|
الملتقى الاسلامي العام مواضيع تهتم بالقضايا الاسلامية على مذهب اهل السنة والجماعة |
![]() |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#571
|
||||
|
||||
![]() الأسئلة إذا قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الموجود أم بأي حمل السؤال إذا قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق، فهل يقيد هذا الطلاق بالحمل الذي في بطنها أم يبقى التعليق على أي وضع تلد فيه بذكر؟ الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فيتقيد الحكم بهذا الذكر، وبناء على ذلك: يقع الطلاق بخروجه، ولا يتبع بعد ذلك إلا إذا قال لها: كلما ولدت ذكرا فأنت طالق، فهذه مسألة ثانية، إذا قال لها: كلما ولدت، وجاء في صيغته بما يدل على التكرار أو يدل على البقاء فإنه يحكم به، والله تعالى أعلم. الجمع بين قاعدة: اليقين لا يزال بالشك، والعمل بالشبهة بين الشبهتين السؤال ما الفرق بين قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) ومسألة الشبهة بين شبهتين، أعني: التي في مسألة اختصام سعد وعبد بن زمعة في الغلام؟ الجواب قاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) قاعدة مجمع على العمل بها واعتبارها؛ لدلالة نصوص الكتاب والسنة عليها، وهي إحدى القواعد الخمس المجمع عليها، والتي قامت عليها أكثر مسائل الفقه الإسلامي، وهي: (اليقين لا يزال بالشك) و (الأمور بمقاصدها) ، و (المشقة تجلب التيسير) ، و (الضرر يزال) ، و (العادة محكمة) ، هذه خمس قواعد انبنى عليها فقه الإسلام في أكثر مسائله، وقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) تدل على أن الأصل أن يعمل المسلم بما استيقنه ويلغي الشكوك والوساوس. أما مسألة الشبهة بين الشبهتين فهي عند استواء الاحتمالين، وإذا استوى الاحتمالان أشبه الحلال من وجه وأشبه الحرام من وجه، فحينئذ ليس هناك أصل، يعني: إذا جئت -مثلا- إلى شيء متردد بين أصلين فإنك لا تستطيع أن تغلب أحد الأصلين من كل وجه، بل تقول: إنني أتورع، فأتقي هذا وأستبرئ لديني، وأحتاط في أمري ونحو ذلك. ومسألة الرضاع، ومسألة الولد للفراش، ومسألة إلحاق الولد بالشبه هذه كلها مسائل بني فيها على غلبه الظن، وقصة عبد بن زمعة مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه عند دخوله عليه الصلاة والسلام إلى مكة، وأمره عليه الصلاة والسلام لأم المؤمنين أن تحتجب منه لوجود الشبهة، هذه المسألة يقول بعض العلماء فيها: إذا كان هناك رضاع، وهذا الرضاع فيه شبهة، وتكلمت به امرأة، والشبهة فيه قوية، يقول: أعمل الرضاع موجبا لمنع النكاح، وأسقطه موجبا للمحرمية، فيعمل بالشبهتين، فيقول: أعمل بالرضاع فأقول له: لا تتزوج هذه المرأة، وأسقط الرضاع فأقول له: ليست بمحرم لك، وهذا مبني على الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام حينما قال: (كيف وقد قيل؟) في قصة المرأة التي ادعت أنها أرضعت صحابيا وزوجته، فقال له عليه الصلاة والسلام: (كيف وقد قيل؟) ، فبعض العلماء يقول: الأمور المحرمة كالفروج والإرضاع ونحوها أمور ينبغي أن يحتاط فيها، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الرضاع عمل بالشبهتين، فجعل للرضاع تأثيرا من جهة عدم جواز النكاح، ومنع الرجل أن يستبقي المرأة، وأيضا أسقط حكم الرضاع واستند إلى الأصل من أنها أجنبية فمنعه من الدخول عليها ومصافحتها على أنها محرم له، فهذا يلجأ إليه الفقيه في بعض المسائل من باب الاحتياط والاستبراء للدين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات فقد استبراء لدينه وعرضه) ، وبعض العلماء -رحمهم الله- عندهم إشكال في هذه المسألة، ويقول: إذا تردد الأمر بين شبهين محرم ومبيح فإنني أغلب المحرم؛ لأن القاعدة: (إذا تعارض حاظر ومبيح يقدم الحاظر) لأن التحريم فيه زيادة حكم وزيادة علم، فالمبيح باق على الأصل ومستند إلى الأصل، والأصل يرجحه، لكن كونه يأتي شبه من الحرام فقد جاءت زيادة علم، وزيادة العلم توجب التقديم، فأقدم الحرام من هذا الوجه، وبعض العلماء يقول: لا، أقدم الحلال؛ لأن الأصل إباحة الأشياء؛ والشريعة شريعة تيسير؛ والنبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وهذا كله مما يكون فيه اختلاف أنظار العلماء، وتحتك وتصطدم فيه الاجتهادات بين الأئمة، وعندها يظهر فتح الله على من فتح عليه من واسع علمه. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يلهمنا الحق ويرزقنا اتباعه، وأن لا يجعله ملتبسا علينا فنضل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم. حكم من علق الطلاق بوضع ذكر أو أنثى فوضعت خنثى السؤال ما الحكم لو ولدت خنثى وقد قال لها: إن ولدت ذكرا أو إن ولدت أنثى؟ الجواب الخنثى في الأصل أن العلماء -رحمهم الله- يعطونه حكم الأنثى، ولذلك يعتبرونه مندرجا تحت القاعدة المشهورة: (اليقين لا يزال بالشك) ، فهو متردد بين الأنثى وبين الذكر، فاليقين أنه أنثى حتى نتيقن أنه ذكر، وإن كان في الواقع أنه بين الذكر والأنثى، فإذا ولدته على أنه خنثى وكان فيما بينه وبين الله قد اشترط تمحض الذكورية أو تمحض الأنوثة فلا طلاق؛ لأنه ليس بذكر محض ولا بأنثى محض، فإذا قصد أن يكون ذكرا محضا أو أنثى محضا، وكان أثناء الولادة لم يتمحض ذكرا ولم يتمحض أنثى، فاختار بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- أنه في هذه الحالة يحكم بعدم الطلاق؛ لأنه شرط فيما بينه وبين الله عز وجل أن يطلق الطلقة إن تمحض ذكرا وأخرجته ذكرا، ويطلق طلقتين إن تمحض أنثى وأخرجته أنثى، والخنثى ليس بذكر محض ولا بأنثى محض، ولذلك إذا تلفظ بهذا اللفظ وبينه وبين الله عز وجل أنه يقصد كونه ذكرا محضا أو أنثى محضا، فإنه لا يحكم بالطلاق، وزاد من ذكرنا من مشايخنا فقال: أما لو تبين بعد وضعه مباشرة أنه ذكر أو أنثى فحينئذ لا إشكال ويحكم بما تميز وآل إليه حاله، وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: عندي شبهة إذا كان التميز طارئا بعد زمان، لاحتمال أن يكون مراده متمحضا الذكورة والأنوثة أثناء الخروج وليس مراده أن يتميز بعد ذلك؛ لأنه ربما خرج مشكلا أثناء الوضع والولادة، ثم تميز بعد الوضع والولادة بسنوات، وقد يتميز عند قرب البلوغ، ولذلك فالأصل يقتضي أنه إذا كان مراده أثناء الوضع، أن يكون ذكرا محضا أو أنثى محضا فلا طلاق، وهذا مثل قوله: إن كان أول ما تلدينه ذكرا فطلقة، وإن كان أول ما تلدينه أنثى فطلقتان، فولدتهما معا فإنها لا تطلق، وهذا قول جمهور العلماء؛ لأنه قال: إن كان أول ما تلدينه، مع أن الذكر موجود والأنثى موجودة؛ لأنه علق على صفة، فهو إذا استصحب الولادة صفة مؤثرة كأن يكون بينه وبين الله أن تتمحض الولادة بالذكورة أو بالأنوثة فحينئذ تؤثر الصفة ويحكم بالطلاق على التفصيل الذي ذكرناه، والله تعالى أعلم. بالنسبة للمسألة الماضية كنا نركز في الجواب على مسألة الشبهة وتردد الشبهة، لكن السائل لعله يقصد تعارض قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) ، مع قاعدة العمل بالشبهين أو إعمال الشبهتين، إذا كان له شبه من حرام وشبه من حلال، أنا فيما يظهر لي من السؤال: أنه كيف يجمع بين كوننا نعمل بالشبهتين، ولماذا لم نرجع إلى قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) ؟ إن كان هذا مراده فالجواب هو: أن قاعدة (اليقين لا يزال بالشك) في حال وجود الغلبة، مثلا: شخص توضأ للظهر، ثم حضرت صلاة العصر وشك هل خرج منه شيء أو لا؟ فاليقين والغالب أنه لم يخرج شيء؛ لأن الأصل كونه متوضئا متطهرا، وحينئذ لا تعارض، فعندنا أصل ثابت، لذا قالوا في القاعدة: (الأصل بقاء ما كان على ما كان) ، لكن في الشبهين تعارض أصلان بدون ترجيح، ففي قصة ابن زمعة إذا جعلت الولد المختصم فيه ابنا، فحينئذ يكون ابن زمعة ويجوز أن يدخل على أم المؤمنين سودة بنت زمعة وتثبت المحرمية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الولد للفراش) فالمرأة كانت تحت زمعة وزنى بها الرجل، فإذا جئنا ننظر إلى الأصل الموجود من كونها فراشا لـ زمعة فهذه الأمة تبع لـ زمعة فولدها تبع لـ زمعة، ولا إشكال ويحكم بكونه ولدا للفراش. لكن إذا جئنا ننظر إلى القرائن الموجودة من كونه فيه شبه ممن يدعى أنه ولده بالزنى، فحينئذ يقال: إنه ولده، ويؤثر فيه، وهذا على حكم الجاهلية؛ فبعض الأمور أبقيت على حكم الجاهلية، مثل الأنساب، فما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أنكحة الجاهلية لم تتوفر فيها شروط الإسلام فتكون باطلة، فالأنساب نبه العلماء على أنها تبقى على حكم الجاهلية، فإذا جئنا ننظر إلى الولد من حيث الشبه والصفات وجدنا فيه الشبه بمن زنى، فهذا يقتضي أن يلحق به، لكن في الشرع لا يلحق به وإنما يكون ولد زنى فلا يكون محرما لـ سودة بنت زمعة رضي الله عنها وأرضاها، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تحتجب منه، لأن فيه شبها يدل على أنه ليس للفراش، وأبقى حكم الفراش بناء على الأصل، فأعمل الأصلين، وهذا من باب تردد الشبهين، ولم يوجد أصل نرجح به أحدهما على الآخر، بخلاف الوضوء، فعندنا أصل أنه متطهر، وهو يشك هل خرج منه شيء أو لا؟ فنقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، ونعمل بقاعدة: (اليقين لا يزال بالشك) ، ثم القاعدة تدلك على هذا، فاليقين لا يزال بالشك، معناه: أن هناك أصلا يمكن الرجوع إليه، وشبهة عارضة، وشكا عارضا، لكن في الشبهتين المستويتين يكون من باب تعارض الأصلين، مثل مسألتنا التي معنا، الأصل أنه أجنبي، والأصل أنه ولد، فهذان أصلان متضادان، فهو ولد لـ زمعة لأنه صاحب الفراش، وولد لذاك على أنه ألحق بالشبه، والشبه مؤثر، فتعارض الأصلان وكل منهما معتبر في بابه. ومن أمثلة تعارض الأصلين وأحدهما طارئ والثاني قديم: إذا رفع المصلي رأسه من الركوع هل يقبض يديه أو يسبلهما؟ إذا جئت تنظر إلى الأصل تقول: الأصل أن المصلي لا يتحرك حركة زائدة، ولا يقف بصفة زائدة إلا بدليل صريح؛ لأنه إذا قبض يديه سيعمل حركة، والأصل يقتضي أن يسبل يديه، فالأصل العام أن يسبل حتى يدل الدليل على القبض، فتغلب جانب الإسبال، أو تقول: الأصل أنه قابض قبل الركوع، والأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا رفع رأسه من الركوع رجع إلى الأصل الذي كان عليه. فالقول الأول معتمد على أصل في الصلاة معتبر ولذلك قالوا: الأصل السكوت حتى يدل الدليل على الكلام، والأصل عدم الحركة حتى يدل الدليل على الحركة، فالأصل القديم مستند إلى نص في الصلاة (مالي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شمس، أسكنوا في الصلاة) أي: لا تتحركوا ولا تفعلوا شيئا إلا إذا أمرتم بالحركة والفعل. فشككنا في هذه المسألة هل قبضه عليه الصلاة والسلام قبل الركوع يستصحب لما بعد الركوع؟ أم نقول: إن ما بعد الركوع حالة مستقلة تحتاج إلى نص في القبض؟ من قبض يرجح هذا الأصل فهو على سنة، ومن أسبل يرجح هذا الأصل فهو على سنة، فهذا يعتبر من باب تعارض الأصلين، فهذه أصول متضادة ما تستطيع أن ترجح أحدها، لو قلت مثلا: الأصل أن يسبل يديه؛ لأنه ما عندي دليل على القبض، يرد عليك ويقول: الأصل في الصلاة أن يقبض، فترد عليه وتقول: أصل القبض يكون قبل الركوع، وما بعد الركوع ليس له حكم ما قبل الركوع؛ لأن ما قبل الركوع فيه قراءة، وبعد الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يقرأ، وقد جاء النص: (حتى عاد كل فقار إلى موضعه ... ) المهم أن هذا من باب تعارض الأصلين وله نظائر كثيرة، والمقصود من هذا: أنه لا يتعارض تقديم الأصل مع مسألة الشبهات لما ذكرنا من الأدلة. وصية في تربية الأولاد السؤال بعض الآباء يقتصر في تربيته لأبنائه على توفير المأكل والمشرب ويغفل عن التربية من حيث التأديب والتهذيب، فهل من وصية حول هذا الأمر؟ الجواب أما بالنسبة لتربية الأولاد فالكلام حولها لا شك أنه يحتاج إلى وقت طويل، لكن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وإذا أراد الله أن يقر عين الوالد في ولده رزقه أمورا تهيئ له البركة فتوضع له في ولده، وهذه الأسباب: أولها وأعظمها: دعاء الله أن يصلح له الذرية والولد، كما حكى الله عن أنبيائه وصالح عباده، فقال نبيه: {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} [آل عمران:38] أي: لا تهب لي ذرية فقط، ولكن أسألك أن تكون طيبة، {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} [آل عمران:38] وقال الله عن عباده الصالحين: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان:74] ، فيسأل الله في أوقات الإجابة أن يصلح له ذريته؛ لعلمه أنه إذا صلحت ذريته فإن الله عز وجل يقر عينه بهم في الدنيا والآخرة، فكم من بهجة للنظر، وكم من سرور للقلب، وكم من طمأنينة للنفس وراحة وبهجة بالولد الصالح، فهو خير معين بعد الله عز وجل على شدائد الدنيا، بل حتى إن الرجل في بيته مع زوجه لربما نزلت به مصيبة حتى كادت امرأته أن تطلق عليه، فيدخل الولد الصالح فيصلح ما بينه وبين زوجه، وهذه من بركات الذرية الصالحة، وإذا كان الولد صالحا كان قائما عليه إذا مرض، يقوم على شأنه ويحتسب أجره عند الله عز وجل، فيجد خيره وبركته ما شاء الله أن يجد. وكذلك من الأسباب التي تهيئ الذرية الصالحة والولد الصالح: التربية الصالحة، والتربية تفتقر بالاختصار إلى أمرين مجملين: أولهما: أن ينظر الولد إلى الصلاح في قولك وعملك، وتكون قدوة له، فإذا رآك بمجرد أن تسمع داعي الله إلى الصلاة تبكر وتبتكر، وتشحذ همتك بالتبكير إلى بيوت الله، وعمارتها بذكر الله، خرج كما خرجت وبادر كما بادرت، ولربما غيبك لحدك وغيبك قبرك فتذكرك عند كل صلاة فترحم عليك، فالأب الصالح الذي يترجم بالقدوة الصالحة وبالعمل الصالح معاني للصلاح، يخط لولده صراطا مستقيما، وسبيلا قويما، يهتدي به ولده وولد ولده من بعده، حتى ينال أجره وأجر من اقتدى بذلك الهدي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما الأمر الثاني في القدوة: إذا كانت القدوة هي الأساس، فينبغي على الوالد أن يهيئ لنفسه جميع أسباب القدوة، فإذا دخل البيت فليدخل بالحنان والبر والإحسان فيكون خير والد لولده، وما جبلت قلوب الأبناء على حب الآباء بشيء مثل الإحسان، ومثل الرفق الذي ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وهذا رسول الأمة صلى الله عليه وسلم وهو ساجد بين يدي الله يأتي ولده ويمتطي ظهره، فلما امتطى ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سكن عليه الصلاة والسلام ولم يزعجه ولم يقلقه، فشهد ابنه بحنانه ورحمته وبره عليه الصلاة والسلام، قال بعض العلماء: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن الحسن والحسين -على اختلاف الرواية- في الخلوة من ركوب الظهر لما ركبه أمام الناس، معناه: أنه كان إذا خلا مع الحسن والحسين يدللهم، ويدخل السرور عليهم إلى درجة أنهم يمتطون ظهره، ففعلا ذلك أمام الناس، فالقدوة بالإحسان وبالكلمة الطيبة وبالبر. الكلمة الأخيرة: أن يكون هناك تعليم وتوجيه وإرشاد بكلمة طيبة، ونصيحة صادقة، وينبغي على كل والد وكل والدة أن تفرق بين النصيحة التي تكون ناشئة من أسباب دنيوية وغيرة على العرض وعلى النفس، وبين النصيحة الخارجة من قلب يخاف الله، يريد أن يقي نفسه وأهله من نار الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهب لنا ولكم ذرية صالحة تقر بها العين. اللهم بارك لنا في أزواجنا وذرياتنا، وارزقنا خير الولد وخير الذرية إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________________
|
#572
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (445) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [6] قد يحلف الزوج بالطلاق على أمر يريد أن يمنع زوجته منه أو يحثها عليه، فيترتب على هذا الحلف مسائل في الطلاق بحثها العلماء رحمهم الله بتفاصيلها. تعليق الطلاق على الطلاق بـ (كلما) أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق. فوجدا، طلقت بالأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثا] . تقدم معنا أن الطلاق له حالتان: الحالة الأولى: أن يوقعه الزوج منجزا، كقوله لامرأته: أنت طالق، فهذا طلاق منجز، حيث أمضى طلاقها دون أن يعلقه على شيء. الحالة الثانية: أن يكون معلقا، والتعليق له مسائل وأحكام اعتنى العلماء -رحمهم الله- ببيانها وتفصيلها، وبين المصنف -رحمه الله- مسائل التعليق، وذكرنا أن التعليق لا يكون إلا من زوج، وبينا أنه إذا وقع من الأجنبي فلا يقع على أصح أقوال العلماء رحمهم الله. ثم هذا التعليق يشتمل على ربط حصول مضمون جملة على حصول مضمون جملة أخرى، وبينا أن لهذا التعليق أدوات يتم من خلالها ربط الجمل بعضها ببعض، ومنها ما يقتضي التكرار، ومنها ما لا يقتضي التكرار، وبينا مسائل الطلاق بالشروط، وفصلنا جملة من تلك المسائل، وما زال المصنف -رحمه الله- في نوع خاص من التعليق، في معرض بيانه لتعليق الطلاق على الطلاق، فالطلاق قد يعلق على وقوع شيء إذا وقع وقع الطلاق، فيعلق إما على أقوال وإما على أفعال، ثم هذا الشيء إذا كان من جنس الطلاق فإنه يعتبر فردا من أفراد تعليق الطلاق على وقوع الشيء، لأن التعليق قد يكون على الأقوال وقد يكون على الأفعال، والطلاق من الأقوال، فالمصنف -رحمه الله- لا زال في معرض بيانه للمسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق على الطلاق، وتعليق الطلاق على الطلاق تارة يكون تعليقا لطلقة على وقوع طلاق منه، وتارة ينسحب الطلاق ويتكرر. قال رحمه الله: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق] . الفرق بين: (كلما طلقتك) و (كلما وقع عليك طلاقي) هناك فرق بين الجملتين، فقوله: (كلما طلقتك) لا تقع الطلقة إلا بعد وقوع الطلاق منه، فأصبح الطلاق معلقا عليه هو، وليس على وقوع الطلقة، وهناك فرق بين أن يعلق الطلاق على وقوعه من المطلق وبين أن يعلق الطلاق على مجرد وقوع الطلاق، فإذا علقه على تطليقه فلا تطلق إلا بتطليقه، ويكون الطلاق منحصرا في ذلك التطليق الذي يقع منه، وأما (كلما وقع عليك طلاقي) فقد علق الطلاق على وقوع الطلاق، فينسحب الطلاق وراء بعضه، فتطلق لوقوع الشرط الطلقة الأولى، فإن وقعت الطلقة الأولى جاء الشرط وتحقق للطلقة الثانية؛ لأنه كلما وقع عليها طلاق تقع طلقة ثانية لشرط ثان مستأنف، ويكون هذا مقتضيا للتكرار. اللفظة الأولى: كلما طلقتك فأنت طالق، فلو قال لها: أنت طالق فإنها تطلق عليه طلقتين: الطلقة الأولى: بقوله: أنت طالق، والطلقة الثانية: مرتبة على شرط بينه وبين الله، أنه إن طلقها فهي طالق، فيكون الطلاق معلقا على وقوعه من المطلق، ولا تستطيع أن تحدث طلقة ثالثة بعد هاتين الطلقتين لأنه يتقيد الطلاق في هذا الشرط بأن يحصل منه الطلاق، ولم يحصل منه إلا مرة واحدة فلا يتكرر. اللفظة الثانية: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فقد علق الطلاق على وقوع الطلاق، فإذا قال لها: أنت طالق، وقع عليها الطلاق فتطلق الطلقة الثانية، فإذا طلقت الطلقة الثانية، وقع عليها طلاق فوقع الشرط فتطلق الثالثة، هذا الفرق بين الصورة الأولى والصورة الثانية، يقول رحمه الله: (وإن قال كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق) . (كلما طلقتك) أسند إلى نفسه، (كلما وقع عليك طلاقي) أسند الطلاق ورتبه على وقوع الطلاق، وفي كلتا الصورتين لا يمكن أن يقع الطلاق في الابتداء إلا إذا حصل منه طلاق، فإذا حصل منه طلاق في قوله: (كلما طلقتك) فأسند الطلاق إلى نفسه؛ فتطلق طلقة واحدة مع الطلقة التي طلقها، لكن في قوله: كلما وقع عليك الطلاق مني فأنت طالق، فإنه إذا طلقها الطلقة الأولى؛ جاءت الطلقة الثانية بالشرط مثل الصورة الأولى، لكن هناك أمر آخر مرتب على الطلقة الثانية، وهو أنه كلما وقع طلاق تقع طلقة، فوقعت الثانية بالشرط ووقعت الثالثة بعدها بالوقوع؛ لأنه وقع طلاق فتحقق الشرط مرتين، ففي المرة الأولى تحقق بتطليقه، وفي المرة الثانية تحقق بوقوعه لتحقق الشرط فتطلق عليه ثلاثا. ففي اللفظ الأول تطلق عليه مرتين، الطلقة الأولى بناء على لفظه وتطليقه، والطلقة الثانية بناء على شرطه، وأما في اللفظ الثاني: فإنها تطلق عليه ثلاثا، تطلق عليه الطلقة الأولى؛ لأنه طلق، وتطلق عليه الطلقة الثانية؛ لأنه وقع عليها طلاقه، وتطلق عليه الطلقة الثالثة لأنه وقع طلاقه بالطلقة الثانية، ولو كان الطلاق عشرين لانسحب الطلاق وراء بعضه حتى يستتم العشرين، هذا الفرق بين الصورة الأولى والثانية. في الصورة الأولى: التكرار بوقوع الطلاق منه، وفي الصورة الثانية: التكرار بوقوع الطلاق؛ و (كلما) تقتضي التكرار، فيتكرر عليه الطلاق في الصورة الأولى بتكرره منه، كلما وقع منه طلاقه، ولا يتكرر إذا لم يقع منه طلاق، وفي الصورة الثانية: تقتضي (كلما) التكرار لحدوث الطلاق ويسحب بعضه بعضا، فالطلقة الأولى موجبة للثانية، والثانية موجبة للثالثة، وهكذا حتى يستتم عدد الطلاق. تعليق الطلاق على الحلف حكم إيقاع الطلاق بالحلف بالطلاق قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال] . شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، والحقيقة أن الحلف له باب مخصوص وهو باب الأيمان، والحلف شيء والطلاق شيء آخر، لكن تجوز العلماء وتسامحوا في إطلاق الحلف على الطلاق، وهذا لا يستلزم أن الطلاق يأخذ أحكام اليمين كلها، إنما هذا تجوز لوجه الشبه بين اليمين الذي هو الحلف وبين الطلاق، ووجه الشبه ينحصر في صور خاصة، منها: الطلاق في هذه الصورة في تعليق الطلاق بالشرط لقصد الكف أو الحمل على الفعل، فإذا علق الطلاق على شيء زاجرا امرأته عن ذلك الشيء أو حاثا لها على ذلك الشيء، فإنه حينئذ يكون في معنى اليمين من جهة الحث على الترك أو على الفعل، لا أنه يمين؛ لأن الحلف لا يصلح بغير الله عز وجل، ولا ينعقد بغير الله عز وجل: (ومن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) ، فليس بيمين شرعي من كل وجه، وإن كان بعض العلماء يرى أنه يكفر كفارة يمين، لكن هذا قول مرجوح، وجمهور السلف والأئمة -رحمهم الله- على وقوع الطلاق المعلق بالشرط الذي ألزم فيه المكلف نفسه فيما بينه وبين الله أن امرأته إن خرجت طلقت عليه، فلا فرق بين قوله: إن جاء الغد أو إن طلعت الشمس فأنت طالق، وبين قوله: إن قمت فأنت طالق، أو إن قعدت، أو إن سلمت على أبيك، أو إن زرت أهلك، فكل منهما بمعنى واحد، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- ومنهم الأئمة الأربعة، فإذا علق فيما بينه وبين الله عز وجل من أجل أن يحث امرأته على فعل أو يمنعها ويزجرها من فعل فإنه في معنى اليمين من جهة الحث والمنع، لكنه لا يأخذ حكم اليمين من كل وجه، هذا من حيث الأصل، قال بعض العلماء: إنه يكون في حكم اليمين، وهذا قول مرجوح لأنه مبني على القياس والنظر، وأنتم تعلمون أن الطلاق مبناه تعبدي، وألفاظه في الأصل تعبدية في الكيفية، فالشرع جعل الطلاق جده جد وهزله جد، يقول العلماء: لفظ الطلاق على الخطر والمخاطرة، فالأصل أنه لا يتكلم متكلم بهذا الطلاق إلا ألزمه الشرع به، هذا هو الأصل، فلن يستطيع أحد أن يسقط هذا الإلزام الذي ألزم به المكلف نفسه إلا بدليل شرعي يبين أنه لا يأخذ حكم الطلاق، حتى الهازل الذي لا يقصد ولا يريد إيقاع الطلاق أمضى الشرع عليه الطلاق، مع أنه لا نية له، والشرع يعظم أمر النية، وقد تقدم بيان حكمة الشرع في اعتماد الطلاق، وأخذ الناس فيه بالحزم وبالجد، حتى أن الرجل لو قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله قصد أنها طالق من حبل؛ فإنها تطلق عليه قضاء، كل هذا حتى لا يتلاعب الناس بهذا اللفظ المبني على الخطر، وأنه ينبغي أن يحتاط في أمر دينه، فهو حينما يقول لامرأته: إن خرجت من الدار فأنت طالق، لا يختلف اثنان أنه فيما بينه وبين الله عز وجل يريد إيقاع الطلاق إن خرجت من داره، وكونه يريد أن يمنعها أو يريد أن يحثها على الفعل؛ هذا أمر خارج عن صلب الموضوع، صلب الموضوع أن الله أعطاه إذا تلفظ بهذا الطلاق أن يمضي عليه الطلاق، هذا الذي مضت عليه الشريعة في جد الطلاق وهزله، وإذا ثبت كونه يقصد المنع فهذا أمر جاء تبعا، وشرع الله ألزم كل مطلق بطلاقه، وجمهور العلماء على وقوع الطلاق المعلق بشرط سواء تضمن الشرط حثا أو منعا وزجرا بحيث يقصد منه أن يحث امرأته على شيء أو تمتنع منه، فإن وقع الشرط وقع المشروط، فلو قال لها: إن خرجت فأنت طالق، فكل شخص يعرف معنى الطلاق، ويعرف أنه يقول لزوجته: إن خرجت -يعني: بينه وبين الله- فأنت طالق، فلا فرق بين قوله: إن خرجت فأنت طالق، وبين قوله: إن جاء الغد فأنت طالق، هذا قصده في الزمان، وهذا قصده في وقوع الفعل أو عدم وقوعه إن لم تقومي، إن لم تذهبي، إن لم تأتي، إن لم تعملي، كل هذا بينه وبين الله، وجاء بصيغة معروفة في لسان العرب، وربط مضمون جملة بمضمون جملة أخرى، فنلزمه فيما بينه وبين الله بطلاقه، هذا من حيث الأصل. إذا ثبت هذا، فإن تسمية الطلاق حلفا ليس المراد أنه من كل وجه يأخذ حكم اليمين، ولا تشرع فيه كفارة اليمين، وما حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحدا في الطلاق أن يكفر كفارة يمين، ولا عن واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفتى أحدا في مسألة من مسائل الطلاق أن يكفر كفارة يمين، بل جماهير السلف من العلماء والأئمة -رحمهم الله- على أن من علق طلاقا بينه وبين الله عز وجل على وقوع الشيء الذي اشترطه؛ أنه يلزم بالطلاق، ولا فرق في ذلك بين أن يعلق على زمان أو مكان أو بين أن يعلق على وقوع شيء أمرا وحثا أو زجرا وتركا. تعليق الطلاق على الحلف بالطلاق شرع المصنف -رحمه الله- في تعليق الطلاق على الحلف، وكما ذكرنا أنه إذا قال لها: إن ذهبت إلى أمك، إن ذهبت إلى أهلك، إن قمت، إن قعدت، إن لم تتكلمي، إن لم تعملي، إن تكلمت فأنت طالق، إن خرجت فأنت طالق، وكان يقصد منعها من الخروج، أو منعها من الكلام. إلخ. هذه يسميها العلماء الحلف بالطلاق، ويتجوزون في تسمية الطلاق بالحلف. فهنا كي يبين المصنف حكم التعليق على وجود أمر آخر مرتبط بالحث على فعل شيء أو ترك شيء قال رحمه الله: (إذا قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: أنت طالق إن قمت، طلقت في الحال) . (إذا حلفت بطلاقك) أي: إذا وقعت مني صيغة الحلف بالطلاق فإنك طالقة، بناء على هذا: ننتظر منه أن يقول هذه الصيغة، فلو قال لها بعد هذا: إن قمت فأنت طالق، فإنها تطلق؛ لأنها وجدت صيغة الحلف؛ لأنه لا يريد منها القيام إن قال لها: إن قمت، أو قال لها: إن خرجت، فهو لا يريد منها الخروج، فهذا في معنى الحلف لما ذكرنا، فعلق الطلاق على الحلف وكأنه قال: إن علقت طلاقك على فعلك شيئا أو تركك شيئا فأنت طالق، فإن وقع منه تعليق على هذا الوجه فإنه يحكم بالطلاق، سواء قال لها: إن قمت، إن قعدت، إن أكلت، إن تكلمت ونحو ذلك من صيغ التعليق فإنها تطلق في الحال، ولو قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، قال ذلك -مثلا- الساعة الواحدة ظهرا، ثم الساعة الثانية قال لها: إن ذهبت إلى بيت أبيك فأنت طالق، طلقت في الساعة الثانية ظهرا بالتعليق الأول؛ لأنه وقع منه تعليق على الخروج، وهو بمعنى الحلف، ثم ننتظر إن خرجت إلى أبيها وقعت الطلقة الثانية، وهذا مبني على ما ذكرناه من مسألة التعليق على الحلف. قال المصنف رحمه الله: [لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرط لا حلف] . تقدمت معنا مسائل التعليق على الزمان، وإضافته إلى الزمان المستقبل، وبينا الصور والمسائل التي ذكرها العلماء في هذا الموضع. صورة المسألة التي ذكرها المصنف: أن يقول لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن طلعت الشمس فأنت طالق، (إن طلعت الشمس) ليست بحلف؛ لأنها لا تتضمن حثا على فعل، ولا منعا من شيء، فهذه الجملة ليست عندهم في معنى اليمين ولا في معنى الحلف، وقالوا: في هذه الحالة علق طلاقه على طلوع الشمس فإن طلعت الشمس حكم بطلاقها، وفي هذه المسألة بعض العلماء يقول: إنها تطلق حالا، والجمهور على أنها تطلق بطلوع الشمس، فعلى هذا إذا اشترط الحلف فلا بد وأن تتضمن صيغة التعليق أمرا بشيء أو نهيا عنه كما ذكرنا. تكرار صيغة (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق) قال المصنف رحمه الله: [وإن حلفت بطلاقك فأنت طالق أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فاثنتان وثلاثا فثلاث] . (إن حلفت بطلاقك فأنت طالق) يقع الطلاق فيها بصورتين: الصورة الأولى: أن يحلف وتقع منه صيغة ثانية غير الصيغة التي قالها أولا، مثال ذلك: أن يقول: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق؛ ثم يقول لها: إن قمت فأنت طالق، فإنها تطلق في الحال؛ لأنه حلف بطلاقها بقوله: إن قمت، وهي صيغة للحلف غير الصيغة التي ذكرها أولا. الصورة الثانية: أن يكون التطليق بهذا التعليق بنفس الصيغة، مثال ذلك: أن يقول لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم بعد وقت قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، فهذا حلف بالطلاق فتطلق عليه، ولو جاء مرة ثانية وقال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق فالطلقة ثانية، وإن جاء مرة ثالثة وقال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، تطلق الطلقة الثالثة؛ لأنه في كل إعادة يعيدها وقعت منه صيغة الحلف، ووقع منه التعليق الذي يوصف بكونه حلفا عند من يسميه بهذا الاسم من العلماء رحمهم الله. إذا: (إن حلفت بطلاقك) لها صورتان: إما أن يحلف بطلاقها حقيقة وحينئذ لا إشكال، إذا وقع الشرط وقع المشروط. وإما أن يكرر نفس الصيغة، وهي من صيغ الحلف. فالتطليق يكون إما بوقوع حلف خارج عن الصيغة الأساسية أو يكون بتكرار الصيغة نفسها؛ لأنه فيما بينه وبين الله أنه مطلق لها إن وقعت منه صيغة الحلف، فإن طلقنا عليه في المرة الأولى فقد طلقنا عليه بصيغة الحلف وتحقق الشرط، وهكذا في المرة الثانية، وهكذا في المرة الثالثة. (أو إن كلمتك فأنت طالق وأعاده مرة أخرى طلقت واحدة ومرتين فاثنتان، وثلاثا فثلاث). (أو إن كلمتك فأنت طالق) في هذه الحالة لو جاء وقال لها مرة ثانية: إن كلمتك فأنت طالق، فقد كلمها، مثلا: قال لها الآن: إن كلمتك فأنت طالق، ثم بعد دقيقة قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، فإنها تطلق عليه، فإن رجع مرة ثانية وقال: إن كلمتك فأنت طالق، فطلقة ثانية، وإن رجع فثالثة؛ لأنه تكلم، وإذا وقع الشرط فقد وقع المشروط، بناء على ذلك: يحكم بطلاقها ثلاثا إن تكرر منه ذلك ثلاثا. تعليق الطلاق على الكلام قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، فتحققي، أو قال: تنحي، أو اسكتي، طلقت] . هذه أمثلة لا يستغرب الإنسان منها، فهي نوع من الرياضة لذهن الفقيه وطالب العلم الذي سيجلس غدا للفتوى أو للقضاء أو للتعليم، ومن علم بهذه المسائل الغريبة العجيبة فإنه سيأتيه مثلها، ولكل أهل زمان أسلوبهم وطريقتهم، فلا يظن الطالب أن هذا شيء غريب معقد، بل هذا نوع من الترويض، وهو مدروس من العلماء رحمهم الله، وهم أبعد من أن يضيعوا أوقاتهم وأوقات من يدرس كتبهم، بل هذه المسائل تدرس بعناية، ويراد بها الترويض للذهن على المسائل الغريبة في الطلاق، وسيأتيك من أسئلة الناس ما لم يخطر لك على بال، فالعلماء يضربون أمثلة متعددة، وكلمات غريبة، ويقصدون منها وضع ضوابط للفقيه بحيث إذا سئل عن أي مسألة يعرف أصلها، فقد يأتي رجل لم يقرأ الفقه البتة؛ ويأتيك بشيء أشبه ما يكون بما ذكره العلماء، وقد رأينا في مجالس علمائنا ومشائخنا من يأتي بكلمات مبنية على كلام العلماء رحمهم الله، لكنها اختلفت باختلاف عادات الناس وأساليبهم، فالكلمات التي يذكرها العلماء مثل قولهم: إذا علق الطلاق على شيء، إذا علق على شيء آخر؛ كل هذا ترويض لطالب العلم الذي سيكون فقيها أو مدرسا أو مفتيا أو قاضيا، حتى لا يستغرب شيئا مما يقع بين يديه، ويستطيع أن يقيس، والقاضي تأتيه المسائل من كل حدب وصوب، وليست معينة، وكذلك المفتي، وكذلك من يدرس ويعلم. فنحن دائما في المسائل الغريبة ننبه على هذه التنبيهات لأنها تربط طالب العلم بهذه الأشياء، وتجعله ينتبه للأساسيات، ونحن لا يهمنا تحقق الكلمة، والذي يهمنا الأصل والقاعدة والضابط الذي يبنى عليه، وترتبط به مسائل الباب، والذي يدرس الفقه بلا معرفة لقواعده وضوابطه لا يستطيع أن يتصدر للفتوى في المسائل الغريبة التي لم يدرسها، لكن الذي يعرف الضوابط والأصول يستطيع أن يستذكر، ويستطيع أن يحفظ، ويستطيع أن يستحضر عند الحاجة إلى ذلك. قوله: (إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، أو قال: تنحي، أو اسكتي، طلقت) . هذا الفصل فيه تعليق الطلاق على الكلام، إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق، فتحققي، جملة (تحققي) كلام يتحقق به ما اشترطه على نفسه: إن كلمتك فأنت طالق، فأي شيء يصير بعد هذه الصيغة من الكلام ويصدق عليه أنه كلام، فإنه يحكم بوقوع الطلاق به، فإذا قال لها: قومي، اقعدي، اسكتي، ارفعي هذا، ضعي هذا، فقد وقع الشرط ويحكم بطلاق المرأة. هل الإشارة كالكلام؟ الجواب هو قال: إن كلمتك، والإشارة شيء، والكلام شيء آخر، فالكلام يكون صوتا مشتملا على الحروف الهجائية، فإذا حصل منه كلام حكم بالطلاق، وإن حصلت منه إشارة فلا طلاق، فلا بد وأن يتحقق الشرط على الصفة المعتبرة: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، تثبتي، تريثي، انتبهي، وقعت جملة من الكلام بعد صيغة الشرط فيحكم بطلاقها. لاحظ حينما قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فانتبهي، البعض قد يظن أنها مرتبطة، والواقع أنه كلام بعد الصيغة، فتطلق به، كما لو قال لها بعد عشر دقائق: احذري، فلو قال لها: انتبهي احذري، موصولا بصيغته أو مفصولا فالحكم واحد، ومراد المصنف: أن اتصال الكلام بالصيغة وانفصاله سواء في الحكم، وانظر إلى دقته: مثل بكلام متصل بالصيغة حتى تفهم أنه إذا انفصل فتطلق من باب أولى وأحرى؛ لأنه لو قال لها: (إن كلمتك فأنت طالق، ثم كلمها، طلقت) ، قد يظن الظان أنه ما يقع إلا إذا كلمها بعد الصيغة فقط، لكن قال المصنف: إن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي، والكلام متصل بالصيغة، فإذا حكم بطلاقها بشيء متصل فمن باب أولى أن يحكم بطلاقها إذا انفصل الكلام. تعليق الطلاق على الابتداء بالكلام قال المصنف رحمه الله: [وإن بدأتك بكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه ما لم ينو عدم البداءة في مجلس آخر] . (إن بدأتك بكلام فأنت طالق، قالت هي: إن بدأتك بالكلام فعبدي حر) إذا كل منهما قد اشترط شيئا، الرجل يشترط الطلاق إذا ابتدأها بالكلام، وهي تشترط العتق إذا ابتدأته بالكلام، فهو حينما قال لها: إذا ابتدأتك بكلام فأنت طالق، هذه الصيغة فيما بينه وبين الله أن زوجته طالق إن كان هو المبتدئ أولا بالكلام، فلما تكلمت بعد الصيغة أسقطت هذا الحلف، وأسقطت هذا التعليق؛ لأنها ردت عليه وقالت: إن بدأتك، ولما ردت عليه سقطت البداءة منه، وفي هذه الحالة لا يتحقق شرطه، ويحكم برفع الصيغة، ولا يقع الطلاق، ولا يحكم بوقوعه إلا إذا قصد البداءة في مجلس آخر، مثلا قال لها: لا تكلميني في الغرفة، قالت: وأنت لا تكلمني في الغرفة، قال: إن بدأتك بالكلام في الغرفة فأنت طالق، قالت: وإن بدأتك بالكلام في الغرفة فعبدي حر، في هذه الحالة الكلام وقع قبل المحل المعتبر بالشرط، فننتظر حتى يدخلا الغرفة، ثم من بدأ منهما وقع عليه ما اشترطه. وبهذا يفرق بين أن يقول: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، يعني: بعد كلامي هذا، فإذا قالت له: إن بدأتك، أسقطت البداءة كما في الصورة الأولى، وبين أن يقصد مجلسا آخر مثل ما ذكرنا في الصورة الثانية، أو يقصد موضعا آخر أو زمانا آخر، مثلا: قال لها: لا تكلميني عند أبي، قالت: وأنت لا تتكلم عند أبي، قال: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، قالت: وإن بدأتك بالكلام فعبدي حر، معناه: عند حضور الوالد، وحينئذ يبقى الاثنان أخرسين وإلا وقع الطلاق ووقع العتق، فتسكت ويسكت، فأيهما خاطب الثاني فإنه يحكم عليه بما التزم به، إن كان الرجل فطلاق وإن كانت المرأة فعتق، هذا بالنسبة لمسألة تعليق الطلاق على الكلام.
__________________
|
#573
|
||||
|
||||
![]() تعليق الطلاق بالخروج بغير إذن قال رحمه الله تعالى: [فصل: إذا قال: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق، فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه أو أذن لها ولم تعلم أو خرجت تريد الحمام وغيره أو عدلت منه إلى غيره طلقت في الكل] . عدم جواز خروج المرأة من بيتها بغير إذن زوجها أولا: لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، وهذا أمر لا إشكال فيه وأجمع عليه العلماء رحمهم الله، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فليأذن لها) ، فإذا كانت عند خروجها إلى بيت الله، وخروجها إلى طاعة الله، وخروجها إلى فريضة من فرائض الله عز وجل تستأذن، فمن باب أولى ما عدا ذلك، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذن زوجها، هذا الأصل، وإذا خرجت من دون إذن الزوج، وصارت تخرج بدون إذنه، فإن هذا نشوز، ويحكم بنشوزها وتسري عليها أحكام المرأة الناشزة؛ لأن من حق الزوج على زوجته: أن لا تخرج إلا بإذنه، وهذا حق القوامة الذي تقدم بيانه في الحقوق الزوجية؛ وخروجها بغير إذنه طعن في رجولة الرجل، وحرمان له من حقه في القيام على المرأة، والله يقول: {الرجال قوامون على النساء} [النساء:34] ، فجعل المرأة تحت قوامته؛ لأن أمور الزوجية لا تستقيم إلا بهذا، وإذا صارت المرأة تخرج بدون إذن فهذا نوع من الاسترجال، وقد (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسترجلات) واسترجال المرأة يكون بالكلام ويكون بالفعل، فإذا استرجلت المرأة وصارت تخرج من بيت زوجها بدون إذن زوجها فإنها -والعياذ بالله- يخشى عليها هذا الوعيد الشديد، وهو لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنة الله عز وجل، ومن لعنه الله لم يبق شيء في الأرض ولا في السماء إلا لعنه: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} [البقرة:159] ، نسأل الله السلامة والعافية، فالأصل: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية إلا بإذن الزوج، وله أن يمنع زوجه بقوله: إن خرجت من البيت فأنت طالق، أو يقول لها: إن خرجت من هذه الغرفة فأنت طالق، إما أن يطلق اللفظ ويقول: إن خرجت، دون أن يقيد اللفظ بزمان ولا بوقت معين ولا بظرف معين، وإما أن يقيد ويقول: إن خرجت اليوم فأنت طالق، إن خرجت هذا الأسبوع، إن خرجت هذه الساعة، وهذا كله تقييد يتقيد به تعليق الطلاق. الفرق بين الكل والجزء في تعليق الطلاق بالخروج إذا قال لها: إن خرجت فأنت طالق؛ فوقع خروج من المرأة حكمنا بطلاقها، ويشترط أن يتحقق وصف الخروج، فلو أخرجت يدها، أو أخرجت رجلها؛ فلا طلاق، فإن خروج الجزء ليس كخروج الكل، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدني إلى عائشة رضي الله عنها رأسه وهو معتكف بالمسجد وهي في حجرتها، والمعتكف لا يجوز له الخروج من المسجد، فأخرج جزأه وهو الرأس ولم يحكم بانتقاض اعتكافه، قالت: (إن كان يدني إلي رأسه فأرجله) ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لـ عائشة وهو في المسجد: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) ، لأنها ظنت أنها لو ناولته وأدخلت يدها أنه كدخولها كلها، وليس كما ظن بعضهم أن المعنى: حيضتك ليست في يدك، أي: لا تستطيعين رفع هذا العذر عنك، لأن هذا مجاز، والحديث على الحقيقة، واليد هي المعروفة، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر الحمل على الحقيقة، (إن حيضتك ليست في يدك) أي: أنك إذا ناولتيني باليد، فإنها جزء، والجزء لا يأخذ حكم الكل. إذا ثبت هذا: فالخروج الذي يعلق عليه الطلاق لا بد وأن يقع كاملا، فلو خرج بعضها لم يحكم بطلاقها على التفصيل السابق. حالات وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن إذا خرجت حكم بطلاقها، إلا إذا قيد فقال: إن خرجت بدون إذني فأنت طالق، فخرجت بدون إذنه نقول: تطلق؛ لأنه إما أن يطلق فيقول: إن خرجت فأنت طالق، وإما أن يقيد فيقول: إن خرجت اليوم، فهذا مقيد بزمان، أو إن خرجت بإذني، فهذا مقيد بصفة، فقوله: إن خرجت بدون إذني فأنت طالق، معناه: إن خرجت بالإذن فلا طلاق. (إذا قال: إن خرجت بغير إذني). رتب الطلاق على الصفة، وهي: أن لا يوجد الإذن. (أو إلا بإذني). إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق؛ فما بعد (إلا) يخالف ما قبلها في الحكم، فهو يقول لها: أنت طالق إن خرجت إلا أن تخرجي بإذني، هذا أصل التقدير، فمعنى ذلك: أنها إذا استأذنت لا تطلق، فقوله: إن خرجت بغير إذني أو: إن خرجت إلا بإذني، المعنى واحد، وهو انتفاء الإذن. (أو حتى آذن لك) إذا قال لها: حتى آذن لك فمعناه: أنك ممنوعة من الخروج إلا أن آذن لك وإلا تكوني طالقا إن خرجت بدون إذني، أي: إن خرجت فأنت طالق حتى آذن لك؛ هذا التقدير، واللفظة الأخيرة: إن خرجت فأنت طالق حتى آذن لك، يعني: حتى آذن لك بالخروج. (أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق). (إن خرجت إلى غير الحمام) في هذه الحالة تصبح إما أن يقصد أن خروجها إلى الحمام موجب للطلاق، أو يقصد أنها إن خرجت إلى أي شيء طالق إلا أن تخرج إلى الحمام فلا طلاق، فيقول: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فالمعنى: أنها لو خرجت لشراء حوائجها أو لصلة رحمها أو لبر والديها لا تطلق؛ لأنه قيد طلاقها بالخروج إلى الحمام. وإن قال لها: إن خرجت لغير الحمام فأنت طالق، معناه: أنها إذا خرجت إلى الحمام لا تطلق، وإن خرجت إلى صلة رحمها أو بر والديها أو غير ذلك حكم بطلاقها، وهذا كله ترويض للأفهام لفهم الألفاظ التي يذكرها الناس، والمعنى: أنه يرتب طلاقها ويعلقه على شيء لم يأذن لها به. (فخرجت مرة بإذنه). إن قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فقالت له: يا أبا فلان أريد أن أذهب إلى أبي، قال لها: اذهبي، هذه المرة الأولى، ثم خرجت المرة الثانية بدون إذن، فإن الطلاق يقع بالمرة الثانية لا بالأولى. (ثم خرجت بغير إذنه) خرجت في الأولى بإذنه وخرجت في الثانية بدون إذنه. (أو أذن لها ولم تعلم) يقول لها: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، ثم جلس مع أصحابه أو جلس مع والديها، فندم، وقال: أذنت لها، ولكنها لم تعلم، فخرجت بدون إذنه، فهنا نعلم أنه في الأصل ترتب الطلاق على الخروج بدون إذن، ومعنى نشوز المرأة وخروجها من بيت الزوجية بدون إذن موجود، حتى ولو أذن لها، مثلا: وقع الإذن الساعة الثانية ظهرا، ووقع خروجها الساعة الثالثة عصرا، ولم تعلم بإذن الزوج، فحينئذ المعنى الذي يقصده من نشوزها عليه وعصيانها لأمره قد تحقق، وكونه أذن بدون علمها لا يؤثر، ولذلك يحكم بطلاقها. (أو خرجت تريد الحمام وغيره) قال لها: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام والبقالة، فإنها تطلق. وقد كانت هناك حمامات خاصة بالنساء كانت في القديم؛ لأن البيوت كان يصعب فيها وجود الماء، فكان من الصعوبة أن المرأة تتنظف في بيتها، فكان هناك نوع من الحمامات للرجال وللنساء، وهو مكان للتنظيف بالبخار، وهو موجود إلى الآن في بعض المناطق الإسلامية، وكان موجودا في المدينة إلى عهد قريب. فإن قال لها: إن خرجت إلى الحمام فأنت طالق، فقالت: أريد أن أخرج إلى الحمام وإلى البقالة، فأشتري ما أريد، فوقع خروجها لأمرين، الحمام الذي منعت منه، والبقالة التي لم تمنع منها، ففي هذه الحالة يرد السؤال - والعلماء يقصدون الصور والمعاني والضوابط أكثر مما يقصدون اللفظ نفسه والاسم نفسه- هل إذا جمعت بين المحظور وغيره، وبين المأذون به وغير المأذون به، هل يكون الحكم كما لو انفردت بمحظور غير مأذون به؟ الجواب نعم، سواء خرجت إلى الحمام قصدا أو خرجت إلى الحمام مع غيره، وعلى هذا: يحكم بطلاقها؛ لأن الصفة -وهي خروجها إلى الحمام- قد تحققت بذهابها إليه، سواء ذهبت إلى غيره أو لم تذهب، وسواء ذهبت إلى غيره قبل، أو ذهبت إلى غيره بعد، فالصفة المعتبرة للحكم بالطلاق موجودة ... ) أو عدلت منه إلى غيره طلقت في الكل) خرجت إلى الحمام ثم عدلت أثناء الطريق إلى غيره، فالأمر الذي من أجله تركبت الصيغة -وهو نشوزها وخروجها من البيت- تحقق، فهي إذا خرجت إلى الحمام فبمجرد ما تخطو خطوة واحدة من البيت خارجة إلى الحمام فقد تحقق خروجها، بخلاف ما إذا قال لها: إذا دخلت الحمام -لا حظ الفرق، وهذا هو الذي يقصده الفقهاء بهذه العبارات، الدقة في الحكم على الشيء- لو قال لها: إذا دخلت الحمام بغير إذني فأنت طالق، وخرجت تريد دخول الحمام، لكنها في الطريق عدلت، لم تطلق؛ لأنه ركب الشيء على وجود شيء معين وهو صفة الدخول، لكن إذا قال لها: إن خرجت إلى الحمام من غير إذني، فننظر أول خروجها من البيت لما خطت الخطوة الأولى خارج البيت فإنها قصدت أن تخرج إلى الحمام بدون إذنه فيحكم بطلاقها. حالات عدم وقوع الطلاق عند تعليقه بالخروج بغير إذن قال المصنف رحمه الله: [لا إن أذن فيه كلما شاءت] . أذن لها بعد ذلك، وقال لها: كلما شئت اذهبي إلى الحمام، فهذا ناقض لما قبله، ولاحظ: هناك فرق بين أن يأذن لها مرة وبين أن يقول لها: متى ما شئت فاذهبي، متى ما شئت فزوري والدك، ولا شك أن قوله: إذا ذهبت إلى والدك، إذا زرت والدك فأنت طالق، لا يجوز؛ لأن هذا من العقوق، ولا يجوز للزوج أن يمنع زوجته من برها لوالديها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إنما السمع والطاعة بالمعروف، فالمرأة لا تطيع زوجها إذا قال لها: لا تكلمي أباك ولا تكلمي أمك، فلا سمع له -ولا كرامة- ولا طاعة له في هذا، لكن المشكلة إذا علق الطلاق على هذا، ففي هذه الحالة إذا قال لها: إذا ذهبت إلى أبيك، إذا زرت أباك، وقصد ظرفا معينا في حال الخصومة أو علم أن والدتها تفسدها في هذا الوقت وهذا الظرف، فقال لها: إن خرجت إلى والدتك فأنت طالق، ووقعت بهذا الظرف المعين، فقال: إن شئت، قال لها في الأول: إن ذهبت إلى أمك بغير إذني فأنت طالق، وهو يقصد أنها إذا ذهبت لابد أن يكون معها حتى لا تفسدها أمها وحتى لا تدخل بينه وبينها، فاستأذنت، فقال لها: اذهبي متى شئت، هذا إذن عام، فلو ذهبت المرة الأولى ثم ذهبت بعدها مرة ثانية لم تطلق، بخلاف الذي ذكرناه أولا، فيما لو أذن لها مرة واحدة، فبين المصنف -رحمه الله- الفرق بين الإذن العام والإذن الخاص، فإن أذن لها إذنا خاصا، تقيد الحكم به ولا طلاق في ذلك المأذون به، ويقع الطلاق في غيره، فلو استأذنته يوم السبت أن تذهب إلى أمها فأذن لها، ثم خرجت الأحد بدون استئذان، وقع الطلاق في خروجها يوم الأحد، وإن استأذنته يوم الاثنين لخروجها إلى أمها، فقال لها: اذهبي متى شئت، وزوري أمك متى أردت، فإنه حينئذ لا تطلق بزيارتها بعد ذلك؛ لأنه قد أذن لها وارتفع الحلف. قال المصنف رحمه الله: [أو قال: إلا بإذن زيد، فمات زيد ثم خرجت] . قال: أنت طالق إن خرجت من البيت إلا بإذن زيد، وزيد أخوها مثلا، زوجها أراد أن يسافر، فقال لها: أنت طالق إن خرجت من البيت إلا بإذن زيد، ففي هذه الحالة، علق الأمر على إذن زيد، فلو مات زيد فما الحكم؟ مثل ما ذكرنا هناك أنه إذا أذن لها إذنا عاما ارتفع تعليقه، كذلك هنا: إن مات من علق الطلاق على عدم إذنه؛ ارتفع تعليقه في هذه الحالة، وانتهى الأمر، ويرتفع التعليق؛ لأن التعليق مقيد بوجوده فإذا توفي ارتفع بوفاته. الأسئلة السؤال أشكلت علي عبارة: تطلق قضاء، ولا تطلق بينه وبين الله عز وجل؟ معنى قولهم: تطلق قضاء الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: فعند العلماء: القضاء والديانة، والحكم والديانة، الديانة: فيما بينك وبين الله عز وجل، مثلا: قال رجل لامرأته: أنت طالق، وقصد من حبل، والله يشهد عليه بقرارة قلبه أنه ما قصد الطلاق، إنما قصد أنها طالق من وثاق، أو طالق من حبل، فسألته وقالت له: أنا طالق؟ قال: قصدت أنك طالق من حبل، إذا صدقته وتعرف فيه الصدق وسكتت؛ فحينئذ هي زوجة له وتعمل على ظاهر هذا، ولا إشكال لأنه ديانة فيما بينه وبين الله ينفعه ذلك، وهي إذا صدقته بقيا على ما هما عليه، ولو كان جالسا مع أصحابه فقال: امرأتي طالق، وكانت امرأته مربوطة، أو كانت مسحورة، وقصد أنها طالق من سحرها، أو أطلقها الله من سحرها، أو انحل عنها بلاؤها، وقصد هذا، ولم تعلم زوجه، ولم يرفع ذلك إلى القاضي، حكم بالظاهر وأنها زوجته ونفعه فيما بينه وبين الله، لكن لو رفع إلى القاضي، فإن القاضي يحكم بأنه مطلق لزوجته على الأصل، فيقول له القاضي: هل قلت: امرأتي طالق؟ قال: قلت امرأتي طالق، يقول القاضي: هذا اللفظ لفظ طلاق، وعندي أن هذا اللفظ إذا صدر من زوج مكلف وتوفرت فيه شروط الطلاق فإنني أحكم بطلاقه قضاء؛ لأنه لو فتح الباب للناس لتجرأ الفساق والفجار؛ فيطلق أحدهم امرأته ويقول: قصدت أنها طالق من حبل، فيتلاعب الناس بالشرع، وهذا الذي جعل الشريعة تحكم بأن الطلاق جده جد وهزله جد، فهذا يدل على أن الطلاق فيه ديانة فيما بين العبد وبين الله، وفيه قضاء في حكم الحكام والقضاة. وبهذا يحكم على الظالم، وهذا المعنى له نظائر -ليس في القضاء فقط- فلو أن شخصا ادعى أن له على فلان عشرة آلاف ريال وجاء بشاهدي زور -والعياذ بالله- وزكي الشاهدان، فالقاضي يحكم على الظاهر، بأن له عشرة آلاف ريال، القضاء ينفذ، ويلزم المظلوم بدفع العشرة آلاف، لكن هذا قضاء، وأما ديانة بينه وبين الله فالظالم هذا يعتبر آثما، وآكلا للمال بالباطل مع أنه حكم له بالقضاء، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار) ، يعني: ما ينفعه حكم القضاء، ولذلك لو قال لامرأته: أنت طالق، وقصد الحبل، ونفذ عليه حكم القاضي بأنها طلقة، وكانت آخر طلقة، فهي زوجته فيما بينه وبين الله، ولكنها ليست زوجة له فيما بينه وبين الناس، فهذا الحكم الظاهر والحكم الباطن، فلو أنها تعلم أنه صادق فيما يقول، فيجوز لها أن تمكنه من نفسها إذا صدقته ووثقت بقوله، وإن حكم القاضي على الظاهر بالطلاق، لكن لو اطلع القاضي على الجماع، وثبت عنده بإقرار أنه جامعها بعد حكم القضاء فإنه في حكم الزاني، هذا حكم القضاء وحكم الديانة، ولذلك لا يحكم في القضاء إلا بالظاهر، بناء على الأصول المعتبرة لإثبات الأحكام والدعاوى. وعلى هذا: فالحكم بالطلاق قد يحكم به ديانة وقضاء، وقد يحكم به ديانة لا قضاء، وقد يحكم به قضاء لا ديانة. يحكم به ديانة وقضاء: لو أن شخصا قال لامرأته: أنت طالق، وفيما بينه وبين الله: أنه مطلق لها، فثبت عند القاضي لفظه فحكم بالطلاق قضاء، والحكم ديانة أنه مطلق لزوجته. ويحكم به ديانة لا قضاء: لو أنه -مثلا- قال لامرأته: الحقي بأهلك، وقصد الطلاق، وهذه كناية طلاق، فقيل له: ماذا قصدت؟ قال: قصدت أن تلحق بأهلها وما قصدت الطلاق، ففي هذه الحالة لا ينفذ الطلاق قضاء، ويحكم بأنها كناية طلاق يشترط فيها النية -كما تقدم معنا- لكنه فيما بينه وبين الله نوى الطلاق فتطلق عليه ديانة ولا تطلق عليه قضاء. وتطلق عليه قضاء لا ديانة: مثل: أن يأتي بلفظ ظاهره الطلاق ويتقيد بالنية، ولم يقصد به الطلاق، فيحكم بالطلاق على ظاهره، مع أنه في الحقيقة والباطن غير مطلق لزوجته. والله تعالى أعلم. دلائل طلب العبد لرضوان الله الجواب ما أعطى الله عبدا بعد الإيمان به وتوحيده شيئا أحب ولا أكرم عليه من طلبه لرضوان الله سبحانه عنه؛ ولذلك عظم الله رضوانه، وأخبر أنه أكبر من كل شيء، فذكر نعيم الجنة وما أعد لأوليائه فيها ثم قال: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة:72] ، وفي الحديث الصحيح: (أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة ورأوا ما فيها من النعيم وما فيها من الفضل والتكريم، قال الله تعالى: هل أزيدكم؟ أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبدا) ، فأعظم النعم وأجل المنن -بعد نعمة الإيمان- أن يكون العبد مرضيا عنه، وإذا رضي الله عن العبد أرضاه، وإذا أرضى ربك عبده أسعده في الدنيا والآخرة، فما ظنك بولي الله الصالح الذي قرت عينه بمرضاة ربه عليه، فلن يسلك سبيلا إلا سهله الله له، ولن يقرع بابا من الخير والبر إلا فتحه الله في وجهه، وبارك له فيه، وتأذن له بحبه، رضوان الله جل جلاله هو الغاية العظيمة والأمنية الجليلة الكريمة التي من أجلها بكت عيون الخاشعين، وتقرحت قلوب الصالحين، ومن أجله انتفضت الأقدام في جوف الليل بين يدي الله من المتهجدين الراكعين الساجدين، ومن أجلها سالت دماء الشهداء، طلبا لمرضاة الله جل جلاله، فبيعت الأنفس من أجل أن يشتري العبد مرضاة ربه، باع نفسه وربح البيع وربحت التجارة مع ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، رضوان الله هو الأمنية العظيمة التي يتمناها العبد السعيد من ربه. السؤال ما دلائل طلب العبد لرضوان الله تعالى؟ وهناك دلائل تبشر العبد بأنه يطلب مرضاة الله، أول هذه الدلائل: سر بينك وبين الله جل جلاله، فأول ما يدل على أن العبد يريد وجه الله أن يمتلأ قلبه بتوحيد الله والإيمان به سبحانه، فتصبح جميع أموره وجميع شئونه لله لا لأحد سواه، أول دلائل وبشائر الطلب الصادق لمحبة الله ورضوانه أن يكون الإنسان مخلصا لله وحده لا شريك له: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:162 - 163] ، هذا الإخلاص وهذا التوجه الذي يجعل العبد في جميع أموره يريد وجه الله ولا يريد شيئا سواه، والذي يريد مرضاة الله لا يتكلم إلا لربه، ولا يعمل إلا لربه، ليله ونهاره وصبحه ومساؤه كله لله وحده لا شريك له، فليس في قوله رياء ولا سمعة، وأكره ما يكره أن يطلع عبد على طاعة بينه وبين الله سبحانه؛ لأنه يعلم أن ربه يحب منه أن يخفي عبادته، ويحب منه أن يقصد وجهه ولا يقصد أحدا سواه، فأول الدلائل وأول الأمارات: الإخلاص لوجه الله جل جلاله في جميع شئونه وأحواله، منذ أن يلتزم ويسير على منهج الله ليس له وجه يتوجه إليه ويقصده إلا وجه الله سبحانه وتعالى، عند ذلك يطيب قوله، ويطيب عمله، فلم تطب الأقوال والأعمال إلا بالإخلاص لذي العزة والجلال. ومن دلائل طلب مرضاة الله عز وجل: أن يسعى العبد في أحب الأشياء إلى الله فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس، فلا يسمع بكلمة تقربه من ربه أو ترضي ربه عنه إلا تكلم بها، ولو رأى الموت بين عينيه، ولا يعلم بعمل يقربه من ربه ويرضي ربه عنه إلا سعى في تحقيقه، وسعى في طلبه غاية جهده، كذلك أيضا يسعى فيما بينه وبين الناس في كل شيء يقربه إلى الله جل جلاله، ويبدأ أول ما يبدأ بوالديه، ثم بأولاده، ثم بزوجته، وأدناه أدناه من الأقربين، يطلب رضى ربه عنه فيما بينه وبين والديه، وفيما بينه وبين رحمه، ولن تجد أحدا رضي الله عنه إلا وجدته بارا بوالديه، فرضي الله عمن أرضى والديه، يشتري مرضاة الله بابتسامة والده، يشتري مرضاة الله في أب وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا، يلتمس مرضاة الله في ابتسامة يجدها من هذا الأب أو في سرور يدخله عليه، أو في كربة ينفسها عنه، أو في حاجة يقضيها له، أو في ضيق يوسعه عنه بإذن الله جل جلاله، يشتري مرضاة الله ويضحي ويبذل كل ما يستطيع بذله من نفسه وماله طلبا لهذه المرضاة، لأنه سمع رسول الأمة صلى الله عليه وسلم يقول: (رضا الله من رضا الوالدين) ، فينتظر هذا الرضا بفارغ الصبر، فلا تشرق عليه شمس يوم إلا جعل والديه بين عينيه، في كلامه، فلا يقول إلا الكلمة التي ترضي الله، وفي فعله، فلا يفعل إلا ما يرضيه، ثم ينطلق رضيا راضيا مرضيا عنه في ذوي رحمه وقرابته، ويبدأ بأولاده، يدخل السرور عليهم، ويعلم أن الله يرضى عنه عندما يكون رحيما بأولاده، قائما بحقوقهم، مؤديا الواجبات إليهم، يرعاهم في دينهم، ويتفقدهم في شئونهم، ويأمرهم بما أمرهم الله به، وينهاهم عما نهاهم الله عنه، ويعلمهم ويرشدهم، ولا يدخر عنهم شيئا من الخير من أمر دينهم أو دنياهم أو آخرتهم، فإذا أرضى الله في أهله وولده رضي الله عنه، ولذلك تجد الرجل الموفق السعيد محافظا على أولاده، محافظا على فلذة كبده وذريته، يتفقدهم في أوامر الله، نشأهم منذ نعومة أظفارهم على الطاعة والصلاة، فيعرفون بيوت الله، ويعرفون فريضة الله، ويؤدون الصلاة على أتم وجه وأكمله، ويرى ذلك عزيمة وفريضة عليه، فرضوان الله لا يكون بالتشهي ولا بالتمني ولا بالدعوى ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. كذلك من أسباب رضوان الله عز وجل عن العبد: أن يبدأ بقلبه، فينقي هذا القلب من الغل والحسد وكراهية المسلمين وسوء الظن بهم، يبدأ بقلبه هذا فيغسله بماء الإيمان، ويعرضه على قوارع التنزيل، وأوامر العظيم الجليل، التي تأمره أن يكون أخا صادقا مع إخوانه، ويتذكر دائما كلما رأى مسلما قول الله عز وجل: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات:10] ، يحس أنه أخوه، وفي بعض الأحيان ربما تكون أخوة الإيمان في القلب أعظم من أخوة الحسب والنسب، فكما أنه يحب لأخيه من حسبه ونسبه ما يحب لنفسه؛ فإنه يحب لإخوانه في الدين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، لا يفرق بين غنيهم وفقيرهم، ولا رفيعهم ووضيعهم، ولا جليلهم وحقيرهم، فكلهم إخوان له في الله، والله يشهد أنه في قرارة قلبه كذلك، يظهر على لسانه الكلام الطيب وفي قرارة قلبه ما هو أزكى منه وأجمل، ما عنده نفاق، وما يلقى الناس بوجه يضحك لهم وقلبه -والعياذ بالله- مكفهر، مليء بسوء الظنون، وبالحسد، والكراهية، خاصة إذا كان من طلاب العلم، وخاصة إذا كان من الصالحين، فالأمر -والله- أشد ويعلم أن الله مطلع على سريرته، وسيحاسبه يوم القيامة من هو شهيد على العبد بما في الضمير، قال الله جل جلاله: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور * وحصل ما في الصدور} [العاديات:9 - 10] ، الله يوم القيامة لا ينظر للابتسامات المكذوبة، والكلمات المعسولة، إنما ينظر إلى ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالله جل جلاله لا ينطلي عليه الكذب ولا يخادع سبحانه وتعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء:142] ، فالذي يلتمس مرضاة الله بصدق بهذا الصفاء والنقاء والمودة والإخاء والأخوة الإسلامية المبنية على نصوص الكتاب والسنة لا يتلاعب بها، وليست عنده موازين مختلفة أبدا، فهو مسلم حقا، وجه وجهه لله فعلا، يلتمس مرضاة الله، وإذا جلس مع أفقر الناس فهو كما لو جلس مع أغنى الناس، يبتسم لهذا ويبتسم لهذا، وكان بعض علماء السلف -رحمهم الله- يعظمون الفقراء في بعض الأحيان أكثر من الأغنياء، ولذلك قيلت الكلمة المشهورة: (ما أعز من الفقراء في مجلس سفيان الثوري رحمه الله) لأنه كان يطلب مرضاة الله بصدق، لا بالنفاق ولا بالكذب ولا بالدعاوى العريضة ولا بالخداع للمسلمين، الذي يلتمس مرضاة الله عبد صادق يحب الصدق ويوالي بصدق. ومن دلائل رضوان الله على العبد: أن تظهر عليه أمارات في تصرفاته مع إخوانه المسلمين عموما، وخاصة مع العلماء والأئمة، وبالأخص سلف هذه الأمة، فلا يذكرهم إلا بكل خير، يترحم على أمواتهم، ويحسن المخرج لهم إن كان عندهم خطأ وزلل، ويعذرهم إن كان لهم عذر، وينشر ما كان منهم من الجميل، ويستر ما كان منهم من القبيح، تأسيا بقوله عليه الصلاة والسلام: (اذكروا محاسن موتاكم) ، فيكون مع أصلح خلق الله -وهم العلماء- كأحسن ما يكون، فالمؤمن يوالي المؤمن على أتم الوجوه، وأولى الناس بالموالاة والمحبة والصفاء والنقاء هم أهل العلم. واعلم أن الله أعلم بخلقه: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام:124] ، فهؤلاء الصفوة اختارهم الله -جل جلاله- من فوق سبع سماوات حملة لدينه، وأمناء على شرعه، إن كنت تلتمس مرضاة الله فكن كأحسن ما يكون مع علماء الأمة وسلفها، فاعتقد فضلهم وادع لهم وانشر محاسنهم، فإن العبد الذي يشتري مرضاة الله عز وجل يشتريها بمحبة الصالحين: (فمن أحب قوما حشر معهم) كما قال صلى الله عليه وسلم. كذلك من دلائل مرضاة الله عز جل على العبد: أن يبارك له في وقته وفي عمره، فإذا التزم بهذا الدين وجدته لا تمضي عليه ساعة ولا لحظة إلا في خير وبر، وكذلك كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم، والعلماء العاملون؛ لا تضيع أوقاتهم هدرا، وإذا أردت أن ترى العلامة الصادقة على محبة الله للعبد فانظر كيف يبارك له في عمره، فإما أن يكون في مصلحة الدين فيما بينه وبين الله أو فيما بينه وبين الناس، يحرص من يشتري مرضاة الله على أن لا تمضي عليه ساعة إلا في ذكر الله وشكره، ويتقطع حرقة على كل ساعة مضت في غير ذكر الله أو شكره وطاعته، فإن (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله أو عالما أو متعلما) ، فإذا بورك للإنسان في وقته وأصبحت كل أوقاته في طاعة الله؛ تجده يجلس في بيته إما أن يقرأ كتابا ينتفع به، أو يسمع من والديه موعظة أو ذكرى أو عظة يتعظ بها أو قصة مؤثرة، أو يجلس مع أولاده يأمرهم بطاعة الله عز وجل ومرضاة الله، ويدلهم على كل خير، وهذه عمارة الأوقات، ومن أفضل ما تمضى به: ذكر الله جل جلاله، فالعبد الذ
__________________
|
#574
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (446) صـــــ(1) إلى صــ(19) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [7] تعليق الطلاق بالمشيئة له صور: أن يعلقه بمشيئة الله أو بمشيئة غيره، وقد يعلقه بمشيئة منفردة أو بمشيئة مشتركة، وقد يعلقه بمشيئة منفردة فيشرك صاحب المشيئة معه غيره؛ وكل هذه الصور لها أحكام شرعية بينها العلماء رحمهم الله. تعليق الطلاق بالمشيئة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى] . بين المصنف -رحمه الله- في هذا الفصل جملة من مسائل التعليق، وهذا التعليق مختص بالتعليق بالمشيئة، يعلق الطلاق على مشيئة امرأته أو أجنبي أو مشيئة الله عز وجل، فإذا تعلق الطلاق بالمشيئة فإنه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يعلقه بمشيئة الله عز وجل. القسم الثاني: أن يعلقه بمشيئة غير الله عز وجل. فإذا علقه بمشيئة الله عز وجل مثل أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، فسيأتي الكلام عنها، وسيذكر المصنف -رحمه الله- هذه المسألة. وأما التعليق بمشيئة غير الله عز وجل فينقسم إلى قسمين: إما أن يعلق بمشيئة منفردة. أو يعلق بمشيئة مشتركة. مشيئة منفردة مثل أن يقول: بمشيئتك -يخاطب زوجته- إذا شئت، متى شئت. وإما أن يعلق بمشيئة مشتركة كأن يقول: إذا شئت وشاءت أمك، إذا شئت وأمك، إذا شئت وأبوك، وأخوك، أو غير ذلك. تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة وقد شرع المصنف بالكلام عن تعليق الطلاق بمشيئة غير الله عز وجل. فذكر تعليق الطلاق على مشيئة الزوجة، مثل أن يقول لها: إن شئت، أو إذا شئت، أو متى شئت، وهذا يسمى بالمشيئة المنفردة؛ لأنه أسند وعلق الطلاق على مشيئة شخص واحد، هو الزوجة: إذا شئت ومتى شئت وإن شئت، وإذا أسند الطلاق إلى مشيئة واحد فإما أن يسنده مقيدا وإما أن يسنده مطلقا، مقيدا كأن يقول لها: إن شئت الآن، فيقصد في الحال، فيتقيد بالحال، أو إن شئت هذه الساعة، أو خلال ساعة، أو خلال هذا اليوم، أو خلال هذا الأسبوع، أو ما لم تغب الشمس، أو ما لم يطلع الفجر، فيقيد الطلاق بمشيئتها في هذه المدة، فلو أنها مضت عليها وانتهت، ولم تشأ الطلاق، فحينئذ لا يقع الطلاق إذا لم تشأ في هذه المدة المقيدة، أو قال: إن شئت ما دمت قائمة، فيقيده بحال قيامها، فإن جلست انقطع الإسناد، والتمديد للطلاق كان معلقا بالمشيئة حال قيامها. والمشيئة: أمر متعلق بالقلب، وهو أمر غيبي خفي، لا يمكن أن نعلمه إلا إذا أخبرت به، وهكذا لو كان الذي علق الطلاق بمشيئته أجنبيا، فقال: إن شاء زيد، أو متى شاء زيد، أو إن شاء أبوك، أو شاءت أمك، في هذه الأحوال ننظر إلى مشيئة من ينفذ الطلاق، فلا يخلو إما أن يشاء الطلاق أو يشاء عدم الطلاق، فإذا شاء الطلاق فإنه يحكم بالطلاق، فلو قال لها: إن شئت، فقالت: قد شئت طلاقي، فإنها تطلق، أو قال لها: إن شاءت أمك، فذهبت إلى أمها فقالت الأم: أشاء الطلاق، وقع الطلاق؛ لأنه معلق على شيء يقع بوقوعه، وهو شرط بينه وبين الله عز وجل أنه إن وقعت هذه المشيئة فامرأته طالق، سواء شاءت الزوجة أو أبوها أو أخوها أو أيا كان فمن علق الطلاق بمشيئته، ما دام أن هذا الشرط قد تحقق، وهو وجود المشيئة التي علق الطلاق على وجودها، فنحكم بالطلاق. وتقدم معنا أن الصحابة كانوا يعتبرون التعليق، وأجمع أئمة السلف على اعتبار التعليق من حيث الجملة، فلو قال لها: إن طلعت الشمس أو إن غابت الشمس فأنت طالق، فإنها تطلق وجها واحدا، وهكذا حينما قال لها: إن شاء أبوك، إن شئت، إن شاء عمك، إن شاء خالك، وقد شاء ذلك الغير مضى الطلاق ونفذ، لأن الذي اشترطه بينه وبين الله: أن امرأته طالقة إن وجدت هذه المشيئة. الحالة الثانية: أن لا تشاء الطلاق، تقول: لا ما أريد الطلاق، ولا أشاء الطلاق، أو لا أحب الطلاق، لا أرضى الطلاق، وتعذرت بأنها لا مشيئة لها بالطلاق، فحينئذ انتفى الشرط فلا يقع ما التزم به من طلاقها، وتبقى المرأة في عصمته، وهكذا لو قال لها: إذا شاءت أمك أو شاء أبوك، فذهبت وسألت أباها، وسألت أمها، فقالت أمها: لا أريد الطلاق، وقال أبوها: لا أريد الطلاق، فإنها لا تطلق. إذا: إذا أسندت المشيئة إلى شخص سواء كانت الزوجة أو غيرها، فإنه إن شاء الطلاق وقع، وإن لم يشأ الطلاق لم يقع، هذا حكم إسناد الطلاق إلى مشيئة منفردة. لكن في بعض الأحيان قد تدمج المشيئة إلى مشيئة آخر، فتركب المشيئة على المشيئة، مثلا: يقول لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت إن شئت، قد تخشى من زوجها ولا تريد أن يكون الأمر إليها، فردت عليه وقالت: قد شئت إن شئت، أو تقول: قد شئت إن شاءت أمي، قد شئت إن شاء أبي، أو إن شاء أخي، أو إن شاء فلان، فإن قالت: قد شئت إن شاء أبي أو شاءت أمي، فأسندت مشيئتها إلى الغير فلا طلاق، ولو طلق ذلك الغير؛ لأنه فيما بينه وبين الله اشترط أن تكون لها مشيئة، فلما أسندت إلى الغير دل على أنها لا تشاء الطلاق لأنها لو شاءت الطلاق لقالت: شئت، وهو يقول: إن شئت، يعني: إن كان منك مشيئة وأردت الطلاق فأنت طالق. قوله: [إذا طلقها بمشيئتها بإن أو بغيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء] : لأنه اشترط فيما بينه وبين الله أنها طالق إن شاءت، ولم يقع ذلك الشرط فلا يقع المشروط. الخلاف في زمن المشيئة للمرأة إذا علق الطلاق على مشيئتها (لو) إشارة إلى خلاف مذهبي، بعض العلماء يقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شئت، أو إن شئت فأنت طالق، فلها أن تشاء الطلاق مباشرة، بلا تراخ، فلو تراخت فإنه لا مشيئة لها، مثلا: لو قالت بعد ساعة أو بعد ساعتين أو بعد ثلاث ساعات: قد شئت الطلاق، فلا طلاق، يعني: لا بد أن يكون جوابها مباشرة، وهذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من أئمة السلف رحمهم الله، والجمهور أنه لا يشترط أن يكون جوابها على الفور، وأنه لو وقعت منها المشيئة ولو متراخية فإنه يقع الطلاق، ما لم يقيدها أو يرفعها. قوله: [ولو تراخى] . هناك قول ثالث للحسن البصري وعطاء بن أبي رباح -رحمهما الله- يقولان: نعطيها مهلة مدة المجلس، فإذا قال لها: أنت طالق إن شئت، في مجلس، فإنه من حقها أن تطلق ويقع الطلاق إن أخبرت بمشيئتها في ذلك المجلس، فإن قامت عنه انقطع الإسناد ولا طلاق، والصحيح: ما ذهب إليه الجمهور المصنف -رحمه الله- أنه لا يشترط الفور. الحكم إذا أحالت المرأة مشيئتها على مشيئة الغير تعلق الطلاق بمشيئة مشتركة قال المصنف رحمه الله: [وإن قال: إن شئت وشاء أبوك أو زيد، لم يقع حتى يشاءا معا، وإن شاء أحدهما فلا] : هذا من التسلسل والترتيب المنطقي في الأحكام، يبين أول شيء: مشيئتها، وثانيا: إذا أسندت مشيئتها إلى الغير، وثالثا: إذا وقعت المشيئة مشتركة، يعني: أن يقول لها: إن شئت وشاء فلان؛ لأننا قلنا: إما أن يسند لمشيئة الله أو مشيئة غيره، ومشيئة غيره إما أن تكون مفردة كأن يقول: إن شئت، ثم تأتي الصورة الأخرى أن تقول: قد شئت إن شاء فلان، قد شئت إن شئت، فهي مركبة لكنها مبنية على الصورة الأولى، والصورة الثانية: أن تكون مشتركة، فيسند المشيئة لأكثر من واحد فيقول لها: إن شئت وشاء أبوك، إن شئت وأبوك، إن شئت وأخوك، وهكذا، فإذا أسند المشيئة إلى اثنين أو ثلاثة، فللعلماء وجهان: أصحهما وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقع الطلاق إلا إذا شاءا معا، فتقول: قد شئت، ويقول الآخر: شئت، فإذا شاءا معا فإنه حينئذ يقع الطلاق، وإن شاء أحدهما ولم يشأ الآخر فإنه لا يقع الطلاق، وهذا هو الصحيح؛ لأن الواو تقتضي الجمع والتشريك، فلما أسند المشيئة إلى شخصين فإنه لا يقع الحكم ولا يقع الذي اشترطه من الطلاق إلا بوقوع المشيئة من الاثنين معا، فإذا وقعت من أحدهما فلا يعتد بمشيئة ذلك الواحد حتى تقع المشيئة منهما جميعا على الوجه الذي اشترطه. تعلق الطلاق بمشيئة الله قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق وعبدي حر إن شاء الله وقعا] : أصل التقدير: أنت طالق إن شاء الله وعبدي حر إن شاء الله، وهذا النوع الثاني من الإسناد بالمشيئة وهي مشيئة الله عز وجل. مشيئة الله عز وجل يختلف حكمها في الطلاق والعتاق والأيمان، يقول: أنت طالق إن شاء الله، أو: عبدي حر إن شاء الله، أو: والله لا آكل إن شاء الله، وهكذا. هذه المسألة تعرف بمسألة الاستثناء بمشيئة الله عز وجل، ووجه ذلك: أنه يستثني الطلاق ويجعله معلقا على وجود المشيئة، يقول: امرأتي طالق إن شاء الله، ففي هذه الحالة اختلف العلماء -رحمهم الله- هل يقع الطلاق أو لا يقع؟ فيها قولان مشهوران، لكن قبل أن نذكر القولين ننبه على مسألة وهي أن من قال: إن شاء الله، لابد أن يكون قاصدا للتعليق، فينوي في قرارة قلبه أنه معلق لطلاقه على مشيئة الله عز وجل، فلا يأتي يقول: إن شاء الله، بلسانه هكذا بالعادة أو نحوها، إنما يقصد ذلك بقلبه، فمن العلماء من يقول: لابد أن تكون عنده نية بالمشيئة، من قبل أن يقول أنت طالق، وهذا عند من يرى أن المشيئة مؤثرة، فيقول: لو قال لها: أنت طالق، ثم طرأ عليه، أن يقيد بالمشيئة لم ينفعه؛ لأنه لما قال: أنت طالق، وقع الطلاق، فلا يصح بعد ذلك أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من التلاعب ونوع من إسقاط ما وجب، وما وجب لا يمكن إسقاطه؛ لأن الشرع جعل كل من يتلفظ بالطلاق يلزم به حتى في حالة الهزل، فلو فتح الباب للناس لتلاعبوا بالطلاق، فيطلق الرجل ثم يقول: إن شاء الله، ولهذا يشترط لمن قال: إن شاء الله، أن يكون قاصدا بنيته تعليق الطلاق على مشيئة الله عز وجل، ومحل هذا التعليق قبل أن يتلفظ بالطلاق، وقال بعض العلماء: يمكنه أن ينوي الاستثناء أثناء الجملة ما لم يتم جملة الطلاق، فلو قال لها: أنت، ثم تذكر أن يستثني، فقال: أنت طالق، إن شاء الله، أجزأه عند هؤلاء، حتى لو قال لها: أنت طا، وقبل أن يتم جملة طالق نوى في قرارة قلبه أن يقيد بمشيئة الله؛ أجزأه، أما إذا استتم الجملة ففيه خلاف عند من يقول بأن المشيئة تؤثر، فمنهم من يقول: إنه لا ينفعه ذلك؛ لأن الطلاق قد مضى، ومنهم من يقول: إنه ينفعه ذلك، وأعجب من هذا أن بعضهم يقول: له أن يستثني ولو بعد مدة طويلة شهر أو أشهر، وهذا قول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وبعض السلف، والذي عليه العمل عند من يقول بالاستثناء بالمشيئة: أن يكون في نيته أن يستثني قبل أن يستتم الجملة أو قبل أن يتكلم بها. إذا ثبت هذا فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: يقع الطلاق إذا علقه بمشيئة الله عز وجل مطلقا، فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، وقع عليه الطلاق ويؤاخذ به، وهذا القول قال به: قتادة وسعيد بن المسيب من أئمة التابعين، ويروى عن عطاء بن أبي رباح وقال به الثوري والأوزاعي وهو مذهب المالكية، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم. القول الثاني: أنه لا يقع طلاقه، وهو قول بعض أئمة السلف من التابعين وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع. وهذا الخلاف إذا كان قوله: إن شاء الله، بقصد التعليق بخلاف ما لو قال: إن شاء الله، تبركا بذكر الله عز وجل؛ لأن اسم الله مبارك فيقول: إن شاء الله أفعل، إن شاء الله أقول، ولا يقصد التعليق، ولا ينوي في قلبه التعليق، وكذلك مسبوق اللسان، مثل من عادته أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله، فجرى بها لسانه دون أن يكون قاصدا للتعليق بقلبه، وكذلك إذا قصد التحقيق، فيقول لها: أنت طالق إن شاء الله، تحقيقا وإثباتا للأمر، في هذه الصور كلها يقع الطلاق وجها واحدا عند العلماء، فمن قال: أنت طالق إن شاء الله، ولم ينو في نفسه التعليق وإنما قال: إن شاء الله، تبركا بذكر اسم الله عز وجل، أو قاله تحقيقا للوقوع كما يقول لك: آتيك إن شاء الله، بقصد التحقيق، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أي: تحقيقا للحوقه وموته عليه الصلاة والسلام؛ فهذا كله يقع فيه الطلاق؛ لأنه ليس بتعليق ولا في معنى التعليق. استدل الذين قالوا بوقوع الطلاق بقولهم: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فعندنا لفظان: اللفظ الأول: قوله: أنت طالق، أو زوجتي طالق، أو امرأتي طالق. واللفظ الثاني: قوله: إن شاء الله، الذي هو التعليق. فوقع لفظ الطلاق المعتبر من الشخص المعتبر على الصفة التي لا يشك في وقوعه فيها، وعلق في الجملة الثانية على أمر لا يمكننا علمه، فلا نعلم هل شاء الله أو لم يشأ؟ قالوا: واليقين أنه مطلق، والتعليق نشك في تأثيره وبناء على ذلك يلزم بقوله، لأن الشريعة لم تفتح باب التلاعب في الطلاق أبدا، حتى أن الهازل إذا تلفظ به تؤاخذه، مع أنها قد عفت وسامحت في كثير من الأمور إلا هذا اللفظ، فما دام أنه قال: أنت طالق، والله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته كلاهما حكم بأن من طلق فإنه يلزم بطلاقه، فنلزمه بالطلاق، وهذا اللفظ معتبر من الشخص ولا يؤثر فيه التعليق؛ لأنه أسند إلى ما لا يمكن علمه، فلما أسند إلى ما لا يمكن علمه فمعناه: أن التعليق غير مؤثر؛ لأنه ما ثبت أن الله لا يشاء طلاقه، فنبقى على الأصل ونؤاخذه بلفظه، فيقع عليه الطلاق. وبعض أئمة السلف له وجه ثان من الاستدلال على وقوع الطلاق: وهو ما يلي: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فنقول له: قد شاء الله طلاق امرأتك؛ لأنه أذن بالطلاق، فنعتبرها طالقا، وهذا قول عطاء بن أبي رباح كان إذا سئل عن هذه المسألة يقول له: (قد شاء الله طلاق امرأتك) لأنه أذن بالطلاق، فلما تلفظت به فإنه شاء تطليقها، وهو محكوم به شرعا، فتلزم بطلاقها، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان إذا سئل عن قول الرجل: أنت طالق إن شاء الله، قال: (من قال: أنت طالق إن شاء الله، فهي طالق) ، ويروى عن أبي سعيد وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى التعليق -يعني: بالاستثناء بالمشيئة- في الطلاق والعتاق) أي: أنه لا يؤثر في الطلاق ولا يؤثر في العتق، ولذلك ذكره المصنف -رحمه الله- في قوله: أنت حر إن شاء الله، فلم ير تأثيره في الطلاق، ولم ير تأثيره في العتق، وقولهما رضي الله عنهما: (كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أشبه بالإجماع، ولذلك قالوا: لم يحفظ لهم مخالف، وهو حكاية عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، يمضي عليه الطلاق. واستدل أصحاب القول الثاني الذين ذهبوا إلى أنها لا تطلق، بقولهم: اليقين أنها امرأته، وهو علق الطلاق على مشيئة الله، ولم يثبت ما يدل على أن الله قد شاء طلاقها، قالوا: فلو علق الطلاق على مشيئة عبد لتوقفتم في الحكم عليه حتى ننظر هل يشاء أو لا يشاء؟ وهنا قد علق المشيئة على الله سبحانه وتعالى، وليس عندنا دليل يثبت أن الله قد شاء طلاقها، ومن هنا قالوا: لا تطلق عليه. والقول بالوقوع من القوة بمكان؛ لأن أصحاب القول الثاني بنوا على القياس على من استثنى في اليمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: إن شاء الله؛ لم يحنث) أخرجه الترمذي وحسنه، ومن العلماء من يقول: إنه صحيح لغيره، هذا الحديث يدل على أنه لو قال في اليمين: والله لا أفعل إن شاء الله، والله أفعل إن شاء الله، أنه لو لم يفعل أو فعل ما حلف على عدم فعله لم يحنث؛ لأنه علق على المشيئة، قالوا: والطلاق واليمين بابهما واحد، ولكن هذا ضعيف، فالطلاق يخالف اليمين، فإنه إذا قال: والله لا أفعل إن شاء الله، ولم يفعل، علمنا أن الله قد شاء أنه لا يفعل، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا إن شاء الله، فإنه إذا فعله فقد شاء الله عز وجل أن يفعله، ويمكننا العلم بمشيئة الله عز وجل، وبهذا فرق العلماء بينهما، وباب الطلاق من باب الإنشاء، وباب الإنشاء أضيق من أن يعلق، ولذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق، فقد طلق، ثم قوله بعد ذلك: إن شاء الله لا يمكن علمه، والأصل مضي الطلاق على كل من تلفظ به، فنلزمه بالطلاق، فالقول بوقوعه من القوة بمكان. وأحب أن أنبه على أنني في المسائل الخلافية إذا قلت: الراجح كذا، والذي يترجح في نظري كذا وكذا، فلا شك عندي على غالب ظني أنه الراجح، لكن إذا قلت: أقواهما وأولاهما بالصواب، فهذا لا يستلزم الترجيح من كل وجه، بل القول الثاني يكون له وجه، وله قوة؛ تمنع من البت بالراجح في هذه المسألة. فمن قال من العلماء: إن الاستثناء بالمشيئة مؤثر فإنه لا يوقع الطلاق، ومن قال: إنه غير مؤثر فإنه يوقع الطلاق، وإذا قلنا: الاستثناء بالمشيئة مؤثر، فبعضهم يقول: لا يؤثر إلا إذا تلفظ به وأسمعه للغير، فيقول: زوجتي طالق إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله، بصوت يسمعه الغير، ومن أهل العلم من يقول: لو حرك بها لسانه دون أن يسمع الغير بل لم يسمع غير نفسه فإنه يجزئه، وهذا القول الثاني هو الأقوى، يعني: لو قلنا بتأثير الاستثناء بالمشيئة فإنه لابد وأن يتلفظ بذلك في الحكم والقضاء، ويجزئه أن يكون اللفظ بقدر يسمعه هو. لكن لو قال أمام الناس: زوجتي طالق، وسمعه الناس يقول: زوجتي طالق؛ ثم قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، ثم رفع عند القاضي، فإن القاضي يطلقها عليه قضاء، ولا تطلق عليه ديانة وفتوى، وهذا عند من يرى أن الاستثناء بالمشيئة مؤثر، لأن الذي سمعه الناس وقامت عليه البينة هو قوله: أنت طالق، فلو فتح الباب لتلاعب الناس، وأصبح كل رجل يقول لامرأته: أنت طالق، ثم يقول: استثنيت، وقلت: إن شاء الله، فمن قال: إن شاء الله، بصوت لم يسمعه إلا هو، فإنها تطلق عليه قضاء، ولكنه بينه وبين الله يجزئه، ويؤثر ديانة، ولا يؤثر قضاء وحكما. تعليق الطلاق على مشيئة الله مع شيء آخر قال المصنف رحمه الله: [وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، طلقت إن دخلت] : هنا تعليقان: تعليق الطلاق على الدخول، ثم تعليق وقوع الطلاق بالدخول على المشيئة. لو علق الطلاق على مشيئة مخلوق؛ كأن يقول: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء فلان؛ ففي هذه الحالة ننتظر أمرين: دخولها الدار، ثم نسأل فلانا الذي علق الطلاق على مشيئته: هل يشاء أو لا يشاء، إن دخلت دار أبي بدون إذني فأنت طالق إن شاء أبي، من باب أن يعاقبها، إن دخلت على أمي مرة ثانية أو آذيت أمي مرة ثانية فأنت طالق إن شاءت أمي، فحينئذ لا إشكال فننتظر الأذية وننتظر مشيئة الأم، ولا يمكن أن نحكم بوقوع الطلاق بمجرد وقوع الأذية، فنتقيد بالمشيئة، ولم يذكر المصنف هذه المسألة لظهورها، لكن ذكر التعليق بمشيئة الله عز وجل، فلو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، عند من يرى أن (إن شاء الله) مؤثرة، فحينئذ لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على مشيئة الله عز وجل، والتعليق بمشيئة الله يسقط الطلاق، وأما على المذهب الذي اختاره المصنف -رحمه الله- وهو مذهب الإمام أحمد في الرواية التي اختارها أكثر من واحد من أصحابه رحمة الله عليهم: أنه إذا علق بالمشيئة فالمشيئة لا تؤثر، وبناء على ذلك: إن دخلت الدار فإنه يحكم بطلاقها، وما قال: نكفر كفارة يمين؛ لأن اليمين شيء، والطلاق شيء آخر، حتى ولو قصد منعها، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء -رحمهم الله- فيها وأن جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه إذا علق على الدخول أو الخروج ونحوها من الصفات كما حكاه ابن المنذر وغيره بالإجماع أنه إذا وقع هذا الذي علق الطلاق عليه وقع الطلاق. فحينئذ نحكم بوقوع الطلاق إن دخلت في الدار، ولا ننتظر العلم بمشيئة الله؛ لأن هذا يتعذر، ويحكم بمضي الطلاق ونفوذه. حكم قوله: (أنت طالق لرضا زيد) قال المصنف رحمه الله: [وأنت طالق لرضا زيد أو لمشيئته طلقت في الحال] : أنت طالق لرضا زيد أو لمشيئة زيد، أنت طالق لرضا أمي، أنت طالق لرضا أبي، أنت طالق لمشيئة أمي، أنت طالق لمشيئة أبي، اللام هنا إذا قصد بها التعليل فيقع الطلاق فورا، يعني: طلقتك من أجل رضا أمي، أنت طالق لرضا أمي، يعني: من أجل أن أمي راضية بالطلاق، لكن إذا قصد باللام التعليق؛ فننتظر حتى يرضى من علق الطلاق عليه، ففرق بين المسألتين: اللام إذا قصد بها التعليل بأن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: طلقتك لأن أمي راضية بطلاقك، فحينئذ يمضي الطلاق، وإن قال: أنت طالق لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، فطلاقك معلق وموقوف حتى ترضى أمي، فإنه حينئذ نتوقف حتى ترضى أمه، وهكذا لو علقه على رضا غيرها أو مشيئته. قال المصنف رحمه الله: [فإن قال: أردت الشرط قبل حكما] : (قبل حكما) يعني: يقبل حكما، وإذا قبل حكما قبل ديانة، والحكم هو القضاء، ومراده هنا: أنه لو رفع عند القاضي وأراد القاضي أن يحكم عليه فقال: أنت قلت: أنت طالق لرضا أمي، فقال: قصدت بقولي: لرضا أمي، أي: إن رضيت أمي، وأمي لم ترض، فالقاضي يقبل منه قوله، ويحكم بعدم وقوع الطلاق؛ لأنه في هذه الحالة جاء بلفظ محتمل، والقاعدة: (أن الألفاظ المحتملة لا يلزم المتكلم فيها بشيء حتى يبين مراده) ولا يمكن أن يلزمه بأحدهما ما دام أن اللفظ يحتمل الأمرين. تعليق الطلاق برؤية الهلال فقوله: (أنت طالق إن رأيت الهلال) إن قصد أن تراه، فلا يقع الطلاق إلا برؤيتها، وإن قصد دخول الشهر الثاني فإنها تطلق برؤيتها وبرؤية غيرها، وكأنه يقول: بنهاية هذا الشهر فإن طلاقي عليك واقع، فحينئذ لا يشترط أن ترى الهلال، وتطلق عليه بمجرد أن يدخل الشهر الذي يلي الشهر الذي هي فيه، حتى ولو رآه غيرها؛ لأن قصده ما ذكرناه، أما لو قصد أن ترى بنفسها فلا يقع إلا برؤيتها البصرية. الأسئلة السؤال هل يشترط إذا أسند الطلاق إلى مشيئة المرأة أن تكون مشيئتها مقيدة بذلك الوقت، أي: لو شاءت بعد زمن، هل تطلق؟ مدة نفوذ مشيئة المرأة عند تعليق الطلاق بمشيئتها الجواب باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فذكرنا هذه المسألة، وأنه يقع تراخيا، وأن بعض العلماء يرى أنه لا بد وأن يكون في المجلس، وبعضهم يرى أنه لابد وأن يكون بعد الكلام مباشرة كما هو مذهب الشافعية، لكن الصحيح: أنه إذا أطلق يبقى مطلقا وإذا قيد يبقى مقيدا، إذا قال لها: إن شئت، يبقى على إطلاقه، وحينئذ يستوي أن يكون بعد كلامه مباشرة أو بعده بفاصل.
__________________
|
#575
|
||||
|
||||
![]() استئذان المرأة من زوجها عند خروجها في كل مرة السؤال إذا طلبت الزوجة من زوجها أن يأذن لها إذنا عاما، فهل الأفضل لها أن تستأذنه في كل خروج تعظيما لحقه وإشعارا لمكانه؟ الجواب لا شك أن المرأة الصالحة إذا أحسنت التبعل لزوجها، وكانت على أتم أحوال الأدب؛ فهذا أكمل لدينها، (أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) المرأة الصالحة الدينة دائما تخشى الله عز وجل في حق بعلها، فحينما تجده يكرمها أو يأذن لها في أمر واحتاجت إلى هذا الأمر مرة ثانية مع وجود الإذن المسبق، وعلمت أنه لا يضجر، وإنما أرادت أن تجله وتوقره؛ فإن هذا قربة، ولها المثوبة من الله عز وجل على ما فعلت، وهكذا كل من له حق وفعلت فعلا معه إجلالا له؛ لأنك ما فعلت هذا إلا تعظيما وإكراما، فالمرأة أمرت بإكرام زوجها، والله عز وجل يقول: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} [الأعراف:189] المرأة سكن للرجل، والزوج إذا نظر إلى امرأته وفية، كريمة، صالحة، كلما مكنها من أمر تأدبت معه، وكانت على الكمال في الانتفاع بإذنه؛ فإن هذا يزيد من محبتها، ولا شك أن كل زوجة ستعاشر زوجها سيشهد أمام الله بخيرها وشرها. وهذا كمال وفضل، ولا تفعل هذا إلا المرأة الصالحة الدينة الكاملة الفاضلة، تستأذن زوجها مع وجود الإذن، لكن بشرط أن لا يضجر الزوج من ذلك، ولا يحدث عنده نوع من الكراهية، والمرأة فطنة تدرك هذه الأمور، ويذكر بعض مشائخنا -رحمة الله- عليهم مثلا في تأدب طلاب العلم مع مشائخهم، وتأدب الصغار مع الكبار، وتأدب الولد مع والده أنه إذا وثق الوالد في ولده فأسند إليه أمرا، فرجع الولد إلى والده وسأله كيف يفعل؟ وماذا يأتي؟ وماذا يصنع؟ أعظم والده ذلك منه، ودله على كمال عقله وفضله ونبله، مع أنه يمكن أن يقوم بالأمر، لكنه قصد من هذا إشعار والده أنه ما زالت له ولاية عليه، وأنه وإن كان يثق أنه سيقوم بالأمر فإنه لا يزال محتاجا إليه، هذا هو الشعور النفسي، وهو مرتبة الكمال والفضل، ولا يحرص على معالي الأمور ومكارم الأخلاق على أتم وجوهها إلا مؤمن صالح ومؤمنة صالحة. المرأة تحرص غاية حرصها على طلب مرضاة الله عز وجل بمثل هذا، وهذه أمور قد يراها الإنسان يسيرة، ولكنها عند الله كبيرة، الأدب لا يضر صاحبه، بل ينفعه ويكرمه ويجله، وخاصة مسائل تعظيم شعائر الله عز وجل. المرأة المؤمنة حينما يأذن لها زوجها، وترجع مرة ثانية وتأخذ منه الإذن مع وجود الإذن العام، أو تعلم أنه يرضى بالشيء، ومع ذلك تأتي وتقول له: هل أفعل أو لا أفعل؟ حينما تفعل هذا أمام أولادها ماذا سيكون له من الأثر؟ ولذلك كم من امرأة صالحة كانت تحت يد أم تخاف الله عز وجل وتتقيه وتحسن الأدب مع زوجها؛ وصلت إلى مراتب الكمال بما رأت من تصرفات أمها مع أبيها، وهذا هو البيت المسلم الكامل الفاضل. والمسائل النفسية مهمة جدا، المرأة لما تستأذن من زوجها له آثار طيبة، حتى كان بعض العقلاء الحكماء من كبار السن يوصي أولاده بقوله: لا تأذن إذنا عاما، وقل لامرأتك: إذا أرادت أن تستأذن أن تستأذن أمام أولادها وبناتها، حتى يتعلم أهل البيت الاستئذان، والإجلال لذي الحق، وما عرفنا بيوت المسلمين إلا على هذا الأثر، ولا قامت بيوت المسلمين إلا على هذا الإكرام من النساء الصالحات، وهذا والله لا ينقص المرأة أبدا، وأعداء الإسلام يحرصون كل الحرص على قطع مثل هذه المعاني، ويقولون: المرأة حرة في نفسها فلا تستأذن الرجل، وهذا كله اعتداء لحدود الله، وتمرد على الشريعة، وتمرد على مكارم الأخلاق الفاضلة؛ لأنهم يريدون المرأة كالرجل سواء بسواء والله يقول: {وليس الذكر كالأنثى} [آل عمران:36] وما أخبر الله عنه -وهو أصدق القائلين- فلن يستطيع أحد أن يرده كائنا من كان، فإن الرجل ليس كالأنثى، ولو شاب الغراب؛ لأن الله سبحانه وتعالى إذا حكم في أمر لا يمكن لأحد أن يعقب حكمه، {يحكم لا معقب لحكمه} [الرعد:41] . فالمرأة حينما تأتي أمام أولادها وتقول: هل أخرج؟ يتعلم كل من في البيت أنه لا يخرج إلا بإذن الوالد، ولذلك كم من أطفال صغار نظروا إلى أمهاتهم وهن لا يخرجن إلا بالإذن، فأصبح الابن يتربى على الإذن، فنشأ البيت كله تحت قيادة الأب، ورعاية الأب، مع أم صالحة دينة وفية كريمة ذات خلق وذات فضل، فصلحت الأسرة، وقد كانت بيوت المسلمين على هذا، وقوة الأمة الإسلامية تكون بقوة البيت المسلم وتماسكه واعترافه بقيام الرجل على المرأة. وهذا الأدب فيه سمو وعلو للمرأة؛ لأن المرأة بفطرتها وخلقتها لا يمكن أن تصلح إلا بهذا، ولتنظر إلى أي بيت تكون فيه المرأة راعية لنفسها متمردة على بعلها تجده -والعياذ بالله- أشقى البيوت، تجده بيتا مدمرا، والله لو جلسوا على المتاع الوفير، وأحسنوا فيما هم فيه من نعيم الدنيا؛ لكن صدورهم في ألم وشقاء وعناء لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ لأن المرأة إذا رأتها ابنتها لا تستأذن، وتخرج متى شاءت، خراجة ولاجة متى أرادت، متمردة على بعلها؛ تمردت هي على أبيها غدا، وتمرد الابن على أبيه غدا، وأصبح البيت بدون قائد وبدون راعي، والله عز وجل جعل الرجل راعيا في بيته، وجعله قائما على أهله وولده {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم:6] ولذلك تجد المرأة المسلمة تربي أبناءها وبناتها من الصغر ومنذ نعومة أظفارهم على الأدب، فلا يخرج الولد من عند الباب حتى يستأذن والده، وحق لها أن لا تموت حتى ترى حسن الأثر لمثل هذه الآداب والأخلاق في أولادها؛ لأن المرأة لو ربت أولادها على هذا الشعور النبيل الفاضل استقام أمر البيت، وتجد الآن -ما شاء الله ولا قوة إلا بالله- رجلا كاملا في رجولته، لكن ما إن يدخل بيت أبيه إلا عاد على حاله أيام الصغر، وفاء وحفظا للعهد الذي يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: (حفظ العهد من الإيمان) ، فيدخل البيت وإذا به تحت والده، حتى أن بعضهم يقول: والله إنه كبر والدي، وهو في آخر عمره، وما زالت في هيبة والدي التي أعرفها في الصغر؛ لأن الأم كانت ممسكة بزمام البيت، وكانت محافظة على فرض هذا الشعور، ولله درها من أم، ولا يمكن أبدا أن تستقيم أمور البيوت ولا الحياة الزوجية إلا بمثل هذا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد - يعني: وهي تذهب إلى الصلاة لا بد أن تستأذن- فلا يمنعها) ويقول: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فإذا كانت في الطاعات تستأذن، فكيف في أمور الدنيا؟ فلا شك أن خروج المرأة لا بد فيه من الإذن، ولا بد أن تراعي الأكمل والأفضل في هذا. والإنسان إذا حرص دائما على مراتب الكمال، كمل الله عز وجل أموره في كل شيء، حتى وأنت في إدارتك ووظيفتك مع من هو أكبر منك وأعلى منك، تتأدب، فإذا بالقلوب تجمع على محبتك، والظنون السيئة تبتعد عنك؛ وهذا من حسن ما جعله الله لأهل الإيمان من الود، فإنه لما كملت أخلاقهم وكمل إيمانهم بحسن الخلق جعل الله لهم المحبة في الخلق، وذلك قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} [مريم:96] أي: سيجعل الله لهم الود، وهو: خالص الحب، لكن بماذا؟ بفضله سبحانه ثم بالإيمان، وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وأكملهم خلقا، والمرأة المؤمنة إذا كمل خلقها كملت محبتها، وعندها تصبح المرأة ناجحة، وتصبح المرأة ممسكة بزمام الأمور، بعد كبر الأبناء والبنات؛ ترى حسن العاقبة والأحوال. فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكرمنا بهذه الأخلاق، وأن يهدي شباب المسلمين وشاباتهم إلى التمسك بها والعمل بها، والله تعالى أعلم. كيفية الإيجاب والقبول لمن تولى طرفي عقد الزواج بالوكالة السؤال إذا تولى رجل طرفي عقد الزواج -كأن يكون وليا للمرأة ووكيلا للزوج- فكيف يكون الإيجاب والقبول؟ الجواب هذه المسألة خلافية بين العلماء رحمهم الله، بعض أهل العلم يرى أنه يمكن أن يكون شخص واحد كافيا في طرفي العقد، وحينئذ لا يشترط الإيجاب والقبول؛ لأن العقد يقوم على الصيغة قولا وفعلا، فإذا انتفى وتعذر أن تكون الصيغة بالقول بأن يخاطب نفسه ويقول: بعت واشتريت، انتقلت إلى الفعل؛ لأنه بمجرد أن يأخذ الشيء المبيع ويقبضه، فقد انتقل إلى ملكه، مثلا: يأخذ العشرة آلاف ريال ليشتري بها سيارة من الأيتام، فيضعها في رصيد الأيتام ثم يقبض السيارة فحينئذ قد تم العقد، فيكون الفعل منزلا منزلة القول، فإذا تعذر القول انتقل إلى الفعل، كما هو الحال في المعاطاة ونحوها، والله تعالى أعلم. حكم جمع المسافر للصلاة بدون قصر السؤال هل يجوز للمسافر أن يجمع بدون قصر؟ الجواب المسافر لا شك أن الله عز وجل رخص له قصر الصلاة، فإذا أتم الصلاة أمكنه أن يجمع، مثلا: جاء إلى مكة مسافرا، وطاف بالبيت، وأقيمت صلاة الظهر وهو يريد أن يسافر إلى الطائف، فلما صلى الظهر مع الإمام أربع ركعات؛ أقام صلاة العصر وصلاها ركعتين، فإنه أتم الصلاة الأولى، أو العكس، يتم الصلاة الثانية، مثل أن يقيم لصلاة الظهر ويصليها قصرا، وبعد سلامه يصلي العصر مع الإمام، فقد أتم الثانية، أو يدخل مع جماعة فاتتهم صلاة الظهر فأتموا، ثم تأتي مجموعة ثانية تصلي الظهر تامة فيصلي معهم بنية العصر، فصليت مع الجماعة الأولى الظهر ثم أردت أن تصلي العصر فجاءت جماعة ثانية فصليت معهم لتكسب أجر الجماعة، هذا كله لا بأس به، فتكون جمعت بين الصلاتين ولم تقصر لا الأولى ولا الثانية، أو جمعت بين الصلاتين فقصرت الأولى ولم تقصر الثانية أو العكس كله جائز، لكن لو يقصد ذلك وهو مسافر، فيتم الظهر ويتم العصر فهذا خلاف السنة، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر) . فلا ينبغي للمسلم أن يخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وعليه التزام السنة، والحرص على صلاة العصر والظهر والعشاء مقصورة، تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يوجد العذر، مثل أن يصلي وراء مقيم متم، والله تعالى أعلم. تقديم الحضور مبكرا للصف الأول على صلاة السنة في البيت السؤال من كان يؤدي ركعتي الفجر في بيته ولا يأتي المسجد إلا على الإقامة حرصا منه على السنة، ولكن يفوته الصف الأول في الغالب، فهل في ذلك حرج؟ الجواب لا، الأفضل أن يبكر إلى المسجد، ويصلي تحية المسجد، وينال فضيلة الصف الأول؛ لأن القاعدة عند العلماء أن فضائل الفرائض مقدمة على فضائل النوافل، فصلاة النافلة في البيت هذا بالنسبة لفضيلة النافلة (صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) هذا الوجه الأول للتفضيل. الوجه الثاني: أن الفضيلة المنفصلة عن ذات الصلاة والفضيلة المتصلة بذات الصلاة إذا تعارضتا قدمت الفضيلة المتصلة بذات الصلاة، والصف الأول فيه فضيلة المكان للصلاة، فتقدم على الفضيلة المنفصلة عن الصلاة، ولذلك قالوا: لو كنت عند ركوبك للسيارة تدرك الصف الأول، وتدرك تكبيرة الإحرام أو تدرك التأمين، ولو مشيت على قدميك لا تدرك ذلك، فاركب السيارة وهذا أفضل؛ لأنك تدرك فضيلة الصف الأول وفضيلة التأمين وهما فضيلتان متصلتان بالصلاة، بخلاف فضيلة المشي للصلاة فإنها فضيلة منفصلة عن الصلاة، وإذا تعارض المتصل والمنفصل قدم المتصل على المنفصل، فهذه كلها قواعد للتفضيل أشار إليها العلماء في كتب القواعد، فأنت تقدم في هذه الحالة ما تقدم، لكن تنوي في قرارة قلبك أنه لولا أنك تريد الصف الأول وفضيلة الصف الأول لصليتها في بيتك حتى يكتب الله لك أجر السنة، والله تعالى أعلم. حكم تحجيج الزوج لزوجته السؤال إذا كان الزوج مستطيعا فهل يلزمه أن يحجج زوجته؟ الجواب ليس على الزوج أن يحجج زوجته، ولكن الأفضل والأكمل أن يفعل ذلك، فإن حج الزوجة ليس من الأمور المتعلقة بالزوجية، ولكن لا شك أنه إذا احتسب الأجر عند الله عز وجل وحججها فإن الله يأجره، وينبغي للأزواج أن يحرصوا على ذلك، وأن يعينوا أزواجهم على الحج وعلى ذكر الله وطاعة الله عز وجل لما في ذلك من زيادة الخير والبر لهم، وإذا صلحت المرأة أصلح الله بصلاحها أمور البيت وصلحت لبعلها، وكان أول من يرى أثر صلاحها زوجها وأولادها، فعلى الزوج أن لا يقصر في مثل هذا، وعليه أن يحتسب الثواب عند الله وليحمد الله جل جلاله أن رزقه امرأة تريد منه أن يعينها على طاعة ربها، فإذا فعل ذلك شكر الله عمله وبارك ماله وأحسن له العاقبة، والله تعالى أعلم. الفرق بين: (عام مخصوص) و (عام مضاف إلى الخصوص) السؤال هل هناك فرق بين عام مخصوص وعام مضاف إلى الخصوص؟ الجواب عام مخصوص أي: دخله مخصص، ودخله التخصيص، أي: جاء نص خاص يخص هذا العموم، تقول: هذا عام وهذا خاص، سواء اختص بصحابي في زمان النبي صلى الله عليه وسلم أو اختص بشخص آخر توفرت فيه الصفات، مثلا يقول الله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] لما قال الله تعالى: (( فرجل وامرأتان )) وقال: (( واستشهدوا شهيدين من رجالكم )) دل ذلك على أن الأصل في الشهادة العدد؛ فلا يقبل الشاهد الواحد، ومع ذلك قبل عليه الصلاة والسلام شهادة خزيمة وحده، فعندنا عام وعندنا خاص، فهذا العام الذي ورد من الشرع خصه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، فجعل شهادته كشهادة رجلين، فهذا لا نعتبره لكل الأمة، فلا تكفي شهادة واحد في الأحكام، ولا يقبل القاضي شهادة الواحد وحده، وإنما يقضي بشهادة رجل مع امرأتين، أو شهادة رجل مع رجل، أو شهادة رجل مع اليمين في أمور الأموال، وما يتعلق بها كما سيأتي -إن شاء الله- في باب القضاء، فنقول: قضية خزيمة خاصة، والأصل في العام أن يبقى على عمومه، ولكنه عام دخله التخصيص على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الصحابي، فهذا تخصيص يختص بعينه. وهناك تخصيص عمومي في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، مثلا: ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بتحية المسجد، وورد عنه أنه نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر، والجمهور يرون أن الأمر بتحية المسجد عام، والنهي عن الصلاة بعد صلاة العصر خاص تعلق بالوقت والزمان، فيقولون: يصلي تحية المسجد في سائر الأوقات إلا في الأوقات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا عام دخله التخصيص، فيقولون: هذا العموم يفعل في كل وقت إلا في هذه الحالة الخاصة التي استثناها الشرع. أما بالنسبة لعام أريد به الخصوص، فيأتي اللفظ عاما في كتاب الله عز وجل لكن المراد به الخصوص، فيختلف عن الأول، الأول عام شامل لجميع الأمة، فلما أمر بتحية المسجد فهو أمر لجميع الأمة بصلاة تحية المسجد، لكن قد يأتي أمر لا يريد به الله عز وجل العموم، وإنما يريد به طائفة معينة مثل: قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم} [النور:32] (( أنكحوا )) كلنا مأمور أن ينكح، لكن هل أنا مأمور بهذا الأمر؟ إنما يؤمر به من عنده هذا الشيء، فحينئذ نقول له: أنكح الأيامى الذين عندك والصالحين من عبادك وإمائك، فعنده رقيق وانطبق عليه هذا الأمر، فهذا عام أريد به خاص، وأريد به طائفة مخصوصة، ولا يراد به العموم لكل الأمة؛ لأنه لا يمكن أن يكون لكل أحد عبد أو أمة حتى ينكحها أو ينكحه. فيكون النص عاما ويراد به الخاص، ويكون خاصا ويراد به العموم، ويأتي عام فيدخله التخصيص، ويأتي عام مراد به طائفة معينة خاصة، والنصوص يعمل بها على حسب ما دلت عليه الأدلة، ما لم تقم القرينة أو الدليل على التخصيص أو إرادة العموم، والله تعالى أعلم. حكم طلب الزوجة الطلاق لأدنى مشكلة السؤال بمجرد حصول أدنى مشكلة بين الزوجين تطلب المرأة فورا الطلاق، فهل يجوز لها ذلك؟ الجواب لا يجوز للمرأة أن تسأل زوجها الطلاق من غير ما بأس، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة ذلك كما في الصحيح، وورد فيه الوعيد الشديد وهو أن (الجنة على المرأة حرام إذا سألت الطلاق من غير ما بأس) -نسأل الله السلامة والعافية- فعلى المرأة أن تتقي الله عز وجل. وأما بالنسبة للمشاكل الزوجية فالواجب على المرأة أن تصبر، وأن تحتسب عند الله عز وجل الثواب، وكل إنسان إذا ضاع حقه وأهينت كرامته، وأذل في عزه، واعتدي على ماله؛ فليحتسب أمره عند الله عز وجل، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، والمرأة لا يرد حقها الطلاق، ولا يرد حقها هدمها لبيتها وأذيتها لأطفالها، فلتعلم المرأة أنها إذا سألت زوجها الطلاق أنها تهدم بيتا من بيوت المسلمين، ولتعلم أنها إذا سألت الطلاق أنها تدمر أسرة من أسر المسلمين، والله سائلها عن ضياع أبنائها وفلذات كبدها، وعليها أن تكون قوية تستعصم بربها، وكم من صعاب ذللت وهموم تبددت ومشاكل وغموم أزيلت بالثقة بالله جل جلاله، فإن الله نعم المولى ونعم النصير، خاصة للمرأة لأنها ضعيفة، وضعفها موجب لرحمة الله عز وجل لها، ولعظيم شأن المرأة، ولكثرة المظالم التي تقع عليها؛ أخبر الله عز وجل أنه يسمع شكواها من فوق سبع سماوات، وهذا ليس خاصا بالمرأة، بل هو سبحانه يسمع كل شكوى، ويجيب ويكشف كل بلوى، فهو سبحانه وتعالى منتهى الشكوى، وكاشف الضر والبلوى، جل جلاله وتقدست أسماؤه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة واليتيم) . وعلى المرأة أن تعلم أنها مهما فعلت مع زوجها فأجرها على الله، وكل إنسان يضع هذا الاعتقاد وهذا الشعور في قلبه يزول عنه عناء الدنيا ونكدها، إياك أن تفعل أي حسنة وتنتظر من أحد ثوابا أو جزاء عليها غير الله جل جلاله، وطن نفسك على ذلك، ليس لك إلا ربك، ولا أرحم بك من الله جل جلاله، عود نفسك على ذلك فتستريح من هموم الدنيا كلها، كل هذا ثقة بالله وحده، ولذلك ما من أحد يعلق قلبه بغير الله إلا عذبه الله بذلك التعلق. ومن هنا قد تجد المرأة تكافح وتكابد وهمها أن ترضي زوجها دون أن يكون ف يبالها رضا الله عز وجل، فيأتي اليوم الذي يوليها ظهره فيكفر معروفها وينسى فضلها فتصدم بذلك، ولكنها إذا وطنت قلبها بالاستعانة بالله وأصبحت في جميع حركاتها وسكناتها تلتمس أول ما تلتمس مرضاة الله، وإذا أحسنت لبعلها تفكر أول شيء هل هذا الإحسان الذي تريد أن تقوم به والسرور الذي تدخله عليه هل هو يرضي الله أو لا يرضيه؟ فإن كان يرضي الله فعلته، وإن كان لا يرضي الله تركته، ولا تبالي بأحد كائنا من كان، ووالله ما وطنت نفسها على ذلك إلا جعل الله ضيق الدنيا عليها سعة، وأسعدها في نفسها وولدها وبعلها، ولو طلقها زوجها أو فارقها أبدلها الله خيرا منه. ولا يمكن أن تستقيم حياة المرأة بل حياة كل عبد إلا بهذا الأساس، ولذلك أي إنسان يقوم بشيء يجامل به أهل الدنيا أو ينتظر به من أهل الدنيا شيئا إلا عذبه الله به، وبكى طويلا وبكى مريرا وتقرح قلبه وشقيت نفسه؛ فمن يريد غير الله عز وجل فقد خاب وخسر، فإن كان يطلب الغنى أذله الله بالفقر، وإن كان يطلب الكرامة ألبسه الله المهانة، فلا كرامة إلا بالذلة بين يدي الله، ولا عزة إلا بالذلة بين يدي الله عز وجل، ولا استغناء إلا بالله الذي لا تنفد خزائنه، فعلى المرأة دائما أن توطن نفسها على ذلك، وليس عند كل مشكلة تصيح في وجه زوجها: طلقني طلقني، هذا ليس من العشرة بالمعروف، وليس من شيمة المرأة المؤمنة. الطلاق لا يذكر في بيت مؤمنة، أبدا، بل تصبر وإن رأت خيرا حمدته، وقالت: الفضل كله لله، قيل لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما ابتليت ورأت الشدة والكرب وضاقت عليها الأرض بما رحبت في أعز شيء تملكه المرأة بعد دينها وهو عرضها، قذفت وأوذيت رضي الله عنها وأرضاها، فلما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام ببراءتها، وبشرها عليه الصلاة والسلام بذلك، وبدت أسارير وجهه تبرق عليه الصلاة والسلام من الفرح بنصر الله لوليته المؤمنة؛ وبعد أن انتهت الآيات قيل لها: اشكري رسول الله، قالت: لا والله، بل أشكر الله، أول شيء وجهت وجهها لله سبحانه الذي كان معها نعم المولى ونعم النصير، فرسول الأمة جلس بين يديها وقال: (يا عائشة -كما في الصحيح- إن كنت أذنبت ذنبا فتوبي إلى الله واستغفريه) فتنة عظيمة، وشهر عظيم مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه الأسى والبلاء مما يجده عليه الصلاة والسلام في عرضه؛ لأنه أمر ليس بالهين، ومع ذلك ثبتت أم المؤمنين ذلك الثبات العظيم، الذي دل على أنها موقنة بربها، والشيء من معدنه لا يستغرب، فأبوها صديق الأمة رضي الله عنه وأرضاه، الذي باع نفسه وماله وأهله كله لمرضاة الله جل جلاله، وهذا كله لا يكون إلا بكمال التوحيد وكمال الإخلاص {ومن يعتصم بالله} [آل عمران:101] من يعتصم من الرجال أو من الإناث أو من الأقوياء أو من الضعفاء {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران:101] سلوة الدنيا وسرورها وبهجتها وحبورها كله مطلوب بالثقة بالله جل جلاله، فالمرأة دائما تعود نفسها على هذا، فإذا جاءت المشاكل وواجهت زوجها بما يكره هنا تزداد المشكلة، فالمرأة تحسن التبعل لزوجها وتقوم على خدمته، وبعض الأزواج -أصلحهم الله- قد يكون فظا، وقد يكون غافلا عن بيته، وعلى كل مؤمن أن يتقي الله ويفكر في زوجته وهي بين أربعة جدران تغسل ثوبه، وتكنس بيته، وترعى صغيره، وتقوم على شئونهم؛ حتى يستطيع أن يعاملها بما تستحقه، وأن يكافئ معروفها، فيكون برا وفيا لها، فإذا كان الرجل جاهلا بهذه الأمور فصاح في وجهها واستفزها وآذاها، فخرجت منها هذه الكلمات، فلا ينبغي لها هذا؛ لأنها تعلم علم اليقين أنها تعامل الله سبحانه وتعالى ولا تعامل زوجا فقط، فإذا فعلت ذلك أنعم الله عيشها وأقر عينها وأسعدها في نفسها وبيتها، وجعل لها حسن العاقبة. وعلى الرجل المؤمن دائما أن يقوي صلته بالله جل جلاله، فإذا فعل ذلك فقد نعم عيشه وطابت حياته ولما ينتظره عند الله عز وجل أعظم وأجل؛ لأن القلوب إذا عاملت ربها أعظم جزاءها كما قال تعالى: {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا} [الأنفال:70] . فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا كمال الإيمان به، وصدق الالتجاء إليه، وصدق المحبة والرغبة فيما عنده، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد.
__________________
|
#576
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (447) صـــــ(1) إلى صــ(17) شرح زاد المستقنع - باب تعليق الطلاق بالشروط [8] تعليق الطلاق بحصول شيء كلي لا يقع إلا بحصوله كله ولا يقع ببعضه إلا إذا نوى ذلك البعض، وقد بين العلماء أدلة هذه الأحكام. وكذلك إذا علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسيا أو جاهلا اختلف فيه الفقهاء رحمهم الله، وبينوا الفرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي في هذه المسألة ونظائرها. تعليق الطلاق بحصول شيء كلي فلا يحصل إلا بعضه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وإن حلف لا يدخل دارا أو لا يخرج منها، فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب، أو لا يلبس ثوبا من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فشرب بعضه لم يحنث] عقد المصنف رحمه الله هذا الفصل لبيان جملة من المسائل التي تتعلق بتعليق الطلاق نفيا وإثباتا على فعل شيء أو تركه، فمتى يصدق عليه أنه أخل يحكم بوقوع الطلاق، ومتى لا يصدق عليه ذلك فلا يحكم بوقوع الطلاق، وهذا يتوقف على جملة من الصفات يعلق الطلاق على وجودها، وهذه الصفات قد يريد بها الكل أو يريد بها البعض فينظر في هذا الاسم الذي ذكره، هل يصدق على كل الشيء أو بعض الشيء؟ وهل الذي فعله الكل أو البعض؟ ثم بعد ذلك يحكم بالوقوع وعدمه. قال المصنف رحمه الله: (إن حلف لا يدخل دارا) فإذا قال: إن دخل بيت فلان فامرأته طالق، أو قال بالعكس: امرأته طالق إن خرج من بيته اليوم، أو نحو ذلك. فإذا علق الطلاق على الدخول فلا بد من وجود الدخول على الصفة الكاملة؛ لأن الإنسان قد يدخل بكامل جسده وقد يدخل بعض جسده فقط، فهل امرأته تطلق بمجرد وقوع الدخول لبعض الجسد، أم أنها لا تطلق إلا إذا حصل الدخول الكامل للجسد؟ وهل الجزء ينزل منزلة الكل أو لا؟ نقول: إذا وقع الدخول للجسم كله فلا إشكال أن امرأته طالق؛ لكن لو أنه أدخل يده لاستخراج شيء من البيت فهل تطلق المرأة؟ وهكذا لو أنه أدخل رجله ثم تذكر ورجع ولم يدخل كل جسده، فهل نحكم بالطلاق؟ الجواب لا بد من دخول جسمه كاملا، والجزء لا يأخذ حكم الكل، والشريعة أحيانا تعطي الجزء حكم الكل، وهذا بالسريان، أو بالتجوز في اللفظ، وأحيانا لا تعطي الجزء حكم الكل، فتعطي الجزء حكم الكل كما إذا قال: يدك طالق، فالحكم كأنه قال: أنت طالق؛ لأن الطلاق لا يتعلق بالجزء وحده، ولا يمكن إسقاط الطلاق الذي أثبته، فهنا يأخذ الجزء حكم الكل، ومن ذلك إطلاق الشرع للمسجد الحرام على مكة كلها، وكذا تسمية الصلاة بالسجدة، وتسميتها بالركعة، وهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، لكن هناك مسائل لا تعطي فيها الشريعة الجزء حكم الكل وهي كمسألتنا، ومثل: مسألة الاعتكاف لو كان معتكفا في المسجد فأخرج يده فإنه لا يبطل اعتكافه؛ لأن الاعتكاف يبطل بخروج الإنسان من دون حاجة من المسجد، فلو أخرج يده أو رجله أو جزءا من جسده ولم يخرج بكل بدنه فإنه لا يبطل اعتكافه، فلابد من وجود الكل تاما على الوجه المعتبر حتى يحكم بوقوع ما رتب المكلف وقوع الشيء عليه، وفي السنة ما يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا في مسجده، فكان يناولها رأسه وهو معتكف فترجله) فهذا يدل على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل؛ لأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد، كذلك ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عائشة وهو معتكف: (ناوليني الخمرة، قالت: يا رسول الله! إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك) لأنه قال: ناوليني، ومعنى ذلك: أنها ستدخل يدها، ففهمت عائشة أنها ممنوعة جزءا وكلا، فقالت: يا رسول الله! -وهي فقيهة رضي الله عنها- إني حائض، فقال: (إن حيضتك ليست في يدك) ، يعني: أنك إن أدخلت اليد لم يكن ذلك دخولا للجسم كله، وهكذا هذه المسألة التي ذكرها المصنف فلا يحنث بإدخال بعض جسده. ثم عندنا استصحاب الأصل أنها امرأته، ولم يقع الدخول على الوجه التام الكامل، والأصل عدم الطلاق، فإذا قال: امرأته طالق إن دخل بيت محمد فأدخل جزءا من جسده لم يحكم بطلاق امرأته حتى يدخل جسمه كاملا ولو للحظة يسيرة، فإذا دخل جسمه كاملا ولو لطرفة عين فإنه تطلق عليه امرأته، وأما دخول بعض الجسم فلا يوجب ذلك ثبوت الطلاق. العكس لو قال: امرأته طالق لو خرج اليوم من بيته، فأخرج يدا أو أخرج رجلا، أو أخرج رأسا، لم تطلق امرأته حتى يخرج بتمامه وكماله. مسألة: لو قال: امرأته طالق إن خرج من البيت وكانت امرأته حاملا، وشاء الله أن تضع في الساعة السادسة، وفي الساعة السادسة إلا عشرة أخرج الزوج جزءا من بدنه من البيت، ثم خرج من البيت بعد الولادة، فحينئذ تعتد بعد الولادة لأن الطلاق وقع بعد الولادة، ولكن إن وقع خروج الجسم كاملا قبل ولادتها ولو بلحظة فإنها تطلق قبل الولادة وقت خروجه من البيت، وتخرج من عدتها بالولادة؛ لأن المطلقة الحامل تخرج من عدتها بالوضع، فحينئذ إن خرج الزوج بكل جسده قبل الولادة ولو بوقت يسير فإنه يحكم بكونها أجنبية؛ لأنها خرجت من عدتها بالوضع، أما لو أخرج بعض جسده ثم وضعت ولدها ثم خرج بجسمه كله بعد وضعها لولدها فتستأنف عدتها بالحيض؛ لأن الطلاق وقع بعد الولادة. والحاصل: أن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسألتنا؛ لأنه علق الطلاق على صفة الدخول فلا بد من وقوعها من الجسم كاملا ولا يجزئ وقوع البعض، وكذلك الحال في الخروج. (أو دخل طاق الباب) هو القوس الذي تكون فيه عضادتي الباب، فلو جاء رجل ودخل على فم الباب ووقف على نفس الطاق بحيث إن جسمه مسامت للطاق، هذا هو الحد، فإن جاوزه حصل الدخول الفعلي بحيث يخلف هذا الطاق وراء ظهره ويدخل، وإن خرج وخلف الطاق وراء ظهره خروجا فقد خرج، فالعبرة بهذا الحد الفاصل الذي يعتمد عليه الباب ويسمى: طاق الباب، فإن جاوزه حكم بالطلاق دخولا وخروجا، وإن لم يجاوزه لم يحكم بوقوع الطلاق. (أولا يلبس ثوبا من غزلها فلبس فيه منه) علق الطلاق على لبس ثوب من غزل امرأته، أو غزل أخته، أو غزل أمه. الخ. واللبس هو: الدخول في الشيء، فلو حلف بالله أنه لا يلبس الثوب، فنام ووضع الثوب فوقه، لم يحنث؛ لأنه لم يدخل فيه؛ لأن اللبس حقيقته الدخول، ولو كان محرما فأخذ الثوب ووضعه على كتفيه لم تلزمه الفدية؛ لأنه لم يلبس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا القمص، ولا العمائم) بحيث يقع الدخول الفعلي. وفي هذه المسألة: إذا كان الثوب فيه شيء من غزل المرأة ولبسه فقد حصل الدخول، ولذا قال بعض العلماء: يحنث ولو كان فيه أقل ما يكون من غزل المرأة، واختار المصنف أنه لا بد وأن يكون منسوجا من غزلها نسجا كاملا، فلو كان النسج في بعض الثوب أو كان في هذا الثوب شيء من غزلها فإنه لا يحكم بالطلاق على ما اختاره رحمه الله، فيعلق هذا على التمام والكمال، فلا بد وأن يكون الثوب منسوجا كله من غزلها حتى يقع الطلاق وإلا لم يقع. (أو لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث) الإناء ينقسم إلى قسمين: إناء كبير وإناء صغير، فالكبير الذي لا يمكن لمثله أن يشربه، فإذا كان الإناء صغيرا فعلى ما ذكر المصنف من أنه إذا قال الرجل: لا يشرب ماء هذا الإناء، فمعناه: إن شربه تاما كاملا وقع الطلاق، فلو شرب منه وبقي منه بقية ولو قليلة لا يقع الطلاق؛ لأنه علقه على شربه تاما كاملا، فالمسألة مبنية على ما تقدم من أنه لا يأخذ البعض حكم الكل. أما لو كان الإناء كبيرا فإنه لا يقدر على شرب كل ما في الإناء لأنه أمر مستحيل، مثل أن يقول: لا يشرب ماء هذا النهر، فإنه لا يمكن شرب كل النهر وإنما المراد أن لا يشرب من النهر، فهذه قرينة تدل على أنه يريد الشرب من الإناء أو من النهر. والطلاق تارة يعلق على الشرب، وتارة يعلق على المشروب، وتارة يعلق على الإناء نفسه، فقد يقصد بقوله: لا يشرب من هذا الإناء، المشروب الذي فيه، فلو شرب منه ولو بعضه فإنه يقع الطلاق عند بعض العلماء لأن (من) للتبعيض، إذا قصد المشروب الذي داخل الإناء؛ لأن الإناء لا يشرب وإنما يشرب الذي بداخله، فإذا قال: لا أشرب من هذا الإناء وقصد البعض فإنه لا يحنث إلا بالبعض، وإذا كان مراده: كل الإناء، فحينئذ يرد فيه التفصيل ما بين الكبر والصغر، وأما إن قصد الإناء نفسه أنه لا يشرب منه، مثل أن يختصم مع رجل وقال له: امرأتي طالق إن شربت من إنائك، فيبقى الطلاق معلقا على وقوع الشرب من الإناء سواء كان فيه ماء أو غير ماء؛ لأن العبرة بالإناء نفسه، بغض النظر عن الذي يكون فيه، فإذا شرب من الإناء حكم بالطلاق. إذا: تارة يقصد بالامتناع عن الشرب من إناء مخصوص، وتارة يقصد نفس الشراب الذي في الإناء، فإن قال: والله ما أشرب من ماء هذا الإناء، ووضع في الإناء شراب برتقال أو لبنا لم يحنث، ولم يقع الطلاق؛ لأنه خصص فقال: من ماء هذا الإناء، وقصد الماء فلا ينصرف إلى غيره. الخلاصة: أنه تارة يقصد الإناء نفسه، فحينئذ يقع الطلاق بأي مشروب في هذا الإناء سواء كان ماء أو غيره، وتارة يقصد الماء الموجود في الإناء فيفصل بين أن يقصد تمام الإناء أو بعض الإناء، كما لو وجدت قرينة تدل على أنه يريد البعض، وتارة يقصد الأمرين سواء كان في الإناء مشروب من الماء المسمى، أو كان غيره، فحينئذ يقع بأي واحد من الأمرين، سواء كان فيه شراب أو غيره وسواء استتمه أو لم يستتمه، فيحكم بوقوع الطلاق. من علق الطلاق على فعل شيء ففعله ناسيا قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا حنث في طلاق وعتاق فقط] النسيان: ذهاب الشيء عن بال الإنسان فلا يتذكره، والناسي إذا ذكر يتذكر غالبا، وهذا من النقص الذي جعله الله عز وجل في بني آدم، ويعتبر النسيان من الأعذار الموجبة للتخفيف، فرحم الله العباد بإسقاط المؤاخذة عنهم حال النسيان، والنصوص في هذا واضحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة:286] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عن الله عز وجل أنه لما دعا المؤمنون بهذا الدعاء قال الله: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إن نسيتم أو أخطأتم، وقال عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والإجماع منعقد على أن النسيان عذر، لكن في الشريعة تفصيل في هذا العذر: ففي بعض الأحيان يوجب سقوط المؤاخذة عن الإنسان من حيث الإثم ومن حيث التبعية، فلا يؤاخذ بضمان، وذلك في حق الله عز وجل خاصة، مثال ذلك: لو تطيب الحاج ناسيا، ثم تذكر فغسل الطيب فلا شيء عليه في أصح قولي العلماء رحمهم الله ولا يأثم؛ لأنه لم يقصد وضع الطيب، وإنما الآثم هو الذي يمنعه ربه فيعتدي حدود الله وهو مستشعر هذا الاعتداء، أما هذا فهو ناس وليس عنده إرادة العصيان لله عز وجل في هذا الشيء، فلا يحكم بإثمه من هذا الوجه، فأسقط الله عنه المؤاخذة، وهذا يسمى: سقوط المؤاخذة، وأما الضمان فإنه يسقط عنه، ولا تجب عليه الفدية عند الشافعية والحنابلة، أما عند الحنفية والمالكية فتجب عليه الفدية، يقولون: يسقط عنه الإثم ولا يسقط عنه ضمان حق الله عز وجل، والصحيح: قول الشافعية والحنابلة، فمن تطيب ناسيا أو غطى رأسه ناسيا أو لبس مخيطا ناسيا ثم أزال ذلك لما تذكر فإنه يسقط عنه الإثم وتسقط عنه المؤاخذة. وبعض مسائل العبادات والمعاملات يجب فيها ضمان الحق على الناسي إذا وقع في خلل، فيسقط عنه الإثم لمكان النسيان، ولكن يجب عليه ضمان الحق، خاصة في حقوق الناس، مثال ذلك: رجل استدان من آخر ألف ريال ثم نسي هذه الألف نسيانا كليا، وتخاصما عند القاضي فقال: هل لفلان عليك شيء؟ قال: لا، ليس عندي شيء، قال: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، قال: أتحلف اليمين؟ فحلف اليمين، فهو حلف بالله أنه ليس عنده شيء؛ لأنه لم يتذكر، ويجوز للإنسان أن يحلف على غالب ظنه ويقينه، فهو لم يتذكر أن لفلان عنده شيء، أو ظن أنه قد قاضاه، ثم بعد سنة أو سنوات تذكر أن لفلان عنده ألف ريال، فهذا النسيان يسقط عنه الإثم في حلفه، ويسقط عنه الإثم في القضاء، ولكن يجب عليه ضمان الألف الريال، مع أن القاضي قد حكم أن ذمته بريئة، فلا يسقط هذا الحق، ويجب عليه أن يضمن الحق لصاحبه، فيرد الألف ريال للشخص الذي استدانها منه، فهذا في حق المخلوق، وكذلك يجب عليه ضمان الحق في حق الخالق كما لو صلى ركعة من صلاة الصبح وظن أنه قد صلى الصبح تامة، ثم تذكر بعد طلوع الشمس أنه لم يصل الصبح، فهو معذور، ولكن لما تذكر يجب عليه ضمان حق الله عز وجل فيتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت كما في الحديث: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك) . فهذه قاعدة: (إذا ألزمت الشريعة الناس بالضمان فهذا من باب الحكم الوضعي، وإذا أسقطت عنهم المؤاخذة فهذا من باب الحكم التكليفي) ، والحكم الشرعي: إما حكم تكليفي وإما حكم وضعي، فمن حيث إسقاط المؤاخذة من جهة التكليف لا يحكم بإثم، ولذلك قال بعض العلماء: الناسي ليس بمكلف أثناء النسيان، فيسقط عنه الحكم من جهة الجانب التكليفي، لكن من جهة الجانب الوضعي لا يسقط عنه؛ لأن الشريعة أوجبت على الإنسان ضمان الحق بكل وجه، فيضمن الحقوق لأهلها، وكونه ناسيا ثم يتذكر فإنه يعذر أثناء النسيان لكن بعد النسيان يجب عليه الضمان، فالنسيان والخطأ إذا ألزمت الشريعة فيهما بضمان فهذا من باب الحكم الوضعي. مثال: لو أن رجلا رأى طيرا وأطلق سلاحه ليصيده فأصاب شخصا فقتله، فهذا خطأ مثل النسيان وكلاهما عذر، لكن يجب عليه أن يضمن دية هذا الشخص وأن يكفر كفارة قتل الخطأ، مع أنه خطأ، لأن الشريعة آخذته من باب الحكم الوضعي وليس من باب الحكم التكليفي، فالشريعة أوجبت الضمان لوجود القتل، بغض النظر عن كونه قاصدا أو غير قاصد. مسألة: إن قال: إن دخلت الدار فامرأتي طالق، أو نسائي طوالق، ثم نسي هذا التعليق بالطلاق ودخل وهو ناس، فهل يؤاخذ أو لا يؤاخذ؟ قال طائفة من العلماء: لا شيء عليه ولا يقع عليه الطلاق، وقال طائفة من العلماء: يؤاخذ في الطلاق وفي العتاق، قالوا: إن الطلاق أمره على الخطر حتى أن جده جد وهزله جد، والشريعة جعلت هذا اللفظ موجبا للمؤاخذة، فنحن نؤاخذه ولو كان ناسيا، وهذا الذي اختاره المصنف رحمه الله في الطلاق وفي العتاق كذلك، كما لو علق عتق عبده على دخول داره ثم نسي ودخل الدار ناسيا فإنه يحكم بعتق عبده؛ لأن النسيان لا يوجب سقوط العتق والطلاق؛ لأنه من باب الحكم الوضعي لا من باب الحكم التكليفي. تعليق الطلاق على فعل شيء لم يفعل إلا بعضه مع النية قال المصنف رحمه الله: [وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه] وإن فعل البعض لم يحنث إلا أن ينوي ذلك البعض، إذا قال مثلا: لا أشرب من هذا الإناء، وقصد أي شيء يصدق عليه أنه شرب، فلو احتسى حسوات أو حسوة من الإناء بما يصدق عليه أنه شارب حكم بوقوع الطلاق، لأنه نوى ذلك البعض. مثال آخر: قال: امرأتي طالق إن دخلت دار محمد، ونوى أن لا يدخل يده، وأن لا يدخل رجله، وأن لا يدخل أي جزء منه، فيلزمه الطلاق بدخول البعض. من حلف على فعل شيء يتجزأ فلا يبرأ إلا بفعله كاملا قال المصنف رحمه الله: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله] يعني: إن حلف أن يقوم بشيء فإنه لا يحكم بوقوع الطلاق إلا إذا كان الشيء تاما كاملا، ولا يقع على البعض، فإذا قال: امرأته طالق إن بنى الجدار، أو بنى بيتا، فعلق الطلاق على وجود البناء، فلو بنى بعض الجدار أو بعض البيت ولم يتمه لم يحكم بطلاق امرأته إلا بعد تمام البناء. فلو ابتدأ بناء البيت في شهر وانتهى بعد ثلاثة أشهر وتوفي، فإنه أثناء البناء في الأشهر الأولى هي لا تزال في عصمته، ثم بعد تمام البناء حصل الطلاق وتوفي، فإذا وقع موته قبل تمام البناء فقد مات وهي في عصمته؛ لأنه علق ذلك على وجود البناء، والبناء لم يتم عند موته فهي في عصمته، لكن إن قلنا: يقع الطلاق على أقل شيء يتحقق به البناء، فبمجرد ما يقع ذلك البعض تخرج من عصمته وتكون امرأته مطلقة، ثم يفصل في ميراثها سواء كانت رجعية أو بائنة. الأسئلة حكم من علق الطلاق على فعله لشيء ثم وكل غيره أن يفعله السؤال لو قال: إن فعلت كذا فزوجتي طالق فوكل غيره أن يفعل ذلك الفعل، فهل تطلق؟ وهل الأصيل والوكيل بمنزلة واحدة أم لا؟ الجواب باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فهذا الأمر فيه تفصيل، هناك كلمات ينزل فيها الوكيل منزلة الأصيل، مثل أن يقول: والله لا أبني دارا، أو يقول: إن بنيت الدار فامرأتي طالق، ومعلوم أنه لا يبني بنفسه، وإنما يأمر غيره بالبناء، فإذا أمر غيره بالبناء وفعل البناء غيره، فإنه حينئذ يحكم بوقوع الطلاق؛ لأن هذا معلوم بداهة. وأما إذا كان مراده بالفعل أن يفعله بنفسه فلا يقع الطلاق إلا إذا فعله بنفسه، والمعول في ذلك على الصيغة التي يذكرها، ولكن الأصل أن الوكيل ينزل منزلة الأصيل والله تعالى أعلم. حكم قياس طلاق الناسي على المكره السؤال هل يمكن القول بأن الأصح عدم وقوع طلاق الناسي قياسا على عدم وقوع طلاق المكره، بجامع أن كلا منهما غير مختار لذلك بقلبه، وغير متعمد له؟ الجواب الأصل يقتضي أن المكره يقع طلاقه، لكن جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طلاق في إغلاق) وجاء القياس القوي: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل:106] فاختلف الوضع، وثبتت الرخصة للمكره، وإلا فالأصل يقتضي وقوعه، والهازل لا يقصد الطلاق، ولم يدر بخلده أنه يطلق زوجته، ومع ذلك طلق عليه الشرع زوجته، ولم يعتبر ذلك رخصة له، وجعل هزله جدا، وهذا يدل على خطر الطلاق، فكل باب نعمل فيه الأصول التي وردت وهدي الكتاب والسنة فيه، فلما كان أمر الطلاق - كما يقول العلماء- على الخطر استنباطا من نصوص الكتاب والسنة فإنه حينئذ إذا طلق ناسيا كما اختار المصنف رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله، أنه يمضي عليه طلاقه، والله تعالى أعلم. من علق الطلاق على الخروج من البيت فهل تستثنى الضرورة السؤال إن علق الطلاق بخروجها من البيت فهل يستثنى من ذلك لو طلبت الضرورة كمرض أو نحوه؟ الجواب الحكم عام، سواء خرجت لضرورة أو بدون ضرورة؛ لأن العبرة بالخروج، إلا إذا كان مراده أن تخرجي -مثلا- لحفلة معينة، أو تخرجي إلى مناسبة معينة، فما كان مقيدا يقيد بتقييده، والله تعالى أعلم.
__________________
|
#577
|
||||
|
||||
![]() حكم من قصد بتعليق الطلاق الزجر السؤال إذا قال الزوج لزوجته: إن فعلت ذلك فأنت طالق قاصدا زجرها فلم تفعل ذلك، وانتهت المصلحة التي قصدها من وراء الزجر فهل يذهب حكم الطلاق أم لا؟ الجواب بينا هذه المسألة: قصد الزجر، وهذا كله لا تأثير له، المؤثر عندنا أنه علق الطلاق بينه وبين الله على وقوع شيء، وهذا مذهب جماهير السلف ومنهم الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم، فمن علق الطلاق على فعل أو ترك فنغض النظر عن كونه قاصدا أن يفعل أو يترك، فهذا الذي بينه وبين الله، والشريعة أعطته الطلاق معلقا وأعطته الطلاق منجزا، فإن شاء طلق امرأته، وإن شاء أبقاها، فإذا أقدم على الأحموقة -كما قال ابن عمر رضي الله عنه- فارتكب الأحموقة وجعل طلاقه معلقا على شيء ألزمناه ما تلفظ به؛ لأن الله يقول: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} [الطلاق:2] وهو قد تقحم هذا الحد من حدود الله، فإن الطلاق من حدود الله، فإذا تعدى هذا الحد وألزم نفسه ما لم يلزمه الشرع؛ فإنه يلزم بما التزم، وهذا لا إشكال فيه فإن الأصل الشرعي دال عليه. فنقول: إذا علق طلاقه على فعل شيء أو ترك شيء فإنه ملزم بهذا التعليق ويبقى التعليق على إطلاقه إلى الأبد، إلا إذا وجد ما يدل على التقييد والتخصيص، كأن يكون ذلك في حال خصومة معينة، وانقضت في الحال وبينه وبين الله تقييدها بهذا، أو كان الظرف الذي علق عليه من الظروف التي تنشأ وترتب على أحوال معينة، وقصد حالة دون أخرى، فحينئذ يتقيد بذلك القيد، والله تعالى أعلم. حكم العدة بعد الطلقة الأولى في الطلاق المتتابع السؤال في انسحاب الطلاق وتواليه ألا يحتاج إلى عدة بعد الطلقة الأولى، وذلك في قوله: كلما طلقت فأنت طالق؟ الجواب إذا كانت في عدتها فهي رجعية والرجعية ينسحب عليها الطلاق، والرجعية يصح طلاقها وظهارها، فبناء على ذلك: ينسحب ولا يشترط أن تنتهي من عدة الطلقة الأولى حتى تقع الطلقة الثانية، فلو قال لها: أنت طالق، بعد دخوله بها، فهي الطلقة الأولى، فإذا طلقها الثانية أثناء عدتها وقع عليها الطلاق، فالرجعية تأخذ حكم الزوجية من حيث تعلق الطلاق بها، وسيأتينا -إن شاء الله- بيان هذه المسألة في الأحكام المترتبة على الرجعة. حكم حج المرأة عن الرجل السؤال هل للمرأة أن تحج عن الرجل؟ الجواب لا بأس أن تحج المرأة عن الرجل والرجل عن المرأة؛ لأن الوكالة في الحج لا يشترط فيها اتحاد الجنسين، والدليل على ذلك: أن المرأة الخثعمية رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنته في الحج عن أبيها فأذن لها، فدل على أنه لا بأس أن يحج الذكر عن الأنثى والعكس، ولا يشترط اتحاد الجنسين وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، والله تعالى أعلم. كيفية حج الحائض السؤال كيف تحج الحائض؟ الجواب كما قال صلى الله عليه وسلم: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فلا تطوف بالبيت، ولا تسعى بين الصفا والمروة على اشتراط أن يكون السعي بعد الطواف على ظاهر السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أوقع سعيا إلا بعد طواف في حجه وعمرته، فتحتاط لهذا وتؤخر السعي، فتؤخر طوافها وسعيها، ثم يفصل فيها: إذا كانت مفردة؛ فالأمر يسير لأنها تمضي إلى عرفات وتبيت في مزدلفة، ثم ترمي جمرة العقبة، ثم تتحلل، ولا تنزل تطوف طواف الإفاضة لأنها لم تطهر، وتنتظر إلى طهرها ثم تطوف بالبيت وتسعى، وحينئذ تم حجها. وإذا كانت قارنة فالقارنة مثل المفردة تذهب مباشرة إلى عرفات وتؤدي مناسك الحج، والعمرة تدخل تحت الحج في القران، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) وكانت قارنة، والدليل على أن عائشة حجت قارنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) وبالإجماع أنها ما تحللت بعد عمرتها، وأنها ما فعلت عمرة قبل حجة الوداع، فدل على أنها انقلبت قارنة. وإذا كانت متمتعة، فلا بد أن توقع عمرتها قبل الحج، فحينئذ ننظر: إن كان طهرها قبل الوقوف بعرفة، فإنها تبقى على إحرام العمرة ولا ترفضها، ثم إذا طهرت نزلت وطافت بالبيت وسعت وتحللت، ثم مضت إلى عرفات وأتمت النسك وهي متمتعة وعليها دم التمتع. وأما إن كان الوقت الذي قبل الوقوف بعرفة لا يسع لطهرها، ولم تطهر قبل الوقوف بعرفة فتنقلب من التمتع إلى القران، وتصبح قارنة، فتذهب إلى عرفات، ثم تؤدي مناسك الحج، حتى إذا طهرت نزلت وطافت طواف الإفاضة وسعت سعي حجها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) وقد كانت أهلت عائشة بعمرة، ففي الصحيحين أنها لما جاءت سرف -وهي ما يسمى اليوم النوارية- حاضت، فدخل عليها صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقال: (ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) لأن قدومه عليه الصلاة والسلام كان في رابع ذي الحجة، وحينئذ لا تتمكن من طوافها قبل الوقوف بعرفة، وما طهرت إلا بعد يوم النحر، ولذا قال العلماء: إنها انقلبت إلى القران، فدل على أن المرأة إذا أهلت بعمرة ولم تطهر قبل وقوفها بعرفة فإنها تنقلب إلى القران ويلزمها دم القران، والله تعالى أعلم. ميقات المقيم في مكة إذا ذهب إلى أهله ثم رجع للحج السؤال من كان يدرس في مكة طيلة العام وليس من أهلها، وأراد أن يذهب لمدينته ثم يرجع لأداء الحج، فهل يلزمه إذا مر على ميقاته أن يحرم منه، أم أنه من أهل مكة ويكفيه الإحرام منها؟ الجواب هذا السؤال فيه تفصيل: إن كان خروجه إلى بلده أو أهله قبل دخول أشهر الحج، ثم دخل إلى مكة قبل دخول أشهر الحج فحينئذ يهل بالحج من مكة وحكمه حكم أهل مكة؛ لأنه لم يدخل عليه ميقات الحج الزماني وقد تعلق بالميقات الأبعد المكاني. وأما إن كان خروجه من مكة بعد دخول شهر شوال ثم دخل مكة من أي جهة من الجهات الآفاقية فإن حكمه حكم أهل تلك الجهة التي دخل منها، لا يدخل إلا بعمرة، أو يدخل حلالا وإذا جاء الحج خرج إلى الميقات الذي مر به، والسبب: أنه مر بالميقات يريد الحج بعد دخول زمانه فلزمه ذلك الميقات، لقوله عليه الصلاة والسلام: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج أو العمرة) فحينئذ يقال له: إما أن تدخل بعمرة تتمتع بها إلى أن يأتي الحج وتهل للحج بمكة وأنت متمتع وعليك دم، أو تدخل حلالا ثم إذا جاء وقت الحج خرجت إلى هذا الميقات وأحرمت منه، والله تعالى أعلم. كيفية تحديد الميقات عند الحج عن الغير السؤال سائلة تقول: والدي من سكان بدر، وتوفي وأنا من سكان مكة، وأردت أن آتي بحجة عنه فهل يلزمني أن أذهب إلى ميقات سكن والدي؟ الجواب الحج عن الميت ينقسم إلى قسمين: إما أن يكون الميت مفرطا وعليه الحج وتساهل وقصر، فاختار جمع من العلماء أن يحج عنه من الموضع الذي قصر منه؛ لأنه كان واجبا عليه أن يحج منه، قالوا: إذا كان مستطيعا في ميقات فإنه أبعد يبدأ من الميقات الأبعد؛ لأن البديل يأخذ حكم الأصيل، والقاعدة: (أن البدل يأخذ حكم مبدله) فلو كان حيا ألزم أن يحرم من ذلك الميقات، فإذا فرط فيه لزمه الحج من الميقات الأبعد. لكن إذا كان حجك عن والدك تطوعا منك، حيث إنه لم يقصر رحمه الله وأردت أن تحجي عنه؛ لأنه لم يحج، فتهلين من مكة، ويجزئك أن تحرمي عن الوالد من بيتك، وهذا من بره، والله تعالى أعلم. حكم أخذ الأجرة في الحج عن الغير السؤال رجل محتاج إلى مال وعليه دين فهل يجوز أن يتوكل عن أحد ويحج عنه مقابل مبلغ من المال، وما بقي من هذا المال يسد به حاجته وديونه؟ الجواب أوصيكم ونفسي دائما أن لا يدخل الإنسان أمور الدنيا في الدين، فالله عز وجل أحل لعباده الطيبات، وأحل لهم المكاسب التي يتوصل الإنسان عن طريقها إلى الحلال، فيستغني الإنسان بربه، إذا كان يريد الدنيا فسوقها معروف، وإذا أراد الآخرة فليسعى لها سعيها وهو مؤمن، أي: مخلص موحد {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} [الإسراء:19] انظر كيف قال الله: (أولئك) وهو اسم إشارة يدل على علو الدرجة وكما قال: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} [النساء:69] ثم قال: (كان) وهي تدل على الدوام والاستمرار، ثم ذكر السعي، ولم يقل: كان منهم ذلك مشكورا، بل قال: {كان سعيهم مشكورا} أي السعي: الذي سعوه بتوحيد وإخلاص مشكور من الله عز وجل، فنعم السعي ونعم الساعي. فإذا أردت أن تتاجر في الدنيا فسوقها معروف، وأحل لك ربك التجارات، وأباح لك الطيبات، فأما الحج فصنه عن الأخذ والعطاء والبيع والشراء، ولا تجعل الحج سلعة تزايد عليها وتساوم عليها، والصحيح عند العلماء: أنه لا يصح أن يحج عن الغير مقاطعة، أي: يقول له: أعطني خمسة آلاف ما زاد لي وما نقص أكمله لا يجوز هذا؛ لأنه بيع وشراء بالعبادة. والواجب عليه أن يأخذ أجرة تبلغه الحج، فيكون خرج إلى الحج من أجل الحج، ولم يجعل حجه وعبادته ومشاعره مساوما عليها بالدنيا، فهذه يراد بها وجه الله، وما جعل الحج ولا جعلت المناسك ولا جعل البيت ولا جعلت الصفا والمروة إلا لوجه الله جل جلاله، وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، فالإنسان يخرج لوجه الله عز وجل، وابتغاء مرضاة الله عز وجل، يخرج بحج خالص لوجه الله سبحانه وتعالى، لا للدنيا التي يريدها. وصحيح أن الله أحل لنا أن نبتاع ونشتري في الحج لكن هذا وقع تبعا وما وقع أساسا وأصلا، أما شخص يقول: أنا ما أحج إلا لما تعطيني خمسة آلاف ريال، فمعناه: أن الخمسة الآلاف هي التي أخرجته، وجعلت همته للحج قوية. والواجب على المسلم أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن المال إذا أخذ بالدين فإنه منزوع البركة، وأن يعلم أن هذا المال الذي يأخذه قد يؤثر على عبادته وقد يؤثر على صلاته، وقد يؤثر على خشوعه، فعليه أن يتقي الله عز وجل. فلا تجعل الحج محلا للبيع والشراء، وارفع نفسك عن المساومة في شيء أراده الله لوجهه خالصا لا شريك له. فإذا أردت الحج عن الغير من أجل طاعة الله، تقول: أنا إنسان ما عندي نفقة ومحتاج وأريد شيئا يبلغني الحج، فهذا يدل على أنك مشتاق إلى ذكر الله، مشتاق أن تكون مع الذاكرين ومع الملبين ونفسك تتقطع حرقة أن تحرم هذا الخير، فتقول: أعطني ما يبلغني بيت الله عز وجل، ما يبلغني الوقوف في هذه المشاعر، من أجل أن تذكر الله وحده لا شريك له، ثم تأتي وترد له ما زاد ولا تريد منه دينارا ولا درهما وإنما تريد وجه ربك وحده لا شريك له، إن فعلت ذلك طبت وطاب ممشاك وكان أجرك على الله عز وجل، ومن كان أجره على الله فقد تولى الله أمره والله نعم المولى ونعم النصير. فعلى الإنسان أن يكون مخلصا في كل شيء وفي العلم أيضا، ولذلك قالوا: العالم يكون عالما إذا لم يتكبر على من دونه، أي: لم يتعاظم على من دونه، ولم يحتقره، ولم يتعال على من فوقه، أي: لم يشوه من فوقه من العلماء فلا ينتقصهم أو يختبرهم، أو يحتقرهم، ولا يأخذ على علمه أجرا، فإذا فعل هذا طاب علمه وزكى، فأمور الآخرة لا تطيب ولن تطيب ولن يتقبلها الله إلا إذا أريد بها وجهه سبحانه وتعالى، وإذا فعل العبد ذلك تولى الله جزاءه، وتولى الله أجره في الدنيا والآخرة، فعلى الإنسان أن يتقي الله عز وجل. ولذلك ما رأينا أحدا أدخل الدنيا في الدين إلا وجد شؤم ذلك في دنياه قبل أن يلقى ربه في آخرته، ووالله ما وجدنا شيئا ينزع البركة مثل إدخال الدنيا في أمور الدين، والعبث بهذا الدين، سواء في دعوة الإنسان، سواء في علمه، سواء في قراءته، في توجيهه، في نصحه، في وعظه، في خطبه. فالواجب على المسلم في كل شيء أن لا يدخل الدنيا في أمور الدين، ولا يجعلها أكبر همه، وأن يراقب قلبه ويخاف الله عز وجل فلو قيل له: لا نعطيك شيئا، مضى لوجه الله أشد حرصا مما لو أعطي من الدنيا. على المسلم دائما أن يجعل الآخرة أكبر همه، ومبلغ علمه، وغاية رغبته وسؤله، وإذا فعل ذلك زكى الله عز وجل أمور دينه، ولذلك تجد البركة والخير في بعض مبتدئي طلبة العلم، عندما يطلب العلم وليس في قلبه إلا الله سبحانه وتعالى، قد يكون فقيرا، وقد يكون محتاجا، وقد يكون مديونا، وقد يكون مكروبا منكوبا مهموما مغموما ويصبر السنوات ثم بإخلاصه يفضل ربه عليه فيبدد همه، وينفس كربه، ويزيل غمه، ويقضي دينه، ويعلي درجته، ويحسن عاقبته، ويزكي ما يقوله وما يعمله. والله لن تجد من ربك إلا كل خير، متى ما أصلحت قلبك لله عز وجل، ودائما في كل كلمة تقولها، وفي كل عمل تعمله من أمور الآخرة اطعن في نفسك بأنك ما أردت وجه الله، حتى تبلغ درجة المخلصين الصادقين فعندها يستقيم قولك، ويطيب عملك وترى ما الذي سيعطيك الله من خير الدنيا قبل الآخرة، ومن أراد أن يرى ذلك جليا فلينظره في صفوة الله عز وجل من خلقه من الأنبياء والرسل الذين أحسن الله عواقبهم في الأمور كلها، وجعل لهم عز الدين والدنيا والآخرة بإخلاصهم وتوحيدهم لله عز وجل، فما كانت الدنيا أكبر همهم، ولا مبلغ علمهم، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه: (ما أحب لو أن عندي مثل أحد ذهبا) ، جبل أحد الذي يقارب ثلاثة كيلومترات، وهو من أضخم الجبال وأكبرها يقول لـ أبي ذر: (يا أبا ذر! هل ترى أحدا؟ فنظرت إلى الشمس) وأحد يرى من المدينة من ضخامته، يقول له هذه الكلمات تعليما لكل مسلم، ونزعا لهذه الدنيا من القلوب حتى لا تدخل على الدين فتفسده وتفسد صفاء القلب وإخلاصه؛ لأنها فتنة عظيمة، فيقول له: (يا أبا ذر! هل ترى أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس، وأظن أنه سيبعثني إلى أحد، فقال: هل ترى أحدا؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما أحب لو أن عندي مثل أحد ذهبا - ليس فضة بل ذهبا - تمسي علي ثالثة أو رابعة) تصور! ثلاثة كيلومترات كلها ذهب، ما قال: يمسي علي يوم واحد؛ لأنه ما يستطيع أن يوزعه في يوم واحد، فهو الصادق عليه الصلاة والسلام ولا يبالغ قال: (ما أحب لو أن عندي مثل أحد ذهبا تمسي علي ثالثة أو رابعة وعندي منه دينار أو درهم) ، نزعت الدنيا بالكلية من قلبه عليه الصلاة والسلام، فلم يبال بها، كان بيته عليه الصلاة والسلام حجرة لا يستطيع أن يسجد وأم المؤمنين رضي الله عنها مضطجعة حتى تقبض رجلها من ضيق هذه الحجرة؛ ولكن وسعه الله بالإخلاص والتوحيد، ووسعه الله بإرادة وجهه سبحانه وتعالى، وبما فيه من النور والحكمة، ولما يتلى فيه من آيات الله والحكمة، فالدنيا هينة، ومن أخلص عمله جاءته الدنيا صاغرة. ووالله ثم والله ما عاملت الله بصدق إلا صدقك ربك، وثق ثقة تامة بذلك، واقرأ في سير العلماء، ونحن نشهد الله ونشهد ملائكته، ونشهد خلقه أجمعين أننا ما رأينا من الله في هذا العلم وفي هذا الدين إلا كل خير، وأن الله سبحانه وتعالى أعطانا وأولانا وأكرمنا وأحسن إلينا فوق ما كنا نرجو، وفوق ما كنا نأمل، وفوق ما كان يدور بخيالنا. فما عليك إلا أن تخلص لله عز وجل، وإياك أن تدخل الدنيا في أمر من أمور دينك فيفسد عليك دينك. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص لوجهه، وابتغاء ما عنده، وأن يجعل الآخرة أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا وسؤلنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. تعليق طلاق الرجل لزوجته على سرقتها لماله السؤال إذا قال الرجل لزوجته: إن سرقت مالي فأنت طالق، فسرقت غير النقود، فهل تأخذ حكم المال فتطلق؟ الجواب المال يطلق على كل شيء له قيمة، فكل شيء له قيمة فهو مال، ولا يختص المال بالذهب والفضة، والناس تظن أن الأموال خاصة بالذهب والفضة، ولكن نصوص الشريعة دلت على أن المال عام شامل لكل شيء له قيمة، لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الذهب والفضة، والإبل، والبقر، والغنم، فسمى الإبل والبقر والغنم مالا، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة. وكذلك ثبت في الصحيح من حديث الأعمى والأقرع والأبرص أن الأعمى قال للملك لما جاءه في صورة الفقير: (كنت فقيرا فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله علي بصري، فدونك الوادي فخذ من مالي ما شئت، فقال الملك: أمسك عليك مالك، فقد أنجاك الله وأهلك صاحبيك) فقال: (أمسك عليك مالك) ، مع أن ماله غنم، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة، ولذلك يقولون: المال كل شيء له قيمة. وقالوا: سمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن ليس عنده مال فعنه الناس قد مالوا الناس لا تميل إلا لمن عنده مال، فسمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه وتحبه، فلا يختص بالذهب والفضة، فإذا قال لها: إن سرقت من مالي، وقصد الذهب والفضة نفعته نيته؛ لأن هذا تخصيص، ونيته نافعة فيما بينه وبين الله عز وجل، وأما في القضاء فإنه إذا قصد التخصيص وبين نفعه ذلك وحكم به. والله تعالى أعلم.
