فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         كتاب الأم للإمام الشافعي - الفقه الكامل ---متجدد إن شاء الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 314 - عددالزوار : 116029 )           »          التحذير من فتنة المال (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 79 )           »          زاد الداعية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 2 - عددالزوار : 604 )           »          كن مفتاح خير مغلاق شر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 81 )           »          آفاق التنمية والتطوير (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 21 - عددالزوار : 10844 )           »          عقيدة الرافضة في الأئمة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 1 - عددالزوار : 88 )           »          هل الأمر بالأمر بالشيء أمر بالشيء) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 141 )           »          فجاءتْ كسِنِّ الظَّبْيِ، لم أَرَ مِثْلَها (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 151 )           »          كتاب “الإسلام والإعاقة: نظرات في العقيدة والفقه” (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 163 )           »          دور المدرب والمتدرب في بيئات التدريب الإلكتروني التشاركي (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 184 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم اجعل كافة الأقسام مقروءة

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 12-09-2021, 01:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الاول
الحلقة (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: فتح العليم العلَّام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف: الإمام/ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728 هـ)
جمع وترتيب/ العاجز الفقير: عبد الرحمن القماش
(من علماء الأزهر الشريف)
عدد الأجزاء: 18
عدد الصفحات: 9236
[الكتاب مرقم آليا، وهو غير مطبوع]
(تنبيه)
جميع حقوق الطبع والنسخ والنشر حق لكل مسلم
(يَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا)
عن الربيع بن سليمان، قال: سمعتُ الشافعيَّ يقول: «ألفتُ هذه الكتب» واستفرغتُ مجهودي فيها، ووددتُ أن يتعلمها الناس ولا تُنْسَبُ إليَّ. اهـ (مناقب الشافعي، للبيهقي. 1/ 257).
وَإِنْ تَجِدْ عَيْباً فَسُدَّ الْخَلَلَا ... جَلَّ مَنْ لاَ عَيْبَ فِيهِ وَعَلَا
* * *
(تقديم)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
سبحانه هو المحمودُ بكلِّ لسانٍ [1]، المعبودُ في كلِّ زمانٍ، الذي لا يخلو من علمهِ مكان، صَاحبُ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَالْعِزَّةِ وَالْبَقَاءِ، وَالرِّفْعَةِ وَالْعَلَاءِ، وَالْمَجْدِ وَالثَّنَاءِ تَعَالَى عَنِ الْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ، وَتَقَدَّسَ عَنِ الْأَمْثَالِ وَالنُّظَرَاءِ.
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَصَفِّيِهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ، عَدَدَ ذَرَّاتِ الثَّرَى، وَنُجُومِ السَّمَاءِ، حَبِيبِهِ، وَخِيرَتِهِ مِنْ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْأَنَامِ، مُعَلِّمِ الْحِكْمَةَ، وهَادِي الأمَّةِ، ذِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَالْحَوْضِ الْمَوْرُودِ، الْمُبْتَعَثِ بِالْحَقِّ الْأَبْهَجِ لِلْأَنَامِ دَاعِيًا، وَبِالطَّرِيقِ الْأَنْهَجِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُنَادِيًا، الصَّادِعِ بِالْحَقِّ، الْهَادِي لِلْخَلْقِ، أَرْسَلَهُ بالنورِ الساطعِ، والضياءِ اللامعِ، الْمَخْصُوصِ بِالْقُرْآنِ الْمُبِينِ، وَالْكِتَابِ الْمُسْتَبِينِ، الَّذِي هُو أَعْظَمُ الْمُعْجِزَاتِ، وَأَكْبَرُ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، السَّائِرَةِ فِي الْآفَاقِ، الْبَاقِي بَقَاء الْأَطْوَاقِ فِي الْأَعْنَاقِ، الْجَدِيدُ عَلَى تَقَادُمِ الْأَعْصَارِ، اللَّذِيذُ عَلَى تَوَالِي التَّكْرَارِ، الْبَاسِقُ فِي الْإِعْجَازِ إِلَى الذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، الْجَالِي بِأَنْوَارِهِ ظُلَم الْإِلْحَادِ، الْحَالِي بِجَوَاهِرِ مَعَانِيهِ طَلَى الْأَجْيَادِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ أُنْزِل عَلَيْهِ، وَأَهْدَى أَرَج تَحِيَّةٍ وَأَزْكَاهَا إِلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ الْمُخْتَصِّين بِالزُّلْفَى لَدَيْهِ، وَرَضِي اللَّهُ عَنْ صَحْبِهِ الَّذِين نَقَلُوا عَنْهُ كِتَاب اللَّهِ أَدَاءً وَعَرْضًا، وَتَلَقَّوْهُ مِنْ فِيهِ جَنِيًّا وَغَضًّا، وَأَدَّوْهُ إِلَيْنَا صَرِيحًا مَحْضًا.
فاللهم صلِّ عليه وعلى آله الأبرارِ، وصحبه الأخيارِ، مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
__________

[1] اقتباس من مقدمتي لتفسير (مصباح التفاسير القرآنية الجامع لتفسير ابن قيم الجوزية).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 12-09-2021, 02:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (2)

من صــ 236 الى صــ 249

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ -:
فَصْلٌ:
أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ
الْقُرْآنُ الْفُرْقَانُ الْكِتَابُ الْهُدَى النُّورُ الشِّفَاءُ الْبَيَانُ الْمَوْعِظَةُ الرَّحْمَةُ بَصَائِرُ الْبَلَاغُ الْكَرِيمُ الْمَجِيدُ الْعَزِيزُ الْمُبَارَكُ التَّنْزِيلُ الْمُنَزَّلُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ حَبْلُ اللَّهِ الذِّكْرُ الذِّكْرَى تَذْكِرَةٌ {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} {إنَّهُ تَذْكِرَةٌ} {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} و {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الْمُتَشَابِهُ الْمَثَانِي الْحَكِيمُ {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الحكيم} محكم المفصل {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا} البرهان {قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا} على أحد القولين الحق {قد جاءكم الحق من ربكم} عربي مبين أحسن الحديث أحسن القصص على قول كلام الله {فأجره حتى يسمع كلام الله} العلم {فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم} العلي الحكيم {وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} القيم {يتلو صحفا مطهرة} {فيها كتب قيمة} {أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا} {قيما} وحي في قوله: {إن هو إلا وحي يوحى} حكمة في قوله: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} {حكمة بالغة} وحكما في قوله: {أنزلناه حكما عربيا} ونبأ على قول في قوله: {عن النبإ العظيم} ونذير على قول {هذا نذير من النذر الأولى} في حديث أبي موسى شافعا مشفعا وشاهدا مصدقا وسماه النبي صلى الله عليه وسلم " حجة لك أو عليك " وفي حديث الحارث عن علي {عصمة لمن استمسك به}. وأما وصفه بأنه يقص وينطق ويحكم ويفتي ويبشر ويهدي فقال: {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل} {هذا كتابنا ينطق عليكم} {قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب} أي يفتيكم أيضا {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون}.
فصل:
في الآيات الدالة على اتباع القرآن. {قوله: {اهدنا الصراط المستقيم} فإنه في التفسير المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله}. . . (1) .
وسئل - رحمه الله -:

عن أحاديث هل هي صحيحة وهل رواها أحد من المعتبرين بإسناد صحيح؟ إلخ فقال.

فصل:
وأما حديث فاتحة الكتاب فقد ثبت في الصحيح عن {النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل}.
وثبت في صحيح مسلم عن {ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض ولم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته} وفي بعض الأحاديث: {إن فاتحة الكتاب أعطيها من كنز تحت العرش}.
وسئل:
هل من يلحن في الفاتحة تصح صلاته أم لا؟
فأجاب:
أما اللحن في الفاتحة الذي لا يحيل المعنى فتصح صلاة صاحبه إماما أو منفردا مثل أن يقول: {رب العالمين} والضالين ونحو ذلك.
وأما ما قرئ به مثل: الحمد لله رب ورب ورب. ومثل الحمد لله والحمد لله بضم الدال أو بكسر الدال. ومثل عليهم وعليهم وعليهم. وأمثال ذلك فهذا لا يعد لحنا.
وأما اللحن الذي يحيل المعنى: إذا علم صاحبه معناه مثل أن يقول: {صراط الذين أنعمت عليهم} وهو يعلم أن هذا ضمير المتكلم لا تصح صلاته وإن لم يعلم أنه يحيل المعنى واعتقد أن هذا ضمير المخاطب ففيه نزاع والله أعلم.

فصل:
قال الله تعالى: في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم: {إياك نعبد وإياك نستعين} وهذه السورة هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي الشافية وهي الواجبة في الصلوات لا صلاة إلا بها وهي الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها. والصلاة أفضل الأعمال وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح؛ أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله حيث افتتحها بقوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} وختمها بقوله: {واسجد واقترب} فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود. ولهذا قال سبحانه في صلاة الخوف: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} والمراد بالسجود الركعة التي يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح واستعاذة هي تحريم للصلاة ومقدمة لما بعده أول ما يبتدئ به كالتقدمة وما يفعل بعد السجود من قعود وتشهد فيه التحية لله والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله قال النبي صلى الله عليه وسلم {مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم}.
ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره: كان الصحيح أنهما سواء القيام فيه أفضل الأذكار والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة يجعل الأركان قريبا من السواء وإذا أطال القيام طولا كثيرا - كما كان يفعل في قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود وإذا اقتصد فيه اقتصد في الركوع والسجود وأم الكتاب كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة في القرآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {لم ينزل في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن مثلها وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته}
وفضائلها كثيرة جدا. وقد جاء مأثورا عن الحسن البصري رواه ابن ماجه وغيره أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع علمها في الأربعة وجمع علم الأربعة في القرآن وجمع علم القرآن في المفصل وجمع علم المفصل في أم القرآن وجمع علم أم القرآن في هاتين الكلمتين الجامعتين {إياك نعبد وإياك نستعين} وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع في هاتين الكلمتين الجامعتين. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث: {إن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله أثنى علي عبدي وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال الله عز وجل: مجدني عبدي وفي رواية: فوض إلي عبدي وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل} فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة ف {إياك نعبد} مع ما قبله لله {وإياك نستعين} مع ما بعده للعبد وله ما سأل. ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء ونصفها مسألة وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء. وإذا كان الله قد فرض علينا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين في كل صلاة فمعلوم أن ذلك يقتضي أنه فرض علينا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذي هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب أو القلب والبدن بل أوجب دعاء الله عز وجل ومناجاته وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد. وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجابا وغير إيجاب في مواضع كقوله في آخر سورة هود: {فاعبده وتوكل عليه} وقول العبد الصالح شعيب: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} وقول إبراهيم والذين معه: {ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير} وقوله سبحانه إذ أمر رسوله أن يقول: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب}. فأمر نبيه بأن يقول: على الرحمن توكلت وإليه متاب كما أمره بهما في قوله: {فاعبده وتوكل عليه} والأمر له أمر لأمته وأمره بذلك في أم القرآن وفي غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة لله وامتثالا لأمره ولا يتقدموا بين يدي الله ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من الله؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسنا أو عفوا وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره كالمنحرفين عن الصراط المستقيم. وإلى هذين الأصلين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد في عباداته وأذكاره ومناجاته مثل قوله في الأضحية: {اللهم هذا منك ولك} فإن قوله: " منك " هو معنى التوكل والاستعانة وقوله: " لك " هو معنى العبادة ومثل قوله في قيامه من الليل: {لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون} إلى أمثال ذلك.
إذا تقرر هذا الأصل فالإنسان في هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة إما أن يأتي بهما وإما أن يأتي بالعبادة فقط وإما أن يأتي بالاستعانة فقط وإما أن يتركهما جميعا. ولهذا كان الناس في هذه الأقسام الأربعة؛ بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام وهم المقصودون هنا بالكلام. قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهي والإخلاص لله تعالى واتباع الشريعة في الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات؛ لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل فيكون إما عاجزا وإما مفرطا وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه والحزن لما يفوته وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية ولا يعرف قضاءه وقدره وهو حسن القصد طالب للحق لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة والطريق المفضية. وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل عليه وإظهار الفقر والفاقة بين يديه والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات؛ لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين لله فلا يكون مقصوده أن يكون الدين كله لله وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعا لشريعة الله عز وجل ومنهاجه؛ بل قصده نوع سلطان في العالم إما سلطان قدرة وتأثير وإما سلطان كشف وإخبار أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته في الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره الله به راكبا لبعض ما نهى الله عنه وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر ويشهد قدر الله وقضاءه ولا يشهد أمر الله ونهيه ويشهد قيام الأكوان بالله وفقرها إليه وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه وما الذي يحبه الله منه ويرضاه وما الذي يكرهه منه ويسخطه. ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة ومخالفة لبعض الأمر وإذا أوغل الرجل منهم دخل في الإباحية والانحلال وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد كما قد وقع لكثير من الشيوخ ويوجد في كلام صاحب " منازل السائرين " وغيره ما يفضي إلى ذلك. وقد يدخل بعضهم في " الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود " فيعتقد أن الله هو الوجود المطلق كما يقول صاحب " الفتوحات المكية " في أولها:الرب حق والعبد حق ... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت ... أو قلت رب أنى يكلف
وقسم ثالث معرضون عن عبادة الله وعن الاستعانة به جميعا. وهم فريقان: أهل دنيا وأهل دين فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله ويستعينون غير الله بظنهم وهواهم {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى} وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب. واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة الله والاستعانة به وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه.
__________

Q (1) بياض بالأصل



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 12-09-2021, 02:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
(مبحث الاستعاذة)
المجلد الثانى
الحلقة (3)

من صــ 250 الى صــ 254


(مبحث الاستعاذة)

مسألة: ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
السنة: لكل من قرأ في الصلاة أو خارج الصلاة: أن يستعيذ؛ لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} يعني: إذا أردت القراءة كقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} وقوله: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} أي: يريدون العود.
فإن قيل: هذا أمر لمن كان أكبر مقصوده القراءة فقط, وهو القارئ خارج الصلاة, والقارئ للقرآن في صلاة التراويح.
قلنا: الآية تعم القسمين, بل إذا استحب الاستعاذة للقارئ في غير الصلاة, فهي للقارئ في الصلاة أوكد؛ طردا لوسوسة الشيطان عنه, ولما تقدم من حديث جبير بن مطعم, وروى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة استفتح, ثم يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
وفي رواية: «من همزه ونفخه ونفثه» رواه أحمد, والترمذي, وقال: (هذا أشهر حديث في هذا الباب) والذي قبله, وإن كان في النافلة, فإنه لا فرق في الاستعاذة بين الفريضة والنافلة, ولو لم يكن كان يبلغنا أنه كان يستعيذ امتثالا لأمر الله سبحانه, كما لم ينقل عنه نقلا ظاهرا أنه كان يستعيذ عند القراءة خارج الصلاة, إلا في حديث أو حديثين , ومعلوم أن ذلك لا محالة له.
وقال الأسود بن يزيد. رأيت عمر حين يفتتح الصلاة يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك وتعالى جدك, ولا إله غيرك» ثم يتعوذ. رواه النجاد والدارقطني.
وجاءت الاستعاذة في الصلاة عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة.
فصل
وفي صفة الاستعاذة أربعة أنواع:

أحدها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, كما ذكره الشيخ, وذكره جماعة من أصحابنا, وذكره الآمدي, رواية عن أحمد؛ لظاهر قوله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وقال: ابن المنذر: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وقد روى سليمان بن صرد قال: أستب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم, فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه, فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه هذا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» رواه البخاري ومسلم.
ولأن في حديث جبير بن مطعم: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم» وكذلك روى النجاد ثلاث روايات: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم» قاله في رواية جماعة, واختاره أبو بكر والقاضي والآمدي وابن عقيل وغيرهم.
وقد روي ذلك عن مسلم بن يسار, وهو من أفضل التابعين؛ لأن ذلك فيه جمع بين ظاهر قوله: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} مع قوله في الآية الأخرى: {إنه هو السميع العليم} , وهو أبلغ معنى؛ لأن ذكر الصفة بعد الحكم بحرف «إن» يقتضي أن يكون علمه وسمعه سبحانه لدعاء الداعي, وعلمه بما في قلبه, سبب لإعاذته وإجارته من الشيطان.
وثانيها: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ لأن فيه جمعا بين صفة الله تعالى مع تقديمها, وقد تقدم في حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يقول بعد الاستفتاح: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
وروى أبو داود والنجاد في قصة الإفك أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
وروى أحمد في «المسند» عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال إذا أصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ... } إلى آخر سورة الحشر, وكل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يمسي, ومن قالها إذا أمسى, وكل الله به سبعين ألف ملك يحفظونه حتى يصبح».
وروى النجاد عن ابن عمر أنه كان يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
وثالثهما: أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, إن الله هو السميع العليم. واختاره ابن أبي موسى وأبو الخطاب, تخصيصا للصفة بإعادتها, وعملا بظاهر قوله: «إن الله هو السميع العليم» مع السنة الواردة لذلك, وكيف ما استعاذ بما روى فقد أحسن, مثل أن يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, من همزه ونفخه ونفثه» وهمزه: الموتة, وهي الصرع. ونفخه: الكبر والخيلاء. ونفثه: الشعر والأغاني الكاذبة.
وسئل:
عن رجل يؤم الناس وبعد تكبيرة الإحرام يجهر بالتعوذ ثم يسمي ويقرأ ويفعل ذلك في كل صلاة؟.

فأجاب:
إذا فعل ذلك أحيانا للتعليم ونحوه فلا بأس بذلك كما كان عمر بن الخطاب يجهر بدعاء الاستفتاح مدة وكما كان ابن عمر وأبو هريرة يجهران بالاستعاذة أحيانا.
وأما المداومة على الجهر بذلك فبدعة مخالفة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائما بل لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهر بالاستعاذة والله أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 12-09-2021, 07:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (4)

من صــ 255 الى صــ 259


(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
(فَصْلٌ: هَلِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ)

فَأَمَّا صِفَةُ الصَّلَاةِ وَمِنْ شَعَائِرِهَا مَسْأَلَةُ الْبَسْمَلَةِ فَإِنَّ النَّاسَ اضْطَرَبُوا فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ وَفِي قِرَاءَتِهَا وَصَنَّفْت مِنْ الطَّرَفَيْنِ مُصَنَّفَاتٍ يَظْهَرُ فِي بَعْضِ كَلَامِهَا نَوْعُ جَهْلٍ وَظُلْمٍ مَعَ أَنَّ الْخَطْبَ فِيهَا يَسِيرٌ.
وَأَمَّا التَّعَصُّبُ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا فَمِنْ شَعَائِرِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي نُهِينَا عَنْهَا؛ إذْ الدَّاعِي لِذَلِكَ هُوَ تَرْجِيحُ الشَّعَائِرِ الْمُفْتَرِقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِنْ أَخَفِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ جَدًّا لَوْلَا مَا يَدْعُو إلَيْهِ الشَّيْطَانُ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الْفُرْقَةِ.
فَأَمَّا كَوْنُهَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَمَالِكِ: لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا فِي سُورَةِ النَّمْلِ.
وَالْتَزَمُوا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَوْدَعُوا الْمُصْحَفَ مَا لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَحَكَى طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد هَذَا رِوَايَةً عَنْهُ وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ: مَا كَتَبُوهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْمُصْحَفِ مَعَ تَجْرِيدِهِمْ لِلْمُصْحَفِ عَمَّا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا وَهِيَ مِنْ السُّورَةِ مَعَ أَدِلَّةٍ أُخْرَى.
وَتَوَسَّطَ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَمُحَقِّقِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالُوا: كِتَابَتُهَا فِي الْمُصْحَفِ تَقْتَضِي أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكْتُبُوا فِيهِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ لَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ؛ بَلْ تَكُونُ آيَةً مُفْرَدَةً أُنْزِلَتْ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ سَطْرًا مَفْصُولًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى يَنْزِلَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ هِيَ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ فِيهِ.
وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورِ. وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَلَمْ يُوجَدْ عَنْهُ نَقْلٌ صَرِيحٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ. وَهُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلُهَا.
وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي تِلَاوَتِهَا فِي الصَّلَاةِ. طَائِفَةٌ لَا تَقْرَؤُهَا لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا.
كَمَالِكِ وَالْأَوْزَاعِي. وَطَائِفَةٌ تَقْرَؤُهَا جَهْرًا كَأَصْحَابِ ابْنِ جريج وَالشَّافِعِيِّ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ جَمَاهِيرُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ مَعَ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ يَقْرَءُونَهَا سِرًّا كَمَا نُقِلَ عَنْ جَمَاهِيرِ الصَّحَابَةِ مَعَ أَنَّ أَحْمَد يَسْتَعْمِلُ مَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيَسْتَحِبُّ الْجَهْرَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ حَتَّى إنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ يَجْهَرُ بِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَجْهَرُ بِهَا.
وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إلَى تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ بِتَرْكِ هَذِهِ الْمُسْتَحَبَّاتِ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ التَّأْلِيفِ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ فِعْلِ مِثْلِ هَذَا كَمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَغْيِيرَ بِنَاءِ الْبَيْتِ لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَكَمَا أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى عُثْمَانَ إتْمَامَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ ثُمَّ صَلَّى خَلْفَهُ مُتِمًّا. وَقَالَ الْخِلَافُ شَرٌّ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا حَسَنًا فَمَقْصُودُ أَحْمَد أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَهَا فَيَجْهَرُ بِهَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا سُنَّةٌ كَمَا جَهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْكِتَابِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَقَالَ: لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ وَكَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْآيَةِ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ.
وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْجَهْرُ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ الْمُخَافَتَةَ فَكَأَنَّهُمْ جَهَرُوا لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَهَا كَمَا جَهَرَ بَعْضُهُمْ بِالِاسْتِعَاذَةِ أَيْضًا وَالِاعْتِدَالُ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتِعْمَالُ الْآثَارِ عَلَى وَجْهِهَا فَإِنَّ كَوْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا - وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَنْقُلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ - مُمْتَنِعٌ قَطْعًا.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْيُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ خَبَرٌ ثَابِتٌ إلَّا وَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَكَوْنُ الْجَهْرِ بِهَا لَا يُشْرَعُ بِحَالِ - مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - نِسْبَةً لِلصَّحَابَةِ إلَى فِعْلِ الْمَكْرُوهِ وَإِقْرَارِهِ؛ مَعَ أَنَّ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ يُشْرَعُ لِعَارِضِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَرَاهَةُ قِرَاءَتِهَا مَعَ مَا فِي قِرَاءَتِهَا مِنْ الْآثَارِ الثَّابِتَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ الْمَرْفُوعِ بَعْضُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَتَبَتْهَا فِي الْمُصْحَفِ وَأَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِلُ مَعَ السُّورَةِ فِيهِ مَا فِيهِ مَعَ أَنَّهَا إذَا قُرِئَتْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ سُلَيْمَانَ فَقِرَاءَتُهَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ اللَّهِ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ فَمُتَابَعَةُ الْآثَارِ فِيهَا الِاعْتِدَالُ والائتلاف وَالتَّوَسُّطُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْأُمُورِ.
ثُمَّ مِقْدَارُ الصَّلَاةِ يَخْتَارُ فِيهِ فُقَهَاءُ الْحَدِيثِ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا غَالِبًا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمُعْتَدِلَةُ الْمُتَقَارِبَةُ الَّتِي يُخَفِّفُ فِيهَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ وَيُطِيلُ فِيهَا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَيُسَوِّي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَبَيْنَ الِاعْتِدَالِ مِنْهُمَا. كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مَعَ كَوْنِ الْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ بِمَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ وَفِي الظُّهْرِ نَحْوَ الثَّلَاثِينَ آيَةً وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَفِّفُ عَنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِعَارِضِ {كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفُ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ بِهِ}.
كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُطِيلُهَا عَلَى ذَلِكَ لِعَارِضِ كَمَا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ وَهِيَ الْأَعْرَافُ. وَيُسْتَحَبُّ إطَالَةُ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ عَلَى الثَّانِيَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمُدَّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَيَحْذِفَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَمَا رَوَاهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّ أَنْ يَمُدَّ الِاعْتِدَالَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ رُكْنًا خَفِيفًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ تَابِعًا لِأَجْلِ الْفَصْلِ لَا أَنَّهُ مَقْصُودٌ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ أَلَّا يَزِيدَ الْإِمَامُ فِي تَسْبِيحِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى ثَلَاثٍ؛ إلَى أَقْوَالٍ أُخَرَ قَالُوهَا.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 12-09-2021, 07:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (5)

من صــ 260 الى صــ 289

وسئل:
عن حديث نعيم المجمر قال: " كنت وراء أبي هريرة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم الكتاب حتى بلغ {ولا الضالين}.

قال: آمين وقال الناس: آمين ويقول: كلما سجد: الله أكبر فلما سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم " وكان المعتمر بن سليمان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل فاتحة الكتاب وبعدها ويقول: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس وقال أنس: ما آلو أن أقتدي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حديث ثابت في الجهر بها. ذكر الحاكم أبو عبد الله: أن رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات. فهل يحمل {ما قاله أنس: وهو صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم} على عدم السماع؟ وما التحقيق في هذه المسألة والصواب؟.
فأجاب:
الحمد لله رب العالمين، أما حديث أنس في نفي الجهر فهو صريح لا يحتمل هذا التأويل فإنه قد رواه مسلم في صحيحه فقال فيه: {صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها} وهذا النفي لا يجوز إلا مع العلم بذلك لا يجوز بمجرد كونه لم يسمع مع إمكان الجهر بلا سماع. واللفظ الآخر الذي في صحيح مسلم: {صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر أو قال: يصلي ببسم الله الرحمن الرحيم} فهذا نفي فيه السماع ولو لم يرو إلا هذا اللفظ لم يجز تأويله بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ جهرا ولا يسمع أنس لوجوه: أحدها: أن أنسا إنما روى هذا ليبين لهم ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله إذ لا غرض للناس في معرفة كون أنس سمع أو لم يسمع إلا ليستدلوا بعدم سماعه على عدم المسموع فلو لم يكن ما ذكره دليلا على نفي ذلك لم يكن أنس ليروي شيئا لا فائدة لهم فيه ولا كانوا يروون مثل هذا الذي لا يفيدهم. الثاني: أن مثل هذا اللفظ صار دالا في العرف على عدم ما لم يدرك فإذا قال: ما سمعنا أو ما رأينا لما شأنه أن يسمعه ويراه كان مقصوده بذلك نفي وجوده وذكر نفي الإدراك دليل على ذلك.

ومعلوم أنه دليل فيما جرت العادة بإدراكه. وهذا يظهر (بالوجه الثالث وهو أن أنسا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة إلى أن مات وكان يدخل على نسائه قبل الحجاب ويصحبه حضرا وسفرا وكان حين حج النبي صلى الله عليه وسلم تحت ناقته يسيل عليه لعابها أفيمكن مع هذا القرب الخاص والصحبة الطويلة أن لا يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها مع كونه يجهر بها هذا مما يعلم بالضرورة بطلانه في العادة. ثم إنه صحب أبا بكر وعمر وعثمان وتولى لأبي بكر وعمر ولايات ولا كان يمكن مع طول مدتهم أنهم كانوا يجهرون وهو لا يسمع ذلك فتبين أن هذا تحريف لا تأويل. لو لم يرو إلا هذا اللفظ فكيف والآخر صريح في نفي الذكر بها وهو يفضل هذه الرواية الأخرى. وكلا الروايتين ينفي تأويل من تأول قوله: يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين أنه أراد السورة فإن قوله: يفتتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها صريح أنه في قصد الافتتاح بالآية لا بسورة الفاتحة التي أولها بسم الله الرحمن الرحيم إذ لو كان مقصوده ذلك لتناقض حديثاه.
وأيضا فإن افتتاح الصلاة بالفاتحة قبل السورة هو من العلم الظاهر العام الذي يعرفه الخاص والعام كما يعلمون أن الركوع قبل السجود وجميع الأئمة غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان يفعلون هذا ليس في نقل مثل هذا فائدة ولا هذا مما يحتاج فيه إلى نقل أنس وهم قد سألوه عن ذلك وليس هذا مما يسأل عنه وجميع الأئمة من أمراء الأمصار والجيوش وخلفاء بني أمية وبني الزبير وغيرهم ممن أدركه أنس كانوا يفتتحون بالفاتحة ولم يشتبه هذا على أحد ولا شك؛ فكيف يظن أن أنسا قصد تعريفهم بهذا وأنهم سألوه عنه. وإنما مثل ذلك مثل أن يقال: فكانوا يصلون الظهر أربعا والعصر أربعا والمغرب ثلاثا أو يقول: فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر ويخافتون في صلاتي الظهرين أو يقول: فكانوا يجهرون في الأوليين دون الأخيرتين. ومثل حديث أنس حديث عائشة الذي في الصحيح أيضا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين} إلى آخره وقد روى {يفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين} وهذا صريح في إرادة الآية؛ لكن مع هذا ليس في حديث أنس نفي لقراءتها سرا؛ لأنه روى " فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " وهذا إنما نفى هنا الجهر.
وأما اللفظ الآخر " لا يذكرون " فهو إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه وذلك موجود في الجهر فإنه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا.
وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن له بين التكبير والقراءة سكتة يمكن فيها القراءة سرا؛ ولهذا استدل بحديث أنس على عدم القراءة من لم ير هناك سكوتا كمالك وغيره؛ لكن قد ثبت في الصحيحين من {حديث أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله: أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: كذا وكذا} إلى آخره. وفي السنن من حديث عمران وأبي وغيرهما: أنه كان يسكت قبل القراءة. وفيها أنه كان يستعيذ وإذا كان له سكوت لم يمكن أنسا أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت فيكون نفيه للذكر وإخباره بافتتاح القراءة بها إنما هو في الجهر وكما أن الإمساك عن الجهر مع الذكر سرا يسمى سكوتا كما في حديث أبي هريرة فيصلح أن يقال: لم يقرأها ولم يذكرها؛ أي جهرا؛ فإن لفظ السكوت ولفظ نفي الذكر والقراءة: مدلولهما هنا واحد.
ويؤيد هذا {حديث عبد الله بن مغفل. الذي في السنن: أنه سمع ابنه يجهر بها فأنكر عليه وقال: يا بني إياك والحدث وذكر أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يجهرون بها} فهذا مطابق لحديث أنس وحديث عائشة اللذين في الصحيح.
وأيضا فمن المعلوم أن الجهر بها مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بها كالجهر بسائر الفاتحة لم يكن في العادة ولا في الشرع ترك نقل ذلك بل لو انفرد بنقل مثل هذا الواحد والاثنان لقطع بكذبهما إذ التواطؤ فيما تمنع العادة والشرع كتمانه كالتواطؤ على الكذب فيه. ويمثل هذا بكذب دعوى الرافضة في النص على علي في الخلافة وأمثال ذلك.
وقد اتفق أهل المعرفة بالحديث على أنه ليس في الجهر بها حديث صريح ولم يرو أهل السنن المشهورة: كأبي داود والترمذي والنسائي شيئا من ذلك وإنما يوجد الجهر بها صريحا في أحاديث موضوعة يرويها الثعلبي والماوردي وأمثالهما في التفسير. أو في بعض كتب الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره بل يحتجون بمثل حديث الحميراء.
وأعجب من ذلك أن من أفاضل الفقهاء من لم يعز في كتابه حديثا إلى البخاري إلا حديثا في البسملة وذلك الحديث ليس في البخاري ومن هذا مبلغ علمه في الحديث كيف يكون حالهم في هذا الباب أو يرويها من جمع هذا الباب: كالدارقطني والخطيب وغيرهما فإنهم جمعوا ما روي وإذا سئلوا عن صحتها قالوا: بموجب علمهم.
كما قال الدارقطني لما دخل مصر. وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بها فجمعها قيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف. وسئل أبو بكر الخطيب عن مثل ذلك فذكر حديثين حديث معاوية لما صلى بالمدينة وقد رواه الشافعي رضي الله عنه قال: حدثنا عبد المجيد عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره.
أن أنس بن مالك قال: صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بأم القرآن فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين من كل مكان يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلى بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أم القرآن وكبر حين يهوي ساجدا.
وقال الشافعي أنبأنا إبراهيم بن محمد قال: حدثني ابن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر إذا خفض وإذا رفع فناداه المهاجرون حين سلم والأنصار: أي معاوية؟ سرقت الصلاة؟ وذكره. وقال الشافعي أنبأنا يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية والمهاجرين والأنصار بمثله أو مثل معناه لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأول وهو في كتاب إسماعيل ابن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده عن معاوية. وذكر الخطيب أنه أقوى ما يحتج به وليس بحجة كما يأتي بيانه.
فإذا كان أهل المعرفة بالحديث متفقين على أنه ليس في الجهر حديث صحيح ولا صريح فضلا أن يكون فيها أخبار مستفيضة أو متواترة امتنع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها كما يمتنع أن يكون كان يجهر بالاستفتاح والتعوذ ثم لا ينقل.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 12-09-2021, 07:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (6)

من صــ 260 الى صــ 289



فإن قيل: هذا معارض بترك الجهر بها فإنه مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ثم هو مع ذلك ليس منقولا بالتواتر بل قد تنازع فيه العلماء كما أن ترك الجهر بتقدير ثبوته كان يداوم عليه ثم لم ينقل نقلا قاطعا بل وقع فيه النزاع.
قيل: الجواب عن هذا من وجوه:

أحدها أن الذي تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة ويجب نقله شرعا: هو الأمور الوجودية فأما الأمور العدمية فلا خبر لها ولا ينقل منها إلا ما ظن وجوده أو احتيج إلى معرفته فينقل للحاجة؛ ولهذا قالوا لو نقل ناقل افتراض صلاة سادسة أو زيادة على صوم رمضان أو حجا غير حج البيت أو زيادة في القرآن أو زيادة في ركعات الصلاة أو فرائض الزكاة ونحو ذلك لقطعنا بكذبه فإن هذا لو كان لوجب نقله نقلا قاطعا عادة وشرعا وإن عدم النقل يدل على أنه لم ينقل نقلا قاطعا عادة وشرعا؛ بل يستدل بعدم نقله مع توافر الهمم والدواعي في العادة والشرع على نقله أنه لم يكن. وقد مثل الناس ذلك بما لو نقل ناقل: أن الخطيب يوم الجمعة سقط من المنبر ولم يصل الجمعة أو أن قوما اقتتلوا في المسجد بالسيوف فإنه إذا نقل هذا الواحد والاثنان والثلاثة دون بقية الناس علمنا كذبهم في ذلك؛ لأن هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله في العادة؛ وإن كانوا لا ينقلون عدم الاقتتال ولا غيره من الأمور العدمية. يوضح ذلك أنهم لم ينقلوا الجهر بالاستفتاح والاستعادة واستدلت الأمة على عدم جهره بذلك وإن كان لم ينقل نقلا عاما عدم الجهر بذلك فبالطريق الذي يعلم عدم جهره بذلك يعلم عدم جهره بالبسملة وبهذا يحصل الجواب عما يورده بعض المتكلمين على هذا الأصل وهو كون الأمور التي تتوافر الهمم والدواعي على نقلها يمتنع ترك نقلها فإنهم عارضوا أحاديث الجهر والقنوت والأذان والإقامة فأما الأذان والإقامة فقد نقل فعل هذا وهذا وأما القنوت فإنه قنت تارة وترك تارة وأما الجهر فإن الخبر عنه أمر وجودي ولم ينقل فيدخل في القاعدة.
(الوجه الثاني أن الأمور العدمية لما احتيج إلى نقلها نقلت فلما انقرض عصر الخلفاء الراشدين وصار بعض الأئمة يجهر بها كابن الزبير ونحوه سأل بعض الناس بقايا الصحابة كأنس فروى لهم أنس ترك الجهر بها وأما مع وجود الخلفاء فكانت السنة ظاهرة مشهورة ولم يكن في الخلفاء من يجهر بها فلم يحتج إلى السؤال عن الأمور العدمية حتى ينقل.
(الثالث أن نفي الجهر قد نقل نقلا صحيحا صريحا في حديث أبي هريرة والجهر بها لم ينقل نقلا صحيحا صريحا مع أن العادة والشرع يقتضي أن الأمور الوجودية أحق بالنقل الصحيح الصريح من الأمور العدمية. وهذه الوجوه من تدبرها وكان عالما بالأدلة القطعية قطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بها بل ومن لم يتدرب في معرفة الأدلة القطعية من غيرها يقول أيضا: إذا كان الجهر بها ليس فيه حديث صحيح صريح فكيف يمكن بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها ولم تنقل الأمة هذه السنة بل أهملوها وضيعوها؟ وهل هذه إلا بمثابة أن ينقل ناقل:
أنه كان يجهر بالاستفتاح والاستعاذة كما كان فيهم من يجهر بالبسملة ومع هذا فنحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالاستفتاح والاستعاذة كما كان يجهر بالفاتحة كذلك نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجهر بالبسملة كما كان يجهر بالفاتحة ولكن يمكن أنه كان يجهر بها أحيانا أو أنه كان يجهر بها قديما ثم ترك ذلك كما روى أبو داود في مراسيله عن سعيد بن جبير ورواه الطبراني في معجمه عن ابن عباس:
{أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بها بمكة فكان المشركون إذا سمعوها سبوا الرحمن فترك الجهر فما جهر بها حتى مات} فهذا محتمل.
وأما الجهر العارض، فمثل ما في الصحيح أنه كان يجهر بالآية أحيانا ومثل جهر بعض الصحابة خلفه بقوله:
{ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه} ومثل جهر عمر بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ومثل جهر ابن عمر وأبي هريرة بالاستعاذة ومثل جهر ابن عباس بالقراءة على الجنازة ليعلموا أنها سنة. ويمكن أن يقال جهر من جهر بها من الصحابة كان على هذا الوجه ليعرفوا أن قراءتها سنة؛ لا لأن الجهر بها سنة. ومن تدبر عامة الآثار الثابتة في هذا الباب علم أنها آية من كتاب الله وأنهم قرءوها لبيان ذلك لا لبيان كونها من الفاتحة وأن الجهر بها سنة مثل ما ذكر ابن وهب في جامعه قال أخبرني رجال من أهل العلم عن ابن عباس وأبي هريرة وزيد بن أسلم؛ وابن شهاب: مثله بغير هذا الحديث عن ابن عمر أنه كان يفتتح القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. قال ابن شهاب: يريد بذلك أنها آية من القرآن فإن الله أنزلها قال: وكان أهل الفقه يفعلون ذلك فيما مضى من الزمان وحديث ابن عمر معروف من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: أنه كان إذا صلى جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فإذا قال: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال:
بسم الله الرحمن الرحيم فهذا الذي ذكره ابن شهاب الزهري هو أعلم أهل زمانه بالسنة بين حقيقة الحال. فإن العمدة في الآثار في قراءتها إنما هي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر.
وقد عرف حقيقة حال أبي هريرة في ذلك وكذلك غيره رضي الله عنهم أجمعين.
ولهذا كان العلماء بالحديث ممن يروي الجهر بها ليس معه حديث صريح لعلمه بأن تلك أحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يتمسك بلفظ محتمل مثل اعتمادهم على حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة المتقدم. وقد رواه النسائي. فإن العارفين بالحديث يقولون إنه عمدتهم في هذه المسألة ولا حجة فيه.
فإن ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أظهر دلالة على نفي قراءتها من دلالة هذا على الجهر بها؛ فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
{يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي - أو قال فوض إلي عبدي - فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم} {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل} وقد روى عبد الله بن زياد بن سمعان - وهو كذاب - أنه قال: في أوله فإذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم قال ذكرني عبدي}ولهذا اتفق أهل العلم على كذب هذه الزيادة وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر؛ لأن الشيعة ترى الجهر وهم أكذب الطوائف فوضعوا في ذلك أحاديث لبسوا بها على الناس دينهم؛ ولهذا يوجد في كلام أئمة السنة من الكوفيين كسفيان الثوري أنهم يذكرون من السنة المسح على الخفين وترك الجهر بالبسملة كما يذكرون تقديم أبي بكر وعمر ونحو ذلك؛ لأن هذا كان من شعار الرافضة. ولهذا ذهب أبو علي بن أبي هريرة أحد الأئمة من أصحاب الشافعي إلى ترك الجهر بها قال: لأن الجهر بها صار من شعار المخالفين كما ذهب من ذهب من أصحاب الشافعي إلى تسنمة القبور؛ لأن التسطيح صار من شعار أهل البدع. فحديث أبي هريرة دليل على أنها ليست من القراءة الواجبة ولا من القراءة المقسومة وهو على نفي القراءة مطلقا أظهر من دلالة حديث نعيم المجمر على الجهر؛ فإن في حديث نعيم المجمر أنه قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ أم القرآن وهذا دليل على أنها ليست من القرآن عندهم وحديث أبي هريرة الذي في مسلم يصدق ذلك فإنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج؛ فهي خداج فقال له رجل: يا أبا هريرة - أنا أحيانا أكون وراء الإمام فقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين} الحديث.
وهذا صريح في أن أم القرآن التي يجب قراءتها في الصلاة عند أبي هريرة القراءة المقسومة التي ذكرها مع دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ وذلك ينفي وجوب قراءتها عند أبي هريرة فيكون أبو هريرة وإن كان قرأ بها؛ قرأ بها استحبابا لا وجوبا. والجهر بها مع كونها ليست من الفاتحة قول لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة؛ وغيرهم من الأئمة المشهورين؛ ولا أعلم به قائلا؛ لكن هي من الفاتحة وإيجاب قراءتها مع المخافتة بها قول طائفة من أهل الحديث؛ وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ وإذا كان أبو هريرة إنما قرأها استحبابا لا وجوبا؛ وعلى هذا القول لا تشرع المداومة على الجهر بها؛ كان جهره بها أولى أن يثبت دليلا على أنه ليعرفهم استحباب قراءتها؛ وأن قراءتها مشروعة؛ كما جهر عمر بالاستفتاح:
وكما جهر ابن عباس بقراءة فاتحة الكتاب على الجنازة؛ ونحو ذلك؛ ويكون أبو هريرة قصد تعريفهم أنها تقرأ في الجملة؛ وإن لم يجهر بها وحينئذ فلا يكون هذا مخالفا لحديث أنس الذي في الصحيح؛ وحديث عائشة الذي في الصحيح؛ وغير ذلك.
هذا إن كان الحديث دالا على أنه جهر بها؛ فإن لفظه ليس صريحا بذلك من وجهين:أحدهما أنه قال قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ أم القرآن ولفظ القراءة محتمل أن يكون قرأها سرا ويكون نعيم علم ذلك بقربه منه؛ فإن قراءة السر إذا قويت يسمعها من يلي القارئ ويمكن أن أبا هريرة أخبره بقراءتها وقد أخبر أبو قتادة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب وهي قراءة سر كيف وقد بين في الحديث أنها ليست من الفاتحة فأراد بذلك وجوب قراءتها فضلا عن كون الجهر بها سنة فإن النزاع في الثاني أضعف. (الثاني أنه لم يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها قبل أم الكتاب وإنما قال في آخر الصلاة: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الحديث أنه أمن وكبر في الخفض والرفع وهذا ونحوه مما كان يتركه الأئمة فيكون أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الوجوه التي فيها ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه هم ولا يلزم إذا كان أشبههم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون صلاته مثل صلاته من كل وجه. ولعل قراءتها مع الجهر أمثل من ترك قراءتها بالكلية عند أبي هريرة؛ وكان أولئك لا يقرءونها أصلا؛ فيكون قراءتها مع الجهر أشبه عنده بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان غيره ينازع في ذلك.
وأما حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه؛ فيعلم أولا:
أن تصحيح الحاكم وحده وتوثيقه وحده لا يوثق به فيما دون هذا؛ فكيف في مثل هذا الموضع الذي يعارض فيه بتوثيق الحاكم. وقد اتفق أهل العلم في الصحيح على خلافه ومن له أدنى خبرة في الحديث وأهله لا يعارض بتوثيق الحاكم ما قد ثبت في الصحيح خلافه؛ فإن أهل العلم متفقون على أن الحاكم فيه من التساهل والتسامح في (باب التصحيح حتى إن تصحيحه دون تصحيح الترمذي والدارقطني وأمثالهما بلا نزاع فكيف بتصحيح البخاري ومسلم.
بل تصحيحه دون تصحيح أبي بكر ابن خزيمة وأبي حاتم بن حبان البستي وأمثالهما بل تصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاره خير من تصحيح الحاكم فكتابه في هذا الباب خير من كتاب الحاكم بلا ريب عند من يعرف الحديث وتحسين الترمذي أحيانا يكون مثل تصحيحه أو أرجح وكثيرا ما يصحح الحاكم أحاديث يجزم بأنها موضوعة لا أصل لها فهذا هذا.
والمعروف عن سليمان التيمي وابنه معتمر أنهما كانا يجهران بالبسملة لكن نقله عن أنس هو المنكر كيف وأصحاب أنس الثقات الأثبات يروون عنه خلاف ذلك حتى إن شعبة سأل قتادة عن هذا قال: أنت سمعت أنسا يذكر ذلك؟ قال: نعم وأخبره باللفظ الصريح المنافي للجهر.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 12-09-2021, 07:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (7)

