_صلى الله عليه وسلم_ في بعض الأمور ، فيبدأ في التساؤلات ،وإبداء الإشكالات التي لا تنبئ عن بحث عن الحق أو التماس للحِكَم ، ولكنها تنبئ عن نوع من التردد أو التباطؤ في فعل هذا الأمر أو اجتناب ذاك النهي !! فلماذا هذا النظر إلى الأوامر والنواهي ؟! والله _تبارك وتعالى_ يقول في محكم كتابه : "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً". الموقف الخامس : يجد المسلم في الحج والعمرة أيضاً أن الإحرام له محظورات يمتنع المسلم منها حال إحرامه ـ رغم أنها من أطيب الطيبات ـ كالطيب ولبس الثياب التي تفصل على الجسم ، وغيرها من المحظورات، ويلحظ المسلم أيضاً أن الحرم له أحكامه التي تخصه، فلا ينفر صيده، ولا يعضد شوكه ، ولا تحل لقطة الحرم إلا لمنشد ،إلى غير ذلك من الأحكام التي جاءت بها النصوص ، وبسط أهل العلم الكلام عليها ،وأيضاً شُرع للمسلم أن يأتي البيت على أحسن هيئة ، ولباس معظم ـ وهو الإحرام ـ ولا يجوز للحاج أن يخرج من مكة بعد حجه إلا بعد طواف الوداع ما لم يكن معذوراً شرعاً ، ويلاحظ المسلم أيضاً أن الحج مضبوط بأوقات وأماكن محددة ، لا يجوز أن يتجاوزها المسلم ، فلماذا كل هذا ؟ لا شك أن هذا كله من تعظيم شعائر الله_تعالى_ ؛ لأن تعظيمها تعظيم لأمر الله ، وهذا يورث في النفس من الاستكانة ، والخضوع ،والاستسلام والذل لله ، وانشراح الصدر ما لا يستطيع وصفه أعظم الناس بلاغة وفصاحة، وهذا ـ والله ـ هو مقصود العبودية الأعظم، وبه تعلو درجة العبد عند ربه وتمحى عنه آثار الذنوب والمعاصي . ومن ذلك أيضاً أثر سلوكي آخر ألا وهو : قيام عبودية المراقبة لله_تعالى_ ، فالحاج يطوف ويسعى ويرمي الجمار ويبيت بمنى ويقف بعرفة وينصرف منها كل ذلك حسب العدد والزمان والمكان الذي حدده الشرع، ولا يخطر بباله أن يجعل الطواف ثمانية أشواط مثلاً،والسعي ـ لأنه طويل ـ سيختصره إلى خمس،أو أنه يفكر في أن يزيد في عدد حصى الجمار ،كلا كل ذلك ليس في باله ولم يحم طائر تفكيره حوله ، فلماذا ؟ لأنه يعلم أن الله _تعالى_ مطلع عليه ولأنه يخشى فساد أو نقص حجه ؟ وهذا أثر عظيم ، ودرس كبير ، يبعث المسلم إلى مراقبة ربه_تعالى_ في سائر أعماله وشتى أحواله ، فالمطلع على أحوال الحج مطلع على غيره من الأعمال . ومن الآثار السلوكية أيضاً : الاعتياد على اغتنام الأوقات ـ رأس مال الإنسان ـ والعلم بأن لكل وقت من أوقات المسلم له وظيفته التي جعلها الله لها . فهذا الحاج لو فاته الوقوف بعرفة،أو رمى في غير وقت الرمي،أو بات خارج منى ـ بلا عذر ـ أو غيرها من الأعمال ،إما أن يفسد حجه أو ينقص حسب رتبة العمل . والمقصود من ذلك أن يعود المسلم نفسه على ترتيب وقته ومحاولة اغتنامه ، وعدم تضييعه ، فإن العمر قصير والواجبات كثيرة . وللحديث صلة في الحلقة القادمة _بإذن الله_ .
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |