تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان - الصفحة 3 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         عبدُ الرَّحمن بن مهديِّ (إمامُ الضَّبط والإتقان) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          شموع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 59 - عددالزوار : 4181 )           »          الشرق والغرب منطلقات العلاقات ومحدداتها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 47 - عددالزوار : 19012 )           »          "ولئن انتهى رمضان" (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          من مدرسة رمضان (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الليلة السابعة والعشرون: الاستغفار وفضله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الدرس الرابع عشر: الخشوع في الصلاة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الليلة السادسة والعشرون: الاستغفار وفضله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          مسائل مهمة في منهجية البحث الفقهي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          من صيام التطوع (صوم تسع من ذي الحجة) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 21-03-2025, 09:26 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



في كم يتلى القرآن؟
الكاتب : محمود محمد الطناحي

(21)



لشهر رمضان خصوصية بالقرآن، وممَّا يتردّد في هذا الموسم الشريف خاصّة: سؤالُ المفاضلة بين تدبّر القرآن والإكثار من الختمات، وسؤال المدّة التي يُختم فيها القرآن، وتأتي هذه المقالة في سياق الجواب عن هذا السؤال.
في كم يُتلى القرآن[1]؟

القرآن كلام الله، تنزيل من حكيم حميد، نزل به الروح الأمين جبريلُ -عليه السلام- على قلبِ محمد -صلى الله عليه وسلم- ليكون من المنذِرين، وقد أُمِر -عليه السلام- بتلاوته على أُمَّته، وأُمِرَت أمّته بتلاوته وتدبُّر آياته والعمل بها، وقد أثنى ربُّنا -عزّ وجلّ- على عباده التّالِين له، فقال تقدّست أسماؤه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}[فاطر: 29، 30].

ويأتي رمضان كلّ عام مذكِّرًا بهذا النور المبين، فقد نزل القرآن الكريم في ليلةٍ مباركة منه. والمسلم وإن كان مأمورًا بقراءة القرآن في كلّ وقتٍ وحينٍ، فإنه يجد لذَّة وأُنْسًا حين يقرؤه في رمضان لا يجدهما في وقت آخر، ونعم إن القرآن يطيب به الفم ويزكو به العمل في كلّ آن، ولكن الله يجعل لبعض الأيام ولبعض المواضع خصوصية ليست لغيرهما، وقد روي عن محمد بن مَسْلَمة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرّضوا لها»[2].

ولقد حفظتُ القرآن صغيرًا، واشتغلتُ بعلومه كبيرًا، وقرأته على فحول شيوخه واستمعته من كبار مقرئيه، ولا زلتُ مغمورًا بنوره وضيائه، فهو معي في مغداي ومراحي، وفي حلِّي وترحالي، والحمد لله، ولكن حلاوته تعظُم في فمي، ونغمه يعذب في سمعي حين أقرؤه في رمضان، وفي الحرمين الشريفين، وكم كان قلبي يخشع وكياني يهتز، ودموعي تجري حين أقرأ -وأنا في الروضة الشريفة- تلك الآيات التي تخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتناديه، فأقرأ وأتمثَّل وأستحضر وأنا بقرب النور وفي كرم الجوار، فأيّ جلال وأيّ جمال!

وما دخلتُ المسجد النبوي مرّة إلا وقرأتُ سورة النساء، لأستحضر تلك الصورة الغالية الخاشعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن مسعود يقرأ عليه سورة النساء، وذلك ما رواه البخاري عنه قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اقرأ عليَّ»؛ قلتُ: يا رسول الله، أأقرأ عليك وعليك أُنزِل؟! قال: «نعم»، فقرأتُ سورة النساء حتى أتيتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}

قال: «حسبُك الآن». فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان[3]. وهكذا تكون معرفة التفسير وأسباب النزول مُعِينة على فهم القرآن وتدبّره، فإذا انضم إلى ذلك معرفة غريبه ووجوه قراءاته ونحوه وإعرابه ومعانيه، كان ذلك أعْوَن على معرفة أسراره والوقوف على دقائقه، ثم التلذّذ بتلاوته، واستصغار لذائذ الدنيا كلّها بجوار آية واحدة من آياته يتلوها المؤمن مستجمعًا لها فكره مخليًا لها قلبه؛ ولذلك يقول أحمد بن أبي الحوارى الصوفي المتوفى سنة 230: «إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية فيحار عقلي فيها، وأعجب من حفّاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟! أما لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقّه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به؛ لذهب عنهم النوم، فرحًا بما رُزِقوا ووفِّقُوا»[4].
والقرآن مؤنس لتاليه، مزيل لوحشته؛ يقول الراغب الأصفهاني في مقدمة كتابه: (حلّ متشابهات القرآن): «فاتفقَتْ خلوةٌ سَطوتُ على وحشتها بالقرآن، ولولا إنه لم يكن لي بها يدان... وكانت هذه الخلوةُ خلوةَ عينٍ لا خلوة قلب، واضطرارٍ لا عن اختيار، بل لقهر وغلب». والظاهر أن المراد بهذه الخلوة السجن[5]. والمسلم حين يتلو القرآن ليس لسانًا يضطرب في جَوبة الحنك فقط، ولكنه لسان يتلو، وقلب يخشع، ونفس تموج، وعزم ينهج، ولعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كلام نفيس، في أن المسلم مطالَب بأن يجمع القرآن ويحفظه ويحيط به ويجعله إِمامه في جوارحه كلّها، وفي عمله كلّه، وذلك ما أخرجه ابن جرير الطبري عن الحسن:
«أنّ ناسًا لَقُوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله، أُمِر أن يُعْمَل بها، لا يُعمل بها، فأردنا أن نلقَى أمير المؤمنين في ذلك. فقَدِم وقدموا معه، فلقيه عمر -رضي الله عنه- فقال: متى قَدِمْتَ؟ قال: منذ كذا وكذا، قال: أبإِذْنٍ قدمتَ؟ قال: فلا أدري كيف ردّ عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ ناسًا لقوني بمصر فقالوا: إنا نرى أشياء من كتاب الله تبارك وتعالى، أُمِر أن يُعْمَل بها لا يُعمل بها؛ فَأَحَبّوا أن يَلْقَوْك في ذلك. فقال: اجمعهم لي، قال: فجمعتُهم له... فأخذ أدناهم رجلًا، فقال: أَنْشُدك بالله وبحقّ الإسلام عليك، أقرأتَ القرآن كلّه؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته في نفسك؟ قال: اللهم لا -قال: ولو قال: «نعم» لخَصَمَه- قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ قال: ثم تتبّعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثَكِلَتْ عمرَ أُمُّه! أتُكَلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون

لنا سيئات. قال: وتلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلَا كَرِيمًا}[النساء: 31]، هل عَلِم أهل المدينة -أو قال: هل علم أحد- بما قَدِمْتم؟ قالوا: لا، قال: لو علموا لوَعَظْتُ بكم»[6].
قال شيخنا أبو فهر محمود محمد شاكر: «وقوله: «لوعظتُ بكم»، أي: لأنزلتُ بكم من العقوبة ما يكون عِظة لغيركم من الناس؛ وذلك أنهم جاؤوا في شكاة عاملهم على مصر، وتشدّدوا ولم ييسِّروا، وأرادوا أن يسير في الناس بما لا يطيقون هم في أنفسهم من الإحاطة بكلّ أعمال الإسلام، وما أمرهم الله به، وذلك من الفتن الكبيرة، ولم يريدوا ظاهر الإسلام وأحكامه، وإنما أرادوا بعض ما أدَّب اللهُ به خلقه، وعمرُ أجَلُّ من أن يَتهاون في أحكام الإسلام. إنما قلتُ هذا وشرحتُه مخافة أن يَحتجَّ به مُحتجٌّ من ذوي السلطان والجبروت، في إباحة ترك أحكام الله غير معمول بها، كما هو أمر الطغاة والجبابرة من الحاكمين في زماننا هذا».

ولهذه الغايات كلّها أُمِرنا بترتيل القرآن، في قوله -عزّ وجل- مخاطبًا وآمرًا نبيه -صلى الله عليه وسلم- والأمر لأُمّته معه: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}[المزمل: 4]، قال القرطبي: «أي: لا تعجل بقراءة القرآن، بل اقرأه في مَهَلٍ وبيان، مع تدبّر المعاني. والترتيل: التنضيد والتنسيق وحُسن النظام، ومنه ثغر رتِل ورتَل، بكسر التاء وفتحها، أي: حَسَن التنضيد»[7]، وحُكي عن أبي بكر بن ظاهر قال: «تدبَّرْ في لطائف خطابه، وطالِبْ نفسك بالقيام بأحكامه، وقلبك بفهم معانيه، وسرَّك بالإقبال عليه».

وروي أن علقمة بن قيس قرأ على عبد الله بن مسعود، فكأنّه عَجِل، فقال ابن مسعود: «فداك أبي وأمي، رتّل فإنه زين للقرآن»[8]، لكنَّ قومًا من أهل الصدق والإخلاص -في زماننا ومن قَبل زماننا- حَسُنَتْ

نياتهم، وسَلِمَتْ صدورهم، يرغبون في إحراز الأجر ومضاعفة الثواب، يشتدّون في هذا الشهر المبارك، ويبالغون في ختم القرآن أكثر من مرة، ويتباهون في ذلك، فيقول أحدهم: ختمتُه عشرين مرة، ويقول آخر: بل ختمته ثلاثين، ثم يزيد بعضهم وينقص بعضهم، وما يدرون أنهم بذلك يبتعدون عن السّنة المأثورة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته الأكرمين.
فقد روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألم أُخْبَر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كلّ ليلة؟»، قلتُ: بلى يا نبي الله، ولم أُرِد بذلك إلا الخير، قال: «فصُمْ صوم داود -وكان أعبد الناس-[كان يصوم يومًا ويُفطِر يومًا]، واقرأ القرآن في كلّ شهر»، قال: قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كلّ عشرين»، قال: قلت: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كلّ عشر»، قال: قلتُ: يا نبي الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: «فاقرأه في كلّ سبع، لا تزد على ذلك»، قال: فشدَّدْتُ، فشُدِّدَ عليَّ، وقال لي: «إنك لا تدري،
لعلّك يطول بك عُمُر». قال فصِرتُ إلى الذي قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم- فلما كبرتُ وددتُ أني كنت قَبِلْتُ رخصة نبي الله -صلى الله عليه وسلم-»[9].
وروي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «لأن أقرأ سورة أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن كلّه»، وروي عنه أيضًا أنه قال: «لأن أقرأ القرآن في ثلاثٍ أحبّ إليّ من أن أقرأه في ليلة كما يقرأ هَذْرَمَة». والهذرمة: السرعة في الكلام والمشي، وقال: هذرم في كلام هذرمة: أي خلط، ويقال للتخليط: الهذرمة.

وثبت عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «أنّ رجلًا قال له: إني أقرأ المُفَصَّل في ركعة واحدة، فقال عبد الله بن مسعود: أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعر؟ إنّ أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع»، أراد: أتهذّ القرآن هذًّا فتسرع فيه كما تسرع في قراءة الشِّعر؟ والهذّ: سرعة القطع. والمفصَّل من سور القرآن: من سورة الحجرات إلى سورة الناس، وقيل غير ذلك، وسمي مفصلًا لكثرة الفصول بين سوره، أو لقلّة المنسوخ فيه[10]. وسُئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة، قيامهما واحد، وركوهما واحد، وسجودهما واحد، وجلوسهما واحد، أيُّهم أفضل؟ فقال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ: {وَقُرْآنًا
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[الإسراء: 106][11].

وإذا كان كثير من الناس يشتدّون ويجتهدون في ختم القرآن في رمضان أكثر من مرة، فإن كثيرًا منهم أيضًا كان على السُّنة، وعلى المنهج الراشد المقتصد. فقد روي أن أبا رجاء العطاردي -وكان إمامًا كبيرًا من المخضرمين- كان يختم بأصحابه في قيام رمضان القرآن كلّ عشرة أيام[12].
«وذهب كثيرٌ من العلماء إلى منع الزيادة على سبع، أخْذًا بظاهر المنع في قوله: «فاقرأه في سبع ولا تزد» -يعني في حديث عبد الله بن عمرو السابق- واقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فلم يُرْوَ عنه أنه ختم القرآن كلّه في ليلة، ولا في أقلّ من السبع، وهو أعلم بالمصالح والأجر، وفضل الله يؤتيه من يشاء، فقد يعطي على القليل ما لا يعطي على الكثير»[13].
وروي أنّ عبد الله بن مسعود كان يقرأ القرآن في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة، ويقرؤه في رمضان في ثلاث، وكذلك كان تميم والأعمش يختمان في كلّ سبع، وكان أُبيّ يختمه في كلّ ثمان، وكان الأسود يختمه في
ستٍّ، وكان علقمة يختمه في خمس[14]. وقد عقد أبو عمرو الداني بابًا: (في كم يُستَحبّ خَتْم القرآن، وما روي عن الصحابة والتابعين في ذلك)[15].
بل إنّ بعض الصحابة والتابعين كان يقف في قراءته عند سورة بعينها، يظلّ يردّدها، أو آية بخصوصها، فلا يزال يكرّرها، طلبًا للتدبّر، وخشوعًا لجلال المعنى، وكان إمامهم في ذلك وقدوتهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فقد روي عن أبي ذر -رضي الله عنه-: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام ليلة من الليالي يقرأ آية واحدة الليلَ كلّه حتى أصبح، بها يقوم، وبها يركع، وبها يسجد: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: 118]، وعن تميم الداري أنه أتى المقام -في الكعبة الشريفة- ذات ليلة، فقام يصلي، فافتتح السورة التي تُذْكر فيها الجاثية، لمّا أتى على هذه الآية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية: 21]، لم يزل يرددها حتى أصبح. وعن ابن مسعود أنه لم يزل يردد: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه: 114]، حتى
أصبح. وعن عامر بن عبد القيس أنه قرأ من سورة المؤمن -غافر- فلما انتهى إلى قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}[غافر: 18]، لم يزل يرددها حتى أصبح. وروي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- أنها افتتحت سورة الطور، فلما انتهت إلى قوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور: 27]، ذهبتُ[16] إلى السوق في حاجة، ثم رجعتُ وهي تكرّرها، وهي في الصلاة أيضًا.
وعن سعيد بن جبير أنه ردّد هذه الآية في الصلاة بضعًا وعشرين مرّة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[البقرة: 281]، وعنه أيضًا أنه استفتح بعد العشاء الآخرة بسورة: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}[الانفطار: 1]، فلم يزل فيها حتى نادى منادي السَّحَر[17].

فمدار الأمر في تلاوة القرآن على التدبُّر واستحضار المعاني، وتأمُّل الإشارات وتبيُّن الدلالات، فمن أَنِسَ في نفسه قُدرة وجَلادة، مع تحقيق هذه الغايات وتعهّد الواجبات الأخرى من الفرائض والنوافل، ومن سعي في أمور المعاش وإعمار الحياة، فليقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، على ألا يزيد على السُّنّة المأثورة.
وللحافظ الذهبي هنا كلام جيّد، ينبغي ذِكره، وتأمُّله، قال -رضي الله عنه- تعقيبًا على حديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق: «وَصَحَّ أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نازَله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأ في أقلّ من ثلاث، وهذا كان في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقلّ مراتب النهي أن تُكره تلاوة القرآن كلّه في أقل من ثلاث. فما فَقه ولا تدبَّر مَن تلا في أقلّ من ذلك، ولو تلا
ورتَّل في أسبوع، ولازم ذلك لكان عملًا فاضلًا، فالدّين يسرٌ، فوالله إنّ ترتيل سُبع القرآن في تهجد قيام الليل، مع المحافظة على النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة والقول عند النوم واليقظة، ودُبر المكتوبة والسّحَر، مع النظر في العلم النافع، والاشتغال به مخلصًا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بخشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار والصدقة وصلة الرحم، والتواضع، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار والصدقة وصلة الرحم، والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك: لشغلٌ عظيم جسيم، ولمقام أصحاب اليمين وأولياء الله المتقين، فإنّ سائر ذلك مطلوب، فمتى تشاغل العابد بختمه في كلّ يوم، فقد خالف الحنيفية السمحة، ولم ينهض بأكثر ما ذكرناه، ولا تدبّر ما يتلوه.
هذا السيد العابد الصاحب -يعني عبد الله بن عمرو بن العاص- كان يقول لمّا شاخ: ليتني قَبِلْتُ رخصة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك قال له -عليه السلام- في الصوم، وما زال يُناقصه حتى قال له: «صُم يومًا وأَفطِر يومًا، صم صوم أخي داود -عليه السلام-»، وثبَت أنه قال: «أفضل الصيام صيام داود»، ونهى -عليه السلام- عن صيام الدهر، وأمر -عليه السلام- بنوم قسط من الليل، وقال: «لكني أقوم
وأنام، وأصوم وأُفطِر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمَن رَغِب عن سُنّتي فليس منِّي».

وكلّ مَن لم يزمُّ نفسه -أي: يمنع ويكبح- في تعبُّده وأوراده بالسّنة النبوية يندم ويترهب ويسوء مزاجه، ويفوته خيرٌ كثيرٌ من متابعة سُنّة نبيِّه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال -صلى الله عليه وسلم- معلِّمًا للأمة أفضلَ الأعمال، وآمرًا بهجر التبتل والرهبانية التي لم يُبعث بها، فنهى عن سَرْد الصوم -أي: تواليه وتتابعه-، ونهى عن الوصال -في الصوم-، وعن قيام أكثر الليل إلا في العَشر الأخيرة -يعني من رمضان-، ونهى عن العُزْبَة -عدم الزواج- للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم، إلى غير ذلك من الأمور والنواهي.
فالعابد بلا معرفة لكثير من ذلك معذورٌ مأجورٌ، والعابد العالم بالآثار المحمدية المتجاوز لها مفضولٌ مغرورٌ، وأحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أدْوَمُها وإنْ قَلّ. أَلهَمَنا الله وإياكم حُسن المتابعة، وجنّـبَنا الهوى والمخالفة»[18]. وذَكر الذهبي أيضًا في ترجمة «أبي بكر شعبة بن عياش، أنه مكثَ نحوًا من أربعين سنة يختم القرآن في كلّ يوم وليلة مرّة، وعلق على ذلك فقال: «وهذه عبادة يُخْضَع لها، ولكنّ متابعة السُّنّة أَوْلى؛
فقد صحّ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث، وقال -عليه السلام-: (لم يفقه من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث)»[19].
وكذلك ذكر في ترجمة (وكيع بن الجرّاح) أنه كان يصوم الدّهر، ويختم القرآن كلَّ ليلة، وعقَّب على ذلك فقال: «هذه عبادة يُخضَع لها، ولكنها من مِثْلِ إمام من الأئمة الأثرية مفضولة، فقد صحّ نهيُه -عليه السلام- عن صوم الدهر، وصحّ أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقلّ من ثلاث، والدِّين يسرٌ، ومتابعة السُّنة أَوْلى»[20].

ومن قَبل الذهبي، ذَكر خطيبُ السُّنة الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة[21] قال: «ولم يفرض اللهُ على عباده أن يحفظوا القرآن كلّه، ولا أن يختموه في التعلُّم، وإنما أنزله ليعملوا بمُحكَمه ويؤمنوا بمتشابهِه، ويأتمروا بأمره، وينتهوا بزجره، ويحفظوا للصلاة مقدار الطاقة، ويقرؤوا فيها الميسور. قال الحسن -البصري-: نزل القرآن ليُعْمَل به فاتخذ الناسُ تلاوتَه عملًا.
وكان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم- وهم مصابيح الأرض وقادة الأنام ومنتهى العلم، إنما يقرأ الرجل منهم السورتين والثلاث والأربع، والبعض والشطر من القرآن، إلا نفرًا منهم وفَّقهم الله
لجَمْعه، وسهّل عليهم حفظه، قال أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فِينَا، أي: جلَّ في عيوننا، وعَظُم في صدورنا»[22].

عن ابن عمر قال: «كان الفاضل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورُزِقوا العمل بالقرآن، وإنّ آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يُرزَقون العمل به».

اللهم حبِّبْ إلينا القرآن، وأذِقْنا حلاوته، وارزقنا تلاوته وفِقْهَه والعمل به آناء الليل وأطراف النهار، واجعله أنيسًا لنا في هذا الزمان الذي ذهب فيه من يُؤنَسُ به ويُستراح إليه، واجعله اللهم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجِلاء -بكسر الجيم- حزننا، وذَهاب -بفتح الذال- همِّنا، واجعلنا ممن يرعاه حقّ رعايته، ويقوم بقصده، ويوفي بشرطه، ولا يلتمس الهَدْي في غيره، ويرحم اللهُ عبدًا قال آمينا.
[1] نشرت هذه المقالة في مجلة «الهلال» فبراير، 1995م، ثم نشرت في «مقالات العلامة الدكتور محمود محمد الطناحي» ط. دار البشائر، ص336. (موقع تفسير).

[2] مجمع الزوائد للهيثمي، (10/ 231).
[3] صحيح البخاري، (باب قول المقرئ للقارئ: حسبك. من كتاب فضائل القرآن) (6/ 241).
[4] طبقات الصوفية للسلمي، ص102.

[5] مقدمة تحقيق كتاب المفردات في ألفاظ القرآن، ص29.
[6] تفسير الطبري، (8/ 254، 255).

[7] تفسير القرطبي، (19/ 37).
[8] المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز لأبي شامة المقدسي، ص198.
[9] جامع الأصول في أحاديث الرسول لمجد الدين بن الأثير، (2/ 471، 472)، وجمع للحديث طرقًا أخرى.
[10] بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي، (4/ 194).

[11] انظر بيان ذلك كلّه في: المرشد الوجيز، ص197. والتبيان في آداب حملة القرآن للنووي، ص71.
[12] حليلة الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني، (2/ 306). وصفة الصفوة لابن الجوزي، (3/ 221).
[13] كتاب التذكار في أفضل الأذكار للقرطبي، ص67.
[14] جمال القراء وكمال الإقراء، لعلم الدين السخاوي، (1/ 107).
[15] كتاب البيان في عدّ آي القرآن، ص321.
[16] من كلام عروة بن الزبير راوي الحديث -رضي الله عنهما-، وأسماء بنت أبي بكر هي أُمه -رضي الله عنهم-. (موقع تفسير).

[17] المرشد الوجيز، ص195- 197.
[18] سير أعلام النبلاء، (3/ 84- 86).
[19] سير أعلام النبلاء، (8/ 442).

[20] سير أعلام النبلاء، (9/ 143).
[21] كتاب تأويل مشكل القرآن، ص233.
[22] تفسير القرطبي، (1/ 40).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #22  
قديم 22-03-2025, 12:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



تأملات في سورة القدر ،
د. محمد الربيعة
(22)



حري أن نجعل من عبادتنا هذه الليالي مدارسة وتدبر هذه السورة العظيمة مما يبعثنا على تعظيمها واغتنامها
تدبر هذه السورة أعظم دافع لقيام ليلة القدر واستغلالها لأنها تضمنت تعظيم الله وملائكته لها
ما سر افتتاح السورة بنون العظيم { إنا } ؟

تعظيما لشأن الليلة بسبب إرتباطها بإنزال القرآن
ما مقصد السورة ؟
تعظيم شأن ليلة القدر وفضلها
ولذلك اشتملت آياتها على تكرار وتأكيد وتعظيم
ما سر الإخبار بنزول القرآن أولا قبل ذكر ليلة القدر؟
إشارة إلى أن سبب تفضيلها إنزال القرآن
ولذلك يشرع شغلها بالقرآن
ما سر ذكر القرآن ضميرا دون تصريح { أنزلناه} دون أنزلنا القرآن ؟
لكونه معهودا معروفا في الذهن وهو أسلوب لغوي في التعظيم
ما دلالات ذكر الليلة


فضل ليالي العشر التي فيها ليلة القدر
فضل قراءة القرآن ومدارسته ليلا لكونه وقت النزول الأول
ما المراد بالقدر ؟
قدر العظمة والشرف وهو دال على أنها أفضل ليالي العام قدرا
من التقدير اي قدرت فيها المقادير
{ ليلة القدر } تكررت ثلاث مرات . فما السر ؟
الأول لبيان أن نزول القرآن فيها
الثاني تعظيما لها
الثالث بيانا لفضلها
ما سر تخصيص فضلها بألف شهر؟
لكون الألف أكمل عدد في اللغة فما فوقه مبني عليه
لكون ألف شهر٨٣ سنة هو كمال عمر الإنسان عادة

{ تنزل الملائكة } ما سر قوله تنزل دون تتنزل ؟
فيه إشارة إلى تنزلهم مرة واحدة عند دخولها وارتفاعهم عند خروجها
ما سر تخصيص الروح (جبريل) مع دخوله في الملائكة؟
دليل على أنه يتنزل لمناسبة تنزل الوحي أول مرة في هذه الليلة تعظيما لها
ما سر التعبير بالروح دون جبريل ؟
لكونه يتنزل على النبي بالروح وهو القرآن { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا }
لم يرد أن جبريل يتنزل بعد انقطاع الوحي إلا في ليلة القدر فما السر؟
لعظمها وفضلها ولكونها ليلة تنزل القرآن أول مرة
ما سر إخفائها؟


تعظيما لها وتحفيزا للمنافسة في تحصيلها ولتكثر حسنات أهلها في طلبهاطيلة العشر
فلعظمها لا ينالها إلا مشمر لها
لم يرد في السورة حث على قيامها فما السر ؟
لكون السورة مكية ولم يأت الأمر بقيامها إلا في المدينة
إنما السورة في تعظيمها
ما سر تنزل الملائكة ؟
لكثرة البركة فيها
لكونهم يتنزلون بأمر الله { من كل أمر }
للسلام والدعاء للمؤمنين { سلام }
ما سر قوله { بإذن ربهم } ولم يقل بأمر ربهم ؟
دليل على حرصهم على النزول فهم ينتظرون إذن ربهم لهم.
ما سر قوله { بإذن ربهم } دون بإذن الله؟



وصف الربوبية دال على عناية الله وإكرامه لهم بإنزالهم، وهذا مشعر بعظيم المنة عليهم.
ما دلالة كل في قوله { من كل أمر }؟
إشارة إلى كثرة ما يتنزل فيها من أوامر الله وبركاته على عباده ، أمور كثيرة عظيمة
ما المراد بقوله { سلام هي } ؟
قيل ما يتنزل فيها لأهلها القائمين بحقها إلا سلام
وقيل أن الملائكة تسلم فيها على المؤمنين
{ سلام هي }
أعظم بشرى للمؤمنين أنها سلام لهم من الله
فهل نتلقى هذا السلام بسلامة صدورنا من كل كدر وسلامة أعمالنا من كل ذنب
{ سلام هي }

ما أعظم دلالات هذه الكلمة. وما أعظم ما تبعثه في النفس من أنس وبشرى ورغبة فيها
جعلنا الله فيها من أهل السلام
{سلام هي}
هذا السلام الإلهي الذي يريده الله لعباده
فهل يكون باعثا لأمة الإسلام على بث السلام بينهم وتحقيق السلام فيهم
{ سلام هي }
استنبط ابن عباس من هذه الجملة أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فكيف ؟
من قوله { هي } فهي الكلمة ٢٧ في السورة
ما سر قوله {سلام} دون سلامة
ليشمل:
سلام الملائكة على المؤمنين

كل سلام وخير يريده الله لعباده
السلامة من الذنوب بالغفران
تحتمل جملة { سلام } معنى الأمر ؟
أي اجعلوها سلاما بينكم ولذلك جاء في الحديث أنها رفعت حين تلاحى رجلان
فلنجعلها سلاما بيننا
{ سلام هي }
من جعلها سلاما بقلبه وعمله فهو أحق بأن ينال السلام من الله
ما سر قوله { حتى } دون ( إلى ) ؟
لأن حتى لانتهاء الغاية مبالغة في احتوائها الليل كله وتأكيدا على اغتنامها حتى نهايتها

ما سر قوله {حتى مطلع الفجر} دون طلوع الفجر؟
تأكيدا لاغتنامها حتى طلوع الفجر الصادق من مطلعه لأن الفجر الكاذب لا مطلع له
{ حتى مطلع الفجر } قرئ مطلع بفتح اللام وكسرها ، فما الفرق ؟
بالفتح : طلوع الفجر أي ظهوره
بالكسر : زمن طلوع الفجر
تأمل ختم السورة بقوله
{ هي حتى مطلع الفجر } تأكيد وحض على اغتنامها حتى النهاية وذلك لأن آخر الليلة أفضل من أولها
ما المراد بـ { إنا أنزلناه في ليلة القدر }؟
- أنزلناه من اللوح إلى السماء الدنيا
- أنزلناه ابتداءً فيها
- أنزلناه في شأنها
===========================
* منقول من موقع مثانى القران



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #23  
قديم 23-03-2025, 10:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



تجليات تيسير القرآن الكريم على العباد
الكاتب : عبد المجيد هلال
(23)


مِن نعم الله تعالى على خَلقه أن يسّر لهم كتابه المجيد كما أخبر عن ذلك في القرآن، وهذا التيسير له صور شتى وتجليات متعدّدة، وهذه المقالة تسعى إلى تسليط الضوء على تجليات هذا التيسير للقرآن الكريم ومجالاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛ فإنّ مِن أجَلِّ النّعم التي أكرمَنا اللهُ -عز وجل- بها، وتفضّل علينا بإرسالها نعمةَ إنزال القرآن الكريم، وهي مِنّة منه -سبحانه وتعالى- تستوجب الشكر الدائم والثناء الذي لا ينقطع، فلولاها لبقينا في بحار من
الظلمات التي لا يعلم حجمها وأثرها إلا الله -عز وجل-، وقد رافقت هذه النعمةَ -نعمةَ إنزال القرآن الكريم- نِعَمٌ تترى متتابعة، لا يَعُدّها العادّون ولا يحصيها المحصُون. ومِن هذه النعم التي رافقَت إنزاله، نعمةُ تيسيره على العباد وتسهيله عليهم، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17، 22، 32، 40]، وهذا التيسير والتسهيل له صور شتى وتجليات متعدّدة، وسأذكر في هذه المقالة بعض تجليات لهذا التيسير، جمعتُها من كتب المفسِّرين؛ علّها تكون نافعة لي أولًا، وللقارئين ثانيًا، وعلّها تكون محفزًا على استخراج مزيد من الأفضال المصاحبة لهذا الكتاب العظيم؛ فإنّ: «القرآن لهو بحقّ مشروع العمر، وبرنامج العبد في سَيره إلى الله حتى يلقى الله»[1]، فإلى هذه التجليات:
1- تسهيل حِفظه:
فكلّ مَن رام حِفْظ هذا الكتاب وجدَه سهلًا ميسَّرًا، وقد أورد الماوردي في تفسيره قول الفّراء فقال: «الثالث: هَوّنَّا حِفْظه، فأَيْسَر كتاب يُحفظ هو كتاب الله»[2]؛ وذلك لما ميزه به الله تعالى من «الاختصار وعذوبة
اللفظ»[3].
ولا يحتاج من أراد حِفْظه إلا قليلًا من التكلّف والجهد، وشيئًا من الإقبال والإرادة، وصِدْق الطلب مع التوكّل على الله تعالى، قال الماتريدي في تفسير آية القمر: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾: «أي: للحفظ؛ أي: صيرناه بحيث يحفظه كلّ أحد مِن صغير وكبير، وكافر ومؤمن وكلّ أحد يتكلّف حفظه»[4].

وقال الزمخشري: «قيل: ولقد سهّلناه للحفظ وأعنّا عليه من أراد حفظه، فهل مِن طالب لحفظه لِيُعان عليه»[5].

2- تيسير تذكُّر النعم به وسهولة إدراك ما وقع للأمم الغابرة:
فإنّ التالي للقرآن الكريم يتنبّه بسهولةٍ ويُسْرٍ للنعم التي أنعم الله بها على الخلائق، وهي نِعَم غزيرة، دينية ودنيوية، عاجلة وآجلة، ظاهرة وباطنة (...)، نِعَم لا يستطيع أحدٌ عدّها ولا حصرها، قال الله -عز وجل-:
﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 34]، كما أنّ قارئ القرآن يقف في بضع آيات على ما وقع للأمم الغابرة التي قضتْ سنين عديدة، مما يتطلّب ممن أراد الاطلاع على أخبار تلك الأمم وتاريخها -من غير القرآن- جهدًا كبيرًا وقراءة مستفيضة وبحثًا عميقًا، دون القدرة على بلوغ الحقيقة في كلّ ما يُتوصل إليه، وقد ذكر الماتريدي في تفسيره أقوالًا في بيان معنى تيسير الذِّكْر في آية القمر، فقال: «والثاني: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ أي: لذِكْر ما نسوا من نِعَم اللَّه تعالى عليهم، ولذِكْر ما أنبأهم فيه من أخبار الأوائل من مصدّقيهم مذكّر»[6].
3- تيسير الادّكار والاعتبار والاتّعاظ بالقرآن الكريم:
من خصائص القرآن الكريم سهولة الاتّعاظ والادّكار به، ولِـمَ لا؟ وهو كتاب الله تعالى الخاتم الذي أرسله للثقلين، وذَكر فيه من أنواع المواعظ والحِكَم والعِبَر:﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا﴾ [طه:113]. قال صاحب الكشاف: «أي: سهّلناه للادّكار والاتعاظ، بأنْ شحنّاه بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد فهل من متّعظ»[7]، وقال الرازي: «سهّلناه للاتعاظ
حيث أتينا فيه بكلّ حكمة»[8]، وللبيضاوي: «سهّلناه أو هيّأناه (...) للادّكار والاتّعاظ بأن صرّفنا فيه أنواع المواعظ والعِبَر»[9].
4- تيسير التذكير والإرشاد به:
فإنّ أنجعَ كلامٍ في تذكير الناس وإرشادهم وحثّهم على الخير وزجرهم عن الشّر كلامُ الله الذي خلق الإنسان وسوّاه، ويعلم سِرّه ونجواه ودخائل نفسه، وما يستصلحه من الكلام، وما يؤثِّر فيه من الألفاظ والمواعظ؛
لذلك كان كلامه سبحانه أفضلَ ما يدعو به وإليه الداعون، وأحسنَ لفظ يرشد به المرشدون، قال ابن سعدي في تفسير قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ

حَسِيبًا﴾ [الأحزاب: 39]: «يتلون على العباد آيات الله، وحُجَجه وبراهينه، ويدعونهم إلى الله»[10]؛ لهذا كانت هذه الصورة من صور تيسير القرآن الكريم، فقد جاء في كتاب (أيسر التفاسير): «﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾، أي: سهّلنا القرآن للحفظ والتذكير والتذكّر به»[11].
يقول الأستاذ إبراهيم السكران: «يخاطبك أحيانًا شابٌّ مراهق يتذمّر من والده أو أمه، فتحاول أن تصوغ له عباراتٍ تربويةً جذابةً لتقنعه بضرورة احترامهما مهما فعَلَا له، وتلاحظ أن هذا المراهق يزداد مناقشة ومجادلة لك، فإذا استعضت عن ذلك كلّه وقلتَ له كلمة واحدة فقط: يا أخي الكريم، يقول تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء 24]؛ رأيتَ موقف هذا الفتى يختلف كليًّا، شاهدتُ هذا بأُمِّ عيني، ومِن شدّة انفعالي بالموقف نسيتُ هذا الفتى ومشكلته، وعدتُ أفكّر في هذه السطوة المدهشة للقرآن»[12].

5- تيسير بيانه ومعناه وفهمه وتفسيره:
ومِن أوجهِ تيسير الله تعالى لهذا الكتاب على عباده جعلُه سهلَ البيان والمعنى، ميسَّرَ الفهم، واضحَ التفسير، ليس فيه غموض، ولا تقعُّر في الألفاظ، ولا تضمُّن لوحشي الكلام وغريبِه بعيدِ الاستعمال، كما هو حال بعض الكتب التي لا يكاد يخرج منها قارئها بشيء، بل قد يرجع منها بالحيرة والشك والضلال، جاء في (الهداية إلى بلوغ النهاية): «﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾، أي: سهّلناه وبينّاه وفصّلناه لمن يريد أن يتذكّر به
ويعتبِر، قال ابن زيد: ﴿يَسَّرْنَا﴾: بينّا»[13]، وجاء عند ابن كثير: «سهّلنا لفظه، ويسَّرنا معناه لمن أراده؛ ليتذكر الناس»[14]، وقال القشيري: «ويسّرنا فهمه على قلوب قوم»[15].

وللبقاعي قوله:«﴿لِلذِّكْرِ﴾، أي: الاتعاظ والتذكّر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه»[16]، وفي تفسير السعدي: «ولهذا كان عِلْم القرآن حفظًا وتفسيرًا، أسهل العلوم، وأجلّها على الإطلاق»[17].
وهذا لا يعني أن كلام الله تعالى على درجة واحدة من البيان، بل منه ما يشترك في فهمه العامة والخاصّة، ومنه ما ينفرد بإدراك معانيه وتفسيره الخاصة؛ كما قال ابن عباس: «التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ: وجهٌ تعرفه العربُ
من كلامها، وتفسير لا يُعْذَر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ذِكْره»[18]، ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز -رحمه الله- في عبارة جميلة: «فهو قرآن واحد يراه البُلَغاء أَوْفَى كلام بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسن كلام وأقربه إلى عقولهم لا يلتوي على أفهامهم، ولا يحتاجون فيه إلى ترجمان وراء وضع اللغة، فهو متعة العامّة والخاصّة على السواء، ميسَّر لكلّ من أراد: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]»[19].
6- تيسير تلاوته وقراءته:
لقد أنزل الله تعالى هذا الكتاب؛ ليُقرأ ويُعمل به، فلو لم يُيسِّر علينا قراءتَه ما استطاع أحد أن يتلو منه حرفًا، كيف لا؟ وهو كلام الله تعالى: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: 21]،﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا﴾ [الرعد: 31]، قال الضحاك عن ابن عباس: «لولا أنّ الله
يَسَّره على لسان الآدميين، ما استطاع أحد من الخَلْق أن يتكلّم بكلام الله عز وجل»[20].
وقد جاء: «عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾، قَالَ: هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ»[21]، وعن السدي: «يَسَّرنا تلاوتَه على الألْسُن»[22].
وقال الماوردي: «﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾، فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها معناه: سهّلنا تلاوتَه على أهل كلِّ لسان، وهذا أحد معجزاته؛ لأنّ الأعجمي قد يقرؤه ويتلوه كالعربي»[23]، وقد أشار ابن كثير إلى وجهٍ من
أوجهِ تيسير تلاوة كلام الله -عز وجل- فقال: «ومِن تيسيره تعالى على الناس تلاوةَ القرآن ما تقدَّم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنّ هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف)»[24][25][26].
7- تيسير عِلْم ما فيه واستنباط معانيه:

الارتباط بكلام الله تعالى لا تكاد تُحدّ صوره، ومن أوجه هذا الارتباط: استنباط المعارف والعلوم، والأحكام والحِكَم، والأسرار واللطائف والسّنن الإلهية (...) من كلام الله عز وجل، واستخراج ما تحويه الآيات من
دقيق العلم وجليله، قال الماوردي: «الثاني: سهّلنا عِلم ما فيه واستنباط معانيه، قاله مقاتل»[27].
وفي تفسير القشيري: «يسّرنا قراءتَه على ألسِنَة الناس، ويسّرنا عِلمه على قلوب قومٍ، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم؛ وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته»[28].
ولقد سهّل اللهُ على عباده استخراج هذه الكنوز شريطة أن يتقيّدوا بالمناهج المرْضِيّة التي رسمها أهل التخصّص؛ لِئَلّا يصير الاستنباط طريقًا يسلكه كلّ صاحب انحراف أو هوى أو بدعة؛ فيلصق بكلام الله ما هو براء
منه، ولا يدلّ عليه، ولا يحتمله.
8- تيسير التأثُّـر به وسرعة أخذِه بمجامع القلوب والعقول:
وهذا شيء ملاحَظ؛ فإنّك كثيرًا ما تجد الشخص العامّي الذي لا يقرأ ولا يكتب، إذا تُليت عليه آيات من الذِّكْر الحكيم وقعتْ منه موقعًا عظيمًا، فيهتزّ لها قلبه، وتسكن إليها نفسه، وتخشع بسببها جوارحه، فكيف
بمَن علمَ معانيه واطّلع على تفسيره، ووقف عند حدوده؟ فلا شك أنه سيجد للقرآن في قلبه -إذا قرأه أو استمع إليه- أثرًا بالغًا، وهذا من تيسير الله تعالى لهذا الكتاب على عباده؛ إِذْ جعله بهذه الدرجة من التأثير. ومنزلة تأثير كلام الله تعالى على القلوب والعقول لا يمكن أن تصل إليها عبارات العلماء، ولا إشارات الحكماء مهما نمّقوا الألفاظ وزيّـنوا العبارات؛ لأنّ كلامَهم كلامُ المخلوق العبد وكلامَ الله تعالى كلامُ الخالق المعبود،

قال ابن عطية عن هذا التيسير: «يُسِّرَ بما فيه من حُسْن النَّظْم وشرف المعاني فله لَوْطَةٌ بالقلوب، وامتزاجٌ بالعقول السليمة»[29]، وعن الرازي: «الثالث: جعلناه بحيث يعلق بالقلوب»[30]، وقال صاحب الظِّلال: «وكلّما صحبته النفس زادت له أُلفة وبه أُنسًا»[31].
9- تيسير تدبّره:
لقد طالَب اللهُ تعالى عباده بتدبّر كتابه، بل طالَب الكفار بذلك وحضّهم عليه، ووبّخ المعرِضين منهم عنه، فقال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وقال أيضًا:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، وهذا التدبّر هو: «مرحلة ما بعد التفسير! أي: ما بعد الفهم للآية، لكن الفهم المطلوب لتحصيل التدبر إنما هو الفهم الكلي العام، أو بعبارة أخرى: الفهم البسيط. ولا يشترط في ذلك تحقيق أقوال المفسِّرين والغوص في دقائق كتب التفسير! وإلا صار القرآن موجَّهًا إلى طائفة محصورة فقط! ومن ثم يمكن لأيّ شخص أن يتدبّر القرآن بعد التحقّق من المعنى المشهور للآية، يقرؤها من أيّ تفسير أو يسمعها»[32].
ومما جاء عن المفسِّرين في تيسير تدبّر القرآن قولُ البقاعي: «﴿لِلذِّكْرِ﴾، أي: الاتعاظ والتذكر والتدبّر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه»[33].
وقال صاحب الظلال: «ميسَّر الإدراك، فيه جاذبية ليُقرأ ويُتَدبَّر، فيه جاذبية الصدق والبساطة، وموافقة الفطرة، واستجاشة الطبع، لا تنفد عجائبه، ولا يَخلق على كثرة الردّ، وكلما تَدَبّره القلب عاد منه بزادٍ جديد»[34].

10- تيسير التلذّذ به والاستماع إليه:
لقد حثّ الله عباده على الاستماع للقرآن الكريم، فقال: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 204]، وذَكَر أنّ الجن لمّا حضروا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقُرئ عليهم القرآن

قالوا: ﴿أَنْصِتُوا﴾ [الأحقاف: 29]، وأخبَر أن صالح القسيسين والرهبان إِذَا: ﴿سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 83]، وإنك لترى بعض الأعجمين الذين لا يفقهون شيئًا من القرآن الكريم، ولا يعرفون اللغة العربية إذا تُلي عليهم القرآن الكريم وجدوا لذة وحلاوة عند سماعه[35]، وإنّ هذا لمن المهابة التي غشيت هذا الكلام، ومن التيسير الذي جعله الله سبحانه في كلامه؛ ليهتدي به الناس ويؤوبوا إلى ربهم لعلّهم يرحمون، قال الرازي: «ويُستلَذُّ سماعُه، ومَن لا يفهمُ يتفهّمُه، ولا يسأمُ مِن سمعِه وفهمِه، ولا يقول قد علمتُ فلا أسمعه، بل كلّ ساعة يزداد منه لذّةً وعلمًا»[36].
11- تيسيره لمجاهدة الكفار والمنافقين والملحدين وغيرهم:
لقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يجاهد الكفار والمنافقين بهذا الكتاب، فقال عز من قائل: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52][37]، ولا شك أنّ القرآن الكريم مليء بطرق الجدال ووسائله وأصناف المجادلين (...)، فلولاه ما علم المسلم المنهج الصحيح في المجادلة، وهذا من رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم؛ إِذْ أنزل إليهم هذا الكتاب تبيانًا لكلّ شيء، يعرفون به دينهم وعقيدتهم
وكيف يدافعون الشُّبهات التي يلقيها الخصوم في طريقهم، فلك الحمد ربنا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، قال الرازي: «وتتحدَّى به -أي أيها النبي صلى الله عليه وسلم- في العالَم ويبقى على مرور الدهور، ولا يحتاج كلّ مَن يحضرك إلى دعاءٍ ومسألةٍ في إظهارِ معجزة»[38].
خاتمة:

عرجنا في هذه المقالة على جوانب من تيسير القرآن الكريم على العباد، وهي: (تسهيل حفظه، وتيسير تذكّر النعم به، وسهولة إدراك ما وقع للأمم الغابرة، وتيسير الادكار والاعتبار والاتعاظ به، وتيسير التذكير والإرشاد به، وتيسير بيانه ومعناه وفهمه وتفسيره، وتيسير تلاوته وقراءته، وتيسير عِلْم ما فيه واستنباط معانيه، وتيسير التأثّر به، وسرعة أخذِه بمجامع القلوب والعقول، وتيسير تدبّره، وتيسير التلذّذ به والاستماع إليه، وتيسيره لمجاهدة الكفار والمنافقين والملحدين وغيرهم).