__________________
|
#578
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (448) صـــــ(1) إلى صــ(12) شرح زاد المستقنع - باب التأويل في الحلف التأويل منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ومن التأويل المذموم الغلو في تحميل النصوص القرآنية ما لا تحتمل، اعتمادا على نظريات قد تكون صحيحة، وقد تكون خاطئة، وهذا المسلك الجديد له آثاره السيئة. أما التأويل في الحلف بالطلاق فقد يكون جائزا دفعا لظلم الظالم وهو من رحمة الله بعباده، ومن تيسيره عليهم، وقد اعتنى علماء الإسلام بهذا الباب وبينوا أحكامه ومسائله، وفي هذا الدرس بيان لذلك. التأويل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب التأويل في الحلف] . التأويل عند العلماء: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر، فاللفظ له معنى في ظاهره ومعنى في باطنه، ويحتج بالمعنيين، لكن المعنى القوي هو الظاهر، والمعنى الخفي هو المستتر، فالمتأول يصرف الكلام عن ظاهره إلى معنى مغاير مغيب في باطنه، وهذا التأويل يقع في النصوص وينقسم إلى قسمين: تأويل محمود، وتأويل مذموم. التأويل المحمود أما التأويل المحمود: فهو تأويل النص بنص يصرفه عن ظاهره إلى معنى آخر، فحينئذ نقول: إن هذا التأويل تأويل محمود، مثال ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) (لا وضوء) يحتمل: لا وضوء صحيح، ويحتمل: لا وضوء كامل، فلما وجدنا كتاب الله عز وجل لا يأمر بالتسمية مع أنه أمر بالتسمية عند الذبح والذكاة فقال: {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين} [الأنعام:118] {واذكروا اسم الله عليه} [المائدة:4] فلما وجدناه في الوضوء وهو من أجل العبادات وأعظمها -لأنه مفتاح الصلاة- لم يأمر بالتسمية فيه فهمنا أن معنى: لا وضوء أي لا وضوء كامل، فصرفنا (لا وضوء) من نفي الصحة إلى نفي الكمال، ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عثمان في الصحيح- يتوضأ وضوءا تاما كاملا، ولم يذكر عثمان أنه تلفظ بالتسمية جهرة، أو اطلع على تسمية منه، فقال: إنه توضأ نحو وضوئي هذا، وهذا يدل على أن الأفعال كانت دون ذكر ودون أي قول، فهذا يدل أيضا على أن المراد بالحديث الأول: لا وضوء كامل، فيصرف النص من ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح؛ لأن الأصل أن نحمله على أنه: لا وضوء صحيح. مثال آخر: (لا إيمان لمن لا أمانة له) لا نقول لا إيمان يعني أنه -والعياذ بالله- كافر بالكلية، كما يقوله الخوارج، وإنما نقول: إنه إذا كان خائنا للأمانة فقد انتقص من دينه وإيمانه على قدر خيانته -نسأل الله السلامة والعافية- فيؤول ويصرف الحديث عن ظاهره لوجود نصوص أخرى تدل على أن مرتكب الكبيرة ليس بكافر، فهذا تأويل، لكنه تأويل محمود؛ لوجود نصوص يعرفها العلماء الراسخون والأئمة المهتدون المهديون، فهؤلاء إذا أولوا نصا وصرفوه عن ظاهره فإننا نقبل هذا التأويل، ولا نلجأ للتأويل إلا عند وجود نصوص أخرى تصرف النص الأول عن ظاهره. مثال آخر: (لا يدخل الجنة عاق) لو أخذ على ظاهره لكان معناه أن العاق في النار: {فريق في الجنة وفريق في السعير} [الشورى:7] فإذا أخبر أن العاق لا يدخل الجنة فمعنى ذلك أنه في النار؛ لأنه لا يوجد منزلة بين المنزلتين. فهذا الحديث يؤول على وجوه: الوجه الأول: لا يدخلها في الدخول الأول الذي يكون لأهل الجنة السابقين؛ لأنهم يخرجون من عرصات يوم القيامة فيدخلون الجنة، وأما أهل الكبائر فإنهم إذا شاء الله يدخلون النار تطهيرا ثم ينقلون إلى الجنة، فحينئذ يكون الدخول هو دخول التشريف والتكريم؛ ولا يمنع من دخولهم الجنة بعد أن يطهروا من كبائر الذنوب، فكأن العاق -والعياذ بالله- موعود بالعذاب لا محالة. الوجه الثاني: قال بعض العلماء: المعنى: أنه لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يختم له بخاتمة أهل الإيمان، فيكون المراد: أنه لا يوفق، فلا يدخلها حقيقة؛ لأنه يختم له -والعياذ بالله- بخاتمة الكفار، وهذا قد يقع استدراجا، فحينئذ لا تتعارض النصوص؛ لأنه إذا ختم له بخاتمة السوء فلا إشكال. الوجه الثالث: أنه محمول على الوعيد، كما اختاره سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكان يقول: هذا محمول على الوعيد الشديد، وحينئذ لا يكون على ظاهره. هذا كله تأويل؛ لوجود نصوص أخرى تدل على أن الكبائر لا تستوجب الخلود في النار أبدا، وإنما تستوجب دخولها تطهيرا إن لم يعف الله عن العبد؛ لأن مرتكب الكبائر عند أهل السنة والجماعة تحت مشيئة الله، إن عذبه الله فبعدله، وإن عفا عنه فبمحض إحسانه وكرمه وفضله {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء:23] {والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب} [الرعد:41] . الشاهد أن هذا تأويل، لكنه تأويل بنصوص وأدلة، فهو تأويل محمود. التأويل المذموم والواجب على المسلم أن يكون وقافا عند الحق، وأن يكون الحق أحب إليه من كل أحد؛ لأن الله فرض علينا اتباع الحق ومحبته ولزومه، وبين أنه لا نجاة للعبد إلا بهذا الحق، وأن السماوات والأرض ما قامتا إلا من أجل الحق وللحق، فينبغي لكل مسلم أن يكون عنده تجرد. إذا: التأويل المذموم هو: صرف للنصوص والتلاعب بها بالأهواء والآراء، وهو مصادمة لحجج الله البينة الميسرة المنيرة، وإذهاب لنورها وبهائها، وإن كان نورها لا يذهب ولا ينطفئ أبدا، فالحق يعلو ولا يعلى عليه. الإعجاز العلمي والتعسف في فهم القرآن فمثل هذا لا يجوز، سواء كان في العلوم الطبيعية من طب وهندسة أو في غيرها. وقد سمعت بعض من ينتسب إلى الإعجاز يقول في قوله الله تعالى: {لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق:19] يقول: إن هذا في صعود القمر، ولا يشك مسلم أن هذا تلاعب بكتاب الله؛ لأن الله أقسم فقال: {فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق} [الانشقاق:19 - 19] أي: (والله لتمرن) يقسم الله جل جلاله أنكم لتمرن يا معشر الكفار، ويا معشر المؤمنين، بأحوال الآخرة طبقا عن طبق، وطبقا بعد طبق، ستمرون بالقبور وعرصات القيامة، فهذا الأمر هو الذي وقعت فيه الخصومة، وهو الذي كذب به المشركون وردوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به آيات القرآن، فمن قال: (المراد بها صعود القمر لأننا ما نصعد القمر إلا إذا اتسق) فقد تلاعب بكتاب الله عز وجل وقال على الله بغير علم. فالحذر الحذر من مزالق الشيطان فقد يوقعك في القول على الله بدون علم وبدون حجة. وينبغي لكل مسلم أن لا يقبل مثل هذه التفاسير، بل يعتمد على تفسير الأئمة والعلماء، وخاصة أئمة السلف؛ لأن كتاب الله فسر، ومرت هذه القرون كلها وكتاب الله يفسر بهذا التفسير البين الواضح النير، الذي لا إشكال فيه، فاتبع سلفك الصالح، ودع الأمور المحدثات. ثم لو أننا رأينا نظرية من النظريات فجربنا كتاب الله عليها، ولوينا نصوص الكتاب لتوافق هذه النظرية، ثم تبين بعد عشرات السنين أنها خطأ!! ماذا يقول الناس؟ وماذا يقال عن كتاب الله عز وجل؟ نحن نعلم علم اليقين أن الله سيري عباده آياته، فلا نتأول كتاب الله بمثل هذه التأويلات، أما إن وجدت أدلة واضحة مثل علوم الأجنة وعلوم الطب التي وجد أنها تدل عليها نصوص الكتاب والسنة فنفرح بهذا؛ لأنه عز وحجة ودلالة على صحة هذا الدين وصدقه، ولكن لا نبالغ، فإن الغلو في الأشياء يوجب الشر؛ والله يقول: {لا تغلوا في دينكم} [النساء:171] فلا نبالغ في هذه الأمور، ولا نتكلف التأويل. بعض هؤلاء يتبجح فيرد كلام العلماء الأوائل، ويقول: كانوا يفهمون كذا وكذا، كأنه يسخر بهم ويتهكم بهم، حتى أني سمعت من يشار إليه بالبنان في الإعجاز يتهكم على تفسير حبر الأمة وترجمانها عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه، فلا بارك الله في من تهجم عليه، فينبغي الحذر من مثل هذه الأمور. وما كان محتملا فعلينا أن نقول: إن هذا يحتمل كذا، فنورده بكل أدب؛ لأنه لا يوجد نص يدل عليه، والسلف لهم فهمهم وهذا الشيء الذي نورده إذا كان نص كتاب الله يحتمله فينبغي أن نتأدب مع السلف ونبين ما يحتمله التأويل والنظر، ولكن دون أن نغلو أو نبالغ، فإن الغلو لا خير فيه، وكل شيء جاوز حده انقلب إلى ضده، وأعداء الإسلام يريدون منا مثل هذا، يريدون أن نشكك في السلف الأوائل، ومعلوم أنه إذا تكلم أحد بمسألة في الإعجاز من أجل أن يقنع كافرا، فقد لا يقتنع الكافر حتى يلج الجمل في سم الخياط. فلماذا يطعن في أئمة السلف؟! وما هي الفائدة؟! بل إن الكافر الذي تجاوره قد يعجب بهذا الطعن فيحاول أن يخرج شيئا جديدا ويدعي به خطأ الأوائل، فمن كان يظن أنه قد أحسن في هذا، فالواقع أنه قد أساء. فالحذر كل الحذر من هذه التأويلات! والحذر الحذر من التهكم على سلف الأمة، فالسلف والعلماء رحمهم الله هم أعلم الناس بتفسير كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أعلم بمواطن التنزيل، وخاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم بلسان العرب ومدلولات هذا اللسان. فعلينا أن نأخذ الحيطة من هذه التأويلات والتفسيرات الجديدة، ونحن لا نقول بردها كلها ولا نقول بقبولها كلها، وإنما نعرضها على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل شيء أسفر كتاب الله عليه دليلا قبلناه. ثم الله يقول: {سنريهم آياتنا في الآفاق} [فصلت:53] ما قال: في القرآن بل قال: (في الآفاق) ، وأراهم الله آياته، وانظر كيف ينظرون إلى الآيات من فوقهم ومن تحتهم، وعن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وفي أنفسهم، ومع ذلك لم تزدهم إلا إعراضا وصدودا، وهذه هي الحقيقة التي أثبتها كتاب الله عز وجل، فلماذا نلهث وراء هؤلاء، بل ونتكلف في ذلك حتى نرد على سلف الأمة وأئمة الإسلام على حساب أمثال هؤلاء الذين لا يدخلون الإسلام إلا بإعجاز، وقد يخرجون منه بأدنى شبهة؟! يقول الله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج:11] بعض من يتأثر بهذه التأويلات ويبالغ فيها إذا أصابته أقل فتنة انقلب على وجهه: {خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج:11] . فالواجب الحذر من التأويلات في كتاب الله أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلينا أن نلتزم بمنهج السلف والصحابة، فإذا سألك الله يوم القيامة: لم فهمت هذه الآية على هذا الوجه؟ قلت: فهمت هذه الآية بآية أخرى -لأن القرآن يفسر بعضه بعضا- أو بقول رسولك عليه الصلاة والسلام، أو بقول حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له صلى الله عليه وسلم بفهم كتاب الله عز وجل، وفتح عليه بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثله ثقة يرضى ويؤتمن على دين الله عز وجل. فالمقصود: أن التأويلات المذمومة ترد سواء كانت في العلوم الشرعية أو كانت في المعارف الطبيعية، والتأويل صرف النص عن ظاهره إلى معنى آخر، والمعنى الآخر معروف بالمعنى الباطن، وعند الكلام يقصدون الظاهر ولا يقصدون الباطن إلا بقرينة، يقول مثلا: رأيت أسدا فوق جمل، هل الأسد يركب على الجمل؟ لا، فنفهم من هذا أنه رأى رجلا شجاعا وصفه بأنه أسد، أو يقول: أتيت المسجد فاغترفت من بحر، ويقصد عالما على منهج الكتاب والسنة رآه بحرا، علمه غزير فاغترف منه، أو يقول: أتيت فلانا وسألته حاجتي فوجدته بئرا لا تكدره الدلاء، والعرب عندهم أن البئر إذا كان ماؤها قليلا ونزح منها تغيرت، لكن إذا كان ماؤها كثيرا لم تتغير، ولو اغترف منها ما اغترف يبقى الماء صافيا من كثرته، فالكريم الجواد الذي ماله لا يقطعه عن أحد، إذا جئته وسألته المرة الأولى، ثم المرة الثانية، ثم المرة الثالثة، ثم المرة الرابعة، يفرح بمجيئك؛ لأنه يحب الإحسان، ولا يعرف قبض يديه، لكن البخيل إذا جئته لا تنال المرة الأولى منه إلا بشق الأنفس، وأما المرة الثانية فيقفل بابه، فلذلك تعبر العرب عن هذا المعنى بالبئر الذي لا تكدره الدلاء، يعني: أنه رجل يعطي ويعطي ولا تؤذيه كثرة المسألة، ولا كثرة الإلحاح، وذلك من كرمه، فلما تقول: أتيت فلانا فوجدته بئرا! هل الرجل يصير بئرا؟! لا، فهذا صرف للفظ عن ظاهره، لأنك لا تريد بئرا حقيقيا ولا تريد دلوا حقيقيا وإنما تريد معنى باطنا. المعاريض في الكلام للحاجة وكما أن التأويل في النصوص محمود ومذموم، فكذلك التأويل في الكلام، فقد تكون محقا في تأويلك، تستخدمه عند الحاجة، مثل أن تدفع عن نفسك ظلم ظالم، فتأتي بكلام تقصد شيئا ومن يسمعك يفهمه على المعنى الذي يريد، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: (نحن من ماء) فكل إنسان مخلوق من الماء: {خلق من ماء دافق} [الطارق:6] فصار من سمعه يقول: أي ماء؟ ماء بني فلان؟ ماء بني فلان؟ وصدق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قال له: (نخبرك ممن نحن إن أخبرتنا) لأنه كان يخاف العيون فلما أخبرهم الرجل بما يريدون سألهم: ممن أنتم؟ -لأنهم كانوا ثلاثة- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فأخبره أنه مخلوق من ماء، وهذا نوع من التورية، وفي الأثر: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) . فقد تبتلى ببلاء فجعل الله لك فسحة في الخروج من هذا البلاء بالتورية، مثلا: قرع على بابك رجل يعطلك عن عبادة، أو أنه يغتاب الناس، نمام، فيه شر، فتريد أن تبتعد عن شره، فيقول ابنك أو البواب الذي على الباب: خرج إلى الصلاة، لكن ما قال: لم يعد، وفعلا أنت قد خرجت إلى الصلاة ورجعت. كان إبراهيم النخعي سيدا من سادات التابعين، وإماما من أئمة السلف رحمه الله برحمته الواسعة، وكان عنده جارية فإذا جاءه الثقيل الذي يشغله عن العلم، ويشغله بغيبة الناس يستئذن عليه خط دائرة على الأرض، وتضع أمته أصبعها في الدائرة وتقول: والله ما هو فيها -يعني: ليس في الدائرة- فيسمع الذي في الخارج: ما هو فيها؛ فيظن أنها تعني أنه ليس في البيت، وإنما مرادها ليس في الدائرة. وكان مهنا من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله عنده توريات، فكان إذا استأذن أحد يريد الإمام أحمد أو يريد المروزي من خيار أصحاب الإمام أحمد وكان مهنا يحبه ولا يحب أن يشوش أحد عليه أو يشغل الإمام عنه فكان يقول: إن المروزي ليس هنا، ويضع إصبعه على كفه، يعني: ليس في كفه وهذه تورية. كذلك أيضا قالوا: من أمثلة ذلك: أن يكون مظلوما يحلف بالطلاق، فيقول -مثلا: نسائي طوالق، ويعني بنسائه: محارمه، أخته وأمه وبنته وعمته وخالته، وهن طوالق، ولا يقصد نساءه اللاتي في عصمته، ومن أمثلتها قول: جواري معتقات، أو: أعتقت جواري، والمراد بالجواري: السفن التي يملكها؛ لأنها جوار في البحر، أو يقول -مثلا-: والله ما رأيت فلانا كأن يكون هناك شخص يريد أن يقتل آخر ظلما، فإذا قلت: إنك رأيته، تكون قد دللت عليه ويحصل الضرر، فتريد أن تنقذ نفسا محرمة -كما ذكر الإمام ابن قدامة وغيره من الأئمة- فتقول: والله ما رأيت فلانا وتقصد برأيت: الضرب على الرئة، أي: ما ضربته على رئته وكذلك تقول: والله ما ذكرت فلانا، أي: ما تكلمت بذكره، وما ذكرته في مجلس، فهذا كله يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) . لكن على طالب العلم أن يحذر من هذا، وعلى العالم أن يحذر من التوريات خاصة مع العوام فمن يسيء الفهم سيقول: الشيخ يكذب، والإمام يكذب؛ لأنه قد يفهم خطأ، فلذلك ينبغي استعمالها بحذر، فهي سلاح ذو حدين؛ فالإنسان إذا لم يحتج إليها ولم يكن مظلوما ولم تكن هناك ضرورة فعليه أن يبتعد عنها ما أمكن. ولا شك أن الصدق كله خير وبركة، لكن الله وسع على العباد، فهذا من التوسعة والرحمة على العباد، وفيه حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في التورية لمندوحة عن الكذب) وهي التي تسمى بالمعاريض، وكان عليه الصلاة والسلام يفعل هذا حتى في المزاح، وقد أمسك صحابيا من وراء ظهره فقال: (من يشتري مني هذا العبد؟ فقال: إذا تجدني كاسدا، قال: إنك عند الله لست بكاسد) وهذا من ملاطفته عليه الصلاة والسلام، وقال لامرأة لما شكت زوجها: (زوجك الذي في عينه بياض، فقالت: لا يا رسول الله! إنه مبصر) ، ظنت أنه يقصد أنه أعمى، فقال: (يا أمة الله! كل عين فيها بياض) . وقال ملاطفا لعجوز: (لا تدخل الجنة عجوز، فبكت فقال لها: ألم تسمعي قول الله عز وجل: {إنا أنشأناهن إنشاء} [الواقعة:35] ) فهذا كله من الكلام الذي لا يراد ظاهره، وإنما يراد به معان أخرى، اقتضت جلب المصلحة أو درأ المفسدة، فتجوز هذه التورية، وهذا في الحقيقة من عظمة هذا الدين؛ لأنه: {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195] فاللسان العربي اختار الله له أشرف كتبه وأفضلها وهو القرآن، ومن عظمة هذه اللغة أنها تحتمل المعاني العديدة، ومن هنا أجمع العلماء على عدم جواز ترجمة القرآن حرفيا؛ لأنه ليس هناك لسان بهذه السعة، وبهذا الإعجاز العجيب البديع الغريب الذي يتضمن ما تتضمنه هذه اللغة، فلا يستطيع المترجم مثلا أن يترجم: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة:187] لا يستطيع أن يترجمها بلسان آخر مع إبقاء المعاني الجميلة البديعة الموجودة فيها، وهكذا قوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} [البقرة:223] لو ترجمت حرفيا إلى لسان آخر لكانت غير واضحة، فيحتاج في ترجمتها إلى جمل عديدة، حتى يبين هذا المدلول، ولا يمكن أن يوجد في لسان مثلما يوجد في اللسان العربي من المعاني العجيبة، والكلمة الواحدة ربما جاء فيها أكثر من عشرة معان، وهذا من سعة اللغة، ومن هنا كانت المعاريض والمندوحات بشيء يحتمله اللفظ جائزة. التأويل في الحلف يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب التأويل في الحلف. ومعناه: أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره] : أي: في هذا الموضع أبين لك جملة من المسائل في الحلف بالطلاق، أو ذكر الطلاق المعلق على شيء يقصد منه الحالف شيئا غير اللفظ المذكور، وهذا الباب باب مهم من أبواب الطلاق، اعتنى به الأئمة رحمهم الله على اختلاف المذاهب: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة رحمهم الله، حتى إن الظاهرية أشاروا إلى جملة من مسائله لأهميته وورود السنة بالإذن به. وهو سعة ورحمة من الله عز وجل بعباده، فإن الإنسان قد يظلم ويطلب منه أن يطلق زوجته ويعلق طلاقها على أمر ما، وهو مظلوم فيه، وربما أكره على أن يتكلم بالطلاق، أو يعلق طلاق زوجته على فعل شيء أو ترك شيء، فمن رحمة الله عز وجل أن جعل للعباد فرجا ومخرجا فيقول كلاما وينوي شيئا آخر، وحينئذ يكون للمطلق ظاهر وباطن، فظاهره يدل على وقوع الطلاق إن اختل أمره، وباطنه أنه لا يقصد ذلك الظاهر الذي تلفظ به. وقد تقدم بيان التأويل، وما هو مراد العلماء رحمهم الله به، وأن المقصود به: أن ينوي الإنسان شيئا في قرارة قلبه ويتلفظ بكلام يحتمل الذي نواه، وحينئذ يكون السامع قد فهم شيئا والمتكلم يريد شيئا آخر، وإذا كان التأويل في الطلاق، فمعنى ذلك أن السامع يظن أنه مطلق، والواقع أنه لا يقصد إيقاع الطلاق، بما قصده من ذلك التأويل. وبينا أمثلة التأويل وصوره التي ذكرها العلماء رحمهم الله، وهذا من سعة اللغة العربية، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا اللسان واسعا، ومن هنا ساغ للمكلف أن يتلفظ بألفاظ يسمعها السامع ويظنها شيئا ويريد المتكلم بها شيئا آخر. وبينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل هذه الرخصة ونبه الأمة عليها فقال في الحديث الصحيح: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) فبين عليه الصلاة والسلام أن المؤمن يستطيع أن يتخلص من الكذب -الذي هو من أقبح الأمور وأشنعها- بالتورية. والتورية: أن يوري فيأتي بكلام محتمل فيقصد باطنه والسامع يظن ظاهره. يقول رحمه الله: (باب التأويل في الحلف) أي باب التأويل في مسائل الطلاق خاصة في التعليق، أي سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالتأويل في الحلف في الطلاق. وبين أن معناه أن يأتي بلفظ ولا يريد ظاهره، ومعنى ذلك أنه يشترط في اللفظ أن يكون محتملا، يقول: جواري، ومراده السفن، لأنها تجري، وقد أخبر الله عز وجل عن ذلك {ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام} [الشورى:32] فيقول: جواري عتيقات، أو يقول: نسائي طوالق مني، ومراده بالنساء محارمه الذين هن لسن بزوجاته، ففي هذا مندوحة للإنسان إذا أكره وألجئ إلى الطلاق، وهذا من رحمة الله ولطفه بعباده. قال المصنف رحمه الله: [فإذا حلف وتأول يمينه نفعه إلا أن يكون ظالما] أي حلف على شيء وكان حلفه بلفظ محتمل فقال: امرأتي طالق مالك عندي شيء، أي إن كان عندي شيء فامرأتي طالق، فهذا ظاهر اللفظ، ومراده بالمال مال معين، وكان الذي استحلفه بهذا المال ظالما جائرا عليه يدعي أن له عنده حقوقا والواقع أنه ليس له عنده حقوقا، فألجأه أن يحلف بالطلاق، مثلا: شخص قوي وعنده قوة قال له: أعطني العشرة الآلاف التي عندك قال له: أظن أنني سددتها لك، أعطيتها لك، قال: إذا احلف بأن نساءك طوالق أو امرأتك طالق إن كنت لم تدفع لي هذه العشرة الآلاف أو إن كانت هذه العشرة الآلاف عندك، فحلف بطلاق زوجته أنه ما له عنده شيء، وقصد مالا غير النقد التي هي العشرة الآلاف، أو قصد أنه ماله عنده شيء من ناحية الحق الثابت وهذا من حقه، أو قصد شيئا آخر غير الذي فهمه سواء كان في عين المال، أو كان في صفة المال وحاله، فكل ذلك ينفعه إلا أن يكون ظالما. شروط التأويل في الحلف إذا: شرط التأويل أن لا يكون الحالف ظالما، فإن كان ظالما أو مغتصبا لحقوق الناس وحلف أنه ما اغتصب أو أنه ما سرق، أو أن شخصا أعطاه أمانة فخانها -والعياذ بالله- فحلف أنه ما خان، وقصد التورية، فإن ذلك لا ينفعه. إذا: للتأويل شرطان: الشرط الأول: أن يكون اللفظ محتملا للتأويل الذي ذكره مثلا يقول: ما لك عندي شيء، ويقصد بما النفي فإن هذا ينفعه في الظاهر، أو يقصد بما الموصولة أي: الذي لك عندي شيء فينفعه هذا التأويل لأن اللفظ محتمل. الشرط الثاني: أن يكون غير ظالم في ذلك الحلف أو ذلك الطلاق الذي تلفظ به.
