|
ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
#1
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (599) سُورَةُ الْعَلَق صـ 13 إلى صـ 22 [ ص: 13 ] الخامسة : خلق الإنسان من علق ، ولم يذكر ما قبل العلقة من نطفة أو خلق آدم من تراب . السادسة : إعادة الأمر بالقراءة مع " وربك الأكرم " بدلا من أي صفة أخرى ، وبدلا من الذي خلق المتقدم ذكره . الثامنة : التعليم بالقلم . التاسعة : تعليم الإنسان ما لم يعلم . لما كانت هذه السورة هي أول سورة نزلت من القرآن ، وكانت تلك الآيات الخمس أول ما نزل منها على الصحيح ، فهي بحق افتتاحية الوحي ، فكانت موضع عناية المفسرين وغيرهم ، والكلام على ذلك مستفيض في كتب التفسير والحديث والسيرة ، فلا موجب لإيراده هنا . ولكن نورد الكلام على ما ذكرنا من موضوع الكتاب إن شاء الله . أما المسألة الأولى : قوله تعالى : اقرأ ، فالقراءة لغة الإظهار ، والإبراز ، كما قيل في وصف الناقة : لم تقرأ جنينا ، أي لم تنتج . وتقدم للشيخ بيان هذا المعنى لغة ، وتوجيه الأمر بالقراءة إلى نبي أمي لا تعارض فيه ; لأن القراءة تكون من مكتوب وتكون من متلو ، وهنا من متلو يتلوه عليه جبريل عليه السلام ، وهذا إبراز للمعجزة أكثر ; لأن الأمي بالأمس صار معلما اليوم . وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين ، حيث جمع القراءة مع التعليم بالقلم . وفي قوله تعالى : اقرأ بدء للنبوة وإشعار بالرسالة ; لأنه يقرأ كلام غيره . وقوله تعالى : باسم ربك ، تؤكد لهذا الإشعار ، أي : ليس من عندك ولا من عند جبريل الذي يقرئك . وقد قدمنا الرد على كونه صلى الله عليه وسلم لم يكتب ولا يقرأ مكتوبا ، من أنه صيانة للرسالة ، كما أنه لم يكن يقول الشعر وما ينبغي له ، إذا لارتاب المبطلون . كما قال تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك الآية [ 29 \ 48 ] . وذلك عند قوله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] . [ ص: 14 ] وهنا لم يبين ما يقرؤه ولكن مجيء سورة القدر بعدها بمثابة البيان لما يقرؤه وهي : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] ، وجاء بيان ما أنزل في سورة الدخان : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 4 \ 1 - 3 ] . وللشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان لذلك عند قوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم [ 4 \ 113 ] ، فكأنه في قوة اقرأ ما يوحى إليك من ربك ، والمراد به هو القرآن بالإجماع . المسألة الثانية : قوله : باسم ربك ، أي اقرأ باسم ربك منشئا ومبتدئا القراءة باسم ربك ، وقد تكلم المفسرون على الباء أهي صلة ، ويكون اقرأ اسم ربك ، أي قل باسم الله ، كما في أوائل السور . وقيل : الباء بمعنى على ، أي على اسم ربك ، وعليه : فالمقروء محذوف . والذي يظهر والله تعالى أعلم أن قوله : باسم ربك أي أن ما تقرؤه هو من ربك ، وتبلغه للناس باسم ربك ، وأنت مبلغ عن ربك على حد قوله : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] . وقوله : ما على الرسول إلا البلاغ [ 5 \ 99 ] ، أي : عن الله تعالى . وكقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] . ونظير هذا في الأعراف الحاضرة خطاب الحكم ، أو ما يسمى خطاب العرش ، حينما يقول ملقيه باسم الملك ، أو باسم الأمة ، أو باسم الشعب ، على حسب نظام الدولة ، أي باسم السلطة التي منها مصدر التشريع والتوجيه السياسي . وهنا باسم الله ، باسم ربك ، وصفة ربك هنا لها مدلول الربوبية الذي ينبه العبد إلى ما أولاه الله إياه من التربية والرعاية والعناية ، إذ الرب يفعل لعبده ما يصلحه ، ومن كمال إصلاحه أن يرسل إليه من يقرأ عليه وحيه بخبري الدنيا والآخرة ، وفي إضافته إلى المخاطب إيناس له . المسألة الثالثة : وصف الرب بـ الذي خلق مع إطلاق الوصف ; وذلك لأن صفة الخلق هي أقرب الصفات إلى معنى الربوبية ، ولأنها أجمع الصفات للتعريف بالله [ ص: 15 ] تعالى لخلقه ، وهي الصفة التي يسلمون بها ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ 31 \ 25 ] . ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] . ولأن كل مخلوق لا بد له من خالق : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وقد أطلق صفة الخلق عن ذكر مخلوق ليعم ويشمل الوجود كله ، خالق كل شيء في قوله : ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء [ 6 \ 102 ] . الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ 39 \ 62 ] . هو الله الخالق البارئ المصور [ 59 \ 24 ] . وتلك المسائل الثلاث : هي الأصول في الرسالة وما بعدها دلالة عليها ، فالأمر بالقراءة تكليف لتحمل الوحي ، وباسم ربك بيان لجهة التكليف ، " والذي خلق " تدليل لتلك الجهة ، أي الرسالة والرسول والمرسل مع الدليل المجمل . ولا شك أن المرسل إليهم لم يؤمنوا ولا بواحدة منها ، فكان لا بد من إقامة الأدلة على ثبوتها بالتفصيل . ولما كانت جهة المرسل هي الأساس وهي المصدر ، كان التدليل عليها أولا ، فجاء التفصيل في شأنها بما يسلمون به ويسلمونه في أنفسهم ، وهي المسألة الرابعة . والخامسة : خلق الإنسان من علق ، وهذا تفصيل بعد إجمال ببيان للبعض من الكل فالإنسان بعض مما خلق ، وذكره من ذكر العام بعد الخاص أولا ، ومن إلزامهم بما يسلمون به ثم لانتقالهم مما يعلمون ويقرون به إلى ما لا يعلمون وينكرون . وفي ذكر الإنسان بعد عموم الخلق تكريم له ، كذكر الروح بعد عموم الملائكة ، تنزل الملائكة والروح فيها ونحوه ، والإنسان هنا الجنس بدليل الجمع في علق جمع علقة ، ولأنه أوضح دلالة عنده ، ليستدل بنفسه من نفسه كما سيأتي . وقوله : من علق ، وهو جمع علقة ، وهي القطعة من الدم ، كالعرق أو الخيط بيان على قدرته تعالى ، وذلك لأنهم يشاهدون ذلك أحيانا فيما تلقي به الرحم ، ويعلمون أنه مبدأ خلقة الإنسان . [ ص: 16 ] فالقادر على إيجاد إنسان في أحسن تقويم من هذه العلقة ، قادر على جعلك قارئا وإن لم تكن تعلم القراءة من قبل ، كما أوجد الإنسان من تلك العلقة ولم يكن موجودا من قبل ، ولأن الذي يتعهد تلك العلقة حتى تكتمل إنسانا يتعهدها بالرسالة . وقد يكون في اختيار الإنسان بالذات وبخصوصه لتفصيل مرحلة وجوده ، أن غيره من المخلوقات لم تعلم مبادئ خلقتها كعلمهم بالإنسان ، ولأن الإنسان قد مر ذكره في السورة قبلها : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، فبين أنه من هذه العلقة كان في أحسن تقويم ، ومن حسن تقويم إنزال الكتاب القيم . وقال ابن تيمية : إن المقام هنا مقام دلالة على وجود الله ، فبدأ بما يعرفونه ويسلمون به لله ، ولم يبدأ من النطفة أو التراب ; لأن خلق آدم من تراب لم يشاهدوه ، ولأن النطفة ليست بلازم لها خلق الإنسان ، فقد تقذف في غير رحم كالمحتلم ، وقد تكون فيه ، ولا تكون مخلقة . ا هـ . وهذا في ذاته وجيه ، ولكن لا يبعد أن يقال : إن السورة في مستهل الوحي وبدايته ، فهي كالذي يقول : إذا كنت بدأت بالوحي إليه ولم يكن من قبل ، ولم يوجد منه شيء بالنسبة إليك ، فليس هو بأكثر من إيجاد الإنسان من علقة ، بعد أن لم يكن شيئا . وعليه يقال : لقد تركت مرحلة النطفة مقابل مرحلة من الوحي ، قد تركت أيضا وهي فترة الرؤيا الصالحة ، كما في الصحيحين : " أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة ، يراها فتأتي كفلق الصبح " فكان ذلك إرهاصا للنبوة وتمهيدا لها لمدة ستة أشهر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة " وهي نسبة نصف السنة من ثلاث وعشرين مدة الوحي ، ولكن الرؤيا الصالحة قد يراها الرجل الصالح ، ومثل ذلك تماما فترة النطفة ، فقد تكون النطفة ولا يكون الإنسان ، كما تكون الرؤيا ولا تكون النبوة ، أما العلقة فلا تكون إلا في رحم وقرار مكين ، ومن ثم يأتي الإنسان مخلقا كاملا ، أو غير مخلق على ما يقدر له . فلما كانت فترة النطفة ليست بلازمة لخلق الإنسان ، وكان مثلها فترة الرؤية ليست لازمة للنبوة ترك كل منها مقابل الآخر ، ويبدأ الدليل بما هو الواقع المسلم على أن الله تعالى هو الخالق ، والخالق للإنسان من علقة ، فكان فيه إقامة الدليل من ذاتية المستدل ، [ ص: 17 ] فالدليل هو خلق الإنسان ، والمستدل به هو الإنسان نفسه ، كما في قوله تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ 51 \ 21 ] ، فيستدل لنفسه من نفسه على قدرة خالقه سبحانه . وإذا تم بهذا الاستدلال على قدرة الرب الخالق ، كان بعده إقامة الدليل على صحة النبوة ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فجاءت المسألة السادسة وهي إعادة القراءة في قوله : اقرأ وربك الأكرم ، إذ أقام الدليل على أنك مرسل من الله تبلغ عنه وتقرأ باسمه ، فاعلم أن تلك القراءة وهذا الوحي من ربك الأكرم ، والأكرم قالوا : هو الذي يعطي بدون مقابل ، ولا انتظار مقابل ، والواقع أن مجيء الوصف هنا بالأكرم بدلا من أي صفة أخرى ، لما في هذه الصفة من تلاؤم للسياق ، ما لا يناسب مكانها غيرها لعظم العطاء وجزيل المنة . فأولا : رحمة الخليقة بهذه القراءة التي ربطت العباد بربهم . وكفى . وثانيا : نعمة الخلق والإيجاد ، فهما نعمتان متكاملتان : الإيجاد من العدم بالخلق ، والإيجاد الثاني من الجهل إلى العلم ، ولا يكون هذا كله إلا من الرب الأكرم سبحانه . ثم تأتي المسألة الثامنة : وهي من الدلالة على النبوة والرسالة ، وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، سواء كان الوقف على : اقرأ ، وابتداء الكلام : وربك الأكرم الذي علم بالقلم . أو الوقف على الأكرم وابتداء الكلام : الذي علم بالقلم ; لأن من يعلم الجاهل بالقلم ، يعلم غيره بدون القلم بجامع التعليم بعد الجهل . فالقادر على هذا قادر على ذلك . والتاسعة : بيان لهذا الإجمال حيث لم يبين ما الذي علمه بالقلم . فقال : علم الإنسان ما لم يعلم ، وهذا مشاهد ملموس في أشخاصهم : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ 16 \ 78 ] . فالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وكل ما تعلمه الإنسان فهو من الله تعلمونهن مما علمكم الله [ 5 \ 4 ] ، وهل الرسالة والنبوة إلا تعليم الرسول ما لم يكن يعلم ؟ وبهذا تم إقامة الدليل على صحة النبوة ، أي الرسالة والرسول والمرسل ، وهي أسس الدعوة والبعثة الجديدة . وقد اشتهر عند الناس أنه نبئ بـ " اقرأ " وأرسل بـ " المدثر " ولكن في [ ص: 18 ] نفس هذه السورة معنى الرسالة ، لما قدمنا من أن القراءة باسم ربك ، إشعار بأنه مرسل من ربه إلى من يقرأ عليهم ، ففيها إثبات الرسالة من أول بدء الوحي . تنبيه في قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، مبحث التعليم ومورد سؤال ، وهو إذا كان تعالى تمدح بأنه علم بالقلم وأنه علم الإنسان ما لم يعلم ، فكان فيه الإشادة بشأن القلم ، حيث إن الله تعالى قد علم به ، وهذا أعلى مراتب الشرف مع أنه سبحانه قادر على التعليم بدون القلم ، ثم أورده في معرض التكريم في قوله : ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 68 \ 1 - 2 ] ، وعظم المقسم عليه وهو نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي ، يدل على عظم المقسم به ، وهو القلم وما يسطرون به من كتابة الوحي وغيره . وقد ذكر القلم في السنة أنواعا متفاوتة ، وكلها بالغة الأهمية . منها : أولها وأعلاها : القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة ، والوارد في الحديث : " أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب " الحديث . فعلى رواية الرفع ، يكون هو أول المخلوقات ثم جرى بالقدر كله ، وبما قدر وجوده كله . ثانيها : القلم الذي يكتب مقادير العام في ليلة القدر من كل سنة ، المشار إليه بقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم [ 44 \ 4 ] . ثالثها : القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل . رابعها : القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين المنوه عنه بقوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ، أي بالكتابة كما في قوله : كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 11 - 12 ] ، إذا قلنا إن الكتابة في ذلك تستلزم قلما ، كما هو الظاهر . خامسها : القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله ، ومن أهمها أقلام كتاب الوحي ، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتابة سليمان لبلقيس . [ ص: 19 ] وقوله تعالى : الذي علم بالقلم ، شامل لهذا كله ، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره ، وعظيم المنة به على الأمة ، بلى وعلى الخليقة كلها . وقد افتتحت الرسالة بالقراءة والكتابة ، فلماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن عن هذا الفضل كله للقلم ! لم يكن هو كاتبا به ، ولا من أهله بل هو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، كما في قوله : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ 62 \ 2 ] . والجواب : أنا أشرنا أولا إلى ناحية منه ، وهي أنه أكمل للمعجزة ، حيث أصبح النبي الأمي معلما كما قال تعالى : يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة [ 3 \ 164 ] . وثانيا : لم يكن هذا النبي الأمي مغفلا شأن القلم ، بل عنى به كل العناية ، وأولها وأعظهما أنه اتخذ كتابا للوحي يكتبون ما يوحى إليه بين يديه ، مع أنه يحفظه ويضبطه ، وتعهد الله له بحفظه وبضبطه في قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ 87 \ 6 - 7 ] ، حتى الذي ينساه يعوضه الله بخير منه أو مثله ، كما في قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، ووعد الله تعالى بحفظه في قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] . ومع ذلك ، فقد كان يأمر بكتابة هذا المحفوظ وكان له عدة كتاب ، وهذا غاية في العناية بالقلم . وذكر ابن القيم من الكتاب الخلفاء الأربعة ، ومعهم تتمة سبعة عشر شخصا ، ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي ، بل جعل التعليم به أعم ، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة ، وكان كاتبا محسنا " ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب . وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال : " علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن " . وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم الملوك إلى الإسلام بالكتابة كما هو معلوم . وأبعد من ذلك ، ما جاء في قصة أسارى بدر ، حيث كان يفادي بالمال من يقدر [ ص: 20 ] على الفداء ، ومن لم يقدر ، وكان يعرف الكتابة كانت مفاداته أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة ، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك . وكان ممن تعلم : زيد بن ثابت وغيره . فإذا كان المسلمون وهم في بادئ أمرهم وأحوج ما يكون إلى المال والسلاح ، بل واسترقاق الأسارى ، فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله ، ليدل على أمرين : أولهما : شدة وزيادة العناية بالتعليم . وثانيهما : جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلق له بالدين ، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية ، في الهندسة ، والطب ، والزراعة ، والقتال ، ونحو ذلك . وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك ، حتى كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين رجلا ، ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام ، وجاء النص على الكتابة في توثيق الدين في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه الآية [ 2 \ 282 ] ، وهي أطول آية في كتاب الله تعالى رسمت فيها كتابة العدل الحديثة كلها . وإذا كان هذا شأن القلم وتعلمه ، فقد وقع الكلام في تعليمه للنساء على أنهن شقائق الرجال في التكليف والعلم ، فهل كن كذلك في تعلم الكتابة أم لا ؟ مبحث تعليم النساء الكتابة وقع الخلاف بسبب نصين في المسألة : الأول : حديث الشفاء بنت عبد الله قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة ، فقال لي : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ؟ " رواه المجد في المنتقى عن أحمد وأبي داود وقال بعده : وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة . والثاني : حديث عائشة رواه الحاكم وصححه البيهقي مرفوعا : " لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء ، وعلموهن الغزل وسورة النور " قال الشوكاني في نيل الأوطار ، على حديث المنتقى وحديث عائشة : إن حديث الشفاء دليل على جواز تعليمهن ، وحديث النهي محمول على من يخشى من تعليمها الفساد ، أعني تعليم الكتابة والقراءة . [ ص: 21 ] أما تعليم العلم فليس محل خلاف ، والواقع أن هذه المسألة واضحة المعالم ، إذا نظرت كالآتي : أولا : لا شك أن العلم من حيث هو خير من الجهل ، والعلم قسمان : علم سماع وتلق ، وهذه سيرة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعائشة كانت القدوة الحسنة في ذلك في فقه الكتاب والسنة ، وكم استدركت على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وهذا مشهور ومعلوم . والثاني : علم تحصيل بالقراءة والكتابة ، وهذا يدور مع تحقق المصلحة من عدمها ، فمن رأى أن تعليمهن مفسدة منعه ، كما روي عن علي رضي الله عنه : أنه مر على رجل يعلم امرأة الكتابة فقال : لا تزد الشر شرا . وروي عن بعض الحكماء : أنه رأى امرأة تتعلم الكتابة ، فقال : أفعى تسقى سما ، وأنشدوا الآتي : ما للنساء وللكتا بة والعمالة والخطابه هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابه ومثله ما قاله المنفلوطي : يا قوم لم تخلق بنات الورى للدرس والطرس وقال وقيل لنا علوم ولها غيرها فعلموها كيف نشر الغسيل والثوب والإبرة في كفها طرس عليه كل خط جميل وهذا نظر إلى تعليمهن وموقفهن من زاوية واحدة . كما قال الشاعر الآخر : كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول مع أننا وجدنا في تاريخ المرأة نسوة شاركن في القتال ، حتى عائشة رضي الله عنها كانت تسقي الماء ، وأم سلمة تداوي الجرحى ، إذ لا يؤخذ قول كل منهما على عمومه . قال صاحب التراتيب الإدارية : أورد القلقشندي أن جماعة من النساء كن يكتبن ، ولم ير أن أحدا من السلف أنكر عليهن . ا هـ . ومن المعلوم رواية كريمة لصحيح البخاري ، وهي من الرواية المعتبرة عن المحدثين ، فقد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك [ ص: 22 ] وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي ، وذكر صاحب التراتيب الإدارية قوله : وقد ثبت عن كثير من نساء أهل الصحراء الإفريقية خصوصا شنقيط : شنجط ، أي شنقيط ، وهي المعروفة الآن بموريتانيا ، وتيتبكتو ، وقبيلة كنت العجب ، حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير ، ختم مختصر خليل للرجال ، وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء . ا هـ . ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسلامية لإفريقيا ، سمعنا ونحن في مدينة أطار وهي على مقربة من مدينة شنجيط المذكورة ، سمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سابقا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة . وقد سمعت في الآونة الأخيرة ، أنه كانت توجد امرأة تدرس في المسجد النبوي ، الحديث ، والسيرة ، واللغة العربية وهي شنقيطية . ويجب أن تكون النظرة لهذه المسألة على ضوء واقع الحياة اليوم وفي كل يوم ، وقد أصبح تعليم المرأة من متطلبات الحياة ، ولكن المشكلة تكمن في منهج تعليمها ، وكيفية تلقيها العلم . فكان من اللازم أن يكون منهج تعليمها قاصرا على النواحي التي يحسن أن تعمل فيها كالتعليم والطب وكفى . أما كيفية تعليمها ، فإن مشكلتها إنما جاءت من الاختلاط في مدرجات الجامعات ، وفصول الدراسة في الثانويات في فترة المراهقة ، وقلة المراقبة ، وفي هذا يكمن الخطر منها وعليها في آن واحد ، فإذا كان لا بد من تعليمها ، فلا بد أيضا من المنهج الذي يحقق الغاية منه ، ويضمن السلامة فيه ، والتوفيق من الله سبحانه . أما ما يخشى عليها من الاتصال عن طريق الكتابة ، فقد وجد ما هو أقرب وأسرع منها لمن شاءت وهو الهاتف في البيوت ، فإنه في متناول المتعلمة والجاهلة . والمدار في ذلك كله على الحصانة التربوية والمتانة الدينية والقوة الأخلاقية . وقد أوردت هذا المبحث استطرادا لبيان وجهة النظر في هذه المسألة ، اقتباسا من قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، وبالله التوفيق . ![]()