من صــ 260 الى صــ 289



ونقل شعبة عن قتادة ما سمعه من أنس في غاية الصحة وأرفع درجات الصحيح عند أهله إذ قتادة أحفظ أهل زمانه أو من أحفظهم وكذلك إتقان شعبة وضبطه هو الغاية عندهم وهذا مما يرد به قول من زعم أن بعض الناس روى حديث أنس بالمعنى الذي فهمه وأنه لم يكن في لفظه إلا قوله: يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ففهم بعض الرواة من ذلك نفي قراءتها فرواه من عنده فإن هذا القول لا يقوله إلا من هو أبعد الناس علما برواة الحديث وألفاظ روايتهم الصريحة التي لا تقبل التأويل وبأنهم من العدالة والضبط في الغاية التي لا تحتمل المجازفة أو أنه مكابر صاحب هوى يتبع هواه ويدع موجب العلم والدليل.
ثم يقال: هب أن المعتمر أخذ صلاته عن أبيه وأبوه عن أنس وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا مجمل ومحتمل؛ إذ ليس يمكن أن يثبت كل حكم جزئي من أحكام الصلاة بمثل هذا الإسناد المجمل؛ لأنه من المعلوم أن مع طول الزمان وتعدد الإسناد لا تضبط الجزئيات في أفعال كثيرة متفرقة حق الضبط؛ إلا بنقل مفصل لا مجمل وإلا فمن المعلوم أن مثل منصور بن المعتمر وحماد بن أبي سليمان والأعمش وغيرهم أخذوا صلاتهم عن إبراهيم النخعي وذويه وإبراهيم أخذها عن علقمة والأسود ونحوها وهم أخذوها عن ابن مسعود وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الإسناد أجل رجالا من ذلك الإسناد وهؤلاء أخذ الصلاة عنهم أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وأمثالهم من فقهاء الكوفة فهل يجوز أن يجعل نفس صلاة هؤلاء هي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الإسناد حتى في موارد النزاع فإن جاز هذا كان هؤلاء لا يجهرون ولا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الافتتاح ويسفرون بالفجر وأنواع ذلك مما عليه الكوفيون.
ونطير هذه احتجاج بعضهم على الجهر بأن أهل مكة من أصحاب ابن جريج كانوا يجهرون وأنهم أخذوا صلاتهم عن ابن جريج وهو أخذها عن عطاء وعطاء عن ابن الزبير وابن الزبير عن أبي بكر الصديق وأبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن الشافعي رضي الله عنه أول ما أخذ الفقه في هذه المسألة وغيرها عن أصحاب ابن جريج. كسعيد بن سالم القداح ومسلم بن خالد الزنجي لكن مثل هذه الأسانيد المجملة لا يثبت بها أحكام مفصلة تنازع الناس فيها. ولئن جاز ذلك ليكونن مالك أرجح من هؤلاء فإنه لا يستريب عاقل أن الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين كانوا بالمدينة أجل قدرا وأعلم بالسنة وأتبع لها ممن كان بالكوفة ومكة والبصرة. وقد احتج أصحاب مالك على ترك الجهر بالعمل المستمر بالمدينة فقالوا:
هذا المحراب الذي كان يصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم الأئمة وهلم جرا. ونقلهم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل متواتر كلهم شهدوا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلاة خلفائه وكانوا أشد محافظة على السنة وأشد إنكارا على من خالفها من غيرهم فيمتنع أن يغيروا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا العمل يقترن به عمل الخلفاء كلهم من بني أمية وبني العباس فإنهم كلهم لم يكونوا يجهرون وليس لجميع هؤلاء غرض بالإطباق على تغيير السنة في مثل هذا ولا يمكن أن الأئمة كلهم أقرتهم على خلاف السنة بل نحن نعلم ضرورة أن خلفاء المسلمين وملوكهم لا يبدلون سنة لا تتعلق بأمر ملكهم وما يتعلق بذلك من الأهواء وليست هذه المسألة مما للملوك فيها غرض. وهذه الحجة إذا احتج بها المحتج لم تكن دون تلك بل نحن نعلم أنها أقوى منها فإنه لا يشك مسلم أن الجزم بكون صلاة التابعين بالمدينة أشبه بصلاة الصحابة بها والصحابة بها أشبه صلاة بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من الجزم بكون صلاة شخص أو شخصين أشبه بصلاة آخر حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يذهب ذاهب قط إلى أن عمل غير أهل المدينة أو إجماعهم حجة وإنما تنوزع في عمل أهل المدينة وإجماعهم: هل هو حجة أم لا؟ نزاعا لا يقصر عن عمل غيرهم وإجماع غيرهم إن لم يزد عليه.
فتبين دفع ذلك العمل عن سليمان التيمي وابن جريج وأمثالهما بعمل أهل المدينة لو لم يكن المنقول نقلا صحيحا صريحا عن أنس يخالف ذلك فكيف والأمر في رواية أنس أظهر وأشهر وأصح وأثبت من أن يعارض بهذا الحديث المجمل الذي لم يثبت وإنما صححه مثل الحاكم وأمثاله.
ومثل هذا أيضا يظهر ضعف حديث معاوية الذي فيه أنه صلى بالصحابة بالمدينة فأنكروا عليه ترك قراءة البسملة في أول الفاتحة وأول السورة حتى عاد يعمل ذلك فإن هذا الحديث وإن كان الدارقطني قال:
إسناده ثقات وقال الخطيب:
هو أجود ما يعتمد عليه في هذه المسألة كما نقل ذلك عنه نصر المقدسي فهذا الحديث يعلم ضعفه من وجوه:
أحدها أنه يروي عن أنس أيضا الرواية الصحيحة الصريحة المستفيضة الذي يرد هذا.
الثاني أن مدار ذلك الحديث على عبد الله بن عثمان بن خثيم وقد ضعفه طائفة وقد اضطربوا في روايته إسنادا ومتنا: كما تقدم. وذلك يبين أنه غير محفوظ.
الثالث أنه ليس فيه إسناد متصل السماع؛ بل فيه من الضعف والاضطراب ما لا يؤمن معه الانقطاع أو سوء الحفظ.
الرابع أن أنسا كان مقيما بالبصرة ومعاوية لما قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسا كان معه بل الظاهر أنه لم يكن معه.
الخامس أن هذه القضية بتقدير وقوعها كانت بالمدينة والراوي لها أنس وكان بالبصرة وهي مما تتوافر الهمم والدواعي على نقلها. ومن المعلوم أن أصحاب أنس المعروفين بصحبته وأهل المدينة لم ينقل أحد منهم ذلك؛ بل المنقول عن أنس وأهل المدينة نقيض ذلك والناقل ليس من هؤلاء ولا من هؤلاء.
(السادس أن معاوية لو كان رجع إلى الجهر في أول الفاتحة والسورة لكان هذا أيضا معروفا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه ولم ينقل هذا أحد عن معاوية؛ بل الشاميون كلهم: خلفاؤهم وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها؛ بل الأوزاعي مذهبه فيها مذهب مالك لا يقرؤها سرا ولا جهرا. فهذه الوجوه وأمثالها إذا تدبرها العالم قطع بأن حديث معاوية إما باطل لا حقيقة له وإما مغير عن وجهه وأن الذي حدث به بلغه من وجه ليس بصحيح فحصلت الآفة من انقطاع إسناده. وقيل: هذا الحديث لو كان تقوم به الحجة لكان شاذا؛ لأنه خلاف ما رواه الناس الثقات الأثبات عن أنس وعن أهل المدينة وأهل الشام ومن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذا ولا معللا وهذا شاذ معلل إن لم يكن من سوء حفظ بعض رواته.
والعمدة التي اعتمدها المصنفون في الجهر بها ووجوب قراءتها إنما هو كتابتها في المصحف بقلم القرآن وأن الصحابة جردوا القرآن عما ليس منه. والذين نازعوهم دفعوا هذه الحجة بلا حق كقولهم:
القرآن لا يثبت إلا بقاطع ولو كان هذا قاطعا لكفر مخالفه.
وقد سلك أبو بكر ابن الطيب الباقلاني وغيره هذا المسلك وادعوا أنهم يقطعون بخطأ الشافعي في كونه جعل البسملة من القرآن معتمدين على هذه الحجة وأنه لا يجوز إثبات القرآن إلا بالتواتر ولا تواتر هنا فيجب القطع بنفي كونها من القرآن.
والتحقيق: أن هذه الحجة مقابلة بمثلها فيقال لهم: بل يقطع بكونها من القرآن حيث كتبت كما قطعتم بنفي كونها ليست منه. ومثل هذا النقل المتواتر عن الصحابة بأن ما بين اللوحين قرآن فإن التفريق بين آية وآية يرفع الثقة بكون القرآن المكتوب بين لوحي المصحف كلام الله ونحن نعلم بالاضطرار أن الصحابة الذين كتبوا المصاحف نقلوا إلينا أن ما كتبوه بين لوحي المصحف كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يكتبوا فيه ما ليس من كلام الله.
فإن قال المنازع: إن قطعتم بأن البسملة من القرآن حيث كتبت فكفروا النافي قيل لهم: وهذا يعارض حكمه إذا قطعتم بنفي كونها من القرآن فكفروا منازعكم.
وقد اتفقت الأمة على نفي التكفير في هذا الباب مع دعوى كثير من الطائفتين القطع بمذهبه وذلك لأنه ليس كل ما كان قطعيا عند شخص يجب أن يكون قطعيا عند غيره وليس كل ما ادعت طائفة أنه قطعي عندها يجب أن يكون قطعيا في نفس الأمر؛ بل قد يقع الغلط في دعوى المدعي القطع في غير محل القطع كما يغلط في سمعه وفهمه ونقله وغير ذلك من أحواله كما قد يغلط الحس الظاهر في مواضع وحينئذ فيقال:
الأقوال في كونها من القرآن ثلاثة: طرفان ووسط.
الطرف الأول: قول من يقول إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل كما قال مالك وطائفة من الحنفية وكما قاله بعض أصحاب أحمد. مدعيا أنه مذهبه أو ناقلا لذلك رواية عنه.
والطرف المقابل له: قول من يقول إنها من كل سورة آية أو بعض آية كما هو المشهور من مذهب الشافعي ومن وافقه وقد نقل عن الشافعي أنها ليست من أوائل السور غير الفاتحة وإنما يستفتح بها في السور تبركا بها وأما كونها من الفاتحة فلم يثبت عنه فيه دليل.
والقول الوسط: أنها من القرآن حيث كتبت وأنها مع ذلك ليست من السور بل كتبت آية في أول كل سورة وكذلك تتلى آية منفردة في أول كل سورة كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة {إنا أعطيناك الكوثر} كما ثبت ذلك في صحيح مسلم وكما في قوله: {إن سورة من القرآن هي ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة {تبارك الذي بيده الملك} رواه أهل السنن وحسنه الترمذي وهذا القول قول عبد الله بن المبارك وهو المنصوص الصريح عن أحمد بن حنبل.
وذكر أبو بكر الرازي أن هذا مقتضى مذهب أبي حنيفة عنده وهو قول سائر من حقق القول في هذه المسألة وتوسط فيها جمع من مقتضى الأدلة وكتابتها سطرا مفصولا عن السورة ويؤيد ذلك قول ابن عباس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم} رواه أبو داود
وهؤلاء لهم في الفاتحة قولان هما روايتان عن أحمد.
أحدهما أنها من الفاتحة دون غيرها تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة.
والثاني وهو الأصح لا فرق به بين الفاتحة وغيرها في ذلك وأن قراءتها في أول الفاتحة كقراءتها في أول السور والأحاديث الصحيحة توافق هذا القول لا تخالفه.
وحينئذ الخلاف أيضا في قراءتها في الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها أنها واجبة وجوب الفاتحة كمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين وطائفة من أهل الحديث بناء على أنها من الفاتحة.
والثاني قول من يقول: قراءتها مكروهة سرا وجهرا كما هو المشهور من مذهب مالك.
والقول الثالث أن قراءتها جائزة؛ بل مستحبة وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه.
وأكثر أهل الحديث وطائفة من هؤلاء يسوي بين قراءتها وترك قراءتها ويخير بين الأمرين معتقدين أن هذا على إحدى القراءتين وذلك على القراءة الأخرى. ثم مع قراءتها هل يسن الجهر أو لا يسن على ثلاثة أقوال:
قيل: يسن الجهر بها كقول الشافعي ومن وافقه. قيل: لا يسن الجهر بها كما هو قول الجمهور من أهل الحديث والرأي وفقهاء الأمصار. وقيل: يخير بينهما.
كما يروى عن إسحاق وهو قول ابن حزم وغيره. ومع هذا فالصواب أن ما لا يجهر به قد يشرع الجهر به لمصلحة راجحة فيشرع للإمام أحيانا لمثل تعليم المأمومين ويسوغ للمصلين أن يجهروا بالكلمات اليسيرة أحيانا ويسوغ أيضا أن يترك الإنسان الأفضل لتأليف القلوب واجتماع الكلمة خوفا من التنفير عما يصلح كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم؛ لكون قريش كانوا حديثي عهد بالجاهلية وخشي تنفيرهم بذلك ورأى أن مصلحة الاجتماع والائتلاف مقدمة على مصلحة البناء على قواعد إبراهيم.
وقال ابن مسعود - لما أكمل الصلاة خلف عثمان وأنكر عليه فقيل له في ذلك فقال - الخلاف شر؛ ولهذا نص الأئمة كأحمد وغيره على ذلك بالبسملة وفي وصل الوتر وغير ذلك مما فيه العدول عن الأفضل إلى الجائز المفضول مراعاة ائتلاف المأمومين أو لتعريفهم السنة وأمثال ذلك والله أعلم.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-09-2021, 05:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام



فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (8)

من صــ 288 الى صــ 292


وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
عَنْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ؟.

فَأَجَابَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ، اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ} وَتَنَازَعُوا فِيهَا فِي أَوَائِلِ السُّورِ حَيْثُ كُتِبَتْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا:
أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا كُتِبَتْ تَبَرُّكًا بِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَيُحْكَى هَذَا رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَلَا يَصِحُّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلًا فِي مَذْهَبِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ إمَّا آيَةٌ وَإِمَّا بَعْضُ آيَةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَلَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد ابْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِمَا.
وَذَكَرَ الرَّازِي أَنَّهُ مُقْتَضَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَهُ. وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ.

فَإِنَّ كِتَابَتَهَا فِي الْمُصْحَفِ بِقَلَمِ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَكِتَابَتُهَا مُفْرِدَةٌ مَفْصُولَةٌ عَمَّا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ السُّورَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {إنَّ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ ثَلَاثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلِ حَتَّى غُفِرَ لَهُ.
وَهِيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وَهَذَا لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْفَى إغْفَاءَة فَقَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ. وَقَرَأَ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهَا مِنْ السُّورَةِ بَلْ فِيهِ أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَهَذَا سُنَّةٌ فَإِنَّهَا تُقْرَأُ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ السُّورَةِ. وَمِثْلُهُ {حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِيهِ أَنَّهَا نَزَلَتْ لِلْفَصْلِ وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْهَا وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ثَلَاثُونَ آيَةً بِدُونِ الْبَسْمَلَةِ؛ وَلِأَنَّ الْعَادِّينَ لِآيَاتِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعُدَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ الْبَسْمَلَةَ مِنْ السُّورَةِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ تَنَازَعُوا فِي الْفَاتِحَةِ: هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد:أَحَدُهُمَا:
أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَظُنُّهُ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِالْآثَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي أَنَّ الْبَسْمَلَةَ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ تَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ يُوجِبُونَ قِرَاءَتَهَا وَإِنْ لَمْ يَجْهَرُوا بِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ كَمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ غَيْرِهَا وَهَذَا أَظْهَرُ. فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَهُ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ اللَّهُ: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يَقُولُ اللَّهُ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ:
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يَقُولُ اللَّهُ: مَجَّدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ الْعَبْدُ: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا.
يَقُولُ اللَّهُ: فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ}. فَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَ غَيْرَهَا. وَقَدْ رُوِيَ ذِكْرُهَا فِي حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ فَذَكَرَهُ مِثْلُ الثَّعْلَبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ وَمِثْلُ مَنْ جَمَعَ أَحَادِيثَ الْجَهْرِ وَأَنَّهَا كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَوْضُوعَةٌ. وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَمَا كَانَ لِلرَّبِّ ثَلَاثُ آيَاتٍ وَنِصْفٌ وَلِلْعَبْدِ ثَلَاثٌ وَنِصْفٌ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى الْآيَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ: " فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي ".
وَهَؤُلَاءِ إشَارَةٌ إلَى جَمْعٍ فَعُلِمَ أَنَّ مِنْ قَوْلِهِ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلَى آخِرِهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَعُدُّ الْبَسْمَلَةَ آيَةً مِنْهَا وَمَنْ عَدَّهَا آيَةً مِنْهَا جَعَلَ هَذَا آيَتَيْنِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاتِحَةَ سُورَةٌ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَالْبَسْمَلَةَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَوَّلِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ السُّورِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَتُلِيَتْ فِي الصَّلَاةِ جَهْرًا كَمَا تُتْلَى سَائِرُ آيَاتِ السُّورَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى الْجَهْرَ بِهَا كَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمَكِّيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يُجْهَرُ بِهَا:
كَسَائِرِ آيَاتِ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَ عَلَى آثَارٍ مَنْقُولَةٍ بَعْضُهَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ الصَّحَابَةِ:
كَابْنِ الزُّبَيْرِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ صَحِيحٌ وَفِيهِ ضَعِيفٌ.
وَأَمَّا الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ مَوْضُوعٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ حُفَّاظُ الْحَدِيثِ كالدارقطني وَغَيْرِهِ.
وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهر بها حديثا واحدا؛ وإنما يروي أمثال هذه الأحاديث من لا يميز من أهل التفسير:
كالثعلبي ونحوه وكبعض من صنف في هذا الباب من أهل الحديث كما يذكره طائفة من الفقهاء في كتب الفقه وقد حكى القول بالجهر عن أحمد وغيره بناء على إحدى الروايتين عنه من أنها من الفاتحة فيجهر بها كما يجهر بسائر الفاتحة وليس هذا مذهبه بل يخافت بها عنده. وإن قال هي من الفاتحة لكن يجهر بها عنده لمصلحة راجحة مثل أن يكون المصلون لا يقرءونها بحال فيجهر بها ليعلمهم أن قراءتها سنة كما جهر ابن عباس بالفاتحة على الجنازة وكما جهر عمر بن الخطاب بالاستفتاح وكما نقل عن أبي هريرة أنه قرأ بها ثم قرأ بأم الكتاب وقال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي وهو أجود ما احتجوا به.
وكذلك فسر بعض أصحاب أحمد خلافه أنه كان يجهر بها إذا كان المأمومون ينكرون على من لم يجهر بها وأمثال ذلك فإن الجهر بها والمخافتة سنة فلو جهر بها المخافت صحت صلاته بلا ريب وجمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد والأوزاعي لا يرون الجهر؛ لكن منهم من يقرؤها سرا: كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما ومنهم من لا يقرؤها سرا ولا جهرا كمالك.
وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيح من {أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم وفي لفظ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها} والله أعلم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-09-2021, 05:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (9)

من صــ 293 الى صــ 310

قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
فصل: في " الاسم والمسمى "

