تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ - الصفحة 59 - ملتقى الشفاء الإسلامي

 

اخر عشرة مواضيع :         روائع قرآنية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 28 - عددالزوار : 159 )           »          ‏تأملات في آيتين عجيبتين في كتاب الله تعالى (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          الكلمة الطيِّبة (لا إله إلا الله ) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 8 )           »          أسد بن الفرات بن سنان رحمة الله فاتح صقلية (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »          صدق الله فصدقه الله (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 11 )           »          لماذا التأريخ بالهجرة لا بغيرها؟ (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          الهجرة النبويّة فن التخطيط والإعداد وبراعة الأخذ بالأسباب (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          معاهدة محمد الثالث مع ملك فرنسا لويس الخامس عشر (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 6 )           »          أمية بن أبي الصلت الداني (460-529هـ/1067-1134م) (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 7 )           »          فرق كبير بين الصالح والمصلح (اخر مشاركة : ابوالوليد المسلم - عددالردود : 0 - عددالزوار : 9 )           »         

العودة   ملتقى الشفاء الإسلامي > قسم العلوم الاسلامية > ملتقى القرآن الكريم والتفسير
التسجيل التعليمـــات التقويم

ملتقى القرآن الكريم والتفسير قسم يختص في تفسير وإعجاز القرآن الكريم وعلومه , بالإضافة الى قسم خاص لتحفيظ القرآن الكريم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #581  
قديم 15-08-2024, 09:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (579)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 391 إلى صـ 398





[ ص: 391 ] ونزلت سورة " الفتح " في عودته - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية .

وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ، ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم .

وكذلك يوم فتح مكة ، وتحطيم الأصنام ، والقضاء نهائيا على دولة الشرك في البلاد العربية ، ومن قبل ذلك ليلة خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ونزوله في الغار ، إذ كان فيها نجاته - صلى الله عليه وسلم - من فتك المشركين ، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار ، حينما كان يسير أحيانا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحيانا خلفه ، فسأل - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتذكر الرصد فأكون أمامك ، وأتذكر الطلب فأكون خلفك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر ؟ " .

فقلت : نعم ; فداك أبي وأمي يا رسول الله ; فإني إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك
" .

وكذلك وصوله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة ، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملا خاصا به والناس في إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى ، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ ، فهل يقفون صما بكما أم ينطقون بكلمة تعبير ؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال ، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر ، وما لا يرضي الله ولا رسوله .

إنه إن يكن من شيء ، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل تلك المناسبات من عبادة في : صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت .

وكان عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء ، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد ، وتكون ضمن عموم قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وضمن قوله تعالى فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] رأي بقصص الماضين .

ونحن أيضا نقص على أجيالنا بعد هذه القرون ، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا ؟

وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة . وبالله تعالى التوفيق .
تنبيه .

مما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله ابن كثير في التفسير عند كلامه على [ ص: 392 ] قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] .

قال عندها : وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عوف ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا يا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية ؟ قال : قوله : اليوم أكملت لكم دينكم ، فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عشية عرفة في يوم جمعة .

ورواه البخاري ، عن الحسن بن الصباح ، عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضا مسلم ، والترمذي ، والنسائي أيضا من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق ، قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا ، فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة .

وساق عن ابن جرير ، قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه .

فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : اليوم أكملت لكم دينكم

فأجابه عمر بما أجاب به سابقا ، وقال : في يوم جمعة ويوم عرفة ، وكلاهما - بحمد الله - لنا عيد .

ونقل عن ابن جرير ، عن ابن عباس قرأ الآية ، فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ، ويوم جمعة .

ومحل الإيراد أن عمر سمع اليهودي يشيد بيوم نزولها ، فقد أقر اليهودي على ذلك ولم ينكر عليه ، ولكن أخبره بالواقع وهو أن يوم نزولها عيد بنفسه بدون أن نتخذه نحن .

وكذلك ابن عباس ; أقر اليهودي على إخباره وتطلعه واقتراحه ، فلم ينكر عليه كما لم ينكر عمر ، مما يشعر أنه لو لم يكن نزولها يوم عيد ، لكان من المحتمل أن تتخذ عيدا . ولكنه صادف عيدا أو عيدين ، فهو تكريم لليوم بمناسبة ما نزل فيه من إكمال الدين [ ص: 393 ] وإتمام النعمة .

قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، الأمشاج : الأخلاط ، كما قال تعالى : من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 7 ] .
قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا

بين تعالى أنه هدى الإنسان السبيل ، وهو بعد الهداية إما شاكرا وإما كفورا .

وهذه الهداية هداية بيان وإرشاد ، كما في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] ، كما أن الهداية الحقيقية بخلق التوفيق فضلا من الله على من شاء ، كما تقدم عند قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الجمع بين الآيتين ، ومعنى الهداية العامة والخاصة .
قوله تعالى : سلاسل وأغلالا

بين تعالى نوع هذه السلاسل بذرعها في قوله تعالى : في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا [ 69 \ 32 ] .
قوله تعالى : يشربون من كأس

مادة يشرب تتعدى بنفسها ، فيقال : يشرب كأسا بدون مجيء " من " ، و " من " للتبعيض وللابتداء ، فقيل : هي هنا للابتداء ، وأن الفعل مضمن معنى فعل آخر ، وهو : يتنعمون ويرتوون كما قالوا في : عينا يشرب بها عباد الله [ 76 \ 6 ] . إذ الباء تكون للإرادة ولا إرادة هنا ، فهم يتنعمون بها .

والذي يظهر أن " من " للتبعيض فعلا ، وأن شرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ ، وهي عادة المترفين المنعمين ، يشربون بعض الكأس لا كله .

وقد دل على ذلك أنهم لا يشربون عن ظمأ ، كما في قوله تعالى لآدم : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] ، وسيأتي تعدية [ ص: 394 ] يسقون بنفسها إلى الكأس : ويسقون فيها كأسا [ 76 \ 17 ] ، ويأتي قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .

ويؤيد هذا اتفاقهم على التضمين في : عينا يشرب بها عباد الله ، فهو هنا واضح .

وهناك التبعيض ظاهر .
قوله تعالى : يوفون بالنذر

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث النذر وافيا عند قوله تعالى : وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] في سورة " الحج " .
قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا

اختلف في مرجع الضمير في على حبه ، هل هو راجع على الطعام أم على الله تعالى ؟ أي : ويطعمون الطعام على حب الطعام لقلته عندهم وحاجتهم إليه ، أم على حب الله رجاء ثواب الله ؟

وقد رجح ابن كثير المعنى الأول ، وهو اختيار ابن جرير ، وساق الشواهد على ذلك كقوله : وآتى المال على حبه [ 2 \ 177 ] ، وقوله لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ 3 \ 92 ] .

والواقع أن الاستدلال الأول فيه ما في هذه الآية ، ولكن أقرب دليلا وأصرح قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] .

وفي الآية التي بعدها في هذه السورة قرينة تشهد لرجوعه للطعام على ما تقدم ، وهي قوله تعالى بعدها : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ 76 \ 9 ] ; لأنها في معنى حب الله ، مما يجعل الأولى للطعام وهذه لله . والتأسيس أولى من التأكيد ، فيكون السياق : ويطعمون الطعام على حاجتهم إياه ، ولوجه الله تعالى . - والله تعالى أعلم - .

مسألة .

في قوله تعالى : مسكينا ويتيما وأسيرا ، جمع أصناف ثلاثة :

الأول والثاني من المسلمين غالبا ، أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار ، وإن [ ص: 395 ] كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم .

وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس : أنها في الفرس من المشركين ، وساق قصة أسارى بدر .

واختار ابن جرير أن الأسرى هم الخدم ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الأسارى هنا على معناها الحقيقي ; لأن الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين : اليتيم ، والمسكين ، وهؤلاء الأسارى بعد وقوعهم في الأسر ، لم يبق لهم حول ولا طول . فلم يبق إلا الإحسان إليهم .

وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه ، وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السماوية السامية حتى مع أعدائه ، وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم [ 60 \ 8 ] ، وهؤلاء بعد الأسر ليسوا مقاتلين .
قوله تعالى : ولقاهم نضرة وسرورا

تقدم معنى قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة [ 75 \ 22 ] ، وهنا جمع لهم بين النضرة والسرور ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن النضرة لما يرون من النعيم ، والسرور لما ينالونه من النظر إلى وجه الله الكريم كما تقدم : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 - 23 ] فيكون السرور نتيجة النظر إلى وجه الله الكريم . - والله تعالى أعلم - .
قوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا

فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة .

وجاء بصحاف من ذهب وأكواب ، وهي محرمة في الدنيا كما هو معلوم ، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم : ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الطور " عند قوله : ويطوف عليهم غلمان لهم [ 52 \ 24 ] [ ص: 396 ] والقوارير جمع قارورة ، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة ، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة ، مما يدل على صحة إطلاق القارورة على غير آنية الزجاج كالفضة مثلا .

قال صاحب اللسان : والقارورة : ما قر فيه الشراب وغيره ، وقيل : لا يكون إلا من الزجاج خاصة .

وقوله تعالى : قوارير بآنية من فضة ، قال بعض أهل العلم : معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير ، قال ابن سيده : وهذا أحسن . اهـ .

وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة في مادة قر : القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد ، والآخر على تمكن ، وذكر من التمكن : استقر ومستقر ، كما ذكر صاحب اللسان كثيرا من ذلك ، ثم قال : ومن الباب القر - بضم الراء - : صب الماء في الشيء . يقال : قررت الماء ، والقر : صب الكلام في الأذن ، وذكر منه الإقرار : ضد الجحود ; لاستقرار الحق به .

ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس ، فقال : وهذه مقاييس صحيحة ، فإما أن نتعدى ونتحمل الكلام ، كما بلغنا عن بعضهم أنه قال : سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره ، فليس هذا من مذهبنا . وقد قلنا : إن كلام العرب ضربان : منه ما هو قياس وقد ذكرناه ، ومنه ما وضع وضعا .

والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب ، أو أنها توضع بالقياس ؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلا يتناولها مسمى الخمر بالوضع فتكون محرمة بنص : إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] ، أو أنها محرمة قياسا على الخمر بجامع علة الإسكار ؟ وعليه فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياسا ، فهو أقوى في الحكم ; بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة . ولعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع : من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي .

وفي قوله تعالى : قدروها تقديرا [ 76 \ 16 ] توجيه إلى حسن الصنع في التسوية في التقدير ، والمقاسات .
[ ص: 397 ] قوله تعالى : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا

وقبلها قال تعالى : كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ، فقد قيل : هما معا ، فهي في برد الكافور وطيب الزنجبيل .
قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا

وهذا وصف شراب الجنة ، والشراب هنا هو الخمر ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المفهوم من أن شراب خمر الدنيا ليس طهورا ; لأن أحوال الجنة لها أحكامها الخاصة ، ويشهد لهذا ما تقدم في قوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة [ 76 \ 15 ] ، مع أن أواني الفضة محرمة في الدنيا ; لحديث : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، ومع ذلك فإن أهل الجنة ينعمون بها .

وكذلك ينعمون بخمر الجنة ، وكل أوصافها في الجنة عكس أوصافها في الدنيا كما تقدم ، لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، كما أوضحه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] في سورة " الواقعة " .
قوله تعالى : إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا

" نزلنا " " تنزيلا " : يدل على التكرار بخلاف " أنزلنا " ، وقد بين تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر في سورة " القدر " : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] ، وهنا إثبات التنزيل .

وقد بين تعالى كيفية التنزيل في قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ 17 \ 106 ] .

وقد بين تعالى الحكمة في هذا التفريق على مكث في قوله تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه المسألة في سورة " الفرقان " ، والإحالة فيها على بيان سابق .
قوله تعالى : فاسجد له وسبحه ليلا طويلا

تقدم بيان مقدار المطلوب قيامه من الليل في أول سورة " المزمل " في قوله تعالى : [ ص: 398 ] ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه الآية [ 73 \ 4 ] .
قوله تعالى : نحن خلقناهم وشددنا أسرهم

الأسر : الربط بقوة مأخوذ من الأسر هو جلد البعير رطبا ، وهو القد ، وسمي الأسير أسيرا لشد قيده بقوة بجلد البعير الرطب ، وهو هنا تقوية بشد ربط الأعضاء المتحركة في الإنسان في مفاصله بالعصب ، وهو كناية عن الإتقان والقوة في الخلق .

وقد بين تعالى ذلك في قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقوله : الذي أحسن كل شيء خلقه [ 32 \ 7 ] .
قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا

السبيل هنا منكر ، ولكنه معين بقوله : إلى ربه ; لأن السبيل إلى ربه هو السبيل المستقيم .

كما قال تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم [ 6 \ 151 ] ، وفي النهاية قال : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه [ 6 \ 153 ] ، وهو الصراط المستقيم الذي دعا إليه - صلى الله عليه وسلم - .

كما في قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] وهو القرآن الكريم كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، وقد بين تعالى أنه القرآن كله في قوله تعالى : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] بعد قوله : اهدنا الصراط المستقيم ، كأنه قال : الهادي إلى الصراط المستقيم المنوه عنه في الفاتحة : هو القرآن الكريم : هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب [ 2 \ 2 - 3 ] إلى آخر " الصفات " ، فيكون السبيل هنا معلوما .

وقوله تعالى قبلها : إن هذه تذكرة [ 76 \ 29 ] مشعر بأن السبيل عن طريق التذكر فيها والاتعاظ بها .

وقوله : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، علق اتخاذ السبيل إلى الله على مشيئة من [ ص: 399 ] شاء ، وقيدها ربط مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى في قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 \ 30 ] ، وهذه مسألة القدر .

وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثها بحثا وافيا عند قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] في " يونس " وأحال على " النساء " . إلا أن قوله تعالى في التذييل على الآية الكريمة بقوله : إن الله كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] أن كل ما يقع في هذا الكون من سلوك وأعمال أنه بعلم من الله وحكمة .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #582  
قديم 15-08-2024, 09:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (580)
سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ .
صـ 399 إلى صـ 408




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ .


قوله تعالى : والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا

يقسم تعالى بهذه المسميات ، واختلف في : والمرسلات ، و : فالعاصفات ، و : والناشرات .

فقيل : هي الرياح ، وقيل : الملائكة أو الرسل ، و عرفا أي : متتالية كعرف الفرس ، واختار كونها الرياح ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . واختار كونها الملائكة أبو صالح عن أبي هريرة ، والربيع بن أنس .

وعن أبي صالح : أنها الرسل ، قاله ابن كثير ، واختار الأول وقال : توقف ابن جرير ، والواقع أن كلام ابن جرير يفيد أنه لا مانع عنده من إرادة الجميع ; لأن المعنى محتمل ولا مانع عنده .

واستظهر ابن كثير أنها الرياح ; لقوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] ، وقوله : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] .

وهذا هو الذي اختاره الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الإملاء ، أما الفارقات ، فقيل : الملائكة ، وقيل : آيات القرآن ، ورجح الشيخ الأول ، وأما الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا

فقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانها في سورة " الصافات " عند قوله : فالتاليات ذكرا [ 37 \ 3 ] .

وفي مذكرة الإملاء . قوله : عذرا : اسم مصدر بمعنى الإعذار ، ومعناه قطع العذر .

ومنه المثل : من أعذر فقد أنذر ، وهو مفعول لأجله ، والنذر اسم مصدر بمعنى الإنذار ، وهو مفعول لأجله أيضا ، والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، و " أو " في قوله : [ ص: 401 ] أو نذرا بمعنى الواو ، أي : لأجل الإعذار والإنذار ، ومجيء " أو " بمعنى الواو كمجيء ذلك في قول عمرو بن معدي كرب :


قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع


أي : وسافع .
قوله تعالى : إنما توعدون لواقع

هو المقسم عليه ، والواقع أن بين كل قسم ومقسم عليه مناسبة ارتباط في الجملة غالبا ، والله تعالى يقسم بما شاء على ما شاء ; لأن المقسم به من مخلوقاته فاختيار ما يقسم به هنا أو هناك غالبا يكون لنوع مناسبة ، ولو تأملناه هنا ، لوجدنا المقسم عليه هو يوم القيامة ، وهم مكذبون به ; فأقسم لهم بما فيه إثبات القدرة عليه ، فالرياح عرفا تأتي بالسحاب تنشره ثم يأتي المطر ، ويحيي الله الأرض بعد موتها .

وهذا من أدلة القدرة على البعث ، والعاصفات منها بشدة ، وقد تقتلع الأشجار وتهدم البيوت مما لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم عليها ، وما فيها من الدلالة على الإهلاك والتدمير ، وكلاهما دال على القدرة على البعث .

ثم تأتي الملائكة بالبيان والتوجيه والإعذار والإنذار : إنما توعدون لواقع

- والله تعالى أعلم - .
قوله تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت

كلها تغييرات كونية من آثار ذلك اليوم الموعود . وطمس النجوم : ذهاب نورها ، كقوله : وإذا النجوم انكدرت [ 81 \ 2 ] .

وإذا السماء فرجت أي : تشققت وتفطرت كما في قوله تعالى : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] ، إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، ونسف الجبال تقدم بيانه في عدة محال . وما يكون لها من عدة أطوار من : دك وتفتيت ، وبث وتسيير : كالسحاب ثم كالسراب ، وتقدم في سورة " ق " عند قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم [ 50 \ 6 ] .
قوله تعالى : وإذا الرسل أقتت

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه في سورة " الواقعة " عند قوله تعالى : [ ص: 402 ] قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] .
قوله تعالى : لأي يوم أجلت ليوم الفصل

يوم الفصل هو يوم القيامة ، يفصل فيه بين الخلائق ، بين الظالم والمظلوم ، والمحق والمبطل ، والدائن والمدين ، كما بينه تعالى بقوله : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] ، وكقوله ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] .
قوله تعالى : ويل يومئذ للمكذبين

وعيد شديد من الله تعالى للمكذبين .

وقد تقدم معنى ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند آخر سورة " الذاريات " ، عند قوله تعالى : فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون [ 51 \ 60 ] .
قوله تعالى : ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم

الماء المهين : هو النطفة الأمشاج ، والقرار المكين : هو الرحم ، وقد مكنه الله وصانه حتى من نسمة الهواء .

والآيات الباهرات في هذا القرار فوق أن توصف ، وقد بين تعالى أنه الرحم بقوله تعالى : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [ 22 \ 5 ] ، والقدر المعلوم هو مدة الحمل إلى السقط أو الولادة .

وتقدم للشيخ التنويه عن ذلك في أول سورة " الحج " ، وأنها أقدار مختلفة وآجال مسماة .
قوله تعالى : فقدرنا فنعم القادرون

فيه التمدح بالقدرة على ذلك وهو حق ، ولا يقدر عليه إلا الله كما جاء في قوله : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] .

وقد بينه تعالى في أول سورة " الحج " : ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة [ 22 \ 5 ] إلى آخر السياق .
[ ص: 403 ] قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " طه " عند قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا [ 20 \ 35 ] ، والكفات : الموضع الذي يكفتون فيه ، والكفت : الضم أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطونها ، كما في قوله : وفيها نعيدكم [ 20 \ 55 ] ، وقد جمع المعنيين في قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا [ 71 \ 1 - 18 ] .
قوله تعالى : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون

بينه بعد بقوله تعالى : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر [ 77 \ 30 - 33 ] ، أي : وهي جهنم .

وقد بين تعالى في موضع آخر أنهم يدفعون إليها دفعا في قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون

نص على أنهم لا ينطقون في ذلك اليوم مع أنهم ينطقون ويجيبون على ما يسألون ، كما في قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] .

وقوله : فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون [ 68 \ 30 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هذه المسألة في سورة " النمل " عند قوله تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] .

وبين وجه الجمع بالإحالة على دفع إيهام الاضطراب عند سورة " المرسلات " ، هذه وأن ذلك في منازل وحالات .
قوله تعالى : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون

فيه النص على أن عملهم في الدنيا سبب في تمتعهم بنعيم الجنة في الآخرة ، ومثله قوله تعالى : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] .

[ ص: 404 ] وجاء في الحديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " ، ولا معارضة بين النصين ، إذ الدخول بفضل من الله وبعد الدخول يكون التوارث ، وتكون الدرجات ، ويكون التمتع بسبب الأعمال . فكلهم يشتركون في التفضل من الله عليهم بدخول الجنة ، ولكنهم بعد الدخول يتفاوتون في الدرجات بسبب الأعمال .
قوله تعالى : إنا كذلك نجزي المحسنين

في الآية التي قبلها قال تعالى : بما كنتم تعملون [ 77 \ 43 ] . وهنا قال : نجزي المحسنين ، ولم يقل : نجزي العاملين ، مما يشعر بأن الجزاء إنما هو على الإحسان في العمل لا مجرد العمل فقط ، وتقدم أن الغاية من التكليف ، إنما هي الإحسان في العمل : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 1 - 2 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الكهف " عند قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون

هذه الآية الكريمة من آيات الاستدلال على أن الكفار مؤاخذون بترك الفروع ، وتقدم التنبيه على ذلك مرارا ، والمهم هنا أن أكثر ما يأتي ذكره من الفروع هي الصلاة ; مما يؤكد أنها هي بحق عماد الدين .
قوله تعالى : فبأي حديث بعده يؤمنون

أي : بعد هذا القرآن الكريم لما فيه من آيات ودلائل ومواعظ كقوله تعالى : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون [ 45 \ 6 ] .

وقد بين تعالى أنه نزله أحسن الحديث هدى في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] .

وذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم إلى أبي هريرة يرويه : إذا قرأ : والمرسلات عرفا ، فقرأ : فبأي حديث بعده يؤمنون ، فليقل : آمنت بالله وبما أنزل . [ ص: 405 ] وذكر في سورة " القيامة " عن أبي داود وأحمد عدة أحاديث بعدة طرق أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قرأ في سورة الإنسان : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 40 ] ، قال : سبحانك اللهم فبلى . وإذا قرأ سورة " والتين " فانتهى إلى قوله : أليس الله بأحكم الحاكمين [ 95 \ 8 ] ، فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين . ومن قرأ : والمرسلات ، فبلغ : فبأي حديث بعده يؤمنون ، فليقل : آمنا بالله " . اهـ .

وإنا نقول : آمنا بالله كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ النَّبَأِ .


قوله تعالى : عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون

عم أصله عن ما أدغمت النون في الميم ، ثم حذف ألف الميم ، لدخول حرف الجر عليه ; للفرق بين ما الاستفهامية وما الموصولة .

والمعنى : عن أي شيء يتساءلون ، وقد يفصل حرف الجر عن ما ، فلا يحذف الألف .

وأنشد الزمخشري قول حسان - رضي الله عنه - :


على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد


وقال في الكشاف : وعن ابن كثير أنه قرأ " عمه " بهاء السكت ، ثم وجهها بقوله : إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف ، وإما أن يقف ويبتدئ : يتساءلون عن النبإ العظيم ، على أن يضمر يتساءلون ; لأن ما بعده يفسره .

وقال القرطبي : قوله : عن النبإ العظيم : ليس متعلقا بـ : يتساءلون المذكور في التلاوة ، ولكن يقدر فعل آخر عم يتساءلون عن النبإ العظيم ، وإلا لأعيد الاستفهام : أعن النبأ العظيم ؟

وعلى كل ، فإن ما تساءلوا عنه أبهم أولا ، ثم بين بعده بأنهم : يتساءلون عن النبإ العظيم ، ولكن بقي بيان هذا النبإ العظيم ما هو ؟ . فقيل : هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعثته لهم . وقيل : في القرآن الذي أنزل عليه يدعوهم به . وقيل في البعث بعد الموت .

[ ص: 407 ] وقد رجح ابن جرير : احتمال الجميع وألا تعارض بينها .

والواقع أنها كلها متلازمة ; لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها ، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها ، ومن اختلف في واحد منها لا شك أنه يختلف فيها كلها .

ولكن السياق في النبأ وهو مفرد . فما المراد به هنا بالذات ؟

قال ابن كثير والقرطبي : من قال إنه القرآن : قال بدليل قوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون [ 38 \ 67 - 68 ] .

ومن قال : إنه البعث ، قال بدليل الآتي بعدها : إن يوم الفصل كان ميقاتا [ 78 \ 17 ] .

والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن أظهرها دليلا هو يوم القيامة والبعث ; لأنه جاء بعده بدلائل وبراهين البعث كلها ، وعقبها بالنص على يوم الفصل صراحة ، أما براهين البعث فهي معلومة أربعة : خلق الأرض والسماوات ، وإحياء الأرض بالنبات ، ونشأة الإنسان من العدم ، وإحياء الموتى بالفعل في الدنيا لمعاينتها . وكلها موجودة هنا .

أما خلق الأرض والسماوات ، فنبه عليه بقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] ، وقوله : وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا [ 78 \ 12 - 13 ] ، فكلها آيات كونية دالة على قدرته تعالى كما قال : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .

وأما إحياء الأرض بالنبات ففي قوله تعالى : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا [ 78 \ 14 - 16 ] كما قال تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] .

وأما نشأة الإنسان من العدم ، ففي قوله تعالى : وخلقناكم أزواجا [ 78 \ 8 ] ، أي : أصنافا ، كما قال تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] .

وأما إحياء الموتى في الدنيا بالفعل ، ففي قوله تعالى : وجعلنا نومكم سباتا [ 78 \ 9 ] [ ص: 408 ] والسبات : الانقطاع عن الحركة . وقيل : هو الموت ، فهو ميتة صغرى ، وقد سماه الله وفاة في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه [ 6 \ 60 ] ، وهذا كقتيل بني إسرائيل وطيور إبراهيم ، فهذه آيات البعث ذكرت كلها مجملة .

وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إيرادها مفصلة في أكثر من موضع ، ولذا عقبها تعالى بقوله : إن يوم الفصل كان ميقاتا [ 78 \ 17 ] ، أي : للبعث الذي هم فيه مختلفون ، يكون السياق مرجحا للمراد بالنبأ هنا .

ويؤكد ذلك أيضا ، كثرة إنكارهم وشدة اختلافهم في البعث أكثر منهم في البعثة وفي القرآن ، فقد أقر أكثرهم ببلاغة القرآن ، وأنه ليس سحرا ولا شعرا ، كما أقروا جميعا بصدقه - عليه السلام - وأمانته ، ولكن شدة اختلافهم في البعث كما في أول سورة " ص " و " ق " ، ففي " ص " قال تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 4 - 5 ] .

وفي " ق " قال تعالى : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ، فهم أشد استبعادا للبعث مما قبله ، - والله تعالى أعلم - .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #583  
قديم 16-09-2024, 01:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (581)
سُورَةُ النَّازِعَاتِ .
صـ 409 إلى صـ 418




قوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون

لم يبين هنا هل علموا أم لا . ولكن ذكر آيات القدرة الباهرة على إحيائهم بعد الموت بمثابة إعلامهم بما اختلفوا فيه ، لأنه بمنزلة من يقول لهم : إن كنتم مختلفين في إثبات البعث ونفيه ، فهذه هي آياته ودلائله فاعتبروا بها وقايسوه عليها ، والقادر على إيجاد تلك ، قادر على إيجاد نظيرها .

ولكن العلم الحقيقي بالمعاينة لم يأت بعد لوجود السين وهي للمستقبل ، وقد جاء في سورة " التكاثر " في قوله : ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 1 - 7 ] ، وهذا الذي سيعلمونه يوم الفصل المنصوص عليه [ ص: 409 ] في السياق : إن يوم الفصل كان ميقاتا [ 78 \ 17 ] .
قوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا

قرئ بالإفراد ، " مهدا " أي : كالمهد للطفل ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا .
قوله تعالى : وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه الثلاثة ، كون النوم سباتا : راحة أو موتا ، والليل لباسا : ساترا ومريحا ، والنهار معاشا : لطلب المعاش ، وذلك عند كلامه على قوله تعالى من سورة " الفرقان " : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] ، وكلها آيات دالات على القدرة على البعث ، كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا

أي : السماوات السبع ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة " ق " : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] ، وساق النصوص مماثلة هناك .
قوله تعالى : يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا

النفخ في الصور للبعث ، وهذا معلوم ، وتأتون أفواجا : قد بين حال هذا المجيء مثل قوله تعالى : يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] ، وقوله : كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي [ 54 \ 7 - 8 ] ، والأفواج هنا قيل : الأمم المختلفة كقوله : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه الآية [ 17 \ 71 ] ، ولكن الآية بتاء الخطاب : فتأتون مما يشعر بأن الأفواج في هذه الأمة .

وقد روى القرطبي وغيره أثرا عن معاذ ، أنه سأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا معاذ ، سألت عن أمر عظيم من الأمور " ، ثم أرسل عينيه وقال : " تحشر عشرة أصناف من أمتي " وساقها ، وكذلك ساقها الزمخشري ، وقال ابن حجر في الكافي الشافي في تخريج [ ص: 410 ] أحاديث الكشاف : أخرجه الثعلبي ، وابن مردويه من رواية محمد بن زهير ، عن محمد بن الهندي ، عن حنظلة السدوسي ، عن أبيه ، عن البراء بن عازب ، عنه بطوله وهي : " بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا ، وبعضهم صما ، بكما ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلات على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم " .

أما الذين على صورة الخنازير : فأهل السحت ، والمنكسون : أكلة الربا ، والعمي : الجائرون في الحكم ، والصم : المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون ألسنتهم : العلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، ومقطوعو الأيدي : مؤذو الجيران ، والمصلبون : السعاة بالناس إلى السلطان ، والذين أشد نتنا : متبعو الشهوات ، ومانعو حق الله في أموالهم ، ولابسو الجلباب : أهل الكبر والفخر . انتهى بإيجاز بالعبارة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا

تقدم بيان أحوالها يوم القيامة ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك مفصلا ; عند قوله تعالى من سورة " طه " : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، وعند قوله تعالى في سورة " النمل " : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
قوله تعالى : لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا

لم يبين الأحقاب هنا كم عددها ، وهذه مسألة فناء النار ، وعدم فنائها .

وقيل : المراد بالأحقاب هنا : جزء من الزمن لا كله ، وهي الأحقاب الموصوف حالهم فيها لما بعدهم من كونهم لا يذوقون فيها ، أي : في النار أحقابا من الزمن ، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا .

أما بقية الأحقاب فيقال لهم : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] ، وهذه المسألة قد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في كتاب دفع إيهام الاضطراب ، عند الكلام [ ص: 411 ] على هذه الآية ، وفي سورة " الأنعام " على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، وهو بحث مطول ، وسيطبع الكتاب - بإذن الله تعالى - مع هذه التتمة .

وذكر القرطبي في معنى الحقب آثارا عديدة منها : عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا . الحقب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة مما تعدون . فلا يتكلن أحدكم على أنه يخرج من النار " . ذكره الثعلبي .

وقد رجح القرطبي دوامهم - أي : الكفار في النار - أبد الآبدين . اهـ .
وكل شيء أحصيناه كتابا

قيل المراد بالشيء هنا : أعمال العباد ، أي : أنه بعد قوله : جزاء وفاقا [ 78 \ 26 ] ، أي : وفق أعمالهم بدون زيادة ولا نقص ، قال : وقد أحصينا أعمالهم وكتبناها ، وهذا كقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] .

وقوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ، وقوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، وقوله : أحصاه الله ونسوه [ 58 \ 6 ] .

واللفظ عام في كل شيء ، ويشهد له قوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] وبقدر فيه معنى الإحصاء ، وفي السنة : حديث القلم المشهور ، وكقوله : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [ 36 \ 12 ] ، وتقدم في سورة " الجن " قوله تعالى : وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [ 72 \ 28 ] .

وهذه الآية أعظم الدلالات على قدرته تعالى وسعة علمه ، وألا يفوته شيء قط ، وأنه يعلم بالجزئيات علمه بالكليات .

وكما تقدم في سورة " المجادلة " : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [ 58 \ 7 ] .

[ ص: 412 ] وكذلك التفصيل في قوله : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
قوله تعالى : إن للمتقين مفازا

بينه بعده بقوله تعالى : حدائق وأعنابا إلى قوله : جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 32 - 36 ] .
قوله تعالى : عطاء حسابا

في حق الكفار قال : جزاء وفاقا ، وفي حق المؤمنين قال عطاء حسابا .

ففي الأول بيان أن مجازاتهم وفق أعمالهم ولا يظلم ربك أحدا . وفي الثاني بيان بأن هذا النعيم عطاء من الله وتفضل عليهم به من الأصل ، وهو المفاز المفسر في قوله تعالى : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ 3 \ 185 ] .

ودخول الجنة ابتداء عطاء من الله كما في حديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " ، وقوله : حسابا : إشعار بأن تفاوت أهل الجنة في الجنة بالحساب ونتائج الأعمال . وقيل حسابا : بمعنى كفاية ، حتى يقول كل واحد منهم : حسبي حسبي . أي : كافيني .
قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند الكلام على قوله تعالى من سورة " الكهف " : وعرضوا على ربك صفا [ 18 \ 48 ] .

وقد ذكر ابن كثير لمعنى الروح هنا سبعة أقوال هي : أرواح بني آدم ، أو بنو آدم أنفسهم ، أو خلق من خلق الله على صور بني آدم ليسوا بملائكة ولا بشر ، ويأكلون [ ص: 413 ] ويشربون ، أو جبريل أو القرآن ، أو ملك عظيم بقدر جميع المخلوقات . ونقلها الزمخشري ، وحكاها القرطبي ، وزاد ثامنا : وهم حفظة على الملائكة ، وتوقف ابن جرير في ترجيح واحد منها .

والذي يشهد له القرآن بمثل هذا النص أنه جبريل - عليه السلام - ، كما في قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر [ 97 \ 4 ] ، ففيه عطف الملائكة على الروح من باب عطف العام على الخاص ، وفي سورة " القدر " عطف الخاص على العام . والله تعالى أعلم .

قوله تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن

قال الزمخشري : لشدة هول الموقف ، وهؤلاء وهم أكرم الخلق على الله وأقربهم إلى الله ، لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ، فغيرهم من الخلق من باب أولى .

وقال ابن كثير : هو مثل قوله تعالى : يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه [ 11 \ 105 ] ، ومثله قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] .

والواقع أن هذا كله مما يدل على أن ذلك اليوم لا سلطة ولا سلطان لأحد فقط ، حتى ولا بكلمة إلا ما أذن فيها ، كما قال تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
قوله تعالى ذلك اليوم الحق

هو يوم القيامة لاسم الإشارة ، وقد أشير إليه بالاسم الخاص بالبعيد ذلك بدلا من هذا ، مع قرب التكلم عليه ; ولكن إما لبعده زمانيا عن زمن التحدث عنه ، وإما لبعد منزلته وعظم شأنه ، كقوله تعالى : الم ذلك الكتاب [ 2 \ 1 - 2 ] ، وفي هذا عود على بدء في أول السورة ، وهو إذا كانوا يتساءلون مستغربين أو منكرين ليوم القيامة ، فإنهم سيعلمون حقا ، وها هو اليوم الحق لا لبس فيه ولا شك ليرونه عين اليقين .

قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا .

المآب : المرجع ، كما تقدم مثله فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [ 73 \ 19 ] ، فإذا كان هذا اليوم كائنا حقا ، والناس فيه إما إلى جهنم ، [ ص: 414 ] كانت مرصادا للطاغين مآبا [ 78 \ 21 - 22 ] ، وإما مفازا حدائق وأعنابا [ 78 \ 31 - 32 ] ، فبعد هذا البيان : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ، يؤوب به عند ربه مآبا يرضاه لنفسه ، و من شاء هنا نص في التخيير ، ولكن المقام ليس مقام تخيير ، وإنما هو بمثابة قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا الآية [ 18 \ 29 ] .

فهو إلى التهديد أقرب ، كما أن فيه اعتبار مشيئة العبد فيما يسلك . والله تعالى أعلم .

ويدل على التهديد ما جاء بعده .
قوله تعالى : إنا أنذرناكم عذابا قريبا

وقوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، وهذا كله تحذير شديد ، وحث أكيد على السعي الحثيث لفعل الخير ، وطلب النجاة في اليوم الحق . نسأل الله السلامة والعافية .
قوله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه

قد بين تعالى نتيجة هذا النظر إما المسرة به وإما الفزع منه ، كما في قوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [ 3 \ 30 ] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ النَّازِعَاتِ .

قوله تعالى : والنازعات غرقا

الواو للقسم ، والمقسم به محذوف ، ذكرت صفاته في كل المذكورات ، إلى قوله : فالمدبرات أمرا [ 79 \ 5 ] .

وقد اختلف في المقسم به فيها كلها ، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله .

" والنازعات " : جمع نازعة ، والنزع : جذب الشيء بقوة من مقره ، كنزع القوس عن كبده ، ويستعمل في المحسوس والمعنوي ، فمن الأول نزع القوس كما قدمنا ، ومنه قوله : " ونزع يده " [ 7 \ 108 ] ، وقوله : تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 20 ] ، وقوله : " ينزع عنهما لباسهما " [ 7 \ 27 ] ، ومن المعنوي قوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا [ 15 \ 47 ] ، وقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ 4 \ 59 ] ، والحديث : " لعله نزعه عرق " .

والإغراق : المبالغة ، والاستغراق : الاستيعاب .

أما المراد بـ " النازعات غرقا " هنا ، فقد اختلف فيه إلى حوالي عشرة أقوال منها : أنها الملائكة تنزع الأرواح ، والنجوم تنتقل من مكان إلى مكان آخر ، والأقواس تنزع السهام ، والغزاة ينزعون على الأقواس ، والغزاة ينزعون من دار الإسلام إلى دار الحرب للقتال ، والوحوش تنزع إلى الطلا ، أي : الحيوان الوحشي .

" والناشطات " : قيل أصل الكلمة : النشاط والخفة ، والأنشوطة : العقدة سهلة الحل ، ونشطه بمعنى ربطه ، وأنشطه حله بسرعة وخفة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كأنما أنشط من عقال " .

أما المراد به هنا فقد اختلف فيه على النحو المتقدم تقريبا ، فقيل : الملائكة تنشط [ ص: 416 ] الأرواح ، وقيل : أرواح المؤمنين تنشط عند الفزع ، ولم يرجح ابن جرير معنى منها ، وقال : كلها محتملة ، وحكاها غيره كلها .

وقد ذكر في الجلالين المعنى الأول منها فقط ، والذي يشهد له السياق والنصوص الأخرى : أن كلا من " النازعات " و " الناشطات " : هم الملائكة ، وهو ما روي عن ابن عباس ومجاهد ، وهي صفات لها في قبض الأرواح .

ودلالة السياق على هذا المعنى : هو أنهما وصفان متقابلان : الأول نزع بشدة ، والآخر نشاط بخفة ، فيكون النزع غرقا لأرواح الكفار ، والنشط بخفة لأرواح المؤمنين ، وقد جاء ذلك مفسرا في قوله تعالى في حق نزع أوراح الكفار : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] . وقوله تعالى : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق [ 8 \ 50 ] ، وقال تعالى في حق المؤمنين : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية [ 89 \ 27 - 28 ] ، وقوله : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 \ 30 ] .

وهذا يتناسب كل المناسبة مع آخر السورة التي قبلها إذ جاء فيها : إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، ونظر المرء ما قدمت يداه يبدأ من حالة النزع حينما يثقل اللسان عن النطق في حالة الحشرجة ، حين لا تقبل التوبة عند العاينة لما سيئول إليه ، فينظر حينئذ ما قدمت يداه ، وهذا عند نزع الروح أو نشطها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : والسابحات سبحا فالسابقات سبقا

قيل : " السابحات " النجوم . وقيل : الشمس والقمر والليل والنهار ، والسحاب والسفن والحيتان في البحار ، والخيل في الميدان .

وذكرها كلها أيضا ابن جرير ولم يرجح . وقال : كلها محتملة ، وذكرها غيره كذلك .

والواقع ، فإنها كلها آيات عظام تدل على قدرته تعالى ، إلا أن السياق في أمر [ ص: 417 ] البحث والمعاد ، وأقرب ما يكون إليه الآيات الكونية : الشمس ، والقمر ، والنجوم . وقد وصف الله الشمس والقمر بالسابحات في قوله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] ، " والسابقات " من النجوم ، السيارة .
قوله تعالى : فالمدبرات أمرا

اتفق المفسرون على أنها الملائكة ، وذكر الفخر الرازي رأيا له بعيدا ، وهو أنها الأرواح ، وأنها قد تدبر أمر الإنسان في المنامات ، وهو قول لا يعول عليه كما ترى .

والذي يشهد له النص أنها الملائكة ، كما في قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر [ 97 \ 4 ] ، وكما وصف الله الملائكة بقوله : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] .
قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة

هما النفختان في الصور ، الراجفة هي الأولى ، والرادفة هي الثانية ، كما في قوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [ 39 \ 68 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " يس " عند قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] ، وسميت الأولى الراجفة ; لما يأخذ العالم كله من شدة الرجفة ، كما في قوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، وقوله : فصعق من في السماوات ومن في الأرض [ 39 \ 68 ] .

وذكر ابن كثير عن الإمام أحمد - رحمه الله - بسنده : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جاءت الرجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه . فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : " إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك " وسنده قال أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن أبي الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث .
[ ص: 418 ] قوله تعالى : يقولون أئنا لمردودون في الحافرة قال ابن كثير : يستنكر المشركون البعث بعد الموت ، و " الحافرة " : الحياة بعد موتهم ومصيرهم إلى القبور .

ونقل أن الحافرة النار ، وأكثر المفسرين على أنها الحياة الأولى ، يقال : عاد في حافرته رجع في طريقه ، كأن محياه الأول حفر طريقه بمشيه فيها ، وعليه لا علاقة له بحفرة القبر ، وإنما هو تعبير عربي عن العودة في الأمر ، ويشهد له قول الشاعر :


أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من صلع وعار


أي : أرجع إلى الصبا بعد الصلع والشيب .

وقول الآخر :


أقدم أخا نهم على الأساوره ولا يهولنك رءوس نادره
فإنما قصرك ترب الساهره حتى تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاما ناخره


وقد دلت الآية بعدها ، إلى أن المراد بالحافرة العودة إلى الحياة مرة أخرى ، في قوله : قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 12 ] .

والكرة : هي العودة إلى الحياة الأولى ، وهي ما قبل حفرة القبر من تكرار الحياة السابقة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أئذا كنا عظاما نخرة العظام النخرة البالية ، والتي تخللها الريح ، كما في قول الشاعر :

وأخليتها من مخها فكأنها قوارير في أجوافها الريح تنخر

ونخرة الريح شدة صوتها ، ومنه المنخر ، لأخذ الهواء منه ، ويدل لهذا قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #584  
قديم 16-09-2024, 01:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (582)
سُورَةُ النَّازِعَاتِ .
صـ 419 إلى صـ 428




قوله تعالى : هل أتاك حديث موسى .

[ ص: 419 ] بين تعالى هذا الحديث وموضوعه ومكانه بقوله تعالى بعده : إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى إلى قوله فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] .
قوله تعالى : ناداه ربه بالوادي المقدس ، بين القرآن الكريم أنه الطور في قوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا إلى قوله فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة [ 28 \ 29 - 30 ] والمباركة تساوي المقدس .

فبين تعالى أن المناداة كانت بالطور وهو الوادي المقدس ، وهو طوى ، وفي البقعة المباركة . وقد بين تعالى ما كان في ذلك المكان من مناجاة وأمر العصا والآيات الأخرى في سورة " طه " من أول قوله تعالى : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا إلى قوله اذهب إلى فرعون [ 20 \ 9 - 24 ] .

وقد فصل الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - القول في ذلك الموقف في سورة " مريم " عند قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] .

وقد بين تعالى في سورة " طه " ، كامل قصة المناداة من قوله : إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية [ 20 \ 12 - 15 ] .

ثم قصة العصا والآية في يده - عليه السلام - وإرساله إلى فرعون إنه طغى ، وسؤال موسى : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [ 20 \ 25 - 26 ] ، واستوزار أخيه معه ، دون التعرض إلى أسلوب الدعوة ، وفي هذه السورة الكريمة بيان لمنهج الدعوة ، وما ينبغي أن يكون عليه نبي الله موسى مع عدو الله فرعون .

وأسلوب العرض : " هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى " [ 79 \ 18 - 19 ] ، ثم تقديم الآية الكبرى ، ودليل صحة دعواه مما يلزم كل داعية اليوم أن يقف هذا الموقف ، حيث لا يوجد اليوم أكثر من فرعون ، ولا أشد طغيانا منه ; حيث ادعى الربوبية والألوهية معا ، فقال : أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] ، وقال : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] ، [ ص: 420 ] ولا يوجد اليوم أكرم على الله من نبي الله موسى وأخيه هارون .

ومع ذلك فيكون منهج الدعوة من أكرم خلق الله إلى أكفر عباد الله بهذا الأسلوب الهادئ اللين الحكيم ، منطلقا من قوله تعالى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] فكانا كما أمرهما الله ، وقالا كما علمهما الله هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ، وهذا المنهج هو تحقيق لقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ 16 \ 125 ] .

وقد وضع القرآن منهجا متكاملا للدعوة إلى الله ، وفصله العلماء بما يشترط في الداعي والمدعو إليه ، ومراعاة حال المدعو .

وقد قدم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] من سورة " المائدة " .

وقوله تعالى : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ 11 \ 88 ] في سورة " هود " .

وقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] في سورة " النحل " .

ومجموع ذلك كله يشكل منهجا كاملا لمادة طريق الدعوة إلى الله تعالى ، فيما يتعلق بالداعي والمدعو وما يدعو إليه ، وكيفية ذلك . والحمد لله .
قوله تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى

ذكر هنا الآية الكبرى فقط ، وذكر تعالى منها أن فرعون جمع بين التكذيب والعصيان ، وتقدم في سورة " القمر " قوله : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر .

[ 54 \ 41 - 42 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك هناك .
قوله تعالى : فأخذه الله نكال الآخرة والأولى

النكال : هو اسم لما جعل نكالا للغير ، أي : عقوبة له حتى يعتبر به ، والكلمة من [ ص: 421 ] الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد . قاله القرطبي .

واختلف في " الآخرة والأولى " : أهم الدنيا والآخرة ؟ أم هم الكلمتان العظيمتان اللتان تكلم بهما فرعون في قوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] .

والثانية قوله : أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] .

قال ابن عباس : وكان بينهما أربعون سنة . وقد اختار ابن كثير الأول ، واختار ابن جرير الثاني ، ومعه كثير من المفسرين .

ولكن يرد على اختيار ابن كثير : أن السياق قدم الآخرة ، مع أن تعذيب فرعون مقدم فيه نكال الأولى ، وهي الدنيا .

كما يرد على اختيار ابن جرير ، أن الله تعالى جعل أخذه إياه نكالا ، ليعتبر به من يخشى ، والعبرة تكون أشد بالمحسوس ، وكلمتاه قيلتا في زمنه .

والقرآن يشهد لما قاله ابن كثير ، في قوله تعالى : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية [ 10 \ 92 ] ، وهذا هو محل الاعتبار .

وقد قال تعالى بعد الآية : إن في ذلك لعبرة لمن يخشى [ 79 \ 26 ] .

واسم الإشارة في قوله : " إن في ذلك " : راجع إلى الأخذ والنكال المذكورين ، أي : المصدر المفهوم ضمنا في قوله تعالى : فأخذه الله ، وقوله : " نكال " ، بل إن " نكال " مصدر بنفسه ، أي : فأخذه الله ونكل به ، وجعل نكاله به عبرة لمن يخشى .
قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها

لما كان فرعون على تلك المثابة من الطغيان والكفر ، وكان من أسباب طغيانه الملك والقوة ، كما في قوله تعالى : وفرعون ذي الأوتاد [ 89 \ 10 ] ، وقوله : إن فرعون علا في الأرض [ 28 \ 4 ] ، وقوله عنه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [ 43 \ 51 ] .

وهذه كلها مظاهر طغيانه وعوامل قوته ، خاطبهم الله بما آل إليه هذا الطغيان ، ثم خاطبهم في أنفسهم محذرا من طغيان القوة : أأنتم أشد خلقا أم السماء ، حتى لو [ ص: 422 ] ادعيتم أنكم أشد قوة من فرعون ، الذي أخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فهل أنتم أشد خلقا أم السماء ؟

وقد جاء الجواب مصرحا بأن السماء أشد خلقا منهم في قوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 40 \ 57 ] .

وبين ضعف الإنسان في قوله في نفس المعنى : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب [ 37 \ 11 ] .

وفي هذا بيان على قدرته تعالى على بعثهم بعد إماتتهم وصيرورتهم عظاما نخرة .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - شيء من ذلك عند آية " الصافات " : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا [ 37 \ 11 ] .
قوله تعالى : بناها رفع سمكها فسواها

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " ق " عند قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها

في هذه الآية الكريمة وصف الأرض بأن الله تعالى " دحاها " ، وجاء في آية أخرى أنه " طحاها " بالطاء ، وجاء في آية أخرى أنه بسطها ، وهي قوله تعالى : وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 20 ] .

وقد اختلف في تفسير قوله : " دحاها " ، فقال ابن كثير : تفسيره ما بعده أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها [ 79 \ 31 - 32 ] وهذا قول ابن جرير عن ابن عباس .

وقال القرطبي : " دحاها " أي : بسطها .

والعرب تقول : دحا الشيء إذا بسطه .

وقال أبو حيان : " دحاها " بسطها ومهدها للسكنى والاستقرار عليها ، ثم فسر ذلك التمهيد بما لا بد منه من إخراج الماء والمرعى ، وإرسائها بالجبال .

[ ص: 423 ] ومما ذكر يتأتى السكنى والمعيشة حتى الملح والمأكل والمشرب ، وهذا هو كلام الزمخشري بعينه .

وقال الفخر الرازي : " دحاها " : بسطها ، فترى أن جميع المفسرين تقريبا متفقون على أن دحاها بمعنى بسطها .

وقول ابن جرير وابن كثير : إن " دحاها " فسر بما بعده لا يتعارض مع البسط والتمهيد ، كما قال أبو حيان : إنه ذكر لوازم التسكن إلى المعيشة عليها من إخراج مائها ومرعاها ; لأن بهما قوام الحياة .

ومما يستأنس به أن الدحو معروف بمعنى البسط ، قول ابن الرومي :


ما أنس لا أنس خبازا مررت به يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء ترمي فيه بالحجر


وقد أثير حول هذه الآية مبحث شكل الأرض أمبسوطة هي أم كروية مستديرة ؟

وإذا رجعنا إلى أمهات كتب اللغة نجد الآتي :

أولا : في مفردات الراغب : قال " دحاها " ، أزالها من موضعها ومقرها .

ومنه قولهم : دحا المطر الحصى من وجه الأرض ، أي : جرفها ، ومر الفرس يدحو دحوا : إذا جر يده على وجه الأرض فيدحو ترابها .

ومنه أدحي النعام ، وقال : الطحو كالدحو ، وهو بسط الشيء والذهاب به والأرض وما طحاها ، وأنشد قول الشاعر :


طحا بك قلب في الحسان طروب


أي ذهب بك .

وفي معجم مقاييس اللغة ، مادة دحو : الدال والحاء والواو أصل واحد يدل على بسط وتمهيد .

يقال : دحى الله الأرض يدحوها دحوا إذا بسطها . ويقال : دحا المطر الحصى [ ص: 424 ] عن وجه الأرض ، وهذا لأنه إذا كان كذلك فقد مهد الأرض .

ويقال للفرس ، إذا رمى بيده رميا لا يرفع سنبكه عن الأرض كثيرا : مر يدحو دحوا ، ومن الباب أدحي النعام : الموضع الذي يفرخ فيه ، أفعول من دحوت ، لأنه يدحوه برجله ثم يبيض فيه ، وليس للنعامة عش .

وفي لسان العرب مادة دحا ، والدحو : البسط ، دحى الأرض يدحوها دحوا : بسطها .

وقال الفراء في قوله عز وجل : والأرض بعد ذلك دحاها قال : بسطها ، وذكر الأدحي مبيض النعام في الرمل ; لأن النعامة تدحوه برجلها ، ثم تبيض فيه .

وذكر حديث ابن عمر : " فدحا السيل فيه بالبطحاء " ، أي : رمى وألقى .

قال : وسئل ابن المسيب عن الدحو بالحجارة ، فقال : لا بأس به ، أي : المراماة بها والمسابقة .

وعن ابن الأعرابي : هو يدحو بالحجر ، أي يرمي به ويدفعه ، والداحي : الذي يدحو الحجر بيده ، وأنشد لأوس بن حجر بمعنى ينزع قوله :


ينزع جلد الحصى أجش مبترك كأنه فاحص أو لاعب داح
؟

وفي حديث أبي رافع : " كنت ألاعب الحسن والحسين - رضوان الله عليهما - بالمداحي " ، هي أحجار أمثال القرصة ، كانوا يحفرون حفرة يدحون فيها بتلك الحجارة ، فإذا وقع الحجر فيها غلب صاحبها ، وإن لم يقع غلب .

والدحو : هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره . اهـ .

وما ذكره صاحب اللسان عن أبي رافع لا زال موجودا حتى الآن بالمدينة ، ويسمى الدحل باللام ، كما وصف تماما .

وبعد إيراد أقوال أصول مراجع اللغة ، وما تقدم من أقوال المفسرين . فإننا نواجه الجدل القائم بين بعض علماء الهيئة ، وبعض العلماء الآخرين ، في موضوع شكل الأرض ، ولعلنا نوفق بفضل من الله إلى بيان الحقيقة في ذلك ، حتى لا يظن ظان تعارض القرآن ، وما يثبت من علوم الهيئة أو يغتر جاهل بما يقال في الإسلام .

[ ص: 425 ] وبتأمل قول المفسرين نجدها متفقة في مجموعها : بأن " دحاها " مهدها وسهل الحياة عليها ، وذكر لوازم التمكين من الحياة عليها من إخراج الماء ، والمرعى ، ووضع الجبال ، وهو المتفق مع نصوص القرآن في قوله :ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] .

وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] .

وكل ذلك من باب واحد ، وهو تمهيدها والتمكين للعيش عليها ، وليس فيه معنى التكوير والاستدارة .

وإذا جئنا إلى كتب اللغة نجدها كلها ، تنص على أن الدحو : البسط ، والرمي ، والإزالة ، والتمهيد ، فالبسط والتمهيد والرمي بالحجر المستدير في الحفرة الصغيرة معان مشتركة ، وكلها تفسر " دحاها " بمعنى بسطها ومهدها . وأن الأدحية مبيض النعام لا بيضه كما يقولون ، وسمي بذلك ; لأنها تدحوه بيدها لتبيض فيه ، إذ لا عش لها .

وعليه ، فلا دليل من كتب اللغة على أن الدحو هو التكوير ، ولكن ما قول العلماء في شكل الأرض ، بصرف النظر عن كون القرآن تعرض له أو لم يتعرض ؟

إذا رجعنا إلى كلام من نظر في علم الهيئة من المسلمين ، فإنا نجدهم متفقين على أن شكل الأرض مستدير .

وقبل إيراد شيء من أقوالهم ننبه على أنه لا علاقة لهذا البحث بموضوع الحركة ، سواء للأرض أو غيرها ، فذاك بحث مستقل ، ليس هذا محله ، وإنما البحث في الشكل .

أما أقوال العلماء في شكل الأرض ، فإن أجمع ما وقفت عليه ، وأصرح ، وأبين ، هو كلام ابن تيمية في رسالة الهلال ، جاء فيها : قال في موضع منها قوله : وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من علماء الأمة ، أن الأفلاك مستديرة ، قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر [ 41 \ 37 ] ، وقال : وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون [ 21 \ 37 ] ، وقال تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] .

[ ص: 426 ] قال ابن عباس : في فلكة مثل فلكة المغزل . وهكذا هو في لسان العرب : الفلك الشيء المستدير . ومنه يقال : تفلك ثدي الجارية إذا استدار . قال تعالى : يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل [ 39 \ 5 ] ، والتكوير هو التدوير . ومنه قيل : كار العمامة وكورها ، ولهذا يقال للأفلاك : كروية الشكل ; لأن أصل الكرة كورة - تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا .

وقال : الشمس والقمر بحسبان [ 55 \ 5 ] مثل حسبان الرحى ، وقال : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما ، فإنه يتفاوت ; لأن زواياه مخالفة لقوائمه . والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ، ليس بعضه مخالفا لبعض .

وجاء فيه قوله أيضا : وقال الإمام أبو الحسين : أحمد بن جعفر بن المنادي ، من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار ، في متون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد : لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة ، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب ، كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين ، أحدهما في الشمال ، والآخر في ناحية الجنوب .

قال : ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركتها ومقادير أجزائها ، إلى أن تتوسط السماء ، ثم تنحدر على ذلك الترتيب ، فكأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا .

هذه نبذة من أقوال علماء المسلمين في شكل الأفلاك ، ثم قال : وهذا محل القصد بالذات ، وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة .

قال : ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب ، لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب .

قال : فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء ، كالنقطة في الدائرة ، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء ، على قدر واحد ، فيدل ذلك على بعد ما [ ص: 427 ] بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد ، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء . اهـ . بلفظه .

فهذا نقل لإجماع الأمة ، من إمام جليل في علمي المعقول والمنقول ، على أن الأرض على شكل الكرة ، وقد ساق الأدلة الاضطرارية من حركة الأفلاك على ذلك .

ومن جهة العقل أيضا يقال : إن أكمل الأجرام هو المستدير كما قال في قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] .

وعليه ، فلو قدر لسائر على وجه الأرض ، وافترضنا الأرض مسطحة كسطح البيت أو القرطاس مثلا ، لكان لهذا السائر من نهاية ينتهي إليها ، وهي منتهى التسطيح أو يسقط في هاوية ، وباعتبارها كرة ، فإنه يكمل دورته ، ويكررها ولو سار طيلة عمره لما كان لمسيره منتهى ، لأنه يدور على سطحها من جميع جهاتها . والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

كان من الممكن أن نقدم هذه النتيجة من أول الأمر ما دامت متفقة في النهاية مع قول علماء الهيئة ، ولا نطيل النقول من هنا وهناك ، ولكن قد سقنا ذلك كله لغرض أعم من هذا كله ، وقضية أشمل وهي من جهتين :

أولاهما : أن علماء المسلمين مدركون ما قال به علماء الهيئة ، ولكن لا من طريق النقل أو دلالة خاصة على هذه الجزئية من القرآن ، ولكن عن طريق النظر والاستدلال ; إذ علماء المسلمين لم يجهلوا هذه النظرية ، ولم تخف عليهم هذه الحقيقة .

ثانيتهما : مع علمهم بهذه الحقيقة وإدراكهم لهذه النظرية ، لم يعز واحد منهم دلالتها لنصوص الكتاب أو السنة .