__________________
|
#2
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (600) سُورَةُ الْقَدْر صـ 23 إلى صـ 32 مسألة بيان أولية الكتابة عامة والعربية خاصة ، وأول من خط بالقلم على الأرض : جاء في المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية المطبوع سنة 1304 هـ ما نصه : وإنما أصول الكتابة اثني عشر على ما قاله ابن خلكان ، وتبعه كثير من المؤلفين ، كالدميري في حياة الحيوان ، والحلبي في السيرة وغيرهما . قال : إن جميع كتابات الأمم من سكان المشرق والمغرب اثنتي عشرة كتابة ، خمس منها ذهب من يعرفها وبطل استعمالها وهي : الحميرية ، والقبطية ، والبربرية ، والأندلسية ، واليونانية ، وثلاث منها فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعملة في بلادها ، وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية . ا هـ . كلامه باختصار وفيه ما فيه . قال : والحميرية : هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى ، وهي عاد إرم ، وكانت كتابتهم تسمى المسند الحميري ، وكانت حروفها كلها منفصلة ، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم ، حتى جاءت دولة الإسلام ، وليس بجميع اليمن من يكتب ويقرأ . وقال المقريزي في الخطط : القلم المسند ، هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد . ا هـ . والمعروف الآن أن الحروف المستعملة في الكتابة في العالم كله بصرف النظر عن اللغات المنطوق بها هي ثلاثة فقط ، الخط العربي بحروف ألف باء وبها لغات الشرق . والحروف اللاتينية وبها لغات أوروبا والحروف الصينية . أما اللغات ، وهي فوق ألفي لغة " والأمهرية بحرف قريب من اللاتيني " . أما أولية الكتابة العربية ، فقال صاحب المطالع النصرية : فقد اختلفت الروايات فيها ، كما قاله الحافظ السيوطي في الأوائل . وكذا في المزهر في النوع الثاني والأربعين ، قال : إنه يرى أن آدم عليه السلام أول من كتب بالقلم ، وأن الكتابات كلها من وضعه ، كان قد كتبها في طين وطبخه ، يعني [ ص: 24 ] أحرقه ودفنه قبل موته بثلاثمائة سنة ، وبعد الطوفان وجد كل قوم كتابا فتعلموه ، وكانت اثني عشر كتابا ، فتعلموه بإلهام إلهي . وقيل : إن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام . ا هـ . وقد أطال السيوطي في المزهر الكلام في هذه المسألة ، نقلا عن ابن فارس الشدياقي . وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال ، فقيل إسماعيل ، وقيل مرار بن مرة ، وهما من أهل الأنبار ، وفي ذلك يقول الشاعر : كتبت أبا جاد وخطي مرامر وسورت سربالي ولست بكاتب وقيل : أول من وضعه أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وصعفص ، وقرشت ، وكانوا ملوكا فسمي الهجاء بأسمائهم . وذكر عن الحافظ أبي طاهر السلفي بسنده عن الشعبي قال : أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس ، تعلم من أهل الحيرة ، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار . وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : تعلمنا من أهل الحيرة ، وسألنا أهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الأنبار ، ثم قال ابن فارس : والذي نقوله : إن الخط توقيفي ، وذلك لظاهر قوله تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم . وقوله : ن والقلم وما يسطرون [ 68 \ 1 ] . وإذا كان هذا فليس ببعيد ، أن يوقف الله آدم أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتابة ، فأما أن يكون شيئا مخترعا اخترعه من تلقاء نفسه ، فهذا شيء لا نعلم صحته إلا من خبر صحيح . قال السيوطي : قلت يؤيد ما قاله من التوقيف ، ما أخرجه ابن شقة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أول كتاب أنزله الله من السماء أبا جاد " . وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام " . ا هـ . [ ص: 25 ] وقد أطال النقول في ذلك مما يرجع إلى الأول ، وليس فيه نقل صحيح يقطع به . وقد أوردنا هذه النبذة بخصوص كلام ابن فارس ، من أن تعليم الكتابة أمر توقيفي ، وما استدل به السيوطي من أول كتاب أنزله الله من السماء ، فإن في القرآن ما يشهد لإمكان ذلك ، وهو أن الله تعالى أنزل الصحف لموسى مكتوبة . وفي الحديث : " إن الله كتب الألواح لموسى بيده ، وغرس جنة عدن بيده " . وإذا كان موسى تلقى ألواحا مكتوبة ، فلا بد أن تكون الكتابة معلومة له قبل إنزالها ، وإلا لما عرفها . أما المشهور في الأحرف التي نكتب بها الآن ، فكما قال السيوطي في المزهر ، ونقله عنه صاحب المطالع المصرية ما نصه : المشهور عند أهل العلم ما رواه ابن الكلبي عن عوانة ، قال : أول من كتب بخطنا هذا . وهو الجزم مرامر بن مرة ، وأسلم بن سدرة ، وعامر بن حدرة . كما في القاموس . وهم من عرب طيئ تعلموه من كتاب الوحي لسيدنا هود عليه السلام ، ثم علموه أهل الأنبار ، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها ، فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل ، وكانت له صحبة بحرب بن أمية فتعلم حرب منه ، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان . فتعلم منه جماعة من أهل مكة . فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبيل الإسلام . ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل ، يمن على قريش بذلك : لا تجحدوا نعماء بشر عليكم فقد كان ميمون النقيبة أزهرا أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو من المال ما قد كان شتى مبعثرا وأتقنتمو ما كان بالمال مهملا وطمأنتمو ما كان منه مبقرا فأجريتم الأقلام عودا وبدأة وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا وأغنيتم عن مسند إلى حميرا وما زبرت في الصحف أقلام حميرا قال : وكذلك ذكر النووي في شرح مسلم نقل عن الفراء ، أنه قال : إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو ; لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ، ولغتهم الربوا ، فعلموهم صورة الخط على لغتهم . ا هـ . [ ص: 26 ] تنبيه آخر قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، لا يمنع تعليمه تعالى بغير القلم ، كما في قصة الخضر مع موسى عليه السلام في قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [ 18 \ 65 ] . وكما في حديث : " نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها " الحديث . وكما في حديث الرقية بالفاتحة لمن لدغته العقرب في قصة السرية المعروفة ، فلما سأله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أنها رقية ؟ قال : شيء نفث في روعي " . وحديث علي لما سئل " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم ؟ قال : لا ، إلا فهما يؤتيه الله من شاء في كتابه . وما في هذه الصحيفة " . وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] . نسأل الله علم ما لم نعلم ، والعمل بما نعلم . وبالله التوفيق . قوله تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى . ظاهر هذه الآية أن الاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان ، ولفظ الإنسان هنا عام ، ولكن وجدنا بعض الإنسان يستغنى ولا يطغى ، فيكون هذا من العام المخصوص ، ومخصصه إما من نفس الآية أو من خارج عنها ، ففي نفس الآية ما يفيده قوله تعالى : أن رآه ، أي : إن رأى الإنسان نفسه ، وقد يكون رأيا واهما ويكون الحقيقة خلاف ذلك ، ومع ذلك يطغى ، فلا يكون الاستغناء هو سبب الطغيان . ولذا جاء في السنة ذم العائل المتكبر ; لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى ، فهو معني في نفسه لا بسبب غناه . أما من خارج الآية ، فقد دل على هذا المعنى قوله تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 \ 37 - 39 ] ، فإيثار الحياة الدنيا هو موجب الطغيان ، وكما في قوله : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا الآية [ 104 \ 2 - 4 ] . [ ص: 27 ] ومفهومه : أن من لم يؤثر الحياة الدنيا ، ولم يحسب أن ماله أخلده ، فلن يطغيه ماله ولا غناه ، كما جاء في قصة النفر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل . وقد نص القرآن على أوسع غنى في الدنيا في نبي الله سليمان ، آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ومع هذا قال : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي الآية [ 38 \ 32 ] . وقصة الصحابي الموجودة في الموطأ : لما شغل ببستانه في الصلاة ، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان ، ينفذ منه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله ، إني فتنت ببستاني في صلاتي ، فهو في سبيل الله " فعرفنا أن الغنى وحده ليس موجبا للطغيان ، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى إن النفس لأمارة بالسوء [ 12 \ 53 ] . وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء الآية [ 42 \ 27 ] . وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون [ 43 \ 51 ] ، وكذلك قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي [ 28 \ 78 ] ، وقال ثالث الثلاثة من بني إسرائيل : " إنما ورثته كابرا عن كابر " بخلاف المسلم ، إلى آخره . فلا يزيده غناه إلا تواضعا وشكرا للنعمة ، كما قال نبي الله سليمان : قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [ 27 \ 78 ] ، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله : فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [ 27 \ 19 ] . وفي العموم قوله : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] . وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربا لله ، كعثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأمثالهم ، وفي الآية [ ص: 28 ] ربط لطيف بأول السورة ، إذا كان خلق الإنسان من علق ، وهي أحوج ما يكون إلى لطف الله وعنايته ورحمته في رحم أمه ، فإذا بها مضغة ثم عظام ، ثم تكسى لحما ، ثم تنشأ خلقا آخر ، ثم يأتي إلى الدنيا طفلا رضيعا لا يملك إلا البكاء ، فيجري الله له نهرين من لبن أمه ، ثم ينبت له الأسنان ، ويفتق له الأمعاء ، ثم يشب ويصير غلاما يافعا ، فإذا ما ابتلاه ربه بشيء من المال أو العافية ، فإذا هو ينسى كل ما تقدم ، وينسى حتى ربه ويطغى ويتجاوز حده حتى مع الله خالقه ورازقه ، كما رد عليه تعالى بقوله : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 77 - 79 ] . ومما في الآية من لطف التعبير قوله تعالى : أن رآه استغنى ، أي أن الطغيان الذي وقع فيه عن وهم ، تراءى له أنه استغنى سواء بماله أو بقوته ; لأن حقيقة المال ولو كان جبالا ، ليس له منه إلا ما أكل ولبس وأنفق . وهل يستطيع أن يأكل لقمة واحدة إلا بنعمة العافية ، فإذا مرض فماذا ينفعه ماله ، وإذا أكلها وهل يستفيد منها إلا بنعمة من الله عليه . ومن هذه الآية أخذ بعض الناس ، أن الغني الشاكر أعظم من الفقير الصابر ; لأن الغنى موجب للطغيان . وقد قال بعض الناس : الصبر على العافية ، أشد من الصبر على الحاجة . قوله تعالى : لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة . قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب : أسند الكذب إلى الناصية ، وفي مواضع أخرى أسنده إلى غير الناصية ، كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 \ 105 ] . وذكر الجواب بأنه أطلق الناصية وأراد صاحبها على أسلوب لإطلاق البعض وإيراد الكل ، وذكر الشواهد عليه القرآن كقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب [ 111 \ 1 ] . والذي ينبغي التنبيه عليه من جهة البلاغة : أن البعض الذي يطلق ويراد به الكل ، لا [ ص: 29 ] بد في هذا البعض من مزيد مزية للمعنى المساق فيه الكلام . فمثلا هنا ذم الكذب وأخذ الكاذب بكذبه ، فجاء ذكر الناصية وهي مقدم شعر الرأس ; لأنها أشد نكارة على صاحبها ونكالا به ، إذ الصدق يرفع الرأس والكذب ينكسه ذلة وخزيا . فكانت هي هنا أنسب من اليد أو غيرها ، بينما في أبي لهب تطاول بماله ، والغرض مذمة ماله وكسبه الذي تطاول به ، واليد هي جارحة الكسب وآلة التصرف في المال ، فكانت اليد أولى فيه من الناصية . وهكذا كما يقولون : بث الأمير عيونه : يريدون جواسيس له ; لأن العين من الإنسان أهم ما فيه لمهمته تلك . ولم يقولوا : بث أرجله ولا رءوسا ولا أيد ، لأنها كلها ليست كالعين في ذلك . ومن هذا القبيل قلوب يومئذ واجفة [ 79 \ 8 ] ، ياأيتها النفس المطمئنة [ 89 \ 27 ] . لأن القلب هو مصدر الخوف والنفس هي محط الطمأنينة ، على أن النفس جزء من الإنسان ، وهكذا ، ومنه الآتي : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] ، أطلق السجود وأراد الصلاة ; لأن السجود أخص صفاتها . قوله تعالى : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] . ربط بين السجود والاقتراب من الله كما قال : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] وقوله في وصف أصحابه رضي الله عنهم : تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] ، فقوله : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، في معنى يتقربون إليه يبين قوله : واسجد واقترب . وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله ، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر ، كما بين تعالى في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : " أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد " . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم سُورَةُ الْقَدْر قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر . الضمير في أنزلناه للقرآن قطعا . وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولا ضعيفا لا يعتبر من أنه لجبريل . وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها [ 97 \ 4 ] . والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيما لشأن القرآن ، وإشعارا بعلو قدره . وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : اقرأ باسم ربك ، ثم جاءت : إنا أنزلناه ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا ، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر [ 15 \ 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع . فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، والمراد به القرآن قطعا ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى . وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، وقوله : إنا أرسلنا نوحا [ 71 \ 1 ] ، إنا نحن نحيي ونميت [ 50 \ 43 ] ، وإنزال القرآن منة عظمى . [ ص: 31 ] وقد دل على تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته [ 38 \ 29 ] ، فقال : كتاب أنزلناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه : كتاب أنزلناه إليك مبارك . والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، وقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ 2 \ 30 ] . ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله . والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق . ثم اختلف في المنزل ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض ؟ فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي : بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : " ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة " . وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع . وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع . وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين ، [ ص: 32 ] وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، في ليلة القدر . وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن الله لم يتكلم به عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم . وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ، فكان كافيا . وقد نقل فيه كلام ابن تيمية ، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك . والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما ; لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم . ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما . ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ; لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : تنزل الملائكة [ 97 \ 4 ] ، أي : في كل ليلة قدر . وقد جاء أنزلناه ، فتدل على الجملة . وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير " الحديث في صحيح البخاري . ![]()
__________________
|
#3