هل هو هو أو غيره؟ أو لا يقال هو هو ولا يقال هو غيره؟ أو هو له؟ أو يفصل في ذلك؟. فإن الناس قد تنازعوا في ذلك والنزاع اشتهر في ذلك بعد الأئمة بعد أحمد وغيره والذي كان معروفا عند " أئمة السنة " أحمد وغيره: الإنكار على " الجهمية " الذين يقولون: أسماء الله مخلوقة.
فيقولون: الاسم غير المسمى وأسماء الله غيره وما كان غيره فهو مخلوق؛ وهؤلاء هم الذين ذمهم السلف وغلظوا فيهم القول؛ لأن أسماء الله من كلامه وكلام الله غير مخلوق؛ بل هو المتكلم به وهو المسمي لنفسه بما فيه من الأسماء.
و " الجهمية " يقولون: كلامه مخلوق وأسماؤه مخلوقة؛ وهو نفسه لم يتكلم بكلام يقوم بذاته ولا سمى نفسه باسم هو المتكلم به؛ بل قد يقولون: إنه تكلم به وسمى نفسه بهذه الأسماء بمعنى أنه خلقها في غيره؛ لا بمعنى أنه نفسه تكلم بها الكلام القائم به. فالقول في أسمائه هو نوع من القول في كلامه.
والذين وافقوا " السلف " على أن كلامه غير مخلوق وأسماءه غير مخلوقة يقولون: الكلام والأسماء من صفات ذاته؛ لكن هل يتكلم بمشيئته وقدرته. ويسمي نفسه بمشيئته وقدرته؟ هذا فيه قولان: النفي هو قول " ابن كلاب " ومن وافقه. والإثبات قول " أئمة أهل الحديث والسنة " وكثير من طوائف أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم كما قد بسط هذا في مواضع.
(والمقصود هنا أن المعروف عن " أئمة السنة " إنكارهم على من قال أسماء الله مخلوقة وكان الذين يطلقون القول بأن الاسم غير المسمى هذا مرادهم؛ فلهذا يروى عن الشافعي والأصمعي وغيرهما أنه قال:
إذا سمعت الرجل يقول: الاسم غير المسمى فاشهد عليه بالزندقة؛ ولم يعرف أيضا عن أحد من السلف أنه قال الاسم هو المسمى؛ بل هذا قاله كثير من المنتسبين إلى السنة بعد الأئمة وأنكره أكثر أهل السنة عليهم. ثم منهم من أمسك عن القول في هذه المسألة نفيا وإثباتا؛ إذ كان كل من الإطلاقين بدعة كما ذكره الخلال عن إبراهيم الحربي وغيره؛ وكما ذكره أبو جعفر الطبري في الجزء الذي سماه " صريح السنة " ذكر مذهب أهل السنة المشهور في القرآن والرؤية والإيمان والقدر والصحابة وغير ذلك. وذكر أن " مسألة اللفظ " ليس لأحد من المتقدمين فيها كلام؛ كما قال لم نجد فيها كلاما عن صحابي مضى ولا عن تابعي قفا إلا عمن في كلامه الشفاء والغناء ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى " أبو عبد الله أحمد بن حنبل " فإنه كان يقول: اللفظية جهمية.
ويقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. وذكر أن القول في الاسم والمسمى من الحماقات المبتدعة التي لا يعرف فيها قول لأحد من الأئمة وأن حسب الإنسان أن ينتهي إلى قوله تعالى {ولله الأسماء الحسنى} وهذا هو القول بأن الاسم للمسمى. وهذا الإطلاق اختيار أكثر المنتسبين إلى السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيره.
والذين قالوا الاسم هو المسمى كثير من المنتسبين إلى السنة:
مثل أبي بكر عبد العزيز وأبي القاسم الطبري واللالكائي وأبي محمد البغوي صاحب " شرح السنة " وغيرهم؛ وهو أحد قولي أصحاب أبي الحسن الأشعري اختاره أبو بكر بن فورك وغيره. و (القول الثاني وهو المشهور عن أبي الحسن أن الأسماء ثلاثة أقسام تارة يكون الاسم هو المسمى كاسم الموجود. و " تارة " يكون غير المسمى كاسم الخالق. و " تارة " لا يكون هو ولا غيره كاسم العليم والقدير.
وهؤلاء الذين قالوا: إن الاسم هو المسمى لم يريدوا بذلك أن اللفظ المؤلف من الحروف هو نفس الشخص المسمى به؛ فإن هذا لا يقوله عاقل.
ولهذا يقال: لو كان الاسم هو المسمى لكان من قال " نار " احترق لسانه. ومن الناس من يظن أن هذا مرادهم ويشنع عليهم وهذا غلط عليهم؛ بل هؤلاء يقولون: اللفظ هو التسمية والاسم ليس هو اللفظ؛ بل هو المراد باللفظ؛ فإنك إذا قلت: يا زيد يا عمر فليس مرادك دعاء اللفظ؛ بل مرادك دعاء المسمى باللفظ وذكرت الاسم فصار المراد بالاسم هو المسمى.
وهذا لا ريب فيه إذا أخبر عن الأشياء فذكرت أسماؤها فقيل: {محمد رسول الله} {وخاتم النبيين} {وكلم الله موسى تكليما} فليس المراد أن هذا اللفظ هو الرسول وهو الذي كلمه الله. وكذلك إذا قيل: جاء زيد وأشهد على عمرو وفلان عدل ونحو ذلك فإنما تذكر الأسماء والمراد بها المسميات وهذا هو مقصود الكلام.
فلما كانت أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام المؤلف فإنما المقصود هو المسميات: قال هؤلاء: " الاسم هو المسمى " وجعلوا اللفظ الذي هو الاسم عند الناس هو التسمية كما قال البغوي: والاسم هو المسمى وعينه وذاته. قال الله تعالى: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} أخبر أن اسمه يحيى. ثم نادى الاسم فقال {يا يحيى} وقال: {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها} وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسميات. وقال: {سبح اسم ربك الأعلى} و {تبارك اسم ربك}.
قال: ثم يقال " للتسمية " أيضا اسم. واستعماله في التسمية أكثر من المسمى. وقال أبو بكر بن فورك: اختلف الناس في حقيقة " الاسم " ولأهل اللغة في ذلك كلام ولأهل الحقائق فيه بيان وبين المتكلمين فيه خلاف. فأما " أهل اللغة " فيقولون: الاسم حروف منظومة دالة على معنى مفرد ومنهم من يقول إنه قول يدل على مذكور يضاف إليه؛ يعني الحديث والخبر.
قال: وأما أهل الحقائق فقد اختلفوا أيضا في معنى ذلك فمنهم من قال: اسم الشيء هو ذاته وعينه والتسمية عبارة عنه ودلالة عليه فيسمى اسما توسعا.
وقالت الجهمية والمعتزلة. " الأسماء والصفات " هي الأقوال الدالة على المسميات وهو قريب مما قاله بعض أهل اللغة. والثالث: لا هو هو ولا هو غيره؛ كالعلم والعالم ومنهم من قال اسم الشيء هو صفته ووصفه.
قال: والذي هو الحق عندنا قول من قال: اسم الشيء هو عينه وذاته واسم الله هو الله وتقدير قول القائل: بسم الله أفعل أي بالله أفعل وإن اسمه هو هو. قال:
وإلى هذا القول ذهب " أبو عبيد القاسم بن سلام " واستدل بقول لبيد. إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر والمعنى ثم السلام عليكما؛ فإن اسم السلام هو السلام.
قال: واحتج أصحابنا في ذلك بقوله تبارك وتعالى: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وهذا هو صفة للمسمى لا صفة لما هو قول وكلام وبقوله: {سبح اسم ربك} فإن المسبح هو المسمى وهو الله وبقوله سبحانه: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} ثم قال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} فنادى الاسم وهو المسمى.
وبأن الفقهاء أجمعوا على أن الحالف باسم الله كالحالف بالله في بيان أنه تنعقد اليمين بكل واحد منهما؛ فلو كان اسم الله غير الله لكان الحالف بغير الله لا تنعقد يمينه؛ فلما انعقد ولزم بالحنث فيها كفارة دل على أن اسمه هو. ويدل عليه أن القائل إذا قال:
ما اسم معبودكم؟ قلنا الله. فإذا قال:وما معبودكم؟ قلنا الله فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود لا غير. وبقوله.
{ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} وإنما عبدوا المسميات لا الأقوال التي هي أعراض لا تعبد. قال: فإن قيل: أليس يقال: الله إله واحد وله أسماء كثيرة فكيف يكون الواحد كثيرا؟ قيل إذا أطلق " أسماء " فالمراد به مسميات المسمين والشيء قد يسمى باسم دلالته كما يسمى المقدور قدرة.
قال: فعلى هذا يكون معنى قوله: باسم الله: أي بالله والباء معناها الاستعانة وإظهار الحاجة وتقديره: بك أستعين وإليك أحتاج وقيل تقدير الكلمة: أبتدئ أو أبدأ باسمك فيما أقول وأفعل.
قلت: لو اقتصروا على أن أسماء الشيء إذا ذكرت في الكلام فالمراد بها المسميات - كما ذكروه في قوله:
{يا يحيى} ونحو ذلك - لكان ذلك معنى واضحا لا ينازعه فيه من فهمه لكن لم يقتصروا على ذلك؛ ولهذا أنكر قولهم جمهور الناس من أهل السنة وغيرهم؛ لما في قولهم من الأمور الباطلة مثل دعواهم أن لفظ اسم الذي هو " اس م " معناه ذات الشيء ونفسه وأن الأسماء - التي هي الأسماء - مثل زيد وعمرو هي التسميات؛ ليست هي أسماء المسميات وكلاهما باطل مخالف لما يعلمه جميع الناس من جميع الأمم ولما يقولونه. فإنهم يقولون:
إن زيدا وعمرا ونحو ذلك هي أسماء الناس والتسمية جعل الشيء اسما لغيره هي مصدر سميته تسمية إذا جعلت له اسما و " الاسم " هو القول الدال على المسمى ليس الاسم الذي هو لفظ اسم هو المسمى؛ بل قد يراد به المسمى؛ لأنه حكم عليه ودليل عليه.
وأيضا: فهم تكلفوا هذا التكليف؛ ليقولوا إن اسم الله غير مخلوق ومرادهم أن الله غير مخلوق وهذا مما لا تنازع فيه الجهمية والمعتزلة؛ فإن أولئك ما قالوا الأسماء مخلوقة إلا لما قال هؤلاء هي التسميات فوافقوا الجهمية والمعتزلة في المعنى ووافقوا أهل السنة في اللفظ. ولكن أرادوا به ما لم يسبقهم أحد إلى القول به من أن لفظ اسم وهو " ألف سين ميم " معناه إذا أطلق هو الذات المسماة؛ بل معنى هذا اللفظ هي الأقوال التي هي أسماء الأشياء مثل زيد وعمرو وعالم وجاهل. فلفظ الاسم لا يدل على أن هذه الأسماء هي مسماه. ثم قد عرف أنه إذا أطلق الاسم في الكلام المنظوم فالمراد به المسمى؛ فلهذا يقال:
ما اسم هذا؟ فيقال: زيد. فيجاب باللفظ ولا يقال: ما اسم هذا فيقال هو هو؛ وما ذكروه من الشواهد حجة عليهم. أما قوله: {إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا} ثم قال:
{يا يحيى} فالاسم الذي هو يحيى هو هذا اللفظ المؤلف من (يا وحا ويا هذا هو اسمه ليس اسمه هو ذاته؛ بل هذا مكابرة. ثم لما ناداه فقال: {يا يحيى}.
فالمقصود المراد بنداء الاسم هو نداء المسمى؛ لم يقصد نداء اللفظ لكن المتكلم لا يمكنه نداء الشخص المنادى إلا بذكر اسمه وندائه؛ فيعرف حينئذ أن قصده نداء الشخص المسمى وهذا من فائدة اللغات وقد يدعى بالإشارة وليست الحركة هي ذاته ولكن هي دليل على ذاته.
وأما قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} ففيها قراءتان: الأكثرون يقرءون {ذي الجلال} فالرب المسمى: هو ذو الجلال والإكرام. وقرأ ابن عامر: {ذو الجلال والإكرام} وكذلك هي في المصحف الشامي؛ وفي مصاحف أهل الحجاز والعراق هي بالياء.
وأما قوله {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} فهي بالواو باتفاقهم قال ابن الأنباري وغيره {تبارك} تفاعل من البركة والمعنى أن البركة تكتسب وتنال بذكر اسمه؛ فلو كان لفظ الاسم معناه المسمى لكان يكفي قوله تبارك ربك فإن نفس الاسم عندهم هو نفس الرب؛ فكان هذا تكريرا.
وقد قال بعض الناس: إن ذكر الاسم هنا صلة والمراد تبارك ربك؛ ليس المراد الإخبار عن اسمه بأنه تبارك؛ وهذا غلط فإنه على هذا يكون قول المصلي تبارك اسمك أي تباركت أنت ونفس أسماء الرب لا بركة فيها. ومعلوم أن نفس أسمائه مباركة وبركتها من جهة دلالتها على المسمى. ولهذا فرقت الشريعة بين ما يذكر اسم الله عليه وما لا يذكر اسم الله عليه في مثل قوله: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وقوله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه} وقوله {واذكروا اسم الله عليه} وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم " {وإن خالط كلبك كلاب أخرى فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره} ".
وأما قوله تعالى {ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم}. فليس المراد كما ذكروه: أنكم تعبدون الأوثان المسماة فإن هذا هم معترفون به.
والرب تعالى نفى ما كانوا يعتقدونه وأثبت ضده ولكن المراد أنهم سموها آلهة واعتقدوا ثبوت الإلهية فيها؛ وليس فيها شيء من الإلهية فإذا عبدوها معتقدين إلهيتها مسمين لها آلهة لم يكونوا قد عبدوا إلا أسماء ابتدعوها هم ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن الله لم يأمر بعبادة هذه ولا جعلها آلهة كما قال:
{واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} فتكون عبادتهم لما تصوروه في أنفسهم من معنى الإلهية وعبروا عنه بألسنتهم وذلك أمر موجود في أذهانهم وألسنتهم لا حقيقة له في الخارج؛ فما عبدوا إلا هذه الأسماء التي تصوروها في أذهانهم وعبروا عن معانيها بألسنتهم؛ وهم لم يقصدوا عبادة الصنم إلا لكونه إلها عندهم وإلهيته هي في أنفسهم؛ لا في الخارج فما عبدوا في الحقيقة إلا ذلك الخيال الفاسد الذي عبر عنه.
ولهذا قال في الآية الأخرى:
{وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول} يقول: سموهم بالأسماء التي يستحقونها هل هي خالقة رازقة محيية مميتة أم هي مخلوقة لا تملك ضرا ولا نفعا؟؟ فإذا سموها فوصفوها بما تستحقه من الصفات تبين ضلالهم. قال تعالى: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} وما لا يعلم أنه موجود فهو باطل لا حقيقة له ولو كان موجودا لعلمه موجودا {أم بظاهر من القول} أم بقول ظاهر باللسان لا حقيقة له في القلب؛ بل هو كذب وبهتان. وأما قولهم: إن الاسم يراد به " التسمية " وهو القول: فهذا الذي جعلوه هم تسمية هو الاسم عند الناس جميعهم والتسمية جعله اسما والإخبار بأنه اسم ونحو ذلك وقد سلموا أن لفظ الاسم أكثر ما يراد به ذلك وادعوا أن لفظ الاسم الذي هو " ألف سين ميم ":
هو في الأصل ذات الشيء ولكن التسمية سميت اسما لدلالتها على ذات الشيء: تسمية للدال باسم المدلول ومثلوه بلفظ القدرة؛ وليس الأمر كذلك؛ بل التسمية مصدر سمى يسمي تسمية والتسمية نطق بالاسم وتكلم به ليست هي الاسم نفسه وأسماء الأشياء هي الألفاظ الدالة عليها ليست هي أعيان الأشياء.
يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 13-09-2021, 05:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 143,342
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية

سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (10)

من صــ 293 الى صــ 310



وتسمية المقدور قدرة هو من باب تسمية المفعول باسم المصدر وهذا كثير شائع في اللغة كقولهم للمخلوق خلق وقولهم درهم ضرب الأمير أي مضروب الأمير ونظائره كثيرة.
وابن عطية سلك مسلك هؤلاء وقال: الاسم الذي هو " ألف وسين وميم " يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى ويأتي في مواضع يراد به التسمية نحو قوله صلى الله عليه وسلم " {إن لله تسعة وتسعين اسما} " وغير ذلك ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد كأنه قال في هذه الآية: سبح ربك الأعلى أي نزهه.
قال: وإذا كان الاسم واحد الأسماء كزيد وعمرو فيجيء في الكلام على ما قلت لك. تقول: زيد قائم تريد المسمى وتقول:
زيد ثلاثة أحرف تريد التسمية نفسها على معنى نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له: " إله أو رب ". قلت: هذا الذي ذكروه لا يعرف له شاهد لا من كلام فصيح ولا غير ذلك ولا يعرف أن لفظ اسم " ألف سين ميم " يراد به المسمى بل المراد به الاسم الذي يقولون هو التسمية. وأما قوله: تقول زيد قائم زيد المسمى.
فزيد ليس هو " ألف سين ميم " بل زيد مسمى هذا اللفظ فزيد يراد به المسمى ويراد به اللفظ. وكذلك اسم " ألف سين ميم " يراد به هذا اللفظ؛ ويراد به معناه وهو لفظ زيد وعمرو وبكر؛ فتلك هي الأسماء التي تراد بلفظ اسم؛ لا يراد بلفظ اسم نفس الأشخاص؛ فهذا ما أعرف له شاهدا صحيحا فضلا عن أن يكون هو الأصل كما ادعاه هؤلاء.
قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه}. فأسماؤه الحسنى مثل: الرحمن الرحيم والغفور الرحيم فهذه الأقوال هي أسماؤه الحسنى وهي إذا ذكرت في الدعاء والخبر يراد بها المسمى. إذا قال: {وتوكل على العزيز الرحيم} فالمراد المسمى ليس المراد أنه يتوكل على الأسماء التي هي أقوال؛ كما في سائر الكلام: كلام الخالق وكلام المخلوقين.
وما ذكروه من أن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ قلنا: الله. فنجيب في الاسم بما نجيب به في المعبود؛ فدل على أن اسم المعبود هو المعبود: حجة باطلة وهي عليهم لا لهم. فإن القائل إذا قال: ما اسم معبودكم؟ فقلنا: الله.
فالمراد أن اسمه هو هذا القول ليس المراد أن اسمه هو ذاته وعينه الذي خلق السموات والأرض فإنه إنما سأل عن اسمه لم يسأل عن نفسه؛ فكان الجواب بذكر اسمه.
وإذا قال: ما معبودكم؟ فقلنا الله: فالمراد هناك المسمى؛ ليس المراد أن المعبود هو القول فلما اختلف السؤال في الموضعين اختلف المقصود بالجواب وإن كان في الموضعين قال الله لكنه في أحدهما أريد هذا القول الذي هو من الكلام وفي الآخر أريد به المسمى بهذا القول.
كما إذا قيل: ما اسم فلان؟ فقيل: زيد أو عمر فالمراد هو القول. وإذا قال: من أميركم أو من أنكحت؟ فقيل زيد أو عمرو فالمراد به الشخص فكيف يجعل المقصود في الموضعين واحدا. ولهذا قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى} كان المراد أنه نفسه له الأسماء الحسنى.
ومنها اسمه الله. كما قال: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} فالذي له الأسماء الحسنى هو المسمى بها؛ ولهذا كان في كلام الإمام أحمد أن هذا الاسم من أسمائه الحسنى؛ وتارة يقول الأسماء الحسنى له أي المسمى ليس من الأسماء؛ ولهذا في قوله {ولله الأسماء الحسنى} لم يقصد أن هذا الاسم له الأسماء الحسنى؛ بل قصد أن المسمى له الأسماء الحسنى.
وفي حديث أنس الصحيح {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نقش خاتمه: محمد رسول الله محمد سطر ورسول سطر والله سطر} ويراد الخط المكتوب الذي كتب به ذلك؛ فالخط الذي كتب به محمد سطر والخط الذي كتب به رسول سطر والخط الذي كتب به الله سطر.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يقول الله تعالى: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه} " فمعلوم أن المراد تحرك شفتاه بذكر اسم الله وهو القول ليس المراد أن الشفتين تتحرك بنفسه تعالى. وأما احتجاجهم بقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} وأن المراد سبح ربك الأعلى وكذلك قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام} وما أشبه ذلك فهذا للناس فيه قولان معروفان وكلاهما حجة عليهم.
منهم من قال: " الاسم " هنا صلة والمراد سبح ربك وتبارك ربك. وإذا قيل: هو صلة فهو زائد لا معنى له؛ فيبطل قولهم إن مدلول لفظ اسم " ألف سين ميم " هو المسمى فإنه لو كان له مدلول مراد لم يكن صلة.
ومن قال إنه هو المسمى وأنه صلة كما قاله ابن عطية؛ فقد تناقض فإن الذي يقول هو صلة لا يجعل له معنى؛ كما يقوله من يقول ذلك في الحروف الزائدة التي تجيء للتوكيد كقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} و {قال عما قليل ليصبحن نادمين} ونحو ذلك. ومن قال: إنه ليس بصلة بل المراد تسبيح الاسم نفسه فهذا مناقض لقولهم مناقضة ظاهرة. و " التحقيق " أنه ليس بصلة بل أمر الله بتسبيح اسمه كما أمر بذكر اسمه.
والمقصود بتسبيحه وذكره هو تسبيح المسمى وذكره فإن المسبح والذاكر إنما يسبح اسمه ويذكر اسمه؛ فيقول: سبحان ربي الأعلى فهو نطق بلفظ ربي الأعلى والمراد هو المسمى بهذا اللفظ فتسبيح الاسم هو تسبيح المسمى.
ومن جعله تسبيحا للاسم يقول المعنى أنك لا تسم به غير الله ولا تلحد في أسمائه فهذا مما يستحقه اسم الله لكن هذا تابع للمراد بالآية ليس هو المقصود بها القصد الأول. وقد ذكر " الأقوال الثلاثة " غير واحد من المفسرين كالبغوي قال قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} أي قل سبحان ربي الأعلى.
وإلى هذا ذهب جماعة من الصحابة وذكر حديث ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {سبح اسم ربك الأعلى}. فقال: سبحان ربي الأعلى}.
قلت: في ذلك حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {لما نزل {فسبح باسم ربك العظيم} قال اجعلوها في ركوعكم ولما نزل: {سبح اسم ربك الأعلى} قال: اجعلوها في سجودكم} " والمراد بذلك أن يقولوا في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى كما ثبت في الصحيح عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه {قام بالبقرة والنساء وآل عمران ثم ركع نحوا من قيامه يقول: سبحان ربي العظيم وسجد نحوا من ركوعه يقول: سبحان ربي الأعلى} ".
وفي السنن عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " {إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا فقد تم ركوعه وذلك أدناه وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا فقد تم سجوده وذلك أدناه} " وقد أخذ بهذا جمهور العلماء. قال البغوي: وقال قوم معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه به الملحدون. وجعلوا الاسم صلة. قال: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحدا؛ لأن أحدا لا يقول سبحان اسم الله وسبحان اسم ربنا إنما يقولون: سبحان الله وسبحان ربنا. وكان معنى: {سبح اسم ربك} سبح ربك.
قلت: قد تقدم الكلام على هذا والذي: يقول سبحان الله وسبحان ربنا إنما نطق بالاسم الذي هو الله والذي هو ربنا: فتسبيحه إنما وقع على الاسم لكن مراده هو المسمى فهذا يبين أنه ينطق باسم المسمى والمراد المسمى.
وهذا لا ريب فيه لكن هذا لا يدل على أن لفظ اسم الذي هو " ألف سين ميم " المراد به المسمى.
لكن يدل على أن " أسماء الله " مثل الله وربنا وربي الأعلى ونحو ذلك يراد بها المسمى مع أنها هي في نفسها ليست هي المسمى لكن يراد بها المسمى فأما اسم هذه الأسماء " ألف سين ميم " فلا هو المسمى الذي هو الذات ولا يراد به المسمى الذي هو الذات؛ ولكن يراد به مسماه الذي هو الأسماء كأسماء الله الحسنى في قوله: {ولله الأسماء الحسنى} فلها هذه الأسماء الحسنى التي جعلها هؤلاء هي التسميات وجعلوا التعبير عنها بالأسماء توسعا؛ فخالفوا إجماع الأمم كلهم من العرب وغيرهم وخالفوا صريح المعقول وصحيح المنقول. والذين شاركوهم في هذا الأصل وقالوا:
الأسماء ثلاثة " قد تكون هي المسمى وقد تكون غيره وقد تكون لا هي هو ولا غيره وجعلوا الخالق والرازق ونحوهما غير المسمى وجعلوا العليم والحكيم ونحوهما للمسمى: غلطوا من وجه آخر فإنه إذا سلم لهم أن المراد بالاسم الذي هو " ألف سين ميم " هو مسمى الأسماء؛ فاسمه الخالق هو الرب الخالق نفسه ليس هو المخلوقات المنفصلة عنه واسمه العليم هو الرب العليم الذي العلم صفة له فليس العلم هو المسمى؛ بل المسمى هو العليم؛ فكان الواجب أن يقال على أصلهم:
الاسم هنا هو المسمى وصفته.
وفي الخالق الاسم هو المسمى وفعله؛ ثم قولهم إن الخلق هو المخلوق وليس الخلق فعلا قائما بذاته قول ضعيف مخالف لقول جمهور المسلمين. كما قد بسط في موضعه. فتبين أن هؤلاء الذين قالوا:
" الاسم هو المسمى " إنما يسلم لهم أن أسماء الأشياء إذا ذكرت في الكلام أريد به المسمى وهذا مما لا ينازع فيه أحد من العقلاء؛ لا أن لفظ اسم.
ألف سين ميم يراد به الشخص. وما ذكروه من قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فمراده ثم النطق بهذا الاسم وذكره وهو التسليم المقصود؛ كأنه قال ثم سلام عليكم ليس مراده أن السلام يحصل عليهما بدون أن ينطق به ويذكر اسمه. فإن نفس السلام قول فإن لم ينطق به ناطق ويذكره لم يحصل. وقد احتج بعضهم بقول سيبويه إن الفعل أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبني لما مضى ولما لم يكن بعد وهذا لا حجة فيه؛ لأن سيبويه مقصوده بذكر الاسم والفعل ونحو ذلك الألفاظ. وهذا اصطلاح النحويين سموا الألفاظ بأسماء معانيها؛ فسموا قام ويقوم وقم فعلا؛ والفعل هو نفس الحركة؛ فسموا اللفظ الدال عليها باسمها. وكذلك إذا قالوا: اسم معرب ومبني فمقصودهم اللفظ ليس مقصودهم المسمى وإذا قالوا هذا الاسم فاعل فمرادهم أنه فاعل في اللفظ؛ أي أسند إليه الفعل ولم يرد سيبويه بلفظ الأسماء المسميات كما زعموا؛ ولو أراد ذلك فسدت صناعته.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 228.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 222.93 كيلو بايت... تم توفير 5.85 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]