وبناء عليه نقول : إذا لم تكن النصوص صريحة في نظرية من النظريات الحديثة ، لا ينبغي أن نقحمها في مباحثها نفيا أو إثباتا ، وإنما نتطلب العلم من طريقه ، فعلوم الهيئة من النظر الاستدلال ، وعلوم الطب من التجارب والاستقراء ، وهكذا يبقى القرآن مصانا عن مجال الجدل في نظرية قابلة للثبوت والنفي ، أو التغيير والتبديل ، كما لا ينبغي لمن لم يعلم حقيقة أمر في فنه أن يبادر بإنكارها ما لم تكن مصادمة لنص صريح

[ ص: 428 ] وعليه أن يتثبت أولا ، وقد نبهنا سابقا على ذلك في مثل ذلك في قصة نبي الله سليمان مع بلقيس والهدهد حينما جاءه ، فقال : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين [ 27 \ 22 ] ، وقص عليه خبرها مع قومها ، فلم يبادر - عليه السلام - بالإنكار لكون الآتي بالخبر هدهدا ، ولم يكن عنده علم به ولم يسارع أيضا بتصديقه ; لأنه ليس لديه مستند عليه ، بل أخذ في طريق التثبت بواسطة الطريق الذي جاءه الخبر به ، قال : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين [ 27 \ 27 ] ، وأرسله بالكتاب إليهم ، فإذا كان هذا من نبي الله سليمان ، ولديه وسائل وإمكانيات كما تعلم ; فغيره من باب أولى .

تنبيه آخر .

إذا كان علماء الإسلام يثبتون كروية الأرض ، فماذا يقولون في قوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت إلى قوله وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 17 - 20 ] . وجوابهم كجوابهم على قوله تعالى : حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة [ 18 \ 86 ] ، أي في نظر العين ; لأن الشمس تغرب عن أمة ، وتستمر في الأفق على أمة أخرى ، حتى تأتي مطلعها من الشرق في صبيحة اليوم الثاني ، ويكون بسط الأرض وتمهيدها ، نظرا لكل إقليم وجزء منها لسعتها وعظم جرمها .

وهذا لا يتنافى مع حقيقة شكلها ; فقد نرى الجبل الشاهق ، وإذا تسلقناه ووصلنا قمته وجدنا سطحا مستويا ، ووجدنا أمة بكامل لوازمها ، وقد لا يعلم بعض من فيه عن بقية العالم ، وهكذا . والله تعالى أعلم .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #585  
قديم 16-09-2024, 02:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (583)
سُورَةُ عَبَسَ .
صـ 429 إلى صـ 438




قوله تعالى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها العشية : ما بين الزوال إلى الغروب ، والضحى : ما بين طلوع الشمس إلى الزوال ، وهذا تحديد بنصف نهار .

وقد جاء التحديد بساعة من نهار . وجاء : يوما أو بعض يوم [ 2 \ 259 ] . وجاء : إن لبثتم إلا عشرا [ 10 \ 103 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة [ ص: 429 ] " يونس " : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار [ 10 \ 45 ] ، وأحال على دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، وسيطبع إن شاء الله مع هذه التتمة .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ عَبَسَ .

قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى

سبب نزول هذه السورة باتفاق المفسرين ، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بدعوة صناديد قريش ، فأتاه ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى ، وقال : " أقرئني يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فلم يتفق ذلك وما هو مشتغل به - صلى الله عليه وسلم - ، وما يرجوه مما هو أعظم ، فعبس وتولى عنه منصرفا ، لما هو مشتغل به .

قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب على قوله تعالى : أن جاءه الأعمى ما نصه : عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل - الذي هو عبد الله بن أم مكتوم - بلقب يكرهه الناس ، مع أنه قال : ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] .

والجواب : هو ما نبه عليه بعض العلماء : من أن السر في التعبير عنه بلفظ " الأعمى " ; للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه . اهـ منه بلفظه .

وقال الفخر الرازي : إنه وإن كان أعمى لا يرى ، فإنه يسمع وبسماعه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكبا معصية ، فكيف يعاتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

فكلامه هذا يشعر بأنه إن كان معذورا لعدم الرؤية ، فليس معذورا لإمكان سماعه ، ولكن ذكره بوصفه ليوجب العطف عليه والرفق به .

والظاهر - والله تعالى أعلم - : أن كلام الرازي ليس بعيدا عما ذكره الشيخ ; لأن معناه أنه عاتبه لعدم رفقه به . ومراعاة حالة عماه .

فعليه ، يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم ، وكأنه يقول لهم : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ ص: 431 ] [ 22 \ 46 ] ، فهذا كفيف البصر ، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن ، وجاء مع عماه يسعى طلبا للمزيد ، وأنتم تغلقت قلوبكم وعميت بصائركم فلم تدركوا الحقيقة ولم تبصروا نور الإيمان ، كما في الآية الكريمة : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور

والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

مما اتفق عليه المحدثون : جواز ذكر مثل هذه الأوصاف إذا كانت للتعريف لا للتنقيص ، فقالوا : الأعمى والأعور والأعرج . وفي الحرف قالوا : الخراز ، والخرقي ، ونحو ذلك ، وهذا ما فيه مصلحة لترجمة الرجال في السند .

ومثله ليس تنابزا بالألقاب في هذا الفن . والله تعالى أعلم .

ومثله إذا كان للتعريف في غرض سليم دون تنقص كما قدمنا .

وقوله تعالى : عبس وتولى ، فإن فيه مثل ما في قوله تعالى : أن جاءه الأعمى ; لأن العبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى في حقه - صلى الله عليه وسلم - : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] ، وقوله : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] . ولم أقف على جواب لذلك ، ولم يتعرض له الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب .

والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لا يتأتى معه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه فيزعجه ، كل ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو تقطيب الجبين ، وهذه حركة مرئية لا مسموعة .

والحال : أن هذا أعمى لا يرى تلك الحركة ، فكأنه لم يلق إساءة منه - صلى الله عليه وسلم - .

ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - مطمئن له لما هو عليه من خير في دينه . كما قال في حنين : " وأكل أقواما إلى ما في قلوبهم " ، أي : لما أعطى المؤلفة قلوبهم ، ولم يعط الأنصار ما هو معروف في القصة ، فلم يعاتبه الله على ذلك . ورضي الأنصار ، وبكوا فرحا ورضا .

ثم إن تقطيب الجبين وانبساط أسارير الوجه لحزن أو فرح ، يكاد يكون جبليا مما [ ص: 432 ] كان منه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو من باب الجبلية تقريبا ، كأن المثير له غرض عام من خصوص الرسالة ومهمتها .

ومع ذلك فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان بعد نزولها يقول له : " مرحبا فيمن عاتبني فيه ربي " ، ويكرمه ، وقد استخلفه على المدينة مرتين .

وعلى هذا يكون المراد بهذا أمران :

الأول : التسامي بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما لا نهاية له ، إلى حد اللحظ بالعين ، والتقطيب بالجبين ، ولو لمن لا يراه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين " وذلك في صلح الحديبية .

والثاني : تأديب للأمة وللدعاة خاصة ، في شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما علمهم في شخصيته في بر الوالدين ، في قوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ 17 \ 23 ] .

وهذا السياق بكامله من أول السورة إلى قوله تعالى : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره [ 80 \ 11 - 12 ] ، بيان ; لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يراعي في الدعوة إلى الله غنيا ولا فقيرا ، وأن يصبر على ضعفة المؤمنين ; لأن الرسالة تبليغ وليس عليه ما وراء ذلك في مسئولية ، فلا يتكلف لهم .

وقد حثه الله تعالى على الصبر مع المؤمنين ، لإيمانهم في قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ 18 \ 28 - 29 ] .

ومثله قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [ 6 \ 52 ] .

وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - شيء من هذا البيان عند هذه الآية ، وبين أن هذا التنبيه قد وقع من نبي الله نوح إلى قومه ، حينما ازدروا ضعفة المؤمنين في [ ص: 433 ] قوله تعالى : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي إلى قوله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون [ 11 \ 27 - 29 ] .

وقد دلت هذه الآية وأمثالها على صدق مقالة هرقل ، حينما سأل أبا سفيان عن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - : أهم سادة القوم أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم . فقال : هكذا هم أتباع الرسل .

وقال العلماء في ذلك : لأنهم أقرب إلى الفطرة ، وأبعد عن السلطان والجاه ، فليس لديهم حرص على منصب يضيع ، ولا جاه يهدر ، ويجدون في الدين عزا ورفعة ، وهكذا كان بلال وصهيب وعمار ، وهكذا هو ابن أم مكتوم - رضي الله عنهم - .
قوله تعالى : أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى

بيان لموقفه - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأمة ، وحرصه على إسلام الجميع حتى من أعرض واستغنى ، شفقة بهم ورحمة ، كما بين تعالى حاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم [ 9 \ 128 ] وكقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] .

وقوله : وما عليك ألا يزكى ، بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس عليه ممن لا يتزكى ، وقد صرح تعالى بذلك في قوله : إنما أنت منذر [ 13 \ 7 ] ، وقوله : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، وقوله : ليس عليك هداهم [ 2 \ 172 ] ، ومثل ذلك .

وقد جمع الأمرين من الجانبين في قوله تعالى عن نوح - عليه السلام - : وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 114 - 115 ] .
قوله تعالى : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة

معلوم أن كلمة " كلا " : ردع عما سبق ، وهو في جملته منصب على التصدي لمن استغنى . والإلحاح عليهم والحرص على سماعهم منه ، ولكن الله تعالى يقول : إن منزلة القرآن والوحي والدين أعلى منزلة من أن تبذل لقوم هذه حالتهم ، فهي على ما هي عليه من [ ص: 434 ] تكريم ورفعة وطهرة وصيانة ، وما عليها من حفظة سفرة كرام بررة ، أحرى بأن يسعى إليها ، والخير لمن أتاها يطلبها .

فمن شاء ذكره ، وهذا للتهديد لا للتخيير بدليل ما بعده : قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ، " قتل الإنسان " : دعاء عليه ، والإنسان : للجنس الكافر ، و " ما أكفره " : أي ما أشد كفره بها ، بعد هذا كله من علو منزلتها .
وقوله تعالى : قتل الإنسان ما أكفره قيل : " ما أكفره " هنا ، ما أفعله ، أي : ما أشد كفره .

وقال الزمخشري : هي تعجب من إفراطه في كفران نعم الله .

وقيل : أي شيء حمله على التكذيب والكفر ؟ وكلها محتملة .

ولعل المعنى الأول أظهر ; لقوله قبله : " قتل الإنسان " ، ولمجيء هذا المعنى في مواضع أخر : " إن الإنسان لظلوم كفار " [ 14 \ 34 ] ، وكذلك فعول في قوله : وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور [ 22 \ 66 ] ، وهكذا صفة الجاحدين لآيات الله ، كما في قوله : وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ 31 \ 32 ] .
ثم رد تعالى عليه ذلك برده إياه إلى أصل خلقته ، ليتعظ من نفسه في قوله تعالى : من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره [ 80 \ 18 - 21 ] ; لأن هذه الثلاثة مسلم بها ، ورتب عليها الرابعة : ثم إذا شاء أنشره [ 70 \ 22 ] .

وقوله : من نطفة خلقه فقدره تقدم مرارا بيان أصل خلق الإنسان وأطواره .

وقوله : ثم السبيل يسره قيل : " السبيل " إلى خروجه من بطن أمه ، حيث أدار رأسه إلى جهة الخروج ، بدلا مما كان عليه إلى أعلى ، وهذا من التيسير في سبيل خروجه ، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره ، وهو اختيار ابن جرير .

وقيل : " السبيل " : أي الدين في وضوحه ، ويسر العمل به ، كقوله تعالى : [ ص: 435 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] ، وهو مروي عن الحسن وابن زيد ، ورجحه ابن كثير .

ولعل ما رجحه ابن كثير هو الأرجح ; لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان ، وهو مشاهد ملموس ، فلا مزية للإنسان فيه على غيره ، كما أن ما قبله دال عليه أو على مدلوله وهو القدرة في قوله تعالى : من نطفة خلقه فقدره .

وقد يكون تيسير الولادة داخلا تحت قوله : " فقدره " . أي : قدر تخلقه وزمن وجوده وزمن خروجه ، وتقديرات جسمه وقدر حياته ، وقدر مماته ، كما هو معلوم .

أما تيسير سبيل الدين ، فهو الخاص بالإنسان . وهو المطلوب التوجه إليه . وهو الذي يتعلق بغيره ما بين تخلقه من نطفة وتقديره . وبين إماتته وإقباره . أي : فترة حياته في الدنيا ، أي : خلقه من نطفة وقدر مجيئه إلى الدنيا . ويسر له الدين في التكاليف . ثم أماته ليرى ماذا عمل : ثم إذا شاء أنشره .

ولذا جاء في النهاية بقوله : " كلا لما يقض ما أمره " [ 80 \ 23 ] . وليس هنا ما يدل على الأمر إلا السبيل يسره . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا

بعد ما بين له مم خلق ، ، بين له هنا كيف يطعمه ، وفي كليهما آية على القدرة .

وقد اتفقت الآيتان على خطوات ثلاث متطابقة فيهما . فصب الماء من السماء إلى الأرض ، يقابل دفق الماء في الرحم . وشق الأرض للنبات يقابل خروجه إلى الدنيا . وإنبات أنواع النباتات ، يقابل تقادير الخلق المختلفة .

وفي التنصيص على أنواع النبات من : حب ، وقضب ، وعنب ، ورمان ، وزيتون ، ونخيل ، وفواكه متعددة ، وحدائق ملتفة ، لظهور معنى المغايرة فيها ، مع أنها من أصلين مشتركين : الماء من السماء . والتربة في الأرض ، يسقى بماء واحد .

ومرة أخرى ، يقال للشيوعيين والدهريين : قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه [ 80 \ 17 - 18 ] : [ ص: 436 ] أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 58 - 65 ] .

إنهم بلا شك لا يدعون لأنفسهم فعل شيء من ذلك . وإنهم ليعلمون أن لها خالقا مدبرا . ولكنهم يكابرون . وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ 27 \ 14 ] ، صدق الله العظيم ، وكذب كل كفار أثيم .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان خلق الإنسان في مواطن متعددة سابقة ، آخرها في سورة " الرحمن " : خلق الإنسان من صلصال كالفخار [ 55 \ 14 ] ، وبيان طعامه في كل من سورتي " الواقعة " و " الجاثية " .
قوله تعالى : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة

الإسفار : الإضاءة ، وهو تهلل الوجه بالسرور ، كما قال تعالى : ولقاهم نضرة وسرورا [ 76 \ 11 ] ، والاستبشار من تقدم البشرى في قوله تعالى : تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 \ 30 ] .

وقوله تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 57 \ 12 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الحديد " .
قوله تعالى : ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ، بينهم تعالى بأنهم هم الكفرة الفجرة .

وتقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الرحمن " على الكلام على قوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم [ 55 \ 41 ] .

وقد جمع لهم هنا بين الكفر والفجور ، وهما الكفر في الاعتقاد والفجور في الأعمال ، كما في قوله تعالى : ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 27 ] ، والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ التَّكْوِيرِ .

قوله تعالى : إذا الشمس كورت

اختلف في معنى " كورت " هنا أكثر من عشرة أقوال ، وكلها تدور على نهاية أمرها .

فقيل : " كورت " : لف بعضها على بعض ، فانطمس نورها .

وقيل : حجبت بكارة ، أي : لفت بها . وقيل : ألقيت في البحر . وقيل : دخلت في العرش . وقيل : اضمحلت . وقيل : نكست . وقال ابن جرير : نقول كما قال الله تعالى : كورت .

والذي يشهد له القرآن ، أن هذا كله راجع إلى تغير حالها في آخر أمرها ; لأن الله تعالى جعل لها أجلا مسمى ، ومعنى ذلك أنها تنتهي إليه على الوجه الذي يعلمه - سبحانه وتعالى - كما في قوله تعالى : وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى [ 31 \ 29 ] .

فمفهومه : أنه إذا جاء هذا الأجل توقفت عن جريانها .

وهو ما يشير إليها قوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 7 - 9 ] ، أي : بعد أن لم يجتمعا قط ، وما كان لهما أن يجتمعا قبل ذلك الوقت ، كما في قوله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] [ ص: 438 ]

ولعل أقرب الأقوال المنقولة في ذلك هو القول بأنه بمعنى : نكست . أي : ردت إلى حيث أتت ، كما في الحديث ، فتطلع من مغربها ، وعليه فتجتمع مع القمر .
قوله تعالى : وإذا النجوم انكدرت

قيل : " انكدرت " انصبت ، وقيل : تغيرت من الكدرة ، وكلها متلازمة ولا تعارض .

ويشهد للأول قوله تعالى : وإذا الكواكب انتثرت [ 82 \ 2 ] .

ويشهد للثاني : فإذا النجوم طمست [ 77 \ 8 ] ; لأنها إذا تناثرت وذهبت من أماكنها وتغير نظامها ، فقد ذهب نورها وطمست .
قوله تعالى : وإذا الجبال سيرت

أي : ذهب بها من مكانها .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان حالة الجبال في نهاية الدنيا في عدة مواطن . من أهمها عند قوله تعالى في سورة " طه " : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، وعند قوله تعالى من سورة " الكهف " : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #586  
قديم 16-09-2024, 02:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (584)
سُورَةُ التَّكْوِيرِ .
صـ 439 إلى صـ 448




قوله تعالى : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت الوأد : الثقل ، كما في قوله تعالى : ولا يئوده حفظهما [ 2 \ 255 ] .

والموءودة : المثقلة بالتراب حتى الموت ، وهي الجارية كانت تدفن حية ، فكانوا يحفرون لها الحفرة ويلقونها فيها ، ثم يهيلون عليها التراب .

وقوله تعالى : بأي ذنب قتلت إشعار بأنه لا ذنب لها فتقتل بسببه ، بل الجرم على قاتلها .

ولكن لعظم الجرم يتوجه السؤال إليها تبكيتا لوائدها .

[ ص: 439 ] وقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - قوله : أمران في الجاهلية . أحدهما يبكيني والآخر يضحكني .

أما الذي يبكيني : فقد ذهبت بابنة لي لوأدها ، فكنت أحفر لها الحفرة وتنفض التراب عن لحيتي ، وهي لا تدري ماذا أريد لها ، فإذا تذكرت ذلك بكيت .

والأخرى : كنت أصنع إلها من التمر أضعه عند رأسي يحرسني ليلا ، فإذا أصبحت معافى أكلته ، فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي .

أما سبب إقدامهم على هذه الجريمة الشنيعة وما دفعهم على ارتكابها ، فقد ناقشه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بتوسع عند قوله تعالى من سورة " النحل " : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون الآية [ 57 \ 59 ] .
وبهذه المناسبة ، فإن هنا تنبيهين لا بد من إيرادهما .

التنبيه الأول : ما يشبه الوأد في هذه الآونة الحديثة ، وهو التعرض لمنع الحمل بأي وسيلة كانت .

وقد بحثت هذه المسألة قديما وحديثا . أما قديما ففي عملية العزل ، وجاء فيه حديث جابر : " كنا نعزل والقرآن ينزل " رواه مسلم .

زاد إسحاق قال سفيان : لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن . وجاء فيه : فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا .

كما جاء التحذير الشديد في حديث جدامة بنت وهب أخت عكاشة ، قالت : حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس ، قال : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا " فسألوه عن العزل ، فقال : " ذلك الوأد الخفي " .

زاد عبد الله في حديثه عن المقرئ زيادة وهي : " وإذا الموءودة سئلت " .

[ ص: 440 ] ففي الحديث الأول : ما يفيد التقرير . وفي الثاني : ما يفيد شدة النكير .

وجاء في صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد : " غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بني المصطلق ، فسبينا كرائم العرب ، فطالت علينا الغربة ، ورغبنا في الفداء ، فأردنا أن نستمتع ونعزل ، فقلنا : نفعل ذلك ؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا لا نسأله ، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا عليكم ألا تفعلوا ، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون " .

وفي رواية : " إن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة " .

وفي رواية : " فقال لنا : وإنكم لتفعلون ، وإنكم لتفعلون ، وإنكم لتفعلون . ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة " .

وفي رواية : " لا عليكم ألا تفعلوا ; فإنما هو القدر " .

قال أبو محمد : وقوله : " لا عليكم " أقرب إلى النهي .

وقال الحسن : والله لكأن هذا زجر . فأنت ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإنكم لتفعلون " مشعر بعدم علمه سابقا ، مما يتعارض مع الزيادة في حديث جابر ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا ، نبقي قول جابر ، مما يستدل به المجوزون ، ويعارضه : وهي الموءودة ، أو الوأد الخفي .

وكان للوأد عند العرب في الجاهلية سببان :

الأول : اقتصادي ، خشية إملاق ، ومن إملاق حاضر .

والثاني : حمية وغيرة .

وقد رد القرآن عليهم في السبب الأول ، في قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا [ 17 \ 31 ] .

وقوله : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم [ 6 \ 151 ] .

وأخيرا كان هذا التساؤل شديد التوبيخ لهم : وإذا الموءودة سئلت [ ص: 441 ]

وفي هذه الآية أثيرت مرة أخرى ، وبشكل آخر أثارها أعداء المسلمين مكيدة للسذج ، فأثيرت من الناحية الاقتصادية .

وكان مبدؤها المعروف عند كتاب هذا العصر بنظرية : " مالتس " والآن لغرض عسكري لتقليل عدد جنود المسلمين ، حينما علم العدو أن الإسلام يبيح تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع ، فأرادوا أن يوقفوا هذا النمو .

ويكفي أن نورد هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تناكحوا تناسلوا ; فإني مباه بكم الأمم " .

وفي رواية : " مكاثر بكم الأمم " .

وفيه : " تزوجوا الولود الودود " ونحو ذلك .

وقد كنت جمعت في ذلك بحثا في محاضرة وافية في هذا الغرض ، من حيث السياسة والاقتصاد ، والدفاع مع عمل إحصائيات للدول التي تطالب بهذا العمل ، مما يدفع رأي كل قائل به .

والذي يهمنا في هذا المقام تنبيه المسلمين ، إلى أن هذه الدعوة إلى تحديد أو تنظيم النسل منشؤها من اليهود ، وتشجيعها في الشرق من دول الغرب ، وكثير من الدول الغربية تبذل المال الطائل لتفشي هذا الأمر في دول الشرق الأوسط ، وخاصة الإسلامية والعربية .
التنبيه الثاني : وهو حول ما يصرح به دعاة تحرير المرأة في صورة مناصرة لها ، والواقع أنهم دعاة شقائها ومعاداة لها ، وهدم لما مكنها الله منه في ظل الإسلام .

وذلك أن المرأة في الجاهلية كانت هذه حالة من حالاتها توءد حية ، وتورث كالمتاع ، ومهملة الشخصية إلى غير ذلك . فحباها الإسلام ما يثبت شخصيتها ابتداء من إيفائها حقها في الحياة كالرجل ، ثم اختيارها في الزواج ، وحقها في الميراث إلى غير ذلك .

وقد تقدم الحديث عن ذلك في عدة محلات ، منها للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء [ 4 \ 34 ] .
[ ص: 442 ] قوله تعالى : وإذا الجحيم سعرت

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى من سورة " الحج " : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 3 ] .
قوله تعالى : وإذا الجنة أزلفت

الزلفى : القربى ، " وأزلفت " : قربت ، وتقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ق " عند قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد [ 50 \ 31 ] .
قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت

المراد بالنفس هنا : العموم ، أي كل نفس ، كما في قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا [ 3 \ 30 ] .
قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم

ظاهر قوله تعالى : فلا أقسم نفي القسم ، ولكنه قسم قطعا ، بدليل التصريح بجواب القسم في قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم [ 81 \ 19 ] .

وبهذا يترجح ما تقدم في أول سورة " القيامة " : لا أقسم بيوم القيامة [ 75 \ 1 ] .

ومثل الآتي لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] .

تنبيه .

يجمع المفسرون أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ; لأنها دالة على قدرته ، وليس للمخلوق أن يحلف إلا بالله تعالى .

ولكن ; هل في المغايرة بما يقسم الله تعالى به معنى مقصود ، أم لمجرد الذكر ، وتعدد المقسم به ؟

[ ص: 443 ] وبعد التأمل ، ظهر - والله تعالى أعلم - أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره ، إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع ، يكون بين المقسم به والمقسم عليه مناسبة وارتباط ، وقد يظهر ذلك جليا ، وقد يكون خفيا .

وهذا فعلا ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن ، وإن كنت لم أقف على بحث فيه .

ولكن مما يشير إلى هذا الموضوع ، ما جاء بالإقسام بمكة مرتين ، وفي حالتين متغايرتين .

الأولى : قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد [ 90 \ 1 - 4 ] .

والموضع الثاني : قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 1 - 4 ] .

فالمقسم به في الموضعين : مكة المكرمة ، والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان ، ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته ، إلى كده في حياته ، إلى نهايته ومماته .

من ذلك مكابدته - صلى الله عليه وسلم - منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله ، ولحقت به أمه ، وهو في طفولته ، وبعد الوحي كابد مع قومه ولقي منهم عنتا شديدا ، حتى تآمروا على قتله ، فلكأنه يقول له : اصبر على ذلك ، فإن المكابدة لا بد منها ، وهي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك .

وفي ذكر ووالد وما ولد إشعار ببدء المكابدة ، وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة ، ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف .

أما في الموضع الثاني : فالمقسم عليه ، وإن كان هو خلق الإنسان ، إلا أنه في أحسن تقويم ، وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضا للنعم ، وتعددها من التين والزيتون ، سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها ، وهو بيت المقدس مع طور سينين .

[ ص: 444 ] فجاء بمكة أيضا ولكن بوصف مناسب ، فقال : وهذا البلد الأمين ، فكأنه يقول : إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة ، أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته . والله تعالى أعلم .

وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال ، في ظهورها واختفائها وجريانها ، وبـ " والليل إذا عسعس " : أقبل وأدبر ، أو أضاء وأظلم ، " والصبح إذا تنفس " : أي أظهر وأشرق ، وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها .

والمقسم عليه : هو أن القرآن قول رسول كريم ، كأنه يقول : إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور ، وحال الناس معه كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة ، واختفائها أخرى .

وكحال الليل والصبح ، فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره ، قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به ، فهو لهم روح ونور ، وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم ، عمى عنه بصائرهم ، وفي آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ، وأناس تارة وتارة كالنجوم أحيانا ، وأحيانا ، تارة ينقدح نوره في قلوبهم ، فتظهر معالمه فيسيرون معه ، وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم ، كما قال تعالى عنهم : كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا [ 2 \ 20 ] .

وليس بعيدا أن يقال : إنه من وجه آخر ، تعتبر النجوم كالكتب السابقة ، مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها .

" والليل إذا عسعس " : هو ظلام الجاهلية .

" والصبح إذا تنفس " : يقابله ظهور الإسلام ، وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار ، ولا تقوى قوة قط على حجبه ، وسيعم الآفاق كلها ، مهما وقفوا دونه : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 61 \ 8 ] .

وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس ، ولا سيما وأني لم أقف على بحث مستقل فيه ، ولا توجيه يشير إليه ، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة ، وجدير بأن يفرد برسالة .

[ ص: 445 ] ومما اطرد فيه هذا التوجيه سورة " الضحى " ، يقول الله تعالى : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى [ 93 \ 1 - 3 ] ، فإن المقسم عليه عدم تركه - صلى الله عليه وسلم - ولا التخلي عنه ، فجاء بالمقسم به قسمي الزمن ليلا ونهارا ، كأنه يقول له : ما قلاك ربك ولا تخلى عنك ، لا في ضحى النهار حيث تنطلق لسعيك ، ولا في ظلمة الليل حين تأوي إلى بيتك .

ومعلوم ما كان من عمه أبي طالب حينما كان يجعله ينام مع أولاده ليلا ، حتى إذا أخذ الجميع مضاجعهم يأتي خفية فيقيمه من مكانه . ويضع أحد أولاده محله ، حتى لو كان أحد نواه بسوء ، وقد رآه في مكانه الأول يصادف ولده ، ويسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وقوله : وللآخرة خير لك من الأولى [ 93 \ 4 ] ، أي : من كل ما طلعت عليه الشمس وسجاه الليل .

ومنه أيضا : وهو أشد ظهورا في سورة " العصر " قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا [ 103 \ 1 - 3 ] ، إلى آخر السورة . فإن المقسم عليه هو حالة الإنسان ، الغالية عليه من خسر ، إلا من استثنى الله تعالى ، فكان المقسم به ، والعصر المعاصر للإنسان طيلة حياته وهو محل عمله ، الذي به يخسر ويربح . وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه .

وكنت قد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - يقول : إن العمر وزمن الحياة حجة على الإنسان كالرسالة والنذارة سواء ، وذكر قوله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، فجعل في الآية التعمير ، وهو إشغال العمر موجبا للتذكر والتأمل ، ومهلة للعمل ، كما تخبر إنسانا بأمر ثم تمهله إلى أن يفعل ما مر به ، فهو أمكن في الحجة عليه .

فكان القسم في العصر على الربح والخسران ، أنسب ما يكون بينهما ، إذ جعلت حياة الإنسان كسوق قائمة والسلعة فيه العمل والعامل هو الإنسان ، كما قال تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله [ 61 \ 10 - 11 ] .

وفي الحديث الصحيح عند مسلم : " سبحان الله تملأ الميزان " ، وفيه " كل الناس [ ص: 446 ] يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " ، فإن كان يشغل عمره في الخير فقد ربح ، وأعتق نفسه وإلا فقد خسر وأهلكها " .

ويشير لذلك أيضا قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ 9 \ 111 ] .

فصح أن الدنيا سوق ، والسلعة فيها عمل الإنسان ، والمعاملة فيه مع الله تعالى ، فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به ، والمقسم عليه .
قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم

أجمعوا على أن المراد بالقول هو القرآن ، وأما المراد بالرسول الكريم جبريل - عليه السلام - بدليل قوله تعالى : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] .

فصاحبكم هنا : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي صحبهم منذ ولادته وذو القوة عند ذي العرش : هو جبريل - عليه السلام - وفي إسناد القول إليه ما قد يثير شبهة أن القول منه ، مع أنه كلام الله تعالى .

وقد أجاب الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب ، بإيراد النصوص الصريحة في أن القرآن كلام الله تعالى ، وقال : وإن في نفس هذه الآية ما يرد هذه الشبهة ، ويثبت تلك الحقيقة ، وهي قوله تعالى : لقول رسول ; لأن الرسول لا يأتي بقول من عنده ، وإنما القول الذي جاء به هو ما أرسل به من غيره ، إلى ما أرسل إليه به .

تنبيه في وصف جبريل - عليه السلام - بتلك الأوصاف .

نص في تمكينه من حفظ ما أرسل به ، وصيانته عن التغيير والتبديل ، لأنه " مكين " ، فلا يصل إليه ما يخل برسالته ، ولأنه " مطاع ثم " . والمطاع لا يؤثر عليه غيره ، والأمين لا يخون ولا يبدل ، فكان القرآن الذي جاء به مصونا من أن يتسلط أحد [ ص: 447 ] عليه فيغيره ، ومن أن يغيره الذي جاء به ، وهذا كله بمثابة الترجمة لسند تلقي القرآن الكريم .

وقوله : وما صاحبكم بمجنون بيان لتتمة السند ، حيث قال : ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين [ 81 \ 23 - 24 ] ، فنفى عنه - صلى الله عليه وسلم - نقص التلقي بنفي آفة الجنون ، فهو في كمال العقل وقوة الإدراك ، ومن قبل أثبت له كمال الخلق : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] .

وأثبت له اللقيا ، فلم يلتبس عليه جبريل بغيره ، وهي أعلى درجات السند ، فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - الكمال الخلقي والكمال الخلقي - بضم الخاء وكسرها - أي : الكمال حسا ومعنى ، ثم نفى عنه التهمة بأن يضن بشيء مما أرسل به مع نفاسته وعلو منزلته وجليل علومه ، وأنه كلام رب العالمين .

وفي الختام إفهامهم بأنه ليس : " بقول شيطان رجيم " [ 81 \ 25 ] ، حيث تقدم إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] .

وأن : " فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " [ 72 \ 9 ] ، فلم يبق لهم موجب للانصراف عنه ، وألزموا بالأخذ به حيث أصبح من الثابت أنه كلام الله ، جاء به رسول كريم ، وبلغه لصاحبكم صاحب الخلق العظيم ، وليس بقول شيطان رجيم .

فلزمهم الأخذ به ، وإلا فأين تذهبون . أين تسيرون عنه ، بعد أن ثبت لكم سنده ومصدره ؟

ونظير هذا السند في تمجيد القرآن وإثبات إتيانه من الله ، قوله تعالى في أول سورة " النجم " : ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى [ 53 \ 2 ، 3 - 7 ] .
قوله تعالى : فأين تذهبون ، بمثابة من يسد عليهم الطريق إلا له ; لأنه - أي القرآن - ليس في نزوله من الله [ ص: 448 ] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي شبهة ولا تهمة ، فليس للعاقل أن يحيد عنه ، وكل ذهاب إلى غيره فطريق مسدود ، وضلال وهلاك .
قوله تعالى : لمن شاء منكم أن يستقيم أي : بعد هذا البيان وقوة هذا السند ، وإظهار ثبوت الرسالة ، فقد أعذر من أنذر : " لمن شاء منكم أن يستقيم " .
قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين

فيه قضية القدر والإرادة الكونية والقدرية . وقد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في عدة مواطن . منها في سورة " الزخرف " عند قوله تعالى : لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] ، وفيها مناظرة المعتزلي مع السني .

ومنها في سورة " الذاريات " : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق [ 51 \ 56 - 57 ] ، والفرق بين الإرادة الكونية والقدرية .

تنبيه .

إذا كان الكثيرون يستدلون في قضية القضاء والقدر بهذه الآية ، فإنه ينبغي ألا تغفل أهميتها في جانب الضراعة إلى الله دائما ، بطلب التفضل من الله تعالى علينا بالمشيئة بالاستقامة فضلا من عنده ، كما أمرنا في الصلاة في كل ركعة منها أن نطلبه هذا الطلب : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] .

تنبيه آخر .

لقد أجملت الاستقامة هنا ، وهي منبه عليها في سورة " الفاتحة " : إلى صراط الذين أنعم الله عليهم ، كما هو معلوم . والعلم عند الله تعالى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #587  
قديم 16-09-2024, 02:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (585)
سُورَةُ الِانْفِطَارِ .
صـ 449 إلى صـ 458




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الِانْفِطَارِ .

قوله تعالى : إذا السماء انفطرت

أي : انشقت ، كما في سورة " الانشقاق " : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] ، قيل : هيبة لله .

وقيل : لنزول الملائكة ، كقوله تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا [ 25 \ 25 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الشورى " عند الكلام على قوله تعالى في وصف أهوال القيامة : يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] .

ومثل الانفطار والتشقق : الانفراج ، كقوله : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت [ 77 \ 8 - 9 ] .
قوله تعالى : وإذا القبور بعثرت

أي : بعثر من فيها . كما في قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 - 10 ] .

وقد دل هذا اللفظ على سرعة الانتشار ، كبعثرة الحب من الكف كما في قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ق " عند قوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا [ 50 \ 44 ] .
قوله تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت

[ ص: 450 ] أي كل نفس ، كما تقدم في سورة " التكوير " .

وقد تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على ذلك في دفع إيهام الاضطراب في سورة " الانفطار " هذه ، عند نفس الآية .
قوله تعالى : الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الكهف " عند قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا [ 18 \ 37 ] ، أي : هذه أطوار الإنسان في خلقته .

ومما يشهد لحسن الخلقة وكمال الصورة قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] .

واختلاف الصور إنما هو من آيات الله وابتداء من الرحم ، كما قال : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء [ 3 \ 6 ] .

وتقدم في صورة " الحشر " : هو الله الخالق البارئ المصور [ 59 \ 24 ] .

وفي اختلاف الصور على تشابهها من أعظم آيات الله تعالى .
قوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون

تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " ق " عند الكلام على قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 17 - 18 ] .

وأحال عندها على بعض ما جاء في سورة " مريم " عند قوله تعالى : كلا سنكتب ما يقول [ 19 \ 79 ] .

وبين - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أن هذه الكتابة لإقامة الحجة على الإنسان ، كما في قوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] .

وقيل في " حافظين " : يحفظون بدن الإنسان .

[ ص: 451 ] وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأنعام " عند الكلام على قوله تعالى : ويرسل عليكم حفظة [ 6 \ 61 ] مستدلا بقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] .

ومما تجدر الإشارة إليه ، أن في وصف الحفظة هنا بهذه الصفات ، من كونهم حافظين كراما يعلمون ، فاجتمعت لهم كل صفات التأهيل ، لا على درجات الكناية من حفظ وعلو منزلة ، وعلم بما يكتبون .

وكأنه توجيه لما ينبغي لولاة الأمور مراعاته في استكتاب الكتاب والأمناء .

ولذا قالوا : على القاضي أن يتخير كاتبا أمينا حسن الخط فاهما .

ومن هذا الوصف يعلم أنه لا يختلط عليهم عمل يعمل ، وكونهم حفظة لا يضيعون شيئا ، ولو كان مثقال الذرة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية [ 99 \ 7 ] .
قوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم

أي : دائم ، كما في قوله تعالى : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا [ 9 \ 21 - 22 ] .
قوله تعالى : وما هم عنها بغائبين

دليل من أدلة خلود الكفار في النار ; لقوله : وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين [ 82 \ 14 - 16 ] .

كقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] .

وهكذا غالبا أسلوب المقابلة بين الفريقين ومهلهما .

ثم بين أن ذلك يوم الدين وهو يوم الجزاء ، كما تقدم في سورة " الفاتحة " : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .

ثم بين تعالى شدة الهول في ذلك اليوم : وما أدراك ما يوم الدين [ 82 \ 17 ] .

[ ص: 452 ] وتقدم في : الحاقة ما الحاقة [ 101 \ 1 - 2 ] .

ومثله قوله تعالى : القارعة ما القارعة [ 101 \ 1 - 2 ] .
قوله تعالى : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله

أي : لشدة هوله وضعف الخلائق ، كما تقدم في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] ، وقوله : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 37 ] .

ولحديث الشفاعة : " كل نبي يقول : نفسي نفسي ، إلى أن تنتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : " أنا لها " .

وحديث فاطمة : " اعملي . . . . " .

وقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، ونحو ذلك .

وقوله : والأمر يومئذ لله ، ظاهر هذه الآية تقييد الأمر بالظرف المذكور ، ولكن الأمر لله في ذلك اليوم ، وقيل ذلك اليوم ، كما في قوله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد [ 30 \ 4 ] .

وقوله : ألا له الخلق والأمر [ 7 \ 54 ] ، أي : يتصرف في خلقه بما يشاء من أمره لا يشركه أحد ، كما لا يشركه أحد في خلقه .

ولذا قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : قل إن الأمر كله لله [ 3 \ 154 ] .

وقال : ليس لك من الأمر شيء [ 3 \ 128 ] ونحو ذلك .

ولكن جاء الظرف هنا لزيادة تأكيد ، لأنه قد يكون في الدنيا لبعض الناس بعض الأوامر ، كما في مثل قوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة [ 20 \ 132 ] .

وقوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] .

وقوله : فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد [ 11 \ 97 ] ، وهي كلها في الواقع أوامر نسبية : " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " [ 76 \ 30 ] .

[ ص: 453 ] ولكن يوم القيامة حقيقة الأمر كله ، والملك كله لله تعالى وحده ; لقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .

فلا أمر مع أمره ، ولا متقدم عليه حتى ولا بكلمة ، إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، وهو كقوله : الملك يومئذ الحق للرحمن [ 25 \ 26 ] ، مع أن هنا في الدنيا ملوكا ، كما في قصة يوسف : وقال الملك ائتوني به [ 12 \ 50 ] .

وفي قصة الخضر وموسى : وكان وراءهم ملك [ 18 \ 79 ] .

أما يوم القيامة فيكونون كما قال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] .

وكقوله : هلك عني سلطانيه [ 69 \ 29 ] ، فقد ذهب كل سلطان وكل ملك ، والملك يومئذ لله الواحد القهار .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ .

قوله تعالى : ويل للمطففين .

التطفيف : التنقيص من الطفيف ، وهو الشيء القليل .

وقد فسره ما بعده في قوله تعالى : الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 2 - 3 ] .

قالوا : نزلت في رجل كان له مكيالان : كبير وصغير ، إذا اكتال لنفسه على غيره ، اكتال بالمكيل الكبير ، وإذا كال من عنده لغيره ، اكتال بالمكيل الصغير ، ففي كلتا الحالتين تطفيف ، أي : تنقيص على الناس من حقوقهم .

والتقديم في افتتاحية هذه السورة بالويل للمطففين ، يشعر بشدة خطر هذا العمل ، وهو فعلا خطير ; لأنه مقياس اقتصاد العالم وميزان التعامل ، فإذا اختل أحدث خللا في اقتصاده ، وبالتالي اختلال في التعامل ، وهو فساد كبير .

وأكبر من هذا كله ، وجود الربا إذا بيع جنس بجنسه ، وحصل تفاوت في الكيل أو الوزن .

وفيه كما قال تعالى : فأذنوا بحرب من الله ورسوله [ 2 \ 279 ] .

ولذا فقد ورد ذكر الكيل والوزن ، والحث على العناية بهما في عدة مواطن ، بعدة أساليب منها الخاص ومنها العام .

فقد ورد في " الأنعام " و " الأعراف " و " هود " و " بني إسرائيل " و " الرحمن " و " الحديد " ، أي : في ست سور من القرآن الكريم .

أولا في سورة " الأنعام " في سياق ما يعرف بالوصايا العشر : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [ ص: 455 ] [ 6 \ 151 ] .

وذكر بر الوالدين والنهي عن قتل الأولاد والقرب من الفواحش ، وقتل النفس التي حرم الله ، والنهي عن مال اليتيم .

ثم قال : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا [ 6 \ 152 ] .

وتكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عندها كلاما موجزا مفيدا ، بأن الأمر هنا بقدر الوسع ، ومن أخل من غير قصد التعدي لا حرج عليه .

وقال : ولم يذكر هنا عقوبة لمن تعمد ذلك ، ولكنه توعده بالويل في موضع آخر ، وساق أول هذه السورة : ويل للمطففين .

كما بين عاقبة الوفاء بالكيل بقوله : ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، أي : مآلا .

وهنا يلفت كلامه - رحمه الله - النظر إلى نقطة هامة ، وهي في قوله تعالى : لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] ، حيث إن التطفيف : الزيادة الطفيفة ، والشيء الطفيف : القليل .

فكأن الآية هنا تقول : تحروا بقدر المستطاع من التطفيف ولو يسيرا .

وبعد بذل الجهد " لا نكلف نفسا إلا وسعها " ، وهذا غاية في التحري مع شدة التحذير والتوعد بالويل ، وإذا كان الوعيد بالويل على الشيء الطفيف ، فما فوقه من باب أولى .

الموضع الثاني في سورة " الأعراف " من قوله تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين [ 7 \ 85 ] .

فاقترن الأمر بالوفاء بالكيل بالأمر بعبادة الله وحده ; لأن في الأمرين إعطاء كل ذي حق حقه من غير ما نقص .

[ ص: 456 ] وبين أن في عدم الإيفاء المطلوب بخس الناس أشياءهم ، وفسادا في الأرض بعد إصلاحها .

الموضع الثالث في سورة " هود " ، ومع شعيب أيضا : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ [ الآية \ 84 - 86 ] .

وبنفس الأسلوب أيضا كما تقدم ، ربطه بعبادة الله تعالى وحده ، وتكرار الأمر بعد النهي : " ولا تنقصوا المكيال والميزان " ، ثم : " أوفوا المكيال والميزان بالقسط " نهي عن نقصه ، وأمر بإيفائه ، نص على المفهوم بالتأكيد : " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " مع التوجيه بأن ما عند الله خير لهم .

الموضع الرابع في سورة " بني إسرائيل " : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، أي : اعتدال في الإنفاق مع نفسه ، فضلا عن غيره ، ثم إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، ثم : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ 17 \ 32 ] ، وكلها في مجال الاقتصاد وبعدها : ولا تقربوا الزنا [ 17 \ 32 ] ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ 17 \ 33 ] .

وقد يكون الباعث عليهما أيضا غرض مالي : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ 17 \ 34 ] ، وهو من أخص أبواب المال .

ثم الوفاء بالعهد ، ثم : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [ 17 \ 35 ] ، فمع ضروريات الحياة حفظ النفس والعرض والمال يأتي الحفاظ على الكيل والوزن .

الموضع الخامس في سورة " الشورى " وهو أعم مما تقدم ، وجعله مقرونا بإنزال الكتاب في قوله تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] .

[ ص: 457 ] وتكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند هذه الآية بما أشرنا إلى أنه عام ، فقال : الميزان هنا مراد به العدل والإنصاف ، وأن هذا المعنى متضمن آلة الوزن وزيادة .

وأورد بقية الآيات هنا في مبحث مفصل ، فذكر آية " الرحمن " ، وآية " الحديد " ، وتكلم على الجميع بالتفصيل .

وفي قوله تعالى في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] ، مقابلة عظيمة بين رفع السماء الذي هو حق وعدل وقدرة ، والميزان وضعه في الأرض ، لتقوموا بالعدل والإنصاف ، وبهذا العدل قامت السماوات والأرض .

وفي سورة " الحديد " اقتران الميزان بإرسال الرسل وإنزال الكتب : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .

ومعلوم أن الميزان الذي أنزل مع الكتاب هو ميزان الحق والعدل ، والنهي عن أكل أموال الناس بغير حق ، وعدم بخس الناس أشياءهم .

فكانت هذه الآية أعم وأشمل آيات الوفاء في الكيل والوزن ، بمثابة قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [ 4 \ 58 ] .

وقد جمع لفظ الأمانة ; ليعم به كل ما يمكن أن يؤتمن الإنسان عليه .

وكذلك هنا الميزان مع الكتاب المنزل ، وبه يستوفي كل إنسان حقه في أي نوع من أنواع التعامل ، فكل من غش في سلعة أو دلس أو زاد في عدد ، أو نقص أو زاد في ذرع ، أو نقص فهو مطفف للكيل ، داخل تحت الوعيد بالويل .

فمن باع ذهبا مثلا على أنه صاف من الغش وزن درهم ، وفيه من النحاس عشر الدرهم ، فقد نقص وطفف لنفسه ، فأخذ حق درهم كامل ذهبا ، ونقص حيث أعطى درهما إلا عشرا .

ومن باع رطلا سمنا وفيه عشر الرطل شحما ، فقد طفف بمقدار هذا العشر لنفسه ، ونقص وبخس المشتري بمقدار ذلك .

[ ص: 458 ] وهكذا من باع ثوبا عشر أمتار وهو ينقص ربع المتر ، فقد طفف وبخس بمقدار هذا الربع .

وهكذا في القسمة بين الناس وبين الأولاد ، وبين الأهل ، وكل ما فيه عطاء وأخذ بين اثنين ، والله تعالى أعلم .

ومن باب ما يذكره العلماء في مناسبات السور بعضها من بعض .

فقد قال أبو حيان لما ذكر السورة التي قبلها مصير الأبرار والفجار يوم القيامة ذكر هنا من موجبات ذلك وأهمها : تطفيف الكيل ، وبخس الوزن ، وهذا في الجملة متوجه ، ولكن صريح قوله تعالى في السورة السابقة : وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 4 - 5 ] ، فهو وإن كان عاما في كل ما قدمه لنفسه من عمل الخير ، وما أخر من أداء الواجبات عليه ، فإنه يتضمن أيضا خصوص ما قدم من وفاء في الكيل ورجحان في الوزن ، وما أخر في تطفيف في الكيل وبخس طمعا في المال وجمعا للتراث ، كما قال تعالى : وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 19 - 24 ] .

ومن هنا يعلم للعاقل أن ما طفف من كيل أو بخس من وزن مهما جمع منه ، فإنه يؤخره وراءه ومسئول عنه ، ونادم عليه ، وقائل : " ياليتني قدمت لحياتي " ، ولات ساعة مندم .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #588  
قديم 16-09-2024, 05:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (586)
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ .
صـ 459 إلى صـ 468




قوله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم

تقريع وتوبيخ لهؤلاء الناس ، وفيه مسألتان :

الأولى : أن الباعث على هذا العمل هو عدم اليقين بالبعث ، أو اليقين موجود لكنهم يعلمون على غير الموقنين - أي غير مبالين - كما قال الشاعر في مثل ذلك ، وهو ما يسمى في البلاغة بلازم الفائدة :


جاء شقيق عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح
فالمتكلم يعلم أن شقيقا عالم بوجود الرماح في بني عمه ، وأنهم مستعدون للحرب [ ص: 459 ] معه ، ولكنه رأى منه عدم المبالاة وعدم الاستعداد ، بأن وضع رمحه أمامه معترضا ، فهو بمنزلة من لا يؤمن بوجود الرماح في بني عمه ، وهو لم يرد بكلامه معه أن يخبره بأمر يجهله ، ولكنه أراد أن ينبهه لما يجب عليه فعله من التأهب والاستعداد ، وهكذا هنا ، وهذا عام في كل مسوف ومتساهل كما جاء : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ .

أي : وهو مؤمن بالإيمان ولوازمه من الجزاء والحساب .

المسألة الثانية من قوله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 6 ] يفهم أن مطفف الكيل والوزن وهم يعلمون هذا حقيقة غالبا ، ولا يطلع عليه الطرف الآخر ، فيكون الله تعالى هو المطلع على فعله ، فهو الذي سيحاسبه ويناقشه ، لأنه خان الله الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه ، ولذا قال تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين ، ولم يقل : يوم يقتص لكل إنسان من غريمه ، ويستوفي كل ذي حق حقه .

تحذير شديد .

قال القرطبي عند هذه الآية : وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ؟ ! . اهـ .

إنها مقالة ينبغي أن تقال لكل آكل أموال الناس بغير حق أيا كان هو ، وبأي وجه يكون ذلك .

تنبيه .

من المعلوم أن كل متبايعين يطلب كل منهما الأحظ لنفسه ، فالمطفف لا بد أن يخفي طريقه على غريمه .

وذكر علماء الحسبة طرقا عديدة مما ينبغي لولي الأمر خاصة ، وللمتعامل مع غيره عامة أن يتنبه لها .

من ذلك قالوا : أولا من ناحية المكيال قد يكون جرم المكيال لينا فيضغطه بين [ ص: 460 ] يديه ، فتتقارب جوانبه فينقص ما يحتوي عليه ، ولذا يجب أن يكون إناء الكيل صلبا ، والغالب جعله من الخشب أو ما يعادله .

ومنها : أنه قد يكون خشبا منقورا من جوفه ، ولكن لا يبلغ بالتجويف إلى نهاية المقدار المطلوب ، فيرى من خارجه كبيرا ، ولكنه من الداخل صغير لقرب قعره .

ومنها : قد يكون منقورا إلى نهاية الحد المطلوب ، ولكنه يدخل فيه شيئا يشغل فراغه من أسفله ، ويثبته في قعره . فينقص ما يكال بقدر ما يشغل الفراغ المذكور ، فقد يضع ورقا أو خرقا أو جبسا أو نحو ذلك .

ثانيا : من ناحية الميزان قد يبرد السنج ، أي معايير الوزن حتى ينقص وزنها ، وقد يجوف منها شيئا ويملأ التجويف بمادة أخف منها .

ولذا يجب أن يتفقد أجزاء المعايير ، وقد يتخذ معايرا من الحجر فتتناقص بكثرة الاستعمال بسبب ما يتحتت منها على طول الأيام .

ومنها : أن يضع تحت الكفة التي يزن فيها السلعة شيئا مثقلا لاصقا فيها ، لينتقص من الموزون بقدر هذا الشيء .

ولكيلا يظهر هذا ، فتراه دائما يضع المعيار في الكفة الثانية لتكون راجحة بها .

وهناك أنواع كثيرة ، كأن يطرح السلعة في الكفة بقوة ، فترجح بسبب قوة الدفع ، فيأخذ السلعة حالا قبل أن ترجع إلى أعلى ، موهما الناظر أنها راجحة بالميزان .

أما آلة الذرع ، فقد يكون المقياس كاملا وافيا ، ولكنه بعد أن يقيس المتر الأول يدفع بالآلة إلى الخلف ، ويسحب بالمذروع إلى الأمام بمقدار الكف مثلا ، فيكون النقص من المذروع بقدر ما سحب من القماش .

وكلها أمور قد تخفى على كثير من الناس ، وقد وقع لي مع بائع أن لاحظت عليه في ميزان مما يرفعه بيده حتى أعاد الوزن خمس مرات في كل مرة يأتي بطريقة تغاير الأخرى ، حتى قضى ما عنده ، فالتفت إلي وقال لي : لا أبيع بهذا السعر ، فقلت له : خذ ما تريد وزن كما أريد ، فطلب ضعف الثمن ، فأعطيته فأعطاني الميزان لأزن بنفسي .

وهنا ينبغي أن ننبه على حالات الباعة ، حينما يكون السعر مرتفعا وتجد بائعا يبيع [ ص: 461 ] برخص ، فقد يكون لعلة في الوزن أو في السلعة ، أو مضرة الآخر .

تنبيه آخر .

بهذه الأسباب وحقائقها وشدة خطرها كان عمر - رضي الله عنه - يتجول في السوق بنفسه ، ويتفقد المكيال والميزان . يخرج من السوق من يجد في مكياله أو ميزانه نقصانا ، ويقول : لا تمنع عنا المطر .

وهكذا يجب على ولاة الأمور تفقد ذلك باستمرار ، ولا سيما في البلاد التي يقل فيها الوازع الديني ، وتشتد فيها الأسعار ، بما يلجئ الباعة إلى التحايل أو العناد .

وقد منع عمر بائع زبيب أرخص السعر ، لعلمه أن تاجرا قدم ومعه زبيب بكثرة ، فقيل لعمر : لماذا منعت البيع برخص ؟ فقال : لأنه يفسد السوق ، فيخسر القادم فيمتنع من الجلب إلى المدينة ، وهذا قد ربح من قبل .

تنبيه آخر .

مما ينبغي أن يعلم أن نوع المكيال ومقداره ونوع الميزان ومقداره مرجعه إلى السلطان ، كما قال علماء الحسبة : إن على الأمة أن تطيع السلطان في أربع : في نوع المكيال والميزان ، ونوع العملة التي يطرحها للتعامل بها ، وإعلان الحرب أو قبول الصلح .

فإذا اتخذ الصاع أو المد أو الكيلة أو الويبة أو القدح ، أو أي نوع كبيرا كان أو صغيرا ، فيجب التقيد به في الأسواق .

وكذلك الوزن ؛ اتخذ الدرهم والأوقية والرطل أو الأقة ، أو اتخذ الجرام والكيلو ، فكل ذلك له .

أما إذا كان الأمر بين اثنين في قسمة مثلا : كقسمة صبرة من حب ، فتراضوا على أن يقتسموها بإناء كبير للسرعة وكان مضبوطا ، لا تختلف به المرات بأن يكون صلبا ويمكن الكيل به .

أو كذلك الوزن ، اتفقوا على قطعة حديد معينة ، لكل واحد وزنها عدة مرات فلا بأس بذلك ; لأن الغرض قسمة المجموع لا مثامنة على الأجزاء .

[ ص: 462 ] أما المكاييل الإسلامية الأساسية والموازين ، فقد تقدم بيانها من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في زكاة ما يخرج من الأرض ، وزكاة النقدين ، وقدمنا بيان مقابلها بالوزن الحديث في زكاة الفطر ، عند قوله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ 70 \ 24 - 25 ] . وبالله تعالى التوفيق .

غريبة .

في ليلة الفراغ من كتابة هذا المبحث رأيت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - فيما يرى النائم ، وبعد أن ذهب عني ، رأيت من يقول لي : إن لتطفيف الكيل والوزن دخلا في الربا ، فألحقته في أول البحث ، بعد أن تأملته فوجدته صحيحا بسبب المفاضلة .
قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون

" ران " : بمعنى غطى كما في الحديث : " إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء ، وما يزال كذلك حتى يغطيه " الحديث .

وقال الشاعر :


وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب من الذنب الذي ران فانجلى
وقال أبو حيان : وأصل الرين : الغلبة ، يقال : رانت الخمر على عقل شاربها واشتدت :


ثم لما رآه رانت به الخـ ـمر وألا يريه بانتفاء
بيان القراءات في هذه الآية :

قال أبو حيان : قرئ " بل ران " بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار وقف حفص على " بل " وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار .

وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا - يعني القراء - على إدغام اللام في الراء ، إلا ما كان من سكت حفص على " بل " ، ثم يقول : " ران " .

وهذا الذي ذكره كما ذكر من الإجماع .

ففي كتاب " اللوامع " عن قالون من جميع طرقه : إظهار اللام عند الراء نحو قوله : [ ص: 463 ] " بل رفعه الله إليه " [ 4 \ 158 ] " بل ربكم " [ 21 \ 56 ] .

وفي كتاب ابن عطية . وقرأ نافع : " بل ران " من غير مدغم .

وفيه أيضا : وقرأ نافع أيضا بالإدغام والإمالة .

وقال سيبويه : البيان والإدغام حسنان .

وقال الزمخشري : وقرئ بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت . اهـ .

أما المعنى فقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك وافيا في سورة " الكهف " عند الكلام على قوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الآية [ 18 \ 57 ] .
قوله تعالى : ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون

توجيه إلى ما ينبغي أن تكون فيه المنافسة ، وهي بمعنى الرغبة في الشيء .

قال أبو حيان : نافس في الشيء : رغب فيه ، ونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة ، إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه .

والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن ذلك من المطالبة والمكاثرة بالشيء النفيس ، فكل يسابق إليه ليحوزه لنفسه .

وفي هذه الآية الكريمة لفت لأول السورة ، إذا كان أولئك يسعون لجمع المال بالتطفيف ، فلهم الويل يوم القيامة .

وإذا كان الأبرار لفي نعيم يوم القيامة ، وهذا شرابهم ، فهذا هو محل المنافسة ، لا في التطفيف من الحب أو أي مكيل أو موزون .
قوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون

وصفهم بالإجرام هنا يشعر بأنه السبب في ضحكهم من المؤمنين وتغامزهم بهم ، [ ص: 464 ] وتقدم في سورة " البقرة " بيان موجب آخر في قوله تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا [ 2 \ 212 ] .

وقد بين تعالى في سورة " البقرة " أن الذين اتقوا فوق هؤلاء يوم القيامة ، والله يرزق من يشاء بغير حساب .

وتكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هناك ، وأحال على هذه الآية في البيان لنوع السخرية ، وزاد البيان في سورة " الأحقاف " على قوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] .

ومن الدافع لهم على هذا القول ونتيجة قولهم ، وساق آية " المطففين " عندها ، وكذلك عند أول سورة " الواقعة " على قوله تعالى : خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] .

ومما تجدر الإشارة إليه ، أن هذه الحالة ليست خاصة بهذه الأمة ، بل تقدم التنبيه على أنها في غيرها ممن تقدم من الأمم .

ففي قوم نوح : ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه [ 11 \ 38 ] .

وكان نفس الجواب عليهم : قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم [ 11 \ 38 - 39 ] .

وجاء بما يفيد أكثر من ذلك حتى بالرسل في قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] .

ومثلها في سورة " الأنبياء " بنص الآية المذكورة .

تنبيه .

إذا كان هذا حال بعض الذين أجرموا مع بعض ضعفة المؤمنين ، وكذلك حال بعض الأمم مع رسلها ، فإن الداعية إلى الله تعالى يجب عليه ألا يتأثر بسخرية أحد منه ، ويعلم أنه على سنن غيره من الدعاة إلى الله تعالى ، وأن الله تعالى سينتصر له إما عاجلا وإما آجلا ، كما في نهاية كل سياق من هذه الآيات .
[ ص: 465 ] قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون

وهذا رد على سخرية المشركين منه في الدنيا ، وهو كما قال تعالى : والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه في سورة " المؤمنون " على الكلام على قوله : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون [ 23 \ 111 ] . والحمد لله رب العالمين .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الِانْشِقَاقِ

قَوْلُهُ تَعَالَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ

تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الِانْفِطَارِ " ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [ 82 \ 1 ] ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَتَيِ " الشُّورَى " وَ " ق " .
قوله تعالى : وأذنت لربها وحقت

تقدم بيان مادة " أذن " في سورة " الجمعة " ، عند الكلام على الأذان ، " وأذنت " هنا بمعنى استمعت وأطاعت ، " وحقت " أي : حق لها أو هي محقوقة بذلك ، أي : لا يوجد ممانع لهذا الأمر .

وقد حمله بعض المفسرين على المعنى المجازي في " أذنت " ، أي : لما لم يكن ممانعة من تشققها ، كان ذلك بمثابة الامتثال والاستماع .

وقد قدمنا أن للجمادات بالنسبة إلى الله تعالى حالة لا كهي بالنسبة للمخلوقين في مبحث أول " الحشر " في معنى التسبيح من الجمادات .

وقد جاء صريحا في حق السماء والأرض ، من ذلك قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] ، وقال تعالى : ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [ 41 \ 11 ] .
قوله تعالى : وإذا الأرض مدت

أي : سويت وأزيلت جبالها ، وسويت وهادها ، كما قال تعالى : [ ص: 467 ] ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 105 - 107 ] .

ومن هذا الحديث عن ابن عباس وعن علي . وساق هذا الثاني ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى علي بن الحسين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ، فأكون أول من يدعى " . الحديث .

وعن ابن عباس : تمد كما يمد الأديم العكاظي . وعند القرطبي عن ابن عباس : " يزاد فيها كذا وكذا " .

وقال الرازي : هو بمعنى تبدل الأرض غير الأرض ، والواقع أن استبدال الأرض غير الأرض ليس على معنى الذهاب بهذه الموجودة والإتيان بأرض جديدة ، لما جاء في حديث الأذان : " ما من حجر ولا مدر ولا شجر ، يسمع صوت المؤذن إلا سيشهد له يوم القيامة " . والذي يؤتى له من جديد لا يتأتى له أن يشهد على شيء لم يشهده ، وعلى كل فإن تسيير الجبال وتسوية الأرض لا شك أنه يوجد زيادة في وجه الأرض ومساحتها ، فسواء مدت بكذا وكذا - كما قال ابن عباس - أو مدت بتوسعة أديمها وزيد في بسطها ، بعد أن تلقي ما في جوفها كالشيء السميك إذا ما ضغط ، فخفت سماكته وزادت مساحته ، كما يشير إليه قوله تعالى : كلا إذا دكت الأرض دكا دكا [ 89 \ 21 ] .

وقوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية [ 69 \ 13 - 16 ] .

فيكون مد الأرض بسبب دكها ، فيزاد في بسطها ، ولعل هذا الوجه هو ما يشهد له القرآن لجمع الأمرين هنا ، " وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء " ، فهو وفق ما في هذه السورة : إذا السماء انشقت ، وبعدها : وإذا الأرض مدت

والله أعلم .
قوله تعالى : وألقت ما فيها وتخلت [ ص: 468 ] قيل : " ألقت كنوزها وتخلت عنها ، ورد هذا بأن ذلك قد يكون قبل الساعة .

وقيل : " ألقت " الموتى " وتخلت " عنهم بعد قيامهم وبعثهم من قبورهم ; فلم يبق في جوف الأرض أحد .

وقوله تعالى : " وتخلت " : أي : بعد أن كانت لهم كفاتا أحياء وأمواتا ، وبعد أن كانت لهم مهادا ، لفظتهم وتخلت عنهم ، وهذا ما يزيد في رهبة الموقف وشدته والتضييق على العباد ، وألا ملجأ لهم ولا منجى إلا إلى الله ، كما قال تعالى : كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر [ 75 \ 11 - 12 ] .
قوله تعالى : وأذنت لربها وحقت

أي : كما أذنت السماء ، فالكون كله أذن مطيع منقاد لأوامر الله ، طوعا أو كرها .
قوله تعالى : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه

قيل : الإنسان للجنس وقيل لفرد ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن السياق يدل للأول للتقسيم الآتي ، فأما من أوتي كتابه بيمينه ، وأما من أوتي كتابه بشماله ; لأنه لا يكون لفرد ، وإنما للجنس وعلى أنه للجنس فالكدح العمل جهد النفس .

وقال ابن مقبل :


وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال غيره مشيرا إلى أن الكدح فيه معنى النصب :


ومضت بشاشة كل عيش صالح وبقيت أكدح للحياة وأنصب
ويشهد لهذا قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد [ 90 \ 4 ] كما قدمنا في محله .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #589  
قديم 16-09-2024, 05:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (587)
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
صـ 469 إلى صـ 478



تنبيه .

من هذا العرض القرآني الكريم من مقدمة تغيير أوضاع الكون سماء وأرضا ، ووضع الإنسان فيه يكدح إلى ربه " كدحا فملاقيه " ، أي : بعلمه الذي يحصل عليه من [ ص: 469 ] خلال كدحه ، فإن العاقل المتبصر لا يجعل كدحه إلا فيما يرضي الله ويرضى هو به ، وإذا لقي ربه ما دام أنه كادح ، لا محالة كما هو مشاهد .

تنبيه آخر .

قوله تعالى : ياأيها الإنسان عام في الشمول لكل إنسان مهما كان حاله من مؤمن وكافر ، ومن بر وفاجر ، والكل يكدح ويعمل جاهدا لتحصيل ما هو مقبل عليه ، كما في الحديث : " اعملوا كل ميسر لما خلق له " أي : ومجد فيه وراض به ، وهذا منتهى حكمة العليم الخبير .

ومما هو جدير بالتنبيه عليه ، هو أنه إذا كانت السماء مع عظم جرمها ، والأرض مع مساحة أصلها " وأذنت لربها وحقت " ، مع أنها لم تتحمل أمانة ، ولن تسأل عن واجب ، فكيف بالإنسان على ضعفه ؟ ! أأنتم أشد خلقا أم السماء [ 79 \ 27 ] ، وقد تحمل أمانة التكليف فأشفقن منها وحملها الإنسان ، فكان أحق بالسمع والطاعة في كدحه ، إلى أن يلقى ربه لما يرضيه .
قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور

في هذا التفصيل بيان لمصير الإنسان نتيجة كدحه ، وما سجل عليه في كتاب أعماله ، وذلك بعد أن تقدم في " الانفطار " قوله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 18 ] .

وجاء في " المطففين " : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين [ 83 \ 7 ] ، ثم بعده : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين [ 83 \ 18 ] .

جاء هنا بيان إتيانهم هذه الكتب مما يشير إلى ارتباط هذه السور بعضها ببعض ، في بيان مآل العالم كله ومصير الإنسان نتيجة عمله .

وتقدم للشيخ مباحث إتيان الكتب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر ، عند كل من [ ص: 470 ] قوله تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم في سورة " الإسراء " إلى قوله تعالى : فمن أوتي كتابه بيمينه [ 17 \ 71 ] ، وبين أحوال الفريقين أهل اليمين وأهل الشمال ، وأحال على أول السورة .

وقوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] ، في سورة " الكهف " وهنا ذكر سبحانه وتعالى حالة من حالات كلا الفريقين .

فالأولى : " يحاسب حسابا يسيرا " وهو العرض فقط دون مناقشة ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : " من نوقش الحساب عذب " .

والثانية : يدعو على نفسه بالثبور وهو الهلاك ، ومنه : المواطأة على الشيء ، سميت مثابرة ، لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه .

وهنا مقابلة عجيبة بالغة الأهمية ، وذلك بين سرورين أحدهما آجل ، والآخر عاجل .

فالأول في حق من أوتي كتابه بيمينه ، أنه ينقلب إلى أهله مسرورا ينادي فرحا : هاؤم اقرءوا كتابيه [ 69 \ 19 ] ، وأهله آنذاك في الجنة من الحور والولدان ، ومن أقاربه الذين دخلوا الجنة ، كما في قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم [ 13 \ 23 ] .

وقوله : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ 52 \ 21 ] ، فهم وإن كانوا ملحقين بهم إلا أنهم من أهلهم ، وهذا من تمام النعمة أن يعلم بها من يعرفه من أهله ، وهذا مما يزيد سرور العبد ، وهو السرور الدائم .

والآخر سرور عاجل ، وهو لمن أعطوا كتبهم بشمالهم ; لأنهم كانوا في أملهم مسرورين في الدنيا ، وشتان بين سرور وسرور .

وقد بين هنا نتيجة سرور أولئك في الدنيا ، بأنهم يصلون سعيرا ، ولم يبين سبب سرور الآخرين ، ولكن بينه في موضع آخر وهو خوفهم من الله في قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [ 52 \ 26 - 28 ] .

وهنا يقال : إن الله سبحانه لم يجمع على عبده خوفان ، ولم يعطه الأمنان معا ، [ ص: 471 ] فمن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] .

وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 - 41 ] .

ومن أمن مكر الله ، وقضى كل شهواته ، وكان لا يبالي فيؤتى كتابه بشماله ويصلى سعيرا ، كما في قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون [ 56 \ 41 - 47 ] ، تكذيبا للبعث .

وقوله هذا هو بعينه المذكور في هذه الآيات : إنه ظن أن لن يحور .

وقوله : إنه ظن أن لن يحور ، هذا الظن مثل ما تقدم في حق المطففين : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم [ 83 \ 4 - 5 ] ، مما يشعر أن عدم الإيمان بالبعث أو الشك فيه هو الدافع لكل سوء والمضيع لكل خير ، وأن الإيمان باليوم الآخر هو المنطلق لكل خير والمانع لكل شر ، والإيمان بالبعث هو منطلق جميع الأعمال الصالحة كما في مستهل المصحف : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] .
قوله تعالى : فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق

الشفق لغة : رقة الشيء .

قال القرطبي : يقال شيء شفيق ، أي : لا تماسك له لرقته ، وأشفق عليه أي : رق قلبه عليه ، والشفقة الاسم من الإشفاق وهو رقة القلب ، وكذلك الشفق .

قال الشاعر :


تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
فالشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها ، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس .

ونقل عن الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب ، قيل : غاب الشفق . اهـ .

[ ص: 472 ] وهذا ما عليه الأئمة الثلاثة في توقيت وقت المغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق ، وهو الحمرة بعد الغروب ، كما قال الخليل .

وعند أبي حنيفة - رحمه الله - : أن الشفق هو البياض الذي بعده .

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في بيان أوقات الصلوات الخمس عند قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون [ 30 \ 17 - 18 ] ، ورجح أن الشفق : الحمرة .

ونقل القرطبي قولا ، قال : وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا .

وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض ، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ، ولم أره يغيب .

وقال ابن أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر ، ثم قال : قال علماؤنا : فلما لم يتجدد وقته سقط اعتباره . اه .

فهو بهذا يرجح مذهب الجمهور في معنى الشفق ، والنصوص في ذلك من السنة فيها مقال .

فقد روى الدارقطني حديثا مرفوعا : " الشفق الحمرة " .

وتكلم عليه الشوكاني ، ثم ذكر من يقول به من الصحابة وهم : ابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وعبادة . ومن الأئمة : الشافعي ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبو يوسف ، ومحمد من الفقهاء ، والخليل والفراء من أهل اللغة .

فأنت ترى أن أبا يوسف ومحمدا من أصحاب أبي حنيفة وافقا الجمهور .

وفي شرح الهداية أيضا رواية عن أبي حنيفة .

أما ما ذكره القرطبي ففيه نظر ، أي : من جهة عدم غياب البياض ، فإن المعروف عند علماء الفلك أن بين الأحمر والأبيض مقدار درجتين ، والدرجة تعادل أربع دقائق ، وعليه فالفرق بسيط . والله تعالى أعلم .

وقوله : والليل وما وسق ، هو الجمع والضم للشيء الكثير ، ومنه سمي [ ص: 473 ] الوسق بمقدار معين من مكيل الحب ، وهو ستون صاعا . وقيل : فيه معان أخرى ، ولكن هذا أرجحها .

والمعنى هنا : والليل وما جمعه من المخلوقات . قيل : كأنه أقسم بكل شيء كقوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 - 39 ] .

وقوله : والقمر إذا اتسق ، أي : اتسع أي تكامل نوره ، وهو افتعل من وسق ، والقاعدة الصرفية أن فاء الفعل المثالي - أي الذي فاؤه واو - إذا بني على افتعل تقلب الواو تاء وتدغم التاء في التاء ، كما في : وصلته فاتصل ووزنته فاتزن ، اوتصل اوتزن ، وهكذا هنا اوتسق .

وقوله : لتركبن طبقا عن طبق

قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءته ، فقرأه عمر بن الخطاب ، وابن مسعود وأصحابه ، وابن عباس ، وعامة قراء مكة والكوفة : " لتركبن " بفتح التاء والباء ، واختلف قارئو ذلك في معناه ، فقال بعضهم : يعني يا محمد ، ويعني حالات الترقي والعلو والشدائد مع القوم ، وهذا المعنى عن مجاهد وابن عباس .

وقيل : " طبقا عن طبق " : يعني سماء بعد سماء ، أي طباق السماء ، وهو عن الحسن ، وأبي العالية ، ومسروق .

وعن ابن مسعود أنها السماء تتغير أحوالها ، تتشقق بالغمام ، ثم تحمر كالمهل ، إلى غير ذلك . وقد رجح القراءة الأولى والمعنى الأول .

وقرأ عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين : " لتركبن " بالتاء وبضم الباء على وجه الخطاب للناس كافة .

وذكر المفسرون لمعناه حالا بعد حال معان عديدة : طفولة ، وشبابا ، وشيوخة ، فقرا وغنى ، وقوة وضعفا ، حياة وموتا وبعثا ، رخاء وشدة ، إلى كل ما تحتمله الكلمة .

وقال القرطبي : الكل محتمل ، وكله مراد ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن ذلك إنما هو بعامة الناس ويكون يوم القيامة ، إذ السياق في أصول البعث : " إذا السماء انشقت " ، " وإذا الأرض مدت " ، " فأما من أوتي كتابه بيمينه " وذكر الحساب المنقلب ، ثم التعبير بالمستقبل " لتركبن " ، ولو كان لأمر الدنيا من تغير الأحوال لكان [ ص: 474 ] أولى به الحاضر أو الماضي ، وإن كان من المستقبل ما سيأتي من الزمن لكنه ليس بجديد ، إذ تقلب الأحوال في شأن الحياة أمر مستقر في الأذهان ، ولا يحتاج إلى هذا الأسلوب .

أما أمور الآخرة من بعث ، وحشر ، وعرض ، وميزان ، وصراط ، وتطاير كتب ، واختلاف أحوال الناس باختلاف المواقف ، في عرصات القيامة ، فهي الحرية بالتنبيه عليها والتحذير منها ، والعمل لأجلها في كدحه إلى ربه ، فلذا جاء بذلك وهو مشعر باستمرار حالة الإنسان بعد الكدح إلى حالات متعددة ودرجات متفاوتة .

ولو اعتبرنا حال المقسم به من حيث تطور الحال من شفق ، أو آخر ضوء الشمس ، ثم ليل ، وما جمع وغطى بظلامه ، ثم قمر يبدأ هلالا إلى اتساق نوره - لكان انتقالا من تغير حركات الزمن إلى تغير أحوال الإنسان قطعا ، وأن القادر على ذلك في الدنيا قادر على ذلك في الآخرة .
قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون

قيل : المن : القطع والنقص ، ومنه قول الشاعر :


لمعفر قهد تناثر شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها
والقهد : ضرب من الضأن تعلوه حمرة صغيرة آذانه ، والكواسب : الوحوش ، أي : ذئاب أو سباع لا ينقطع طعامها .

وقال القرطبي : مننت الحبل إذا قطعته .

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عنها ، فقال : غير مقطوع ، فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قال : نعم ، قد عرفه أخو يشكر ، حيث يقول :


فترى خلفهن من سرعة الرجـ ـع منينا كأنه أهباء


قال المبرد : المنين : الغبار ; لأنها تقطعه وراءها .

وقيل : " غير ممنون " أي : غير ممنون به عليهم ، لتكمل النعمة عليهم .

وقال ابن جرير : " غير ممنون " : أي : غير محسوب ولا منقوص . وذكره عن ابن عباس ومجاهد .

[ ص: 475 ] وقال ابن كثير : غير مقطوع ، كقوله تعالى : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، ورد قول من قال : إنه غير ممنون به عليهم ; لأن لله تعالى أن يمتن على عباده ، وهم ما دخلوا الجنة إلا بفضل من الله ومنه عليهم . انتهى .

ومما يشهد لقول ابن جرير " غير محسوب " عموم قوله تعالى : إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [ 3 \ 37 ] ، وخصوص قوله تعالى : ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ 40 \ 40 ] .

وقوله تعالى : جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 36 ] ، فهو بمعنى كافيا من قولك : حسبي : بمعنى كافيني .

والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن كلا من المعنيين مقصود ولا مانع منه ، وما ذهب إليه ابن كثير لا يتعارض مع قول الآخرين ; لأن المن الممنوع هو ما فيه أذى وتنقيص ، كما في قوله : ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى [ 2 \ 262 ] ، أما المن من الله تعالى على عبده ، فهو عين الإكرام والزلفى إليه سبحانه . والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْبُرُوجِ

قوله تعالى : والسماء ذات البروج

البروج : جمع برج ، واختلف في المعنى المراد به هنا : هل هي المنازل أو الكواكب ، أو قصور في السماء عليها حراسها ؟

وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الحجر " ، عند الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا [ 15 \ 16 ] ، وفي سورة " الفرقان " عند قوله تعالى : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] .

وقيل : إن أصل هذه المادة من الظهور ، ومنه تبرج المرأة ، وساق بيان المعنى المقصود من بروج السماء وعدد المنازل المذكورة .

وبمناسبة ارتباط السور بعضها ببعض ، فإن بعض المفسرين يقول : لما ذكر مآل الفريقين وتطاير الصحف في السورة الأولى ، ذكر هنا عملا من أشد أعمال الكفار مع المؤمنين في قصة الأخدود .

والذي يظهر أقوى من هذا ، هو - والله تعالى أعلم - أنه لما ذكر سابقا انفطار السماء ، وتناثر النجوم ، وانشقاق السماء ، وإذنها لربها وحق لها ذلك - جاء هنا بيان كنه هذه السماء أنها عظيمة البنية بأبراجها الضخمة أو بروجها الكبيرة ، فهي مع ذلك تأذن لربها وتطيع ، وتنشق لهول ذلك اليوم وتنفطر ، فأولى بك أيها الإنسان . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : واليوم الموعود هو يوم القيامة بإجماع المفسرين ، وقد كانوا يوعدون به في الدنيا ، فهو اليوم الموعود به كل من الفريقين ، كما قال تعالى في حق المؤمنين : لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون [ 21 \ 103 ] ، وفي حق الكفار : [ ص: 477 ] فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 43 \ 83 ] ، وسيعترفون بذلك عند البعث ، حينما يقولون : قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 52 ] .

فاليوم الموعود هو يوم القيامة الموعود به لمجازات كلا الفريقين على عملهم .
قوله تعالى : وشاهد ومشهود

لم يصرح هنا من الشاهد وما المشهود ، وقد ذكر الشاهد في القرآن بمعنى الحاضر ، كقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، وقوله : عالم الغيب والشهادة [ 6 \ 73 ] .

وذكر المشهود بمعنى المشاهد باسم المفعول ، كقوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] .

فالشاهد والمشهود قد يكونان من المشاهدة ، وذكر الشاهد من الشهادة ، والمشهود من المشهود به أو عليه ، كما في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] .

فشهيد الأولى : أي شهيد على الأمة التي بعثت فيها ، وشهيد الثانية : أي شاهد على الرسل في أممهم .

ومن هنا اختلفت أقوال المفسرين إلى ما يقرب من عشرين قولا .

قال ابن جرير ما ملخصه : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة أو النحر ، وعزاه لعلي وأبي هريرة ، والشاهد : محمد - صلى الله عليه وسلم - والمشهود : يوم القيامة . وعزاه لابن عباس والحسن بن علي . والشاهد : الإنسان ، والمشهود : يوم القيامة وعزاه لمجاهد وعكرمة . والشاهد : هو الله ، والمشهود : هو يوم القيامة ، وعزاه لابن عباس . ثم قال : والصواب عندي أنه صالح لكل ما يقال له مشاهد ، ويقال له مشهود ، فلم يفصل ما إذا كان بمعنى الحضور ، أو الشهادة ، ومثله القرطبي وابن كثير .

[ ص: 478 ] وقد فصل أبو حيان على ما قدمنا ، فقال : إن كان بمعنى الحضور ، فالشاهد الإنسان ، والمشهود يوم القيامة ، ولما ذكر اليوم الموعود ناسب أن يذكر كل من يشهد في ذلك اليوم ، ومن يشهد عليه ، وذكر نحوا من عشرين قولا .

وقال : كل له متمسك ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أنه من باب الشهادة ; لأن ذكر اليوم الموعود وهو يكفي عن اليوم المشهود ، بل إنه يحتاج إلى من يشهد فيه ، وتقام الشهادة على ما سيعرض فيه ; لإقامة الحجة على الخلق لا لإثبات الحق .

وقد جاء في القرآن تعداد الشهود في ذلك اليوم ، مما يتناسب مع العرض والحساب .

ومجمل ذلك أنها تكون خاصة وعامة وأعم من العامة ، فمن الخاصة : شهادة الجوارح على الإنسان كما في قوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون [ 41 \ 20 ] ، وقوله : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، وهذه شهادة فعل ومقال لا شهادة حال ، كما بينها قوله تعالى عنهم : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون [ 41 \ 21 - 22 ] ، ورد الله زعمهم ذلك بقوله : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 23 ] .

وتقدم للشيخ بيان شهادة الأعضاء في سورة " يس " وفي سورة " النساء " عند قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] ، وشهادة الملائكة وهم الحفظة كما في قوله تعالى : وقال قرينه هذا ما لدي عتيد [ 50 \ 23 ] ، وقوله : وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ 50 \ 21 ] ، ثم شهادة الرسل كل رسول على أمته ، كما في قوله عن عيسى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم - : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم [ 5 \ 117 ] ، فهذا وإن كان في الحياة فسيؤديها يوم القيامة .

وكقوله في عموم الأمم : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ 16 \ 89 ] .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
  #590  
قديم 16-09-2024, 05:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,025
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (588)
سُورَةُ الْبُرُوجِ
صـ 479 إلى صـ 488




ومنها : شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جميع الرسل ، كما في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] .

ومنها : شهادة هذه الأمة على سائر الأمم ، كما في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ 2 \ 143 ] .

ومنها : شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة ; لقوله تعالى : ويكون الرسول عليكم شهيدا [ 2 \ 143 ] .

ومنها : شهادة الله تعالى على الجميع .

وهذا ما يتناسب مع ذكر اليوم الموعود وما يكون فيه من الجزاء والحساب على الأعمال ، ومجازاة الخلائق عليها : وسيأتي في نفس السياق قوله : والله على كل شيء شهيد [ 85 \ 9 ] ، وهو كما ترى لا يتقيد بشاهد واحد ، وأيضا لا يعارض بعضها بعضا .

فاختلاف الشهود وتعددهم باختلاف المشهود عليه وتعدده ، من فرد إلى أمة إلى رسل ، إلى غير ذلك ، وكلها داخلة في المعنى وواقعة بالفعل .

وقد ذكرت أقوال أخرى ، ولكن لا تختص بيوم القيامة .

ومنها : أن الشاهد الله والملائكة وأولو العلم ، والمشهود به وحدانية الله تعالى .

ومنها : الشاهد المخلوقات ، والمشهود به قدرة الله تعالى ، فتكون الشهادة بمعنى العلامة .

وأكثر المفسرين إيرادا في ذلك الفخر الرازي ; حيث ساقها كلها بأدلتها إلا ما ذكرناه من السنة فلم يورده .

وقد جاء في السنة تعيين الشهادات لغير ما ذكر .

منها الشهادة للمؤذن : " ما يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر ، إلا شهد له يوم القيامة " .

[ ص: 480 ] ومنها : شهادة الأرض على الإنسان بما عمل عليها المشار إليه في قوله تعالى : يومئذ تحدث أخبارها [ 99 \ 4 ] .

ومنها : شهادة المال على صاحبه فيم أنفقه . ومنها : شهادة الصيام والقرآن وشفاعتهما لصاحبهما ، ونحو ذلك . والله تعالى أعلم .

تنبيه

في هذا العرض إشعار يتعلق بالقضاء وكمال العدالة ، وهو إذا كان رب العزة سبحانه وتعالى ، وهو على كل شيء شهيد ، وبكل شيء عليم ، وموكل حفظة يكتبون أعمال العباد ، ومع ذلك لم يقض بين الخلائق بما يعلمه منهم ولا بما سجلته ملائكته ، ويستنطق أعضاءهم ، ويستشهد الرسل على الأمم والرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرسل ، أي بأنهم بلغوا أممهم رسالات الله إليهم ، فلأن لا يقضي القاضي بعلمه من باب أولى . والعلم عند الله تعالى .

وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله : " إنكم تحتكمون إلي ، وإنما أنا بشر أقضي لكم على نحو ما أسمع ، فمن اقتطعت له شيئا من حق أخيه ، فإنما أقطع له قطعة من نار " . الحديث . أي : كان من الممكن أن ينزل عليه الوحي ، ولا سيما في تلك القضية بعينها ، إذ قالوا في مواريث درست معالمها ولا بينة بينهما ، ولكن إذا نزل الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - فيها فمن بالوحي لمن يأتي بعده في القضاء ؟

ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر " .

ومعلوم أن البينة فعيلة من البيان ، فتشمل كل ما يبين الحق من شهادة وقرينة ، كما في قصة يوسف من القرائن مع إخوته ومع امرأة العزيز . إلخ .
قوله تعالى : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود

قال أبو حيان : وجواب القسم في قوله تعالى : والسماء ذات البروج ، قيل : محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه ، وقيل : مذكور ، فقيل : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " [ 85 \ 10 ] ونحوه ، وقيل : " قتل " ، وهذا نختاره ، وحذفت اللام - أي لقتل - [ ص: 481 ] وحسن حذفها كما حسن في قوله : والشمس وضحاها [ 91 \ 1 ] ، ثم قال : قد أفلح من زكاها [ 91 \ 9 ] ، أي : لقد أفلح ، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك ، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ; ليفتنوهم عن دينهم .

وإذا كان " قتل " هي الجواب فهي جملة خبرية ، وإذا كان الجواب غيرها فهي جملة إنشائية ، دعاء عليهم .

وقرئ : " قتل " بالتشديد ، قرأها الحسن وابن مقسم ، وقرأها الجمهور بالتخفيف . اهـ .

والأخدود : جمع خد ، وهو الشق في الأرض طويلا . وقوله : النار ذات الوقود ، الوقود بالضم وبالفتح ، والقراءة بالفتح كالسحور ، والوضوء . فبالفتح : ما توقد به كصبور والماء المتوضأ به ، والطعام المتسحر به . وبالضم : المصدر والفعل ، والوقود بالضم : ما توقد به .

ذكر صاحب القاموس ، و " النار ذات الوقود " : بدل من الأخدود .

وقيل في معناها عدة أقوال ، حتى قال أبو حيان : كسلت عن نقلها .

ونقل الفخر الرازي ثلاثة منها .

والمشهور عند ابن كثير ما رواه أحمد ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني ، وحضر أجلي ، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر ، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر والملك راهب ، فأتى الغلام الراهب ، فسمع من كلامه فأعجبه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه ، وقال ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا أراد الساحر ضربك ، فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك ، فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو ذات يوم ، إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس ، فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟ قال : فأخذ حجرا ، فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر ، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني ، أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا [ ص: 482 ] تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان للملك جليس أعمى فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : اشفني . فقال : ما أنا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله - عز وجل - فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن ، فدعا الله فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان ، من رد عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فقال : أنا . قال : لا ، ربي وربك الله ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام ، فبعث إليه ، فقال : أي بني ، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص ، وهذه الأدواء ، فقال : أما أنا لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله - عز وجل - قال : أنا . قال : لا ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه أيضا بالعذاب حتى دل على الراهب ، فأوتي بالراهب ، فقيل : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرقه أيضا ، وقال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه ، فذهبوا به فلما علوا به الجبل ، قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، فبعث به نفرا إلى البحر في قرقور ، فقال : إذا لججتم به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فغرقوا هم ، وجاء الغلام حتى دخل على الملك ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ، ففعل ، ووضع السهم في قوسه ورماه به في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ، فقد والله وقع بك ، قد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك ، فخدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها ، قال : فكانوا يتعادون ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أماه ; فإنك على الحق . وقد قيل : إن الغلام دفن فوجد زمن عمر بن الخطاب ويده على صدغه ، كلما رفعت خرج الدم من جرحه ، وإذا تركت أعيدت على الجرح " .

وقد سقنا هذه القصة ، وهي من أمثل ما جاء في هذا المعنى لما فيها من [ ص: 483 ] العبر ، والتي يمكن أن يستفاد منها بعض الأحكام ، حيث إن ابن كثير ، عزاها للإمام أحمد بن حنبل ومسلم ، أي لصحة سندها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الآتي :

الأول : أن السحر بالتعلم كما جاء في قصة الملكين ببابل ، هاروت وماروت يعلمان الناس السحر .

الثاني : إمكان اجتماع الخير مع الشر ، إذا كان الشخص جاهلا بحال الشر ، كاجتماع الإيمان مع الراهب مع تعلم السحر من الساحر .

ثالثا : إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير ، لبيان الحق ، والتثبيت في الأمر ، كما قال الغلام : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟

الرابع : أنه كان أميل بقلبه إلى أمر الراهب ، إذ قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك ، فسأل عن أمر الراهب ولم يسل عن أمر الساحر ؟

الخامس : اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه ، كاعتراف الراهب للغلام .

السادس : ابتلاء الدعاة إلى الله ووجوب الصبر على ذلك ، وتفاوت درجات الناس في ذلك .

السابع : إسناد الفعل كله لله ، إنما يشفي الله .

الثامن : رفض الداعي إلى الله الأجر على عمله وهدايته : قل لا أسألكم عليه أجرا إن [ 6 \ 90 ] .

التاسع : بيان ركن أصيل في قضية التوسل ، وهو أن مبناه على الإيمان بالله ، ثم الدعاء وسؤال الله تعالى .

العاشر : غباوة الملك المشرك المغلق قلبه بظلام الشرك ، حيث ظن في نفسه أنه الذي شفى جليسه . وهو لم يفعل له شيئا ، وكيف يكون وهو لا يعلم ؟

الحادي عشر : اللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام أسلوب الجهلة والجبابرة .

الثاني عشر : منتهى القسوة والغلظة في نشر الإنسان ، بدون هوادة .

[ ص: 484 ] الثالث عشر : منتهى الصبر وعدم الرجوع عن الدين ، وهكذا كان في الأمم الأولى ، وبيان فضل الله على هذه الأمة ، إذ جاز لها التلفظ بما يخالف عقيدتها وقلبها مطمئن بالإيمان .

وقد جاء عن الفخر الرازي قوله :

الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ، وقال : وروى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله ؟ فقال : نعم ، فتركه ، وقال للآخر مثله ، فقال : لا ، بل أنت كذاب ، فقتله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئا له " .

وتقدم بحث هذه المسألة للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - .

الرابع عشر : إجابة دعوة الغلام ونصرة الله لعباده المؤمنين : اللهم اكفنيهم بما شئت .

الخامس عشر : التضحية بالنفس في سبيل نشر الدعوة ، حيث دل الغلام الملك على الطريقة التي يتمكن الغلام بها من إقناع الناس بالإيمان بالله ، ولو كان الوصول لذلك على حياته هو .

السادس عشر : إبقاء جسمه حتى زمن عمر - رضي الله عنه - إكراما لأولياء الله والدعاة من أن تأكل الأرض أجسامهم .

السابع عشر : إثبات دلالة القدرة على البعث .

الثامن عشر : حياة الشهداء لوجود الدم وعودة اليد مكانها بحركة مقصودة .

التاسع عشر : معرفة تلك القصة عند أهل مكة حيث حدثوا بها تخويفا من عواقب أفعالهم بضعفة المؤمنين ، كما هو موضح في تمام القصة .

العشرون : نطق الصبي الرضيع بالحق .
قوله تعالى : إذ هم عليها قعود . الضمير في قوله : هم ، والضمير في قوله : قعود ، ذكر فيهما خلاف .

[ ص: 485 ] فقيل : راجعان إلى من أحرقوا وأقعدوا عليها .

وقيل : راجعان إلى الكفار .

وعليه ففي قوله : " عليها قعود " إشكال ، وهو : كيف يتمكن لهم القعود على النار .

فقيل : إنها رجعت عليهم فأحرقتهم ، فقعودهم عليها حقيقة .

وقيل : قعود على حافتها ، كما تقول : قعود على النهر ، أو على البئر ، أو على حافته وحوله ، كما يقال : نزل فلان على ماء كذا ، أي : عنده .

وأنشد أبو حيان بيت الأعشى :


تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
وقد استدل صاحب القول الأول بقوله تعالى الآتي : فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [ 85 \ 10 ] فقال : الحريق في الدنيا ، وجهنم في الآخرة .

ولكن في الآية قرينة على أن الضمائر راجعة إلى الكفار الذين قتلوا المؤمنين وأحرقوهم ، وهي قوله : ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم [ 85 \ 10 ] حيث رتب العذاب المذكور على عدم التوبة ، وجاء بثم التي هي للتراخي ، مما يدل على أنهم لم تحرقهم نارهم انتقاما منهم حالا ، بل أمهلوا ليتوبوا من فعلتهم الشنيعة ، وإلا فلهم العذاب المذكور في الآخرة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود

بمعنى حضور ، يتفق قوله تعالى : إذ هم عليها قعود [ 85 \ 6 ] ، أي : حضور يشاهدون إحراق المؤمنين ، وهذا زيادة في التبكيت بهم ، إذ يرون هذا المظهر بأعينهم ولم يشفقوا بهم ، ولم يعتبروا بثباتهم .
قوله تعالى : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد

هذا ما يسمى أسلوب المدح بما يشبه الذم ، ونظيره في العربية قول الشاعر :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
[ ص: 486 ] وذكر أبو حيان قول الشاعر - وهو قيس الرقيات - :


ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقول الآخر :


ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عناق الطير شكلا عيونها
يقال عين شكلاء : إذا كان في بياضها حمرة قليلة يسيرة .

وقدمنا أن نقمتهم عليهم للمستقبل ، كما في قوله تعالى : إلا أن يؤمنوا بالله ، لا على الماضي إلا أن آمنوا ; لأنهم كانوا يقولون لهم : إما أن ترجعوا عن دينكم ، وإما أن تلقوا في النار ، ولم يحرقوهم على إيمانهم السابق ، بل على إصرارهم على الإيمان للمستقبل .

والإتيان هنا بصفتي الله تعالى : " العزيز الحميد " إشعار بأنه سبحانه قادر على نصرة المؤمنين والانتقام من الكافرين ، إذ العزيز هو الغالب ، كما يقولون : من عز بز ، ولكن جاء وصفه بالحميد ; ليشعر بأمرين :

الأول : أن المؤمنين آمنوا رغبة ورهبة ، رغبة في الحميد على ما يأتي : " الغفور الودود " [ 85 \ 14 ] ، ورهبة من العزيز كما سيأتي في قوله : إن بطش ربك لشديد ، [ 85 \ 12 ] وهذا كمال الإيمان رغبة ورهبة وأحسن حالات المؤمن .

والأمر الثاني : حتى لا ييأس أولئك الكفار من فضله ورحمته ، كما قال : ثم لم يتوبوا [ 85 \ 10 ] ; إذ أعطاهم المهلة من آثار صفته الحميد سبحانه .
قوله تعالى : الذي له ملك السماوات والأرض

تأكيد وبيان للعزيز الحميد ، إذ لا يخرج عن سلطانه أحد ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو المدبر أمر ملكه سبحانه وتعالى .

قوله تعالى : والله على كل شيء شهيد ربط بأول السورة : " وشاهد ومشهود " [ 85 \ 3 ] ، فهو سبحانه على كل شيء شهيد ، ومن ذلك فعل أولئك ، وفيه شدة تخويف أولئك وتحذيرهم ومن على شاكلتهم ، بأن الله [ ص: 487 ] تعالى شهيد على أفعالهم فلن تخفى عليه خافية .

وقد جاء بصيغة المبالغة في شهيد ; لما يتناسب مع هذا المقام ، كما فيه المقابلة بالفعل ، كما كانوا قعودا على النار وشهودا على إحراق أولياء الله تعالى ، فإنه سبحانه سيعاملهم بالمثل ، إذ يحرقهم وهو عليهم شهيد .
قوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا

يحتمل أن يكون مرادا به أصحاب الأخدود ، و " فتنوا " بمعنى أحرقوا ، ويحتمل أن يكون عاما في كل من أذى المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم عنه بأي أنواع الفتنة والتعذيب .

وقد رجح الأخير أبو حيان ، وحمله على العموم أولى ; ليشمل كفار قريش بالوعيد والتهديد ، وتوجيههم إلى التوبة مما أوقعوه بضعفة المؤمنين : كعمار ، وبلال ، وصهيب ، وغيرهم .

ويرجح هذا العموم العموم الآخر الذي يقابله في قوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير [ 85 \ 11 ] فهذا عام بلا خلاف في كل من اتصف بهذه الصفات .
قوله تعالى : إن بطش ربك لشديد في مقام المنطوق بالمفهوم من " العزيز الحميد " ، كما تقدم .
قوله تعالى : إنه هو يبدئ ويعيد

قيل : يبدئ الخلق ويعيده ، كالزرع والنبات والإنسان ، بالمولد والموت ، ثم بالبعث .

وقيل : يبدأ الكفار بالعذاب ويعيده عليهم ، واستدل لهذا بقوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] .

وفي الحديث : " ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر ، ثم يؤتى بها أوفر ما تكون سمنا ، فتطؤه بخفافها ، فتستن عليه ، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولها ، حتى يقضي بين الخلائق فيرى مصيره إما إلى جنة ، وإما إلى نار " [ ص: 488 ] إلى آخر الحديث في صاحب البقر والغنم والذهب .

ولكن الذي يظهر - والله تعالى أعلم - هو الأول ; لأنه يكثر في القرآن كقوله تعالى : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده [ 10 \ 4 ] . وقوله : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون [ 10 \ 34 ] .

وجعله آية على قدرته ، ودليلا على عجز ونقص الشركاء في قوله في أول هذه الآية : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ورد عليهم بقوله : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، وقوله : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
إضافة رد


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


 


الاحد 20 من مارس 2011 , الساعة الان 01:21:21 صباحاً.

Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour

[حجم الصفحة الأصلي: 363.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 358.10 كيلو بايت... تم توفير 5.84 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]