ولعلّ العباد يُـقْبِلون على هذا الكتاب فيصدّقوا بما حواه من أخبار ويعملوا بما فيه من أحكام، علّهم يأمنون حين يخاف المعرضون، وينجون حين يهلك الهاجرون؛ ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123- 124]، ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ [الفرقان: 30].
واللهَ تعالى نسأل أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
[1] هذه رسالات القرآن فمن يتلقاها؟ لفريد الأنصاري (القاهرة: دار السلام، ط3، 1435= 2014)، ص17.
[2] النكت والعيون، للماوردي (بيروت- لبنان: دار الكتب العلمية، بدون طبعة وتاريخ)، (5/ 413).
[3] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط1، 1418)، (5/ 166).

[4] تأويلات أهل السنّة، للماتريدي (بيروت- لبنان: دار الكتب العلمية، ط1، 1426= 2005)، (9/ 449).

[5] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري (بيروت: دار الكتاب العربي، ط3، 1407)، (4/ 435).
[6] تأويلات أهل السنّة، للماتريدي (9/ 449).

[7] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري (4/ 435).
[8] مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، للرازي (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط3، 1420)، (29/ 300).
[9] أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (5/ 166).

[10] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (مؤسسة الرسالة: ط1، 1420= 2000)، ص666.
[11] أيسر التفاسير، لأبي بكر الجزائري (المدينة المنورة: مكتبة العلوم والحكم، ط5، 1424= 2003)، (5/ 210).
[12] الطريق إلى القرآن، لإبراهيم السكران (الرياض: دار الحضارة، ط2، 1437= 2016)، ص10.

[13] الهداية إلى بلوغ النهاية، لأبي محمد مكي بن أبي طالب (مجموعة بحوث الكتاب والسنّة- كلية الشريعة والدراسات الإسلامية: جامعة الشارقة، ط1، 1429= 2008)، (11/ 7190).
[14] تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء ابن كثير (دار طيبة للنشر والتوزيع: ط2، 1420= 1999)، (7/ 478).

[15] لطائف الإشارات، لعبد الكريم بن هوازن القشيري (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3، بدون تاريخ)، (3/ 497).
[16] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، للبقاعي (القاهرة: دار الكتاب الإسلامي، بدون طبعة وتاريخ)، (19/ 108).
[17] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص825.
[18] جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (مؤسسة الرسالة: ط1، 1420 / 2000)، (1/ 75).

[19] النبأ العظيم؛ نظرات جديدة في القرآن الكريم، لمحمد بن عبد الله دراز (مصر- القاهرة: دار ابن الجوزي، ط1، 1434= 2013)، ص113.
[20] تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء ابن كثير (7/ 478).
[21] تفسير مجاهد (مصر: دار الفكر الإسلامي الحديثة، ط1، 1410= 1989)، ص634.

[22] تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء ابن كثير (7/ 478).
[23] النكت والعيون، للماوردي (5/ 413).
[24] رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب أُنزل القرآن على سبعة أحرف، رقم: 4992. ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه، رقم: 271، كلاهما
من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[25] تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء ابن كثير (7/ 478).
[26] وقد أشار إلى هذا الوجه من التيسير -أيضًا- أحمد الكوراني الشافعي، في غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني، ص44.

[27] النكت والعيون، للماوردي (5/ 413).
[28] تفسير القشيري (3/ 497).
[29] المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي (بيروت: دار الكتب العلمية ط1، 1422)، (5/ 215).

[30] مفاتيح الغيب (29/ 300).
[31] في ظلال القرآن، لسيد قطب (بيروت/ القاهرة: دار الشروق، ط17، 1412)، (6/ 3431).
[32] هذه رسالات القرآن فمن يتلقاها؟ لفريد الأنصاري، ص61- 62.

[33] نظم الدرر، للبقاعي (19/ 108).
[34] في ظلال القرآن، لسيد قطب (6/ 3431).
[35] انظر قصة عجيبة تدل على هذا الأمر ذكرها صاحب الظلال -رحمه الله تعالى- في كتابه (في ظلال القرآن، 3/ 1786)، والذي منعني من نقلها هنا خشية الإطالة.

[36] مفاتيح الغيب، للرازي (29/ 300).
[37] جاء في تفسير الطبري (19/ 281): «عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾، قال: بالقرآن».
[38] مفاتيح الغيب، للرازي (29/ 300).


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #24  
قديم 24-03-2025, 11:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



فوائد من كتاب ( الإعجاز العلمي إلى أين؟ - مقالات تقويمية للإعجاز العلمي )*
للدكتور مساعد الطيار.
(24)



بسم الله الرحمن الرحيم.


هذه مجموعة فوائد من كتاب ( الإعجاز العلمي إلى أين؟ ) للدكتور مساعد الطيار:
١- ما من نبي إلا وكانت له آية تدل على صدقه في كونه مرسلاً من ربَّ العالمين، لكن هذا لا يلزم منه أن تكون آيات الأنبياء عليهم السلام قد حُكيت لنا.

٢- الأنبياء عليهم السلام تكون لهم أكثر من آية، وتتمايز هذه الآيات في عظمتها، لذا لا يلزم أن تكون كل آية من آياتهم مما برع به أقوامهم، وإنما يقال: مما يدركه أقوامهم.
٣- شاع تسمية آيات الأنبياء عليهم السلام بالمعجزات، حتى غلب لفظ المعجزة على لفظ الآية في آيات الأنبياء، والوارد في القرآن تسميتها بالآية والبرهان والسلطان والبيِّنة.
٤- الآية: العلامة الدالة على صدق الرسول بأنه مُرسل من ربه، وهذا المصطلح هو الغالب في القرآن والسُّنَّة من بين المصطلحات الأخرى التي جاءت فيهما، وبقي هذا المصطلح في كلام الصحابة، والتابعين
وأتباعهم.
٥- لو وازنْتَ بين مصطلح القرآن والسُّنّة (الآية)، وهذا المصطلح الحادث (المعجزة) = لبان لك أن مصطلح القرآن والسُّنّة لا يحتاج إلى تلك الشروط التي عَرَّف بها هؤلاء مصطلح المعجزة؛ لأن الآية هي العلامة الدالة على صدق النبي، وهي مستلزمة لذلك إذا نطق بها، وعلى هذا جميع آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

٦- أما مصطلح المعجزة، فاحتاج من يقول بها إلى تقييدات لها سمَّوها (شروط المعجزة)، وقد بُنيت هذه الشروط شيئاً فشيئاً حتى تكاملت إلى سبعة شروط عند المتأخرين:
قال الإيجي: (البحث الأول في شرائطها، وهي سبع:
الأول: أن يكون فعل الله أو ما يقوم مقامه ...

الثاني: أن يكون خارقاً للعادة إذ لا إعجاز دونه ...
الثالث: أن يتعذر معارضته، فإن ذلك حقيقة الإعجاز.

الرابع: أن يكون ظاهراً على يد مدعي النبوة ليعلم أنه تصديق له ...
الخامس: أن يكون موافقاً للدعوى ...
السادس: ألا يكون ما ادعاه وأظهره مكذباً له ...
السابع: أن لا يكون متقدماً على الدعوى بل مقارناً، لها لأن التصديق قبل الدعوى لا يعقل ...)

المواقف للإيجي، تحقيق عبد الرحمن عميرة
٧- اشتراط التحدي في تسمية المعجزة ليس بسديد، وإنما الذي دعا إليه هو حصر الحديث عن آيات الأنبياء بالآية العظمى لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وهي القرآن الكريم الذي تحدى الله به الإنس والجن.
٨- بعض العلماء ذهب إلى التفريق بين المعجزة والكرامة بتفريقات منها: أن المعجزة يتحدى بها النبي عليه الصلاة والسلام، والكرامة تقع للولي ولا يتحدى بها، وهذا التفريق محض اصطلاح.

٩- ومن أهم الشروط التي ذكروها: أن المعجزة تكون مقرونة بالتحدي، وهذا الشرط لا يتناسب مع كثير من معجزاتهم، بل إنها كلها ـ إلا القرآن ـ لم يُتحدَّ بها،
١٠- مما يحسن التنبه له في موضوع (معجزات ـ آيات ـ الأنبياء) أنها ليست هي الطريق الوحيد لإثبات نبوة الأنبياء، لذا تجد أن أغلب الناس يؤمنون بدون أن يظهر لهم البرهان والحجة على معجزة من المعجزات.
١١- مما يحسن التنبه له في (إعجاز القرآن) أن هذا المصطلح أحدث بلبلة في التفريق بين ما تُحدِّي به العرب صراحة وبين (دلائل الصدق) الأخرى التي فيه التي سمَّاها العلماء (أنواع الإعجاز القرآني)؛ كالإخبار
بالغيوب، فظنَّ بعض الناس أنها داخلة في التحدي.

١٢- إذا جمعت الوجوه التي حُكيت في أنواع الإعجاز ـ سوى الصرفة ـ وجدت أنها لا تكون في كل سورة، بل تتخلف في كثير من السور، فمثلاً: ليس في كل السور إخبار بالغيب. أما الذي يوجد في كل سورة بلا استثناء فهو الوجه المتحدى به، وهو ما يتعلق بالنظم العربي لهذا القرآن (لغة وبلاغة وأسلوباً).
١٣- جاز لنا أن نعدل عن مصطلح (أنواع إعجاز القرآن) إلى (دلائل صدق القرآن)، فإنه يمكن القول بأن وجوه صدق هذا الكتاب تظهر في جوانب كثيرة جداً.
١٤- بعض دلائل الصدق (أنواع الإعجاز) ليست مختصةً بالقرآن، بل هي مرتبطة بكلام الله سبحانه وتعالى.
١٥- ما يحكيه بعض المعاصرين من وجوه إعجاز جديدة؛ كإطلاق مصطلح (الإعجاز العقدي) أو (الإعجاز التشريعي) أو (الإعجاز العلمي) أو غيرها = فإنها غير مختصَّة بالقرآن وحده، بل هي عامَّةٌ في كلام الله
النازل على رسله.
١٦- موضوع الإعجاز العلمي يدخل تحت التفسير بالرأي، فإن كان المفسر به ممن تأهل وعَلِمَ، كان تفسيره محموداً، وإن لم يكن من أهل العلم فإن تفسيره مذموم، وإن كان قد يصل إلى بعض الحقِّ.
١٧- إنَّ الإعجاز العلمي يدخل في ما يسمَّى بالإعجاز الغيبيي، وهو فرع منه، إذ مآله الإخبار بما غاب عن الناس فترة من الزمن، ثمَّ علمه المعاصرون.

١٨- قصارى الأمر في مسألة الإعجاز العلمي أنَّ الحقيقة الكونية التي خلقها الله، وافقت الحقيقة القرآنية التي تكلم بها الله، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المتكلم عن الحقيقة الكونية المخبر بها هو خالقها، فلا يمكن أن يختلفا البتة.
١٩- إن كثيراً ممن كَتب في الإعجاز العلمي ليس ممن له قدم في العلم الشرعي فضلاً عن علم التفسير

وكان من أخطار ذلك أن جُعلت الأبحاث في العلوم التجريبية أصلاً يُحكم به القرآن، وتُؤوَّل آياته لتتناسب مع هذه النظريات والفرضيات.
٢٠- إن كتاب الله أعلى وأجلَّ من أن يُجعل عرضة لهذه العقول التي لم تتأصل في علم التفسير، فأين هم من قول مسروق: «اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله»؟
٢١- في نسبة الإعجاز، أو التفسير إلى «العلمي» خلل كبير، وأثر من آثار التغريب الفكري، فهذه التسمية منطلقة من تقسيم العلوم إلى أدبية وعلمية، وفي ذلك رفع من شأن العلوم التجريبية على غيرها من العلوم
النظرية التي تدخل فيها علوم الشريعة.
٢٢- ومما يلاحظ في أصحاب الإعجاز العلمي عدم مراعاة مصطلحات اللغة والشريعة، ومحاولة تركيب ما ورد في البحوث التجريبية على ما ورد في القرآن
٢٣- إنَّ بعض من نظَّر للإعجاز العلمي، وضع قاعدة، وهي: أن لا يفسَّر القرآن إلا بما ثبت حقيقة علمية لا تقبل الشكَّ، لئلا يتطرق الشك إلى القرآن إذا ثبت بطلان فرضية فسِّرت بها آية.
وهذا القيد خارجٌ عن العمل التفسيري، ولا يتوافق مع أصول التفسير.
٢٤- من الذي يُثبتُ أنَّ هذه القضية صارت حقيقةً لا فرضية؟

أي: من هو المرجع في ذلك؟ أيكفي أن يُحدِّثَ بها مختصٌّ؟
٢٥- بالنسبة للمفسِّر، فإنه لا يمكنه أن ينكر ما يُحكمُ بثبوته من حقائق العلم التجريبي؛ لأنه لا يملك الأدوات التي يصل بها إلى أن يثبت أو ينكر.
٢٦- عمل المفسِّر هنا أن يرى صحة انطباق تلك القضية على ما جاء في القرآن من جهة دلالة اللغة والسياق وغيرها
إن الربط بين ما يظهر في البحث التجريبي المعاصر وبين ما يرد في القرآن إنما هو من عمل المفسِّر به، كائناً من كان هذا المفسر، ومهمته في هذا بيان معاني القرآن.

٢٧- إن موضوع الإعجاز العلمي طويل جدّاً، ولست ممن يردُّه جملة وتفصيلاً، لكنني أدعو إلى تصحيح مساره، ووضعه في مكانه الطبيعي دون تزيُّدٍ وتضخيم .
٢٨- إنَّ أي تفسير جاء بعد تفسير السلف، فإنه لا يقبل إلا بضوابط، وهذه الضوابط:
1 - أن لا يناقض (أي: يبطل) ما جاء عن السلف (أعني: الصحابة والتابعين وأتباع التابعين)

2 - أن يكون المعنى المفسَّر به صحيحاً.
3 - أن يتناسب مع سياق الآية، وتحتمله الآية.
أن لا يُقصَر معنى الآيةِ على هذا المعنى المأخوذ من البحوث التجريبية.

٢٩- إن وجد إشارةٌ في القرآن لبعض هذه المسائل المرتبطة بالعلوم التجريبية فإنها لم تكن هي المقصد الأول، ولم ينْزل القرآن من أجلها،
٣٠- المعلومات العقدية والشرعية ـ أي: كيف يعرفون ربهم، وكيف يعبدونه ـ هي الأصل المراد بإنزال القرآن وهي التي تكفَّل الله ببيانها للناس، أما المعلومات الدنيوية بما فيها العلوم التجريبية فهي موكولة للناس كما

سبق، وإن جاءت فإنها تجيء مرتبطة بالدلالة على حكم عقدي أو شرعي، فهي جاءت تبعاً وليس أصالةً؛ أي: أن القرآن لم يقصد أن يذكرها على أنها حقيقة علمية مجردة، بل ليستدل بها على توحيد الله وأحقيته بالعبادة، أو على حكم تشريعي، أو على إثبات اليوم الآخر.
٣١- القضايا العلمية التي يفسر بها من يبحث في الإعجاز أو التفسير العلمي لا يدركها إلا الخواص من الناس، ولا يوصل إليها إلا بالمِراس.
٣٢- الفرق بين القرآن والعلم التجريبي في تقرير القضية العلمية:

⁃ أن القرآن يقررها حقيقة حيث كانت وانتهت، والعلم التجريبي يبدأ في البحث عنها من الصفر حتى يصل إلى الحقيقة العلمية
⁃ القرآن يذكر القضية العلمية مجملة غير مفصلة، أما العلم التجريبي فينحو إلى تفصيل المسألة العلمية.
• علم البشر قاصر غير شمولي، ونظره من زاوية معينة، لذا قد يغفل عن جوانب في القضية، فيختلَّ بذلك الحكم ونتيجة البحث.

٣٣- قد تكون بعض القضايا العلمية صحيحة في ذاتها، لكن الخطأ يقع في كون الآية تدلُّ عليها، وتفسَّر بها.
٣٤- موقف المسلم من قضايا العلوم التجريبية المذكورة في القرآن:
⁃ الإيمان بالقضية الكونية التي ذكرها القرآن لا يحتاج إلى إدراك الحسِّ، بل يكفي ورودها في القرآن، بخلاف القضايا العلمية التي يحتاج الإيمان بها إلى الحسِّ، سواءً أكانت هذه القضايا مذكورة في القرآن أم لم تكن
مذكورة.
⁃ المسلم مطالب بالأخذ بظواهر القرآن، وأخذه بها يجعله يسلم من التحريف أو التكذيب بها، ولو كانت مخالفة لقضايا العلم التجريبي المعاصر.

⁃ إذا عارضت النظريات العلمية، ولو سُميت حقائق علمية فإنه لا يلزم الإيمان بها، بل يقف المسلم عند ظواهر القرآن
٣٥- يجب الحذر من حمل مصطلحات العلوم المعاصرة على ألفاظ القرآن وتفسيره بها.
36• البحوث العلمية الناتجة عن الدراسات لا يلزم مصداقيتها، وهي درجات من حيث المصداقية، لذا ترى دراسة علمية تذكر فوائد شيء، وتأتي دراسة تناقضها في هذه الفوائد.
٣٧- ممَّا يلاحظ على من كتب في الإعجاز العلمي أنه لم يبيِّن علاقته بمفهوم المعجزة كما استقرَّ عند العلماء السابقين الذين كتبوا فيها، بل راح بعضهم يتلمَّس مفهوماً جديداً يتناسب مع مفهوم الإعجاز العلمي
عنده، فراح يورد معاني مادة عجز في اللغة، حتى إذا ما ظَفِرَ بمعنى (السَّبق) عضَّ عليه.
٣٨- لا تظهر علاقة تعريف الإعجاز العلمي ـ الذي هو عندهم نوع من أنواع إعجاز القرآن الكريم ـ بتعريف المعجزة كما نقلوه عن العلماء السابقين نقل تقريرٍ وقَبول.
٣٩- إن من تكلم عن الإعجاز العلمي يحرص على جعله نوعاً جديداً مستقلاًّ، وتراه يجعله خاصّاً ـ في معظمه ـ بالآيات الكونية، والعلوم التجريبية.

٤٠- التحدي الحقيقي يقوم على من يملك أدوات التحدِّي دون من يفقدها، وهي بالنسبة له من العدم.

وإذا كان هذا بيِّناً، فإنه يظهر أنَّ التحدي لم يكن بغير ما كانوا بارعين فيه، عارفين له، ومالكين لأزمَّة أمره، وهو جانب النظم والبيان، أما غيره مما انسبك في هذا النظم من أمور تشريعية وتاريخية وغيبية وغيرها، فهي مما لم يُطالبوا بالإتيان بمثله؛ لأنهم غير قادرين عليه أصلاً،
٤١- إن النتيجة التي سيصل إليها من يريد البحث في هذا المجال هي صدق القرآن وأنه وحي منَزَّل من عند الله.
والمقصود أنَّ نهاية البحث في هذا الموضوع هو التنبيه على صدق القرآن إذ أخبر عمَّا كان خافياً عن البشر إبَّان نزوله، فظهر بتقدم الزمن .
٤٢- يُنتبه لأمور:

الأول: أن لا يُسمى البحث في قضايا العلم التجريبي بهذا الاسم (الإعجاز العلمي).
الثاني: أن لا يُنطلق في الحديث من القرآن لأجل إثبات أن القرآن قد تحدث عن هذه القضية أو تلك.
الثالث: أن يُنطلق في الحديث عن هذه الأمور من باب بيان عظمة الله في خلقه، وإن جاءت الآيات في البحث عن عظمة الله في خلقه فمجيئها على سبيل الاستشهاد لا على سبيل تقرير ما فيها من أمور متعلقة
بالبحوث التجريبية.
٤٣- من خلال قراءتي فيما سطَّره بعض المعاصرين ممن اعتنوا بإبراز (الإعجاز العلمي) في كتاب الله سبحانه وتعالى؛ رأيت أن اعتمادهم على المأثور عن السلف قليلٌ جداً، وجُلُّ اعتمادهم على كتب التفسير المتأخرة، فتراهم ينسبون القول إلى القرطبي وأبي حيان والشوكاني على أنهم هم السلف

٤٤- في هذا العصر الذي برز فيه سلطان العلوم الكونية والتجريبية سعى نفر من المسلمين إلى إبراز سبق القرآن إلى كثير من هذه المكتشفات المعاصرة، لكنَّ بعضهم تنقصه الآلة التي يستطيع بها معرفة صحة مطابقة تلك القضية في تلك العلوم للآية التي يحمل عليها ذلك التفسير الحادث، كما أن الملاحظ على هؤلاء أنهم لا يعرفون قول السلف في الآية.

- تكاد تتفق كلمة الباحثين في الإعجاز العلمي على أن المراد به: سبق القرآن إلى الإخبار بأمور كانت غير معلومة للجيل الذين نزل عليهم القرآن، وظهرت معرفتها في هذا العصر المتأخر.
٤٦- إن أي مفسر ـ كائناً من كان ـ إذا أقدم على التفسير وهو غير عالم بطريقة التعامل مع تفسير السلف حال الاتفاق وحال الاختلاف، فإنه سيقع في تفسيره خلل بسبب نقص علمه في هذا المجال، إلا أن يكون ناقلاً لا رأي له، وبهذا يكون خارجاً عن أن يكون مفسراً.
٤٧- ضوابط قبول التفسير المعاصر:

الضابط الأول: أن يكون القول المفسَّر به صحيحاً في ذاته:
1 - أن تدلَّ عليه لغة العرب، وذلك في تفسير الألفاظ أو الصيغ أو الأساليب.
وهذا يعني أن تفسير ألفاظ القرآن بمصطلحات علمية سابقة له ، أو مصطلحات لاحقة لا يصحُّ البتة؛ لأن ألفاظه عربية.

يؤخذ من لسان العرب، ولغة القرآن، لا من هذه المصطلحات
2 - أن لا يخالف مقطوعاً به في الشريعة.

فإن ما لا يوافق الشريعة لا يمكن أن تدل عليه آيات القرآن بحال.
الضابط الثاني: أن تحتمل الآية هذا القول الحادث:
ويمكن معرفة ذلك بطرق، منها أن تدلَّ عليه بأي وجهٍ من وجوه الدلالة: مطابقةً أو تضمُّناً أو لزوماً، أو مثالاً لمعنى لفظ عام في الآية، أو جزءاً من معنى لفظ من الألفاظ، أو غير ذلك من الدلالات التي يذكرها العلماء من أصوليين وبلاغيين ولغويين ومفسرين.

وهذا الضابط مهمٌّ للغاية، إذ قد يصحُّ القول من جهة وجوده في الخارج، لكن يقع الخلل في صحة ربطه بالآية،
الضابط الثالث: أن لا يبطل قول السلف:
والمراد أن القول المعاصر المبني على العلوم الكونية أو التجريبية يُسقطُ قول السلف بالكلية،

٤٨- مصطلح معاصر حادث، وهو (الإعجاز العلمي في السُّنَّة النبوية)، فهل يصح هذا الإطلاق؟
إذا رجعنا إلى تراثنا المتراكم عبر القرون، وجدنا علماءنا ـ رحمهم الله تعالى ـ قد كتبوا في هذا الأمر، لكن تحت مسمَّى (دلائل النبوة) أو (أعلام النبوة)، وهو أقلُّ في الاستعمال من (دلائل النبوة).
ويذكرون في كتبهم هذه أموراً:

الأول: معجزات نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
الثاني: أحواله الدالة على صدقه.
الثالث: إخباراته بالغيب، والإشارة إلى وقوع بعض ما أخبر به.

٤٩- قلَّبتُ الأمر في هذا المصطلح الحادث، فلم أر أننا بحاجة إليه ما دام في تراثنا ما يغني عنه، ويدلُّ على المراد به دون مشكلات علمية، وإذا تأملت تعريفهم للإعجاز العلمي بالسُّنَّة النبوية؛ ظهر لك يقيناً أن مدلول مصطلح (دلائل النبوة) أصدق وأدقُّ من مدلول (الإعجاز).
٥٠- هل يُعدُّ هذا سبقاً، وهل هذا السبق ـ لو صحَّ ـ إعجاز؟!

حقيقة السبق تكمن في المجهود البشري البحت، وليس في ادِّعاء سبق القرآن للعلم المعاصر؛ لأن ادعاء السبق ظنِّي بلا ريب، ولا يمكن لأحد أن يجزم بأن هذه القضية المعاصرة تفسير وتأويل لآيةٍ ما.
٥١- يصحُّ ادعاء السبق في حالين:
الأولى: أن تكون الآية ظاهرة واضحة بلا نزاع في أن المراد منها ما اكتشفه العلم المعاصر، وفي هذه الحالة، فإن فهم السلف لها يُخرجها عن كونها لم تُكتشف إلا بالعلوم المعاصرة المكتسبة، ويبدو أنه إذا وُجد أمثلة من
هذا النوع فإنها خارجةٌ عن كلام أهل الإعجاز العلمي.

الثانية: إذا قام الباحث المسلم باكتشاف القضية المعاصرة، ثم اكتشفها الكافر بعده، فتلك حقيقة السبق.
٥٢- هل هناك فرق بين دلالة الآيات القرآنية ودلالة الأحاديث على المكتشفات المعاصرة؟

إذا تأملت مجموعة من الأحاديث النبوية التي نُسب إليها (الإعجاز) ـ كما هو الحال في التعريف الأول ـ فإنك ستلاحظ أن دلالة الحديث النبوي على القضية المكتشفة المعاصرة أقوى من دلالة الآية التي تأتي مجملة ـ في كثير من الأحيان .
٥٣- لقد بقي تفسير القرآن بما ورد في كتب العلوم التجريبية والكونية يسمَّى بالتفسير العلمي، وهو اجتهاد في ربط بعض ظواهر الكون المكتشفة حديثاً بالقرآن، وإبراز أن القرآن قد دلَّ عليها، وهذه النتيجة لا
تختلف عن الانتقال من تسمية هذه الظاهرة التفسيرية الجديدة باسم الإعجاز العلمي، فهذا يفسر، وذاك يفسر، وإنما الاختلاف في كون المفسَّر به نظرية أو حقيقة.
54- مدلول العلم عند الطاهر بن عاشور أوسع من مدلول المعتنين بالإعجاز العلمي الذين جعلوه في (العلوم التجريبية).
55- دلائل صدق القرآن لا يمكن أن تُحصر، فكل آية من آياته دليل على صدقه، فالجهل بالاستدلال بها اليوم من قِبَلِ بعض الناس لا يعني عدم وجودها، أو أنها لا توجد إلا في الإعجاز العلمي.

56- كيف نتعامل مع تفسير السلف؟
1- معرفة ما منَّ الله عليهم به من التقدم في الإسلام، والإحاطة بعلم الشريعة، والإدراك لمعاني كلام الله.
2- أن نفهم كلام السلف ونعرفه، لكي لا نتعجَّل في ردِّه.

3- أن نبني عليه ولا ننقضه.4- أن نعلم أن اختلافهم ـ في الغالب ـ اختلاف تنوع.5- أنَّ عدم قولهم بهذا مبني على مسألة مهمة، وهي التفريق بين أمرين:الأمر الأول: أنه لا يوجد في القرآن ما لم يعرف له السلف معنى صحيحاً، وهذا يعني أنهم ـ بجمهورهم ـ فسروا القرآن كله، ولم يفت عليهم شيءٌ من معانيه.الأمر الثاني: أنَّ للقرآن وجوهاً غير التي ذكرها السلف، وأنه يجوز تفسير القرآن بالوجوه الصحيحة التي تحتملها الآية.

===========================
* منقول من موقع مثانى القرآن


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #25  
قديم 25-03-2025, 11:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



فوائد وتأملات حول اسم الله ( اللطيف )*
من كلام العلامة السعدي - رحمه الله -
(25)



بسم الله الرحمن الرحيم
- ورد اسم الله ( اللطيف ) في القرآن في سبعة مواضع :


} لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{[الأنعام : 103]
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{ [ يوسف : 100]
}أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج : 63]



} يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ{ [لقمان : 16]

} وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا { [الأحزاب : 34]
} اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {]الشورى : 19]


}أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{ [الملك : 14[
} لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{[الأنعام : 103]
{ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن. ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية،
والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، حتى أنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها، فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين.
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ{ (يوسف 100)
{ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } يوصل بره وإحسانه إلى العبد من حيث لا يشعر، ويوصله إلى المنازل الرفيعة من أمور يكرهها، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } الذي يعلم ظواهر الأمور وبواطنها، وسرائر العباد وضمائرهم، { الْحَكِيمُ } في وضعه الأشياء
مواضعها، وسوقه الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها.

}أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً ۗ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {[الحج : 63]

{ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } اللطيف الذي يدرك بواطن الأشياء، وخفياتها، وسرائرها، الذي يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة تخفى على العباد، ومن لطفه، أنه يري عبده، عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، ومن لطفه، أنه يعلم مواقع القطر من الأرض، وبذور الأرض في باطنها، فيسوق ذلك الماء إلى ذلك البذر، الذي خفي على علم الخلائق فينبت منه أنواع النبات، { خَبِيرٌ } بسرائر الأمور، وخبايا الصدور، وخفايا
الأمور.
} يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ{ [لقمان : 16]

قال: { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي: لطف في علمه وخبرته، حتى اطلع على البواطن والأسرار، وخفايا القفار والبحار.

والمقصود من هذا، الحث على مراقبة اللّه، والعمل بطاعته، مهما أمكن، والترهيب من عمل القبيح، قَلَّ أو كَثُرَ.

} وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا { [الأحزاب : 34]
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } يدرك أسرار الأمور، وخفايا الصدور، وخبايا السماوات والأرض، والأعمال التي تبين وتسر.

فلطفه وخبرته، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال، ومجازاة اللّه على تلك الأعمال.



ومن معاني { اللطيف }
الذي يسوق عبده إلى الخير، ويعصمه من الشر، بطرق خفية لا يشعر بها، ويسوق إليه من الرزق، ما لا يدريه، ويريه من الأسباب، التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقا [له] إلى أعلى الدرجات، وأرفع المنازل.
} اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ {]الشورى : 19]

يخبر تعالى بلطفه بعباده ليعرفوه ويحبوه، ويتعرضوا للطفه وكرمه، واللطف من أوصافه تعالى معناه: الذي يدرك الضمائر والسرائر، الذي يوصل عباده -وخصوصا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون.

- فمن لطفه بعبده المؤمن

أن هداه إلى الخير هداية لا تخطر بباله، بما يسر له من الأسباب الداعية إلى ذلك، من فطرته على محبة الحق والانقياد له وإيعازه تعالى لملائكته الكرام، أن يثبتوا عباده المؤمنين، ويحثوهم على الخير، ويلقوا في قلوبهم من تزيين الحق ما يكون داعيا لاتباعه.

ومن لطفه :
أن أمر المؤمنين، بالعبادات الاجتماعية، التي بها تقوى عزائمهم وتنبعث هممهم، ويحصل منهم التنافس على الخير والرغبة فيه، واقتداء بعضهم ببعض.

ومن لطفه،

أن قيض لعبده كل سبب يعوقه ويحول بينه وبين المعاصي، حتى إنه تعالى إذا علم أن الدنيا والمال والرياسة ونحوها مما يتنافس فيه أهل الدنيا، تقطع عبده عن طاعته، أو تحمله على الغفلة عنه، أو على معصية صرفها عنه، وقدر عليه رزقه، ولهذا
قال هنا: { يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ } بحسب اقتضاء حكمته ولطفه { وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } الذي له القوة كلها، فلا حول ولا قوة لأحد من المخلوقين إلا به، الذي دانت له جميع الأشياء.
}أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{ [الملك : 14[

{ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر، والخبايا [والخفايا والغيوب]، وهو الذي { يعلم السر وأخفى } ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من [العبد] على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة.

من أوجه لطفه تعالى :
من لطفه

بعباده المؤمنين أنه يتولاهم بلطفه ، فيخرجهم من الظلمات إلى النور ، من ظلمات الجهل والكفر والبدع والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة .

ومن لطفه :

أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء ، التي هذا طبعها وديدنها ، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ، ويصرف عنهم السوء والفحشاء . فتوجد أسباب الفتنة ، وجواذب المعاصي ، وشهوات الغي ، فيرسل الله عليهما برهان لطفه ، ونور إيمانهم الذي منّ به عليهم ، فيدعونها مطمئنين لذلك ، منشرحة لتركها صدورهم .

ومن لطفه بعباده :
أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم ، فقد يريدون شيئا وغيره أصلح . فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه

( الله لطيف بعباده يرزق من يشاء)
ومن لطفه :

أنه يقدر عليهم أنواع المصائب ، وضروب المحن والابتلاء بالأمر والنهي الشاق ؛ رحمة بهم ولطفا ، وسوقا إلى كمالهم وكمال نعيمهم .
( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم )

ومن لطفه :
أن يأجره على أعمال لم يعملها بل عزم عليها ، فيعزم على قُربة من القرب ثم تنحل عزيمته

لسبب من الأسباب فلا يفعلها .
ومن لطفه :

أن يُقيّض لعبده طاعة أخرى غير التي عزم عليها ، هي أنفع له منها ، فيدٓعُ العبد الطاعة التي ترضي ربه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها .

و من لطفه :

أن يُقّر الله خيرا وإحسانا من عبده ، ويُجريه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقا إلى وصوله للمستحق، فيثيب الله الأول والآخر .
المصدر :

(1) " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " للسعدي
(2) كتاب " المواهب الربانية من الآيات القرآنية " للسعدي

* منقول من موقع مثانى القرآن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #26  
قديم 26-03-2025, 01:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



ليلة القدر؛ فضائلها وسبل استثمارها
الكاتب : مسعد عرفة
(26)



ليلة القدر ليلة لها شرف جليل وقدر عظيم، وفيها الكثير من البركات والخيرات؛ فهي هبة عظيمة ومِنّة كبيرة اختص الله بها هذه الأمة. تعرف في هذه المقالة على فضائل هذه الليلة وسُبل استغلالها.
سلْني عن أعظم نعمة امتنّ الله بها على عباده أُحدثك عن نعمة القرآن، وسلْني عن خير ليلة في العام أُحدّثك عن ليلة نزول القرآن؛ فهي ليلة ليست كسائر الليالي، إنها ليلةٌ عظيمة القدر أنزل الله فيها كتابًا عظيم
القدر عن طريق مَلَكٍ عظيم القدر إلى نبي عظيم القدر، إنها ليلة القدر، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [سورة القدر:1-2].
فسبحان من شَهِدَ بفضل هذه الليلة واختارها لتكون ميقاتًا لميلاد رسالة الإسلام وموعدًا لنزول القرآن، فإن أردت أن تتحدث عن شرف القرآن وقدره فينبغي أن تتحدث عن شرف هذه الليلة المباركة التي نزل فيها
القرآن، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [سورة الدخان:3].
فضائل ليلة القدر وخصائصها:

فليلة القدر ليلة قدرها جليل، وليس لها مثيل، ويضاعف الله فيها العمل القليل، فهي هبةٌ عظيمة ومنة كبيرة اختصَّ الله بها هذه الأمة، وفيما يلي نُجمل شيئًا من فضائل هذه الليلة العظيمة:
أولًا: أنَّ الله شرّفها بنزول القرآن فيها:

ذلك أنَّ القرآن قد نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أُنزل بعد ذلك إلى الأرض منجمًا ومفرقًا بحسب الوقائع والحوادث، فعن ابن عباس قال: «أُنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء

الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة»[1].
ثانيًا: جعل الله -عز وجل- أجرَ العمل فيها خيرًا من ألف شهر:
قال مجاهد في قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي: «عملُها وصيامُها وقيامُها خيرٌ من ألف شهر»[2].

وذلك منّة من الله وفضل على هذه الأمة لقصر أعمارها، مقارنة بأعمار الأمم السابقة، فقد روي أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر يومًا أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، قال: فعجب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ذلك، فأتاه جبريل فقال: يا محمد، عجبتْ أمّتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك، فقرأ عليه: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ
مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، هذا أفضل مما عجبتَ أنت وأمتك، قال: فسُرَّ بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والناس معه[3].
وروي عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجلٌ يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يُمْسِيَ، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل الله هذه الآية: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، أي: قيام تلك الليلة خيرٌ
من عمل ذلك الرجل[4].

ثالثًا: من قام هذه الليلة إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه:
فعن أبي هريرة أن رسول الله -صـلى الله عليه وسلم- قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري].
رابعًا: أَخْبَرَ النبي -صـلى الله عليه وسلم- أن من حُرِم خير هذه الليلة فقد حُرِم:

فعن أبي هريرة -رضـي الله عنه- قال: لما حَضرَ رمضانُ قال رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-: «قد جاءكم شهر رمضان، شهرٌ مباركٌ، افترض اللهُ عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حرم» [رواه النسائي].

خامسًا: أنَّ هذه الليلة تنزّل فيها الملائكة ويُقدّر فيها الآجال والأرزاق:

يقول مجاهد: «يُقضَى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يُقَدّمُ ما يشاء، ويُؤخّر ما يشاء، فأمَّا كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يُغّير»[5].

وعن ربيعة بن كلثوم، قال: كنت عند الحسن، فقال له رجل: يا أبا سعيد، ليلة القدر في كلّ رمضان؟ قال: إي والله، إنَّها لفي كلّ رمضان، وإنها الليلة التي يُفْرَق فيها كلُّ أمرٍ حكيم، فيها يقضي الله كلّ أجل وأمل ورزق إلى مثلها[6].

سادسًا: أخبر الله سبحانه أنها ليلة سالمة من الشيطان ومن كلِّ شرٍّ:
يقول ابن جرير في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، أي: سلام ليلة القدر من الشرّ كلّه من أوّلها إلى طلوع الفجر من ليلتها[7].

وقد روي عن مجاهد في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر:5] قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى[8].
الحكمة من إخفاء ليلة القدر :

ومن حكمة الله -عز وجل- أن أخفى ليلة القدر كما أخفى الأعمار والآجال والأرزاق؛ وذلك ليجتهد المسلم في العبادة والطاعة في جميع ليالي العشر، بخلاف ما لو عُيّنت لها ليلة لخصّها الناسُ بالعبادة ولتكاسلوا عن سائر الليالي، ومع ذلك قد يخصُّ الله بعض عباده برؤية علامتها أو الشعور بسكينتها وبركاتها، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة، فيرى أنوارها أو يرى من
يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح الله على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر»[9].
بعدما عرفنا أيها القارئ الكريم فضل هذه الليلة المباركة، كيف لنا أن نكون من الفائزين بها؟

أولًا: ينبغي على المسلم أن يتحرّاها في الليالي العشر الأواخر من رمضان:
وذلك بالاجتهاد في العبادات والأعمال الصالحات في هذه العشر كلّها، وألا يفتر في ليلة منها وخاصة الليالي الوتر، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما-، أن النبي -صـلى الله عليه وسلم-، قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان» [رواه البخاري].

وروي عن عائشة -رضـي الله عنها-: أنَّ رسول الله -صـلى الله عليه وسلم-، قال: «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» [رواه البخاري].

ثانيًا: ينبغي على المسلم أن يجتهد في قيام هذه الليالي العشر وإحيائها:
فقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أنَّه كان إذا أتت العشر الأواخر من رمضان، كان يحيي ليله ويوقظ أهله ويعتكف في المسجد للعبادة، فعن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شدَّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» [رواه البخاري].

وذلك لأن قيام الليل في هذه الليالي المباركة من أفضل العبادات، التي يمكن أن يتقرب بها المسلم إلى الله -عز وجل-، لما له من عظيم الأجر كما أخبر النبي -صـلى الله عليه وسلم-، فقد روى أبو هريرة، عن النبي -صـلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه» [رواه البخاري].

وهذا القيام يبدأُ من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، كما قال تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [سورة القدر:5].
ومن كان يصلي القيام في المسجد خلف الإمام فيستحب له عدم الانصراف من المسجد حتى ينتهي الإمام من الصلاة، إن أراد أن ينال أجرَ قيام ليلة كاملة؛ فقد روي عن النبي -صـلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن
الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة» [رواه أبو داود].

ثالثًا: الاجتهاد في الدعاء في هذه الليالي العشر:

وخاصة بهذا الدعاء الذي علمه النبي -صـلى الله عليه وسلم- لأم المؤمنين عائشة -رضى الله عنها-، فقد روي عنها أنها قالت للنبي -صـلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله، أرأيتَ إنْ علمتُ أيّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول فيها؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحبّ العفو فاعفُ عنّي» [رواه الترمذي].

وفي الختام: أسأل الله أن يُبلّغني وإياكم ليلة القدر، وأن يرزقنا صيامها وقيامها على الوجه الذي يرضيه عنَّا، وأن يكتب لنا أجرها ولا يفتنّا بعدها، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] تفسير ابن كثير: (6/ 100).
[2] تفسير الطبري: (24/ 533).
[3] تفسير ابن كثير: (8/ 426).

[4] تفسير الطبري: (24/ 533).
[5] تفسير الطبري: (22/ 10).

[6] تفسير الطبري (22/ 8).
[7] تفسير الطبري (24/ 534).

[8] تفسير ابن كثير (8/ 427).
[9] مجموع الفتاوى (25/ 286).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #27  
قديم 27-03-2025, 01:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان







ضوابط المجالس القرآنية:
من كتاب ( مجالس القرآن ) للدكتور فريد الأنصاري
(27)





الضابط الأول: لابد من تجريد القصد لله!
واعلم أن القرآن الكريم لا يفتح بصائره إلا للمقبلين عليه بإخلاص!
الضابط الثاني: تَحَيُّنُ أوقاتِ الانشراح النفسي للقرآن، والإقبال الوجداني على الذِّكْر، ومَظَانِّ اليقظة الإيمانية.وقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج من أحسن أوقات الذكر، وهي أوقات الغُدُوِّ والآصَال. فالغَدُوُّ أو الغَدَاةُ: هي ساعات أول النهار، من الفجر إلى أوائل وقت الضحى. وأما الآصال فمفرده: أصيل، وهو وقت ما بين العصر إلى الغروب.فهو سويعات آخر النهار، حيث يبرد حر الشمس، وتهدأ أشعتها، وتلين أضواؤها، وتطول الظلال وتمتد.
و عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده.
فإذا لم يكن سبيل إلى عقد مجلس القرآن بأحد هذين الوقتين؛ فليكن بعد المغرب، أي بين العشاءين، وهو وقت داخل أيضا في مسمى (العَشِيِّ)؛ لأن العَشِيَّ في الأصل من العَشْوَةِ وهي: بداية الظلمة، عند إقبال الليل وإدبار النهارالضابط الثالث: وهو مراعاة أدب المجلس، وذلك بالاعتدال في هيأة الجلوس بما يحفظ للعلم وقارَه، وللقرآن جلالَهالضابط الرابع: عدم عقد أكثر من لقاء واحد، أو لقاءين اثنين على الأكثر في الأسبوع الواحد،
من لقاءات مجالس القرآن؛ بناء على منهج التَّخَوُّلِ في الموعظة، أي جعل تزود القلب من الإيمان على فترات منتظمة وغير متتابعة،؛ حتى لا يَكَلَّ ولا يَمَلَّ.
- الضابط الخامس: احترام قواعد تدارس القرآن العظيم:
مما سبق بيانه مفصلا من الترتيل بمنهج التلقي، والتعلم والتعليم بمنهج التدارس، والتزكية بمنهج التدبر. وبهذا نفتح باب الضوابط الخاصة لإدارة المجلس وهي:

- الضابط السادس: مبادرة أحد الجلساء من أهل العلم أو أهل الحِلْم؛ لتسيير المجلس. فلا بد لمجلس الخير من شخص ينظم سيره، ويرتب أولوياته؛ تجنبا للفوضى والارتجال، أو الانزلاق إلى غير أهداف مجالس القرآن العظيم! وقد يكون هذا المسيِّر من أهل العلم، أو من أهل الصلاح والورع عموما. وقد صَحَّ عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: (المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!).

الضابط السابع: أن يعمد إلى إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر.
فحضوره في الغالب إنما هو منهجي إداري. فلا ينبغي له أن يتفرد بالكلام إلا إذا آلت الأسئلة إليه وكان من أهل العلم. إذْ يجب التفريق والتمييز بين مجلس الوعظ، أو الدرس، أو المحاضرة، أو نحو ذلك؛ وبين مجلس التدارس. فالتدارس مشاركة كما تدل عليه صيغة (التفاعل) من عبارته.
ومن القواعد التربوية المساعدة على إشراك الجميع: الْحِرْصُ على عدم استفحال عدد الجلساء؛ حتى لا يكون جمهوراً غفيراً! إذْ هنالك وجب أن يُولَدَ مجلسٌ قرآني جديد! فرع عن الأول؛ لأن الجمهور الكثير إنما تؤطره المحاضرةُ، أو الخطبةُ، أو الدَّرْسُ؛ لا (التَّدارُسُ)!
الضابط الثامن: تجنيب الجلساء الدخولَ في الجَدَلِ العقيم!
فما أهلكَ كثيرا من الناس إلا الجدلُ! وفي الأثر عن بعض السلف الصالح: (إذا أراد الله بقوم سوءا سلَّط عليهم الجدل، ومنعهم العمل!)
الضابط العاشر: تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر.
وهو تحصيل التزكية للقلب بكتاب الله تعالى، والتخلق بأخلاق القرآن العظيم، من خلال مسالك التَّدَبُّر والتفكر
وهي الحذَرُ من استغراق الوقت كله في التفسير، وتتبع أقوال المفسرين من دقائق اللغات والبلاغة والإعراب، وتفاصيل الخلافات الكلامية، وتفاريع الأحكام الفقهية

فلا ينبغي أن ننسى أن غاية (مجالس القرآن) إنما هو التربية والتزكية، أي تحصيل (الربَّانِيَّة) لا تحصيل (العالِمِيَّة). ويكفيك من العلم لتحصيل الربانية ما يعرفك بالله رب العالمين!
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟!(القمر:17) فمن أراد القرآنَ للذِّكْرِ والذكرى والتربية والتزكية؛ فإنما سبيله اليُسْرُ والبساطة،
الضابط الحادي عشر: ومن هنا فالاقتراح الأوفق للمقصود إنما هو أن يُعْتَمَدَ تفسيرٌ مختَصَرٌ من ذلك كله،
مما تلقته الأمة بالقبول وأجمع على صحته السَّلَفُ والخَلَفُ. وليس كتفسير الإمام أبي جعفر الطبري(ت:310هـ) رحمه الله أوفى بالمقصود.
ويُعْتَمَدُ مختصَرُه فقط دون الأصل؛ لما امتاز به المختصر الذي جمع خلاصة ما ذهب إليه الإمام الطبري، مما أجمع عليه أهل التأويل للآية، أو ما عليه جمهورهم، أو ما رجحه هو رحمه الله من القول والبيان عند الاختلاف(). فإن لم يكن فيلتجأ إلى غيره من المختصرات الجيدة، كمختصر تفسير ابن كثير.الضابط الثاني عشر: وهكذا فلْيُقْرَأ القرآنُ أولا!
مما هو مقصود بالتدارس لذلك المجلس. ويمكن أن تُتَداولَ التلاوةُ بين جميع الحضور أو بين أغلبهم، كما يمكن أن يُكْتَفَى بتلاوة أحدهم فقط، حسب ظروف المجتمعين.
كما أن تكرار الآيات نفسها التي هي مقرر المدارسة لتلك الحصة أعْوَنُ للقلب على التفقه. والتلاوة – بضوابطها المذكورة من قبل- عبادة رفيعة جدا؛ إذْ تهيء القلب للتلقي عن الله! فلا ينبغي الاستهانة بها وتجاوزها في مجالس القرآن!

الضابط الثالث عشر: فإذا تمت حصة التلاوة والاستماع والإنصات إلى كتاب الله، كما يليق بكلام الله؛ فليشرع في قراءة خلاصة التفسير قراءةً مسموعة هادئة مفصَّلَةً؛
الضابط الرابع عشر: تَنَاوُلُ قَدْرٍ قليل من الآيات يُشَكِّلُ معنى يحسن السكوت عليه، والوقوف عنده.

سواء كان آية واحدة، أو ثلاث آيات، أو خَمْساً، أو سبعا. بشرط ألا يتعدى المقدار المدروس من ذلك كله نِصْفَ ثُمُن الحزب، بالتحزيب المتداول للقرآن الكريم، المطبوع في المصاحف بعلاماته المعروفة(). فَيُقْرَأُ ما ورد فيها من التفسير.
الضابط الخامس عشر: يُتَحَقَّقُ من الفهم العام للمعاني التي وردت بها،

وأن أهل المجلس على إدراك حسن للمقصود. ويمكن أن تثار الأسئلة حول ما أشكل منها؛ للوصول إلى بيانٍ أشمل وأوضح.

- الضابط السادس عشر: فإذا اتضح المعنى؛ وجب - بعد ذلك مباشرة - الدخول في محاولة التعرف على الهُدَى المنهاجي للآية أو الآيات،

وهو عَيْنُ الحِكَم المطلوب تعلُّمُها، مما ورد في آيات وظائف النبوة: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَوَالْحِكْمَةَ). وذلك بمحاولة استنباط الحقائق الإيمانية التي تتضمنها، والأحوال الخُلُقِيَّة التي تُرْشِدُ إليها، ومحاولة عدها باللسان، وإحصائها بالوجدان، وتداول ذلك بين سائر الْجُلَسَاءِ؛ حتى ترسخ بالقلب وتتضح صورتها بما يساعد على تَدَبُّرِها.
- الضابط السابع عشر: وبمعرفة ما تيسر من الحِكَم والمقاصد نفتح باب التدبر للآيات،

والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات. وذلك لغاية التخلق بأخلاق القرآن الكريم، والاتصاف السلوكي بِحِكَمِه العظيمة! والتفكر والتدبر – إذا خلص كلاهما لله- يورثان التخلق بأخلاق القرآن بصورة تلقائية،

وبلا كلفة، كما بيناه من قبل بشواهده. ثم إن التدبر والتفكر أيضا – بما ينطويان عليه من إبصار للآيات()- يساعدان على معرفة السبل الكفيلة بتذليل النفس وترويضها؛ لقبول هذا الخُلُقِ الرباني أو ذاك، والتحلي بتلك الخصلة النبوية أو تلك.

- الضابط الثامن عشر: فإذا تمت مدارسة السورة بأكملها، بهذا المنهج المُجَزِّئِ للوحدات أو الفقرات من كل سورة،

في مجلس واحد، إن كانت من السور القصيرة جدا، أو عبر عدة مجالس إن كانت من السور المتوسطة أو من الطوال؛ فلا بد - بعد ذلك - من محاولة قطف الثمرات التالية من ثمار المدارسة، وهي:
أ- التعرف على القضايا الأساسية التي تعالجها السورة على الإجمال، وهي حقائقها الإيمانية الكبرى، التي تدور بفلك المحور الرئيس في السورة. ثم من خلال معرفة تلك القضايا والحقائق يمكن:
ب- التعرف على المحور الرئيس للسورة على الإجمال. فلكل سورة من سور القرآن العظيم شخصيتها المستقلة، التي بها تتميز عن غيرها في نظمها السالكِ لها بِعَقْدِ الكتاب الحكيم؛ لأن هذا وذاك هو مما يساعد - بإذن الله - على التَّمْسِيكِ بالكتاب؛ لأنه يُمَكِّنُكَ - في كل وقت وحين، بالليل أو بالنهار - من المراجعة والتقويم لِخُلُقِكَ وسلوكك، ولمستواك التربوي عموما، في ضوء ما تَحَصَّلَ لديك من الحِكَم والحقائق الإيمانية، من هذه السورة أو تلك. فضبط المحور الرئيس للسورة، مع ما يدور حوله من قضاياها الأساسية؛ يساعد على طول التدبر للآيات، والتذكر لحقائقها الإيمانية باستمرار؛ حتى بعد انفضاض المجلس، حيث تنطبع المعاني الربانية بالقلب الصافي المتجردِ لله تجردَ افتقارٍ وإخلاص. فإذا اكتمل لديك تدارس القرآن العظيم بهذا المنهج وتكرر؛ صارت خريطته الكلية مرسومة على قلبك بإذن الله؛ لِمَا تلقيت من حقائقه الإيمانية عن الله جل ثناؤه، في مجالس الملائكة! مع جلسائك من (أهل القرآن: أهل الله وخاصته)؛ فلا تتصرف في سلوكك وخلقك بعدها إن شاء الله إلا بخير! وهذا من أهم مقاصد التدارس لكتاب الله تعالى.



- الضابط التاسع عشر، وهو:
- الضابط الجامع:والضابط الكلي، الجامع لضمان سير مجالس القرآن ونجاحها هو: الحفاظ على ميثاق القرآن العظيم، والالتزام به بقوة!
إذ بذلك يعرف الجليس الصادق من غيره. وإنما برهانُ صِدْقِ الجليس، وحقيقةُ انتسابه إلى أهل الله من (جلساء الملائكة)،

ومصداقية ذلك كله متوقفة على مدى التزامه بميثاق القرآن العظيم. وهو عَهْدَان: عَهْدُ فِعْلٍ وعَهْدُ تَرْكٍ. فأما عهد الفعل فهو يتلخص في ثلاثة التزامات:
- الالتزام الأول: الحفاظ على أوقات الصلوات المفروضة بالمسجد، من الفجر إلى العشاء؛ إلا لضرورة شرعية. مع تأكيد النفس وتوطينها على صلاة الفجر وصلاة العشاء، والاجتهاد في ذلك كله لإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام، على قدر الإمكان.() فالصلاة هي خير أعمال المسلم على الإطلاق كما تواتر معناه بطرق شتى! وهي العبادة الوحيدة الحاكمة على ما سواها من الأعمال والعبادات بإطلاق! إذا استقامت للمؤمن حقيقتُها وانكشف له سِرُّها؛ استقام له كل شيء من دينه ودنياه! كما فصلناه بأدلته بمحله، فتأمل!() ويكفيك من ذلك قولهe: (استقيموا ولن تحصوا! واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة! ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن!).
- الالتزام الثاني: الحفاظ على تلاوة جزء من القرآن الكريم لكل يوم، على الدوام، في الحَضَرِ والسَّفَر سواء! حتى يكون ختم القرآن لكل فرد من أفراد المجلس عند نهاية كل شهر. وبهذا يضمن العبد السالك إلى الله زادا إيمانيا يوميا، ومنهجا لتذكر حقائق الإيمان التي استفادها من مجالس التدارس القرآني. فالتلاوة المستمرة تذكيرٌ وأيُّ تذكير! لمن ذاق حقيقتَها وشاهد فضيلتَها.
- والالتزام الثالث: الاجتهاد لضم جليس جديد، أو جلساء جُدُد؛ إلى مجالس القرآن، متى سنحت الفرصة، أو إنشاء مجلس جديد على التمام. وتلك نعمة إيمانية – إن أكرمك الله بها - ولا كأي نعمة!

فالحرص على نشر الخير والدعوة إليه؛ سِمَةٌ أساسيةٌ للمؤمن الصادق، مهما لقي في سبيل ذلك ما لقي من الحرج والعنت.
والآية التي هي الشِّعَارُ الجامِعُ لذلك كله من كتاب الله جل ثناؤه، هي ما سبقت الإشارة إليه من قوله تعالى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ)(الأعراف:170).
تَمْسِيكٌ بالكتاب أولا: وهو الأخذ بحقائقه الإيمانية بقوة،
وإقامة للصلاة ثانيا: وهو إحسان أدائها والسير إلى الله عبر مواقيتها،
ثم انطلاق إلى الإصلاح والدعوة إلى الخير. (إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ).
- القرآن لا يفتح أبواب أسراره إلا لمن أقبل عليه بشروطه. وإنما شروطه أمران: إخلاص القصد لله تعالى، ثم أخذ الكتاب بقوة!
فأما بيان الشرط الأول: فبإخلاص القصد عند بدء السير إلى منازل القرآن، وبتحقيق الصدق في طلب مجالسه؛ يفتح الله لك أبواب الخير، ويمهد لك الطريق إلى الجنة،
وأما بيان الشرط الثاني: فإن القرآن لا يستقيم سَيْرُ العَبْدِ بين مَسَالِكِهِ إلا إذا أخذه بقوة! ذلك منهج الأنبياء والصِّدِّيقِين.
فـ (الأخذ بقوة) هو: الأخذ بعزم وبحزم، والصبر على حمل الأمانة وثقل الرسالة! والصبر على طول الطريق! والثبات على الحق! فالشيطان لك بالمرصاد، يثبطك، ويبطئك عن المضي في طريق الله؛ فالصَّبْرَ الصَّبْرَ على دوام ذكر الله في صحبة الصالحين، ومَعِيَّةِ الربانيين، بمنهج القرآن، وبرنامج القرآن.

==========================
*منقول من موقع مثانى القرآن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #28  
قديم 28-03-2025, 09:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



صور نصر الله للمؤمنين في سورة غافر؛ نظرات وتأمّلات
الكاتب : إبراهيم لبيب
(28)



وَعَدَ اللهُ -عزّ وجلّ- عبادَه المؤمنين بالنّصر والتمكين في كتابه المجيد، ومن ذلك ما حفلَت به سورة غافر من وعدٍ بالنصر، وهذه المقالة تسلّط الضوء على ما ورد من هذا الباب في هذه السورة بالخصوص، وتتعرّض لأهمية معرفة ذلك في واقعنا، وكَشْف بعض الإشكالات المتعلقة بمفهوم هذا الوعد.
الحمد لله الذي أوجب على نفسه الكريمة -تفضّلًا منه وكرمًا- نصرَ عباده المؤمنين؛ فقال -وقوله الحقّ-: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: 47].

والصلاةُ والسلامُ على نبيّنا وحبيبنا محمد -صلّى الله عليه وسلم- الذي أقرّ اللهُ عينيه بالنصر والتمكين؛ فأنزل عليه في آخر عُمره: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر: 1- 3].
أمّا بعد، فإنّ مما تكاثرتْ به نصوص القرآن الكريم، وسُنّة خاتم المرسلين وُعُود الله بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين. وقد حفلتْ سورة غافر بذِكْر عدد من صور هذا النصر والتمكين، وقد أحببنا في هذه المقالة تسليط
الضوء على هذه الصور وبيانها؛ لِمَا لذلك من أهمية في فهم حقيقة نصر الله ووعده بالتمكين كما سنبيّن، وكذلك تقوية نفوس المسلمين؛ فمع علوِّ أهل الباطل في الأزمان المتأخّرة قد يتسرَّب اليأس والشكّ إلى بعض النفوس المؤمنة لما يرونه من تسلُّط أهل الباطل وضعف أهل الحقّ، وما يقاسونه من قتلٍ وتشريدٍ وتنكيلٍ.
بل إنّ أهل الباطل يستدلّون بعلوِّهم وتمكينهم في الأرض على أنهم هم أهل الرضا الذين يحبهم الله، وأنهم لولا أنهم على الحقّ لما مُكِّنوا في الأرض، والله -عز وجل- يقول: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ *
مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}[آل عمران: 196- 197].
فجاء هذا المقال لينبّه على ما في سورة غافر من صور للنصر والتمكين؛ ليزيل اللبس، ويوضح المفهوم الصحيح لوعد الله بالنصر والتمكين لعباده من الأنبياء والمرسلين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين؛ ليكون المؤمن على بصيرة من أمره، فالله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل، وذلك بعد تمهيد نسلِّط الضوء فيه إجمالًا على فكرة وُعُود النصر والتمكين وأهميتها في واقعنا ونبيّن بعض الإشكالات في فهمها، وكذلك سبب اختيارنا
لسورة غافر لنعالج صور النّصر والتمكين من خلالها.
تمهيد:

آيات وُعُود الله تعالى للمؤمنين بالنّصر والتمكين في القرآن كثيرة، قد لا يناسب المقام ذكرها كلّها، وسنكتفي بذِكْر بعضها؛ فمن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51]، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة: 21]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات: 171- 173].
وليس وعدُ الله قاصرًا فقط على الغلَبة على الأعداء، بل جاء الوعد بالاستخلاف في الأرض والتمكين، فقد وعد اللهُ عباده المؤمنين -ووعدُه الحقّ- في القرآن بذلك، فقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}[النــور: 55].
ولكن هنا يقع إشكال يَرِد على كثيرٍ من الناس، وهو: أين هذا النصر ونحن نرى المؤمنين كثيرًا ما يُنَكَّلُ بهم، ويصيبهم الأذى، بل وربما القتل في شتى البقاع والأزمنة؟!
والجواب على هذا السؤال ينبغي أن يسبقه حقيقة إيمانية لا بد أن تكون راسخة في قلبِ كلّ مؤمن يؤمن بأنّ هذا القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خَلْفه، فيوقِن أنّ وَعْد الله
حقّ، وأنه لا يُخْلِف الميعاد، ويكون على ثقة تامّة ويقين جازم بذلك، فإذا ما رأى المؤمنون على أرض الواقع خلاف ما وَعَد الله في كتابه فليس أمامهم إلا أمران:
الأمر الأول: أن يتَّهِموا أنفسَهم بالتقصير في تحقيق شرط النّصر، وأنهم بوَضْعهم الحالي ليسوا أهلًا لتحقيق وَعْد الله؛ لأنّ الله وَعَد بالنصر مَنْ كان أهلًا لذلك، ومن تحقّق فيه شرطه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: 7].

وهذا كان حال المؤمنين الأوائل، إذا تأخَّر عنهم النصر راجعوا أنفسهم، وفتَّشوا عن الذنوب والعيوب؛ ليقينهم بأنّ وَعْد الله لا يتخلَّف أبدًا، فإذا لم ينتصروا فقد يكون ذلك بسبب ذنوبهم، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 165].

الأمر الثاني: أنهم ربما لم يفهموا كلام ربّ العالمين بوعوده بالتمكين، وذلك يرجع إلى سببين:
السبب الأول: عدم فهم السّنن الإلهية في تحقيق النصر، فالله -عز وجل- لا يمكِّن لعباده في الأرض إلا بعد أن يُبْتَلَوْا، ولنا في سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُسوة حَسنة، فقد كان في العهد المكيّ مع أصحابه مستضعَفين، ثمّ مَكّن اللهُ لهم بعد ذلك بعد الهجرة وحتى وفاته -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك لما سُئِلَ الشافعِيُّ -رحمه الله-: أيُّهما أفضلُ للرجل أن يُمَكَّنَ أو يُبْتَلَى؟ قال: «لا يُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى»[1].
السبب الثاني: عدم فهم حقيقة النصر وحَمْله على صورة ذهنية واحدة، وسيتّضح في المقال -بإذن الله- أنّ نصر الله -عز وجل- للمؤمنين له صورٌ كثيرة إضافة إلى الصورة المتبادرة إلى الذّهن.

لماذا وقع الاختيار على سورة غافر؟
القرآن الكريم مملوء بوُعُود الله بنصر المؤمنين كما ذكرنا، ولكن وقع الاختيار على سورة غافر كموضوعٍ للدراسة؛ لخصوصيتها في إظهار الصراع بين الحقّ والباطل، والإيمان والكفر، وكيف بيَّنَتْ لنا السورة أنّ تقلُّب أهل الباطل في البلاد وعلوَّهم في الأرض مآلُه إلى الخسران والهلاك مهما بلغَتْ بهم القوّة، ومهما طال الزمان.

ففي بداية آيات السورة، نجد أنها بيَّنت حال أهل الباطل: {‌مَا ‌يُجَادِلُ ‌فِي ‌آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ}[غافر: 5].
وفي نهاية السورة كانت آخر آية، بل آخر جملة من الآية والسورة: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر: 85].

وهذا بلا شكّ تأكيد على أن الغلَبة في النهاية لا بد وأن تكون لأهل الحقّ من الرُّسُل وأتباع الرُّسُل، كما صرّحت الآية: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51].
صور نصر الله للمؤمنين من سورة غافر:
افتُتِحَت السورة باسمين جليلَيْن من أسماء الله تعالى: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}[غافر: 1- 2].
فهي تبدأ بتقرير أنّ العزّة -كلّ العزّة- لله سبحانه وتعالى؛ ومِن لوازم هذا الاسم أنّ الله سبحانه وتعالى يُلْقِي هذه العِزّة على مَنْ آمن به واتّبع رضوانه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8].

فالعِزّة عنوان للسّورة كلّها، وهذا يجعلنا نبحث عن معالم ومظاهر عِزّة الله في السورة، والتي منها: نصر الله تعالى للمؤمنين: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 126].
فمن صور نصر الله للمؤمنين في سورة غافر:

1- النصر بالغَلَبة والتمكين وإهلاك الظالمين:
فمعلومٌ ما حدث لفرعون وجنوده من غرق وهلاك، وإنجاء الله لعباده المؤمنين، وتمكينهم في الأرض بعد أن كانوا مستضعفين: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: 137].

وإهلاك الظالمين من فرعون وجنوده دَلَّ عليه قول الله في سورة غافر: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}[غافر: 45- 46].

فلم يكتفِ القرآن بذِكْر هلاكهم في الدنيا، بل ذَكَر عذابهم في البرزخ ويوم القيامة.
وفي ثنايا حوار مؤمن آل فرعون مع قومه ذَكَر إهلاك الله للأمم السابقة التي كَذّبَتْ رُسُلَها، فقال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}[غافر: 30- 31].
وهذا النوع من النصر (الغَلَبة والتمكين وإهلاك الظالمين) هو أوّل أنواع النّصر التي يتبادر الذِّهن إليها، ولكنها ليست الصورة الوحيدة للنصر.

