حرية الرأي.. رأي آخر.. - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         أسباب وعوامل خطر الإصابة بسوء التغذية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          أطعمة تحتوي على الكربوهيدرات (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          إنقاص الوزن بعد الولادة: طرق آمنة وفعالة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          ما هي أعراض سرطان الخصية؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          9 أطعمة تسبب الإمساك! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          متى يكون السعال خطيرًا؟ وما أسبابه؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          أضرار الكينوا: مخاطر غير متوقعة عليك معرفتها! (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 1 )           »          كل ما تود معرفته عن الفلفل الأبيض (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 5 )           »          إدارة الجودة الشاملة في عصر الذكاء الاصطناعي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 13 )           »          انهيار الدولار: انهيار عالمي متخفي.. إلى أي مصير نسير؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 14 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > القسم العام > الملتقى العام
التسجيل التعليمـــات التقويم

الملتقى العام ملتقى عام يهتم بكافة المواضيع

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 16-06-2010, 08:45 PM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي حرية الرأي.. رأي آخر..

من أخطر أنواع الغزو الإخضاع للفكر بتمرير مصطلحات على أنها حق لا يقبل الجدال، وهو ما وقع فيما يسمى حرية الرأي؛ إذ استسلم لها المفكرون المسلمون، واجتهدوا في استخراج ما يسندها من النصوص الشرعية على أنها حق لا يقبل الجدال، وهذه الدراسة المختصرة تلقي الضوء على هذه الإشكالية برأي جديد يخالف السائد.

معنى الرأي:
الرأي: هو النظر بالقلب.[1] ويطلق على الاعتقاد.[2]

قال الراغب: «والرأي اعتقاد النفس أحد النقيضين عن غلبة الظن».[3]
قال ابن القيم: «وحقيقته ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات، فلا يقال في الأمر الذي لا تختلف فيه العقول ولا تتعارض فيه الأمارات إنه رأي».[4]

فهذا الرأي الاصطلاحي عند علماء اللغة والشريعة، ومنه رأي محمود[5]، ورأي مذموم.[6]

اختلاف الرأي في الإسلام عنه عند الغربيين:
الرأي في الاصطلاح الغربي وعند من جرى عليه من المفكرين المسلمين أوسع مما ذكر علماء اللغة أو الشريعة، فهو عندهم كل ما يصدر عن الإنسان من قول سواء باللسان أو الإشارة أو الكتابة، ويسمونها حرية الرأي، وحرية إبداء الرأي، وحرية التعبير، وحرية القول، وحرية الضمير، وبعضهم يدخلها تحت حرية الفكر، ويقصد بحرية الفكر، أي: حرية إبدائه وإشهاره.

فحين نتناول حرية الرأي في الاستعمال المعاصر لا يصح أن نستدعي معنى الرأي عند المتقدمين، ونحصر الرأي في ما قالوا مما يوجب النظر والتفكير، وهو محل اختلاف واجتهاد، سواء ما كان منه محموداً أم ما كان منه مذموماً، بل يجب تناول حرية الرأي بحسب اصطلاح واضعيها، والناقلين عنهم.

واستعمالهم لها فضفاض واسع يشمل كل ما يصدر عن الإنسان من أقوال، وما يجري مجراها من كتابات وتصاوير ورسوم ونحوها، وهذا يتبين من نصوصهم سواء في المواثيق الدولية أو كتابات المفكرين.

وحرية الرأي بهذا المصطلح الواسع هو ما نصت عليه المواثيق الدولية، وإعلانات حقوق الإنسان كلها:
ففي المادة التاسعة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نصوا على أمور ثلاثة:
1- لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير.
2- يشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، أو تدخل.
3- له الحق في التماس الأنباء والأفكار، وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود.[7]

وواضح في هذه الفقرات أن الرأي يعم كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصدر عنه من آراء وأفكار سواء كانت محمودة شرعاً أم مذمومة شرعاً، وسواء كانت تحتاج إلى تفكير ونظر أم كانت لا تحتاج إليه.

ثم أُكد على هذه الحقوق في حرية التعبير في المادة التاسعة عشرة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. [8] وفي المادة العاشرة من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.[9] وفي الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان الصادرة عام1969م، وزادوا فيها: لا يجوز أن تخضع ممارسة الحق المنصوص عليه في الفقرة السابقة لرقابة مسبقة، بل يمكن أن تكون موضوعاً لفرض مسئولية لاحقة يحددها القانون صراحة، وتكون ضرورية من أجل ضمان:
1- احترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
2- حماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق العامة.[10]

وورد في الميثاق الأفريقي الصادر عام 1979م: يحق لكل إنسان أن يعبر عن أفكاره وينشرها في إطار القوانين واللوائح.[11]

وفي المادة الثانية والعشرين الميثاق العربي لحقوق الإنسان المنبثق عن جامعة الدول العربية: حرية العقيدة والرأي مكفولة لكل فرد.
وفي المادة الثالثة والعشرين: للأفراد من كل دين الحق في ممارسة شعائرهم، كما لهم الحق في التعبير عن أفكارهم عن طريق العبادة أو الممارسة أو التعليم، وبغير إخلال بحقوق الآخرين، ولا يجوز فرض قيود على حرية العقيدة والفكر والرأي إلا بما ينص عليه القانون.[12]
وفي المادة العاشرة من مشروع ميثاق حقوق الإنسان والشعب في الوطن العربي: لكل إنسان الحق في حرية الرأي والتعبير عنها... ولا يجوز وضع قيود على ممارسة هذه الحقوق إلا بموجب القانون وفي أضيق الحدود وبخاصة من أجل احترام حقوق الآخرين.[13]

والمقررون لحرية الرأي من المفكرين المسلمين يعرفونها بأنها: تمكين الفرد من إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأي وسيلة كانت.[14]

وبهذا يتبين أن تناولهم لحرية الرأي هو نفس التناول الغربي غير أنهم قيدوها بقيود اختلفت عباراتهم في تقريرها كما سيأتي.

أهمية حرية الرأي عند القائلين بها:
كثير من المفكرين الغربيين والمسلمين يعدون حرية الرأي هي أهم أنواع الحرية، حتى قال وليام تشاننج عنها: «إنها أشد حقوقنا قدسية».[15]

ويقول فولتير: «إني كاره لما تقول وأخالفك الرأي في كل حرف فيه ولكني أقاتل حتى الموت في سبيل حقك أن تقوله». [16]
ويقول شاتوبريان: «إننا لا نفقد شيئاً إذا بقيت لنا حرية الرأي». [17]

ويجعلون أهم سبب للتقدم هو حرية الرأي فيقولون: إن التقدم قبل أن يدخل أمة يقف ببابها ويسأل هل عندكم حرية رأي؟ فإذا أجابوه بنعم دخل واستقر، وإن أجابوه لا ولى هارباً إلى غير رجعة. [18]

ويرى جون ميلتون: «أن البشر كلهم إذا آمنوا برأي وجاء فرد واحد برأي جديد ثم حاولت البشرية جمعاء أن تسكت هذا الرأي كان خطؤها في ذلك لا يقل عن خطأ الفرد الواحد حين يحاول إسقاط الرأي الذي اجتمعت عليه البشرية».[19]

والمقررون لهذا النوع من الحرية من الغربيين ومن وافقهم من الليبراليين العرب لا يعترفون بالدين قيداً يقيدها، بل يطلقونها من قيود الشريعة، بحجة عدم قبول أي ضغوط على الرأي، ولا يخفى ما في ذلك من مناهضة لعبودية المؤمن لله تعالى.

يقول برتراند راسل: «إن حرية القول هي أن تكون إرادتنا التي نعبر عنها وليدة رغباتنا، وليست وليدة قوى ملزمة تضطرنا أن نفعل ما لسنا نريد أن نفعله».[20] وأكد مونتسكو على أن الحرية هي: «عدم الانصياع لغير الذات».[21]

ومعلوم أن المؤمن يمنعه من إبداء رأيه في أكثر حالات الرأي خوفه من انتهاك حمى الشريعة الربانية، والوقوع في إثم القول، كالقول على الله تعالى بلا علم كما أنه في حالات أخرى يؤخذ بإبداء رأيه ويعاقب عليه حداً أو تعزيراً، كالقذف.

ويبلغ تقديس الرأي عند منظري الحرية مبلغاً يدعو فيه أكبر فيلسوف نظّر للحرية وقررها وهو الفيلسوف الإنجليزي جون سيتوارت ميل إلى تعمد الخطأ والباطل في مواجهة الصواب والحق حين يتحدث عن الرأي السائد، ويقسمه إلى صواب وخطأ، ثم يقرر في الصواب أنه لا بد من معارضة هذا الصواب بما يناقضه من الخطأ حتى يتمكن الذهن من الإحاطة بالحق إحاطة تامة والشعور به شعوراً عميقاً.[22]

وفي موضع آخر يؤكد ذلك فيقول: إذا فرضنا جدلاً أن الرأي السائد موافق للصواب، ومشتمل على كل الحقيقة كان من الضروري إطلاق الحرية للمناقشة فيه مناقشة حادة غير فاترة.[23]

وهذا التعميم لمواجهة كل صواب بخطأ معارض للشرائع وللعقل وهو من لبس الحق بالباطل، ومن الأمر بالمنكر، ومن قول الزور، ومن البغي، ومن التحريف، وكل أولئك جاءت آيات قرآنية، وأحاديث نبوية تنهى عنه، فلا يصح تعميم مواجهة كل صواب بخطأ، وكل حق بباطل لعامة الناس وإلا لضلوا، كما لا يصح ذلك لفئات المتعلمين إلا لغرض صحيح.

وإذا كان تقديس الرأي لدى الغربيين ومن وافقهم من الليبراليين العرب قد بلغ هذا المبلغ؛ فإن كثيراً من المفكرين المسلمين استنسخوا مقولات الغربيين والليبراليين العرب في حرية الرأي، مع زيادة شيئين:
الأول: أنهم زعموا أن الإسلام سبق إلى حرية الرأي وتقريرها، أو على الأقل لم يعارضها.
الثاني: أن أكثرهم ضبطوها بضوابط شرعية.

ومن أقوالهم في حرية الرأي:
1- إذا كانت حرية الرأي من أهم الحقوق الإنسانية في العالم المعاصر فإن الإسلام سبق هذه الآراء الوضعية بأكثر من ألف وأربعمائة عام وأكثر، حيث اعتبر الإسلام حرية الرأي من الحقوق المقدسة لأي شخص.[24]
2- كفل الإسلام للناس أن يقولوا ما يشاءون، ويبدون آراءهم دون أن يمسوا مشاعر الناس وعقائدهم.[25]
3- لا تقف حرية الرأي في العقيدة الإسلامية عند حق الجدال التماساً لطمأنينة العقل... بل هي تكليف لا يجوز لمؤمن أن يفرط فيه، وفريضة لا يحل أن يتخلى عنها أو يتهاون بها بمقتضى الأصل الثابت من أصول العقيدة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وتقوية الإيمان بالله بالتواصي بالحق الذي هو حرية الرأي وحرية التعبير.[26]
4- إن حرية إبداء الرأي تعد بمثابة العمود الفقري للحريات الفكرية؛ ذلك أنه إذا كان من حق الإنسان أن يفكر... فإن حقه هذا يبقى ناقصاً إذا لم يتمكن من التعبير عن أفكاره وآرائه ومعتقداته... ولقد بلغ من اهتمام الإسلام بحرية الرأي أن اعتبرها ضرورة لا مجرد حق[27].
5- وكل شيء في الإسلام قابل للمناقشة العقلية ابتداء من وجود الله إلى أبسط المسائل[28].

أدلتهم على حرية الرأي:
يستدل الداعون لحرية الرأي من المسلمين بجملة أدلة يمكن تقسيمها بحسب موضوعاتها إلى قسمين:
القسم الأول: البراءة الأصلية، وهوأن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يحرم بنص من القرآن أو السنة، ولا يوجد في الكتاب أو السنة ما يمنع المسلم من ممارسة حقه في حرية الرأي والتعبير.[29]

وبعض أصحاب هذا الاتجاه في الاستدلال يجعلون الإباحة في الأحكام التكليفية هي الحرية، أو ما يسميه الأصوليون: الحكم التخييري[30].

القسم الثاني: النصوص القرآنية والنبوية، وهي على أنواع:[31]
النوع الأول: نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النوع الثاني: نصوص الصدع بالحق والتواصي به.
النوع الثالث: نصوص الدعوة إلى الله تعالى.
النوع الرابع: نصوص النصيحة.

ووجه احتجاجهم بها: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالحق، والدعوة إلى الله تعالى، وإسداء النصيحة، كلها من الآراء التي يبديها أصحابها ويظهرونها ويعلنونها في الناس، فكان الإسلام بها سابقاً إلى حرية إبداء الرأي وإظهاره.

نقد استدلالاتهم على حرية الرأي:
أولاً: الاستدلال بأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولم يرد دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحريم الرأي، هذا غير صحيح؛ إذ دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن الأصل في الرأي التقييد وليس الإطلاق، أي: التحريم وليس الإباحة. وسيأتي عرض هذه الأدلة في موضعه إن شاء الله تعالى.