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (601) سُورَةُ الْبَيِّنَة صـ 33 إلى صـ 42 [ ص: 33 ] وفي أبي داود وغيره : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان " . وعلى هذا يكون القرآن موجودا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل منجما في عشرين سنة . وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث . والله تعالى أعلم . وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول الوحي وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي . وقيل : معنى أنزلناه في ليلة القدر أي : أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيما لها ، فلم تكن ظرفا على هذا الوجه . والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكنا إلا أن ما بعده يغني عنه ; لأن إعظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلا ، وهو ما بعدها مباشرة في قوله : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 2 - 3 ] ، إلى آخر السورة . وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها . وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما بين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقا عند قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] . قوله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر . القدر : الرفعة ، والقدر : بمعنى المقدار . [ ص: 34 ] قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان : أحدهما : أن معنى القدر الشرف والرفعة ، كما تقول العرب : فلان ذو قدر ، أي : رفعة وشرف . الوجه الثاني : أنها سميت ليلة القدر ; لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة ، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا [ 44 \ 3 - 5 ] . وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء . والواقع أن في السورة ما يدل للوجه الأول وهو القدر والرفعة ، وهو قوله : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر . فالتساؤل بهذا الأسلوب للتعظيم كقوله : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة [ 101 \ 1 - 3 ] ، وقوله : خير من ألف شهر ، فيه النص صراحة على علو قدرها ورفعتها ، إذ أنها تعدل في الزمن فوق ثلاث وثمانين سنة ، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة . وأيضا كونها اختصت بإنزال القرآن فيها ، وبتنزل الملائكة والروح فيها ، وبكونها سلاما هي حتى مطلع الفجر ، لفيه الكفاية بما لم تختص وتشاركها فيه ليلة من ليالي السنة . وعليه : فلا مانع من أن تكون سميت بليلة القدر ، لكونها محلا لتقدير الأمور في كل سنة ، وأنها بهذا وبغيره علا قدرها وعظم شأنها ، والله تعالى أعلم . تذكير بنعمة كبرى : إذا كانت أعمال العبد تتضاعف في تلك الليلة ، حتى تكون خيرا من ألف شهر ، كما في هذا النص الكريم . فإذا صادفها العبد في المسجد النبوي يصلي ، وصلاة فيه بألف صلاة ، فكم تكون النعمة وعظم المنة ، من المنعم المتفضل سبحانه ، إنه لمما يعلي الهمة ويعظم الرغبة . وقد اقتصرت على ذكر المسجد النبوي دون المسجد الحرام ، مع زيادة المضاعفة [ ص: 35 ] فيه ; لأن بعض المفسرين قال بمضاعفة السيئة فيه . كذلك أي أن المعصية في ليلة القدر كالمعصية في ألف شهر ، والمسجد الحرام يحاسب فيه العبد على مجرد الإرادة ، فيكون الخطر أعظم ، وفي المدينة أسلم . ولعل ما يؤيد ذلك أن ليالي القدر كلها ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وقد أثبتها أهل السنة كافة ، وادعت الشيعة نسخها ورفعها كلية ، وهذا لا يلتفت إليه لصحة النصوص شبه المتواترة . تنبيه لم يأت تحديد لتلك الليلة من أي رمضان تكون ، وقد أكثر العلماء في ذلك القول وإيراد النصوص . فالأقوال منها على أعم ما يكون ، من أنها من عموم السنة ، وهذا لم يأت بجديد ، وهو عن ابن مسعود وإنما أراد الاجتهاد . ومنها : أنها في عموم رمضان ، وهذا حسب عموم نص القرآن . ومنها : أنها في العشر الأواخر منه ، وهذا أخص من الذي قبله . ومنها : أنها في الوتر من العشر الأواخر ، وهذا أخص من الذي قبله . ومنها : أنها في آحاد الوتر من العشر الأواخر . فقيل : في إحدى وعشرين . وقيل : ثلاث وعشرين . وقيل : خمس وعشرين . وقيل : سبع وعشرين . وقيل : تسع وعشرين . وقيل : آخر ليلة من رمضان على التعيين ، وفي كل من ذلك نصوص . ولكن أشهرها وأكثرها وأصحها ، ما جاء أنها في سبع وعشرين ، وإحدى [ ص: 36 ] وعشرين ، ولا حاجة إلى سرد النصوص الواردة في كل ذلك ، فلم يبق كتاب من كتب التفسير إلا ذكرها ، ولا سيما ابن كثير والقرطبي . تنبيه إذا كانت كل النصوص التي وردت في الوتر من العشر الأواخر صحيحة ، فإنه لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بينها ، وليست بلازمة في ليلة منها ولا تخرج عنها ، فقد تكون في سنة هي ليلة إحدى وعشرين ، بينما في سنة أخرى ليلة خمس أو سبع وعشرين ، وفي أخرى ليلة ثلاث أو تسع وعشرين ، وهكذا . والله تعالى أعلم . وقد حكى هذا الوجه ابن كثير عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وقال : وهو الأشبه ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إنه صلى الله عليه وسلم قد أنسيها ، لتجتهد الأمة في الشهر كله أو في العشر كلها ، ومما يؤكد أنها في العشر الأواخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم ، التماسا لليلة القدر . وقد جاء في فضلها ما استفاضت به كتب الحديث والتفسير ، ويكفي فيها نص القرآن الكريم . وفي هذه الليلة مباحث عديدة يطول تتبعها ، منها ما يذكر من أماراتها . ومنها : محاولة البعض استخراجها من القرآن . ومنها : علاقتها بحكم بني أمية ، وليس على شيء من ذلك نص يمكن التعويل عليه ، لذا لا حاجة إلى إيراده ، اللهم إلا ما جاء في بعض أمارات نهارها صبيحتها ، حيث جاء التنويه عن شيء منه في الحديث : " ورأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين " . فذكروا من علامات يومها أن تطلع الشمس بيضاء ، وقالوا : لأن أنوار الملائكة عند صعودها ، تتلاقى مع أشعة الشمس فتحدث فيها بياض الضوء ، وهذا مروي عن أبي في صحيح مسلم . ومنها : اعتدال هوائها وجوها ونحو ذلك ، ومما يمكن أن يكون له صلة بالسورة ذاتها ، ما حكاه ابن كثير أن بعض السلف ، أراد استخراجها من كتاب الله في نفس السورة ، فقال : إن كلمة " هي " في قوله : سلام هي [ 97 \ 5 ] ، تقع السابعة [ ص: 37 ] والعشرين من عد كلماتها ، فتكون ليلة سبع وعشرين . وقيل أيضا : إن حروف كلمة ليلة القدر تسعة أحرف ، وقد تكررت ثلاث مرات ، فيكون مجموعها سبعة وعشرين حرفا ، فتكون ليلة سبع وعشرين . ولعل أصوب ما يقال : هو ما قدمنا من أنها تتصل في ليالي الوتر من العشر الأواخر ، ولا تخرج عنها . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها . قيل : الروح هو جبريل ، كما في قوله : فنفخنا فيها من روحنا [ 21 \ 91 ] ، ويكون فيها أي في جماعة الملائكة ، أو معطوف على الملائكة من عطف الخاص على العام . وقيل : إن الروح نوع من الملائكة مستقل ، ويكون فيها ظرف للنزول أي في تلك الليلة . قوله تعالى : من كل أمر . الأمر يكون واحد الأمور وواحد الأوامر ، والذي يظهر أنه شامل لهما معا ; لأن الأمر من الأمور لا يكون إلا بأمر من الأوامر : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] . ويشهد له ما جاء في شأنها في سورة الدخان : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا [ 44 \ 4 - 5 ] . والذي يفرق من الأمر ، هو أحد الأمور . حيث يفصل بين الخير والشر والضر والنفع إلى آخره ، ثم قال : أمرا من عندنا ، كما أشار إليه السياق : لا إله إلا هو يحيي ويميت [ 44 \ 8 ] ، فكل أمر من الأمور يقتضي أمرا من الأوامر ، وهذا يمكن أن يكون من الألفاظ المشتركة المستعملة في معنييها ، والله تعالى أعلم . [ ص: 38 ] قوله تعالى : سلام هي حتى مطلع الفجر . قيل : سلام هي أي أن الملائكة تسلم على كل مؤمن لقيته . وقيل : سلام هي أي كل أمر فيها فهو سلام ، ولا يصاب أحد فيها بسوء ، وعلى كل فلا تعارض بين القولين ، فالأول جزء من الثاني ; لأن الثاني يجعلها ظرفا لكل خير ، وينفي عنها كل شر ، ومن الخير العظيم ، سلام الملائكة على المؤمنين . لطيفة كون إنزال القرآن هنا في الليل دون النهار ، مشعر بفضل اختصاص الليل . وقد أشار القرآن والسنة إلى نظائره ، فمن القرآن قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا [ 17 \ 1 ] ، ومنه قوله : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ 17 \ 79 ] ، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود [ 50 \ 40 ] ، إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [ 73 \ 6 ] . وقوله : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون [ 51 \ 17 ] . ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " الحديث . وهذا يدل على أن الليل أخص بالنفحات الإلهية ، وبتجليات الرب سبحانه لعباده ، وذلك لخلو القلب وانقطاع الشواغل وسكون الليل ، ورهبته أقوى على استحضار القلب وصفائه . [ ص: 39 ] بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْبَيِّنَة قال الألوسي : وتسمى سورة القيامة ، وسورة البلد ، وسورة المنفكين ، وسورة البرية ، وسورة لم يكن . بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . ذكر هنا الذين كفروا ، ثم جاءت من ، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين ، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلا من أهل الكتاب والمشركين ، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف ، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين . وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير ، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وأن المشركين هم عبدة الأوثان ، والكفر يجمع القسمين . وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى ، ولكن الخلاف هل الشرك يجمعهما أيضا أم لا ؟ فبين الفريقين عموم وخصوص ، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى ، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان . ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضا ، كما في قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [ 9 \ 30 - 31 ] . [ ص: 40 ] فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكا . وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال : " وهل أكبر إشراكا من قولها : اتخذ الله ولدا [ 2 \ 116 ] ، فهو وإن كان مخالفا للجمهور في منع الزواج من الكتابيات ، إلا أنه اعتبرهن مشركات . ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع في مسمى الشرك ، هل يشمل أهل الكتاب أم لا ؟ مع أننا وجدنا فرقا في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين ، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين ، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات ، كما قال تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] . وقوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] . وقال : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] ، بين ما في حق الكتابيات قال : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ 5 \ 5 ] ، فكان بينهما مغايرة في الحكم . وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله المتقدم ذكرها جمعا مفصلا مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض ، إلى آخر ما أورده رحمة الله تعالى علينا وعليه . ولعل في نفس آية وقالت اليهود عزير ابن الله ، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين : الأول : قوله تعالى : يضاهئون قول الذين كفروا أي يشابهونهم في مقالتهم ، وهذا القدر اتصف به المشركون من أنواع الشرك . الثاني : تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بينما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم " والمشركين " . [ ص: 41 ] ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث ، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت ، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام ، وأهل الكتاب يقع منهم حينا وحينا . وقد أخذ بعض العلماء : أن الكفر ملة واحدة ، فورث الجميع من بعض ، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى . تنبيه بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . وقوله تعالى : منفكين حتى تأتيهم البينة ، اختلف في " منفكين " اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين ، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه : قال الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء . ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها . وأنا أقول وجه الإشكال : أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه . فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن . ا هـ . حرفيا . وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين ، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين : وعليه جميع المفسرين . والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أن منفكين أي : [ ص: 42 ] مرتدعين عن الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة ، أي : أتتهم . ولكن في منفكين ، وجه يرفع هذا الإشكال ، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ 75 \ 36 ] ، وقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ 29 \ 1 - 2 ] ، أي : لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] . وقد حكى أبو حيان قولا عن ابن عطية قوله : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا هـ . فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه ، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين ، كما أسلفنا . ولابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله ، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال : وفي معنى قوله تعالى : لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين . ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين . هل المراد : لم يكونوا منفكين عن الكفر ؟ أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث ، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث . أو المراد : أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول . ![]()
__________________
|
#4
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (602) سُورَةُ الْبَيِّنَة صـ 43 إلى صـ 52 وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال : فقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه [ ص: 43 ] لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مفكوكين ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل . والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا ، وهذا كقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون البتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى . وقريب من ذلك قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 3 - 5 ] . وهذا استفهام إنكار أي : لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل . تبين من ذلك كله أن الأصح في " منفكين " معنى " متروكين " وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وبالله تعالى التوفيق . قوله تعالى : حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة . أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها رسول من الله يتلو صحفا . وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] ، وقوله : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ 2 \ 146 ] . فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم . ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب ، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه : " كلا والله لن يخزيك الله ، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر " إلى آخره . وقول عمه أبي طالب : " والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة " إلخ . وقد لقبوه بالأمين . [ ص: 44 ] وحادثة شق الصدر في رضاعه ، بل وقيل ذلك في قصة أبيه عبد الله ، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها ، فأبى . ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك ، فقالت له : لا حاجة لي بك ، فقال : وكيف كنت تتعرضين لي ؟ فقالت : رأيت نورا في وجهك ، فأحببت أن يكون لي ، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن ، فلا حاجة لي فيك . فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم ، ثم أكرمه الله بالرسالة ، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة ، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن . ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه : وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 49 ] فعليه يكون " رسول من الله " بدل من " البينة " مرفوع على البدلية ، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة . فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة . وعلى كل ، فإن البينة تصدق على الجميع ، كما تصدق على المجموع ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا رسول إلا برسالة تتلى ، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها . وقد عرف لفظ البينة ، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها . فكأنه قيل : حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم ، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه ، وآخر سورة الفتح : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه الآية [ 48 \ 29 ] . قوله تعالى : فيها كتب . جمع كتاب ، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : كتب : بمعنى مكتوبات . وقال ابن جرير : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة . يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء . وحكاه ابن كثير واقتصر عليه . وقال القرطبي : إن الكتب بمعنى الأحكام ، مستدلا بمثل قوله تعالى : كتب عليكم الصيام [ 2 \ 183 ] وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] . [ ص: 45 ] وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، فجعله كتبا ; لأنه يشتمل على أبواب من البيان . وذكر الفخر الرازي : أنه يحتمل في كتب أي : الآيات المكتوبة في المصحف ، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه . وقال الشوكاني : المراد : الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة ، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام . والذي يظهر أن مدلول " كتب " على ظاهرها ، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة ، كما ينص عليه قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثم قال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 19 ] ، وكقوله في عموم الكتب الأولى : قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ 46 \ 30 ] ، وقوله : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل [ 3 \ 3 - 4 ] . ولذا قال : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ 6 \ 114 ] ، أي : بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها ، كما في قوله : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم [ 24 \ 34 ] . وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 \ 76 ] . وقال : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل ، وقد جاء عمليا في آية الرحمن ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها أي : في التوراة أن النفس بالنفس والعين بالعين ، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم ، كما قال : ولكم في القصاص حياة [ 2 \ 179 ] . ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : " أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة ، فقال : أوذكرت ثم ؟ " . [ ص: 46 ] وبكى رضي الله عنه ; لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة ، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها ، كما هو معروف في القصة . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من أهل الكتاب والمشركين معا ، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط ، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين ، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب ، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم ، وبما سيأتي به ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ 2 \ 89 ] . وكقوله صراحة : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ 42 \ 14 ] ، فلمعرفتهم به قبل مجيئه ، واختلافهم فيه بعد مجيئه ، وخصهم هنا بالذكر في قوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة . تنبيه مما يدل على ما ذكرنا من معنى " كتب قيمة " ، أمران من كتاب الله : الأول منها : اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا ، وما قدمنا من نصوص . الثاني : أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] ، فهذا نفس الأسلوب ، ولكن قال : " آياته " ; لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى ، فاقتصر على الآيات . قوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء . وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم . ولكن هنا لم يبين موضع الأمر عليهم بعبادة الله مخلصين له الدين ، هل هو في كتبهم السابقة ، أم في هذا القرآن الذي يتلى عليهم في صحف مطهرة ؟ وقد بين القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل من كتبهم والقرآن الكريم ، [ ص: 47 ] فمما في كتبهم قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله [ 16 \ 36 ] . وقوله : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] . فإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، هو عين عبادة الله مخلصين له الدين . ومما في القرآن قوله تعالى : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين [ 2 \ 40 - 43 ] . فقد نص على كامل المسألة هنا ، أن الكتب القيمة المنصوص عليها في الصحف المطهرة هي كتب أهل الكتاب ، لقوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، وأنهم أمروا في هذا القرآن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التعليمات المذكورة نفسها ، وإقام الصلاة لا يكون إلا عبادة الله بإخلاص . وهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن لا تقتضي التفرق ، بل تستوجب الاجتماع والوحدة . قوله تعالى : وذلك دين القيمة . القيمة : فيعلة من القوامة ، وهي غاية الاستقامة . وقد جاء بعد قوله : فيها كتب قيمة [ 98 \ 3 ] ، أي : مستقيمة بتعاليمها . وقد نص تعالى على أن القرآن أقومها وأعدلها كما في قوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وقال تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ 18 \ 1 - 2 ] ، فنفى عنه العوج ، وأثبت له الاستقامة . وهذا غاية في القوامة كما قدمنا من قبل ، من أن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات ، لكنه ينحرف تارة يمينا وشمالا [ ص: 48 ] مع استقامته ، فهو مع الاستقامة لم يخل من العوج . ولكن ما ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة ، هو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين ، مع استقامته في سطحه . وهكذا هو القرآن ، فهو الصراط المستقيم ، ولذا قال تعالى : وذلك دين القيمة [ 98 \ 5 ] الملة القيمة ، قيمة في ذاتها ، وقيمة على غيرها : ومهيمنة عليه ، وكقوله : ذلك الدين القيم [ 12 \ 40 ] ، وقوله : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ 6 \ 161 - 163 ] . تنبيه إن في هذه الآية ردا صريحا على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك ، حيث لم تسلم من لبس ، وهي دعوة وحدة الأديان ، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ، ومنه باطل . أما الحق فهو وحدة الأصول ، كما قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة [ 98 \ 5 ] ، وأما الباطل فهو الإبهام ، بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع ، بأن فروع كل دين قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر ، فلم تتحد الصلاة في جميع الأديان ولا الصيام ، ونحو ذلك . وقد أجمع المسلمون على أن العبرة بما في القرآن من تفصيل للفروع ، والسنة تكمل تفصيل ما أجمل . وهنا النص الصريح بأن ذلك الذي جاء به القرآن هو دين القيمة ، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وهي أفعل تفضيل ، فلا يمكن أن يعادل ويساوي مع غيره أبدا مع نصوص القرآن ، بأن الله أخذ العهد على جميع الأنبياء لئن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ، ولينصرنه وليتبعنه ، وأخذ عليهم العهد بذلك . وقد أخبر الرسل أممهم بذلك . فلم يبق مجال في هذا الوقت ولا غيره لدعوة الجاهلية بعنوان مجوف وحدة الأديان ، بل الدين الإسلامي وحده : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 \ 85 ] [ ص: 49 ] وبالله تعالى التوفيق . قوله تعالى : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . قرئت البرية بالهمزة وبالياء ، فقرأ بالهمز : نافع وابن ذكوان والباقون بالياء ، فاختلف في أخذها . قال القرطبي : قال الفراء : إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء : أي التراب . فأصله غير مهموز بقوله منه : براه الله يبروه بروا ، أي : خلقه ، وقيل : البرية من بريت القلم أي قدرته . وقد تضمنت هذه الآية مسألتين : الأولى منهما : أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها ، ومبحث خلود الكفار في النار ، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيا . والمسألة الثانية أنهم شر البرية ، والبرية أصلها البريئة ، قلبت الهمزة ياء تسهيلا ، وأدغمت الياء في الباء ، والبريئة الخليقة ، والله تعالى بارئ النسم ، هو الخالق البارئ المصور سبحانه . ومن البرية الدواب والطيور ، وهنا النص على عمومه ، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب . وقد جاء النص صريحا في هذا المعنى في قوله تعالى : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] ، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقال عنهم : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين [ 43 \ 40 ] ، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين . وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين ; لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله ، كما جاء في هدهد سليمان ، أنكر على بلقيس وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله . ونص مالك في الموطأ في فضل يوم الجمعة : " أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من [ ص: 50 ] فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة " ، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء ، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء ، فيقول لها : كوني ترابا ، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له ، كما قال : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] . وذلك والله تعالى أعلم : أن الدواب لم تعمل خيرا فتبقى لتجازى عليه ، ولم تعمل شرا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها ، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها ، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب . بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار ، فكان شر البرية . قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . الحكم هنا بالعموم ، كالحكم هناك ، ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل . أما من حيث الجنس فلا إشكال ; لأن الإنسان أفضل الأجناس ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] . وأما من حيث العموم ، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على أن صالح المؤمنين أفضل من الملائكة . ولعل مما يقوي هذا الاستدلال ، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ، ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة ؟ هذا هو محل الخلاف . وللقرطبي مبحث في ذلك : مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب ، فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل . وأما من جهة النصوص ، فقال في سورة البقرة عند قوله : قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم [ 2 \ 33 ] ، قال المسألة الثالثة : اختلف العلماء في هذا الباب أيهما أفضل ، الملائكة أو بنو آدم ؟ على قولين : فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة . [ ص: 51 ] وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل ، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون . وقوله : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] . وقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ 6 \ 50 ] . وبما في البخاري يقول الله : " من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملأ الأرض . واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ 98 \ 7 ] ، بالهمز من برأ الله الخلق ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم " أخرجه أبو داود . وبأن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم ; لأن طريق ذلك خبر الله ، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الأمة . وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر ، حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا والشيعة : إن الأنبياء أفضل ; لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إلى آخره . ثم رد هذا الاستدلال . وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية ، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية ، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة ، والملائكة فيهم النص بأنهم : عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] ، والبشر فيهم النص ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] ، والفرق بينهما كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة . ففي الملائكة بالاسم : مكرمون ، وهو يدل على الدوام والثبوت ، وفي بني آدم كرمنا ، وهو يدل على التجدد والحدوث . وهذا هو الواقع ، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم [ ص: 52 ] وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني . وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر ، ثم هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد . وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حق من يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : " بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون " . وحديث : " سبق درهم مائة ألف درهم " وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ; لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير . فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة ; فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . والله تعالى أعلم . ![]()
__________________
|
#5
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (603) سُورَةُ الْعَادِيَات صـ 53 إلى صـ 62 قوله تعالى : جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . فيه أربع مسائل ; ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن . والرابعة مفصلة ولها شواهد . وأما الثلاثة المجملة فأولها قوله : جزاؤهم عند ربهم ، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه ، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه ، وإلا لقال : جزاؤهم على ربهم . وقد بين ذلك صريح قوله تعالى : إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 31 - 36 ] ، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده . [ ص: 53 ] الثانية والثالثة قوله : جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، فأجمل ما في الجنات ، ونص على أنها تجري من تحتها الأنهار ، مع إجمال تلك الأنهار ، وقد فصلت آية : عم يتساءلون [ 78 \ 1 ] ما أعد لهم في الجنة من حدائق وأعناب وكواعب وشراب وطمأنينة ، وعدم سماع اللغو إلى آخره . كما جاء تفصيل الأنهار في سورة القتال ، في قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم [ 47 \ 15 ] ، والخلود في هذا النعيم هو تمام النعيم . قوله تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه . يعتبر هذا الإخبار من حيث رضوان الله تعالى على العباد في الجنة ، من باب العام بعد الخاص . وقد تقدم في سورة الليل في قوله تعالى : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى إلى قوله ولسوف يرضى [ 92 \ 17 - 21 ] ، واتفقوا على أنها في الصديق رضي الله عنه كما تقدم ، وجاء في التي بعدها سورة والضحى قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، أي : للرسول صلى الله عليه وسلم . وهنا في عموم : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، فهي عامة في جميع المؤمنين الذين هذه صفاتهم ، ثم قال : رضي الله عنهم ، وقد جاء ما يبين سبب رضوان الله تعالى عليهم وهو بسبب أعمالهم ، كما في قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ 48 \ 1 ] فكانت المبايعة سببا للرضوان . وفي هذه الآية الإخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه ، ولم يبين زمن هذا الرضوان أهو سابق في الدنيا أم حاصل في الجنة ، وقد جاءت آية تبين أنه سابق في الدنيا ، وهي قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ 9 \ 100 ] ، فقوله تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ثم يأتي بعدها : وأعد لهم جنات . [ ص: 54 ] فهو في قوة الوعد في المستقبل ، فيكون الإخبار بالرضى مسبقا عليه . وكذلك آية سورة الفتح في البيعة تحت الشجرة إذ فيها : لقد رضي الله عن المؤمنين [ 48 \ 18 ] ، وهو إخبار بصيغة الماضي ، وقد سميت " بيعة الرضوان " . تنبيه في هذا الأسلوب الكريم سؤال ، وهو أن العبد حقا في حاجة إلى أن يعلم رضوان الله تعالى عليه ; لأنه غاية أمانيه ، كما قال تعالى : ذلك الفوز العظيم . أما الإخبار عن رضى العبد عن الله ، فهل من حق العبد أن يسأل عما إذا كان هو راضيا عن الله أم لا ؟ إنه ليس من حقه ذلك قطعا ، فيكون الإخبار عن ذلك بلازم الفائدة ، وهي أنهم في غاية من السعادة والرضى فيما هم فيه من النعيم إلى الحد الذي رضوا وتجاوز رضاهم حد النعيم إلى الرضى عن المنعم . كما يشير إلى شيء من ذلك آخر آية النبأ : عطاء حسابا [ 78 \ 36 ] ، قالوا : إنهم يعطون حتى يقولوا : حسبنا حسبنا ، أي : كافينا . قوله تعالى : ذلك لمن خشي ربه . اسم الإشارة منصب على مجموع الجزاء المتقدم ، وقد تقدم أنه للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهنا يقول : إنه لمن خشي ربه ، مما يفيد أن تلك الأعمال تصدر منهم عن رغبة ورهبة . رغبة فيما عند الله ، ورهبة من الله ، ومثله قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] ، وقوله : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى . [ 79 \ 40 - 41 ] والواقع أن صفة الخوف من الله تعالى هي أجمع صفات الخير في الإنسان ; لأنها صفة للملائكة المقربين . كما قال تعالى عنهم : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 50 ] . [ ص: 55 ] وقد عم الحكم في ذلك بقوله تعالى : إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [ 67 \ 12 ] . وفي هذه الآية السر الأعظم ، وهو كون الخشية في الغيبة عن الناس ، وهذا أعلى مراتب المراقبة لله ، والخشية أشد الخوف . بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الزَّلْزَلَة قوله تعالى : إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم الزلزلة : الحركة الشديدة بسرعة ، ويدل لذلك فقه اللغة من وجهين : الأول : تكرار الحروف ، أو ما يقال تكرار المقطع الواحد ، مثل صلصل وقلقل وزقزق ، فهذا التكرار يدل على الحركة . والثاني : وزن فعل بالتضعيف كغلق وكسر وفتح ، فقد اجتمع في هذه الكلمة تكرار المقطع وتضعيف الوزن . ولذا ، فإن الزلزال أشد ما شهد العالم من حركة ، وقد شوهدت حركات زلزال في أقل من ربع الثانية ، فدمر مدنا وحطم قصورا . ولذا فقد جاء وصف هذا الزلزال بكونه شيئا عظيما في قوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ 22 \ 1 ] ، ويدل على هذه الشدة تكرار الكلمة في " زلزلت " وفي " زلزالها " ، كما تشعر به هذه الإضافة . وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، إيراد النصوص المبينة لذلك في أول سورة الحج كقوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، وقوله : إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا [ 56 \ 4 - 5 ] ، وقوله : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة [ 79 \ 6 - 7 ] ، وساق قوله : وأخرجت الأرض أثقالها [ 99 \ 2 ] . واختلف في الأثقال ما هي على ثلاثة أقوال : [ ص: 57 ] فقيل : موتاها . وقيل : كنوزها ، وقيل : التحدث بما عمل عليها الإنسان . ولعل الأول أرجح هذه الثلاثة ; لأن إخراج كنوزها سيكون قبل النفخة ، والتحدث بالأعمال منصوص عليه بذاته ، فليس هو الأثقال . ورجحوا القول الأول لقوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [ 77 \ 25 - 26 ] . وقالوا : الإنس والجن ثقلان على ظهرها ، فهما ثقل عليها ، وفي بطنها فهم ثقل فيها ، ولذا سميا بالثقلين . قاله الفخر الرازي وابن جرير . وروي عن ابن عباس : أنه موتاها . وشبيه بذلك قوله : وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ 48 \ 3 - 4 ] ، ولا يبعد أن يكون الجميع إذا راعينا صيغة الجمع أثقالها ، ولم يقل ثقلها ، وإرادة الجمع مروية أيضا عن ابن عباس . ذكره الألوسي ، وابن جرير عنه وعن مجاهد . وحكى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه القولين في إملائه : أي موتاها ، وقيل : كنوزها . وقوله تعالى : وقال الإنسان ما لها ، لفظ الإنسان هنا عام وظاهره أن كل إنسان يقول ذلك ، ولكن جاء ما يدل على أن الذي يقول ذلك هو الكافر . أما المؤمن فيقول : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ، وذلك في قوله : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 51 - 52 ] . فالكافر يدعو بالويل والمؤمن يطمئن للوعد ، ومما يدل على أن الجواب من المؤمنين ، لا من الملائكة ، كما يقول بعض الناس ، ما جاء في آخر السياق قوله : فإذا هم جميع أي : كلا الفريقين لدينا محضرون . وقوله : ما لها سؤال استيضاح وذهول من هول ما يشاهد . وقوله : يومئذ تحدث أخبارها ، التحديث هنا صريح في الحديث وهو على حقيقته ; لأن في ذلك اليوم تتغير أوضاع كل شيء وتظهر حقائق كل شيء ، وكما أنطق الله الجلود ينطق الأرض ، فتحدث بأخبارها ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ 41 \ 21 ] [ ص: 58 ] وتقدم تفصيل ذلك عند أول سورة الحشر ; لأن الله أودع في الجمادات القدرة على الإدراك والنطق ، والمراد بإخبارها أنها تخبر عن أعمال كل إنسان عليها في حال حياته . ومما يشهد لهذا المعنى حديث المؤذن " لا يسمع صوته حجر ولا مدر إلا وشهد له يوم القيامة " ، وذكر ابن جرير وجها آخر ، وهو أن إخبارها هو ما أخرجته من أثقالها بوحي الله لها ، والأول أظهر لأنه يثبت معنى جديدا . ويشهد له الحديث الصحيح . قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه ، والآخر في صيغة " يعمل " . أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم : من للعموم المسلم والكافر ، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئا ، لقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وفي حق المسلم ، قد لا يرى كل ما عمل من شر ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] . وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده . أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث ، وهو في صيغة " يعمل " ; لأنها صيغة مضارع ، وهي للحال والاستقبال . والمقام في هذا السياق يومئذ يصدر الناس أشتاتا ، وهو يوم البعث ، وليس هناك مجال للعمل ، وكان مقتضى السياق أن يقال : فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره . ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع ، والمقام ليس مقام عمل ، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد " يعمل مثقال ذرة " أي من الصنفين ما كان من ذلك ; لقوله تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل ، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات ، حيث كان السياق أولا من أول [ ص: 59 ] السورة في معرض الإخبار عن المستقبل : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وإذا أخرجت الأرض أثقالها ، وإذا قال الإنسان ما لها . في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها ، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، وقوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] . ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير ، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شرا يره في الآخرة ، ومثقال الذرة ، قيل : هي النملة الصغيرة ، لقول الشاعر : من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا والإتب : قال في القاموس : الإتب بالكسر ، والمئتبة كمكنسة برد يشق ، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين ، وقيل : هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس ، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما . وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله . ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها ; لأنه تعالى عمم العمل في قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير ، وقد جاء النص صريحا بذلك في قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] . وهنا تنبيهان : الأول من ناحية الأصول ، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال ، بل هي أولى وأحرى . وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق ، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ، وقد يكون مساويا له ، فمن الأول هذه الآية وقوله :فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ 17 \ 23 ] ، ومن المساوي قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ، فإن إحراق ماله وإغراقه [ ص: 60 ] ملحق بأكله ، بنفي الفارق وهو مساو لأكله في عموم الإتلاف عليه ، وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل ، أي النص . التنبيه الثاني في قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك . رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر ، والمسمى بعصر الذرة ، إذ قالوا : لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء ، وأنها لا تقبل التقسيم ، كما يقول المناطقة : إنها الجوهر الفرد ، الذي لا يقبل الانقسام . وجاء العلم الحديث ففتت الذرة وجعل لها أجزاء . ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة ، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب . فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة ، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت ، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء . سبحانك ما أعظم شأنك ، وأعظم كتابك ، وصدق الله إذ يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] . [ ص: 61 ] بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْعَادِيَات قوله تعالى : والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا . قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : العاديات : جمع عادية ، والعاديات : المسرعات في مسيرها . فمعنى العاديات : أقسم بالمسرعات في سيرها . ثم قال : وأكثر العلماء على أن المراد به الخيل ، تعدو في الغزو ، والقصد تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله . وقال بعض العلماء : المراد بالعاديات : الإبل تعدو بالحجيج من عرفات إلى مزدلفة ومنى . ومعنى قوله : ضبحا : أنها تضبح ضبحا ، فهو مفعول مطلق ، والضبح : صوت أجواف الخيل عند جريها . وهذا يؤيد القول الأول الذي يقول هي الإبل ، ولا يختص الضبح بالخيل . فالموريات قدحا : أي الخيل توري النار بحوافرها من الحجارة ، إذا سارت ليلا . وكذلك الذي قال : العاديات : الإبل . قال : برفعها الحجارة فيضرب بعضها بعضا . ويدل لهذا المعنى قول الشاعر : تنفي يداها الحصا في كل هاجرة نفي الدراهم تنقاد الصياريف [ ص: 62 ] فالمغيرات صبحا الخيل تغير على العدو وقت الصبح . وعلى القول الثاني : فالإبل تغير بالحجاج صبحا من مزدلفة إلى منى يوم النحر . فأثرن به نقعا : أي غبارا . قال به . أي : بالصبح أو به . أي بالعدو . والمفهوم من العاديات : توسطن به جمعا ، أي دخلن في وسط جمع أي خلق كثير من الكفار . ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم : فوسطن جمعهم وأفلت حاجب تحت العجاجة في الغبار الأقتم وعلى القول الثاني الذي يقول : العاديات الإبل تحمل الحجيج . فمعنى قوله : فوسطن به جمعا ، أي : صرن بسبب ذلك العدو وسط جمع . وهي المزدلفة ، وجمع اسم من أسماء المزدلفة . ويدل لهذا المعنى قول صفية بنت عبد المطلب ، عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما : فلا والعاديات مغبرات جمع بأيديها إذا سطع الغبار وهذا الذي ساقه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد جمع أقوال جميع المفسرين في هذه الآيات ، وقد سقته بحروفه لبيانه للمعنى كاملا . ولكن مما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان في الأضواء : أنه إذا اختلف علماء التفسير في معنى وفي الآية قرينة ترد أحد القولين أو تؤيد أحدهما فإنه يشير إليه . وقد وجدت اختلاف المفسرين في هذه الآيات في نقطة أساسية من هذه الآيات مع اتفاقهم في الألفاظ ، ومعانيها والأسلوب وتراكيبه . ونقطة الخلاف هي معنى الجمع الذي توسطن به ، أهو المزدلفة لأن من أسمائها جمعا كما في الحديث : " وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " . وهذا مروي عن علي رضي الله عنه ، في نقاش بينه وبين ابن عباس . ساقه ابن جرير . ![]()
__________________
|
#6
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (604) سُورَةُ الْقَارِعَة صـ 63 إلى صـ 72 [ ص: 63 ] أم بالجمع جمع الجيش في القتال على ما تقدم ، وهو قول ابن عباس وغيره . حكاه ابن جرير وغيره . وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع ، وهي كالآتي : أولا وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات ، حتى حد الضبح ووري النار بالحوافر وبالحصا ، لأنها أوصاف تدل على الجري السريع . ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو ، وليس هو فيها بمحمود ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي : " السكينة السكينة " فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم . ثانيا : أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب ، كما قاله بشار : كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه أي : لشدة الكر والفر . ثالثا : قوله تعالى : فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ، جاء مرتبا بالفاء ، وهي تدل على الترتيب والتعقيب . وقد تقدم المغيرات صبحا ، وبعدها فوسطن به جمعا . وجمع هي المزدلفة ، وإنما يؤتى إليها ليلا . فكيف يقرن صبحا ، ويتوسطن المزدلفة ليلا . وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنهم يغيرون صبحا من المزدلفة إلى منى ، تكون تلك الإغارة صبحا بعد التوسط بجمع ، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها . فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق . ويبقى القول الآخر وهو الأصح . والله تعالى أعلم . ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيحا لهذا المعنى ، وهو أنه في السورة السابقة ، ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم . [ ص: 64 ] وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة ، وهي عدوهم أشتاتا في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت ، وهو نصرة دين الله أو الشهادة في سبيل الله ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد . هذا الجواب قال القرطبي : الكنود : الكفور الجحود لنعم الله ، وهو قول ابن عباس . وقال الحسن : يذكر المصائب وينسى النعم ، أخذه الشاعر فنظمه : أيا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتى متى وروى أبو أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكنود هو الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده " . تشكو المصيبات وتنسى النعم وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أبشركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من نزل وحده ، ومنع رفده ، وجلد عبده " خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول . وروى ابن عباس أيضا أنه قال : " الكنود بلسان كندة وحضرموت : العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ، وبلسان كنانة : البخيل السيئ الملكة " . وقال مقاتل : وقال الشاعر : كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنودا لنعماء الرجال يبعد أي : كفور . ثم قيل : هو الذي يكفر اليسير ، ولا يشكر الكثير . وقيل : الجاحد للحق . وقيل : سميت كندة كندة ; لأنها جحدت أباها . [ ص: 65 ] وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر : دع البخلاء إن شمخوا وصدوا وذكرى بخل ثمانية كنود في نقول كثيرة وشواهد . ومنها : الكنود الذي ينفق نعم الله في معصية الله . وعن ذي النون : الهلوع والكنود : هو الذي إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا . وقيل : الحسود الحقود . ثم قال القرطبي رحمه الله في آخر البحث : قلت : هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة ، وأحوال غير محمودة ، فإن صح فهو أعلى ما يقال ، ولا يبقى لأحد معه مقال . ا هـ . وهكذا كما قال : إن صح الأثر فلا قول لأحد ، ولكن كل هذه الصفات من باب اختلاف التنوع ، لأنها داخلة ضمن معنى الجحود للحق أو للنعم . وقد استدل ذو النون المصري بالآية الكريمة ، وهي مفسرة للكنود على المعاني المتقدمة بأنه هو الهلوع إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا . ومثلها قوله : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني [ 89 \ 15 - 16 ] . وقد عقب عليه هناك بمثل ما عقب عليه هنا . فهناك قال تعالى : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما [ 89 \ 17 - 20 ] . وهنا عقب عليه بقوله : وإنه لحب الخير لشديد ، والله تعالى أعلم . وقوله : إن الإنسان عام في كل إنسان ، ومعلوم أن بعض الإنسان ليس كذلك ، [ ص: 66 ] كما قال تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى [ 92 \ 5 ، 6 ] ، مما يدل على أنه من العام المخصوص . وأن هذه الصفات من طبيعة الإنسان إلا ما هذبه الشرع ، كما قال تعالى : وأحضرت الأنفس الشح [ 4 \ 128 ] . وقوله : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] . ونص الشيخ في إملائه أن المراد به الكافر . قوله تعالى : وإنه على ذلك لشهيد . اختلف في مرجع الضمير في : وإنه ، فقيل : راجع للإنسان ، ورجحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، مستدلا بقوله تعالى بعده : وإنه لحب الخير لشديد . وقيل : راجع إلى رب الإنسان . واختار هذا القرطبي وقدمه . وجميع المفسرين يذكرون الخلاف ، وقد عرفت الراجح منها ، وعليه ، فعلى أنه راجع لرب الإنسان فلا إشكال في الآية ، وعلى أنه راجع للإنسان ففيه إشكال أورده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب وأجاب عليه . وهو أنه جاءت نصوص تدل على أنه ينكر ذلك ، وأنه كان يحب أنه يحسن صنعا ، ونحو ذلك . ومن الجواب عليه : أن شهادته بلسان الحال . وقد أورد بعض المفسرين شهادتهم بلسان المقال في قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر [ 9 \ 17 ] إلا أن هذه الشهادة بالكفر هي الشرك . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد . الخير عام ، كما تقدم في قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ولكنه هنا خاص بالمال ، فهو من العام الذي أريد به الخاص من قصر العام على [ ص: 67 ] بعض أفراده ; لأن المال فرد من أفراد الخير ، كقوله تعالى : إن ترك خيرا [ 2 \ 180 ] ، أي : مالا ; لأن عمل الخير يصحبه معه ولا يتركه . وفي معنى هذا وجهان : الأول وإنه لحب الخير أي بسبب حبه الخير لشديد بخيل ، شديد البخل . كما قيل : أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد أي : شديد البخل على هذه الرواية من هذا البيت . والوجه الثاني : وإنه لشديد حب المال . قالهما ابن كثير . وقال : كلاهما صحيح ، والواقع أن الثاني يتضمن الأول . ويشهد للوجه الثاني ، قوله تعالى : وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما . وقلنا : إن الثاني يتضمن الأول ; لأن من أحب المال حبا جما سيحمله حبه على البخل . وفي هذا النص مذمة حب المال وهو جبلة في الإنسان ، إلا من هذبه الإسلام ، إلا أن الذم ينصب على شدة الحب التي تحمل صاحبها على ضياع الحقوق أو تعدي الحدود . وهذه الآية وما قبلها نازلة في الكفار كما قدمنا كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه . قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور . البعثرة : الانتثار . وقال الزمخشري : إن هذه الكلمة مأخوذة من أصلين : البعث والنثر . فالبعث : خروجهم أحياء . والنثر : الانتشار كنثر الحب ، فهي تدل على بعثهم منتشرين . [ ص: 68 ] وقد نص تعالى على هذا المعنى في قوله : وإذا القبور بعثرت [ 82 \ 4 ] ، أي بعثر من فيها . وقوله : يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] . وقوله : كأنهم جراد منتشر [ 54 \ 7 ] . وقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث [ 101 \ 4 ] . . قوله تعالى : وحصل ما في الصدور . قيل : حصل أي أبرز . قاله ابن عباس . وقيل : ميز الخير من الشر . والحاصل من كل شيء ما بقي . قال لبيد : وكل امرئ يوما سيعلم سعيه إذا حصلت عند الإله الحصائل والمراد بما في الصدور الأعمال ، وهذا كقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] . ونص على الصدور هنا ، مع أن المراد القلوب ; لأنها هي مناط العمل ومعقد النية . والعقيدة وصحة الأعمال كلها مدارها على النية ، كما في حديث : " إنما الأعمال بالنيات " وحديث : " ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث . وقال الفخر الرازي : خصص القلب بالذكر ; لأنه محل لأصول الأعمال . ولذا ذكره في معرض الذم ، فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، وفي معرض المدح : وجلت قلوبهم [ 8 \ 2 ] . ويشهد لما قاله قوله : إلا من أتى الله بقلب سليم [ 26 \ 89 ] . وقوله : ثم قست قلوبكم [ 2 \ 74 ] . [ ص: 69 ] وقال : ثم تلين جلودهم وقلوبهم [ 39 \ 23 ] . وقوله : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ، ونحو ذلك . ومما يدل على أن المراد بالصدور ما فيها هو القلب . قوله : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 46 ] . وقال الفخر الرازي : نص على الصدور ليشمل الخير والشر ; لأن القلب محل الإيمان . والصدر محل الوسوسة لقوله تعالى : الذي يوسوس في صدور الناس [ 114 \ 5 ] . وهذا وإن كان وجيها ، إلا أن محل الوسوسة أيضا هو القلب ، فيرجع إلى المعنى الأول والله أعلم . قوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير . ذكر الظرف هنا يشعر بقصر الوصف عليه مع أنه سبحانه خبير بهم في كل وقت في ذلك اليوم ، وقبل ذلك اليوم ، ولكنه في ذلك اليوم يظهر ما كان خفيا ، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية . ولكن ذكر الظرف هنا للتحذير مع الوصف بخبير ، أخص من عليم ، كما في قوله : قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] . بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْقَارِعَة قوله تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول سورة الواقعة ، وقال : كالطامة والصاخة ، والآزفة ، والقارعة . ا هـ . أي وكذلك الصاخة والساعة . ومعلوم أن الشيء إذا عظم خطره كثرت أسماؤه . أو كما روي عن الإمام علي : كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى . ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ، فإن لكل اسم دلالة على معنى خاص به . فالواقعة لصدق وقوعها ، والحاقة لتحقق وقوعها ، والطامة لأنها تطم وتعم بأحوالها ، والآزفة من قرب وقوعها " أزفت الآزفة " مثل " اقتربت الساعة " ، وهكذا هنا . قالوا : القارعة : من قرع الصوت الشديد لشدة أهوالها . وقيل : القارعة اسم للشدة . قال القرطبي : تقول العرب : قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع . قال ابن جرير : وقارعة من الأيام لولا سبيلهم لزاحت عنك حينا وقال تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، وهي الشديدة من شدائد الدهر . [ ص: 71 ] وقوله : وما أدراك ما القارعة ، تقدم قولهم : إن كل ما جاء " وما أدراك " أنه يدريه ، وما جاء " وما يدريك " لا يدريه . وقد أدراه هنا بقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، وهذا حال من أحوالها . وقد بين بعض الأحوال الأخرى في الواقعة بأنها خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] ، وفي الطامة والصاخة : ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] . وقوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] . وأيضا فإن كل حالة يذكر معها الحال الذي يناسبها ، فالقارعة من القرع وهو الضرب ، ناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال إلى هباء العهن المنفوش . قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث . الفراش : جمع فراشة . وقيل : هي التي تطير وتتهافت في النار . وقيل : طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق . وذكر الشيخ في إملائه قول جرير : إن الفرزدق ما علمت وقومه مثل الفراش غشين نار المصطلى وقال الفراء : هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول . ونقل القرطبي عن الفراء : أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره . ومنه الجراد . ويقال : هو أطيش من فراشة قال : طويش من نفر أطياش أطيش من طائرة الفراش وفي صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثلكم كمثل رجل [ ص: 72 ] أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها . وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي " . والمبثوث : المنتشر . ومثله قوله : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر [ 54 \ 7 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في سورة " اقتربت الساعة " ، وسورة " ق والقرآن " ، وسورة " يس والقرآن الحكيم " . بما يغني عن إعادته هنا . وقد قيل : إن وصفها بالفراش في أول حالها في الاضطراب والحيرة . ووصفهم كالجراد في الكثرة ووحدة الاتجاه : مهطعين إلى الداعي [ 54 \ 8 ] . قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش . تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الواقعة بيان أحوال الجبال يوم القيامة من بدئها بكثيب مهيل ، ثم كالعهن المنفوش ، ثم تسير كالسراب . وأحال فيها على غيرها ، كقوله : تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] . وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة " سأل سائل " . ![]()
__________________
|
#7
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (605) سُورَةُ التَّكَاثُر صـ 73 إلى صـ 82 قوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية . في قوله : ثقلت موازينه دلالة على وقع الوزن لكل إنسان . والموازين : يراد بها الموزون ، ويراد بها آلة الوزن ، كالمعايير ، وهما متلازمان . وتقدم أن المعايير بالذرة وأقل منها . وقد جاء نصوص على وضع الموازين وإقامتها بالعدل والقسط . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] . [ ص: 73 ] وقوله : فهو في عيشة راضية ، قالوا : بمعنى مرضية ، وراضية أصلها مرضية ، كما في قوله : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية [ 88 \ 8 - 9 ] ، إسناد الرضى للعيشة ، على أنها هي فاعلة الرضى ; لأن كلمة العيشة جامعة لنعيم الجنة وأسباب النعيم ، راضية طائعة لينة لأصحاب الجنة ، فتفجر لهم الأنهار طواعية ، وتدنو الثمار طواعية ، كما في قوله : قطوفها دانية [ 69 \ 23 ] . فالقول الأول : هو المعروف في البلاغة بإطلاق المحل وإرادة الحال ، كقوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] . والنادي : مكان منتدى القوم ، أي ينادي بعضهم بعضا للاجتماع فيه . والمراد : من يحل في هذا النادي ، ويكون هنا أطلق المحل وهو محل العيشة ، وأراد الحال فيها . وعلى الثاني : فهو إسناد حقيقي من إسناد الرضى لمن وقع منه أو قام به . ومما هو جدير بالذكر أن حمله على الأسلوب البياني ليس متجها كالآية الأخرى ; لأن العيشة ليست محلا لغيرها بل هي حالة ، والمحل الحقيقي هو الجنة والعيشة حالة فيها ، وهي اسم لمعاني النعيم كما تقدم ، فيكون حمل الإسناد على الحقيقة أصح . وقد جاءت الأحاديث : أن الجنة تحس بأهلها وتفرح بعمل الخير ، كما أنها تتزين وتبتهج في رمضان ، وأنها تناظرت مع النار . وكل يدلي بأهله وفرحه بهم ، حتى وعد الله كلا بملئها . ونصوص تلقي الحور والولدان والملائكة في الجنة لأهل الجنة بالرضى والتحية معلومة . وقوله : لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون [ 36 \ 57 ] ، أي : لا يتأخر عنهم شيء . وقوله : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] . وقوله : فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] . وقاصرات الطرف عن رضى بأهلهن . ومنه حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] ، أي على أزواجهن . [ ص: 74 ] وقوله : ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا [ 76 \ 14 ] ، ونحو ذلك ، مما يشعر بأن نعيم الجنة بنفسه راض بأهل الجنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم . قوله تعالى : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وقع الخلاف في المراد من قوله : فأمه هاوية ، هل المراد بأمه مأواه وهي النار ، وأن هاوية من أسمائها ، أم المراد بأمه رأسه وأن هاوية من الهوي ، فيلقى في النار منكسا رأسه يهوي في النار . وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، ولا يبعد من يقول إنه لا تعارض بين القولين . فتكون " أمه هاوية " ، وهي النار ويلقى فيها منكسا تهوي رأسه والعياذ بالله . وحكى القرطبي على أن الأم بمعنى قول لبيد : فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد وعلى معنى الهاوية البعيدة والداهية ، قول الشاعر : يا عمرو لو نالتك رماحنا كنت كمن تهوي به الهاويه والهاوية : مكان الهوي . كما قيل : أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط مياسة القد أو طيبة النشر . وفي الحديث : " إن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا " . نسأل الله السلام . وقد فسر الهاوية بما بعدها : وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 10 - 11 ] . [ ص: 75 ] وقد فسر الهاوية بأنها أسفل دركات النار . عياذا بالله . وقد جاء قوله تعالى : كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة [ 104 \ 4 - 6 ] . والنبذ : الطرح ، مما يرجح ما قلناه من إمكان إرادة المعنيين كون أمه هي الهاوية أي النار ، يهوي فيها على أم رأسه ، وذلك بالنبذ في الهاوية بعيدة المهوى ، وعادة الجسم إذا ألقي من شاهق بعيدا يسبقه إلى أسفل أثقله ، وأثقل جسم الإنسان رأسه . والله تعالى أعلم . بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ التَّكَاثُر قوله تعالى : ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر . ألهاكم : أي : شغلكم ، ولهاه : تلهيه ، أي علله . ومنه قول امرئ القيس : فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول أي : شغلتها . والتكاثر : المكاثرة . ولم يذكر هنا في أي شيء كانت المكاثرة التي ألهتهم . قال ابن القيم : ترك ذكره ، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثر به ، وإما إرادة الإطلاق . ا هـ . ويعني رحمه الله بالأول : ذم الهلع ، والنهم . وبالثاني : ليعم كل ما هو صالح للتكاثر به ، مال وولد وجاه ، وبناء وغراس . ولم أجد لأحد من المفسرين ذكر نظير لهذه الآية . ولكنهم اتفقوا على ذكر سبب نزولها في الجملة ، من أن حيين تفاخرا بالآباء وأمجاد الأجداد ، فعددوا الأحياء ، ثم ذهبوا إلى المقابر ، وعدد كل منهما ما لهم من الموتى يفخرون بهم ، ويتكاثرون بتعدادهم . وقيل : في قريش بين بني عبد مناف وبني سهم . وقيل : في الأنصار . وقيل : في اليهود وغيرهم ، مما يشعر بأن التكاثر كان في مفاخر الآباء . [ ص: 77 ] وقال القرطبي : الآية تعم جميع ما ذكر وغيره . وسياق حديث الصحيح : " لو أن لابن آدم واديا من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " . قال ثابت : عن أنس عن أبي : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : ألهاكم التكاثر . وكأن القرطبي يشير بذلك إلى أن التكاثر بالمال أيضا . وقد جاءت نصوص من كتاب الله تدل على أن التكاثر الذي ألهاهم ، والذي ذمهم الله بسببه أو حذرهم منه ، إنما هو في الجميع ، كما في قوله تعالى : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما إلى قوله وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ 57 \ 20 ] . ففيه التصريح : بأن التفاخر والتكاثر بينهم في الأموال والأولاد . ثم جاءت نصوص أخرى في هذا المعنى كقوله : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون [ 6 \ 32 ] . وقوله : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] . ولكون الحياة الدنيا بهذه المثابة ، جاء التحذير منها والنهي عن أن تلههم ، في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] . وبين تعالى أن ما عند الله للمؤمنين خير من هذا كله في قوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [ 62 \ 9 ] . ومما يرجح أن التكاثر في الأموال والأولاد في نفس السورة ، ما جاء في آخرها من [ ص: 78 ] قوله : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ 102 \ 8 ] ، لمناسبتها لأول السورة . كما هو ظاهر بشمول النعيم للمال شمولا أوليا . وقوله : حتى زرتم المقابر . أخذ منه من قال : إن تفاخرهم حملهم على الذهاب إلى المقابر ليتكاثروا بأمواتهم ، كما جاءت في أخبار أسباب النزول المتقدمة . والصحيح في " زرتم المقابر " : يعني متم ; لأن الميت يأتي إلى القبر كالزائر لأن وجوده فيه مؤقتا . وقد روي : أن أعرابيا سمع هذه الآية ، فقال : بعثوا ورب الكعبة ، فقيل له في ذلك ، فقال : لأن الزائر لا بد أن يرتحل . تنبيه قد بحث بعض العلماء مسألة زيارة القبور هنا لحديث : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " . وقالوا : إن المنع كان عاما من أجل ذكر مآثر الآباء والموتى ، ثم بعد ذلك رخص في الزيارة ، واختلفوا فيمن رخص له . فقيل : للرجال دون النساء لعدم دخولهن في واو الجماعة في قوله : " فزوروها " . وقيل : هو عام للرجال وللنساء ، واستدل كل فريق بأدلة يطول إيرادها . ولكن على سبيل الإجمال لبيان الأرجح ، نورد نبذة من البحث . فقال المانعون للنساء : إنهن على أصل المنع ، ولم تشملهن الرخصة ، ومجيء اللعن بالزيارة فيهن . وقال المجيزون : إنهن يدخلن ضمنا في خطاب الرجال ، كدخولهن في مثل قوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، فإنهن يدخلن قطعا . وقالوا : إن اللعن المنوه عنه جاء في الحديث بروايتين رواية : " لعن الله زائرات القبور " . وجاء : " لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليهن السرج " إلى آخره . [ ص: 79 ] فعلى صيغة المبالغة : زوارات لا تشمل مطلق الزيارة ، وإنما تختص للمكثرات ; لأنهن بالإكثار لا يسلمن من عادات الجاهلية من تعداد مآثر الموتى المحظور في أصل الآية . أما مجرد زيارة بدون إكثار ولا مكث ، فلا . واستدلوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها لما ذكر لها صلى الله عليه وسلم ، السلام على أهل البقيع ، فقالت : " وماذا أقول يا رسول الله إن أنا زرت القبور ؟ قال : قولي : السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين " الحديث . فأقرها صلى الله عليه وسلم ، على أنها تزور القبور وعلمها ماذا تقول إن هي زارت . وكذلك بقصة مروره على المرأة التي تبكي عند القبر فكلمها ، فقالت : إليك عني ، وهي لا تعلم من هو ، فلما ذهب عنها قيل لها : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءت تعتذر فقال لها : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " . ولم يذكر لها المنع من زيارة القبور ، مع أنه رآها تبكي . وهذه أدلة صريحة في السماح بالزيارة . ومن ناحية المعنى ، فإن النتيجة من الزيارة للرجال من في حاجة إليها كذلك ، وهي كون زيارة القبور تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة . وليست هذه بخاصة في الرجال دون النساء ، بل قد يكن أحوج إليه من الرجال . وعلى كل ، فإن الراجح من هذه النصوص والله تعالى أعلم ، هو الجواز لمن لم يكثرن ولا يتكلمن بما لا يليق ، مما كان سببا للمنع الأول ، والعلم عند الله تعالى . تنبيه آخر من لطائف القول في التفسير ، ما ذكره أبو حيان عن التكاثر في قوله : حتى زرتم المقابر ، ما نصه : وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة ، تكثيرا بمن سلف وإشادة بذكره ، وكان [ ص: 80 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم قال : " فزوروها " أمر إباحة للاتعاظ بها ، لا لمعنى المباهاة والتفاخر . ثم قال : قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفا ، وبيان النواويس عليها ، أي الفوانيس ، وهي السرج . ثم قال أبو حيان ، وابن عطية : لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما يتباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك . وما يضيع فيها من الأموال ، لتعجب من ذلك ولرأى ما لم يخطر ببال . وأما التباهي بالزيارة : ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوفية أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور : زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلان بكذا ، والشيخ فلان بكذا ، فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد . وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ ، بحيث لو كتبت لجاءت أسفارا . وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه . وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل المال لهم ، وأما من شذ منهم لأنه يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون : هذا فتح من العلم اللدني على الخضر . حتى إن من ينتمي إلى العلم ، لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ، ونقل كثيرا من حكاياتهم ، ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد . ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته . ا هـ . بحروفه . وهذا الذي قاله رحمه الله من أعظم ما افتتن به المسلمون في دينهم ودنياهم معا . أما في دينهم : فهو الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، صيانة للتوحيد من سؤال غير الله . وأما في الدنيا فإن الكثير من هؤلاء يتركون مصالح دنياهم من زراعة أو تجارة أو صناعة ، ويطوف بتلك الأماكن تاركا ومضيعا من يكون السعي عليه أفضل من نوافل العبادات . مما يلزم على طلبة العلم في كل مكان وزمان ، أن يرشدوا الجهلة منهم ، وأن يبينوا [ ص: 81 ] للناس عامة خطأ وجهل أولئك ، وأن الرحيل لتلك القبور ليس من سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه " ، ولا كان من عمل الخلفاء الراشدين ، ولا من عامة الصحابة ولا التابعين ، ولا من عمل أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله . وإنما كان عمل الجميع زيارة ما جاورهم من المقابر للسلام عليهم والدعاء لهم ، والاتعاظ بحالهم ، والاستعداد لما صاروا إليه . نسأل الله الهداية والتوفيق لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتفاء بآثار سلف الأمة ، آمين . قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون . كلا : زجر عن التلهي والتكاثر المذكور ، و " سوف تعلمون " : أي حقيقة الأمر ، ومغبة هذا التلهي ، " ثم كلا سوف تعلمون " تكرار للتأكيد . وقيل : إنه لا تكرار ، لما روي عن علي رضي الله عنه : أن الأولى في القبر ، والثانية يوم القيامة . وهو معقول . واستدل به بعضهم على عذاب القبر . ومعلوم صحة حديث القبر : " إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار " . والسؤال فيه معلوم ، ولكن أرادوا مأخذه من القرآن . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في الكلام على سورة غافر ، عند : وحاق بآل فرعون سوء العذاب [ 40 \ 45 ] ، إثبات عذاب القبر من القرآن . وكذلك بيان معناه في آخر سورة الزخرف عند الكلام على قوله تعالى : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] . وهذا الزجر هنا والتحذير لهم ردا على ما كانوا عليه في التكاثر . كما قال الشاعر : ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر [ ص: 82 ] وأصرح دليل لإثبات عذاب القبر من القرآن ، هو قوله تعالى : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ; لأن الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة . قوله تعالى : كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين . لو : هنا شرطية ، جوابها محذوف باتفاق قدره ابن كثير أي لو علمتم حق العلم ، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الآخرة ، حتى صرتم إلى المقابر ، وعلم اليقين : أجازأبو حيان إضافة الشيء لنفسه ، أي : لمغايرة الوصف ، إذ العلم هو اليقين ، ولكنه آكد منه . وعن حسان قوله : سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا و " لترون الجحيم " : جواب لقسم محذوف . وقال : المراد برؤيتها عند أول البعث ، أو عند الورود ، أو عند ما يتكشف الحال في القبر . " ثم لترونها عين اليقين " : قيل : هذا للكافر عند دخولها ، هذا حاصل كلام المفسرين . ومعلوم أن هذا ليس لمجرد الإخبار برؤيتها ، ولكن وعيد شديد وتخويف بها ; لأن مجرد الرؤية معلوم : " وإن منكم إلا واردها " [ 19 \ 71 ] ، ولكن هذه الرؤية أخص ، كما في قوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي : أيقنوا بدليل قوله : ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] . وقد يبدو وجه في هذا المقام ، وهو أن الرؤية هنا للنار نوعان : الرؤية الأولى : رؤية علم وتيقن ، في قوله : لو تعلمون علم اليقين ، علما تستيقنون به حقيقة يوم القيامة لأصبحتم بمثابة من يشاهد أهواله ويشهد بأحواله ، كما في حديث الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " . ![]()
__________________
|
#8
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (606) سُورَةُ الْعَصْر صـ 83 إلى صـ 92 [ ص: 83 ] وقد وقع مثله في قصة الصديق لما أخبر نبأ الإسراء ، فقال : " صدق محمد ، فقالوا : تصدقه وأنت لم تسمع منه ؟ قال : إني لأصدقه على أكثر من ذلك " . فلعلمه علم اليقين بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يخبر ، صدق بالإسراء كأنه يراه . وتكون الرؤية الثانية رؤية عين ومشاهدة ، فهو عين اليقين . وقد قدمنا مراتب العلم الثلاث : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين . فالعلم : ما كان عن دلائل . وعين اليقين : ما كان عن مشاهدة . وحق اليقين : ما كان عن ملابسة ومخالطة ، كما يحصل العلم بالكعبة ، وجهتها فهو علم اليقين ، فإذا رآها فهو عين اليقين بوجودها . فإذا دخلها وكان في جوفها فهو حق اليقين بوجودها . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم . أصل النعيم كل حال ناعمة من النعومة والليونة ، ضد الخشونة واليبوسة ، والشدائد ، كما يشير إليه قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ 16 \ 53 ] . ثم قال : إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ 16 \ 53 ] ، فقابل النعمة بالضر . ومثله قوله تعالى : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني [ 11 \ 10 ] . وعلى هذا فإن نعم الله عديدة ، كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ 16 \ 18 ] . وبهذا تعلم أن كل ما قاله المفسرون ، فهو من قبيل التمثيل لا الحصر ، كما قال تعالى : لا تحصوها . وأصول هذه النعم أولها الإسلام : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] . ويدخل فيها نعم التشريع والتخفيف ، عما كان على الأمم الماضية . [ ص: 84 ] كما يدخل فيها نعمة الإخاء في الله : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ 3 \ 103 ] ، وغير ذلك كثير . وثانيها : الصحة ، وكمال الخلقة والعافية ، فمن كمال الخلقة الحواس ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ 90 \ 8 - 9 ] . ثم قال : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] . وثالثها : المال في كسبه وإنفاقه سواء ، ففي كسبه من حله نعمة ، وفي إنفاقه في أوجهه نعمة . هذه أصول النعم ، فماذا يسأل عنه ، منها جاءت السنة بأنه سيسأل عن كل ذلك جملة وتفصيلا . أما عن الدين والمال والصحة ، ففي مجمل الحديث : " إذا كان يوم القيامة ، لا تزول قدم عبد حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أبلاه ، وعن علمه فيم عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن شبابه فيم أفناه " . ولعظم هذه الآية وشمولها ، فإنها أصبحت من قبيل النصوص مضرب المثل ، فقد فصلت السنة جزئيات ما كانت تخطر ببال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد أورد القرطبي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ " قالا : الجوع يا رسول الله ! قال : " وأنا ، والذي نفسي بيدها لأخرجني الذي أخرجكما ، قوموا " فقاموا معه ، فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا ! وأهلا ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين فلان ؟ " قالت : ذهب يستعذب لنا من الماء أي يطلب ماء عذبا . إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال : فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه ، وأخذ المدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب ، فذبح لهم . فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ، [ ص: 85 ] فلما أن شبعوا ورووا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " وخرجه الترمذي . وقال فيه : " هذا والذي نفسي بيده ، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ورطب طيب ، وماء بارد " وكنى الرجل الذي من الأنصار فقال : أبو الهيثم بن التيهان . قال القرطبي : قلت : اسم هذا الرجل مالك بن التيهان ، ويكنى أبا الهيثم . وقد ذكر ابن كثير هذه القصة من عدة طرق . ومنها : عند أحمد أن عمر رضي الله عنه أخذ بالفرق وضرب به الأرض ، وقال : " إنا لمسئولون عن هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف الرجل بها عورته ، أو كسرة سد بها جوعته ، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر " . وقال سفيان بن عيينة : إن ما سد الجوع ، وستر العورة من خشن الطعام ، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة ، وإنما يسأل عن النعيم ، والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة فقال له : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] . فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع ، وما يدفع به العطش ، وما يسكن فيه من الحر ويستر به عورته ، لآدم عليه السلام بالإطلاق ، لا حساب عليه فيها لأنه لا بد له منها . وذكر عن أحمد أيضا بسنده " أنهم كانوا جلوسا فطلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا : يا رسول الله ، نراك طيب النفس ؟ قال : أجل ، قال : خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعم " . قال : ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة . وبهذا ، فقد ثبت من الكتاب والسنة ، أن النعيم الذي هو محل السؤال يوم القيامة [ ص: 86 ] عام في كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا ، حسا كان أو معنى . حتى قالوا : النوم مع العافية ، وقالوا : إن السؤال عام للكافر والمسلم ، فهو للكافر توبيخ وتقريع وحساب ، وللمؤمن تقرير بحسب شكر النعمة وجحودها وكيفية تصريفها . والعلم عند الله تعالى . وكل ذلك يراد منه الحث على شكر النعمة ، والإقرار للمنعم والقيام بحقه سبحانه فيها ، كما قال تعالى عن نبي الله : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] . اللهم أوزعنا شكر نعمتك ، واجعل ما أنعمت به علينا عونا لنا على طاعتك . بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْعَصْر قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر . العصر : اسم للزمن كله أو جزء منه . ولذا اختلف في المراد منه ، حيث لم يبين هنا . فقيل : هو الدهر كله ، أقسم الله به لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر ، وهو هو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب . كما قيل : موجود شبيه المعدوم ، ومتحرك يضاهي الساكن . كما قيل : وأرى الزمان سفينة تجري بنا نحو المنون ولا نرى حركاته فهو في نفسه آية ، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان ، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي ، أو في مستقبله . واستدل لهذا القول بما جاء موقوفا على علي رضي الله عنه ، ومرفوعا من قراءة شاذة : " والعصر ونوائب الدهر " . وحمل على التفسير إن لم يصح قرآنا ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس . وعليه قول الشاعر : سبيل الهوى وعر ، وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر ، وشهر الهوى دهر وقيل العصر : الليل والنهار . [ ص: 88 ] قال حميد بن ثور : ولم يلبث العصران يوم ليلة إذا طلبا أن يدركا ما يتمما والعصران أيضا : الغداة والعشي . كما قيل : وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم والمطل : التسويف وتأخير الدين . كما قيل : قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزه ممطول معنى غريمها وقيل : إن العشي ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ، وهو قول الحسن وقتادة . ومنه قول الشاعر : تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر وعن قتادة أيضا : هو آخر ساعة من ساعات النهار ، لتعظيم اليمين فيه ، وللقسم بالفجر والضحى . وقيل : هو صلاة العصر لكونها الوسطى . وقيل : عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته ; لأنه يشبه عصر عمر الدنيا . والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان : إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة ، إذ أقل درجاتها التفسير ، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال . وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق ، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعا . ويرجح هذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها ، والهمزة بعدها ، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد ، حتى زيارة المقابر بالموت ، ومحل ذلك هو حياة الإنسان . [ ص: 89 ] وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريبا ، في " الذي جمع مالا وعدده ، يحسب أن ماله أخلده " . [ 104 \ 2 - 3 ] فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان ، وحياته محدودة ، وليس مخلدا في الدنيا ، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان . وعليه ، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة ، وهذا أقواها . وإما حياة الإنسان ، لأنه ألزم له في عمله ، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل ، وإرادة البعض ، والله تعالى أعلم . وقوله : إن الإنسان لفي خسر . لفظ الإنسان وإن كان مفردا ، فإن أل فيه جعلته للجنس . وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، وتقدم التنبيه عليه مرارا ، فهو شامل للمسلم والكافر ، إلا من استثنى الله تعالى . وقيل : خاص بالكافر ، والأول أرجح للعموم . و " إن الإنسان لفي خسر " جواب القسم ، والخسر : قيل : هو الغبن ، وقيل : النقص ، وقيل : العقوبة ، وقيل : الهلكة ، والكل متقارب . وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ، بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة . ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ، لاتضح هذا العموم ; لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور : عدم الإيمان وهو الكفر ، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية أو التواصي بالباطل ، وعدم التواصي بالصبر ، وهو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع . والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد ، بغية الغنى والتكثر فيه ، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران . [ ص: 90 ] فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ، وفي الإسلام وهو ترك العمل ، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق ، وفي الهلع والفزع . ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه ، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي : أما الخسران بالكفر . فكما في قوله تعالى . لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] . وقوله : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، أي : لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ، وحظهم في الآخرة . وأما الخسران بترك العمل ، فكما في قوله تعالى : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم [ 7 \ 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] . ومثله : ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا [ 4 \ 119 ] ، لأنه سيكون من حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [ 58 \ 19 ] ، أي بطاعتهم إياه في معصية الله . وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، والحق هو الإسلام بكامله ، وقد قال تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] . وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ، فكما قال تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] . تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره ; كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ، فهي له كالسوق . فإن أعمله في خير ربح ، وإن أعمله في شر خسر . [ ص: 91 ] ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية [ 9 \ 111 ] . وقوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] . وفي الحديث عند مسلم : " الطهور شطر الإيمان " . وفي آخره " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره . ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] . وعلى هذا قالوا : إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى . وهدى كل إنسان النجدين ، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار . فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة ، وسلم من منزلة النار ، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ، وترك منزلته في الجنة . كما جاء في حديث القبر : " أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمنا يفتح له باب إلى النار ، ويقال له : ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له : هذا منزلك يوم تقوم الساعة ، فيقول : رب ، أقم الساعة " . وإن كان كافرا كان على العكس تماما ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيأخذ كل منزلته فيها ، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة ، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ، فتوزع على أهل النار ، وهنا يظهر الخسران المبين ; لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار ، فهو بلا شك خاسر ، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلا عنها منزلة غيره في النار ، كان هو الخسران المبين ، عياذا بالله . أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل [ ص: 92 ] الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران في الوقت الذي فرط فيه ، ولم ينافس فعل الخير ، لينال أعلى الدرجات . فهذه السورة فعلا دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ، ودرجات الجنة رفيعة ، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح . وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينا ، فإن كان مسيئا فعلى إساءته ، وإن كان محسنا فلتقصيره ، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 ] . فالخوف من المستقبل أمامهم ، والحزن على الماضي خلفهم ، والله تعالى أعلم . ويبين خطر هذه المسألة : أن الإنسان إذا كان في آخر عمره ، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة ، وأراد زيادة يوم فيها ، يتزود منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضا مما فاته ، لم يستطع لذلك سبيلا ، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة ، كان من الممكن أن تكون مربحة له ، وفي الحديث الصحيح : " نعمتان مغبون فيهما الإنسان : الصحة والفراغ " . أي : أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة ، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ، ثم يندم ولات حين مندم . كما قيل في ذلك : بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدر دررا كما اشترى المسلم إذ تنصرا ![]()
__________________
|
#9
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (607) سُورَةُ الْهُمَزَةِ صـ 93 إلى صـ 102 تنبيه في سورة التكاثر تقبيح التلهي بالتكاثر بالمال والولد ونحوه ، ثم الإشعار بأن سببه الجهل ; لأنهم لو كانوا يعلمون علم اليقين لما ألهاهم ذلك حتى باغتهم الموت . وهنا إشعار أيضا بأن سبب هذا الخسران الذي يقع فيه الإنسان ، هو الجهل الذي [ ص: 93 ] يجر إلى الكفر والتمادي في الباطل ، ويساعد على هذا قسوة القلب ، وطول الأمل . كما قال تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 16 ] . تنبيه آخر إن الإنسان لفي خسر ، نص على الإنسان على ما تقدم وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى : أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 46 \ 18 ] . وتقدم بيان تكليف الجن بالدعوة واستجابتهم لها والدعوة إليها . قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر . هذا هو المستثنى من الإنسان المتقدم ، مما دل على العموم كما قدمنا ، والإيمان لغة التصديق وشرعا الاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة ، في حديث جبريل عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان . " وعملوا الصالحات " : العطف يقتضي المغايرة . ولذا قال بعض الناس : إن الأعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان ، ومقالاتهم معروفة . والجمهور : أن الإيمان اعتقاد بالجنان ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح . فالعمل داخل فيه ويزيد وينقص ، وقد قدمنا : أن العمل شرط أقرب من أن يكون جزءا ، أي أن الإيمان يصدق بالاعتقاد ، ولا يتوقف وجوده على العمل ، ولكن العمل شرط في الانتفاع بالإيمان ، إذا تمكن العبد من العمل ، ومما يدل لكون الإيمان يصدق عليه حد الاعتقاد والنطق ، ولو لم يتمكن العبد من العمل ، قصة الصحابي الذي أسلم عند بدء المعركة ، وقاتل ، واستشهد ولم يصل لله ركعة ، فدخل الجنة . والجمهور على أن مجرد الاعتقاد لا ينفع صاحبه ، كما كان يعتقد عم النبي صلى الله عليه وسلم صحة رسالته ، ولكنه لم يقل كلمة يحاج له صلى الله عليه وسلم بها ، وكذلك لو اعتقد ونطق بالشهادتين ، ولم يعمل كان مناقضا لقوله . [ ص: 94 ] وقد قدمنا هذه المسألة مفصلة . والصالحات : جمع صالحة ، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تعريفه وشروط كون العمل صالحا بأدلته من كونه موافقا لكتاب الله ، وعمله صاحبه خالصا لوجه الله وكونه صادرا من مؤمن بالله ، إلخ . وقوله : وتواصوا بالحق . يعتبر التواصي بالحق من الخاص بعد العام ; لأنه داخل في عمل الصالحات . وقيل : إن التواصي أن يوصي بعضهم بعضا بالحق . وقيل : الحق كل ما كان ضد الباطل ، فيشمل عمل الطاعات ، وترك المعاصي . واعتبر هذا أساسا من أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بقرينة التواصي بالصبر ، أي على الأمر والنهي ، على ما سيأتي إن شاء الله . وقيل : الحق هو القرآن ; لشموله كل أمر وكل نهي ، وكل خير ، ويشهد لذلك قوله تعالى في حق القرآن : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] . وقوله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين [ 39 \ 2 ] . وقد جاءت آياته في القرآن تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها ، أصولها وفروعها ، ماضيها وحاضرها ، من ذلك ما وصى الله به الأنبياء وعموما ، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] . وإقامة الدين القيام بكليته ، وقد كانت هذه الوصية عمل الرسل لأممهم ومن بعدهم ، فنفذها إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ 2 \ 132 ] . ومن بعد إبراهيم يعقوب كما قال تعالى : أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون [ 2 \ 133 ] . [ ص: 95 ] فهذا تواصي الأمم بأصل الإيمان وعموم الشريعة ، وكذلك بالعبادة من صلاة وزكاة ، كما في قوله تعالى عن نبي الله عيسى عليه السلام : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي [ 19 \ 31 - 32 ] . وكذلك الحالة الاجتماعية ماثلة في الوصية بالوالدين والأولاد ، لترابط الأسرة ، ففي الوالدين قوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ 31 \ 14 - 15 ] . وفي الأبناء قال : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] . وفي الحقوق العامة أوامر ونواهي ، عبادات ومعاملات ، جاءت آيات الوصايا العشر التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه : " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 151 - 153 ] . تلك الوصايا الجامعة أبواب الخير الموصدة أبواب الشر والمذيلة بهذا التبيين والتعريف " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " . ولو أردنا أن نربط بين هذا وبين التواصي بالحق وبينهما وبين فاتحة الكتاب ، لكانت النتيجة كالآتي في قوله : وتواصوا بالحق ، إحالة على تلك الوصايا ، وهي شاملة جامعة ومعنون لها بأنها صراط الله المستقيم . [ ص: 96 ] فكأن قوله : وتواصوا بالحق ، مساويا لقوله : وتواصوا بالصراط المستقيم . واستقيموا عليه . ثم في سورة الفاتحة : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، وهذا صراط الله المستقيم فاتبعوه . فكانت سورة العصر مشتملة على التواصي بالاستقامة على صراط الله المستقيم واتباعه ، ويأتي عقبها قوله : وتواصوا بالصبر [ 103 \ 3 ] ، بمثابة التثبيت على هذا الصراط المستقيم إذ الصبر لازم على عمل الطاعات ، كما هو لازم لترك المنكرات . وتلك الوصايا العشر جمعت أمرا ونهيا فعلا وتركا ، وكذلك فيه الإشارة إلى ما يقوله دعاة الإسلام من أن العمل الصالح والدعوة إلى الحق والتواصي به ، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغالبا من يقوم به يتعرض لأذى الناس ، فلزمهم التواصي بالصبر ، كما قال لقمان لابنه يوصيه وجامعا في وصيته وصية سورة العصر إذ قال : يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ 31 \ 17 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتفصيل عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل [ 5 \ 105 ] ، في سورة المائدة . فصارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة . كما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم . قوله : وتواصوا بالحق ، جاء الحث على التواصي بالرحمة أيضا مع الصبر ، في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة [ 90 \ 17 ] . وبهذه الوصايا الثلاث : بالتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة ، تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوامه الفضائل المثلى ، والقيم الفضلى . لأن بالتواصي بالحق إقامة الحق ، والاستقامة على الطريق المستقيم . [ ص: 97 ] وبالتواصي بالصبر ، يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط ، ويتخطون كل عقبات تواجههم . وبالتواصي بالمرحمة : يكونون مرتبطين كالجسد الواحد ، وتلك أعطيات لم يعطها إلا القرآن وأعطاها في هذه السورة الموجزة . وبالله التوفيق . تنبيه قال الفخر الرازي : إن الله تعالى لما أخبر عن هؤلاء بالنجاة من الخسران ، وفوزهم بالعمل الصالح والإيمان ، أخبر عنهم أنهم لم يكتفوا بما يتعلق بهم أنفسهم بل تعدوا إلى غيرهم ، فدعوهم إلى ما فازوا به على حد قوله صلى الله عليه وسلم : " حب لأخيك ما تحب لنفسك " ا هـ . ملخصا . ويشهد لهذا قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلى قوله ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 - 35 ] . فقد بين تعالى أن الناس أقسام ثلاثة إزاء دعوة الرسل . قوم آمنوا وقالوا : ربنا الله ، واستقاموا على ذلك بالعمل الصالح . وقوم ارتفعت همتهم إلى دعوة غيرهم وهم أحسن قولا بلا شك . وقوم عادوا الدعاة وأساءوا إليهم . ثم بين موقف الدعاة من أولئك المسيئين في غضون قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع ، أي : إساءة المسيئين بالتي هي أحسن ، فيصبحوا أولياء لك ، وبين أن هذه المنزلة وما يلقاها إلا الذين صبروا ، ثم بين أن من ارتفع إليها وسلك مسلكها إنه لذو حظ عظيم . [ ص: 98 ] تنبيه كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله للدعاة عدوان : أحدهما من الإنس . والآخر من الشياطين . وقد أرشدنا الله لكيفية التغلب عليهما واكتفاء شرهما . أما عداوة الإنس فبمقابلة الإساءة بالإحسان ، فيصبح وليا حميما . وأما عدو الجن فبالاستعاذة منه : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] . نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق . وقد أشرنا إلى أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قدم مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] . وذكر سورة العصر عندها ، وعقد مسائل متعددة في منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بما لا غنى عنه . [ ص: 99 ] بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْهُمَزَةِ قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة . اختلف في معنى كلمة " ويل " . فقيل : هو واد في جهنم . وقيل : هي كلمة عذاب وهلاك . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذكر هذين المعنيين في سورة الجاثية عند قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم [ 45 \ 7 ] ، وبين أنها مصدر لا لفظ له من فعله ، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك . وقد استظهر رحمه الله تعالى هذا المعنى . ومما يشهد لما استظهره رحمه الله ، ما جاء في حق أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم ، أنهم قالوا عند رؤيتهم إياها : قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين [ 21 \ 14 ] ، فهي كلمة تقال عند نزول المصائب ، وعند التقبيح . وقال الفخر الرازي : أصل الويل لفظة السخط والذم ، وأصلها وي لفلان ، ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام ، ويقال : ويح بالحاء للترحم ا هـ . ومما يدل لقول الرازي أيضا قول قارون : ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر [ 28 \ 82 ] . ومثله للتعجب في قوله : قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا [ 11 \ 72 ] . وقوله : قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي [ 5 \ 31 ] . [ ص: 100 ] فالظاهر : أنها كلمة تقال عند الشدة والهلكة ، أو شدة التعجب مما يشبه المستبعد . والذي يشهد له القرآن : هو هذا المعنى ، وسبب الخلاف قد يرجع لمجيئها تارة مطلقة كقوله : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، وهنا ويل لكل همزة لمزة . ويجيء مع ذكر ما يتوعد به كقوله : فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم [ 43 \ 65 ] ، فذكر النار والعذاب الأليم . وكذلك قوله : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] ، فهي في هذا كله للوعيد الشديد ، مما ذكر معها من النار والعذاب الأليم ومشهد يوم عظيم ، وليست مقصودة بذاتها دون ما ذكر معها ، والعلم عند الله تعالى . وقوله : همزة لمزة ، قيل : هما بمعنى واحد ، وهو الغيبة . وأنشد ابن جرير قول زياد الأعجم : تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز الهمزه وعزا هذا لابن عباس ، وهو الذي يصيب الناس ويطعن فيهم . وقد جاء في القرآن استعمال كل من الكلمتين مفردة عن الأخرى ، بما يدل على المغايرة . ففي الهمزة قوله : ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم [ 68 \ 11 ] ، مما يدل على الكذب والنميمة . وفي الهمزة قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] . وقوله : ومنهم من يلمزك في الصدقات [ 9 \ 58 ] ، مما يدل على أنها أقرب للتنقص والعيب في الحضور لا في الغيبة ، فتغاير الهمز في المعنى ، وفي الصفة ، والجمع بينهما جمع بين القبيحين ، فكان مستحقا لهذا الوعيد الشديد بكلمة " ويل " . وقد قيل : الهمز باليد : وقيل : باللسان في الحضرة ، والهمز في الغيبة . [ ص: 101 ] وقيل : الهمز باليد ، واللمز باللسان ، والغمز بالعين ، وكلها معان متقاربة تشترك في تنقص الآخرين . قوله تعالى : الذي جمع مالا وعدده . هذا الوصف يشعر بأنه علة فيما قبله ، إذ الموصول هنا يدل من كل المتقدمة ، وليس العيب في جمع مالا بل في " عدده يحسب أن ماله أخلده " . وفي " عدده " عدة معان : قيل : عده كل وقت وآخر ، تحفظا عليه . وقيل : عدده كنزه . وقيل : عدده أعده للحاجة . وقرئ : " جمع وعدد " بالتشديد وبالتخفيف . والمراد به من لم يؤد حق الله فيه شحا وبخلا ، كما تقدم في سورة ألهاكم التكاثر . قوله تعالى : يحسب أن ماله أخلده . هذا الحسبان هو المذموم عليه ، والمنصب عليه الوعيد ; لأنه كفر بالبعث . كما قال صاحب الجنة في الكهف : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة [ 18 \ 35 - 36 ] . قوله تعالى : كلا لينبذن في الحطمة . كلا : ردع وزجر له على حسبانه الباطل ، ولينبذن في جواب قسم محذوف دل عليه قوله : كلا . وهذا يفسره ما تقدم في قوله : فأمه هاوية [ 101 \ 9 ] ، أي : ينبذ نبذا ، فيهوي على أم رأسه . عياذا بالله . والحطمة : فعلة من الحطم ، وهو الكسر ، ثم الأكل الكثير . وقد فسرت بما بعدها نار الله الموقدة [ 104 \ 6 ] ، وسميت حطمة لأنها تحطم كل ما ألقي فيها ، وتقول : هل من مزيد . [ ص: 102 ] قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة . قيل : مؤصدة في عمد . بأن العمد صارت وصدا للباب كالقفل ، والغلق له . وقيل : في عمد : أنهم يدخلون في عمد كالقصبة ، مجوفة الداخل . وقيل : في عمد : أي توضع أرجلهم في العمد على صورة القيد في الخشبة الممتدة ، يشد فيها عدد من الأشخاص في أرجلهم . وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في ذلك : أن العمد بمعنى القصبة المجوفة تضيق عليهم ، كما في قوله : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] . فيكون أرجح في هذا المعنى . وقد نص عليه في إملائه رحمة الله تعالى علينا وعليه . ![]()
__________________
|
#10
|
||||
|
||||
![]() ![]() بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ المجلد التاسع الحلقة (608) سُورَةُ قُرَيْشٍ صـ 103 إلى صـ 112 بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ الْفِيل قوله تعالى : وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل . اختلف في معنى السجيل هنا . فقال قوم : هو السجين ، أبدلت النون لاما ، والسجين النار . وقيل : إن السجيل من السجل ، كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجينا لديوان أعمالهم واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ، ومنه السجل الدلو المملوء ماء ، وهي حجارة مرسلة لقوله : وأرسل عليهم طيرا أبابيل . وقوله : إن سجينا ، عن الديوان أعمالهم ، يعني قوله تعالى : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين [ 83 \ 7 ] . وقيل : معنى سجيل ستك وطين ، يعني بعض حجر وبعض طين . وقيل : معناه الشديد . وقيل : السجيل اسم لسماء الدنيا . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، ترجيح أنها من طين شديد القوة . وهذا ما يشهد له القرآن لما في سورة الذاريات : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 32 - 34 ] فنص على أنها من طين . والحجارة من الطين : هي الآجر وهو الطين المطبوخ حتى يتحجر . وجاء النص الآخر أنها من سجيل منضوض في قوله : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود [ 11 \ 82 ] [ ص: 104 ] وقيل فيها : كالحمصة والعدسة ، والضمير في عليهم راجع لأصحاب الفيل ، وقصتهم طويلة مشهورة . تنبيه قد أوردنا نصوص معنى سجيل ، وترجيح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : أنها حجارة من طين شديد القوة تنبيها على ما قيل من استبعاد ذلك ، وردا على من صرف معناها إلى غير الحجارة المحسوسة . أما من استبعدها ، فقد حكاه الفخر الرازي بقوله : واعلم أن من الناس من أنكر ذلك . وقالوا : لو جوزنا أن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله ، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثقل ، وأن يكون في وزن التبنة ، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات . فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ، ولا نراها ، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير ، حتى يكون هو بالمشرق ، ويرى قطعة من الأرض بالأندلس ، وكل ذلك محال . ثم قال : واعلم أن ذلك جائز في مذهبنا ، إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع . وهذا القول يحكيه الفخر الرازي المتوفى سنة 606 ستمائة وست ، فنرى استبعادهم إياها مبني على تحكيم العقل ، وهذا باطل ; لأن خوارق العادات دائما فوق قانون العقل ، بل إن تصورات العقل نفسه منشؤها من تصوراتنا لما نشاهده . وإذا حدث العقل بما لم يشهده أو يعلم كنه وجوده لاستبعده كما هو في واقعنا اليوم ، لو حدثت به العقول سابقا من نقل الحديث ، والصورة على الأثير ، وتوجيه الطائرات وأمثالها ، لما قوي على تصورها لأنها فوق نطاق محسوساته ومشاهداته . وحتى نحن لو لم يسايرها من علم بما يحمله الأثير من تيار كهربائي ، وما له من دور فعال في ذلك لما أمكننا تصوره . ثم من يمنع شيئا من ذلك على قدرته تعالى . وقد أخبرنا أن تلك الجبال سيأتي يوم تكون فيه كالعهن المنفوش أخف من التبنة ، [ ص: 105 ] التي مثلوا بها ، بل ستكون أقل من ذلك ، كما قال تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، فظهر بطلان هذا القول الذي استبعدها لعدم إدراك العقل لها . أما من يؤول هذا المعنى إلى معنى آخر ، فهو قريب من الأول من حيث المبدأ ، إلا أنه أثبت الأصل وفسره بما يتناسب والعقل . وهو محكي عن الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا ، إذ فسر الحجارة من سجيل ، بأنه وباء الجدري . وبالتالي : فالطير الأبابيل : هي البعوض وما أشبهه . وقد اعتذر له السيد قطب : بأن الدافع لذلك هو ما كان شائعا في عصره من موجات متضاربة ، موجة انحراف في التفكير نحو الإسلام واستغلال الإسرائيليات ، كمثال على ما يشبه الأباطيل في تشويه حقائق الإسلام عند غير المسلمين . ومن ناحية أخرى طوفان علمي حديث ، من إنتاج العقل البشري فبدلا من أن تثبت حادثة كهذه صرفت إلى ما يألفه العقل من إيقاع ميكروب الجدري بجيش أبرهة حتى أهلكه ، لكي لا يتصادم في إثبات الحادثة على ما نص عليه القرآن بواقع العقلية العلمانية الحديثة . هذا ملخص ما اعتذر به السيد قطب عن هذا القول . ولكن من الناحية العلمية والنصوص القرآنية ، فقد تقدم : أن الحجارة التي من سجيل ، جاء النص على أنها ليست خاصة بهؤلاء القوم ، بل ألقيت على قوم لوط ، بعد أن جعل عاليها سافلها ، فما موقع الجدري منهم بعد إهلاكهم بإفكها المذكورة ؟ ثم جاء أيضا : أنها من طين ، فأين الطين من الجراثيم الجدرية ؟ ومن الناحية العلمية : من أين جيء بمكروب الجدري ؟ وأين كان قبل أن تأتي به الطير الأبابيل ؟ ومتى كان ميكروب الجدري أو غيره يميز بين قرشي وحبشي ؟ ومتى كان أي ميكروب يفتك بقوم وبسرعة ، فجعلهم كعصف مأكول ، مع أن : فجعلهم ، تشعر بالسرعة في إهلاكهم ، والعصف اليابس الذي تعصف به الريح لخفته . [ ص: 106 ] ومتى كان وجود الجدري طفرة وفجاءة ، إنه يظهر في حالات فردية ، ثم ينتشر هذا من الناحية العلمية ، وإدراك العقل ، لما عرف من ميكروب الجدري . ولكن ملابسات الحادثة تمنع من تصور ذلك عقلا لعدم انتشاره في جميع أفراد المنطقة ، ولعدم تأثيره فعلا بهذه الصورة ، ولعدم أيضا تصور مجيئه فجاءة ، فدل العقل نفسه على عدم صحة هذا القول . ثم من ناحية أخرى إذا رددنا خوارق العادات لعدم تصور العقل لها ، فكيف نثبت مثل حنين الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، وتسبيح الحصى في كفه صلوات الله وسلامه عليه ؟ وقد شاهد العقل الصورة ، وهي خروج الناقة من الصخرة لقوم صالح ، بل إننا الآن بالحس والعقل نشاهد ما لا ندرك كنهه في وسائل الإعلام ، ونسمع الصوت من الجماد مسجلا على شريط بسيط جدا . فهل ينفي الباقي ؟ بل كيف أثبت النصارى لعيسى ابن مريم عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص . وإحياء الموتى ، وعمل الطير من الطين ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله . وكيف أثبت اليهود لموسى أمر العصا وشق البحر ؟ وأين العقل من ذلك كله ؟ الواقع أننا في كل زمان ومع كل قضية ، يجب أن نلتزم جانب الاعتدال ، لا هو جري وراء كل خبر ، ولو كان إسرائيليا ولا هو رد لكل نص ولو كان صريحا قرآنيا ، بل كما قال السيد قطب في ذلك : يجب أن نستمد فكرنا من نصوص القرآن ، وأن ما يقرره نعتقده ونقول به . وقد ناقشنا هاتين الفكرتين القديمة التي استبعدت ذلك كلية ، والحديثة التي أولتها . ونضيف شيئا آخر في جانب الفكرة الثانية ، وهي لعل مما حدا بأصحابها إلى ذلك ما جاء عن قتادة قوله : إنه لم ير الجدري بأرض العرب مثل تلك السنة . وقيل أيضا : لم ير شجر الحنظل ، إلا في ذلك التاريخ . فيقال أيضا : إن العقل لا يستبعد هنا أن يكون إهلاك هذا الجيش الكبير بتلك [ ص: 107 ] الحجارة في مكان معسكره في بطن الوادي ، ووقوع الجثث مصابة بها ، لا يمنع أن تتعفن ثم يتولد منها مكروب الجدري ، ولا مانع من ذلك . والعلم عند الله تعالى . تنبيه آخر قالوا : إن أصحاب هذا الجيش نصارى وهم أهل دين وكتاب ، وأهل مكة وثنيون لا دين لهم ، والكعبة ممتلئة بالأصنام ، فكيف أهلك الله النصارى أصحاب الدين ولم يسلطهم على الوثنيين ؟ وأجيب عن ذلك بعدة أجوبة . منها : أن الجيش ظالم باغ ، والبغي مرتعه وخيم ، ولو كان المظلوم أقل من الظالم ، ويشهد لذلك الحديث " في نصرة المظلوم ، واستجابة دعوته ولو كان كافرا " . ومنها : أن الوثنية اعتداء على حق الله في العبادة ، وغزو هذا الجيش اعتداء على حقوق العباد . ومنها : أنه إرهاص لمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ولد في هذا العام نفسه . وكلها وإن كانت لها وجه من النظر ، إلا أنه يبدو لي وجه ، وهو أن الأصل في نشأة البيت وإقامته ، إنما هو الله رفع قواعده وأقام الصلاة في رحابه ، وكان طاهرا مطهرا للعاكفين فيه والركع السجود ، وإنما الوثنية طارئة عليه وإلى أمد قصير مداه ودنا منتهاه لدين جديد . والمسيحية بنفسها تعلم ذلك وتنص عليه وتبشر به ، فكانت معتدية على الحقين معا ، حق الله في بيته ، والذي تعلم حرمته وما له ، وحق العباد الذين حوله . وكانت لو سلطت عليه بمثابة المنتصر على مبدأ صحيح مع فسادها ، مبدأ صحة وسلامة بناء البيت ، ووضعه ، البيت الذي من خصائصه أن يكون مثابة للناس وأمنا . فكيف لا يأمن هو نفسه من غزو الغزاة وطغيان الطغاة ، فصانه الله تعالى صيانة لمبدأ وجوده ، وحفاظا على أصل وضعه في الأرض ، ويكفي نسبته لله " بيت الله " . وقد أدرك أبو طالب هذا المعنى بعينه إذ قال لأبرهة : [ ص: 108 ] أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه . وأتى باب الكعبة فتعلق بها وقال : لاهم إن العبد يمـ نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عددا يوالك إن يدخلوا البلد الحرا م فأمر ما بدا لك وقيل : إنه قال : يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا بسم الله الرحمن الرحيم سُورَةُ قُرَيْشٍ قوله تعالى : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . اختلف في اللام في " لإيلاف قريش " ، هل هي متعلقة بما قبلها ، وعلى أي معنى . أم متعلقة بما بعدها ، وعلى أي معنى . فمن قال : متعلقة بما قبلها ، قال متعلقة بجعل في قوله : فجعلهم كعصف مأكول [ 105 \ 5 ] . وتكون بمعنى لأجل إيلاف قريش يدوم لهم ويبقى تعظيم العرب إياهم ; لأنهم أهل حرم الله ، أو بمعنى إلى أي جعلنا العدو كعصف مأكول ، هزيمة له ونصرة لقريش نعمة عليهم ، إلى نعمة إيلافهم رحلة الشتاء والصيف . ومن قال : متعلقة بما بعدها ، قال " لإيلاف قريش إيلافهم " الذي ألفوه أي بمثابة التقرير له ، ورتب عليه ، " فليعبدوا رب هذا البيت " . أي أثبته إليهم وحفظه لهم . وهذا القول الأخير هو اختيار ابن جرير ، ورواه ابن عباس ، ورد جواز القول الأول ; لأنه يلزمه فصل السورتين عن بعض . وقيل : إنها للتعجب ، أي اعجبوا لإيلاف قريش ، حكاه القرطبي عن الكسائي والأخفش ، والقول الأول لغيره . وروي أيضا عن ابن عباس وغيره ، واستدلوا بقراءة السورتين معا في الصلاة في ركعة قرأ بهما عمر بن الخطاب ، وبأن السورتين في أبي بن كعب متصلتان ، ولا فصل بينهما . وحكى القرطبي القولين ، ولم يرجح أحدهما ، ولا يبعد اعتبار الوجهين ، لأنه لا يعارض بعضها بعضا . [ ص: 110 ] وما اعترض به ابن جرير بأنه يلزم عليه اتصال السورتين فليس بلازم ; لأنه إن أراد اتصالهما في المعنى ، فالقرآن كله متصلة سوره معنى . ألا ترى إلى فاتحة الكتاب وفيها اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، فجاءت سورة البقرة : ذلك الكتاب لا ريب فيه [ 2 \ 2 ] ، وبعدها ذكر أوصافهم وقال : أولئك على هدى من ربهم [ 2 \ 5 ] ، فأي ارتباط أقوى من هذا ، كأنه يقول : الهدى الذي تطلبونه في هذا الكتاب فهو هدى للمتقين ، وإن أراد اتصالا حسا بعدم البسملة ، فنظيرها سورة براءة مع الأنفال ، ولكن لا حاجة إلى ذلك ; لأن إجماع القراء على إثبات البسملة بينهما ، اللهم إلا مصحف أبي بن كعب ، وليس في هذين الوجهين وجه أرجح من وجه . ولذا لم يرجح بينهما أحد من المفسرين ، سوى ابن جرير رحمه الله : وصحة الوجهين أقوى وأعم في الامتنان وتعداد النعم . والإيلاف : قيل من التأليف ، إذ كانوا في رحلتيهم يألفون الملوك في الشام واليمن ، أو كانوا هم في أنفسهم مؤلفين ومجمعين ، وهو امتنان عليهم بهذا التجمع والتألف ، ولو سلط عليهم لفرقهم وشتتهم ، وأنشدوا : أبونا قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر وقيل : من الإلف والتعود ، أي : ألفوا الرحلتين . فللإبقاء لهم على ما ألفوه . وقريش قال أبو حيان : علم على القبيلة . وقيل : أصلها من النقرش ، وهو الاجتماع أو التكسب والجمع . وقيل : من دابة البحر المسماة بالقرش وهي أخطر حيواناته ، وهو مروي عن ابن عباس في جوابه لمعاوية . وأنشد قول الشاعر : وقريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا [ ص: 111 ] تأكل الرث والسمين ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا وقوله تعالى : رحلة الشتاء والصيف ، هو تفسير " لإيلاف " سواء على ما كانوا يؤالفون بين الملوك في تلك الرحلات ، أو ما كانوا يألفونه فيهما . قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت . المراد بالبيت : البيت الحرام ، كما جاء في دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم . وقوله تعالى : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف . بمثابة التعليل لموجب أمرهم بالعبادة ; لأنه سبحانه الذي هيأ لهم هاتين الرحلتين اللتين كانتا سببا في تلك النعم عليهم ، فكان من واجبهم أن يشكروه على نعمه ويعبدوه وحده . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى ، عند قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ 29 \ 67 ] وساق النصوص بهذا المعنى بما أغنى عن إعادته . تنبيه في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ربط بين النعمة وموجبها ، كالربط بين السبب والمسبب . ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده ، وحقه في ذلك على عباده جميعا ، وليس خاصا بقريش . وهذا الحق قرره أول لفظ في القرآن ، وأول نداء في المصحف ، فالأول قوله تعالى : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، كأنه يقول هو سبحانه مستحق للحمد ، لأنه رب العالمين ، أي خالقهم ورازقهم ، وراحمهم إلى آخره . [ ص: 112 ] والثاني : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] . ثم بين الموجب بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] . ثم عدد عليهم نعمه بقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . فهذه النعم تعادل الإطعام من جوع ، والأمن من خوف ، في حق قريش ، ومن ذلك قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر [ 108 \ 1 - 2 ] . وقد بين تعالى أن الشكر يزيد النعم والكفر يذهبها ، إلا ما كان استدراجا ، فقال في شكر النعمة : لئن شكرتم لأزيدنكم [ 14 \ 7 ] . وقال في الكفران وعواقبه : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] . وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفرادا وجماعات ، أن يقابلوا نعم الله بالشكر ، وأن يشكروها بالطاعة والعبادة لله ، وأن يحذروا كفران النعم . تنبيه آخر في الجمع بين إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معا ، إذ لا عيش مع الجوع ، ولا أمن مع الخوف ، وتكمل النعمة باجتماعهما . ولذا جاء الحديث : " من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه ، فقد اجتمعت عنده الدنيا بحذافيرها " . تنبيه آخر إن في هذه السورة دليلا على أن دعوة الأنبياء مستجابة ; لأن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لأهل الحرم بقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات [ 14 \ 37 ] . [ ص: 113 ] وقال : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك [ 2 \ 129 ] ، فأطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف ، وبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته . ![]()
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |