تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى - الصفحة 73 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         دعاء الشفاء ودعاء الضائع (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          تخريج حديث: رقيت يوما على بيت حفصة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته، مستقبل (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          أسماء العقل ومشتقاته في القرآن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          كيف نكتسب الأخلاق الفاضلة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          من أقوال السلف في أسماء الله الحسنى: المؤمن (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          وقفات تربوية مع سورة التكاثر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          {وما كان لنبي أن يغل} (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          بين الاجتهاد الشخصي والتقليد المشروع: رد على شبهة «التعبد بما استقر في القلب» (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 2 )           »          الإسلام والحث على النظافة (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 3 )           »          فتنة تطاول الزمن.. قوم نوح عليه السلام نموذج (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 4 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير > هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن
التسجيل التعليمـــات التقويم

هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن قسم يختص بحفظ واستظهار كتاب الله عز وجل بالإضافة الى المسابقات القرآنية المنوعة

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 13-07-2025, 05:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ الحاقة
من صــ 261الى صــ272
الحلقة (721)






قوله تعالى : {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} أي في تلك الليالي والأيام. {صَرْعَى} جمع صريع ؛ يعني موتى. وقيل : "فِيهَا" أي في الريح. {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ} أي أصول. {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} أي بالية ؛ قاله أبو الطفيل. وقيل : خالية الأجواف لا شيء فيها. والنخل يذكر ويؤنث. وقد قال تعالى في موضع آخر : {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} فيحتمل أنهم شبهوا بالنخل التي صرعت من أصلها ، وهو إخبار عن عظم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ؛ أي إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف. وقال ابن شجرة : كانت الريح تدخل في أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام ؛ إنما قال "خاوية" لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية. ويحتمل أن يكون المعنى كأنهم أعجاز نخل خاوية عن أصولها من البقاع ؛ كما قال تعالى : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} أي خربة لا سكان فيها. ويحتمل الخاوية بمعنى البالية كما ذكرنا ؛ لأنها إذا بليت خلت أجوافها. فشبهوا بعد أن هلكوا بالنخل الخاوية.
الآية : [8] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}
أي من فرقة باقية أو نفس باقية. وقيل : من بقية. وقيل : من بقاء. فاعلة بمعنى المصدر ؛ نحو العاقبة والعافية. ويجوز أن يكون أسما ؛ أي هل تجد لهم أحدا باقيا. وقال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا ، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر ذلك قوله عز وجل : {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} ، وقوله عز وجل : {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} .
الآية : [9] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ}
قوله تعالى : {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قرأ أبو عمرو والكسائي "ومن قبله" بكسر القاف وفتح الباء ؛ أي ومن معه وتبعه من جنوده. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا
بقراءة عبدالله وأبي "ومن معه" . وقرأ أبو موسى الأشعري "ومن تلقاءه" . الباقون "قَبْلَهُ" بفتح القاف وسكون الباء ؛ أي ومن تقدمه من القرون الخالية والأمم الماضية. {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أي أهل قرى لوط. وقراءة العامة بالألف. وقرأ الحسن والجحدري "وَالْمُؤْتَفِكَة" على التوحيد. قال قتادة : إنما سميت قرى قوم لوط {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} لأنها ائتفكت بهم ، أي انقلبت. وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : خمس قريات : صبعة وصعرة وعمرة ودوما وسدوم ؛ وهي القرية العظمى. {بِالْخَاطِئَةِ} أي بالفعلة الخاطئة وهي المعصية والكفر. وقال مجاهد : بالخطايا التي كانوا يفعلونها. وقال الجرجاني : أي بالخطأ العظيم ؛ فالخاطئة مصدر.
الآية : [10] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً}
قوله تعالى : {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} قال الكلبي : هو موسى. وقيل : هو لوط لأنه أقرب. وقيل : عنى موسى ولوطا عليهما السلام ؛ كما قال تعالى : {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقيل : "رسول" بمعنى رسالة. وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ؛ قال الشاعر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول
{فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الربا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال : ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد : شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة.
الآية : [11] {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}
الآية : [12] {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}
قوله تعالى : {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ} أي ارتفع وعلا. وقال علي رضي الله عنه : طغى على خزانه من الملائكة غضبا لربه فلم يقدروا على حبسه. قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعا. وقال ابن عباس : طغى الماء زمن نوح على خزانه فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج. وليس من الماء قطرة تنزل قبله ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم. وقد مضى هذا مرفوعا أول السورة. والمقصود من قصص هذه الأمم وذكر ما حل بهم من العذاب : زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. ثم من عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله : {حَمَلْنَاكُمْ} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم. {فِي الْجَارِيَةِ} أي في السفن الجارية. والمحمول في الجارية نوح وأولاده ، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
قوله تعالى : {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} يعني سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. جعلها الله تذكرة وعظة لهذه الأمة حتى أدركها أوائلهم ؛ في قول قتادة. قال ابن جريج : كانت ألواحها على الجودي. والمعنى : أبقيت لكم تلك الخشبات حتى تذكروا ما حل بقوم نوح ، وإنجاء الله آباءكم ؛ وكم من سفينة هلكت وصارت ترابا ولم يبق منها شيء. وقيل : لنجعل تلك الفعلة من إغراق قوم نوح وإنجاء من آمن معه موعظة لكم ؛ ولهذا قال الله تعالى : {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي تحفظها وتسمعها أذن حافظة لما جاء من عند الله. والسفينة لا توصف بهذا. قال الزجاج : ويقال وعيت كذا أي حفظته في نفسي ، أعيه وعيا. ووعيت العلم ، ووعيت ما قلت ؛ كله بمعنى. وأوعيت المتاع في الوعاء. قال الزجاج : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : "وَاعِيَةٌ" بالألف ، ولما حفظته في نفسك "وَعِيَتةٌ" بغير ألف. وقرأ طلحة وحميد والأعرج "وَتَعِيَهَا" بإسكان العين ؛ تشبيها بقول : {أَرِنَا} واختلف فيها عن عاصم وابن كثير. الباقون بكسر العين ؛ ونظير قوله تعالى : {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} وقال قتادة : الأذن الواعية أذن عقلت عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من
كتاب الله عز وجل. وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : "سألت ربي أن يجعلها أذن علي" . قال مكحول : فكان علي رضي الله عنه يقول ما سمعت من رسول صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته إلا وحفظته. ذكره الماوردي. وعن الحسن نحوه ذكره الثعلبي قال : لما نزلت {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سألت ربي أن يجعلها أذنك يا علي" قال علي : فوالله ما نسيت شيئا بعد ، وما كان لي أن أنسى. وقال أبو برزة الأسلمي قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : "يا علي إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحقٌّ على الله أن تَعِيَ" .
الآية : [13] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}
قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلم يبق أحد إلا مات. وجاز تذكير "نُفِخَ" لأن تأنيث النفخة غير حقيقي. وقيل : إن هذه النفخة هي الأخيرة. وقال : {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} أي لا تثنى. قال الأخفش : ووقع الفعل على النفخة إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع فقيل : نفخة. ويجوز "نفخة" نصبا على المصدر. وبها قرأ أبو السمال. أو يقال : اقتصر على الإخبار عن الفعل كما تقول : ضرب ضربا. وقال الزجاج : "فِي الصُّورِ" يقوم مقام ما لم يسم فاعله.
الآية : 14 {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}
قوله تعالى : {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} قراءة العامة بتخفيف الميم ؛ أي رفعت من أماكنها. {فَدُكَّتَا} أي فتتا وكسرتا. {دَكَّةً وَاحِدَةً} لا يجوز في {دَكَّةً} إلا النصب لارتفاع الضمير في "دكتا" . وقال الفراء : لم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ، والأرض كالجملة الواحدة. ومثله : {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} ولم يقل كن. وهذا الدك كالزلزلة ؛ كما قال تعالى : {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} وقيل : {دُكَّتَا}
أي بسطتا بسطة واحدة ؛ ومنه أندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وقد مضى في سورة "الأعراف" القول فيه. وقرأ عبدالحميد عن ابن عامر {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ } بالتشديد على إسناد الفعل إلى المفعول الثاني. كانه في الأصل وحملت قدرتنا أو ملكا من ملائكتنا الأرض والجبال ؛ ثم أسند الفعل إلى المفعول الثاني فبني له. ولو جيء بالمفعول الأول لأسند الفعل إليه ؛ فكأنه قال : وحملت قدرتنا الأرض. وقد يجوز بناؤه للثاني على وجه القلب فيقال : حُمِّلَت الأرضُ الملَك ؛ كقولك : أُلبِس زيدٌ الجبة ، وأُلبِست الجبةُ زيداً.
الآية : [15] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}
الآية : [16] {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}
الآية : [17] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}
قوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي قامت القيامة. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ} أي أنصدعت وتفطرت. وقيل : تنشق لنزول ما فيها من الملائكة ؛ دليله قوله تعالى : {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقد تقدم. {فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} أي ضعيفة. يقال : وهي البناء يهي وهيا فهو واه إذا ضعف جدا. ويقال : كلام واه ؛ أي ضعيف. فقيل : إنها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهي ويكون ذلك لنزول الملائكة كما ذكرنا. وقيل : لهول يوم القيامة. وقيل : { وَاهِيَةٌ } أي متخرقة ؛ قال ابن شجرة. مأخوذ من قولهم : وهى السقاء إذا تخرق. ومن أمثالهم :
خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن أهريق بالفلاة ماؤه
أي من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه. {وَالْمَلَكُ} يعني الملائكة ؛ اسم للجنس. {عَلَى أَرْجَائِهَا} أي على أطرافها حين تنشق ؛ لأن السماء مكانهم ؛ عن ابن عباس. الماوردي : ولعله قول مجاهد وقتادة. وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم ينشق منها.
يريد أن السماء مكان الملائكة فإذا انشقت صاروا في أطرافها. وقال سعيد بن جبير : المعنى والملك على حافات الدنيا ؛ أي ينزلون إلى الأرض ويحرسون أطرافها. وقيل : إذا صارت السماء قطعا تقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها. وقيل : إن الناس إذا رأوا جهنم هالتهم ؛ فيندوا كما تند الإبل ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا رأوا ملائكة فيرجعون من حيث جاؤوا. وقيل : {عَلَى أَرْجَائِهَا } ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النار من السوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة. وهذا كله راجع إلى معنى قول ابن جبير. ويدل عليه : {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} وقوله تعالى : {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} على ما بيناه هناك. والأرجاء النواحي والأقطار بلغة هذيل ، واحدها رجا مقصور ، وتثنيته رجوان ؛ مثل عصا وعصوان. قال الشاعر :
فلا يرمى بي الرجوان أني ... أقل القوم من يغني مكاني
ويقال ذلك لحرف البئر والقبر.
قوله تعالى : {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قال ابن عباس : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله. وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاك. وعن الحسن : الله أعلم كم هم ، ثمانية أم ثمانية آلاف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم "أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فكانوا ثمانية" . ذكره الثعلبي. وخرجه الماوردي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يحمله اليوم أربعة وهم يوم القيامة ثمانية" . وقال العباس بن عبدالملك : هم ثمانية أملاك على صورة الأوعال. ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث "إن لكل ملك منهم أربعة أوجه وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر وكل وجه منها يسأل الله الرزق لذلك الجنس" . ولما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قول أمية بن أبي الصلت :
رجل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد
والشمس تطلع كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد
ليست بطالعة لهم في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد
قال النبي صلى الله عليه وسلم : "صَدَقَ" . وفي الخبر "أن فوق السماء السابعة ثمانية أو عال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش" . ذكره القشيري وخرجه الترمذي من حديث العباس ابن عبدالمطلب. وقد مضى في سورة "البقرة" بكماله. وذكر نحوه الثعلبي ولفظه. وفي حديث مرفوع "أن حملة العرش ثمانية أملاك على صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما للطائر المسرع" . وفي تفسير الكلبي : ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة. وعنه : ثمانية أجزاء من عشرة أجزاء من الملائكة. ثم ذكر عدة الملائكة بما يطول ذكره. حكى الأول عنه الثعلبي والثاني القشيري. وقال الماوردي عن ابن عباس : ثمانية أجزاء من تسعة وهم الكروبيون. والمعنى ينزل بالعرش. ثم إضافة العرش إلى الله تعالى كإضافة البيت ، وليس البيت للسكنى ، فكذلك العرش. ومعنى : {فوقهم} أي فوق رؤوسهم. قال السدي : العرش تحمله الملائكة الحملة فوقهم ولا يحمل حملة العرش إلا الله. وقيل : { فوقهم} أي إن حملة العرش فوق الملائكة الذين في السماء على أرجائها. وقيل : "فوقهم" أي فوق أهل القيامة.
الآية : [18] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}
قوله تعالى : {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} أي ، على الله ؛ دليله : {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} وليس ذلك عرضا يعلم به ما لم يكن عالما به ، بل معناه الحساب وتقرير الأعمال عليهم للمجازاة. وروى الحسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يعرض"
الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ". خرجه الترمذي قال : ولا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أي هو عالم بكل شي من أعمالكم. {خَافِيَةٌ} على هذا بمعنى خفية ، كانوا يخفونها من أعمالهم ؛ قاله ابن شجرة. وقيل : لا يخفى عليه إنسان ؛ أي لا يبقى إنسان لا يحاسب. وقال عبدالله بن عمرو بن العاص : لا يخفى المؤمن من الكافر ولا البر من الفاجر. وقيل : لا تستتر منكم عورة ؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :" يحشر الناس حفاة عراة ". وقرأ الكوفيون إلا عاصما" لا يخفى "بالياء ؛ لأن تأنيث الخافية غير حقيقي ؛ نحو قوله تعالى : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} واختاره أبو عبيد ؛ لأنه قد حال بين الفعل وبين الاسم المؤنث الجار والمجرور. الباقون بالتاء. واختاره أبو حاتم لتأنيث الخافية."
الآية : [19] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ}
الآية : [20] {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}
الآية : [21] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}
الآية : [22] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}
الآية : [23] {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ}
الآية : [24] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
الآية : [25] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ}
الآية : [26] {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} الآية : [27] {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ}
الآية : [28] {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} الآية : [29] {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}
الآية : [30] {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} الآية : [31] {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ}
الآية : [32] {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}
الآية : [33] {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} الآية : [31] {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
قوله تعالى : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة. وقال ابن عباس : أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب ، وله شعاع كشعاع الشمس. قيل له : فأين أبو بكر ؟ فقال هيهات هيهات! زفته الملائكة إلى الجنة. ذكره الثعلبي. وقد ذكرناه مرفوعا من حديث زيد بن ثابت بلفظه ومعناه في كتاب "التذكرة" . والحمد لله. {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورا بنجاته ؛ لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح ، والشمال من دلائل الغم. قال الشاعر :
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك
ومعنى : {هَاؤُمُ} تعالوا ؛ قاله ابن زيد. وقال مقاتل : هلم. وقيل : أي خذوا ؛ ومنه الخبر في الربا "إلا هاء وهاء" أي يقول كل واحد لصاحبه : خذ. قال ابن السكيت والكسائي : العرب تقول هاء يا رجل اقرأ ، وللاثنين هاؤما يا رجلان ، وهاؤم يا رجال ، وللمرة هاء "بكسر الهمزة" وهاؤما وهاؤمن. والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف ؛ قال القتيبي. وقيل : إن {هاؤم} كلمة وضعت لإجابة الداعي عند النشاط والفرح. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداه أعرابي بصوت عال فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم "هاؤم" يطول صوته. "وكتابيه" منصوب بـ {هاؤم} عند الكوفيين. وعند البصريين بـ { اقرؤوا} لأنه أقرب العاملين. والأصل "كتابي" فأدخلت الهاء لتبين فتحة الياء ، وكان الهاء للوقف ، وكذلك في أخواته : { حسابيه} ، و {ماليه} ، و {سلطانيه} وفي القارعة {ماهيه} . وقراءة العامة بالهاء فيهن في الوقف والوصل معا ؛ لأنهن وقعن في المصحف بالهاء فلا تترك. واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ويوافق الخط. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد ويعقوب بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف فيهن جمع. ووافقهم حمزة في : { حسابيه} ، و {ماليه} ، ، و {ماهيه} . في القارعة. وجملة هذه الحروف سبعة. واختار أبو حاتم قراءة يعقوب ومن معه إتباعا للغة. ومن قرأهن في الوصل بالهاء
فهو على نية الوقف {إِنِّي ظَنَنْتُ} أي أيقنت وعلمت ، عن ابن عباس وغيره. وقيل : أي إني ظننت أن يؤاخذني الله بسيئاتي عذبني فقد تفضل علي بعفوه ولم يؤاخذني بها. قال الضحاك : كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين. ومن الكافر فهو شك. وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك. وقال الحسن في هذ الآية : إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل وإن المنافق أساء الظن بربه فأساء العمل. {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} أي في الآخرة ولم أنكر البعث ؛ يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب ، لأنه تيقن أن الله يحاسبه فعمل للآخرة. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي في عيش يرضاه لا مكروه فيه. وقال أبو عبيدة والفراء : {رَاضِيَةٍ} أي مرضية ؛ كقولك : ماء دافق ؛ أي مدفوق. وقيل : ذات رضا ؛ أي يرضى بها صاحبها. مثل لابن وتامر ؛ أي صاحب اللبن والتمر. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنهم يعيشون فلا يموتون أبدا ويصحون فلا يمرضون أبدا وينعمون فلا يرون بؤسا أبدا ويشبون فلا يهرمون أبدا" . {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي عظيمة في النفوس. {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} أي قريبة التناول ، يتناولها القائم والقاعد والمضطجع على ما يأتي بيانه في سورة "الإنسان" . والقطوف جمع قطف "بكسر القاف" وهو ما يقطف من الثمار. والقطف "بالفتح" المصدر. والقطاف "بالفتح والكسر" وقت القطف. {كُلُوا وَاشْرَبُوا} أي يقال لهم ذلك. {هَنِيئاً} لا تكدير فيه ولا تنغيص. {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} قدمتم من الأعمال الصالحة. {فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي في الدنيا. وقال : "كُلُوا" بعد قوله : {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} لقوله : {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ} و "من" يتضمن معنى الجمع.وذكر الضحاك أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد المخزومي ؛ وقاله مقاتل. والآية التي تليها في أخيه الأسود بن عبد الأسد ؛ في قول ابن عباس والضحاك أيضا ؛ قال الثعلبي. ويكون هذا الرجل وأخوه سبب نزول هذه الآيات. ويعم المعنى جميع أهل الشقاوة وأهل السعادة ؛ يدل عليه قوله تعالى : {كُلُوا وَاشْرَبُوا} . وقد قيل :
إن المراد بذلك كل من كان متبوعا في الخير والشر. فإذا كان الرجل رأسا في الخير ، يدعو إليه ويأمر به ويكثر تبعه عليه ، دعي باسمه واسم أبيه فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض ، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات فيبدأ بالسيئات فيقرأها فيشفق ويصفر وجهه ويتغير لونه فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه "هذه سيئاتك وقد غفرت لك" فيفرح عند ذلك فرحا شديدا ، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحا ؛ حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه "هذه حسناتك قد ضوعفت لك" فيبيض وجهه ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ، ويكسى حلتين ، ويحلى كل مفصل منه ويطول ستين ذراعا وهي قامة آدم عليه السلام ؛ ويقال له : انطلق إلى أصحابك فأخبرهم وبشرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا. فإذا أدبر قال : {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} قال الله تعالى : {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي مرضية قد رضيها {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} في السماء {قُطُوفُهَا} ثمارها وعناقيدها. {دَانِيَةٌ} أدنيت منهم. فيقول لأصحابه : هل تعرفوني ؟ فيقولون : قد غمرتك كرامة ، من أنت ؟ فيقول : أنا فلان بن فلان أبشر كل رجل منكم بمثل هذا. {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي قدمتم في أيام الدنيا. وإذا كان الرجل رأسا في الشر ، يدعو إليه ويأمر به فيكثر تبعه عليه ، نودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه ، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات ، فيبدأ بالحسنات فيقرأها ويظن أنه سينجو ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه "هذه حسناتك وقد ردت عليك" فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير ، ثم يقلب كتابه فيقرأ سيئاته فلا يزداد إلا حزنا ، ولا يزداد وجهه إلا سوادا ، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه "هذه سيئاتك وقد ضوعفت عليك" أي يضاعف عليه العذاب. ليس المعنى أنه يزاد عليه ما لم يعمل - قال - فيعظم للنار وتزرق عيناه ويسود وجهه ، ويكسى سرابيل القطران ويقال له : انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا ؛ ينطلق وهو يقول : {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ. يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يتمنى الموت.
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} تفسير ابن عباس : هلكت عنه حجتي. وهو قول مجاهد وعكرمة والسدي والضحاك. وقال ابن زيد : يعني سلطانيه في الدنيا الذي هو الملك. وكان هذا الرجل مطاعا في أصحابه ؛ قال الله تعالى {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} قيل : يبتدره مائة ألف ملك ثم تجمع يده إلى عنقه وهو قوله عز وجل : {فَغُلُّوهُ} أي شدوه بالأغلال {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أي اجعلوه يصلى الجحيم {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} الله أعلم بأي ذراع ، قاله الحسن. وقال ابن عباس : سبعون ذراعا بذراع الملك. وقال نوف : كل ذراع سبعون باعا ، وكل باع أبعد ما بينك وبين مكة. وكان في رحبة الكوفة. وقال مقاتل : لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص. وقال كعب : إن حلقة من السلسلة التي قال الله تعالى ذرعها سبعون ذراعا - أن حلقة منها - مثل جميع حديد الدنيا. {فَاسْلُكُوهُ} قال سفيان : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه. وقاله مقاتل. والمعنى ثم أسلكوا فيه سلسلة. وقيل : تدخل عنقه فيها ثم يجربها. وجاء في الخبر : أنها تدخل من دبره وتخرج من منخريه. وفي خبر آخر : تدخل من فيه وتخرج من دبره ، فينادي أصحابه هل تعرفوني ؟ فيقولون لا ، ولكن قد نرى ما بك من الخزي فمن أنت ؟ فينادي أصحابه أنا فلان بن فلان ، لكل إنسان منكم مثل هذا.
قلت : وهذا التفسير أصح ما قيل في هذه الآية ، يدل عليه قوله تعالى : {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} وفي الباب حديث أبي هريرة بمعناه خرجه الترمذي. وقد ذكرناه في سورة "سبحان" فتأمله هناك. {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} أي على الإطعام ، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء. قال الشاعر :
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #2  
قديم 14-07-2025, 12:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المزمل
من صــ 51 الى صــ60
الحلقة (731)



وفي : متقاربة في مثل هذا الموضع ؛ قال الله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي في يوم القيامة. وقيل : "به" أي بالأمر أي السماء منفطر بما يجعل الولدان شيبا. وقيل : منفطر بالله ، أي بأمره ، وقال أبو عمرو بن العلاء : لم يقل منفطرة ؛ لأن مجازها السقف ؛ تقول : هذا سماء البيت ؛ قال الشاعر :
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب
وفي التنزيل : {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} . وقال الفراء : السماء يذكر ويؤنث. وقال أبو علي : هو من باب الجراد المنتشر ، والشجر الأخضر ، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} . وقال أبو علي أيضا : أي السماء ذات انفطار ؛ كقولهم : امرأة مرضع ، أي ذات إرضاع ، فجرى على طريق النسب. {كَانَ وَعْدُهُ} أي بالقيامة والحساب والجزاء {مَفْعُولاً} كائنا لا شك فيه ولا خلف. وقال مقاتل : كان وعده بأن يظهر دينه على الدين كله.
قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} يريد هذه السورة أو الآيات عظة. وقيل : آيات القرآن ، إذ هو كالسورة الواحدة. {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ} أي من أراد أن يؤمن ويتخذ بذلك إلى ربه {سَبِيلاً} أي طريقا إلى رضاه ورحمته فليرغب ، فقد أمكن له ؛ لأنه أظهر له الحجج والدلائل. ثم قيل : نسخت بآية السيف ، وكذلك قوله تعالى : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} قال الثعلبي : والأشبه أنه غير منسوخ.
20-
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ

اللَّهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فيه ثلاث عشر مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} هذه الآية تفسير لقوله تعالى : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} كما تقدم ، وهي الناسخة لفرضية قيام الليل كما تقدم. {تَقُومُ} معناه تصلي و {أَدْنَى} أي أقل. وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام {ثُلُثَيِ} بإسكان اللام. {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بالخفض قراءة العامة عطفا على {ثُلُثَيِ} ؛ المعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ومن نصفه وثلثه. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ كقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه أو ثلثه وهم لا يحصونه. وقرأ ابن كثير والكوفيون "وَنِصٌفِهِ وَثُلُثِهِ" بالنصب عطفا على {أَدْنَى} التقدير : تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء : وهو أشبه بالصواب ؛ لأنه قال أقل من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة. القشيري : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف ؛ لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه. ويحتمل أنهم أمروا بقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، فكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى الثلث. ويحتمل أنهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم. وقال قوم : إنما افترض الله عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع. وهذا القول تحكم.
الثانية- قوله تعالى : {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ. {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} أي لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام به. وقيل : أي لن تطيقوا قيام الليل. والأول أصح ؛ فإن قيام الليل ما فرض كله قط. قال مقاتل وغيره : لما نزلت : {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتقخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فرحمهم الله وخفف عنهم ؛ فقال تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} و "أن" مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنكم لن تحصوه ؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا ، وإن نقصتم شق ذلك عليكم.
الثالثة- قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم في ترك بعض ما أمر به. وقيل : أي فتاب عليكم من فرض القيام إذ عجزتم. وأصل التوبة الرجوع كما تقدم ؛ فالمعنى رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر. وإنما أمروا بحفظ الأوقات على طريق التحري ، فخفف عنهم ذلك التحري. وقيل : معنى {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يخلقهما مقدرين ؛ كقوله تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} . ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم ، وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف ، التكليف.
الرابعة- قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} فيه قولان : أحدهما أن المراد نفس القراءة ؛ أي فاقرؤوا فيما تصلونه بالليل ما خف عليكم. قال السدي : مائة آية. الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد : خمسون آية.
قلت : قول كعب أصح ؛ لقول عليه السلام : "من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين" خرجه أبو داود
الطيالسي في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو. وقد ذكرناه في مقدمة الكتاب والحمد لله. القول الثاني : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآنا ؛ كقوله تعالى : {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} أي صلاة الفجر. ابن العربي : وهو الأصح ؛ لأنه عن الصلاة أخبر ، وإليها يرجع القول.
قلت : الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز ؛ فإنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله.
الخامسة- قال بعض العلماء : قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} نسخ قيام الليل ونصفه ، والنقصان من النصف والزيادة عليه. ثم احتمل قول الله عز وجل : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معنيين أحدهما أن يكون فرضا ثانيا ؛ لأنه أزيل به فرض غيره. والآخر أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره ؛ وذلك لقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} فاحتمل قوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أي يتهجد بغير الذي فرض عليه مما تيسر منه. قال الشافعي : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين ، فوجدنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.
السادسة- قال القشيري أبو نصر : والمشهور أن نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : نسخ التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب ؛ كقوله تعالى : {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} فالهدي لا بد منه ، كذلك لم يكن بده من صلاة الليل ، ولكن فوض قدره إلى اختيار المصلي ، وعلى هذا فقد قال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ؛ وهو مذهب الحسن. وقال قوم : نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا ؛ وهو مذهب الشافعي. ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى الله عليه وسلم هي هذا ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته. وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا
فقوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} معناه أقرؤوا إن تيسر عليكم ذلك ، وصلوا إن شئتم. وصار قوم إلى أن النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه. وقوله : {نَافِلَةً لَكَ} محمول على حقيقة النفل. ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل ثم نسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة ؛ كقوله تعالى : {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، وقوله : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع. وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة ، كما أن فرضية الصلاة وإن خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ} كانت عامة له ولغيره. وقد قيل : إن فريضة الله امتدت إلى ما بعد الهجرة ، ونسخت بالمدينة ؛ لقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وإنما فرض القتال بالمدينة ؛ فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} . وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخ قول الله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} وجوب صلاة الليل.
السابعة- قوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الآية ؛ بين سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليهم قيام الليل ، ويشق عليهم أن تفوتهم الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفف الله عن الكل لأجل هؤلاء. و "أن" في "أن سيكون" مخففة من الثقيلة ؛ أي علم أنه سيكون.
الثامنة- سوى الله تعالى في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعياله ، والإحسان والإفضال ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنه جمعه مع الجهاد في سبيل الله. وروى إبراهيم عن علقمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد فيبيعه بسعر يومه إلا كانت"
منزلته عند الله منزلة الشهداء "ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء. وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ} الآية. وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من الموت بين شعبتي رحلي ، ابتغى من فضل الله ضاربا في الأرض. وقال طاوس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله. وعن بعض السلف أنه كان بواسط ، فجهز سفينة حنطة إلى البصرة ، وكتب إلى وكيله : بع الطعام يوم تدخل البصرة ، ولا تؤخره إلى غد ، فوافق سعة في السعر ؛ فقال التجار للوكيل : إن أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه ، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله ، فكتب إلى صاحبه بذلك ، فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا! إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا ، وقد جنيت علينا جناية ، فإذا أتاك كتابي هذا فخذ المال وتصدق به على فقراء البصرة ، وليتني أنجو من الاحتكار كفافا لا علي ولا لي. ويروى أن غلاما من أهل مكة كان ملازما للمسجد ، فافتقده ابن عمر ، فمشى إلى بيته ، فقالت أمه : هو على طعام له يبيعه ؛ فلقيه فقال له : يا بني! ما لك وللطعام ؟ فهلا إبلا ، فهلا بقرا ، فهلا غنما! إن صاحب الطعام يحب المحل ، وصاحب الماشية يحب الغيث."
التاسعة- قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي صلوا ما أمكن ؛ فأوجب الله من صلاة الليل ما تيسر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم. قال ابن العربي وقد قال قوم : إن فرض قيام الليل سن في ركعتين من هذه الآية ؛ قال البخاري وغيره ، وعقد بابا ذكر فيه حديث "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد ، يضرب على كل عقدة مكانها : عليك ليل طويل فارقد. فإن استيقظ فذكر الله أنحلت عقدة ، فإن توضأ انحلت عقدة ، فإن صلى أنحلت عقده كلها ، فأصبح نشيطا طيب النفس ، وإلا أصبح خبيث"
النفس كسلان "وذكر حديث سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا قال :" أما الذي يثلغ رأسه بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه ، وينام عن الصلاة المكتوبة ". وحديث عبدالله بن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل ينام الليل كله فقال :" ذلك رجل بال الشيطان في أذنيه "فقال ابن العربي : فهذه أحاديث مقتضية حمل مطلق الصلاة على المكتوبة ؛ فيحمل المطلق على المقيد لاحتماله له ، وتسقط الدعوى ممن عينه لقيام الليل. وفي الصحيح واللفظ للبخاري : قال عبدالله بن عمرو : وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا عبدالله لا تكن مثل فلان ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل "ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه ، ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم ، وفي الصحيح عن عبدالله بن عمر قال : كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكنت غلاما شابا عزبا ، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار. قال : ولقينا ملك آخر ، فقال لي : لم ترع. فقصصتها على حفصة ، فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :" نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل "فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا ؛ فلو كان ترك القيام معصية لما قال له الملك : لم ترع. والله أعلم."
العاشرة- إذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، {اقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة ؛ فقال مالك والشافعي : فاتحة الكتاب لا يجزئ العدول عنها ، ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة ، من أي القرآن كانت. وعنه ثلاث
آيات ؛ لأنها أقل سورة. ذكر القول الأول الماوردي والثاني ابن العربي. والصحيح ما ذهب إليه مالك والشافعي ، على ما بيناه في سورة "الفاتحة" أول الكتاب والحمد لله. وقيل : إن المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة ؛ قال الماوردي : فعلى هذا يكون مطلق هذا الأمر محمولا على الوجوب ، أو على الاستحباب دون الوجوب. وهذا قول الأكثرين ؛ لأنه لو وجب عليه أن يقرأ لوجب عليه أن يحفظه. الثاني أنه محمول على الوجوب ؛ ليقف بقراءته على إعجازه ، وما فيه من دلائل التوحيد وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ودلائل التوحيد منه أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة. وفي قدر ما تضمنه هذا الأمر من القراءة خمسة أقوال : أحدها جميع القرآن ؛ لأن الله تعالى يسره على عباده ؛ قاله الضحاك. الثاني ثلث القرآن ؛ حكاه جويبر. الثالث مائتا آية ؛ قال السدي. الرابع مائة آية ؛ قال ابن عباس. الخامس ثلاث آيات كأقصر سورة ؛ قاله أبو خالد الكناني.
الحادي عشرة- قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} يعني المفروضة وهي الخمس لوقتها. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} الواجبة في أموالكم ؛ قال عكرمة وقتادة. وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل : صدقة التطوع. وقيل : كل أفعال الخير.
وقال ابن عباس : طاعة الله والإخلاص له.
الثانية عشر- قوله تعالى : {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} القرض الحسن ما قصد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب. وقد مضى في سورة "الحديد" بيانه. وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن النفقة على الأهل. وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله.
الثالثة عشرة- قوله تعالى : {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} وروي عن عمر بن الخطاب أنه اتخذ حيسا - يعني تمرا بلبن - فجاءه مسكين فأخذه ودفعه إليه. فقال بعضهم : ما يدري هذا المسكين ما هذا ؟ فقال عمر : لكن رب المسكين يدري
ما هو وكأنه تأول : {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} أي مما تركتم وخلفتم ، ومن الشح والتقصير. {وَأَعْظَمَ أَجْراً} قال أبو هريرة : الجنة ؛ ويحتمل أن يكون أعظم أجرا ؛ لإعطائه بالحسنة عشرا. ونصب "خيرا وأعظم" على المفعول الثاني "لتجدوه" و "هو" : فضل عند البصريين ، وعماد في قول الكوفيين ، لا محل له من الإعراب. و "أجرا" تمييز. {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} أي سلوه المغفرة لذنوبكم {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} لما كان قبل التوبة {رَحِيمٌ} لكم بعدها ؛ قاله سعيد بن جبير. ختمت السورة.
سورة المدثر
مكية في قول الجميع . وهي ست وخمسون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .

2-
{قُمْ فَأَنْذِرْ} .

3-
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} .

4-
{وثيابك فطهر}

فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ونام ، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما. وقرأ أبي {الْمُدَّثِّرُ} على الأصل.
وقال مقاتل : معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث - قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه : "فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض" .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فجئثت منه فرقا ، فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} " في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال : "ثم تتابع الوحي" . خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح. قال مسلم : وحدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي قال : سمعت يحيى يقول : سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} "فقلت : أو {أقرأ} . فقال : سألت جابر بن عبدالله أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} فقلت : أو" أقرأ "فقال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال :" جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي ، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أرا أحدا ، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة ، فأتيت خديجة فقلت دثروني ، فدثروني فصبوا علي ماء ، فأنزل الله عز وجل : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} "خرجه البخاري وقال فيه :" فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ابن العربي : وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة (بن ربيعة) أمر ، فرجع إلى منزله مغموما ، فقلق واضطجع ، فنزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وهذا باطل. وقال القشيري أبو نصر : وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر ، فوجد من ذلك غما وحم ، فتدثر بثيابه ، فقال الله تعالى : {قُمْ فَأَنْذِرْ} أي لا تفكر في قولهم ، وبلغهم الرسالة.
وقيل : اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا : قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج ، وهم يتساءلون عن أمر محمد ، وقد اختلفتم في الإخبار عنه ؛ فمن قائل يقول مجنون ،





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #3  
قديم 13-07-2025, 05:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ المعارج
من صــ 273الى صــ284
الحلقة (722)



أراد بعد إعطائك. فبين أنه عذب على ترك الإطعام وعلى الأم بالبخل ، كما عذب بسبب الكفر. والحض : التحريض والحث. وأصل "طعام" أن يكون منصوبا بالمصدر المقدر. والطعام عبارة عن العين ، وأضيف للمسكين للملابسة التي بينهما. ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام فموضع المسكين نصب. والتقدير على إطعام المطعم المسكين ؛ فحذف الفاعل وأضيف المصدر إلى المفعول.
الآية : [35] {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ}
الآية : [36] {وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ}
الآية : [37] { لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ}
قوله تعالى : {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} خبر "ليس" قوله : "له" ولا يكون الخبر قوله : "هَاهُنَا" لأن المعنى يصير : ليس ها هنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك ؛ لأن ثم طعاما غيره. و "ها هنا" متعلق بما في "له" من معنى الفعل. والحميم ها هنا القريب. أي ليس له قريب يرق له ويدفع عنه. وهو مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار ؛ كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له. والغسلين فعلين من الغسل ؛ فكأنه ينغسل من أبدانهم ، وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وفروجهم ؛ عن ابن عباس. وقال الضحاك والربيع بن أنس : هو شجر يأكله أهل النار. والغسل "بالكسر" : ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره. الأخفش : ومنه الغسلين ، وهو ما أنغسل من لحوم أهل النار ودمائهم. وزيد فيه الياء والنون كما زيد في عفرين. وقال قتادة : هو شر الطعام وأبشعه. ابن زيد : لا يعلم ما هو ولا الزقوم. وقال في موضع آخر : {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} يجوز أن يكون الضريع من الغسلين. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلا من غسلين ؛ ويكون الماء الحار. {وَلا طَعَامٌ} أي وليس لهم طعام ينتفعون به. {لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ} أي المذنبون. وقال ابن عباس : يعني المشركين. وقرئ
"الخاطيون" بإبدال الهمزة ياء ، و "الخاطون" بطرحها. وعن ابن عباس : ما الخاطون كلنا نخطو. وروى أبو الأسود الدؤلي : ما الخاطون ؟ إنما هو الخاطئون. ما الصابون إنما هو الصابئون. ويجوز أن يراد الذي يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عز وجل.
الآية : [38] {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ}
الآية : [39] {وَمَا لا تُبْصِرُونَ}
الآية : [40] {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}
قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ. وَمَا لا تُبْصِرُونَ} المعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون. و "لا" صلة. وقيل : هو رد لكلام سبق ؛ أي ليس الأمر كما يقوله المشركون. وقال مقاتل : سبب ذلك أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر. وقال أبو جهل : شاعر. وقال عقبة : كاهن ؛ فقال الله عز وجل : {فَلا أُقْسِمُ} أي أقسم. وقيل : "لا" ها هنا نفي للقسم ، أي لا يحتاج في هذا إلى قسم لوضوح الحق في ذلك ، وعلى هذا فجوابه كجواب القسم. {إِنَّهُ} يعني القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} يريد جبريل ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل. دليله : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} وقال الكلبي أيضا والقتبي : الرسول ها هنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لقوله : {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} وليس القرآن قول الرسول صلي الله عليه وسلم ، إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسول لأنه تاليه ومبلغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك.
الآية : [41] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ}
الآية : [42] {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى : {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} لأنه مباين لصنوف الشعر كلها. {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} لأنه ورد بسب الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئا على من يسبهم. و "ما" زائدة في قوله : {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} ، {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} ؛ والمعنى : قليلا تؤمنون وقليلا تذكرون. وذلك القليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله. ولا يجوز أن تكون "ما" مع الفعل مصدرا وتنصب " قَلِيلاً بما بعد "ما" ، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول ؛ لأن ما عمل فيه المصدر من صلة المصدر. وقرأ ابن محيصن وابن كثير وابن عامر ويعقوب {مَا يُؤْمِنُونَ } ، و { وَمَا يَذْكُرُونَ } بالياء. الباقون بالتاء لأن الخطاب قبله وبعده. أما قبله فقوله : {تُبْصِرُونَ } وأما بعده : " فَمَا مِنْكُمْ "الآية."
الآية : [43] {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {تَنْزِيلٌ} أي هو تنزيل. {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهو عطف على قوله : {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي إنه لقوله رسول كريم ، وهو تنزيل من رب العالمين.
الآية : [44] {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ}
الآية : [45] {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
الآية : [46] {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ}
قوله تعالى : {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} {تَقَوَّلَ } أي تكلف وأتى بقول من قبل نفسه. وقرئ {وَلَوْ تَقَوَّلَ } على البناء للمفعول. {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي بالقوة والقدرة ، أي لأخذناه بالقوة. و "من" صلة زائدة. وعبر عن القوة والقدرة باليمين لأن قوة كل شيء في ميامنه ، قاله القتبي. وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد. ومنه قول الشماخ :
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة. عرابة اسم رجل من الأنصار من الأوس. وقال آخر :
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني
وقال السدي والحكم : "باليمين" بالحق. قال :
تلقاها عرابة باليمين
أي بالاستحقاق. وقال الحسن : لقطعنا يده اليمين. وقيل : المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف ؛ قاله نفطويه. وقال أبو جعفر الطبري : إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب. كما يقول السلطان لمن يريد هوانه : خذوا يديه. أي لأمرنا بالأخذ بيده وبالغنا في عقابه. {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} يعني نياط القلب ؛ أي لأهلكناه. وهو عرق يتعلق به القلب إذا انقطع مات صاحبه ؛ قال ابن عباس وأكثر الناس قال :
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فأشرقي بدم الوتين
وقال مجاهد : هو حبل القلب الذي في الظهر وهو النخاع ؛ فإذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه. والموتون الذي قطع وتينه. وقال محمد بن كعب : إنه القلب ومراقه وما يليه. قال الكلبي : إنه عرق بين العلباء والحلقوم. والعلباء : عصب العنق. وهما علباوان بينهما ينبت العرق. وقال عكرمة : إن الوتين إذا قطع لا إن جاع عرف ، ولا إن شبع عرف.
الآية : [47] {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}
الآية : [48] {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى : {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} "ما" نفي و "أحد" في معنى الجمع ، فلذلك نعته بالجمع ؛ أي فما منكم قوم يحجزون عنه كقوله تعالى : {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} هذا جمع ، لأن "بين" لا تقع إلا على اثنين فما زاد. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لم تحل الغنائم لأحد سود الرؤوس قبلكم" . لفظه واحد ومعناه الجمع. و "من" زائدة.
والحجز : المنع. و { حَاجِزِينَ} يجوز أن يكون صفة لأحد على المعنى كما ذكرنا ؛ فيكون في موضع جر. والخبر "منكم" . ويجوز أن يكون منصوبا على أنه خبر و "مِنْكُمْ" ملغى ، ويكون متعلقا { حَاجِزِينَ} ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا ؛ كما لم يمتنع الفصل به في "إن فيك زيدا راغب" .
{وَإِنَّهُ} يعني القرآن {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي للخائفين الذين يخشون الله. ونظيره : {فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} على ما بيناه أول سورة البقرة. وقيل : المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، أي هو تذكرة ورحمة ونجاة.
الآية : [49] {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ}
الآية : [50] {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ}
الآية : [51] {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ}
الآية : [52] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى : {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} قال الربيع : بالقرآن. {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} يعني التكذيب. والحسرة : الندامة. وقيل : أي وإن القرآن لحسرة على الكافرين يوم القيامة إذا رأوا ثواب من آمن به. وقيل : هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحديهم أن يأتوا بسورة مثله. {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} يعني أن القرآن العظيم تنزيل من الله عزو جل ؛ فهو لحق اليقين. وقيل : أي حقا يقينا ليكونن ذلك حسرة عليهم يوم القيامة. فعلى هذا "وإنه لحسرة" أي لتحسر ؛ فهو مصدر بمعنى التحسر ، فيجوز تذكيره. وقال ابن عباس : إنما هو كقولك : لعين اليقين ومحض اليقين. ولو كان اليقين نعتا لم يجز أن يضاف إليه ؛ كما لا تقول : هذا رجل الظريف. وقيل : أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فصل لربك ؛ قال ابن عباس. وقيل : أي نزه الله عن السوء والنقائص.
سورة المعارج
وهي مكية باتفاق. وهي أربع وأربعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}
الآية : [2] {لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ}
الآية : [3] {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ }
الآية : [4] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}
قوله تعالى : {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قرأ نافع وابن عامر {سَأَلَ سَايلٌ} بغير همزة. الباقون بالهمز. فمن همز فهو من السؤال. والباء يجوز أن تكون زائدة ، ويجوز أن تكون بمعنى عن. والسؤال بمعنى الدعاء ؛ أي دعا داع بعذاب ؛ عن ابن عباس وغيره. يقال : دعا على فلان بالويل ، ودعا عليه بالعذاب. ويقال : دعوت زيدا ؛ أي ألتمست إحضاره. أي التمس ملتمس عذابا للكافرين ؛ وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة. وعلى هذا فالباء زائدة ؛ كقوله تعالى : {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، وقوله. {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} فهي تأكيد. أي سأل سائل عذابا واقعا. {لِلْكَافِرِينَ} أي على الكافرين. وهو النضر بن الحارث حيث قال : {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فنزل سؤاله ، وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ؛ لم يقتل صبرا غيرهما ؛ قاله ابن عباس ومجاهد. وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري. وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : "من كنت مولاه فعلي مولاه" ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله
إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك ، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك ، ونزكي أموالنا فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك ، وأن نحج فقبلناه منك ، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا! أفهذا شيء منك أم من الله ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله" فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله ؛ فنزلت : {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} الآية. وقيل : إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك ، قال الربيع. وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش. وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين. وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار ؛ وهو واقع بهم لا محالة. وأمتد الكلام إلى قوله تعالى : {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} أي لا تستعجل فإنه قريب. وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع. قال الله تعالى : {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} أي سل عنه. وقال علقمة :
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء. ويقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله : {لِلْكَافِرِينَ} . قال أبو علي وغيره : وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما. وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر ؛ فيكون التقدير سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب. ومن قرأ بغير همز فله وجهان : أحدهما : أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش ؛ تقول العرب : سال يسال ؛ مثل نال ينال وخاف يخاف. والثاني : أن يكون من السيلان ؛ ويؤيده قراءة ابن عباس "سال سيل" . قال عبدالرحمن بن زيد : سال واد من أودية جهنم يقال له :
سائل ؛ وقول زيد بن ثابت. قال الثعلبي : والأول أحسن ؛ كقول الأعشى في تخفيف الهمزة :
سالتاني الطلاق إذ رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر
وفي الصحاح : قال الأخفش : يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وقد تخفف همزته فيقال : سال يسال. وقال :
ومرهق سال إمتاعا بِأُصْدَته ... لم يستعن وحوامي الموت تغشاه
المرهق : الذي أدرك ليقتل. والأصدة بالضم : قميص صغير يلبس تحت الثوب. المهدوي : من قرأ "سال" جاز أن يكون خفف الهمزة بإبدالها ألفا ، وهو البدل على غير قياس. وجاز أن تكون الألف منقلبة عن واو على لغة من قال : سلت أسال ؛ كخفت أخاف. النحاس : حكى سيبويه سلت أسال ؛ مثل خفت أخاف ؛ بمعنى سألت. وأنشد :
سالت هذيلٌ رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
ويقال : هما يتساولان. المهدوي : وجاز أن تكون مبدلة من ياء ، من سال يسيل. ويكون سايل واديا في جهنم ؛ فهمزة سايل على القول الأول أصلية ، وعلى الثاني بدل من واو ، وعلى الثالث بدل من ياء. القشيري : وسائل مهموز ؛ لأنه إن كان من سأل بالهمز فهو مهموز ، وإن كان من غير الهمز كان مهموزا أيضا ؛ نحو قائل وخائف ؛ لأن العين اعتل في الفعل واعتل في اسم الفاعل أيضا. ولم يكن الاعتلال بالحذف لخوف الالتباس ، فكان بالقلب إلى الهمزة ، ولك تخفيف الهمزة حتى تكون بين بين. {وَاقِعٍ} أي يقع بالكفار بين
أنه من الله ذي المعارج. وقال الحسن : أنزل الله تعالى : {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} فقال لمن هو ؟ فقال للكافرين ؛ فاللام في الكافرين متعلقة بـ "ـواقع" . وقال الفراء : التقدير بعذاب للكافرين واقع ؛ فالواقع من نعت العذاب واللام دخلت للعذاب لا للواقع ، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد. وقيل إن اللام بمعنى على ، والمعنى : واقع على الكافرين. وروي أنها في قراءة أبي كذلك. وقيل : بمعنى عن ؛ أي ليس له دافع عن الكافرين من الله. أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم ؛ قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد : هي معارج السماء. وقيل : هي معارج الملائكة ؛ لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك. وقيل : المعارج الغرف ؛ أي إنه ذو الغرف ، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا. وقرأ عبدالله "ذي المعاريج" بالياء. يقال : معرج ومعراج ومعارج ومعاريج ؛ مثل مفتاح ومفاتيح. والمعارج الدرجات ؛ ومنه : {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ} أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم. وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي والكسائي "تَعْرُجُ" بالياء على إرادة الجمع ؛ ولقوله : اذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم. وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة. {وَالرُّوحُ} جبريل عليه السلام ؛ قال ابن عباس. دليله قوله تعالى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} . وقيل : هو ملك آخر عظيم الخلقة. وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس. قال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين يقبض. {إِلَيْهِ} أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ؛ لأنها محل بره وكرامته. وقيل : هو كقول إبراهيم {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} . أي إلى الموضع الذي أمرني به. وقيل : {إِلَيْهِ "أي إلى عرشه. فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال وهب والكلبي ومحمد بن إسحاق : أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم"
لو صعد خمسين ألف سنة. وقال وهب أيضا : ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة. وهو قول مجاهد. وجمع بين هذة الآية وبين قوله : {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة السجدة ، فقال : {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة. وقوله تعالى في "آلم تنزيل" : {في يوم كان مقداره ألف سنة} [السجدة : 5] يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام. وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة : هو مدة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة. لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل. وقيل : المراد يوم القيامة ، أي مقدار الحكم فيه لو تولاه مخلوق خمسون ألف سنة ، قاله عكرمة أيضا والكلبي ومحمد بن كعب. يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة. وقال الحسن : هو يوم القيامة ، ولكن يوم القيامة لا نفاد له فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين. وقال يمان : هو يوم القيامة ، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة. وقال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار.
قلت : وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله ، بدليل ما رواه قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {في يوم كان مقداره ألف سنة} فقلت : ما أطول هذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا" . واستدل النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس" .
قال : فهذا يدل على أنه يوم القيامة. وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر. وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين" . ذكره الماوردي. وقبل : بل يكون الفراغ لنصف يوم ، كقوله تعالى : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} وهذا على قدر فهم الخلائق ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن. وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة ، قال الله تعالى : {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وعن ابن عباس أيضا أنه سماها هذه الآية وعن قوله تعالى : {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال : أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون ، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. وقيل : معنى ذكر خمسين ألف سنة تمثيل ، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف ، وما يلقى الناس فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر ؛ قال الشاعر :
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ والمعنى : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له من الله دافع ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وهذا القول هو معنى ما أخترناه ، والموفق الإله.
الآية : [5] {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً}
الآية : [6] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً}
الآية : [7] {وَنَرَاهُ قَرِيباً}
قوله تعالى : {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} أي على أذى قومك. والصبر الجميل : هو الذي لا جزع فيه ولا شكوى لغير الله. وقيل : هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدرى من هو. والمعنى متقارب. وقال ابن زيد : هي منسوخة بآية السيف. {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} يريد أهل مكة يرون العذاب بالنار بعيدا ؛ أي غير كائن. {وَنَرَاهُ قَرِيباً} لأن ما هو آت فهو قريب. وقال الأعمش : يرون البعث بعيدا لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة. كما تقول لمن تناظره : هذا بعيد لا يكون وقيل : أي يرون هذا اليوم بعيدا { وَنَرَاهُ} أي نعلمه ؛ لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود. وهو كقولك : الشافعي يرى في هذه المسألة كذا وكذا.
الآية : [8] {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}
الآية : [9] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ}
الآية : [10] {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً}
قوله تعالى : {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} العامل في "يَوْمَ" "واقع" ؛ تقديره يقع بهم العذاب يوم. وقيل : { وَنَرَاهُ} أو {يُبَصَّرُونَهُمْ } أو يكون بدلا من قريب. والمهل : دردي الزيت وعكره ؛ في قول ابن عباس وغيره. وقال ابن مسعود : ما أذيب من الرصاص والنحاس والفضة. وقال مجاهد : "كالمهل" كقيح من دم وصديد. وقد مضى في سورة "الدخان" ، و "الكهف" القول فيه. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} أي كالصوف المصبوغ. ولا يقال للصوف عهن إلا أن يكون مصبوغا. وقال الحسن : {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} وهو الصوف الأحمر ، وهو أضعف الصوف. ومنه قول زهير :
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #4  
قديم 13-07-2025, 05:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ المعارج
من صــ 283الى صــ294
الحلقة (723)






الفتات القطع. والعهن الصوف الأحمر ؛ واحده عهنة. وقيل : العهن الصوف ذو الألوان ؛ فشبه الجبال به في تلونها ألوانا. والمعنى : أنها تلين بعد الشدة ، وتتفرق بعد الاجتماع. وقيل : أول ما تتغير الجبال تصير رملا مهيلا ، ثم عهنا منفوشا ، ثم هباء منبثا. {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} أي عن شأنه لشغل كل إنسان بنفسه ، قال قتادة. كما قال تعالى : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وقيل : لا يسأل حميم عن حميم ، فحذف الجار ووصل الفعل. وقراءة العامة "يسأل" بفتح الياء. وقرأ شيبة والبزي عن عاصم "ولا يسأل بالضم على ما لم يسم فاعله ، أي لا يسأل حميم عن حميمه ولا ذو قرابة عن قرابته ، بل كل إنسان يسأل عن عمله. نظيره : {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} "
الآية : [11] {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}
الآية : [12] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}
الآية : [13] {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}
الآية : [14] {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ}
قوله تعالى : {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يرونهم. وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه من الجن والإنس. فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ولا يكلمه ؛ لاشتغالهم بأنفسهم. وقال ابن عباس : يتعارفون ساعة ثم لا يتعارفون بعد تلك الساعة. وفي بعض الأخبار : أن أهل القيامة يفرون من المعارف مخافة المظالم. وقال ابن عباس أيضا : {يُبَصَّرُونَهُمْ } يبصر بعضهم بعضا فيتعارفون ثم يفر بعضهم من بعض. فالضمير في "يُبَصَّرُونَهُمْ" على هذا للكفار ، والميم للأقرباء. وقال مجاهد : المعنى يبصر الله المؤمنين الكفار في يوم القيامة ؛ فالضمير في يبصرونهم "للمؤمنين ، والهاء والميم للكفار. ابن زيد : المعنى يبصر الله"
الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا ؛ فالضمير في { يُبَصَّرُونَهُمْ} للتابعين ، والهاء والميم للمتبوعين. وقيل : إنه يبصر المظلوم ظالمه والمقتول قاتله. وقيل : { يُبَصَّرُونَهُمْ} يرجع إلى الملائكة ؛ أي يعرفون أحوال الناس فيسوقون كل فريق إلى ما يليق بهم. وتم الكلام عند قوله : { يُبَصَّرُونَهُمْ} ثم قال : {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} أي يتمنى الكافر. {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} يعني من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا من أقاربه فلا يقدر. ثم ذكرهم فقال : {بِبَنِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ} زوجته {وَأَخِيهِ ، وَفَصِيلَتِهِ} أي عشيرته. {الَّتِي تُؤْوِيهِ} تنصره ؛ قاله مجاهد وابن زيد. وقال مالك : أمه التي تربيه. حكاه الماوردي ورواه عنه أشهب. وقال أبو عبيدة : الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب : هم آباؤه الأدنون. وقال المبرد : الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد ، وهي دون القبيلة. وسميت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه. وقد مضى في سورة "الحجرات" القول في القبيلة وغيرها.وهنا مسألة ، وهي : إذا حبس على فصيلته أو أوصى لها فمن أدعى العموم حمله على العشيرة ، ومن أدعى الخصوص حمله على الآباء ؛ الأدنى فالأدنى. والأول أكثر في النطق. والله أعلم. ومعنى : {تُؤْوِيهِ} تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به. {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أي ويود لو فدي بهم لافتدى {ثُمَّ يُنْجِيهِ} أي يخلصه ذلك الفداء. فلا بد من هذا الإضمار ، كقوله : {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي وإن أكله لفسق. وقيل : {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} يقتضي جوابا بالفاء ؛ كقوله : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} والجواب في هذه الآية {ثُمَّ يُنْجِيهِ} لأنها من حروف العطف ؛ أي يود المجرم لو يفتدى فينجيه الافتداء.
الآية : [15] {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}
الآية : [16] {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}
الآية : [17] {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}
الآية : [18] {وَجَمَعَ فَأَوْعَى}
قوله تعالى : {كَلاَّ} تقدم القول في {كَلاَّ} وأنها تكون بمعنى حقا ، وبمعنى لا. وهي هنا تحتمل الأمرين ؛ فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام {يُنْجِيهِ} وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها ؛ أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء ثم قال : {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} أي هي جهنم ؛ أي تتلظى نيرانها ؛ كقوله تعالى : {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} واشتقاق لظى من التلظي. والتظاء النار التهابها ، وتلظيها تلهبها. وقيل : كان أصلها "لظظ" أي ما دامت لدوام عذابها ؛ فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى. وقيل : هي الدركة الثانية من طبقات جهنم. وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف. {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي "نزاعة" بالرفع. وروى أبو عمرو عن عاصم {نَزَّاعَةً } بالنصب. فمن رفع فله خمسة أوجه : أحدها أن تجعل "لظى" خبر "إن" وترفع "نَزَّاعَةً" بإضمار هي ؛ فمن هذا الوجه يحسن الوقف على "لظى" . والوجه الثاني أن تكون "لظى" و "نزاعة" خبران لإن. كما تقول إنه خلق مخاصم. والوجه الثالث أن تكون "نزاعة" بدلا من "لظى" و "لظى" خبر "إن" . والوجه الرابع أن يكون "لظى" بدلا من اسم "إن" و "نزاعة" خبر "إن" . والوجه الخامس : أن يكون الضمير في "إنها" للقصة ، و "لظى" مبتدأ ، و "نزاعة" خبر الابتداء والجملة خبر "إن" والمعنى : أن القصة والخبر لظى نزاعة للشوى ومن نصب "نزاعة" حسن له أن يقف على "لظى" وينصب "نزاعة" على القطع من "لظى" إذ كانت نكرة متصلة بمعرفة. ويجوز نصبها على الحال المؤكدة ؛ كما قال : {وهو الحق مصدقا} [البقرة : 91] . ويجوز أن تنصب على معنى أنها تتلظى نزاعة ؛ أي في حال نزعها للشوى. والعامل فيها ما دل عليه الكلام من معنى التلظي. ويجوز أن يكون حالا ؛ على أنه حال للمكذبين بخبرها. ويجوز نصبها
على القطع ؛ كما تقول : مررت بزيد العاقل الفاضل. فهذه خمسة أوجه للنصب أيضا. والشوى. جمع شواة وهي جلدة الرأس. قال الأعشى :
قالت قُتَيلة مالَه ... قد جللت شيبا شواته
وقال آخر :
لأصبحت هدتك الحوادث هدة ... لها فشواة الرأس باد قتيرها
القتير : الشيب. وفي الصحاح : "والشوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس" . والشوى : اليدان والرجلان والرأس من الآدميين ، وكل ما ليس مقتلا. يقال : رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل. قال الهذلي :
فإن من القول التي لا شوى لها ... إذا زل عن ظهر اللسان انفلاتها
يقول : إن من القول كلمة لا تشوي ولكن تقتل. قال الأعشى :
قالت قتيلة ماله ... قد جللت شيبا شواته
قال أبو عبيد : أنشدها أبو الخطاب الأخفش أبا عمرو بن العلاء فقال له : "صحفت! إنما هو سراته ؛ أي نواحيه فسكت أبو الخطاب ثم قال لنا : بل هو صحف ، إنما هو شواته" . وشوى الفرس : قوائمه ؛ لأنه يقال : عبل الشوى ، ولا يكون هذا للرأس ؛ لأنهم وصفوا الخيل بإسالة الخدين وعتق الوجه وهو رقته. والشوى : رذال المال. والشوى : هو الشيء الهين اليسير. وقال ثابت البناني والحسن : {نزاعة للشوى} أي لمكارم وجهه. أبو العالية : لمحاسن وجهه. قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه. وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا. وقال الكسائي : هي المفاصل. وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود. قال امرؤ القيس :
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا ... له حجبات مشرفات على الفال
وقال أبو صالح : أطراف اليدين والرجلين. قال الشاعر :
إذا نظرت عرفت الفخر منها ... وعينيها ولم تعرف شواها
يعني أطرافها. وقال الحسن أيضا : الشوى الهام. {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان. ودعاؤها أن تقول : إلي يا مشرك ، إلي يا كافر. وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إلي يا كافر ، إلي يا منافق ؛ ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب. وقال ثعلب : {تَدْعُو } أي تهلك. تقول العرب : دعاك الله ؛ أي أهلكك الله. وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء "تعالوا" ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم. وقيل : الداعي خزنة جهنم ؛ أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل ؛ أي إن مصير من أدبر وتولى إليها ؛ فكأنها الداعية لهم. ومثله قول الشاعر :
ولقد هبطنا الواديين فواديا ... يدعو الأنيس به العضيض الأبكم
العضيض الأبكم : الذباب. وهو لا يدعو وإنما طنينه نبه عليه فدعا إليه.
قلت : القول الأول هو الحقيقة ؛ حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة. القشيري : ودعاء لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو ، وخوارق العادة غدا كثيرة. {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أي جمع المال فجعله في وعائه ومنع منه حق الله تعالى ؛ فكان جموعا منوعا. قال الحكم : كان عبدالله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول : {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} .
الآية : [19] {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً}
الآية : [20] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً}
الآية : [21] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}
قوله تعالى : {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} يعني الكافر ؛ عن الضحاك. والهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه. وكذلك قال قتادة ومجاهد وغيرهما. وقد هلع "بالكسر" يهلع فهو هليع وهلوع ؛ على التكثير. والمعنى أنه لا يصبر على خير ولا شر حتى يفعل فيهما
ما لا ينبغي. عكرمة : هو الضجور. الضحاك : هو الذي لا يشبع. والمنوع : هو الذي إذا أصاب المال منع منه حق الله تعالى. وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يسره ويرضيه ، ويهرب مما يكرهه ويسخطه ، ثم تعبده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره. وقال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الضر لم يصبر ؛ قاله ثعلب. وقال ثعلب أيضا : قد فسر الله الهلوع ، وهو الذي إذا ناله الشر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله الخير بخل به ومنعه الناس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "شر ما أعطي العبد شح هالع وجبن خالع" . والعرب تقول : ناقة هلواعة وهلواع ؛ إذا كانت سريعة السير خفيفة. قال :
صكّاء ذِعْلِبة إذا استدبرتها ... حرج إذا استقبلتها هِلواع
الذعلب والذعلبة الناقة السريعة. و {جَزُوعاً } و {مَنُوعاً} نعتان لهلوع. على أن ينوي بهما التقديم قبل "إذا" . وقيل : هو خبر كان مضمرة.
الآية : [22] { إِلاَّ الْمُصَلِّينَ}
الآية : [23] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}
الآية : [24] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}
الآية : [25] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}
الآية : [26] {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}
الآية : [27] {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}
الآية : [28] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} الآية : [29] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}
الآية : [30] {الا على إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}
الآية : [31] {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}
الآية : [32] {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الآية : [33] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}
الآية : [34] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} الآية : [35] {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ}
قوله تعالى : {إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} دل على أن ما قبله في الكفار ؛ فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه كقوله تعالى : {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} النخعي : المراد بالمصلين الذي يؤدون الصلاة المكتوبة. ابن مسعود : الذين يصلونها لوقتها ، فأما تركها فكفر. وقيل : هم الصحابة. وقيل : هم المؤمنون عامة ، فإنهم يغلبون فرط الجزع بثقتهم بربهم ويقينهم. {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي على مواقيتها. وقال عقبة بن عامر : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا. والدائم الساكن ، ومنه : نهي عن البول في الماء الدائم ، أي الساكن. وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التطوع منها. {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} يريد الزكاة المفروضة ، قاله قتادة وابن سيرين. وقال مجاهد : سوى الزكاة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة رحم وحمل كل. والأول أصح ؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم ، وسوى الزكاة ليس بمعلوم ، إنما هو على قدر الحاجة ، وذلك يقل ويكثر. {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} تقدم في "الذاريات" . {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة. وقد مضى في سورة "الفاتحة" القول فيه. {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي خائفون. {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} قال ابن عباس : لمن أشرك أو كذب أنبياءه. وقيل : لا يأمنه أحد ، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه . {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} تقدم القول فيه سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} تقدم أيضاً {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} على من كانت عليه من قريب أو بعيد ، يقومون بها عند
الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها. وقد مضى القول في الشهادة وأحكامها في سورة "البقرة" . وقال ابن عباس : {بِشَهَادَاتِهِمْ} أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. وقرئ {لِأَمَانَاتِهِمْ} على التوحيد. وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن. فالأمانة اسم جنس ، فيدخل فيها أمانات الدين ، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده. ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع ؛ وقد مضى هذا كله مستوفى في سورة "النساء" . وقرأ عباس الدوري عن أبي عمرو ويعقوب { بِشَهَادَاتِهِمْ} جمعا. الباقون {بِشَهَادَاتِهِمْ} على التوحيد ، لأنها تؤدي عن الجمع. والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع ، كقوله تعالى : { إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . وقال الفراء : ويدل على أنها {بِشَهَادَاتِهِمْ} توحيدا قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج : التطوع. وقد مضى في سورة "المؤمنون" . فالدوام خلاف المحافظة. فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها وآدابها ، ويجفظوها من الإحباط باقتراب المأثم. فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} أي أكرمهم الله فيها بأنواع الكرامات.
الآية : [36] {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ}
الآية : [37] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ}
الآية : [38] {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}
الآية : [39] {كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قال الأخفش : مسرعين. قال :
بمكة أهلها ولقد أراهم إليه ... مهطعين إلى السماع
والمعنى : ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم. وقيل : أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك. وقيل : أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزؤوا بك. وقال عطية : مهطعين : معرضين. الكلبي : ناظرين إليك تعجبا. وقال قتادة : عامدين. والمعنى متقارب ؛ أي ما بالهم مسرعين عليك ، مادين أعناقهم ، مدمني النظر إليك. وذلك من نظر العدو. وهو منصوب على الحال. نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به. و {قَبْلِكَ} أي نحوك. {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات. والعزين : جماعات في تفرقة ، قاله أبو عبيدة. ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرأهم حلقا فقال : "مالي أراكم عزين ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها" - قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : "يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف" خرجه مسلم وغيره. وقال الشاعر :
ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقا عزينا
أي متفرقين. وقال الراعي :
أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سراتهم إليك عزينا
أي متفرقين. وقال آخر :
كأن الجماجم من وقعها ... خناطيل يهوين شتى عزينا
أي متفرقين. وقال آخر :
فلما أن أتين على أُضاخٍ ... ضرحن حصاه أشتاتا عزينا
وقال الكميت :
ونحن وجندل باغ تركنا ... كتائب جندل شتى عزينا




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 13-07-2025, 05:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ نوح
من صــ 293الى صــ304
الحلقة (724)






وقال عنترة :
وقرن قد تركت لذي ولي ... عليه الطير كالعصب العزين
وواحد عزين عزة ، جمع بالواو والنون ليكون ذلك عوضا مما حذف منها. وأصلها عزهة ، فاعتلت كما اعتلت سنة فيمن جعل أصلها سنهة. وقيل : أصلها عزوة ، من عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره. فكل واحد من الجماعات مضافة إلى الأخرى ، والمحذوف منها الواو. وفي الصحاح : "والعزة الفرقة من الناس ، والهاء عوض من الياء ، والجمع عزى - على فعل - وعزون وعزون أيضا بالضم ، ولم يقولوا عزات كما قالوا ثبات" . قال الأصمعي : يقال في الدار عزون ، أي أصناف من الناس. و {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} متعلق بـ { مُهْطِعِينَ} ويجوز أن يتعلق بـ {عِزِينَ} على حد قولك : أخذته عن زيد. {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه ، ويستهزئون بأصحابه ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه ؛ فنزلت : { أَيَطْمَعُ } الآية. وقيل : كان المستهزئون خمسة أرهط. وقرأ الحسن طلحة بن مصرف والأعرج {أَنْ يُدْخَلَ} بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل. ورواه المفضل عن عاصم. الباقون {أَنْ يُدْخَلَ} على الفعل المجهول. { كَلاَّ } لا يدخلونها. {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} ثم ابتدأ فقال : {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ؛ كما خلق سائر جنسهم. فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى. وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم. فقال : {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر. وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله. وروي أن مطرف بن عبدالله بن الشخير رأى المهلب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له : يا عبدالله ، ما هذه المشية التي يبغضها
الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة. فمضى المهلب وترك مشيته. نظم الكلام محمود الوراق فقال :
عجبت من معجب بصورته ... وكان في الأصل نطفة مذره
وهو غدا بعد حسن صورته ... يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ... ما بين ثوبيه يحمل العذره
وقال آخر :
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة ... وهو بخمس من الأوساخ مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سَهِك ... والعين مُرْمَصة والثغر ملهوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا ... قصر فإنك مأكول ومشروب
وقيل : معناه من أجل ما يعلمون ؛ وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب. كقول الشاعر وهو الأعشى :
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل ليلى.
الآية : [40] {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ}
الآية : [41] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}
قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} أي أقسم. و "لا" صلة. {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} هي مشارق الشمس ومغاربها. وقد مضى الكلام فيها. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن وحميد "برب المشرق والمغرب" على التوحيد. {إِنَّا لَقَادِرُونَ. عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} يقول : نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده.
الآية : [42] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ}
أي اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم ؛ على جهة الوعيد. واشتغل أنت بما أمرت به ولا يعظمن عليك شركهم ؛ فإن لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا. وقرأ ابن محيصن ومجاهد وحميد {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
الآية : [43] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ}
{ يَوْمَ} بدل من {يَوْمَهم } الذي قبله ، وقراءة العامة {يَخْرُجُونَ} بفتح الياء وضم الراء على أنه مسمى الفاعل. وقرأ السلمي والمغيرة والأعشى عن عاصم {يَخْرُجُونَ} بضم الياء وفتح الراء على الفعل المجهول. والأجداث : القبور ؛ وأحدها جدث. وقد مضى في سورة "يس" . { سِرَاعاً} حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي ؛ وهو نصب على الحال {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قراءة العامة بفتح النون وجزم الصاد. وقرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهما بضم النون وإسكان الصاد. والنصب والنصب لغتان مثل الضعف ، والضعف. الجوهري : والنصب ما نصب فعبد من دون الله ، وكذلك النصب بالضم ؛ وقد يحرك. قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعافية والله ربك فاعبدا
أراد "فَاعْبُدَنْ" فوقف بالألف ؛ كما تقول : رأيت زيدا. والجمع الأنصاب. وقوله : "وذا النصب" بمعنى إياك وذا النصب. والنصب الشر والبلاء ؛ ومنه قوله تعالى : {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} . وقال الأخفش والفراء : النصب جمع النصب مثل رهن ورهن ، والأنصاب جمع نصب ؛ فهو جمع الجمع. وقيل :
النصب والأنصاب واحد. وقيل : النصب جمع نصاب ، هو حجر أو صنم يذبح عليه ؛ ومنه قوله تعالى : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} . وقد قيل : نصب ونصب ونصب معنى واحد ؛ كما قيل عمر وعمر وعمر. ذكره النحاس. قال ابن عباس : "إِلَى نُصُبٍ" إلى غاية ، وهي التي تنصب إليها بصرك. وقال الكلبي : إلى شيء منصوب ؛ علم أو راية. وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أولهم على آخرهم. {يُوفِضُونَ} يسرعون والإيفاض الإسراع. قال الشاعر :
فوارس ذبيان تحت الحديـ ... ـد كالجن يوفضن من عبقر
عبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن. قال لبيد :
كهول وشبان كجنة عبقر
وقال الليث : وفضت الإبل تفض وفضا ؛ وأوفضها صاحبها. فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم. يقال : وفض وأوفض واستوفض بمعنى أسرع.
الآية : [44] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
قوله تعالى : {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة خاضعة ، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم الهوان. قال قتادة : هو سواد الوجوه. والرهق : الغشيان ؛ ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه "بالكسر" يرهقه رهقا أي غشيه ؛ ومنه قوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لأن ما وعد الله به يكون ولا محالة.
سورة نوح
مكية ، وهي ثمان وعشرون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قد مضى القول في "الأعراف" أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض" . فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب : كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس : ابن أربعين سنة. وقال عبدالله بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة "العنكبوت" القول فيه. والحمد لله. {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} أي بأن أنذر قومك ؛ فموضع "أن" نصب بإسقاط الخافض. وقيل : موضعها جر لقوة خدمتها مع "أن" . ويجوز "أن" بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الإعراب ؛ لأن في الإرسال معنى الأمر ، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبدالله {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} بغير "أن" بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول "البقرة" . {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النار في الآخرة. وقال الكلبي : هو ما نزل عليهم من الطوفان. وقيل : أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى
منهم مجيبا ؛ وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول "رَبِّ اغْفِرْ لقومي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ" . وقد مضى هذا مستوفى في سورة "العنكبوت" والحمد لله.
الآية : [2] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
الآية : [3] {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}
الآية : [4] {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} أي مخوف. {مُبِينٌ} أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} و "أن" المفسرة على ما تقدم في {أَنْ أَنْذِرْ} "اعْبُدُوا" أي وحدوا. واتقوا : خافوا. {وَأَطِيعُونِ} أي فيما آمركم به ، فإني رسول الله إليكم. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} جزم { يَغْفِرْ } بجواب الأمر. و "من" صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم ، قاله السدي. وقيل : لا يصح كونها زائدة ؛ لأن "مِنْ" لا تزاد في الواجب ، وإنما هي هنا للتبعيض ، وهو بعض الذنوب ، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين. وقيل : هي لبيان الجنس. وفيه بعد ، إذ لم يتقدم جنس يليق به. وقال زيد بن أسلم : المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال ابن عباس : أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم ، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب. وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية ؛ فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات "الشدائد إلى آجالكم. وقال : الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل : {أَجَلٍ مُسَمّىً } عندكم تعرفونه ، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا ؛ ذكره الفراء. وعلى القول الأول {أَجَلٍ مُسَمّىً } عند الله. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل"
إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم ، كقوله تعالى : {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} لأنه مضروب لهم. "لو" بمعنى "إن" أي إن كنتم تعلمون. وقال الحسن : معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.
الآية : [5] {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً}
الآية : [6] {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً}
قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} أي سرا وجهرا. وقيل : أي واصلت الدعاء. {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلاَّ فِرَاراً} أي تباعدا من الإيمان. وقراءة العامة بفتح الياء من "دعائي" وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.
الآية : [7] { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً}
قوله تعالى : {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} أي إلى سبب المغفرة ، وهي الإيمان بك والطاعة لك. {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا دعائي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه. وقال ابن عباس : جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت أو ليعرفوه إعراضهم عنه. وقيل : هو كناية عن العداوة. يقال : لبس لي فلان ثياب العداوة. {وَأَصَرُّوا} أي على الكفر فلم يتوبوا. {وَاسْتَكْبَرُوا} عن قبول الحق ؛ لأنهم قالوا : {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} {اسْتِكْبَاراً} تفخيم.
الآية : [8] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً}
الآية : [9] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً}
قوله تعالى : {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب بـ "ـدعوتهم" نصب المصدر ؛ لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار ، فنصب به نصب القرفصاء بقعد ؛ لكونها أحد أنواع القعود ، أو لأنه أراد بـ {دَعَوْتُهُمْ } جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا ؛ أي دعاء جهارا ؛ أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال ؛ أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي لم أبق مجهودا. وقال مجاهد : معنى أعلنت : صحت ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} بالدعاء عن بعضهم من بعض. وقيل : { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ} أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم ، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من {إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.
الآية : [10] { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}
الآية : [11] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً}
الآية : [12] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الإيمان. {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الاستغفار ممحاة للذنوب" . وقال الفضيل : يقول العبد أستغفر الله ؛ وتفسيرها أقلني.
الثانية- {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} أي يرسل ماء السماء ؛ ففيه إضمار. وقيل : السماء المطر ؛ أي يرسل المطر. قال الشاعر :
إذا سقط السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
و {مِدْرَاراً } ذا غيث كثير. وجزم "يُرْسِلِ" جوابا للأمر. وقال مقاتل : لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ؛ فهلكت مواشيهم وزروعهم ، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الإيمان : {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} . قال قتادة : علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال : "هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة" .
الثالثة- في هذه الآية والتي في "هود" دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع ، فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت ؟ فقال : لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ؛ ثم قرأ : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} . وقال الأوزاعي : خرج الناس يستسقون ، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : اللهم إنا سمعناك تقول : {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وقد أقررنا بالإساءة ، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا ؟ ! اللهم اغفر لنا وأرحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقال ابن صبيح : شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له : استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له : استغفر الله. وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا ؛ فقال له : استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه ؛ فقال له : استغفر الله. فقلنا له في ذلك ؟ فقال : ما قلت من عندي شيئا ؛ إن الله تعالى يقول في سورة "نوح" : اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً.
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً. وقد مضى في سورة "آل عمران" كيفية الاستغفار ، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.
الآية : [13] {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}
الآية : [14] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}
قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ؛ أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله. وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا. وقال الوالبي والعوفي عنه : مالكم لا تعلمون لله عظمة. وقال ابن عباس أيضا ومجاهد : مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك : مالكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب : هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج : لم أبال. والوقار : العظمة. والتوقير : التعظيم. وقال قتادة : مالكم لا ترجون لله عاقبة ؛ كأن المعنى مالكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان. وقال ابن كيسان : مالكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا. وقال ابن زيد : مالكم لا تؤدون لله طاعة. وقال الحسن : مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة. وقيل : مالكم لا توحدون الله ؛ لأن من عظمه فقد وحده. وقيل : إن الوقار الثبات لله عز وجل ؛ ومنه قوله تعالى : {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي اثبتن. ومعناه مالكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه ؛ قال ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال : {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس : {أَطْوَاراً} يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة ؛ أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق ، كما ذكر في سورة "المؤمنون" . والطور في اللغة : المرة ؛ أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه. وقيل : "أطوارا" صبيانا ، ثم شبابا ، ثم شيوخا وضعفاء ، ثم أقوياء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #6  
قديم 13-07-2025, 05:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ نوح
من صــ 304الى صــ314
الحلقة (725)






وقيل : أطوارا أي أنواعا : صحيحا وسقيما ، وبصيرا وضريرا ، وغنيا وفقيرا. وقيل : إن "أطوارا" أختلافهم في الأخلاق والأفعال.
الآية : [15] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً}
الآية : [16] {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ذكر لهم دليلا آخر ؛ أي ألم تعلموا أن الذي قدر على هذا ، فهو الذي يجب أن يعبد ومعنى "طِبَاقاً" بعضها فوق بعض ، كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب ؛ قاله ابن عباس والسدي. وقال الحسن : خلق الله سبع سموات طباقا على سبع أرضين ، بين كل أرض وأرض ، وسماء وسماء خلق وأمر. وقوله : { أَلَمْ تَرَوْا } على جهة الإخبار لا المعاينة ؛ كما تقول : ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا. و {طِبَاقاً} نصب على أنه مصدر ؛ أي مطابقة طباقا. أو حال بمعنى ذات طباق ؛ فحذف ذات وأقام طباقا مقامه. {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} أي في سماء الدنيا ؛ كما يقال : أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم ؛ قاله الأخفش. قال ابن كيسان : إذا كان في إحداهن فهو فيهن. وقال قطرب : { فِيهِنَّ } بمعنى معهن ؛ وقاله الكلبي. أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض. وقال جلة أهل اللغة في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان أخر عهده ... ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
"في" بمعنى مع. النحاس : وسألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية فقال : جواب النحويين أنه إذا جعله في إحداهن فقد جعله فيهن ؛ كما تقول : أعطني الثياب المعلمة وإن كنت إنما أعلمت أحدها. وجواب آخر : أنه يروى أن وجه القمر إلى السماء ، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسموات ، ومعنى {نُوراً} أي لأهل الأرض ؛ قاله السدي.
وقال عطاء : نورا لأهل السماء والأرض. وقال ابن عباس وابن عمر : وجهه يضيء لأهل الأرض وظهره يضيء لأهل السماء. {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} يعني مصباحا لأهل الأرض ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم. وفي إضاءتها لأهل السماء القولان الأولان حكاه الماوردي. وحكى القشيري عن ابن عباس أن الشمس وجهها في السموات وقفاها في الأرض. وقيل : على العكس. وقيل لعبدالله بن عمر : ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا ؟ فقال : إنها في الصيف في السماء الرابعة ، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن ؛ ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء.
الآية : [17] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً}
الآية : [18] {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً}
يعني آدم عليه السلام خلقه من أديم الأرض كلها ؛ قاله ابن جريج. وقد مضى في سورة "الأنعام والبقرة" بيان ذلك. وقال خالد بن معدان : خلق الإنسان من طين ؛ فإنما تلين القلوب في الشتاء. و { نَبَاتاً} مصدر على غير المصدر ؛ لأن مصدره أنبت إنباتا ، فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر. وقد مضى بيانه في سورة "آل عمران" وغيرها. وقيل : هو مصدر محمول على المعنى ؛ لأن معنى : {أَنْبَتَكُمْ } جعلكم تنبتون نباتا ؛ قال الخليل والزجاج. وقيل : أي أنبت لكم من الأرض النبات. فـ { نَبَاتاً } على هذا نصب على المصدر الصريح. والأول أظهر. وقال ابن جريج : أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} أي عند موتكم بالدفن. {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} بالنشور للبعث يوم القيامة.
الآية : [19] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً }
الآية : [20] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً}
قوله تعالى : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً} أي مبسوطة. {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} السبل : الطرق. والفجاج جمع فج ، وهو الطريق الواسعة ؛ قاله الفراء. وقيل : الفج المسلك بين الجبلين. وقد مضى في سورتي "الأنبياء والحج" .
الآية : [21] {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً}
شكاهم إلى الله تعالى ، وأنهم عصوه ولم يتبعوه فيما أمرهم به من الإيمان. وقال أهل التفسير : لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم. قال ابن عباس : رجا نوح عليه السلام الأبناء بعد الآباء ؛ فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا. قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين ؛ حكاه الماوردي. {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} يعني كبراءهم وأغنياءهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا في الدنيا وهلاكا في الآخرة. وقرأ أهل المدنية والشام وعاصم "وولده" بفتح الواو واللام. الباقون "ولده" بضم الواو وسكون اللام وهي لغة في الولد. ويجوز أن يكون جمعا للولد ، كالفلك فإنه واحد وجمع. وقد تقدم.
الآية : [22] {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً}
أي كبيرا عظيما. يقال : كبير وكبار وكبار ، مثل عجيب وعجاب وعجاب بمعنى ، ومثله طويل وطوال وطوال. يقال : رجل حسن وحسان ، وجميل وجمال ، وقراء للقارئ ، ووضاء للوضيء. وأنشد ابن السكيت :
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القُرّاء
وقال آخر :
والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء
وقال المبرد : {كُبَّاراً } "بالتشديد" للمبالغة. وقرأ ابن محيصن وحميد ومجاهد "كبارا" بالتخفيف. واختلف في مكرهم ما هو ؟ فقيل : تحريشهم سفلتهم على قتل نوح. وقيل : هو تعزيرهم الناس بما أوتوا من الدنيا والولد ؛ حتى قالت الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم. وقال الكلبي : هو ما جحلوه لله من الصاحبة والولد. وقيل : مكرهم كفرهم. وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} .
الآية : [23] {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}
الآية : [24] {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالاً}
قال ابن عباس وغيره : هي أصنام وصور ، كان قوم نوح يعبدونها ثم عبدتها العرب وهذا قول الجمهور. وقيل : إنها للعرب لم يعبدها غيرهم. وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ؛ فلذلك خصوها بالذكر بعد قوله تعالى : {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ويكون معنى الكلام كما قال قوم نوح لأتباعهم : {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} قالت العرب لأولادهم وقومهم : لا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا ؛ ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح عليه السلام. وعلى القول الأول ، الكلام كله منسوق في قوم نوح. وقال عروة بن الزبير وغيره : اشتكى آدم عليه السلام وعنده بنوه : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر. وكان ود أكبرهم وأبرهم به. قال محمد بن كعب : كان لآدم عليه السلام خمس بنين : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ؛ وكانوا عبادا فمات واحد منهم فحزنوا عليه ؛ فقال الشيطان : أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه. قالوا : أفعل. فصوره في المسجد من صفر ورصاص. ثم مات آخر ،
فصوره حتى ماتوا كلهم فصورهم. وتنقصت الأشياء كما تتنقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين. فقال لهم الشيطان : مالكم لا تعبدون شيئا ؟ قالوا : وما نعبد ؟ قال : آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترون في مصلاكم. فعبدوها من دون الله ؛ حتى بعث الله نوحا فقالوا : {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} الآية. وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس : بل كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم تبع يقتدون بهم ، فلما ماتوا زين لهم إبليس أن يصوروا صورهم ليتذكروا بها اجتهادهم ، وليتسلوا بالنظر إليها ؛ فصورهم. فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت شعرنا هذه الصور ما كان آباؤنا يصنعون بها ؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر. فعبدوها فابتدئ عبادة الأوثان من ذلك الوقت.
قلت : وبهذا المعنى فسر ما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة تسمى مارية ، فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" . وذكر الثعلبي عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين من قوم نوح ؛ فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم تذكروهم بها ؛ ففعلوا ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت من دون الله. وذكر أيضا عن ابن عباس : أن نوحا عليه السلام ، كان يحرس جسد آدم عليه السلام على جبل بالهند ، فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره ؛ فقال لهم الشيطان : إن هؤلاء يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم ، وإنما هو جسد ، وأنا أصور لكم مثله تطوفون به ؛ فصور لهم هذه الأصنام الخمسة وحملهم على عبادتها. فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء ؛ فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. قال الماوردي : فأما ود
فهو أول صنم معبود ، سمي ودا لودهم له ؛ وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل ؛ في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل. وفيه يقول شاعرهم :
حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو ... النساء وإن الدين قد عزما
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر ؛ في قولهم.
وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجوف من سبأ ؛ في قول قتادة. وقال المهدوي. لمراد ثم لغطفان. الثعلبي : وأخذت أعلى وأنعم - وهما من طيء - وأهل جرش من مذحج يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثم إن بني ناجية أرادوا نزعه من أعلى وأنعم ، ففروا به إلى الحصين أخي بن الحارث بن كعب من خزاعة. وقال أبو عثمان النهدي : رأيت يغوث وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أحرد ، ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ؛ فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.
وأما يعوق فكان لهمدان ببلخع ؛ في قول عكرمة وقتادة وعطاء. ذكره الماوردي. وقال الثعلبي : وأما يعوق فكان لكهلان من سبأ ، ثم توارثه بنوه ؛ الأكبر فالأكبر حتى صار إلى همدان. وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني :
يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش
وأما نسر فكان لذي الكلاع من حمير ؛ في قول قتادة ، ونحوه عن مقاتل. وقال الواقدي : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر من الطير ؛ فالله أعلم. وقرأ نافع {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً } بضم الواو. وفتحها الباقون. قال الليث : ود "بفتح الواو" صنم كان لقوم نوح.
وود "بالضم" صنم لقريش ؛ وبه سمي عمرو بن ود. وفي الصحاح : والود "بالفتح" الوتد في لغة أهل ، نجد ؛ كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرئ القيس :
تظهر الود إذا ما أشجذت ... وتواريه إذا ما تعتكر
قال ابن دريد : هو اسم جبل : وود صنم كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لكلب وكان بدومة الجندل ؛ ومنه سموه عبد ود وقال : {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ثم قال : {وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الآية. خصها بالذكر ؛ لقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} . {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} هذا من قول نوح ؛ أي أضل كبراؤهم كثيرا من أتباعهم ؛ فهو عطف على قوله : {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} . وقيل : إن الأصنام {أَضَلُّوا كَثِيراً} أي ضل بسببها كثير ؛ نظيره قول إبراهيم : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} فأجرى عليهم وصف ما يعقل ؛ لاعتقاد الكفار فيهم ذلك. {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} أي عذابا ؛ قاله ابن بحر. واستشهد بقوله تعالى : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} وقيل إلا خسرانا. وقيل إلا فتنة بالمال والولد. وهو محتمل.
الآية : [25] {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً}
قوله تعالى : {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} "ما" صلة مؤكدة ؛ والمعنى من خطاياهم وقال الفراء : المعنى من أجل خطاياهم ؛ فأدت "ما" هذا المعنى. قال : و "ما" تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو "خَطَايَاهُمْ" على جمع التكسير ؛ الواحدة خطية. وكان
الأصل في الجمع خطائي على فعائل ؛ فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء ، لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل ، وهو معتل مع ذلك ؛ فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون "خَطِيئَاتِهِمْ" على جمع السلامة. قال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات ؛ يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات. وقال قوم : خطايا وخطيات واحد ؛ جمعان مستعملان في الكثرة والقلة ؛ واستدلوا بقوله تعالى : {مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} وقال الشاعر :
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وقرئ {خطيئاتهم} و {خطيّاتِهم} بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو بن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي "خطيئتهم" على التوحيد ، والمراد الشرك. {فَأُدْخِلُوا نَاراً} أي بعد إغراقهم. قال القشيري : وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ؛ كما قال تعالى : {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} . وقيل : أشاروا إلى ما في الخبر من قوله : "البحر نار في نار" . وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة ؛ كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال : أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري :
الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار
{لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} أي من يدفع عنهم العذاب.
الآية : [26] {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً}
الآية : [27] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً}
في أربع مسائل :
الأولى- دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه. وقال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه : {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ} فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ؛ وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم الأحزاب أهزمهم وزلزلهم" . وقيل : سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال : "احذر هذا فإنه يضلك" . فقال : يا أبت أنزلني ؛ فأنزله فرماه فشجه ؛ فحينئذ غضب ودعا عليهم. وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة. وقيل : بأربعين. قال قتادة : ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب. وقال الحسن وأبو العالية : لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم ؛ ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب ، ثم أهلكهم بالعذاب ؛ بدليل قوله تعالى : {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ}
الثانية- قال ابن العربي : "دعا نوح على الكافرين أجمعين ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة ، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما ؛ لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم" .
قلت : قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة البقرة ، والحمد لله.
الثالثة- قال ابن العربي : "إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة ؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان : أحدهما : أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة ؛ والشفاعة تكون عن رضا ورقة ، فخاف أن يعاتب ويقال : دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم. الثاني : أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك ؛ فخاف الدرك فيه يوم القيامة ؛ كما قال موسى عليه السلام :" إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها ". قال : وبهذا أقول" .
قلت : وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له : {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك ؛ كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال : "اللهم عليك بهم" لما أعلم عواقبهم ؛ وعلى هذا يكون فيه معنى الأم بالدعاء. والله أعلم.
الرابعة- قوله تعالى : {دَيَّاراً تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي من يسكن الديار ؛ قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور ؛ فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام ؛ أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا. وقال القتبي : أصله من الدار ؛ أي نازل بالدار. يقال : ما بالدار ديار ؛ أي أحد. وقيل : الديار صاحب الدار.
الآية : [28] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً}
قوله تعالى : {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما : لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش ؛ ذكره القشيري والثعلبي. وحكى الماوردي في اسم أمه منجل.
وقال سعيد بن جبير : أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير { َلِوَالِدَيَّ } بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون. وقال ابن عباس : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} أي مسجدي ومصلاي مصليا صدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالغفرة. وقد قال النبي. صلي الله عليه وسلم : "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم اغفر له اللهم أرحمه" الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس : "بيتي" مسجدي ؛ حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا : أي ولمن دخل ديني ؛ فالبيت بمعنى الدين ؛ حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا : يعني صديقي الداخل إلى منزلي ؛ حكاه الماوردي. وقيل : أراد داري. وقيل سفينتي. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عامة إلى يوم القيامة ؛ قال الضحاك. وقال الكلبي : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : من قومه ؛ والأول أظهر. {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} أي الكافرين. {إِلاَّ تَبَاراً} إلا هلاكا ؛ فهي عامة في كل كافر ومشرك. وقيل : أراد مشركي قومه. والتبار : الهلاك. وقيل : الخسران ؛ حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى : {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} . وقيل : التبار الدمار ؛ والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #7  
قديم 13-07-2025, 05:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الجن
من صــ 1الى صــ10
الحلقة (726)