ثانياً: أن استدلالهم لحرية الرأي بالنصوص من الكتاب والسنة الدالة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والنصيحة والدعوة إلى الله تعالى فيه تكلف، وعسف للنصوص، وليٌّ لأعناقها، وجرٌّ لها في غير ميادينها؛ إذ الفروق بين هذه الأربعة -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والدعوة إلى الله تعالى والنصيحة- وبين حرية الرأي في المفهوم المعاصر فروق كبيرة تصل في كثير من الصور إلى التعارض والتضاد، ومن هذه الفروق:
أولاً: في تعريف كل منها:
فالمعروف عرفه الطبري بأنه: «كل ما أمر الله تعالى به أو ندب إليه من أعمال البر والخير».[32] وقال السمعاني والبغوي: «هو ما يعرفه الشرع».[33]
والمنكر هو ما نهى الله تعالى عنه[34] وقيل: «المنكر كل ما ينكره الشرع». [35]
وهو يعم جميع المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها.[36]

وأما النصيحة فأوفى تعريف لها وقفت عليه هو تعريف ابن الصلاح رحمه الله تعالى قال: «النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلاً».[37]

وأما الدعوة إلى الله تعالى فهي: الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا.[38]

وأما الحق فهو: الثابت في نفس الأمر.[39] والصدع به هو الجهر به وإبانته وإظهاره.[40]

أما حرية الرأي فقد مضى أنه يراد بها: تمكين الفرد من إبداء آرائه وأفكاره بحرية تامة بأي وسيلة كانت.[41] وهذا يعم كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو كتابة أو إشارة أو صورة أو نحوها.

فيلاحظ في تعريفات المعروف والمنكر والنصيحة والدعوة بناؤها على الأصل الشرعي، والتركيز عليه، وهدفها تحصيل الإيمان والطاعة والحق والخير، بينما حرية الرأي كما يظهر من تعريفها لا تمنع من إبداء الكفر والمعصية والباطل والشر.

ثانياًً: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بالحق والدعوة إلى الله تعالى والنصيحة واجبات شرعية، وعبادات يؤجر عليها من قام بها، ويأثم بتركها إن كان قادراً على القيام بها. أما حرية الرأي عند المقررين لها من الغربيين ومن وافقهم فهي من المباحات لصاحبه، فلا يجب عليه أن يبدي رأيه؛ وذلك لأنه لا أثر للدين في التشريعات الغربية في قضايا الحرية، فهي مجرد حقوق مدنية دنيوية.

ثالثاً: أن هذه الشعائر الأربع الواجبة في الإسلام وما ماثلها تتعارض مع الحرية الشخصية في الفكر الغربي تعارضاً كبيراً؛ إذ إن الإنسان في الإسلام معبد لله تعالى، مستسلم لأمره حتى في أموره الخاصة، بينما هو حرٌّ في الفكر الغربي في حياته الخاصة بشرط أن لا ينتهك حرية الآخرين؛ ولذا كانت حرية الرأي في أكثر استعمالاتها الغربية لا تتعارض مع الحرية الشخصية عند الغربيين؛ بل تتسق معها في الغالب، وفي الحالات التي يقع فيها تعارض تحسم القضية لمصلحة الحرية الشخصية فتقدم على حرية الرأي.

يقول ميل: إن الفكرة القائلة بأن من واجب الإنسان حمل غيره على إطاعة أوامر الدين هي الأصل والأساس لكل ما ارتكبه البشر من ضروب الاضطهاد الديني، فإذا سلمنا بصحتها وجب أن نسلم بمشروعية كل ما وقع من حوادث الاضطهاد ... وما هو في الواقع إلا تصميمنا على منع الفرد من مباشرة ما هو محلل في دينهم؛ لأنه محرم في ديننا اعتقاداً منا بأن الله سبحانه وتعالى لا يكتفي بإنزال نقمته على الملحد حتى يعدنا مقصرين ومذنبين إذا نحن تركناه في إلحاده آمناً مطمئناً.[42]

وفي هذا النص من عرَّاب الحرية الغربية وفيلسوفها ميل ما يدل على تعارض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الحرية؛ لأن في الأمر بالمعروف حملاً على الطاعات، كما أن في النهي عن المنكر حملاً على ترك المحرمات.

الأدلة على أن الأصل تقييد الرأي:
دلت أدلة كثيرة على أن تقييد الرأي والحد منه هو الأصل في الإسلام، وأن إطلاقه هو الاستثناء، على عكس ما ساد في الفكر الغربي والناقلين عنه من العلمانيين والمفكرين المسلمين، ومن هذه الأدلة ما يلي:
أولاً: أن الباطل من الآراء، والشر من الأقوال، أكثر من الحق والخير فيها، وميزان الحق والباطل والخير والشر هو الكتاب والسنة، ودليل ذلك: أن المؤمنين في أغلب فترات التاريخ البشري كانوا أقل من الكفار، بنص القرآن: قال الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ ﴾ {الصَّفات:71}.

وكان هذا الحكم عاماً في التاريخ البشري بدليل الله قول تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ {هود:17} وقال تعالى ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ {يوسف:103} وتكرر في ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم قول الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ {الشعراء:67}.

ولا يشك مؤمن في أن ما ينتج عن الكفار من آراء أكثره من الباطل والشر، فكان بهذا الاعتبار أكثر من الحق والخير، وقد دلت الأدلة على هذه الحقيقة، ومنها:
قول الله تعالى ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ {الأنعام:116}. وقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ {الأنعام:119}.

وكثيراً ما تكرر الوصف القرآني في أكثر البشر أنهم لا يعقلون ولا يعلمون:
قال الله تعالى ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ {الأعراف:187}. وقال تعالى: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ {المائدة:103} وقال تعالى: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ {العنكبوت:63}.

فإذا كان أكثر الناس لا يعقلون، ولا يعلمون، فإن ما يصدر عنهم من الآراء لن يكون حقاً ولا خيراً ولا صواباً، بل أكثره باطل وشر وخطأ، وإذا كان ذلك كذلك فكيف يسوغ أن نطلق الرأي، ونقول إن الإسلام يطلقه، ثم نضبطه بضوابط؟!

وإذا ضم إلى ذلك آراء المخطئين من أهل القبلة، وهم ينتج عنهم آراء باطلة كثيرة، والبدع القولية والفعلية المحدثة في أمة الإسلام أكثر من أن تحصى، وهي من الرأي الباطل، والأحاديث الدالة على افتراق هذه الأمة تدل على ذلك ومنها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ افْتَرَقُوا في دِينِهِمْ على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وان هذه الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يعني الأَهْوَاءَ- كُلُّهَا في النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً وهي الْجَمَاعَةُ» [43] فما نتج عن هذه الفرق الكثيرة من آراء وأهواء فارقت فيها الحق كلها آراء باطلة، وهذه الآراء أكثر مما مع فرقة الحق الواحدة من الحق.

والواقع البشري يدل على ما قررته نصوص الكتاب والسنة؛ فإن الأديان والمذاهب الباطلة والأفكار الخاطئة، وما نتج عنها من كتب خرافية، وآراء كلامية فاسدة، أكثر مما كتب في مجال الحق سواء فيما يتعلق بالدين أو الدنيا؛ إذ الفرضيات والنظريات التي لم تصح أكثر من القطعيات التي صحت حتى في مجالات العلوم الدنيوية، وكل هذا الباطل مما يستثنى من حرية الرأي.

وإذا استثني كان المستثنى أكثر من المستثنى منه، وكان المخصوص أكثر من العموم، وانخرمت قاعدة حرية الرأي بكثرة ما خرج منها من أفراد الرأي، فانقلب الرأي في الإسلام إلى أن الأصل فيه المنع، والسماح بالرأي مخصوص من النهي العام، ومستثنى من المنع.[44]

ولا يرد على تقرير هذا أن كثرة التجارب في العلوم الدنيوية -وأكثرها كان خطأ- هي التي أوصلت لكثير من الحقائق؛ لأن الآراء والتجارب في أمور الدنيا إما أن تئول إلى ما ينفع البشرية فهي وسيلة إلى خير فتكون من الخير المأمور به، وإما أن تئول إلى ما يضر البشرية فهي وسيلة إلى شر فتكون محرمة. ومهما كانت كثرتها فلن تبلغ مبلغ الركام الضخم الذي أنتجته عقول البشر على مر القرون فيما يتعلق بالأمور الغيبية والدينية سواء كانت اعتقادية أم عملية في شتى الديانات والمذاهب، وهكذا ما يتعلق بالأخلاق والسلوك.

هذا؛ ونظرة المفكرين الغربيين على العكس من ذلك؛ فالفيلسوف ميل يرى أن الصواب في هذه الحياة أكثر من الخطأ، كما يرى أن كفة الصلاح والاستقامة أرجح من كفة الفساد والعوج.[45]

فالاختلاف في تقدير ما يصدر عن البشر من حق وباطل، وخير وشر، وصواب خطأ، هو الذي أدى إلى مخالفة ما يقرره الفكر الغربي لما جاء به الإسلام ولم يفطن الكتاب المسلمون الذين عالجوا قضايا الحرية لهذا الاختلاف الجوهري فوقعوا في الخطأ باتباعهم الغربيين في تقرير حرية الرأي.

كما أن الفكرة الغربية لعدم ثبات الحق والخير والصواب، وقولهم بنفي الحقيقة المطلقة، أو القول بتعددها، ينسجم مع تقريرهم في إطلاق الرأي، بخلاف ما تقرر في الإسلام من ثبات الحق والخير والصواب، وإثبات الحقائق المطلقة، ونفي تعدد الحق؛ لإيمان المؤمن بثبات ما دل عليه الكتاب والسنة.

ثانياً: أن طريقة القرآن هي تقييد الرأي، وجعل المباح منه مستثنى من المنع، وليس العكس، ودليل ذلك قول الله تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ {النساء:114}.
قال ابن عطية رحمه الله تعالى: الضمير في نجواهم عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه الآيات عامة التناول.[46]
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى (نجواهم) يعني: كلام الناس.[47]
وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيراً من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه.[48]
وقال السعدي رحمه الله تعالى: أي: لا خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون. وإذا لم يكن فيه خير، فإما لا فائدة فيه كفضول الكلام المباح، وإما شر ومضرة محضة كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: ﴿ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾.[49]

ثالثاً: أن نصوص الكتاب والسنة دلت على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي إلا إذا كان خيراً وليس إطلاقه، والخير يعرف بنصوص الشريعة، خلافاً للفكر الغربي الذي جعل الأصل في الرأي الإطلاق ولا يقيده إلا بقيود المصلحة الدنيوية، والأدلة على أن الأصل في الإسلام عدم إبداء الرأي إلا إذا كان خيراً كثيرة، ويمكن تقسيمها إلى أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الأدلة التي تفيد أن ألفاظ الإنسان تحصى عليه، ويؤاخذ بها في الآخرة؛ ليكون رقيباً على ما يقول، وهذا من أقوى القيود على حرية الرأي وأشدها: قال الله تعالى ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ {ق:18}. وقال تعالى ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ {الأحقاف:8}.وقال تعالى ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ {الزُّخرف:80}.وقال تعالى ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ {الانفطار:10-12}.

قال ابن عاشور: «وإنما خص القولُ بالذكر لأن المقصود ابتداء من هذا التحذير: المشركون، وإنما كانوا يؤاخذون بأقوالهم الدالة على الشرك أو على تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أذاه، ولا يؤاخذون على أعمالهم إذ ليسوا مكلفين بالأعمال في حال إشراكهم... ولأن من الأقوال السيئة ما له أثر شديد في الإضلال كالدعاء إلى عبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل بإلقاء الشُبَه، وتغرير الأغرار، ونحو ذلك».[50]

قلت: كل ما ذكره ابن عاشور من الأقوال السيئة مباح في الفكر الغربي، ويندرج تحت حرية الرأي، ومن حق أي أحد أن يدعو إلى الشرك وعبادة الأصنام، ونهي الناس عن اتباع الحق، وترويج الباطل، وإلقاء الشبه، وغير ذلك.

النوع الثاني: نصوص فيها أن الإنسان يحاسب يوم القيامة على ما ينطق به، مثل:
قول الله تعالى ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ {النور:24}.وقوله تعالى ﴿ اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ {يس:65}.وقوله تعالى ﴿ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ {الجاثية:29}. وقوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ {فصِّلت:20}.

والرأي هو نتاج العقل، واللسان يبلغه وينطق به، والكلام من عمل اللسان وكسبه، فتشهد الجوارح الأخرى عليه بما صدر عنه من آراء.

وما كان هذا التخويف بأن الألفاظ تحصى على الإنسان، ويحاسب يوم القيامة بما قال -ولو كان مجرد رأي- إلا ليتحفظ العبد من إطلاق لسانه في الكلام، فلا ينطق إلا بخير، فأين من هذا القولُ بحرية الرأي، والاستدلال له بآيات وأحاديث لا تدل عليه، وموضوعها غير موضوعه؟!

النوع الثالث: نصوص فيها أمر بحبس اللسان، وتحذير من مغبة ما يقول الإنسان، وإخبار أن أكثر عذاب الناس إنما هو بسبب الآراء التي نطقت بها ألسنتهم، وفيها تصريح بأن السكوت خير من النطق إذا لم يتبين أن النطق فيه خير، ومن هذه النصوص: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ ما يَتَبَيَّنُ فيها يَزِلُّ بها في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بين الْمَشْرِقِ[51] وفي رواية: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سُخْطِ الله لَا يَرَى بها بَأْسًا فَيَهْوِي بها في نَارِ جَهَنَّمَ سَبْعِينَ خَرِيفًا».[52]

وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ رضي الله عنه: «ألا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ الْجِهَادُ.... ثُمَّ قال: ألا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذلك كُلِّهِ؟ قلت: بَلَى، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فقال: تَكُفُّ عَلَيْكَ هذا، قلت: يا نَبِيَّ الله، وَإِنَّا المؤاخذون بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قال: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعَاذُ، هل يُكِبُّ الناس على وُجُوهِهِمْ في النَّارِ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»[53]

وروى سُفْيَانَ بن عبد الله الثَّقَفِيَّ قال: «قلت: يا رَسُولَ الله، ما أَكْثَرُ ما تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قال: هذا».[54]

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ... » [55]

وقد جعل بعض العلماء هذا الحديث من أربعة أحاديث في السنة يدور عليها جماع آداب الخير.[56] وهو من أبين الأدلة على أن الأصل الشرعي في الرأي هو التقييد وليس الإطلاق، خلافاً للفكر الغربي الذي يطلقه، ولمن وافق أهله من المسلمين.

قال النووي رحمه الله تعالى: «معناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيراً محققاً يثاب عليه واجباً أو مندوباً فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين فعلى هذا يكون الكلام المباح مأموراً بتركه مندوباً إلى الإمساك عنه مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه وهذا يقع في العادة كثيراً أو غالباً».[57]
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: «أمر بقول الخير وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يساوي قوله، والصمت عنه إما أن يكون خيراً فيكون مأموراً بقوله، وإما أن يكون غير خير فيكون مأموراً بالصمت عنه».[58]
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: «ومعنى الحديث أن المرء إذا أراد أن يتكلم فليفكر قبل كلامه، فإن علم أنه لا يترتب عليه مفسدة ولا يجر إلى محرم ولا مكروه فليتكلم وإن كان مباحاً فالسلامة في السكوت؛ لئلا يجر المباح إلى المحرم والمكروه».[59]
وقال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: «لا ينبغي لك أن تتكلم إلا بما يجر مصلحة أو يدرأ مفسدة».[60]

ولأجل تواتر الأمر بإمساك اللسان، والمحاسبة على الألفاظ، ذم العلماء الآراء في الدين، وكثرة التشقيقات والكلام، وسموا أهلها أهل الأهواء، وامتدحوا قلة الكلام، وحفظ اللسان، وحذروا من آفاته وألفوا في ذلك كتباً، وأفردوا فيه أبوباً؛ لكثرة ما جاء فيه من نصوص الكتاب والسنة.

عرض حرية الرأي على الأحكام التكليفية:
بناء على النصوص الواردة في خطورة الرأي والإفصاح عنه، والتي تحض على حبس اللسان تكلم العلماء في وظائف اللسان، وقسموا ما يصدر عن الإنسان من آراء إلى أقسام يحسن عرضها ومقارنتها بحرية الرأي في الفكر الغربي:
القسم الأول: ما كان واجباً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة والدعوة إلى الله تعالى وقول الحق، وأداء الشهادة؛ لقول الله تعالى ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ {البقرة:283} وقوله تعالى ﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ ﴾ {الطَّلاق:2} وهذه الواجبات في الإسلام تنقسم في الفكر الغربي إلى قسمين:
الأول: مباح، وذلك في حالة عدم تعارض هذه الواجبات في الرأي مع الحرية الشخصية.
الثاني: محظور، وذلك في حالة تعارض هذه الواجبات في الرأي مع الحرية الشخصية، كأن يكون المستهدف بالدعوة أو النصح أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يريد ذلك، أو كان الشاهد لا يريد أداء الشهادة ولو ضاعت الحقوق، وأطلق المجرمون بسبب ذلك. [61]

والتعارض بين الحرية الشخصية وحرية إبداء الرأي وقع في المجتمع الغربي فحسموا القضية في تشريعاتهم الوضعية لمصلحة الحرية الشخصية؛ ففي فرنسا رفع المشرعون لمحكمة النقض مشكلة التوفيق بين احترام المبادئ الديمقراطية التي تحكم حرية الصحافة وبين احترام الحق في الحياة الخاصة، وتمخض عن ذلك قرار بتعديل المادة (7) من القانون المدني أكد احترام الحق في الحياة الخاصة، في 17يولية 1970م... فإذا كان المساس بالحق في الحياة الخاصة مما يقع تحت طائلة التجريم فإن تحديد النطاق المسموح به لإجراء هذا المساس يتوقف على المفاضلة بين قاعدتين: قاعدة تحقق المصلحة الخاصة للفرد وهي حماية حياته الخاصة، وقاعدة تحقق المصلحة العامة وهي حماية حرية الرأي سواء في صورة حرية الصحافة أو حرية النقد أو حرية البحث العلمي.[62]

ولذلك فإن القانون الفرنسي يعطي الطبيب الحق في رفض إفشاء سرِّ المريض ولو أذن المريض بإفشائه؛ وذلك باعتبار أن الطبيب بحكم مهنته يملك الحق في السر، والتزامه بالمحافظة عليه مصدره القانون وليس مصدره الاتفاق مع المريض، والائتمان على الأسرار قد يكون نابعاً من القانون، وقد يكون نابعاً من الاتفاق مع صاحب السر. [63]

ومن الأمثلة على ذلك:
1- اعتدي على طفلة صغيرة جنسياً، وفحصها طبيب وسلم نتيجة فحصها لوالدها، وفي المحكمة احتاج القاضي إلى رأي الطبيب وشهادته لإدانة المجرم، فرفض الطبيب أداء الشهادة بناء على أنها أسرار مريض ولا يجوز في مهنته إفشاء أسرار المرضى لا للمحكمة ولا لغيرها، فقضت عليه المحكمة بالغرامة. لكن محكمة النقض الفرنسية نقضت الحكم، وأيدت الطبيب محتجة بأساس الطبيعة المطلقة لسر المهنة.[64]

2- اتهمت امرأة بقتل عشيقها بتمزيق جسمه أثناء النوم، وتمسكت المتهمة بشهادة طبيبها الذي كان يعالجها قبل الحادث، ورفض الطبيب الشهادة احتراماً لسر المهنة وأيدت محكمة النقض الفرنسية هذا الرفض.[65]

القسم الثاني: المستحب، مثل: المذاكرة في العلم النافع، ولو كان في علوم دنيوية فيها نفع للناس ونحو ذلك. وهذا في الفكر الغربي مباح أيضاً.

القسم الثالث: المحرم، وهو التعبير بكل ما يبغضه الله تعالى، ويبغضه رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأقوال والآراء، وهو قسمان:
أ- ما كان حقاً محضاً لله تعالى كالتعبير بما هو كفر أو وبدعة أو فيه مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله عليهم السلام، والدعوة إلى ذلك وتزيينه للناس أو الدفاع عنه وتقوية أهله.

وهذا القسم حرمته في الإسلام شديدة، وقد يوصل صاحبه إلى الكفر واستباحة دمه سواء كان مسلماً كمن نطق بما هو ردة وأصر عليه، أو كان معاهداً وأتى بما ينقض عهده من سب الله تعالى وسب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو ازدراء دين الإسلام.

بينما لا يحظر شيء من ذلك في الفكر الغربي، ويعد ذلك من قبيل حرية الرأي؛ ولذلك ينتشر عندهم القول بالإلحاد، وإنكار الربوبية والنبوات، وازدراء الديانات ونقدها، ولا شيء من ذلك يعاقب عليه صاحبه.

وأغلب الظن أن أكثر الليبراليين في بلاد المسلمين لا يدعون لحرية الرأي إلا للوصول بها إلى الطعن في المقدسات، وانتهاك الحرمات الشرعية، كما يباح ذلك عند الغربيين، وليس مرادهم فك الاستبداد السياسي أو تخفيفه، بدليل أنهم هم من يكرسون الاستبداد، ويهللون للمستبدين في كثير من الأحيان.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 75.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 73.97 كيلو بايت... تم توفير 1.67 كيلو بايت...بمعدل (2.21%)]