2- النصر بالحُجّة والبيان:
من المفسِّرين مَنْ حملَ تفسير قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}[غافر: 51]، على النصر بالحُجّة والبيان.
عن أبي العالية -رحمه الله- في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} الآية، قال: «ذَلِكَ فِي الحُجَّةِ؛ يَفْتَحُ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي الدُّنْيَا»[2].

وتَمَثَّل هذا النصر في سورة غافر في تلك الحُجَج القوية التي واجَه بها مؤمنُ آل فرعون قومَه، فقد كان ظاهر في حديثه علوّ حجّته على قومه، وأنهم ما استطاعوا أن يجابهوه، ولأهمية قصة مؤمن آل فرعون لموضوع السورة؛ فإنّ من أحد أسماء هذه السورة: سورة المؤمن؛ نسبة إلى مؤمن آل فرعون.

قال ابن القيم: «كلّ سُلْطَانٍ فِي القُرآن فَهُوَ الحُجَّة، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الصافات: 156- 157]، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النَّجْم: 23]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِم سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}[الرّوم: 35].
وَهَذَا لِأَنّ الحُجَّة تسلِّط صَاحِبَها على خَصمه، فَصَاحِب الحُجَّة لَهُ سُلْطَان وقُدرة على خَصمه وَإِن كَانَ عَاجِزًا عَنهُ بِيَدِهِ، وَهَذَا هُوَ أحد أَقسَام النُّصْرَة الَّتِي ينصر الله بهَا رسله وَالْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غَافِر: 51]»[3].

وهذا حال كلّ مؤمن لديه إيمان راسخ بأنّ الله هو الحقّ، وأنّ ما يدعون من دونه الباطل؛ ولهذا فإنّ من أهمّ سمات أهل الضلالة أنهم دائمًا في أمر مريج وأقوال متضاربة، لا يكادون يثبتون على حُجّة قوية، كما قال تعالى عن المشركين تعقيبًا على أقوالهم الباطلة: {...قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[الأنعام: 148- 149].
هذه هي القضية: {هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}؟! هل لديكم كتاب من الله؟! أم أنّ القضية اتّباع الظنّ: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}، فالذي يبني قناعاته على الخَرْصِ والظنِّ، لا شكّ أنه في
ضلال مبين، بعكس مَنْ بَنى عقيدته وقناعاته على وحي من الله وهدى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}[محمد: 14].
وقد قال تعالى في السورة نفسها عُقَيْب قصة مؤمن آل فرعون: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}[غافر: 56].
قال ابن كثير: «وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، أَيْ: يَدْفَعُونَ الحَقَّ بِالبَاطِلِ، وَيَرُدُّونَ الْحُجَجَ الصَّحِيحَةَ بِالشُّبَهِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ وَلَا حُجَّةٍ مِنَ اللَّهِ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ
بِبَالِغِيهِ}، أَيْ: ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحقّ، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخمال الحقّ وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحقّ هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع»[4].

عن قتادة: «{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ}، أي: لم يأتهم بذلك سلطان، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ}، قال: «الكِبر في صدورهم»[5].
وقال السعدي: «...فهذا نصّ صريح، وبشارة، بأنّ كلّ مَن جادل الحقّ أنه مغلوب، وكلّ مَن تكبّر عليه فهو في نهايته ذليل»[6].

3- النّصر بخذلان الكافرين، وصَرْفِ كيدهم:
وهذا نوع من أنواع النّصْر قَلَّ من يتنبَّه له، وهو أنّ الله -عز وجل- قد ينصر عباده المؤمنين -خاصّة إذا كانوا مستضعفين- بمجرّد كفِّ أيدي الظالمين عنهم، وإذهاب كيدهم.
قال السعدي: «وإذا تأمّلْتَ الواقع رأيتَ نصر الله لعباده المؤمنين دائرًا بين هذين الأمرين، غير خارج عنهما؛ إمّا نصر عليهم، أو خذل لهم»[7].
قال الطبري عند تفسيره لقوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ}[آل عمران: 127]: «وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: أَوْ يُخْزِيَهُمْ بِالْخَيْبَةِ بِمَا رَجَوْا مِنَ الظَّفَرِ بِكُمْ»[8].
وقال السعدي في تفسير الآية: «أي: نصر الله لعباده المؤمنين، لا يعدو أن يكون قطعًا لطرف من الكفار، أو ينقلبوا بغيظهم، لم ينالوا خيرًا، كما أرجعهم يوم الخندق، بعدما كانوا قد أتوا على حردٍ قادرين، أرجعهم الله بغيظهم خائبين»[9].

ومن أمثلة ذلك أيضًا: قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40].
فسمَّى اللهُ صَرْفَ كيدِ الكافرين عن نبيِّه نصرًا لرسوله، وخزيًا لأعدائه.

أمّا عن هذا النوع من النصر في سورة غافر فتمثَّل في صرفِ الله أذى فرعون وقومه عن مؤمن آل فرعون، وذلك بعد أنْ فَوَّض مؤمنُ آل فرعون أمْرَه إلى ربّ العالمين، فكان آخر ما قاله لقومه: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[غافر: 44]. فكانت النتيجة: {‌فَوَقَاهُ ‌اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}[غافر: 45].

فلم تكن سيئة واحدة منهم، بل كانت سيئات، وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ فرعون وملأه فكّرُوا في قتله، وفي حرقه، وفي تقطيع أوصاله، وفي أنواع من البلاء والعذاب إلى القضاء عليه، ولكن الله -عزّ وجلّ- حفظه، فنِعم المولى ونِعم النصير.
4- النصر بانتقام الله ممن ظلموا المؤمنين، ونصر قضيتهم التي عاشوا من أجلها:

مَرَّ بنا أنّ الله -عز وجل- قد ينصر المؤمنين في حياتهم، لكن هنا يأتي إشكال، أنه وُجِدَ في الواقع من الأنبياء والمؤمنين من قُتِلوا دون أنْ يَروا نصرًا.

والجواب أنّ النصر في هذه الحالة يكون بانتقام الله -عز وجلّ- من الظالمين، ونصر قضية المؤمنين التي عاشوا من أجلها.
قَالَ السُّدِّيّ: «لمْ يبْعث اللّهُ -عزّ وجلّ- رسولًا قطّ إلى قَوْم فيقتلونه، أوْ قومًا مِنْ المؤمنين يدْعُون إلى الحقّ فيُقتلون، فيذهب ذلك القرن حتّى يبعث اللّه -تبارك وتعالى- لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممّن فعل ذلك بهم في الدّنْيا»[10].

فالله تعالى شديد العقاب؛ قال تعالى: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}[غافر: 3]. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[غافر: 5].
أي: «فكيْف كان عِقابي إيّاهم، ألمْ أُهْلكهم فأجعلهم للخَلْق عِبْرة، ولمن بَعْدهم عِظة؟ وأَجْعل ديارَهم ومساكنَهم مِنْهم خلاء، وللوحوش ثواء؟!»[11].

وهذا الإهلاك الذي ذكره اللهُ في السورة يشمل كلَّ مكذِّبي الرّسل والأنبياء؛ سواء شَهِدَ الأنبياء هذا النصر أم حدث بعد مماتهم.
أمّا عن نَصْر قضيتهم التي عاشوا من أجلها في الحياة الدنيا بأنْ يُعْلِي الله -عز وجلّ- كلمتهم بعد مماتهم، فالله -عز وجل- نَصَر رسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ومكَّن للإسلام، ودخل الناس في دين الله في آخر حياته أفواجًا، ولكنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يشهدوا جميعهم هذا النصر والتمكين، فمنهم من قُتِلَ من التعذيب في العهد المكي، ومنهم من قُتِلَ في معارك وغزوات؛ كأُحُد، وبئر معونة، وغيرها من
الأحداث التي قُتِلَ فيها عدد غير يَسير من الصحابة.
فهل نقول: إنّ الله -حاشاه- أخلفَ هؤلاء الشهداء وَعْده؛ لأنهم قَضَوْا نَحْبَهم قبل أن يروا نصرًا؟!
الجواب: كلَّا؛ فالله -عز وجل- نَصَر أُمّته ونَصَر عباده الموحّدين ونَصَر هؤلاء الشهداء بأنْ نَصَر دينهم وقضيّتهم التي عاشوا من أجلها، وهي توحيد الله -عز وجل- وأن يكون الدِّين كلّه لله، وأن تكون كلمة الله هي
العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فالعبرة بالمآل وانتصار المبادئ، وبكمال النهايات لا بنقصِ البدايات.

فعلى هذا فإنّ المؤمن يسعى بكلّ ما أُوتي من جهد في نصرة دين الله وهو يعلم يقينًا أنّ الله سينصره في النهاية حتى وإن لم يشهد هذا التمكين والنصر في حياته، فإنه سيحدث يومًا ما لا محالة. {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[غافر: 77].
5- النصر باعتراف الظالمين بالهزيمة:
من أروع صور الانتصار أن يعترف المهزوم بالهزيمة، بل إنّ بعض الباحثين العسكريّين يقول: إنّ الهزيمة لا تنعقد إلا باعتراف المهزوم بالهزيمة؛ لأنّ معيار النصر والهزيمة قد يختلف من جماعة لأخرى؛ فلو أنّ جيشًا التحم
في معركة مع جيش آخر، ثم انتهت المعركة بالاستيلاء على أرض الخصم، فهو في اعتباره أنه منتصر، حتى وإن كان قد قُتِلَ من جيشه عددٌ كبيرٌ.
ولكن في المقابل قد يرى الجيش الآخر الذي سُلِبَت منه الأرض أنه انتصر باعتبار أنه قَتَل من الجيش المحتلّ أعدادًا كبيرة، وأنّ الأرض التي تم الاستيلاء عليها سترجع مرة أخرى في معركة تالية، لكن الذين قُتِلوا لن
يعودوا للحياة مرة أخرى!
ولا يعنينا الآن تحقيق الصواب في المسألة، ولكننا نبيِّن فقط أنّ معيار النصر والهزيمة قد يختلف من فردٍ لآخر في كثير من الأحيان، والذي يحسم الجدل هو أن يعترف المهزوم بالهزيمة، وأن يُذْعِن تمام الإذعان للمنتصر،
فهنا يمكننا القول أنّ النصر قد انعقد وتمّ باعتراف المهزوم.
وعند التأمّل في سورة غافر نجد عددًا من اعترافات الكفار بهزيمتهم أمام أهل الحقّ، وسنأخذ مثالَيْن؛ أحدهما لاعتراف في الدنيا، والآخر لاعتراف في الآخرة:
أمّا اعتراف الدنيا؛ فهو عند معاينتهم العذاب قُبَيْل الموت بلحظات، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}[غافر: 84- 85].
وهاتان الآيتان هما آخر آيتين في سورة غافر؛ خسر الكافرون، وقبل خسارتهم اعترفوا بشِرْكِهم وأعلنوا إيمانهم، فقالوا: آمنّا بالله وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين.

ولكن هذا الإيمان عند معاينة العذاب أو حضور الموت لا ينفع، ودَلّ على هذا آيات أخرى من كتاب الله؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّار}[النساء: 18].
وَكَقَوْلِه تعالى في شأن فِرْعَوْنَ: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس: 90- 91].
وأمّا اعتراف الآخرة؛ ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ * قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ}
[غافر: 10- 11].
فها هو اعتراف صريح من الكفار من مُكَذِّبي الرّسل وغيرهم حين مَقَتُوا أنفسهم بسبب كُفرهم، يعترفون بذنوبهم، ويطلبون من الله الرجعة إلى الحياة الدنيا مرّة أخرى.
وقد بَيَّن -سبحانه وتعالى- في مواضع كثيرة من كتابه أن اعتراف الكافر بذنبه يوم القيامة لا ينفعه في هذا اليوم، كما في قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِير}[الملك: 11].

وكذلك من اعترافات الآخرة في السورة نفسها قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: 52].
6- نصر الله للمؤمنين يوم القيامة:
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ‌وَيَوْمَ ‌يَقُومُ ‌الْأَشْهَادُ ‌‌* يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: 51- 52].

فما أعظمه من نصر، حين يجمع اللهُ الأوّلين والآخِرِين في مشهد عظيم، ويقف الأشهاد من الملائكة والنبيّين والشهداء والصالحين، فيُعْلِي الله أهل الحقّ، ويخزي أعداءهم من أهل الباطل.
«وأمّا حال أعدائهم فهو أنّه حصلتْ لهم أمورٌ ثلاثةٌ:

أحدها: أنّه لا ينفعهم شيءٌ من المعاذير البتّة.
وثانيها: أنّ لهم اللّعْنة، وهذا يفيد الحَصْر، يَعْنِي: اللعنة مَقْصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال.
وثالثها: سوء الدّار، وهو العقاب الشّديد.

فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثّلاث من الوحْشَة والْبَلِيّة، ثمّ إنّه خَصّ الأنبياء والأولياء بأنواع التّشْريفات الواقعة في الجمع الأعْظم، فههنا يَظْهر أنّ سرور المؤمن كم يكون، وأنّ غموم الكافرين إلى أين تبلغ؟»[12].
فماذا خسر أهل الإيمان في الدنيا حتى ولو لاقَوا بعض الأذى؟! أليس في الآخرة عوضٌ عن الدنيا؟ ألم يقل الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64]؟ وقال سبحانه: {وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: 17].
فالفوز الحقيقي إنما هو الفوز بالجنة ورضوان الله، والخسارة الحقيقية إنما هي خسارة النفس في نار جهنم خالدين فيها أبدًا.
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185].

7- نصر الله بتخليد ذِكْر المؤمنين:
ويا له مِن شَرَفٍ عظيم لا شَرَفَ أعظم منه في الدنيا، أن يُخَلِّد اللهُ ذِكْرَ عبده المؤمن في كتاب يُتَعَبَّدُ بتلاوته إلى قيام الساعة.

فمؤمن آل فرعون -طيَّب اللهُ ثراه- جاهَدَ بأفضل أنواع الجهاد، وهي قول كلمة الحقّ عند سلطانٍ جائر؛ ولأنّ الأجر يكون على قَدْر المشقّة، ولأنّ قول كلمة حقّ عند سلطان جائر يُعَرّضُ القائل لأشدّ أنواع البلاء؛ فكان هذا الأجر المضاعَف، بل وسُمِّيَت السورة باسمه على قول كثير من أهل العلم: (سورة المؤمن).

خاتمة:

حفلَ القرآن الكريم بذِكْرِ العديد من وُعُود النصر والتميكن لعباد الله المؤمنين، وقد اهتمّت سورة غافر بهذا الأمر، وأشارتْ لعدد من صور هذا النصر والتمكين، وقد استعرضنا في هذا المقال هذه الصورة التي ذكرَتْها سورة غافر، وبينَّا رسوخ مبدأ نصر الله وتمكينه لعباده المؤمنين في القرآن الكريم؛ وأنّ نَصْرَه لهم يكون في الدنيا والآخرة، وأنّ صور هذا النصر لها ألوان تتعدّد، واللهُ غالِبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
نسألُ اللهَ العَلِيّ العظيم أن يُقِرَّ أعيننا بنصر عباده المؤمنين في حياتنا ويوم يقوم الأشهاد.
وصلى اللهُ على نبيِّنا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] زاد المعاد (3/ 14).

[2] تفسير ابن أبي حاتم (18437).
[3] الفروسية، ص187.
[4] تفسير ابن كثير (7/ 152).

[5] تفسير عبد بن حميد كما في الدر المنثور (13/ 51).
[6] تفسير السعدي، ص740.
[7] تفسير السعدي، ص146.

[8] تفسير الطبري (6/ 41).
[9] تفسير السعدي، ص974.
[10] تفسير ابن كثير (7/ 150).

[11] تفسير الطبري (20/ 282).
[12] تفسير الرازي (27/ 524).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #29  
قديم 29-03-2025, 09:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



نظرات في خواتيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} في سورة الروم
الكاتب : أحمد محمد الكيلاني
(29)



خُتِمَتْ عدّة آيات في سورة الروم بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، وهذه المقالة تسلّط الضوء على هذه الآيات الكريمة، وتبيّن بعض ما فيها من لطائف، وتنبّه على ما نبّهَت عليه من الأمور اللازمة للقيام بعملية التفكّر الحقّ في آيات الله -عزّ وجلّ-.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «إذا سمعتَ اللهَ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فأَرْعِها سمعَك؛ فإنه خير يَأْمُر به أو شَرّ يَنْهَى عنه»[1]. وهذا القول يهدينا لقاعدة عامّة في تدبّر القرآن، وهي: أنّ كلّ آياتٍ القرآن
المشتركة في بداية أو في نهاية فهي مما خُصَّت بغرضٍ يستدعي التنبُّه له والتفكُّر فيه.
ونُسَلِّط تلك القاعدة على الآيات المختومة بقوله -سبحانه-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، فنلاحظ بجلاء أنها اشتركَتْ في مقصد واحد وهو تنبيه العباد على عظيم خَلْق الله وتصرّفه وتدبيره للكون وموجوداته، مما يحثّ على مزيد من التفكُّر والتدبُّر في كلام الله -سبحانه- من جهة، وفي خلقه من جهة أخرى.

وفي هذه المقالة سنجتهد في تسليط الضوء على الآيات المتعاقبة في سورة الروم مما خُتِم بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، بحيث نبيّن ما فيها من لطائف وما نبّهت عليه من أمور لازمة للقيام بعملية التفكّر الحقّ. وسيأتي كلامنا مقسومًا لقسمين: أحدهما نعرض فيه الآيات، ونشير لبعض اللطائف المتعلّقة بها، معتمِدِين في ذلك على تفسير ابن عاشور بشكلٍ خاصّ؛ لِمَا له من عناية بعرضِ دقائق الآيات ومناسبات الألفاظ ومدلول كلّ منها، كما له بَاعٌ في اللغة عظيم يساعد على ما نحن بصدده من تفكّر وتأمّل. والثاني يُعَدُّ مولِجًا لما يُخْتَمُ به المقال من مناسبة ختم الآيات الشريفة بصفات مخصوصة، وما مدلولها، وكيف حَوَتْ أطوار التفكّر
الحقّ الهادي لليقين.
القسم الأول: خواتيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} في سورة الروم؛ عرض وبيان:
1- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم: 21].


سُبقت هذه الآية بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ}[الروم: 20]؛ امتنانًا على البشر بنعمة الخَلْق والإنشاء، وحيث لم تُخْتَم بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، فلم نتعرَّض لتفسيرها لكونها خارجة عن حدّ المقال، ولكن إدراجها لبيان سياق الآيات التالية ووجوه المناسبة بينها.
ثم ثَنَّى ربُّنا -سبحانه- بعد نظام الخَلْق بنظام التزاوج والتناسل؛ وناسبَ ذِكْرُه بعد الخَلْقِ لأنه أساس بقائه.

وخُتِمَت الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}؛ لأن الناس لمّا اعتادوا هذا النَّسَق غفلوا عن الآيات المتضمّنة فيه، وهي: «أنْ جُعِلَ للإنسان ناموسُ التناسل، وأنْ جُعل تناسلُه بالتزاوج ولم يَجعله كتناسل النبات من نفسه، وأن جَعَل أزواجَ الإنسان من صِنفه ولم يَجعلها من صنف آخر؛ لأن التآنُس لا يحصل بصِنْف مخالِف، وأن جَعل في ذلك التزاوج أُنْسًا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجًا عنيفًا أو مُهْلِكًا كتزاوج الضفادع، وأن جَعَل بين كلّ زوجين مودة ومحبّة، فالزوجان يكونان من قَبْلِ التزاوج متجاهِلَيْن فيصبحان بعد التزاوج متحابَّيْن، وأنْ جَعل بينهما رحمة، فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما، فيصبحان بعده متراحمَيْن كرحمة الأبوّة
والأمومة»[2].
لذلك يأتي كثيرًا تذكيرُ الله -سبحانه- بنِعَمِه المعتادة على خَلْقِه لغفلتهم عنها، وكانت تلك النعم الدائمة أحقّ بالشُّكر من غيرها؛ ولمّا كان العبد لا يتنبّه لمثل هذا عُوتب بقوله: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فمَنْ غفلَ عن تلك النعم كأنه عُدِم التفكُّر.

2- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم: 22].

ابتدأتْ هذه الآية بخلق السماوات والأرض وليس هو المقصود، بل هي تمهيد لما بعدها من اختلاف ألوان الناس ولغاتهم؛ «إيماءً إلى انطواء أسباب الاختلاف في أسرار خلق السماوات والأرض... فاختلاف الألسنة سببه القرار بأوطان مختلفة متباعدة، واختلاف الألوان سببه اختلاف الجهات المسكونة من الأرض، واختلاف مُسَامَتَة أشعة الشمس لها؛ فهي من آثار خَلْق السماوات والأرض»[3].
وترتيب هذه الآية ناسبَ أن يُذْكَر بعد الآيتين السابقتين؛ حيث كانت الأُولى بيانًا لأحوال الإنسان الذاتية: خِلْقَتِه من تراب وهي ملازمة لكلّ الناس، ثم ذكر أحواله النسبية، فالزواج ملازم لطبيعة الإنسان إلا أنه قد يُفارق بعض الناس فلا يتزاوجون. والآية الثالثة ذُكر فيها أحواله العرضية الملازمة له؛ باختلاف الألسُن والألوان لأنها مكتسبة من طبيعة المكان[4].
وهنا نجد ختام الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}، أي: لأهل العلم، على ما قرأ حفص. وخُصّ أهلُ العلم في هذا الموضع؛ لأنّ آية اختلاف الفرع مع اتحاد الأصل أبهر، والله -سبحانه- يُشْهِدُ أهلَ العلم في
المُهمَّات، كما أشهدهم على وحدانيته وهي أعظم ما يُشْهَدُ عليه؛ إعلاءً لقدرهم ومنزلتهم، وهذا من ذاك.
وعلى قراءة الجمهور بفتح اللام {للعالَمين}، أي: لجميع الناس، فشابهت الآيةَ الأولى {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، من اعتياد الناس هذا النسقَ مِن الخَلْق فغفلوا عن تدبُّرِه وعن اعتباره آيةً من الآيات.
3- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}[الروم: 23].

لمّا كان النوم من أحوال الإنسان العجيبة التي أودعها اللهُ فيه؛ إِذْ جعله اللهُ في نظامِ أعصاب دماغه يُعَطِّلُ بعض الحواس دون تعطيل مهام الجسد الرئيسة، ولكنه يقلّل من نشاطها إذا أُنهِكَ الجسدُ واعتراه الإعياء فيعتريه شبه موت يعطّل إدراكه حتى تمرّ فترة من الزمن يستكفي بها الجسد فيفيق نشطًا وقد عادت له حياته كاملةً؛ لمّا كانت الحالة كذلك ناسَب أن يمتنّ اللهُ بها على عباده في سياق تعداد النّعم حثًّا على التفكُّر.
وخُتِمَتْ هذه الآية بقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}؛ خَصّ السّمع هنا في ختام الآية؛ لأنّ النوم يحُول دون الشعور بالمسموعات، قبل أن يحُول دون الشعور بالمبصرات، وطريق العلم بأحوال النائم
هو السمع حين يستيقظ، فخُصّ السمعُ لذلك؛ إقرارًا لليقظان بعجزه في نومه وتعطيل حاسّته التي يتمتع بها في يقظته، فأَوْلَى له أن يُعملها بالتدبّر في تلك الآيات الباهرات[5].

4- قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الروم: 24].
وآية البرق آية غير متّصلة بالإنسان ولا من لوازمه؛ لكنها متعلّقة به لأن آلة إدراكها هي العين، وجاء ذِكْر البرق بعد تعداد النعم تهديدًا ووعيدًا، كأنّه -سبحانه- يتوعّد مَن حادَ عن الحقّ بعد تذكيره بكلّ ما سبق.

وأيضًا لِما في البرق من آية عجيبة؛ لاحتماله النّعمة والنّقمة، ويقذف في قلوب العباد الخوف من العذاب والطمع في الغيث.
وخُتِمَتْ هذه الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}؛ لأنه «نِيطَ الانتفاعُ بهذه الآيات بأصحاب صفة العقل؛ لأنّ العقل المستقيم غير المشوب بعاهة العناد والمكابرة كافٍ في فهمِ ما في تلك المذكورات من الدلائل والحِكَم»[6].

وهنا لفتة لطيفة: هي أنه -سبحانه- جعل إدراك البرقِ في الآية بالرؤية؛ لأنه لا يلزم من كلّ ذي بصر أن يكون ذا عقل.
القسم الثاني: خواتيم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} في سورة الروم؛ نظرات تحليلية:
قبل إلقاء الضوء على بعض النظرات التحليلية العامّة في خواتيم الآيات التي سبق الحديث عنها وعرضها، لا بد من التنبيه على عظيم مكانة التدبّر، ولا غرو فقد حَثَّ عليه القرآن العظيم في غير ما موضع، فقال -
سبحانه-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء: 82].

فكأنّ الغرض المقصود من العباد نحو هذا الكتاب العظيم هو فهمه وتدبّره، والتدبّر ألوان ودرجات؛ منها استنباط الفوائد واللطائف القرآنية، لكن وجب التنبيه أنّ التدبّر لا ينحصر في استخراج اللطائف، بل هو بابٌ واسعٌ، استنباطُ اللطائف فرعٌ عنه.
ومن المهم إعمال عقولنا في فهم الإشارات المبثوثة في الآيات، عسى الله أن يُنْفِذَ نور القرآن لعقولنا وقلوبنا، وهذا الفهم النوراني الذي نبتغيه هو ما عبّر عنه كعب بن مالك -رضي الله عنه- بقوله: «عليكم بالقرآن، فإنَّه فَهْمُ العقل، ونورُ الحُكْم، وأحدثُ الكُتُب عهدًا بالرحمن».
ومما يساعد على التدبّر وسرعة التنبّه إلى الإشارات اللطيفة؛ معرفةُ أنّ القرآن كلّه متّصل ببعضه أشدّ الصِّلة قال -تعالى-: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود: 1]، أي: «نُظِمَتْ نظمًا
محكَمًا لا يَلْحَقُها تناقضٌ ولا خَللٌ»[7]، وما كان كذلك فهو في إجماله مترابط متناسق. حتى قال البَقاعي -رحمه الله- في عرضه لتفسير سورة الناس ومناسباتها: «واتصالُها بالفاتحة كاتصالها بما قبلها بل أشدّ»!
وكلّ ما سُقناه يرشدنا إلى ترابط آي القرآن بعضها ببعض، وبهذا نَلِج لتحليل خواتيم آيات المقال فنقول: خُتمت الآيات السالفة بهذه الصفات الأربع: (الفكر - العلم - السمع - العقل)، وقد جاءت بهذا الترتيب لشيء مقصود، يرشدنا إليه سياق الآيات وغرضها؛ وهو التدبّر والتفكّر، ولمّا كانت آيات القرآن شديدة الاتصال ببعضها تنبهنا إلى اختصاص هذه الصفات بسياق الآيات لرابطة الحثّ على التفكر والتدبّر، وبيانه
ببيان أطوار التفكّر الحقّ الذي يهدي لليقين:
- التفكُّر والنظر أوّلُ عملية يقوم بها الإنسان فيما يَعْرِضُ له، وهذا تفكّر مبدئيّ يُحَلِّل به الإنسان ما يستجدّ عليه من أحداث ودعوات وكلام.
- فإنْ تفكَّر فيه أدركَه في نفسه وبانَت له ملابساته ودقائقه؛ كان عالمًا به على وجهه دون شبهات تَحُول بينه وبين حقيقته.

- فإنْ عَلِمَه سَمِعَ سَمْعَ عالمٍ واعٍ ممحِّصٍ متأمِّل، فالعلم أصلٌ للسمع، لا البصر؛ لذلك لم يُذكر البصر هنا في هذه الآيات، ولعلّ ما يؤيّده حكاية ربّنا عن قوم نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي

آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح: 7].
فصكُّوا أسماعهم بادئ الأمر؛ لأنهم لم يستجيبوا لتفكُّرٍ ولا تأمُّل، فلم يعلموا حقيقة دعوة نوح -عليه السلام-، مما جعلهم لا يَقبلون السمع. وانصراف أنظارهم عنه مبالغة في الإعراض، وليس البصر وحده يفيد عِلمًا.

وكذلك قصة الطفيل بن عمرو الدوسي[8]، لمَّا لم يدرك دعوة النبيّ على وجهها، سدّ أذنيه لئلا يسمع قول النبيّ بتحريضٍ من قريش، فَهُمْ علموا عقل ذلك الرجل وخافوا أن يُعْمِل عقله فيتفكّر ويتأمّل، فلما رآه الطفيل يصلِّي عند الكعبة تفكّر في حاله فأدرك أنه ليس كذابًا، وعلم ذلك في نفسه بعقله، فتتبّع رسولَ الله ليسمع منه سماعَ مبتغٍ للحقّ، فلما مَرَّ بهذه الأطوار على وجهها أسلم -رضي الله عنه-.
- فإنْ فعَلَ ذلك عقلَ ما تفكّر فيه بنفسه وروحه فاستحال تفلُّته منه، فكلّ ذلك مفضٍ للعقل الصحيح السليم، وهذا هو مبلغ المرام، ولا يكون عاقلًا مَن أخلَّ بأحد هذه الثلاثة السابقة كائنًا مَن كان.

فتلك ثلاث مقدّمات تهدي إلى نتيجة؛ تفكُّر فعِلْم فسَمْع فعَقْل!
وهنا لفتة أخرى، أنّ المقدّمات الثلاث يجوز حملُ الآيات التي ذُكِرَتْ فيها على أنها مقدّمات أيضًا، فهي تعداد للنّعم، وتذكير لبني آدم بآلاء الله -سبحانه-؛ ثم مُعْرِضٌ ومؤمِن، خائف وطامع، فآية البرق نتيجة للمقدّمات السابقة، ولسان حال الآيات: مَنْ أقرّ بنعم الله -سبحانه- وشُكْرِها زاده اللهُ بغيثه، ومَنْ أعرضَ وتكبّر فجزاؤه قذفُ الخوف في قلبه وإنذاره بالعذاب.

وبما تبيَّن لا يخفى ما في سياق الآيات من مقابلة تقديرية بين الإيمان والكفر، والغيث والعذاب، نبهَتْنا إليه المقابلةُ اللفظية في قوله: {خَوْفًا وَطَمَعًا}[الروم: 24].
فاللهم نسألك ذِكْرَك وشُكْرَك وحُسْنَ عبادتك، واجعلنا من أهل القرآن فهمًا وعِلْمًا وعَملًا، واجعلنا ممن يُقيم حروفه وحدوده، والحمد لله، وهو المستعان.

[1] رواه ابن أبي حاتم، انظر تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ط. دار طيبة (2/ 6).
[2] التحرير والتنوير، ابن عاشور، ط. الدار التونسية (21/ 71).
[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 73).
[4] انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 72-73).

[5] انظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 76).
[6] التحرير والتنوير، ابن عاشور (21/ 79).

[7] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ط. دار الكتب المصرية (9/ 2).
[8] انظر: دلائل النبوة، البيهقي، ط. دار الكتب العلمية (5/ 360) وما بعدها.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #30  
قديم 30-03-2025, 12:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 150,577
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات قرآنية وتدبرية .....يوميا فى رمضان



تأويلات الحداثيين لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

عرض ونقد

الكاتب : محمد حامد حسن عطية
(30)



وَعَدَ الله -عزّ وجلّ- بحفظ كتابه العزيز في جملة من الآيات، من أشهرها: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وقد قدّم عددٌ من الحداثيين تأويلات خاصّة لهذه الآية تتعارض مع هذه الحقيقة المتفق عليها، وتعمل هذه المقالة على بيان هذه التأويلات ومناقشتها ونقدها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فمِنَ المستقرّ في قلوب المسلمين وعقولهم أنَّ القرآن الكريم محفوظٌ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل؛ وذلك لأنّ الله
-وهو الحفيظ- قد وَعَد بحِفْظِه، ولن يُخلِف اللهُ وعدَه، وقد تحقّق مِن وَعْدِ الله بذلك ما تقرّ به عيون الموحِّدِين من حِفْظ القرآن في الصدور، وحفظه في السطور؛ وذلك لأنّ «ما حفظَ اللهُ تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيعَ منه شيء»[1].
وفي القرآن الكريم جملة من الآيات التي تدلّ على وَعْدِ الله بحِفْظِ كتابه العزيز، ومن أشهرها قوله تعالى في سورة الحِجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9].

ومع أنّ حِفْظَ الله القرآنَ الكريم «حقيقة يعلمها أولو العِلْم من خصوم الإسلام، كما يؤكّدها تاريخ القرآن الكريم»[2]، فقد وجدنا أنَّ الحداثيين شكّكوا في هذه الحقيقة المتّفق عليها، ومن ثم حاولوا تقديم تأويلات خاصّة لآية سورة الحِجْر تتوافق مع رُؤاهم وتكرّس لعدم دلالة الآية على حِفْظ القرآن الكريم، وبِغَضّ النظر عن طبيعة أهدافهم من وراء ذلك إلا أنَّ هذه الدعوى حينما كانت تصدر من مستشرقين عُرِفوا بالعداء والحقد على الإسلام قيل: إنّ الشيء من معدنه لا يُستغرب، لكن الغريب حقًّا صدور مثل هذا الزَّعْم ممن يقول أكثرهم إنهم مجتهدون مسلمون أصحاب مشروعات تجديدية في تفسير القرآن الكريم.

وفي ضوء ذلك جاءت هذه المقالة لتبرز ما ادّعاه هؤلاء الحداثيون من تأويلات بل تحريفات في معنى هذه الآية الكريمة، لتستقيم لهم دعواهم فيما يتعلّق بحِفْظ القرآن الكريم، وهيهات فهي باطلة من أساسها، منحرفة في منهجها وأهدافها ومنطلقاتها، مُضِلَّةٌ في نتائجها، فتعمل على بيان تأويلاتهم للآية واتجاهاتهم فيها، وتناقش هذه الاتجاهات وتبيّن الموقف منها، وذلك بعد تمهيد نبيّن فيه فَهْم المفسِّرين لآية سورة الحجر، ونشير فيه لبعض الآيات الأخرى الدالة على حفظ القرآن الكريم.

تمهيد:

أولًا: اتّفق المفسِّرون على أنّ المرادَ بالذِّكْر في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} القرآنُ الكريم، وممن نَقل الاتفاق على ذلك أبو الحسن الواحدي، وأبو الفرج ابن الجوزي[3].
ويشهد له ما ذَكره اللهُ قبلها في قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر: 6]، وذلك أنّ القرآن الكريم هو الذي نزَّله اللهُ على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وكان سبب رميهم إياه
بالجنون حين نَسَبه صدقًا وحقًّا إلى الله ربّ العالمين.
وعلى ذلك فقولُه تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} رَدٌّ على هؤلاء المشركين الذين سَخِروا من النبيّ بقولهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، بهذا الأسلوب المؤكّد الذي فيه كبت لهؤلاء المشركين، وردع لهم، وإعلان بما يملأ صدورهم حسدًا وحسرة؛ فقد أبَوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبيّ إنه تلقّى الذِّكْر منها، فقالوا: {نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} ولم يقولوا -ولو على سبيل الاستهزاء- نَزّل اللهُ عليه الذِّكْر، فجاءهم قول
الحقّ -جلّ وعلا-: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} بهذا التوكيد القاطع الدالّ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل، وجاء قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ} بالجملة الاسمية للدلالة على دوام الحِفْظ له واستمراره، وأفادت الآية الكريمة أنّ الله -سبحانه- هو الذي يتولّى حِفْظه من كلّ عبث، وصيانته من كلّ سوء. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله، فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه؛ فإنهم لو فعلوا لكان لهم من ذلك حُجّة على أنه ليس من عند الله! وقد حفظ اللهُ القرآنَ الكريم، هذا الحفظ الربانيّ، الذي أبعدَ كلَّ ريبة أو شكّ في هذا الكتاب، فلم تمسسه يدٌ بسوء، على كثرة الأيدي التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها[4].
وأُطلق على القرآن «الذِّكْر» لأوجه؛ منها:
أ- ما فيه من الموجبات للتذَكُّر والاعتبار.

ب- ولأنه أيضًا يُذكر فيه أخبار الأوّلِين.
ج- ولأنه شرف لمن تمسّكَ به، ينال به صاحبه ذِكرًا جميلًا، وثناءً حسنًا كما قال -جلّ ذِكره-: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}[الزخرف: 44].

ثانيًا: ذهب أكثرُ المفسِّرين إلى أنّ الضمير في قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} يعود على القرآن الكريم، ونَسَبَ هذا القولَ للأكثرين ابنُ عطية، وابنُ الجوزي، وأبو حيان الأندلسي[5].

وذهب فريق من العلماء إلى أن الضمير يعود على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أي: يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مَكْرِكُم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى يُظهِر الله به الدِّين.
وقول الأكثرين -وهو أنّ الضمير عائد إلى القرآن الكريم- أَوْلَى وأرجح وأشهر وأظهر؛ لأنّ المقام يقتضيه، وظاهر السياق يدلّ عليه، ولأنه المصرّح به في الآية الكريمة بكلمة: {الذِّكْرَ}، ومن المعلوم أنّ عود
الضمير على مذكور أَوْلَى من عوده على غير مذكور[6].
قال الشهاب الخفاجي: «وكون الضمير للنبي -صلى الله عليه وسلم- خلاف الظاهر»[7]. ووجدير بالذكر أنّ مَنْ قال: إنّ الضمير عائد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يَنْفِ أحدٌ منهم حِفْظَ الله القرآنَ الكريم؛ لتضافر الأدلة على ذلك، وأيضًا فإنّ حِفظ الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-يقتضي حِفْظ القرآن الذي نزل عليه، وجعله حجّته، وآية نبوّته الكبرى، ومعجزته العظمى.

ثالثًا: هذه الآية الكريمة هي إحدى الآيات الدالّة على وعدِ الله بحفظ القرآن الكريم، وثَمَّ غيرها في تقرير هذا المعنى، ومن ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41- 42]، والذِّكْر هنا القرآن أيضًا في قول الجميع، قاله الماوردي[8]، ومن معاني الآية الكريمة أنه ليس للبطلان إليه سبيل؛ لأنه منزل من ربّ العالمين، وأنه محفوظ من أن يُنقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يُزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه[9].

ومنه أيضًا قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21- 22]، ووجه الدلالة في ذلك أن قوله: {مَحْفُوظ}، فيه قراءتان متواترتان؛ إحداهما وهي قراءة الأكثرين: {مَحْفُوظٍ} بالجر على أنه صفة {لَوْحٍ}، وحِفْظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حِفْظ القرآن، والقراءة الأخرى وهي متواترة أيضًا -قراءة نافع- برفع {مَحْفُوظٌ} على أنه صفة للقرآن[10]، أي: هو قرآنٌ مجيدٌ محفوظٌ، وهذا صريح في الدلالة على حِفظ الله القرآنَ المجيد، ولله الحمد والمنة.

وبعد هذا البيان نشرع في ذِكْر تأويلات الحداثيين لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، مع بيان سبب تهافتها:
ذهب الحداثيون في تأويل قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عِدّة مذاهب، وحاصل ما ذهبوا إليه -بحسب ما وقفتُ عليه- ينحصر في أربعة اتجاهات، وفيما يأتي نبيّن كلّ اتجاه منها، ثم نتبعه بمناقشة تبرز عِلّته وتبيّن إشكاله:

الاتجاه الأول: ذهب بعض الحداثيين إلى حمل الآية على معنى الأمر بالحفظ لا الوعد بالحفظ، فالآية -في زعمهم- أمرٌ لنا بحفظ الذِّكْر لا أنّ اللهَ قد تكفّل بحفظه.
وممن زعم ذلك د. نصر أبو زيد حين قال: «وقول الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، لا يعني التدخُّل الإلهي المباشر في عملية الحِفْظ والتدوين والتسجيل، بل هو تدخُّل بالإنسان المؤمن بالبشارة، والحضّ والحثّ والترغيب على أهمية هذا الحِفْظ، وفهم الحِفْظ على أنه تدخّل مباشر من الزاوية الإلهية فهم يدلّ على وعي يضاد الإسلام ذاته من حيث إنه في جوهره الدِّين الذي أنهى العلاقة المباشرة بين
السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المضمّنة في القرآن الكريم، وفي سُنّة الوحي الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم»[11].
وهذا التأويل للآية الكريمة تأويل باطل، وبيان ذلك على النحو الآتي:

1- أنه مناقض تمام المناقضة لقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}؛ إِذْ إنّ هذه الجملة صريحة في أنّ الله وعَد -ووعده حَقّ- بحِفْظ القرآن بنفسه وذلك في قوله: {وَإنَّا}، فكيف يقال مع ذلك إنه لا يعني التدخل الإلهي المباشر، مع أنّ التعبير بالتدخّل غير لائق بجلاله -جلَّ وعزَّ- فالقرآن كلامه، لا كلام غيره، ومن حقّه أن يتكفّل بحفظه وحمايته.
2- من المتقرّر لدى أهل اللغة أيضًا أنّ قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جملة خبرية، ودعوى أنّ الآية تدخل بالإنسان المؤمن بالبشارة، والحضّ والحثّ والترغيب على أهمية هذا الحِفْظ يجعلها جملة إنشائية على معنى الأمر والطَّلَب، وهذا خلاف الظاهر، ولا يعدل عن الظاهر إلا بحُجّة وبرهان، وهذا من دلائل فساد هذا التأويل أيضًا.

3- دعوى أنّ الإسلام أنهى العلاقة المباشرة بين السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المضمّنة في القرآن الكريم، وفي سُنّة الوحي الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ دعوى عارية عن الحقّ والرشد، بل القرآن وحيه وإن هبط إلى الأرض، واللهُ وعَد بحفظه على كلّ حال، ولم يقيّده بزمان، أو مكان، ونزول القرآن لا يعني قطع صِلَته بمن أنزله وقاله ابتداء، فمنه بدأ وإليه يعود.
وقوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} «أي: في حال إنزاله وبعد إنزاله، ففي حال إنزاله حافظون له من استراق كلّ شيطان رجيم، وبعد إنزاله أودعه الله في قلب رسوله، واستودعه فيها ثم في قلوب أمّته، وحفظ اللهُ ألفاظَه من
التغيير فيها والزيادة والنقص، ومعانيه من التبديل، فلا يحرِّف محرِّف معنى من معانيه إلا وقيّض اللهُ له من يبيّن الحقّ المبين، وهذا من أعظم آيات الله ونعمه على عباده المؤمنين...»[12].
4- لا ينبغي إغفال أنّ القرآن الكريم يختلف عن الكتب المنزلة السابقة، حيث إنّ الله أَوْكَلَ حِفْظ الكتب السابقة إلى الناس، وليس الأمر كذلك في القرآن الكريم.
وقد أحسن إسماعيل بن إسحاق القاضي (ت282هـ) حين سُئل لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآن؟ فقال: قال الله تعالى، في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}[المائدة: 44]، فَوَكَلَ
الحفظ إليهم، وقال في القرآن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فلم يجز التبديل عليهم[13].
الاتجاه الثاني في تأويل الآية الكريمة: ذهب بعض الحداثيّين إلى أنّ المراد بالحفظ الموعود به حفظ المعنى والمضمون، لا حِفْظ النصوص والألفاظ.
يقول عبد المجيد الشرفي: «الذِّكْر الذي وعَد اللهُ بحفظه هو المحتوى، وليس الظرف، هو مضمون الدعوة بما انطوتْ عليه من تبشير وإنذار ومن توجيه وإرشاد، وليس الألفاظ والتعابير التي صِيغت فيها تلك الدعوة، والتي
دوّنت في ظرف معيّن، وتنسب إلى أقوام بأعيانهم، ولها نحوها وصرفها وقواعدها، ولا تختلف في هذا المستوى عن أيّ لغة أخرى، والرسول نفسه لم يَنْهَ أصحابه عن تلاوة الآيات التي حفظوها بطرق مختلفة، واعتبرها كلّها جائزة، في حين كان بعض الصحابة متمسكًا بالطريقة التي سمع النبي يتلو بها متشدّدًا في وحدة التلاوة، ويرى في تعدّدها تحريفًا لكلام الله»[14].
ويقول د. حسن حنفي: «يُغالي البعضُ وأكثرهم من اللاهوتيين المحافِظِين ويدَّعون أنّ اللهَ قد حفظ كتابه من التغيير والتبديل وأن العناية الإلهية هي الحافظة للنصوص، ومن ثم فلا داعي هناك لتطبيق قواعد المنهج
التاريخي على النصوص الدينية، وإقامة نقد تاريخي للكتب المقدسة:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وهي نظرية لاهوتية صرفة، تهرب من النقد، وتلجأ للسُّلْطة الإلهية... وقد يكون معنى الآية هو حفظ المعنى، وحفظ تطبيق المعنى في الواقع، لا حفظ النصّ الحرفي المدون، فذلك ما يعتريه التغيير والتحريف والتبديل، وهو ما يتهم به القرآن أهل الكتاب، ويؤيّده النقد التاريخي للكتب المقدّسة»[15].
وهذا التأويل للآية للكريمة -وهو قَصْر الحفظ على حفظ المعنى والمضمون- تحريف لمعنى الآية الكريمة بُني على مقدمات باطلة فلا غرو أن يكون مثلها.

وبيان ذلك على النحو الآتي:

1- الآية الكريمة أفادتْ أنّ الله وعَد بحِفْظِ الذِّكْر، والذِّكْر يشمل اللفظ والمعنى، ولا يقتصر على المعنى أو المضمون، فقصره على المعنى وتخصيصه بها دعوى لا دليل عليها.
2- مادة الذِّكْر نفسها تدلّ على أنّ القرآن الموعود بحفظه ألفاظ ومعانٍ، بل الأصل في الذِّكْر أن يكون بلفظ.

وقد جاء في القرآن ما يدلّ على أن هذا الذِّكْر المراد به القرآن متلوّ ومسموع وهذا إنما يكون للألفاظ الحاملة للمعاني كما لا يخفى.
قال تعالى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}[آل عمران: 58]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[القلم: 51- 52].

3- هذا التأويل المزعوم مبنيّ على مقدّمة باطلة وهي أنّ الذِّكْر -وهو القرآن- وحي بالمعنى دون اللفظ، وقد صرّح عبد المجيد الشرفي بذلك في موضع آخر ورأى أنه أقرب المواقف من المعقولية الحديثة[16].
ولا شك أنّ هذه مقدّمة باطلة؛ فالقرآن وحي من الله باللفظ والمعنى، ومن دلائل ذلك أنّ الرسول محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على ترديد ما يلقيه عليه جبريل -عليه السلام- من القرآن خشية أن يتفلّت منه شيء، فأنزل الله قوله:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 16- 19]، فقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ}، أي: بالقرآن، {لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
* إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}، أي: في قلبك، {وَقُرْآنَهُ}، أي: وأن تقرأه بعد ذلك بلسانك، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، أي: فإذا قرأه عليه الملَك المبلِّغ عنّا فاتبع قراءته، والقرآن اسم للّفظ والمعنى جميعًا، وفي ذلك دليل على أنّ ألفاظ القرآن بمعانيها جُمعت في قلبه بطريق الوحي إليه، والذي يُقرأ هو الألفاظ.
والعجيب أن أصحاب هذا القول الشاذّ تمسكوا بظاهر قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 193- 195]، وقالوا: إنّ الذي نزل على قلب الرسول
هو المعاني لا الألفاظ، مع أن الآيات نفسها تبطل كلامهم وذلك أن الله قال فيها: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، واللسان العربي لفظ ومعنى كما لا يخفى، وهو متعلّق بقوله: {نَزَلَ} على الوجه الصحيح، و(القلب) كما ينزل عليه المعنى، ينزل عليه اللفظ، وإنما آثر الحق تبارك وتعالى هذا التعبير للدلالة على أن القرآن كما وعته الأذنان، وعاه القلب اليقظان»[17].
4- حفظُ اللهِ القرآنَ الكريم من التغيير والتبديل والتحريف ليس من ادعاءات المُغالين بل هذا ما عليه إجماع المسلمين استنادًا إلى صريح القرآن الكريم.

وقد ذكر ابنُ حزم في مراتب الإجماع بَابًا عنون له: (من الإجماع في الاعتقادات يكفر مَنْ خَالفه بإجماع)، وممَّا ذكر فيه: «وأنَّ كلّ ما في القرآن حقّ، وأنّ من زادَ فيه حرفًا من غير القراءات المروية المحفوظة المنقولة نَقْل الكافة، أَو نقص منه حرفًا أو بدّل منه حرفًا مكان حرف، وقد قامَت عليه الحُجَّة أنه من الْقُرْآن، فتمادى مُتعمِّدًا لكلّ ذلك عالمًا بأنه بِخِلاف ما فعل؛ فإنه كافِر»[18].
5- لا يصحّ ما ادّعاه هؤلاء من أنَّ القرآن ألفاظٌ تنسب إلى أقوامٍ بأعيانهم، ولها نحوها وصرفها وقواعدها، ولا تختلف في هذا المستوى عن أيّ لغة أخرى؛ وذلك لأنّ القراءات القرآنية حين تنسب إلى القرّاء فيُقال
مثلًا: قراءة نافع، أو عاصم، أو حمزة، فإضافة القراءة إليهم إضافة شُهْرَة واختيار لا نِسبة اختراع.
قال ابن الجزري: «إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به، فآثره على غيره، وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعُرِف به، وقُصِد فيه، وأُخِذ عنه؛ فلذلك أُضيف إليه دون غيره من القرّاء، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد»[19].

وهذه القراءات المتواترة متلقّاة بالوحي، وسُنّة متّبَعة لا تحريف فيها ولا تبديل.

قال أبو عمرو الداني: «وأئمة القُرّاء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشَى في اللغة والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر والأصح في النقل والرواية إذا ثبت عنهم لم يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة؛ لأنّ القراءة سُنّة متبَعة يلزم قبولها والمصير إليها»[20].

والاختلاف بين القراءات اختلاف تنوّع لا تضاد، وله فوائده الجليلة كالتسهيل والتخفيف على الأُمّة، وما في ذلك من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وجمال الإيجاز؛ إِذْ كلّ قراءة بمنزلة الآية، إِذْ كان تنوّع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات.
6- دعوى أنّ الرسول نفسه لم يَنْهَ أصحابه عن تلاوة الآيات التي حفظوها بطرق مختلفة مقيّد بما سمعوه منه -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذا لمَّا أقر قراءتهم وجَّه ذلك بقوله: «هكذا أُنْزِلَت»، وكان الصحابي نفسه يقول
عن قراءته: «أقرَأَنِيها رسول الله» صلى الله عليه وسلم[21].
7- لا يصح قياس القرآن الكريم على الكتب المقدّسة الأخرى فيما يتعلق بحفظ ألفاظها من التحريف والتبديل؛ لما سبق من أن الله وَكَلَ حِفظ الكتب السابقة إلى الناس، وتكفّل بحفظ القرآن الكريم.
وسبب اختصاص القرآن الكريم بهذا «أنّ الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتي القرآن الكريم، الذي هو مَجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها. وهو بهذا التقدير الرسالة
السماوية إلى الإنسانية كلّها في جميع أوطانها وأزمانها»[22]، و«ترك حِفظ الكتاب الخاتم للبشر، الذين يجوز عليهم الإهمال والتحريف والنسيان، معناه طروء وحدوث التحريف والضياع لهذا الكتاب، حيث لا وحي سيأتي، ولا رسول سيبعث، ولا كتاب سينزل... الأمر الذي لو حدث -افتراضًا- سيضلّ الناس، ولا رعاية لهم، ولا حُجّة عليهم...»[23].
8- دعوى أنّ القول بحفظ الله القرآنَ هروبٌ من النقد، ولجوءٌ للسلطة الإلهية =جرأة عظيمة على الله وكلامه حَمَلهم عليها عدم مراعاتهم لخصائص القرآن الكريم، ومنها قدسية النصّ القرآني، وأنه كلام الله الحقّ المنزّه
عن كلّ نقص وعيب، ولي بحث مفرد بعنوان: «نظرات في موقف الحداثيين العرب من خصائص القرآن الكريم»، بيّنتُ فيه مواضع الخلل عندهم في هذا الباب.
الاتجاه الثالث في تأويل الآية الكريمة: ذهب بعض الحداثيين إلى أن الذِّكْر الموعود بحفظه هو القرآن المتلوّ أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- دون المكتوب في المصاحف بعد ذلك:
ذكر محمد أركون أن القرآن: «عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية، ولكنها دوّنت كتابةً ضمن ظروف تاريخية لم توضح حتى الآن أو لم يُكشف عنها النقاب، ثم رفعت هذه المدوّنة إلى مستوى الكتاب
المقدّس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين»[24].
وقال عبد المجيد الشرفي: «فلفظ القرآن لا يصح أن يطلق حقيقة إلا على الرسالة الشفوية التي بلّغها الرسول إلى الجماعة التي عاصرته»[25].
وهذا الادّعاء باطل؛ وذلك أن المكتوب في المصاحف اليوم لا يختلف عن القرآن الذي تلاه النبي -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه كما تلقّاه من جبريل -عليه السلام-، وقد تكفّل اللهُ بحفظ القرآن في الصدور
والسطور، ولعلّه لهذه الحكمة سُمّي بالقرآن، وبالكتاب فـ«روعي في تسميته قرآنًا كونه متلوًّا بالألسُن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه»[26].
وجاء في القرآن الكريم تسمية القرآن بالكتاب ومجيء أحدهما في موضع الآخر أو حالًا منه، قال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[فصلت: 3]، وحاصل الأمر أنه لا فرق بينهما من حيث الحقيقة، وإنما كلّ منهما أفاد معنًى وصفيًّا فيه، ونظيرهما في ذلك {الذِّكْر}؛ ولذا جاء في القرآن ما يدلّ على أن الذِّكْر هو الكتاب العزيز وأن الذِّكْر محفوظ حال كونه كتابًا قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا
جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41- 42]، «والذِّكْر: القرآن بإجماع»، وقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ}، جملة حالية على الأرجح، وهي من حيث المعنى داخلة في صفة الذِّكْر المُكَذَّب به، فلم يتم ذِكْر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه،

وهذا كما تقول: تخالف زيدًا وهو العالم الودود الذي من شأنه ومن أمره، فهذه كلّها أوصاف[27].
هذا، وقد قضى اللهُ بأن يكون القرآن مكتوبًا، وهذا شامل لكتابته في اللوح المحفوظ وكتابته بعد ذلك، واتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- كُتّابًا للوحي، ولم تتأخّر كتابة القرآن عن زمان النبيّ -صلى الله عليه وسلم-،
والذي صنعه أبو بكر الصديق هو جَمْع القرآن في مصحف واحد، ثم نُسِخَ إلى عدّة نُسَخٍ في عهد عثمان رضي الله عنه، ولهذين الجَمْعَيْن أسباب معروفة، وقد كان التعويل في ذلك على المكتوب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمحفوظ في صدور الصحابة.
ولو تصوّرنا أنّ المصاحف لم تُكتب أصلًا، أو اختفت بعد كتابتها، فإنّ القرآن محفوظ بالصدور منقول بالتواتر، لم يُزَد فيه ولم يُنْقَص منه، فكيف وقد تحقّق فيه الأمر؛ الحفظ في الصدور والحفظ في السطور.

وتقدّم أنّ نافعًا المدني قرأ قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21- 22]، برفع: {مَحْفُوظٌ}، وهذا يعني أنّ القرآن محفوظ مع أنه في لوح، فكتابته لا تُغَيِّر شيئًا من الوعد بحفظه.
قال الواحدي: «فإن قيل: لِمَ اشتغلَت الصحابة بجمع القرآن في الصحف، وقد وعَد اللهُ حفظه، وما حَفِظَه الله فلا خوف عليه؟
الجواب أن يقال: جَمْعُهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، ولمّا أراد حِفظه قيَّضهم لذلك، وقال ابن الأنباري: إنهم أرادوا تسهيل القرآن على الناس وتقريب مطلبه بالذي فعلوه، لكي يَسْهُلَ تناولُه على من أراد
حفظه وقراءته إذا رآه مجموعًا في صحيفة، ولو لم يفعلوا ما كان يضيع؛ إِذْ ضمِن اللهُ حِفْظَه»[28].
والإجماع منعقد على أنّ القرآن المكتوب في المصاحف هو القرآن الذي تكفّل الله بحفظه.
قال ابن عبد البر: «وأجمع العلماء أنّ ما في مصحف عثمان بن عفان -وهو الذي بأيدي المسلمين اليوم في أقطار الأرض حيث كانوا- هو القرآن المحفوظ الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه ولا تحلّ الصلاة لمسلم إلا بما
فيه»[29].
وقال ابن حزم في كتابه (مراتب الإجماع) تحت عنوان: (باب من الإجماع في الاعتقادات يكفر مَن خالفه بإجماع): «وأنّ القرآن المتلوّ الذي في المصاحف بأيدي الناس في شرق الأرض وغربها من أول {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إلى آخر {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، هو كلام الله -عزّ وجلّ- ووحيه أنزله على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- مختارًا له من بين الناس»[30].

الاتجاه الرابع: ذهب أحد الحداثيّين وهو المهندس محمد شحرور إلى التغاير والاختلاف بين القرآن والذِّكْر؛ استنادًا إلى قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}[ص: 1]، وذلك حين قال: «وإذا نظرنا أيضًا إلى الربط بين القرآن والذِّكْر في سورة (ص) لوجدناهما مربوطين بأداة (ذِي) وهذه الأداة تستعمل للدلالة على صفة الشيء لا على الشيء نفسه...»، إلى أن قال: «إنّ القرآن مجموعة القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية، وأساسه غير لغوي ثم جعل لغويًّا؛ لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزخرف: 3]... والذِّكْر هو تحوُّل القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي...»، إلى أن قال:
«الذِّكْر ليس القرآن نفسه، وإنما هو أحد خواصه وهو صيغته اللسانية حصرًا»[31].
واستند أيضًا إلى الفرق بين الذِّكْر والقرآن بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}[يس: 69].
وهذا الكلام فاسد في ذاته باطل من أساسه، وهو مبنيّ على مغالطات كثيرة ومفاهيم مخترعة زعمها صاحبها في كثير من كلمات القرآن الكريم، لا يتّسع المقام لمناقشته أو بيان فساد منهجه الذي سار عليه فيها، وقد
كفانا مؤنة ذلك عددٌ من الباحثين[32].

والذي نحتاج إلى بيانه هنا أنّ تفريقه بين القرآن والذِّكْر بما ادّعاه لا يصح؛ وذلك أننا ذكَرْنا آنفًا أنه رُوعي في تسمية القرآن كونه متلوًّا بالألْسُن، كما رُوعي في تسميته كتابًا كونه مدوّنًا بالأقلام، وهنا نقول: ورُوعي في تسميته بالذِّكْر كونه مذكِّرًا للناس، وشرفًا لمَن تمسّك به ونحو ذلك مما تقدّم ذِكْرُه في سبب تسمية القرآن بالذِّكْر، فإذا جاء اقتران القرآن بالذِّكْر وصفًا أو عطفًا مما يفيد تغايرًا، فإنه تغاير في الأوصاف لا في الذات والحقيقة، وهذا ما أغفله د. شحرور في عامة ما ذكره من فروق بين القرآن والكتاب والفرقان والذِّكْر وغيرها، فأتى بفروق لم يُسبق إليها، ولا يشهد لها لغة ولا عقل، ونقول له -دفعًا لرؤيته الفاسدة في قضية التغاير-: إنّ الله -جلَّ ذِكْره- قال عن نفسه: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}[الحديد: 3]، فهل هذا العطف يقتضي تغايرًا بالذات فيكون الآخِر غير الأول، ويكون الحديث في الآية عن أربع ذوات؟!
فإن قال: نعم فتلك مصيبة لا نحتاج معها إلى مزيد، وإن قال: إنّ المغايرة باعتبار ما في كلّ اسم من صفة تختصّ به وكلّها أسماء لله وأوصاف، فهذا عين ما نقوله في القرآن والذِّكْر والكتاب، ولله الحمد.

ودعوى أنّ القرآن أساسه غير لغوي ثم جعل لغويًّا لقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[الزخرف: 3]، ينقضها أنّ الأمر لو كان كما زعم في التفريق بين القرآن والذِّكْر لقيل: (إنّا جعلنا ذِكْرًا عربيًّا) وليس {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} على اعتبار أن الذِّكْر هو الصيغة اللغوية.
وإنما المعنى أنه على هذه الصفة قرآن عربي، وأنزله اللهُ كذلك؛ تيسيرًا منه سبحانه، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}[يوسف: 2].

ولا يخفى أن ما ادّعاه من أن الذِّكْر صيغة لغوية إنسانية باطل؛ فالقرآن أو الذِّكْر كلام الله لا تصرُّف لبشرٍ فيه، وليس للرسولَيْن (جبريل ومحمد عليهما السلام) منه إلا شرف التبليغ.
وأخيرًا، فقد كَثُر في القرآن الكريم ما يدلّ على أنّ القرآن يُقرأ ويُتْلَى ويُقَصّ، وهذا كلّه يهدم دعواه، ولو كان الأمر كما زعم من التفريق بين القرآن والذِّكْر لجاء التعبير في هذه الآيات بالذِّكْر لا بالقرآن.
خاتمة:

يتبيّن مما سبق أنَّ للحداثيّين تأويلات متهافتة في معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، يمكن تقسيمها إلى أربعة اتجاهات:
الأول: حمل الآية على معنى الأمر بالحِفْظ لا الوعد بالحِفْظ. والثاني: المراد بالحِفْظ الموعود به حِفْظ المعنى والمضمون، لا حِفْظ النصوص والألفاظ. والثالث: الذِّكْر الموعود بحِفْظِه هو القرآن المتلوّ أيام النبيّ -صلى الله عليه وسلم-دون المكتوب في المصاحف بعد ذلك. والرابع: دعوى التغاير والاختلاف بين القرآن والذِّكْر.

وتبيّن أنها تأويلات مبنيّة على مقدّمات باطلة؛ كقياس القرآن الكريم على الكتب المنزلة الأخرى في طروء التحريف والتبديل عليها، وعدم مراعاة خصائص القرآن الكريم؛ فلا غرو أنْ جاءت هذه التأويلات منحرفة، بمنأى عن سياق الآية الكريمة ودلالات ألفاظها، وإجماع المسلمين على حِفْظ الله للقرآن الكريم، بحيث يمكن القول بأنها باطنية جديدة تُفضي للهدم والتبديد لا البناء والتجديد، والله أعلم.

[1] الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (1/ 98)، دار الآفاق الجديدة- بيروت.

[2] التفسير القرآني للقرآن (7/ 218) لعبد الكريم الخطيب، دار الفكر العربي- القاهرة.
[3] التفسير البسيط للواحدي (12/ 547)، الناشر عمادة البحث العلمي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الطبعة: الأولى، 1430هـ. وزاد المسير لابن الجوزي (2/ 525)، دار الكتاب العربي- بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ.

[4] ينظر: إرشاد العقل السليم لأبي السعود (5/ 69)، والتفسير القرآني للقرآن (7/ 218).

[5] المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي (3/ 352)، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ، وزاد المسير (2/ 525)، والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (6/ 468)، دار الفكر- بيروت، الطبعة: 1420هـ.

[6] ينظر: تفسير القرآن للسمعاني (3/ 131)، دار الوطن، الرياض- السعودية، ومفاتيح الغيب للرازي (19/ 123)، دار إحياء التراث العربي- بيروت، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 527)، دار طيبة.
[7] حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير البيضاوي (5/ 283)، دار صادر- بيروت.
[8] النكت والعيون للماوردي (5/ 185)، دار الكتب العلمية، بيروت- لبنان.

[9] ينظر: مفاتيح الغيب (27/ 567)، وتفسير ابن كثير (7/ 183).
[10] ينظر: النشر في القراءات العشر لابن الجزري (2/ 399)، والبحر المحيط (10/ 447)، والتحرير والتنوير لابن عاشور (30/ 254)، الدار التونسية للنشر- تونس.
[11] النصّ، السلطة، الحقيقة، د. نصر حامد أبو زيد، ص69- 70، المركز الثقافي العربي، الطبعة: الأولى.

[12] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص429، مؤسسة الرسالة.
[13] ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، مطبعة فضالة، المحمدية، المغرب.
[14] الإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي، ص50، دار الطليعة- بيروت، الطبعة: الثانية، 2008م.

[15] رسالة في اللاهوت والسياسة، باروخ سبينوزا- ترجمة: حسن حنفي، ومراجعة: فؤاد زكريا، هامش ص27، في المقدمة، الناشر: مؤسسة هنداوي.
[16] ينظر: الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص37.
[17] المدخل لدراسة القرآن، د. محمد حسين الذهبي (1/ 67-68)، مكتبة السنّة- القاهرة، الطبعة: الثانية.

[18] مراتب الإجماع لابن حزم الأندلسي، ص174، دار الكتب العلمية- بيروت.
[19] النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/ 52).
[20] جامع البيان في القراءات السبع لأبي عمرو الداني، جامعة الشارقة- الإمارات، الطبعة: الأولى.

[21] من ذلك ما وقع لعمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم -رضي الله عنهما-، والقصة أخرجها الشيخان في مواضع، منها: صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب مَن لم يَرَ بأسًا أن يقول: سورة البقرة، وسورة كذا وكذا، (6/ 194)، ح5040.
[22]التفسير القرآني للقرآن (7/ 219).

[23] حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، ص301، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1424هـ-2003م.
[24] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل لـ محمد أركون، ص41، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت- لبنان، الطبعة: الأولى، 1999م.
[25] الإسلام بين الرسالة والتاريخ، ص49.

[26] النبأ العظيم، د/ محمد عبد الله دراز، ص41، دار القلم.
[27] ينظر: المحرر الوجيز (5/ 19).
[28] التفسير البسيط (12/ 547).
[29] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (4/ 278).

[30] مراتب الإجماع، ص173.
[31] الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، محمد شحرور، ص62- 63، الأهالي للطباعة والنشر.

[32] من هذه البحوث على سبيل المثال: بيضة الديك؛ نقد لغوي لكتاب (الكتاب والقرآن) ليوسف الصيداوي.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 8 ( الأعضاء 0 والزوار 8)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 276.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 270.34 كيلو بايت... تم توفير 5.81 كيلو بايت...بمعدل (2.10%)]