المجلد التاسع عشر
سورة الجن
سورة الجن
مكية في قول الجميع. وهي ثمان وعشرون آية
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً}

2-
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}

3-
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً}

فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أي قل يا محمد لأمتك : أوحى الله إلي على لسان جبريل {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} إلي {نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة "أحِيَ" على الأصل ؛ يقال أوحى إليه ووحى ، فقلبت الواو همزة ، ومنه قوله تعالى : {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة وإعاء أخيه ونحوه.
الثانية : واختلف هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم ؛ لقوله تعالى : {اسْتَمَعَ} ، وقوله تعالى : {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} . وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال : "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم"
على الجن وما رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ؛ فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب! قالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ؛ فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} : رواه الترمذي عن ابن عباس قال : "قول الجن لقومهم : {لمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} قال : لما رأوه يصلي وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال : تعجبوا من طواعية أصحابه له ، قالوا لقومهم : {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} . قال :" هذا حديث حسن صحيح "؛ ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه ، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا."
وقيل لهم شياطين كما قال : {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله. وفي الترمذي عن ابن عباس قال : "كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيها ، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم إبليس : ما هذا الأمر إلا من أمر قد حدث في الأرض!"
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بين جبلين - أراه قال بمكة - فأتوه فأخبروه فقال : هذا الحديث الذي حدث في الأرض ". قال :" هذا حديث حسن صحيح ". فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين. وفي رواية السدي : أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال : إيتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن" ، قيل : كانوا سبعة. وقيل : تسعة منهم زوبعة. وروى عاصم عن زر قال : "قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثمالي : بلغني أنهم من بني الشيصبان ، وهم أكثر الجن عددا وأقواهم شوكة وهم عامة جنود إبليس" وروى أيضا عاصم عن زر : "أنهم كانوا سبعة نفر ؛ ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين" . وحكى جويبر عن الضحاك : "أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين (قرية باليمن غير التي بالعراق) " . وقيل : "إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جن نينوى" . وقد مضى بيان هذا في سورة (الأحقاف) . قال عكرمة : "والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وقد مضى في سورة" الأحقاف "التعريف باسم النفر من الجن ، فلا معنى لإعادة ذلك."
وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت ؛ روى عامر الشعبي قال : "سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه ، فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا استطير أو اغتيل ، قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبح إذا هو يجيء من قبل حراء ، فقلنا : يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ؛ فقال :" أتاني داعي الجن فذهبت معه
فقرأت عليهم القرآن "فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة ، فقال :" لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما ، فإنهما طعام إخوانكم الجن "قال ابن العربي :" وابن مسعود أعرف من ابن عباس ؛ لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة ". وقد قيل :" إن الجن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعتين : إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس ". قال البيهقي :" الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود "قال البيهقي :" والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم ". قال : وقد روي من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ ، وقد مضى هذا المعنى في سورة" الأحقاف "والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي ؟ "فسكتوا ، ثم قال الثانية ، ثم قال الثالثة ، ثم قال عبدالله بن مسعود : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال :" لا تجاوزه "ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم ، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها ، حتى غشوه فلا أراه ، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس ، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم ، فلما انفتل إلي قال :" أردت أن تأتيني "؟ قلت : نعم يا رسول الله. قال :" ما كان ذلك لك ، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن ، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر "."
قال عكرمة : وكانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل. وفي رواية : انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا ، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكأن وجوههم المكاكي ، فقالوا : ما أنت ؟ قال : "أنا نبي الله" قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ؟ قال : "هذه الشجرة" فقال : "يا شجرة" فجاءت تجر عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : "على ماذا تشهدين" قالت : أشهد أنك رسول الله. فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة ، لها قعاقع حتى عادت كما كانت.
ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال : "هل من وضوء" قال : لا ، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال : "هل هو إلا تمر وماء" فتوضأ منه.
الثالثة : قد مضى الكلام في الماء في سورة "الحجر" وما يستنجى به في سورة "براءة" فلا معنى للإعادة.
الرابعة : واختلف أهل العلم ، في أصل الجن ؛ فروى إسماعيل عن الحسن البصري : أن الجن ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله ، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس : أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين ، وهم يؤمنون ؛ ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة ، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان : أحدهما : وهو قول الحسن يدخلونها. الثاني : وهو رواية مجاهد
لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة "الرحمن" عند قوله تعالى : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} بيان أنهم يدخلونها.
الخامسة : قال البيهقي في روايته : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال : "لكم كل عظم" دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ؛ اجتراء على الله وافتراء ، والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد سبحانه ، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات ؛ ففي الموطأ : أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث ، وفيه : فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث. وفي الصحيح أنه عليه السلام قال : "إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر" . وقال : "اذهبوا فادفنوا صاحبكم" وقد مضى هذا المعنى في سورة "البقرة" وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة ؛ لقوله في الصحيح : "إن بالمدينة جنا قد أسلموا" . وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا : هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها ؛ لأنه لم يعلل بحرمة المدينة ، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها ، وإنما علل بالإسلام ، وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقي : "وكانوا من جن الجزيرة" ؛ وهذا بين يعضده قوله : "ونهى عن عوامر البيوت" وهذا عام. وقد مضى في سورة (البقرة) القول في هذا فلا معنى للإعادة.
قوله تعالى : {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} أي في فصاحة كلامه. وقيل : عجبا في بلاغة مواعظه. وقيل : عجبا في عظم بركته. وقيل : قرآنا عزيزا لا يوجد مثله. وقيل : يعنون عظيما. {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أي إلى مراشد الأمور. وقيل : إلى معرفة الله تعالى ؛ و {يَهْدِي} في موضع الصفة أي هاديا. {َآمَنَّا بِه} أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ؛ لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر ، ثم رمي الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر ؛ لأنه المتفرد بالربوبية. وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى : {اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} أي استمعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط ؛ قال الخليل : ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي {يَهْدِي إِلَى الرَّشَدِ} بفتح الراء والشين.
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي ينصبون {أن} في جميع السورة في اثني عشر موضعا ، وهو : {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّا} ، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} ، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} ، {وَأَنَّا لا نَدْرِي} ، {وأنا منا الصالحون} ، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} ، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} ، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُون} عطفا على قوله : {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} ، {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} لا يجوز فيه إلا الفتح ؛ لأنها في موضع اسم فاعل {أُوحِيَ} فما بعده معطوف عليه. وقيل : هو محمول على الهاء في {آمَنَّا بِهِ} ، أي و "بأنه تعالى جد ربنا" وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع "أن" . وقيل : المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله : {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا} لأنه كله من كلام الجن. وأما أبو جعفر
وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع ؛ وهي قوله تعالى : {وأنه تعالى جد ربنا} ، {وأنه كان يقول} ، {وأنه كان رجال} ، قالا : لأنه من الوحي ، وكسرا ما بقي ؛ لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى : {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم ، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة "أنه استمع نفر من الجن" ، "وأن لو استقاموا" "وأن المساجد لله" ، "وأن قد أبلغوا" . وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول ؛ نحو قوله تعالى : {فقالوا إنا سمعنا} و {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} و {قُلْ إِنْ أَدْرِي} . و {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ} . وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء ؛ نحو قوله تعالى : {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} و {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} لأنه موضع ابتداء.
قوله تعالى : {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} الجد في اللغة : العظمة والجلال ؛ ومنه قول أنس : "كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا ؛ أي عظم وجل" فمعنى : {جَدُّ رَبِّنَا} أي عظمته وجلاله ؛ قال عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا : ذكره. وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا : غناه. ومنه قيل للحظ جد ، ورجل مجدود أي محظوظ ؛ وفي الحديث : "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" قال أبو عبيدة والخليل : أي ذا الغنى ، منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس : قدرته. الضحاك : فعله. وقال القرظي والضحاك أيضا : آلاؤه ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة والأخفش ملكه وسلطانه. وقال السدي : أمره. وقال سعيد بن جبير : {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أي تعالى ربنا. وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب ، ويكون هذا من قول الجن. وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد ، وإنما قالته الجن للجهالة ، فلم يؤاخذوا به. وقال القشيري : ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى ؛ إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة "جد" بكسر الجيم : على ضد الهزل. وكذلك
قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب "جدا ربنا" ، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا "جد" بالتنوين "ربنا" بالرفع على أنه مرفوع ، "بتعالى" ، و "جدا" منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا "جد" بالتنوين والرفع "ربنا" بالرفع على تقدير : تعالى جد جد ربنا ؛ فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية : وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستئناس بهما والحاجة إليهما ، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.
4-
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} .

5-
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .

6-
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .

7-
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً}

قوله تعالى : {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} الهاء في "أنه" للأمر أو الحديث ، وفي "كان" اسمها ، وما بعدها الخبر. ويجوز أن تكون "كان" زائدة. والسفيه هنا إبليس في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل : المشركون من الجن : قال قتادة : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس. والشطط والاشتطاط : الغلو في الكفر. وقال أبو مالك : هو الجور. الكلبي : هو الكذب. وأصله العبد فيعبر به عن الجور لبعده عن العدل ، وعن الكذب لبعده عن الصدق ؛ قال الشاعر :
بأيه حال حكموا فيك فاشتطوا ... وما ذاك إلا حيث يممك الوخط
قوله تعالى : {وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي حسبنا {أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا ، حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق. وقرأ يعقوب
والجحدري وابن أبي إسحاق "أن لن تقول" . وقيل : انقطع الإخبار عن الجن ها هنا فقال الله تعالى : {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ} فمن فتح وجعله من قول الجن ردها إلى قوله : "أنه استمع" ، ومن كسر جعلها مبتدأ من قول الله تعالى. والمراد به ما كانوا يفعلونه من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ؛ فيبيت في جواره حتى يصبح ؛ قال الحسن وابن زيد وغيرهما. قال مقاتل : "كان أول من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم" . وقال كردم بن أبي السائب : "خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي ،" أنا "جارك. فنادى مناد يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد" . وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي زاد الجن الإنس "رهقا" أي خطيئة وإثما ؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرهق : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ؛ ورجل رهق إذا كان كذلك ؛ ومنه قوله تعالى : {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وقال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
يعني إثما. وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها. وقال مجاهد أيضا : "فزادوهم" أي إن الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن. وقال قتادة أيضا وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن. وقال سعيد بن جبير : كفرا. ولا خفاء أن الاستعاذة بالجن دون الاستعاذة بالله كفر وشرك. وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجن ؛ فالمعنى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #8  
قديم 13-07-2025, 05:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الجن
من صــ 11الى صــ20
الحلقة (727)






برجال من الإنس ، وكان الرجل من الإنس يقول مثلا : أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي. قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجال على الجن.
قوله تعالى : {وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا} هذا من قول الله تعالى للإنس أي وأن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم. الكلبي : المعنى : ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة عليهم. وكل هذا توكيد للحجة على قريش ؛ أي إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد ، فأنتم أحق بذلك.
8-
{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} .

9-
{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} .

10-
{وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}

قوله تعالى : {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} هذا من قول الجن ؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا {فَوَجَدْنَاهَا} قد {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} أي حفظة ، يعني الملائكة. والحرس : جمع حارس {وَشُهُباً} جمع شهاب ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع. وقد مضى القول فيه في سورة "الحجر" "والصافات" . و "وجد" يجوز أن يقدر متعديا إلى مفعولين ، فالأول الهاء والألف ، و "ملئت" في موضع المفعول الثاني. ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون "ملئت" في موضع الحال على إضمار قد. و "حرسا" نصب على المفعول الثاني "بملئت" . و "شديدا" من نعت الحرس ، أي ملئت ملائكة شدادا.
ووحد الشديد على لفظ الحرس ؛ وهو كما يقال : السلف الصالح بمعنى الصالحين ، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس ؛ قال :
"تجاوزت أحراسا وأهوال معشر"
ويجوز أن يكون "حرسا" مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة.
قوله تعالى : {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} "منها" أي من السماء ، و "مقاعد" : مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ؛ يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه ، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذ : {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} يعني بالشهاب : الكوكب المحرق ؛ وقد تقدم بيان ذلك. ويقال : لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته. واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث ، أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الكلبي وقال قوم : لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه : خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها ، وحرست بالملائكة والشهب.
قلت : ورواه عطية العوفي عن ابن عباس ؛ ذكره البيهقي. وقال عبدالله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشياطين ، ورموا بالشهب ، وقال عبدالملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ، ورميت الشياطين بالشهب ،
ومنعت عن الدنو من السماء. وقال نافع بن جبير : "كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب" . ونحوه عن أبي بن كعب قال : "لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها" . وقيل : كان ذلك قبل المبعث ، وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذارا بحاله ؛ وهو معنى قوله تعالى : "ملئت" أي زيد في حرسها ؛ وقال أوس بن حجر وهو جاهلي :
فانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا
وهذا قول الأكثرين. وقد أنكر الجاحظ هذا البيت وقال : كل شعر روي فيه فهو مصنوع ، وأن الرمي لم يكن قبل المبعث. والقول بالرمي أصح ؛ لقوله تعالى : {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} . وهذا إخبار عن الجن ، أنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت منها ومنهم ؛ ولما روي عن ابن عباس قال : "بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم ؛ فقال :" ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية "؟ قالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا سبحانه وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء ، حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه ، فتتخطف الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه ". وهذا يدل على أن الرجم كان قبل المبعث. وروى الزهري نحوه عن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب عن ابن عباس. وفي آخره قيل للزهري : أكان يرمى في الجاهلية ؟ قال : نعم. قلت : أفرأيت قوله سبحانه : {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. ونحوه قال القتبي. قال ابن قتيبة : كان ولكن اشتدت الحراسة بعد المبعث ؛ وكانوا من قبل يسترقون ويرمون في بعض الأحوال ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعت من ذلك أصلا. وقد تقدم بيان هذا في سورة" الصافات ""
عند قوله : {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} قال الحافظ : فلو قال قائل : كيف تتعرض الجن لإحراق نفسها بسبب استماع خبر ، بعد أن صار ذلك معلوما لهم ؟ فالجواب : أن الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة ، كما ينسي إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله تعالى قال له : {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ولولا هذا لما تحقق التكليف. والرصد : قيل من الملائكة ؛ أي ورصدا من الملائكة.
والرصد : الحافظ للشيء والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس ، والواحد : راصد. وقيل : الرصد هو الشهاب ، أي شهابا قد أرصد له ، ليرجم به ؛ فهو فعل بمعنى مفعول كالخبط والنفض.
قوله تعالى : {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي هذا الحرس الذي حرست بهم السماء {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي خيرا. قال ابن زيد. قال إبليس لا ندري ، هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل : هو من قول الجن فيما بينهم قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم. أي لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد إليهم ، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا ؛ فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ؛ وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل : لا ؛ بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين ؛ أي لما آمنوا أشفقوا ألا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا : إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون ؟
11-
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} .

12-
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} .

قوله تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} هذا من قول الجن ، أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون. وقيل : "ومنا دون ذلك" أي ومن دون الصالحين في الصلاح ، وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك . {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} أي فرقا شتى ؛ قاله السدي. الضحاك : أديانا مختلفة. قتادة : أهواء متباينة ؛ ومنه قول الشاعر :
القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين : منهم كفار ، ومنهم مؤمنون صلحاء ، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس. وقال السدي في قوله تعالى : {طَرَائِقَ قِدَداً} قال : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة ، وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية. وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون : منا المؤمنون ومنا الكافرون. أي ومنا الصالحون ومنا مؤمنون لم يتناهوا في الصلاح. والأول أحسن ؛ لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة ، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان. وأيضا لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر. والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل ، أي كنا فرقا مختلفة. ويقال : القوم طرائق أي على مذاهب شتى. والقدد : نحو من الطرائق وهو توكيد لها ، واحدها : قدة. يقال : لكل طريق قدة ، وأصلها من قد السيور ، وهو قطعها ؛ قال لبيد يرثي أخاه أربد :
لم تبلغ العين كل نهمتها ... ليلة تمسي الجياد كالقدد
وقال آخر :
ولقد قلت وزيد حاسر ... يوم ولت خيل عمرو قددا
والقد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ ؛ ويقال : ماله قد ولا قحف ؛ فالقد : إناء من جلد ، والقحف : من خشب.
قوله تعالى : {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} الظن هنا بمعنى العلم واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا } أي علمنا بالاستدلال والتفكر في آيات الله ، أنا في قبضته وسلطانه ، لن نفوته بهرب ولا غيره. و "هربا" مصدر في موضع الحال أي هاربين.
13-
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} .

14-
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} .

15-
{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} .

قوله تعالى : {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} يعني القرآن {آمَنَّا بِهِ} وبالله ، وصدقنا محمدا صلى الله عليه وسلم على رسالته. وكان صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الإنس والجن. قال الحسن : "بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن ، ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن ، ولا من أهل البادية ، ولا من النساء ؛ وذلك قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} وقد تقدم هذا المعنى. وفي الصحيح :" وبعثت إلى الأحمر والأسود "أي الإنس والجن."
قوله تعالى : {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} قال ابن عباس : "لا يخاف"
أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته ؛ لأن البخس النقصان ""
والرهق : العدوان وغشيان المحارم ؛ قال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقا
الوامق : المحب ؛ وقد وَمِقَه يمِقه بالكسر أي أحبه ، فهو وامق. وهذا قول حكاه الله تعالى عن الجن ؛ لقوة إيمانهم وصحة إسلامهم. وقراءة العامة "فلا يخاف" رفعا على تقدير فإنه لا يخاف. وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم "فلا يخف" جزما على جواب الشرط وإلغاء الفاء.
قوله تعالى : {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} أي وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر. والقاسط : الجائر ، لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل ؛ لأنه عادل إلى الحق ؛ يقال : قسط : أي جار ، وأقسط : إذا عدل ؛ قال الشاعر :
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان
{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ومنه تحرى القبلة {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} أي الجائرون عن طريق الحق والإيمان {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي وقودا. وقوله : "فكانوا" أي في علم الله تعالى.
16-
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} .

17-
{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}

قوله تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} هذا من قول الله تعالى. أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق. وهذا محمول على الوحي ؛ أي أوحى إلي أن لو استقاموا. ذكر ابن بحر : كل ما في هذه السورة من "إن" المكسورة المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من
أن المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن الأنباري : ومن كسر الحروف وفتح "وأن لو استقاموا" أضمر يمينا تاما ، تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ؛ كما يقال في الكلام : والله أن قمت لقمت ، ووالله لو قمت قمت ؛ قال الشاعر :
أما والله أن لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها - أعني الخفيفة - على "أوحي إلي أنه" ، "وأن لو استقاموا" أو على "آمنا به" وبأن لو استقاموا. ويجوز لمن كسر الحروف كلها إلى "أن" المخففة ، أن يعطف المخففة على "أوحي إلي" أو على "آمنا به" ، ويستغني عن إضمار اليمين. وقراءة العامة بكسر الواو من "لو" لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن وثاب والأعمش بضم الواو. و {مَاءً غَدَقاً} أي واسعا كثيرا ، وكانوا قد حبس عنهم المطر سبع سنين ؛ يقال : غدقت العين تغدق ، فهي غدقة ، إذا كثر ماؤها. وقيل : المراد الخلق كلهم أي "لو استقاموا على الطريقة" طريقة الحق والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين "لأسقيناهم ماء غدقا" أي كثيرا {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم كيف شكرهم فيه على تلك النعم. وقال عمر في هذه الآية : "أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة. فمعنى" لأسقيناهم "لوسعنا عليهم في الدنيا" ؛ وضرب الماء الغدق الكثير لذلك مثلا ؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر يكون ، فأقيم مقامه ؛ كقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} وقوله تعالى : {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أي بالمطر. والله أعلم. وقال سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل وعطية وعبيد بن عمير والحسن : "كان والله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي ، ففتنوا بها ، فوثبوا على إمامهم فقتلوه" . يعني عثمان بن عفان.
وقال الكلبي وغيره : وَأًنْ
لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هم عليها من الكفر فكانوا كلهم كفارا لوسعنا أرزاقهم مكرا بهم واستدراجا لهم ، حتى يفتتنوا بها ، فنعذبهم بها في الدنيا والآخرة. وهذا قول قال الربيع بن أنس وزيد بن أسلم وابنه والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وأبو مجلز ؛ واستدلوا بقوله تعالى : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية. وقوله تعالى : {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} الآية ؛ والأول أشبه ؛ لأن الطريقة معرفة بالألف واللام ، فالأوجب أن تكون طريقته طريقة الهدى ؛ ولأن الاستقامة لا تكون إلا مع الهدى.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا" قالوا : وما زهرة الدنيا ؟ قال : "بركات الأرض" وذكر الحديث. وقال عليه السلام : "فوالله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنما أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" .
قوله تعالى : {مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} يعني القرآن ؛ قال ابن زيد. وفي إعراضه عنه وجهان : أحدهما عن القبول ، إن قيل إنها في أهل الكفر. الثاني عن العمل ، إن قيل إنها في المؤمنين. وقيل : {مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} أي لم يشكر نعمه "يسلكه عذابا صعدا" قرأ الكوفيون وعياش عن أبي عمرو "يسلكه" بالياء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لذكر اسم الله أولا فقال : {مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} . الباقون "نسلكه" بالنون. وروي عن مسلم بن جندب ضم النون وكسر اللام. وكذلك قرأ طلحة والأعرج وهما لغتان ، سلكه وأسلكه بمعنى ؛ أي ندخله. {عَذَاباً صَعَداً} أي شاقا شديدا. قال ابن عباس : هو جبل ، في جهنم. "أبو سعيد الخدري" : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس : أن المعنى مشقة من العذاب. وذلك معلوم في اللغة أن الصعد : المشقة ، تقول : تصعدني الأمر : إذا شق عليك ؛ ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ، أي ما شق علي.
وعذاب صعد أي شديد. والصعد : مصدر صعد ؛ يقال : صعد صعدا وصعودا ، فوصف به العذاب ؛ لأنه يتصعد المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. وقال أبو عبيدة : الصعد مصدر ؛ أي عذابا ذا صعد ، والمشي في الصعود يشق. والصعود : العقبة الكؤود. وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ؛ فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي : يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء ، يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ، ولا يبلغ في أربعين سنة. فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أيضا صعودها ، فذلك دأبه أبدا ، وهو قوله تعالى : {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} .
18-
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .

فيه ست مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} "أن" بالفتح ، قيل : هو مردود إلى قوله تعالى : {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أي قل أوحي إلي أن المساجد لله. وقال الخليل : أي ولأن المساجد لله. والمراد البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة. وقال سعيد بن جبير : قالت الجن كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} أي بنيت لذكر الله وطاعته. وقال الحسن : أراد بها كل البقاع ؛ لأن الأرض كلها مسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : "أينما كنتم فصلوا فأينما صليتم فهو مسجد" وفي الصحيح : "وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" .
وقال سعيد بن المسيب وطلق بن حبيب : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد ، وهي القدمان والركبتان واليدان والوجه ؛ يقول : هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك ، فلا تسجد لغيره بها ، فتجحد نعمة الله. قال عطاء : مساجدك : أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها. وفي الصحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم : الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين والركبتين وأطراف القدمين" . وقال العباس قال النبي صلى الله عليه وسلم :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #9  
قديم 13-07-2025, 05:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ الجن
من صــ 21الى صــ30
الحلقة (728)






"إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب" . وقيل : المساجد هي الصلوات ؛ أي لأن السجود لله. قاله الحسن أيضا. فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم ، ويقال بالفتح ؛ حكاه الفراء. وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجد بفتح الجيم. وقيل : هو جمع مسجد وهو السجود ، يقال : سجدت سجودا ومسجدا ، كما تقول : ضربت في الأرض ضربا ومضربا بالفتح : إذا سرت في ابتغاء الرزق. وقال ابن عباس : المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة المساجد ؛ لأن كل أحد يسجد إليها. والقول الأول أظهر هذه الأقوال إن شاء الله ، وهو مروى عن ابن عباس رحمه الله.
الثانية- قوله تعالى : "لله" إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذكر منها البيت العتيق فقال : {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} وقال عليه السلام : "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" الحديث خرجه الأئمة. وقد مضى الكلام فيه. وقال عليه السلام : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" . قال ابن العربي : وقد روى من طريق لا بأس بها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا" ولو صح هذا لكان نصا.
قلت : هو صحيح بنقل العدل عن العدل حسب ما بيناه في سورة "إبراهيم" .
الثالثة- المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنها قد تنسب إلى غيره تعريفا ؛ فيقال : مسجد فلان. وفي صحيح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء وأمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد
بني زريق. وتكون هذه الإضافة بحكم المحلية كأنها في قبلتهم ، وقد تكون بتحبيسهم ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.
الرابعة- مع أن المساجد لله لا يذكر فيها إلا الله فإنه تجوز القسمة فيها للأموال. ويجوز وضع الصدقات فيها على رسم الاشتراك بين المساكين وكل من جاء أكل. ويجوز حبس الغريم فيها ، وربط الأسير والنوم فيها ، وسكنى المريض فيها ، وفتح الباب للجار إليها ، وإنشاد الشعر فيها إذا عري عن الباطل. وقد مضى هذا كله مبينا في سورة "التوبة" . و "النور" وغيرهما.
الخامسة- قوله تعالى : {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام. وقال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول : فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد. وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله ، ولا تتخذوها هزوا ومتجرا ومجلسا ، ولا طرقا ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا. وفي الصحيح : "من نشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا" وقد مضى في سورة "النور" ما فيه كفاية من أحكام المساجد والحمد لله.
روى الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا دخل المسجد قدم رجله اليمنى. وقال : {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} اللهم أنا عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار "فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى ؛ وقال :" اللهم صب علي الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدا ، واجعل لي في الأرض جدا "أي غنى."
19-
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} .

20-
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .

21-
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}

قوله تعالى : {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} يجوز الفتح ؛ أي أوحى الله إليه أنه. ويجوز الكسر على الاستئناف. و "عبد الله" هنا محمد صلى الله عليه وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ، حسب ما تقدم أول السورة. "يدعوه" أي يعبده. وقال ابن جريج : {يَدْعُوهُ} أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى. {كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } قال الزبير بن العوام : هم الجن حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. أي كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما ويسقطون ، حرصا على سماع القرآن. وقيل : كادوا يركبونه حرصا ؛ قال الضحاك. ابن عباس : رغبة في سماع الذكر. وروى برد عن مكحول : أن الجن بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر. وعن ابن عباس أيضا : إن هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود. وقيل : المعنى كاد المشركون يركبون بعضهم بعضا ، حردا على النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني {أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، وأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره. واختار الطبري أن يكون المعنى : كادت العرب يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به. وقال مجاهد : قوله "لبدا" جماعات وهو من تلبد الشيء على الشيء أي تجمع ؛ ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه ، وكل شيء ألصقته إلصاقا شديدا
فقد لبدته ، وجمع اللبدة لبد مثل قربة وقرب. ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد لبدة وجمعها لبد ؛ قال زهير :
لدى أسد شاكي السلاح مقذف ... له لِبَد أظفاره لم تقلَّم
ويقال للجراد الكثير : لبد وفيه أربع لغات وقراءات ؛ فتح الباء وكسر اللام ، وهي قراءة العامة. وضم اللام وفتح الباء ، وهي قراءة مجاهد وابن محيصن وهشام عن أهل الشام ، واحدتها لبدة. وبضم اللام والباء ، وهي قراءة أبي حيوة ومحمد بن السميقع وأبي الأشهب العقيلي والجحدري واحدها لبد مثل سقف وسقف ورهن ورهن. وبضم اللام وشد الباء وفتحها ، وهي قراءة الحسن وأبي العالية والأعرج والجحدري أيضا واحدها لابد ؛ مثل راكع وركع ، وساجد وسجد. وقيل : اللبد بضم اللام وفتح الباء الشيء الدائم ؛ ومنه قيل لنسر لقمان لبد لدوامه وبقائه ؛ قال النابغة :
أخنى عليها الذي أخنى على لبد
القشيري : وقرئ "لبدا" بضم اللام والباء ، وهو جمع لبيد ، وهو الجولق الصغير. وفي الصحاح : "وقوله تعالى" {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} أي جما.
ويقال أيضا : الناس لبد أي مجتمعون ، واللبد أيضا الذي لا يسافر ولا يبرح [منزله] . قال الشاعر :
من امرئ ذي سماح لا تزال له ... بزلاء يعيا بها الجثامة اللبد
ويروى : اللبد. قال أبو عبيد : وهو أشبه.
والبزلاء : الرأي الجيد. وفلان نهاض ببزلاء : إذا كان ممن يقوم بالأمور العظام ؛ قال الشاعر :
إني إذا شغلت قوما فروجهم ... رحب المسالك نهاض ببزلاء
ولبد : آخر نسور لقمان ، وهو ينصرف ؛ لأنه ليس بمعدول. وتزعم العرب أن لقمان هو الذي بعثته عاد في وفدها إلى الحرم يستسقي لها ، فلما أهلكوا خير لقمان بين بقاء سبع بعرات سمر ، من أظب عفر ، في جبل وعر ، لا يمسها القطر ؛ أو بقاء سبعة أنسر كلما هلك نسر خلف بعده نسر ، فاختار النسور ، وكان آخر نسوره يسمى لبدا ، وقد ذكرته الشعراء ؛ قال النابغة :
أضحت خلاء وأمسى أهلها احتملو ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
واللبيد : الجوالق الصغير ؛ يقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد. ولبيد : اسم شاعر من بني عامر.
قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أي قال صلى الله عليه وسلم : "إنما أدعو ربي" {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} وكذا قرأ أكثر القراء "قال" على الخبر. وقرأ حمزة وعاصم "قل" على الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا له : إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك ؛ فنزلت. {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا. وقيل : "لا أملك لكم ضرا" أي كفرا "ولا رشدا" أي هدى ؛ أي إنما علي التبليغ. وقيل : الضر : العذاب ، والرشد النعيم. وهو الأول بعينه. وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة.
22-
{قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} .

23-
{ إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .

24-
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} .

25-
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} .

قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} أي لا يدفع عذابه عني أحد إن استحفظته ؛ وهذا لأنهم قالوا أترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك. وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود قال : انطلقت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط علي خطا ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه ، فقال سيد لهم يقال له وردان : أنا أزجلهم عنك ؛ فقال : {إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} ذكره الماوردي. قال : ويحتمل معنيين أحدهما لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد. الثاني لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد. {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي ملتجأ ألجأ إليه ؛ قال قتادة. وعنه : نصيرا ومولى. السدي : حرزا. الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب. وقيل : وليا ولا مولى. وقيل : مذهبا ولا مسلكا. حكاه ابن شجرة ، والمعنى واحد ؛ ومنه قول الشاعر :
يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد
قوله تعالى : {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} فإن فيه الأمان والنجاة ؛ قال الحسن.
وقال قتادة : {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ} فذلك الذي أملكه بتوفيق الله ، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. فعلى هذا يكون مردودا إلى قوله تعالى : {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي لا أملك لكم إلا أن أبلغكم. وقيل : هو استثناء ومنقطع من قوله : {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي إلا أن أبلغكم أي لكن أبلغكم ما أرسلت به ؛ قاله الفراء. وقال الزجاج : هو منصوب على البدل من قوله : {مُلْتَحَداً} أي {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} إلا أن أبلغ ما يأتيني من الله ورسالاته ؛ أي ومن رسالاته التي أمرني بتبليغها. أو إلا أن أبلغ عن الله وأعمل برسالته ، فآخذ نفسي بما أمر به غيري.
وقيل هو مصدر ، و "لا" بمعنى لم ، و "إن" للشرط. والمعنى لن أجد من دونه ملتحدا : أي إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا.
قوله تعالى : {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في التوحيد والعبادة. {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} كسرت إن ؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء وقد تقدم. {خَالِدِينَ فِيهَا} نصب على
الحال ، وجمع "خالدين" لأن المعنى لكل من فعل ذلك ، فوحد أولا للفظ "من" ثم جمع للمعنى. وقوله "أبدا" دليل على أن العصيان هنا هو الشرك. وقيل : هو المعاصي غير الشرك ، ويكون معنى {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} إلا أن أعفو أو تلحقهم شفاعة ، ولا محالة إذا خرجوا من الدنيا على الإيمان يلحقهم العفو. وقد مضى هذا المعنى مبينا في سورة "النساء" وغيرها.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} "حتى" هنا مبتدأ ، أي {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} من عذاب الآخرة ، أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل ببدر {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً} أهم أم المؤمنون. {وَأَقَلُّ عَدَداً} معطوف. {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني قيام الساعة. وقيل : عذاب الدنيا ؛ أي لا أدري "فإن" بمعنى "ما" أو "لا" ؛ أي لا يعرف وقت نزول العذاب ووقت قيام الساعة إلا الله ؛ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعرفنيه الله. و "ما" في قوله : "ما يوعدون" : يجوز [أن يكون مع الفعل مصدرا ، ويجوز] أن تكون بمعنى الذي ويقدر حرف العائد. {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} أي غاية وأجلا. وقرأ العامة بإسكان الياء من ربي. وقرأ الحرميان وأبو عمرو بالفتح.
26-
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} .

27-
{إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً}

فيه مسألتان :
قوله تعالى : {عَالِمُ الْغَيْبِ} "عالم" رفعا نعتا لقوله : "ربي" . وقيل : أي هو "عالم الغيب" والغيب ما غاب عن العباد. وقد تقدم بيانه . {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ؛
لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ؛ وفي التنزيل : {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} . وقال ابن جبير : {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هو جبريل عليه السلام. وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى : أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة ، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه : ليكون ذلك دالا على نبوته.
قال العلماء رحمة الله عليهم : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم. وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم ، وتباين رتبهم ، فيهم الملك والسوقة ، والعالم والجاهل ، والغني والفقير ، والكبير والصغير ، مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ؛ فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ؟ فإن قال المنجم قبحه الله : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم. وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم ، ولقد أحسن الشاعر حيث قال :
حكم المنجم أن طالعَ مولدي ... يقضي علي بمِيتة الغَرِق
قل للمنجم صَبحة الطوفان هل ... ولد الجميع بكوكب الغرق
وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال رضي الله عنه : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه
الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم. وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه : ولم ؟ قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ، ولا لنا من بعده - من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل - فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا أو ضدا ، اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ؛ وإنما المنجم كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال قائل سار في الساعة التي أمر بها المنجم ، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده ، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان - ثم قال : يا أيها الناس! توكلوا على الله وثقوا به ؛ فإنه يكفي ممن سواه.
قوله تعالى : {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان ؛ فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة. قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربك. وقال ابن عباس وابن زيد : "رصدا" أي حفظة يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجن والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيب : هم أربعة من الملائكة حفظة.
وقال الفراء : المراد جبريل ؛ كان
إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي ، فيلقوه إلى كهنتهم ، فيسبقوا الرسول. وقال السدي : "رصدا" أي حفظة يحفظون الوحي ، فما جاء من عند الله قالوا : إنه من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان. و "رصدا" نصب على المفعول. وفي الصحاح : والرصد القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا. والراصد للشيء الراقب له ؛ يقال : رصده يرصده رصدا ورصدا. والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد.
28-
{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}

قوله تعالى : {لِيَعْلَمَ} قال قتادة ومقاتل : أي ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة. وفيه حذف يتعلق به اللام ؛ أي أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق. وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه ؛ قال ابن جبير. قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام. وقيل : ليعلم الرسل أن الملائكة بلغوا رسالات ربهم. وقيل : ليعلم الرسول أي رسول كان أن الرسل سواه بلغوا. وقيل : أي ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه. وقال ابن قتيبة : أي ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما نزل عليهم ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين قد بلغوا رسالات ربهم. وقراءة الجماعة "ليعلم" بفتح الياء وتأويله ما ذكرناه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد ويعقوب بضم الياء أي ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج : أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته بفتح الياء ؛ كقوله تعالى : {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #10  
قديم 13-07-2025, 05:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,587
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (19)
سُورَةُ المزمل
من صــ 31الى صــ40
الحلقة (729)






المعنى ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي أحاط علمه بما عندهم ، أي بما عند الرسل وما عند الملائكة. وقال ابن جبير : المعنى : ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط علمه بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته. {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي أحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه فلم يخف عليه منه شيء. و "عددا" نصب على الحال ، أي أحصى كل شيء في حال العدد ، وإن شئت على المصدر ، أي أحصى وعد كل شيء عددا ، فيكون مصدر الفعل المحذوف. فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء وقد بينا جميعه في الكتاب الأسنى ، في شرح أسماء الله الحسنى. والحمد لله وحده.
سورة المزمل
وهي سبع وعشرون آية ، مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر
وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} والتي تليها ؛ ذكره الماوردي. وقال الثعلبي : قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} إلى آخر السورة ؛ فإنه نزل بالمدينة.
بِسْمِ اْللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ
1-
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} .

2-
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} .

3-
{نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} .

4-
{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً}

فيه ثمان مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قال الأخفش سعيد : "المزمل" أصله المتزمل ؛ فأدغمت التاء في الزاي وكذلك "المدثر" . وقرأ أبي بن كعب على الأصل "المتزمل"
و "المتدثر" . وسعيد : "المزمل" . وفي أصل "المزمل" قولان : أحدهما : أنه المحتمل ؛ يقال : زمل الشيء إذا حمله ، ومنه الزاملة ؛ لأنها تحمل القماش. الثاني : أن المزمل هو المتلفف ؛ يقال : تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى. وزمل غيره إذا غطاه ، وكل شيء لفف فقد زمل ودثر ؛ قال امرؤ القيس :
كبير أناس في بجاد مزمل
الثانية- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه ثلاثة أقوال : الأول : قول عكرمة : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} بالنبوة والملتزم للرسالة. وعنه أيضا : يا أيها الذي زمل هذا الأمر أي حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : "يا أيها المزمَّل" بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها على حذف المفعول ، وكذلك "المدثر" والمعنى المزمل نفسه والمدثر نفسه ، أو الذي زمله غيره. الثاني : "يا أيها المزمل" بالقرآن ، قاله ابن عباس. الثالث : المزمل بثيابه ، قال قتادة وغيره. قال النخعي : كان متزملا بقطيفة. عائشة : بمرط طوله أربعة عشر ذراعا ، نصفه علي وأنا نائمة ، ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسما ولا صوفا ، كان سداه شعرا ، ولحمته وبرا ، ذكره الثعلبي.
قلت : وهذا القول من عائشة يدل على أن السورة مدنية ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بها إلا في المدينة. وما ذكر من أنها مكية لا يصح. والله أعلم.
وقال الضحاك : تزمل بثيابه لمنامه. وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل في ثيابه وتدثر ، فنزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . وقيل : كان هذا في ابتداء ما أوحى إليه ، فإنه لما سمع قول الملك ونظر إليه أخذته الرعدة فأتى أهله فقال : "زملوني دثروني" روي معناه عن ابن عباس. وقالت الحكماء : إنما خاطبه بالمزمل والمدثر في أول الأمر ؛ لأنه لم يكن بعد ادثر شيئا من تبليغ الرسالة. قال ابن العربي : واختلف في تأويل : يَا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ فمنهم من حمله على حقيقته ، قيل له : يا من تلفف في ثيابه أو في قطيفته قم ؛ قال إبراهيم وقتادة. ومنهم من حمله على المجاز ، كأنه قيل له : يا من تزمل بالنبوة ؛ قاله عكرمة. وإنما يسوغ هذا التفسير لو كانت الميم مفتوحة مشددة بصيغة المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما وهو بلفظ الفاعل فهو باطل.
قلت : وقد بينا أنها على حذف المفعول : وقد قرئ بها ، فهي صحيحة المعنى. قال : وأما من قال إنه زمل القرآن فهو صحيح في المجاز ، لكنه قد قدمنا أنه لا يحتاج إليه.
الثالثة- قال السهيلي : ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يعرف به كما ذهب إليه بعض الناس وعدوه في أسمائه عليه السلام ، وإنما المزمل اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك المدثر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : الملاطفة ؛ فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ؛ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين غاضب فاطمة رضي الله عنهما ، فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب فقال له : (قم يا أبا تراب) إشعارا له أنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له. وكذلك قوله عليه السلام لحذيفة : (قم يا نومان) وكان نائما ملاطفة له ، وإشعارا لترك العتب والتأنيب. فقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ} فيه تأنيس وملاطفة ؛ ليستشعر أنه غير عاتب عليه. والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه ؛ لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة.
الرابعة- قوله تعالى : {قُمِ اللَّيْلَ} قراءة العامة بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السمال بضم الميم إتباعا لضمة القاف. وحكى الفتح لخفته. قال عثمان بن جني : الغرض بهذه الحركة التبليغ بها هربا من التقاء الساكنين ، فبأي حركة تحركت فقد وقع الغرض. وهو من الأفعال القاصرة غير المتعدية إلى مفعول ، فأما ظرف الزمان والمكان فسائغ
فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ؛ لا تقول : قمت الدار حتى تقول قمت وسط الدار وخارج الدار. وقد قيل : إن "قم" هنا معناه صل ؛ عبر به عنه واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال.
الخامسة- "الليل" حد الليل : من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقد تقدم بيانه في سورة "البقرة" . واختلف : هل كان قيامه فرضا وحتما ، أو كان ندبا وحضا ؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان حتما وفرضا ؛ وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض ؛ لأن قيامه ليس مخصوصا به وقتا دون وقت. وأيضا فقد جاء التوقيت بذلك عن عائشة وغيرها على ما يأتي. واختلف أيضا : هل كان فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ؟ ثلاثة أقوال : الأول : قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه خاصة. الثاني : قول ابن عباس ، قال : كان قيام الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله. الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح ؛ كما في صحيح مسلم عن زرارة بن أوفى أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله... الحديث ، وفيه : فقلت لعائشة : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : ألست تقرأ : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قلت : بلى! قالت فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا ، وأمسك الله عز وجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، حتى أنزل الله عز وجل في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وذكر الحديث. وذكر وكيع ويعلى قالا : حدثنا مسعر عن سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول لما أنزل أول {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة. وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزل بعد عشر سنين : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} فخفف الله عنهم.
السادسة- قوله تعالى : {إِلَّا قَلِيلاً} استثناء من الليل ، أي صل الليل كله إلا يسيرا منه ؛ لأن قيام جميعه على الدوام غير ممكن ، فاستثنى منه القليل لراحة الجسد. والقليل من الشيء ما دون النصف ؛ فحكي عن وهب بن منبه أنه قال : القليل ما دون المعشار والسدس. وقال الكلبي ومقاتل : الثلث {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} فكان ذلك تخفيفا إذ لم يكن زمان القيام محدودا ، فقام الناس حتى ورمت أقدامهم ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} . وقال الأخفش : "نصفه" أي أو نصفه ؛ يقال : أعطه درهما درهمين ثلاثة : يريد : أو درهمين أو ثلاثة. وقال الزجاج : "نصفه" بدل من الليل و "إلا قليلا" استثناء من النصف. والضمير في "منه" و "عليه" للنصف. المعنى : قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد عليه قليلا إلى الثلثين ؛ فكأنه قال : قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل : إن "نصفه" بدل من قوله : "قليلا" وكان مخيرا بين ثلاث : بين قيام النصف بتمامه ، وبين الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ؛ كأن تقدير الكلام : قم الليل إلا نصفه ، أو أقل من نصفه ، أو أكثر من نصفه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضى ثلث الليل الأول ، فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له ، فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر" . ونحوه عن أبي هريرة وأبي سعيد جميعا وهو يدل على ترغيب قيام ثلثي الليل. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا مضى شطر الليل - أو ثلثاه - ينزل الله..." الحديث. رواه من طريقين عن أبي هريرة هكذا على الشك. وقد جاء في كتاب النسائي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول ، ثم يأمر مناديا يقول : هل من داع يستجاب له ؟ هل من مستغفر يغفر له ؟ هل من سائل يعطى ؟" صححه أبو محمد عبدالحق ؛ فبين هذا الحديث مع صحته معنى النزول ، وأن ذلك يكون عند نصف الليل. وخرج ابن ماجة من حديث ابن شهاب ، عن أبي سلمة وأبي عبدالله الأغر ، عن أبي هريرة :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ينزل ربنا تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة فيقول من يسألني فأعطيه ؟ من يدعوني فأستجيب له ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ حتى يطلع الفجر" . فكانوا يستحبون صلاة آخر الليل على أوله. قال علماؤنا : وبهذا الترتيب انتظم الحديث والقرآن ، فإنهما يبصران من مشكاة واحدة. وفي الموطأ وغيره من حديث ابن عباس : بت عند خالتي ميمونة حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام إلى شن معلق فتوضأ وضوءا خفيفا. وذكر الحديث.
السابعة- اختلف العلماء في الناسخ للأمر بقيام الليل ؛ فعن ابن عباس وعائشة أن الناسخ للأمر بقيام الليل قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى آخر السورة. وقيل قوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}
وعن ابن عباس أيضا : هو منسوخ بقوله تعالى : {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} . وعن عائشة أيضا والشافعي ومقاتل وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس. وقيل الناسخ لذلك قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال أبو عبدالرحمن السلمي : لما نزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، ثم نزل قوله تعالى : {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض ، كان على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لفضله ؛ كما قال تعالى : {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} قلت : القول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فدخل فيها قول من قال إن الناسخ الصلوات الخمس. وقد ذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو على قدر حلب شاة. وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة. وهو الصحيح إن شاء الله تعالى ؛ لما جاء في قيامه من الترغيب والفضل في القرآن والسنة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل للنبي صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا
يتنحنحون ويتفلون فخرج إليهم فقال : "أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وإن خير العمل أدومه وإن قل" . فنزلت : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} فكتب عليهم ، فأنزل بمنزلة الفريضة ، حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فرحمهم الله وأنزل : {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل إلا ما تطوعوا به.
قلت : حديث عائشة هذا ذكره الثعلبي ، ومعناه ثابت في الصحيح إلى قوله : (وإن قل) وباقيه يدل على أن قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} نزل بالمدينة وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون. وقد تقدم عنها في صحيح مسلم : حولا. وحكى الماوردي عنها قولا ثالثا وهو ستة عشر شهرا ، لم يذكر غيره عنها. وذكر عن ابن عباس أنه كان بين أول المزمل وآخرها سنة ؛ قال : فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان فرضا عليه. وفي نسخة عنه قولان : أحدهما : أنه كان فرضه عليه إلى أن قبضه الله تعالى. الثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته. وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان : أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولا ، وقول عائشة ستة عشر شهرا. الثاني : أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ زيادة في التكليف ، ليميزه بفعل الرسالة ؛ قاله ابن جبير.
قلت : هذا خلاف ما ذكره الثعلبي عن سعيد بن جبير حسب ما تقدم فتأمله. وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
الثامنة- قوله تعالى : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} أي لا تعجل بقراءة القرآن بل أقرأه في مهل وبيان مع تدبر المعاني. وقال الضحاك : اقرأه حرفا حرفا. وقال مجاهد : أحب الناس في القراءة إلى الله أعقلهم عنه. والترتيل التنضيد والتنسيق وحسن النظام ؛ ومنه ثغر رتل ورتل ، بكسر العين وفتحها : إذا كان حسن التنضيد. وتقدم بيانه في مقدمة الكتاب. وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم ، مر برجل يقرأ آية ويبكي ، فقال : "ألم تسمعوا"
إلى قول الله عز وجل : {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} هذا الترتيل ". وسمع علقمة رجلا يقرأ قراءة حسنة فقال : لقد رتل القرآن ، فداه أبي وأمي ، وقال أبو بكر بن طاهر : تدبر في لطائف خطابه ، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه ، وقلبك بفهم معانيه ، وسرك بالإقبال عليه. وروى عبدالله بن عمرو قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" يؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة ، فيوقف في أول درج الجنة ويقال له أقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها "خرجه أبو داود وقد تقدم في أول الكتاب. وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمد صوته بالقراءة مدا."
5-
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}

قوله تعالى : {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} هو متصل بما فرض من قيام الليل ، أي سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل قولا ثقيلا يثقل حمله ؛ لأن الليل للمنام ، فمن أمر بقيام أكثره لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل شديد على النفس ومجاهدة للشيطان ، فهو أمر يثقل على العبد. وقيل : إنا سنوحي إليك القرآن ، وهو قول ثقيل يثقل العمل بشرائعه. قال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده. مجاهد : حلاله وحرامه. الحسن : العمل به. أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام. محمد بن كعب : ثقيلا على المنافقين. وقيل : على الكفار ؛ لما فيه من الاحتجاج عليهم ، والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم ، والكشف عما حرفه أهل الكتاب. السدي : ثقيل بمعنى كريم ؛ مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل علي ، أي يكرم علي. الفراء : "ثقيلا" رزينا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل : ثقيلا لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزينة بالتوحيد. وقال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك ، كما ثقل في الدنيا يثقل في الميزان يوم القيامة. وقيل : "ثقيلا" أي ثابتا كثبوت الثقيل في محله ، ويكون معناه أنه ثابت الإعجاز ، لا يزول إعجازه أبدا. وقيل : هو القرآن نفسه ؛ كما جاء في الخبر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها
يعني صدرها - على الأرض ، فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه. وفي الموطأ وغيره أنه عليه السلام سئل : كيف يأتيك الوحي ؟ فقال : "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" . قالت عائشة رضي الله عنها : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا.
قال ابن العربي : وهذا أولى ؛ لأنه الحقيقة ، وقد جاء : {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وقال عليه السلام : "بعثت بالحنيفية السمحة" . وقيل : القول في هذه السورة : هو قول لا إله إلا الله ؛ إذ في الخبر : خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان ؛ ذكره القشيري.
6-
{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} .

7-
{إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً}

فيه خمس مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال العلماء : ناشئة الليل أي أوقاته وساعاته ، لأن أوقاته تنشأ أولا فأولا ؛ يقال : نشأ الشيء ينشأ : إذا ابتدأ وأقبل شيئا بعد شيء ، فهو ناشئ وأنشأه الله فنشأ ، ومنه نشأت السحابة إذا بدأت وأنشأها الله ؛ فناشئة : فاعلة من نشأت تنشأ فهي ناشئة ، ومنه قوله تعالى : {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} والمراد إن ساعات الليل الناشئة ، فاكتفى بالوصف عن الاسم ، فالتأنيث للفظ ساعة ، لأن كل ساعة تحدث. وقيل : الناشئة مصدر بمعنى (قيام الليل) كالخاطئة والكاذبة ؛ أي إن نشأة الليل هي أشد وطئا. وقيل : إن ناشئة الليل قيام الليل. قال ابن مسعود : الحبشة يقولون : نشأ أي قام ، فلعله أراد أن الكلمة عربية ، ولكنها شائعة في كلام الحبشة ، غالبة عليهم ، وإلا فليس في القرآن ما ليس في لغة العرب. وقد تقدم بيان هذا في مقدمة الكتاب مستوفى.
الثانية- بين تعالى في هذه الآية فضل صلاة الليل على صلاة النهار ، وأن الاستكثار من صلاة الليل بالقراءة فيها ما أمكن ، أعظم للأجر ، وأجلب للثواب. واختلف العلماء في المراد بناشئة الليل ؛ فقال ابن عمر وأنس بن مالك : هو ما بين المغرب والعشاء ، تمسكا بأن لفظ نشأ يعطي الابتداء ، فكان بالأولية أحق ؛ ومنه قول الشاعر :
ولولا أن يقال صبا نصيب ... لقلت بنفسي النشأ الصغار
وكان علي بن الحسين يصلي بين المغرب والعشاء ويقول : هذا ناشئة الليل. وقال عطاء وعكرمة : إنه بدء الليل. وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : هي الليل كله ؛ لأنه ينشأ بعد النهار ، وهو الذي اختاره مالك بن أنس. قال ابن العربي : وهو الذي يعطيه اللفظ وتقتضيه اللغة. وقالت عائشة وابن عباس أيضا ومجاهد : إنما الناشئة القيام بالليل بعد النوم. ومن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. فقال يمان وابن كيسان : هو القيام من آخر الليل. وقال ابن عباس : كانت صلاتهم أول الليل. وذلك أن الإنسان إذا نام لا يدري متى يستيقظ. وفي الصحاح : وناشئة الليل أول ساعاته. وقال القتبي : إنه ساعات الليل ؛ لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة. وعن الحسن ومجاهد : هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وعن الحسن أيضا : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة. ويقال : ما ينشأ في الليل من الطاعات ؛ حكاه الجوهري.
الثالثة- قوله تعالى : {هِيَ أَشَدُّ وَطْئا} قرأ أبو العالية وأبو عمرو وابن أبي إسحاق ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن عامر والمغيرة وأبو حيوة "وطاء" بكسر الواو وفتح الطاء والمد ، واختاره أبو عبيد. الباقون "وطئا" بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة ، واختاره أبو حاتم ؛ من قولك : اشتدت على القوم وطأة سلطانهم. أي ثقل عليهم ما حملهم من المؤن ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم اشدد وطأتك على مضر" فالمعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار. وذلك أن الليل وقت منام وتودع وإجمام ، فمن شغله بالعبادة فقد تحمل المشقة العظيمة. ومن مد فهو مصدر واطأت وطاء ومواطأة أي وافقته. ابن زيد واطأته على الأمر مواطأة : إذا وافقته من الوفاق ، وفلان يواطئ اسمه اسمي ، وتواطؤوا عليه أي توافقوا ؛ فالمعنى أشد موافقة بين القلب والبصر والسمع واللسان ؛ لانقطاع الأصوات





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 9 ( الأعضاء 0 والزوار 9)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 475.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 469.53 كيلو بايت... تم توفير 5.88 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]