__________________
|
#579
|
||||
|
||||
![]() مسألة: إن حلفه ظالم على شيء فنوى غيره يقول المصنف: [فإن حلفه ظالم (ما لزيد عندك شيء) وله عنده وديعة بمكة فنوى غيره، أو بما الذي، أو حلف ما زيد هاهنا ونوى غير مكانه، أو حلف على امرأته لا سرقت منه شيئا فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل] . حلفه ظالم ما لزيد عنده شيء، وكان الحلف على المال، فحلف أن زوجته طالق إن كان له عنده شيء، ويقصد في المدينة، أو في جدة فإنه ينفعه؛ لأن الذي نواه في قرارة قلبه وقصده أنه ليس له عنده شيء في موضع والحال كذلك، فإذا بر في حلفه، ولا يقع عليه الطلاق، وهذا إذا كان مظلوما، أو يقول: ما لزيد عندي شيء، وقصد بما الذي، أي: الذي لزيد عندي شيء، وحينئذ يستقيم اللفظ، ويكون بارا بحلفه؛ لأن الواقع أن لزيد عنده شيئا لكنه مظلوم، فحلف بهذه الصورة ليتخلص ويدفع المظلمة عنه. لماذا فرق بين كونه ظالما أو مظلوما؟ قالوا: إذا كان مظلوما فمقصود الشرع أن يدفع الظلم عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) فمقصود الشرع دفع الظلم ورفعه عن الناس، ولا يجيز الشرع الظلم، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما) فإذا حلف لدفع الظلم عن نفسه فقد وافق مقصوده مقصود الشرع. وقد قرر العلماء هذا الأصل كما أشار إليه الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه النفيس (الموافقات) وهو من أوائل العلماء وجهابذة أئمة الأصول الذين تكلموا على المقاصد والنيات، قال رحمه الله: (قصد الشرع من المكلف أن يكون قصده موافقا لقصد الشارع) ، قصد الشرع من المكلف في جميع أموره الباطنة أن تكون موافقة للشرع، فهو لما نوى أن يدفع الظلم عن نفسه بنية غير التي تلفظ به؛ وافق مقصود الشرع من إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذه التورية جائزة غير جائرة، ومشروعة غير ممنوعة، مأذون بها شرعا، لأنها محققة لمقاصد الشريعة، فوسع الله بها على عباده، وقد أفتى بها بعض العلماء رحمهم الله، وصاحب التورية قد تنفعه ولا تؤثر في عصمة زوجته، ولا يقع الطلاق؛ لأنه نوى غير ما تلفظ به في الظاهر، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ، وأشكل في هذه المسألة حديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فدل على أن من حلف يمينا فإنه يقبل منه الظاهر ولا يقبل منه الباطن؛ لأنه على ما يصدقك عليه صاحبك، فدل على أن المسموع هو الذي عليه العمل وأن الذي وقعت عليه يمينه هو المعتبر، ولكن بين العلماء عدم التعارض وأن المقصود من هذه اليمين: اليمين في مقاطع الحقوق، وهي اليمين التي تكون في المظالم ويحلفها الإنسان في القضاء أو يحلفها في الخصومة والنزاع، ويعتقد أنه مصيب فيما قال، وصائب فيما ذكر، فحينئذ لا بد وأن تكون اليمين موافقة لما حلفه عليه القاضي؛ لأنه لو فتح هذا الباب لتلاعب الناس بالأيمان، وأصبحت يمين القضاء لا يتوصل بها إلى إحقاق الحق وإبطال الباطل. ومن هنا فرق العلماء في التورية بين أن يكون ظالما وبين أن يكون مظلوما، وفرقوا بين أن يكون محقا وبين أن يكون مبطلا، فقالوا: إذا نوى في قرارة قلبه غير الذي تلفظ به فيما إذا كان محقا أو مظلوما فإن ذلك ينفعه؛ لأنه بهذا الفعل احتال حيلة شرعية، وقد دلت النصوص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على صحة الحيلة الشرعية، وأنه مأذون بها شرعا، قالوا: فلو بقي الحديث: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) على ظاهره لما استطاع المحق أن يصل إلى حقه، ولأمكن المبطل أن يصل إلى باطله؛ لأنه ألجأه إلى اليمين واضطره إليها من أجل أن يصل إلى الحرام، فمن هنا ضيق عليه وقيل: يكون مأذونا له شرعا أن يوسع على نفسه بأن ينوي غير ما تلفظ به ليدفع عن نفسه الظلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن من ماء) فجعل الرجل يقول: من ماء بني فلان، أو بني فلان، ومراد النبي صلى عليه وسلم بقوله: (نحن من ماء) ما ذكر الله عز وجل: {خلق من ماء دافق} [الطارق:6] وهذا يدل على أن الأمر به سعة، وأنه لا بأس بالتورية، وأنها جائزة. [أو بما الذي] قال: امرأتي طالق ما لك عندي شيء؛ لأنه إذا قال: ما لك عندي شيء أي الذي لك عندي شيء و (ما) بمعنى (الذي) ، ومن فقه القاضي أنه لا يقبل من الخصم أن يقول لخصمه: ما لك عندي شيء؛ لأنه يحتمل أن يقول: ما لك عندي شيء، أي الذي لك عندي شيء، وحينئذ تضيع حقوق الناس بهذه التورية فلابد أن يقول: ليس لك عندي شيء، لأنه لا يستطيع أن يدخل في هذه الجملة تورية، وبناء على ذلك لو قال له: بقيت لي عندك عشرة آلاف، قال: ما بقيت لك عندي عشرة آلاف، وهو ظالم له بالعشرة آلاف، فقال له: احلف على طلاق زوجتك أنه ما بقي لي عندك شيء، فقال: زوجتي طالق ما لك عندي شيء، أي: العشرة الآلاف التي لك عندي هي لك عندي، فعلى هذا يكون المعنى صحيحا، وما نواه في قرارة قلبه قد أصاب به، وتنفعه هذه التورية ولا تضره بشيء أبدا. [أو حلف ما زيد هاهنا ونوى غير مكانه] قال: امرأتي طالق ما زيد هاهنا، كان زيد مظلوما؛ وهناك ظلم يريد أن يأخذه ليؤذيه أو يعرضه للحرام، أو مثلا: هناك امرأة يعتدى عليها، فقال له: احلف أنها ليست في الدار، فحلف بطلاق زوجته أنها ليست في الدار وقصد امرأة غيرها، ينفعه ذلك لأنه يتوصل إلى إحقاق حق وإبطال باطل، ودفع مظلمة عن مظلوم، وهذا موافق لنصوص الشرع، وبعض الأئمة -رحمهم الله- استعملوا شيئا من التوريات في التخلص من الأذية والضرر. ويسوغ ذلك إذا جاء شخص يستأذن للدخول عليك وأنت تعرف أن هذا الشخص جاء بمشكلة أو جاء في بلية أو فيه ضرر، فاستأذن؛ فلك أن تستعمل معه التورية، فإذا قال: فلان موجود؟ فيرد عليه الأهل: بقولهم: فلان خرج، ومرادهم أنك خرجت قبل ساعة، وكنت قد خرجت ذلك اليوم، لكن ما قالوا: لم يعد، بل قالوا: خرج إلى الصلاة، وأنت خرجت إلى الصلاة، فهذه تورية، أو يقول المجيب: غير موجود ويشير إلى الغرفة، يعني غير موجود في الغرفة، وكان إبراهيم النخعي إذا جاءه ضيف ثقيل خط على الأرض دائرة، وكانت جاريته تجيب، وتضع أصبعها في الدائرة فتقول: ما هو فيها، يعني ليس في داخل الدائرة، وهو ليس داخل الدائرة بل خارج عنها، وهذه من توريات السلف رحمهم الله؛ لأنه في بعض الأحيان قد يكون في دخول الشخص ضرر عليه، إما أن يتسبب في قطيعة رحم، أو يكون مغتابا نماما، أو يكون عنده بلاء أو فتنة، فالمقصود أنك تريد أن تدفع الضرر عنك، أو أنت مرهق متعب، ومثله لا يرد، فيسوغ لك أن توري وإلا فمن حقك أن تمنعه من الدخول، وهذا حق من حقوقك، لكن ليس كل الناس يفهم هذا الحق. وهنا ننبه أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم خاصة في مثل هذه القضايا، هل فلان موجود أو غير موجود؟ ومن الأمور التي ضيعها كثير من الناس إلا من رحم الله السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستئذان، وفيها رحمة من الله عز وجل على عباده، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف) يعني: إذا قرعت الباب ثلاث مرات ولم يجب أحد فيجب عليك أن تنصرف، فهذه هي السنة، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لو أن الناس طبقوا هذه السنة لارتاحوا من كثير من الإحراجات، يستأذن ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف؛ لأن الله أعطى صاحب الدار حقا أن لا يخرج لمن جاءه، وإن كان من حق الزائر أن تكرمه، وأن تستقبله، لكن ربما جاء في وقت ليس من حقه أن يأتي فيه، وربما جاء وعندك ما هو أهم وأولى وأحق خاصة العلماء، والأئمة، والخطباء، ومن انشغل بمصالح المسلمين العامة، فهؤلاء ينبغي على من يزورهم أن يتقي الله فيهم، خاصة في الأوقات الحرجة قبل الدرس، أو قبل المحاضرة، حيث تكون وراءه أمة تريد أن تنتفع بعلمه، فيأتي أناس يجلسون معه ويضيعون عليه وقته، فهذا لا يجوز لما فيه من الإضاعة للوقت، ولما فيه من الإضرار والأذية، وقد حرم الله على الصحابة أن يبقوا بعد طعامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ارتبطت به الأمة، وكان بعض العلماء يقول: هذا الأصل مطرد في غير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن المعنى الموجود في النبي صلى الله عليه وسلم موجود في غيره، فإن غيره من العلماء مبتلى بما ابتلي به عليه الصلاة والسلام، وإن كان هناك فرق بين الاثنين، فربما كان العالم عنده محاضرة، أو كان عنده درس يفيد به الأمة فلا ينبغي أن يؤذى ويحرج بمثل هذه التوريات؛ لأنه إذا أحرج بهذه التوريات ثم خرج ورآه من وري له -خاصة إذا كان من الجهال- ظن أن أهله يكذبون، وظن أنه كذب، وحينئذ يقع في سوء الظن، ويقع في التهمة، وهو الذي أحرج نفسه، فلذلك ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه، هذا بالنسبة للخاصة وكذا للعامة، فإذا علمت أن أخاك له أوقات يزار فيها تخيرت هذه الأوقات، وأخذت بالسنة، والله تعالى يقول: {وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم} [النور:28] ليس هناك أبلغ ولا أكمل من كلام الله جل وعلا، وشهد الله من فوق سبع سماوات؛ أنك إذا اتقيت الله وانصرفت فإنه أزكى لك، وكان بعض العلماء يقول: جربت ذلك فوجدت الزكاة، حتى أني استحب في بعض الأحيان أن آتي للشخص وأستأذن عليه ويقول لي: لا أستطيع، لأني أبحث عن هذه الزكاة، وأبحث عن هذا الخير الذي شهد الله عز وجل به من فوق سبع سماوات: {هو أزكى لكم} [النور:28] ، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا التمسك بالسنة. وعلى المسلم أن يحرص على مثل هذا لأنها تترتب عليها حقوق وأمور، فعليه أن لا يكون مؤذيا لإخوانه المسلمين وأن لا يحيجهم لمثل هذه التوريات في الزيارات، وكذلك في الخصومات، فربما يسأل الشخص أخاه عن أمر ما، فيخبره أخوه بالأمر، فيشك في خبره، ويقول له: احلف بطلاق زوجتك، فلا يجوز أن يحرج الناس في مسألة: إذا حلف على زوجته بالطلاق إن سرقت منه شيئا فخانت الوديعة [أو حلف على امرأته (لا سرقت مني شيئا) فخانته في وديعة ولم ينوها لم يحنث في الكل] لو خاف منها السرقة فقال لها: تحلفين أنك لا تسرقين مني فحلفت أنها لا تسرق، أو قال لها: إن سرقت مني فأنت طالق، فهددها بالطلاق إن سرقت، ثم شاء الله عز وجل أنه احتاج إليها في يوم من الأيام وقال لها: خذي هذه العشرة آلاف وضعيها عندك وديعة أو أمانة، فأخذت العشرة آلاف فخانته فيها وتصرفت فيها، فحينئذ الذي حلف عليه أو علق الطلاق عليه هو السرقة وما قصد سرقة الودائع، وسرقة الودائع خيانات ولا تعتبر من السرقة؛ لأن السرقة شيء، والخيانة شيء آخر، فالوديعة خيانتها ليست سرقة شرعا، ولذلك من خان الوديعة، فعلى الصحيح لا تقطع يده؛ لأنه ليس بسارق شرعا، واختلف في جاحد العارية كما سيأتينا -إن شاء الله- في باب السرقة. فإذا قال لها: إن سرقت مني شيئا فأنت طالق، فخانته في الوديعة، فإنها لم تسرق حقيقة إلا إذا قصد مطلق الخيانة، فإن قال لها: إن سرقت مني فأنت طالق، يعني: إن خنتني في أي مال أو شيء ائتمنتك عليه فأنت طالق؛ فحينئذ تطلق. هذا بالنسبة لمسألة إذا حلفها على السرقة وحصلت منها خيانة الوديعة. الأسئلة حكم إحراج المسلم ليحلف بالطلاق السؤال لو قال المستحلف للحالف: احلف أن نساءك طوالق لو كان لي شيء عندك، فهل في ذلك خدش في الإيمان إذا لم يرض المستحلف من الحالف أن يحلف بالله لو ألجأه إلى الطلاق أثابكم الله؟ الجواب ذكرنا أنه ينبغي أن لا يحرج المسلم أخاه المسلم، إلا إذا كان الرجل كذابا جريئا على حدود الله وأنت محتاج إلى المال، ومتضرر بظلمه لك فأحببت أن تحرجه، أو كذب عليك في أمر عظيم، أو إنسان والعياذ بالله منتهك لحدود الله عز وجل، وجاء في قضية انتهك فيها حدود الله، وجاء يعبث مع رجل صالح أو عالم أو صابر فأحب أن يردعه، فقال له: علق الأمر على طلاق زوجاتك، فربما يحلف الأيمان المغلظة والعياذ بالله ولا يبالي، لكن لو قال له: طلق نساءك يكون الأمر عنده أشد، فإن أحب أن يردعه ويزجره فهذه مقاصد معتبرة وهو مأجور إذا قصد إصلاحه، وقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل، ولا بأس بذلك، لكن لا ينبغي أن يكون ذلك ديدن الإنسان، ولا ينبغي للزوج أن يدمر بيته ويشتت أهله، ويفرق جمعه بمثل هذه الأمور التافهة، ويقول له: أهلي عندي أكرم من أن أطلقهم على هذا الشيء، فينبغي أن يستشعر نعمة الله عليه بالزوجة، وإكرام الضيف لا يتم بطلاق الزوجات، وإحقاق الحقوق وإبطال الباطل لا يكون بمثل هذه الأمور، بل لها وسائل شرعية معروفة علينا أن نلتزم بها، وهذا الوارد في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا حلف اليمين نحن نصدقه، من حلف لنا بالله نصدقه على الظاهر، وفي الحديث قال: (يا رسول الله! الرجل فاجر ولا يبالي -يعني يحلف اليمين ولا يبالي- فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه) فنحن نقبل ما قبل الله لنا، ومن حلف اليمين قبلنا منه، فإن فر من خصومه في الدنيا، وفر من جبار الأرض، فلن يفر من جبار السماوات والأرض، ولن يستطيع أن يفر من خصومه يوم القيامة إذا أخذ من حسناته أو أخذ من سيئات صاحبه والعياذ بالله فوضعت على ظهره، وحمل أثقالها بين يدي الله عز وجل، وعذب بها في عذاب الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية. فعلى كل حال لا ينبغي التساهل في مثل هذه الأمور وينبغي على الأئمة والخطباء توجيه الناس؛ لأن الناس يحتاجون إلى توجيه، وينبغي لكل إمام مسجد أن لا يمر عليه أسبوع إلا وله جلسة إمامية يذكر الناس بمثل هذه الأمور التي تقع في معاملاتهم، لما فيها من عظيم الأجر والثواب، فكم من بيوت هدمت، وأسر شتتت، بسبب جهل الأزواج والزوجات بالحقوق الواجبة عليهم؛ لأن الناس لا يعلم بعضهم بعضا، ولا يرشد بعضهم بعضا، فهذه الأمور التي تقع من الطلاقات المعلقة سببها الجهل، فتأتي في أمور تافهة يعلق عليها الطلاق، فلو وجه الناس أن البيوت أمانة، وأن الزوجة أمانة، وأن الأولاد أمانة، وأنه حرام على الإنسان أن يدمر أهله وبيته ويفرق جمعه، فمن الذي يرضى أن يدخل الضرر على أولاده وأقرب الناس إليه وأهله وحبه وزوجه، فينسى فضلهم عليه حتى يقول هذه الكلمة التي تكون سببا في طلاق زوجته وذهاب أسرته؟ فهذه أمور كلها تحتاج إلى توجيه، فإذا لم يحصل التوجيه، والتعليم للناس عظمت الغفلة، ولا تذهب الغفلة إلا بالتذكير، وبتعاهد الأئمة والناصحون بارك الله في علومهم وبارك الله في نصائحهم وتوجيهاتهم، ولذلك العالم والشيخ والإمام إذا وجدت له جلسة في الأسبوع أو جلسة كل يوم بعد صلاة العصر يوجه فيها كلمة قصيرة للناس فيما يحتاجونه بعلم وبصيرة، تجد هذا الحي مباركا فيه، قليل المشاكل، كثير العلم، كثير الفائدة، كثير النفع، والموفق من وفقه الله. نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل، والله تعالى أعلم.
__________________
|
#580
|
||||
|
||||
![]() شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع (كتاب النكاح) شرح فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي الحلقة (449) صـــــ(1) إلى صــ(14) شرح زاد المستقنع - الشك في الطلاق [1] مراتب العلم أربع وهي: الظن الفاسد، وغلبة الظن، واليقين، والشك، والشك هو: الظن المتردد المحتمل الذي لا مزية لأحد طرفية على الآخر، وهو إما أن يكون قهريا كالوسوسة، أو عارضا، وقد اعتنى العلماء بمثل هذه المسائل وأسهبوا في بيان علاجها. والشك قد يقع في الطلاق، إما في عدد الطلقات، أو في وقوع الطلاق أصلا، ولكنه على كل حال قد عالجته الشريعة وبينه أحكامه. تعريف الشك وبيان مراتب العلم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشك في الطلاق] . الشك: استواء احتمالين. فكل شيء تردد عندك وأصبحت ظنونه في نفسك بمنزلة واحدة، فإنه شك. مثلا: إذا رأى الإنسان شخصا فظنه فلانا، فإما أن يراه على صفاته الحقيقة بحيث يقطع أنه لا يمكن أن يكون غيره، يقطع بأنه فلان، رآه بشخصه، وسمعه بأذنه، فيقول: هو فلان، فهذا يقين، واليقين كما يقول العلماء: هو درجة من العلم القطعي الذي هو 100%. وإما أن يشك هل هو فلان أم فلان، بحيث يرى فيه الصفات المتعلقة بشخص يعرفه، لكن هناك احتمال أن يكون شخصا آخر يشبهه، وغالب ظنه أنه فلان، فيقول: أغلب ظني أنه فلان، فهذا غلبة ظن. فإن كان الذي رأيته قد استوى فيه الاحتمالان حيث احتمل أنه فلان واحتمل أنه فلان ولا مرجح لأحد الاحتمالين فهذا يسمى بالشك، وهو كما قال العلماء: بدرجة 50% لا تزيد ولا تنقص، ليس لأحد الظنين مزية على الآخر فهذا يسمى بالشك، فإن نقص الظن إلى الدرجة الضعيفة وهي التي تقابل الظن الراجح سمي وهما. فهناك وهم، وهناك شك، ثم ظن، ثم يقين، فهذه أربع مراتب للعلم، وقد تقدمت معنا في كتاب الطهارة، وفصلنا في أحكامها، وفصلنا قواعد الشريعة التي تدل على اعتبار اليقين والظنون الراجحة، والتي تدل على الرجوع إلى الأصل عند استواء الاحتمالين، والتي تدل على إسقاط الظن الفاسد. ومراتب العلم هي: الظن الفاسد: وهو الضعيف، وليس له مكان في الشريعة؛ بمعنى أنه لا يعمل به ولا يعول عليه، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس قواعد الأحكام في مصالح الأنام، كلام نفس في الظنون الضعيفة، ويسميها العلماء الظنون الفاسدة، والظنون الفاسدة لا تحتاج الشريعة لها إذ لو اعتبرت الشريعة بالظنون الفاسدة لما استقامت أمور الناس ولما استقامت أحكامها؛ لأن كثيرا من الأشياء بنيت على غلبة الظن، فالدماء والأموال والفروج تستباح كلها بالظنون الراجحة، فلو شهد شاهدان عدلان أن فلانا قتل فلانا قتل بشهادتهما، مع أنه يحتمل أنهما أخطآ، لكن الاحتمال ضعيف ما دامت شهادتهما مقبولة، وما داما عدلين فإن شهادتهما مرضية، فيحكم بها. كذلك تستباح الأموال فإن الإنسان إذا خاصم شخصا في القضاء وقال: إن لي عنده مائة ألف، وشهد شاهدان عدلان أنه أعطاه مائة ألف ولم يثبت ردها؛ فإنه يحكم بثبوت المائة الألف في ذمته قال تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء} [البقرة:282] فحكمت الشريعة بالظن الراجح، وأسقطت الظن المرجوح، وهو احتمال أن الشاهدين أخطآ، واحتمال أنهما يخطئان في قدر المال، واحتمال أنهما نسيا أداءه، إلى غير ذلك من الظنون المحتملة، لكنها ضعيفة، فعملت الشريعة بالظنون الراجحة وأسقطت الظنون المرجوحة. والمرأة يعقد عليها الإنسان ويستحل فرجها بكلمة الله عز وجل ويأخذها بأمانة الله، وأحكام النكاح مبنية في كثير من المسائل على غلبة الظن، كذلك أيضا بالنسبة لأحكام الطلاق، فإنها لا تبنى على الظنون الفاسدة، ولا يعول فيها على الظن الفاسد، فلو أنه دخل عنده وسواس وشك بسيط أنه طلق زوجته فإنه لا يلتفت إلى هذا الظن ولا يلتفت إلى هذا الوسواس ولا يعول عليه، ولو دخل له هذا الوسواس والظن المرجوح أنه حصل منه ظهار فإنه لا يلتفت إليه ما لم يتحقق ويستيقن أو يغلب على ظنه. إذا: الظن الفاسد لا يعمل به. النوع الثاني: الظن الراجح: وهو عكس الفاسد، وذكرنا أن الشريعة تعمل به وتحكم به، وذكرنا أمثلته. النوع الثالث: العلم القطعي، فإذا كان الظن الراجح يعمل به فمن باب أولى المقطوع به. النوع الرابع الذي سنتحدث عنه اليوم: وهو الظن المتردد المحتمل، الذي لا مزية لأحد طرفيه على الآخر، بحيث يشك شكا مستوي الطرفين. فمثلا: يشك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، شكا مستوي الطرفين، ولا يستطيع أن يرجح أنه ما تلفظ بالطلاق ولا يستطيع أن يرجح أنه تلفظ بالطلاق؛ فهل تطلق عليه زوجته؟ كذلك أيضا لو حصل هذا الشك في عدد الطلقات، أو حصل الشك في إثبات ما ينبغي عليه وقوع الطلاق، أو نفي ما نفيه وقوع للطلاق، فكل ذلك يكون فيه الظن مترددا حتى نقول: إنه شك، فلا نقول بوجود الشك إلا عند استواء الاحتمالين استواء تاما كاملا لا مزية لأحدهما على الآخر. الوسواس القهري وقد بين المصنف رحمه الله أنه سيذكر جملة من المسائل المتعلقة بالشكوك في الطلاق، وباب الشكوك في الطلاق يأتي على صورتين: الصورة الأولى: أن يكون بسبب مرض يعتري الإنسان وهو الذي يعرف بالوسواس، سواء كان وسواسا قهريا أو وسواسا معتادا معه، فهذا النوع الأمر فيه أوسع، والله عز وجل ألغى أحكام الوسوسة وأمر المكلف ألا يشتغل بها. علاج الوسوسة والمنبغي على من ابتلي بالوسوسة أن يلزم أمرين هامين، فيجعل الله بهما فرجا ومخرجا: ذكر الله عز وجل أولهما وأعظمهما: ذكر الله عز وجل وكثرة الدعاء، والاستعاذة بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم. فذكر الله سواء بالاستعاذة أو بالدعاء، أو بأذكار الصباح والمساء، لا شك أنه أعظم وأنجح وأفضل ما يكون للموسوس، حتى إنه لو وجد الوسوسة مع هذه الأذكار فليعلم أنه لا يقول الأذكار بحضور قلب وقوة يقين، فيؤتى من نفسه، فيرجع إلى نفسه ويقوي يقينه بالله؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة يحرص كل الحرص على أن يجعل الوسوسة أكبر من الله عز وجل والعياذ بالله، ويعتقد أنها ليس لها حل ولا علاج؛ ولذلك تجد من تسلطت عليه الوسوسة في مثل هذه الحالة قد بلغ إلى درجة اليأس، وقد تسلط الشيطان على قلبه والعياذ بالله؛ لكن إذا ظن في قرارة قلبه أن الله أكبر من هذا، وأن الله أعظم من هذا، وأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فإن الله سيجعل له فرجا ومخرجا. ولقد ابتلي بعض الصالحين بهذا البلاء حتى كان بلاء شديدا عليه في نفسه وفي عبادته، وحتى مع زوجه وأهله، واشتكى إلى بعض أهل العلم فأمروه أن يكون قوي اليقين بالله عز وجل، وأن يشكو أمره إلى الله عز وجل، فصلى ودعا الله عز وجل، قال: فما شعرت إلا وأنا في التشهد، فسألت الله بصدق، وإذا بشيء شديد الحرارة في أسفل بدني يؤذيني قال: فلما سلمت كان آخر عهدي بالوسوسة، فما بقي منها شيء ألبتة. وقد كان بحالة لا يحسد عليها، فقد بلغ به أنه يدخل للغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر بساعتين ولا يخرج من دورة المياه إلا بعد طلوع الشمس بثلاث ساعات أو بساعتين على الأقل، وهذا من شدة ما كان يجد، نسأل الله السلامة والعافية؛ فاشتكى إلى بعض أهل العلم، فقال له: اشتك إلى ربك، واسأل الله بصدق فإن الله لا يخيبك، وإذا سألت الله بيقين فإن الله لا يضيعك، وصل وأنت تستشعر أنك أمام الله واعبده كأنك تراه، فأنت لما جئت تشتكي وجلست أمامي تسرد لي حوادثك وأنا مخلوق ضعيف لا أغني لك من الله شيئا، فكيف وأنت تقف أمام ربك تشتكي عدوك الشيطان بقوة يقين وصدق التجاء إلى الله عز وجل، وأبشر بكل خير. قال: فتوضأت وصليت، وهذه وقعت منذ سافر إلى العمرة، ولما طاف الطواف اشتكى إلى ربه ثم صلى ركعتي الطواف، ففي ركعتي الطواف سأل الله عز وجل وهو أمام بيته مستشعرا وقوفه أمام الله، معتقدا أن الله أكبر من هذه الوسوسة، فعافاه الله. وكان يقول: كان الشيطان يقول لي: مستحيل، حتى أني أظن أنني سأصبح مجنونا من شدة ما أجد من الوسوسة، وهو من أفاضل أهل العلم، قال: فلما سألت الله سبحانه وتعالى بصدق وأنا في التشهد شعرت بهذا الأمر الغريب في قدمي، فلما سلمت كان آخر عهدي بما كنت أجد: {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} [الجمعة:4] . فمن ابتلاه الله عز وجل بهذا فعليه أن يحسن الظن، فربما أن هذه الوسوسة تبلغه درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام، فيحتفي، ولذلك يأتي الشيطان للإنسان ويقول له: أنت لا تؤجر على هذه الوسوسة. وهنا أنبه إلى أن بعض طلاب العلم وبعض من يفتي أصلحهم الله يسيء التعامل في مثل هذه الأمور، فيقول للإنسان: لماذا تفعل هذا، ويخاصمه، ولربما يغلظ له القول، فإذا كان مريضا فلا يغلظ عليه، بل يؤخذ بالتي هي أحسن؛ لأن مثل هذا كالغريق يحاول معه بالرفق وباللين عل الله سبحانه وتعالى أن يجعل له فرجا ومخرجا، فإذا داوم على الأذكار، والدعاء ووجد أن الوسوسة موجودة، فمن الأمور الطيبة المستحبة التي ينبغي أن ينبه عليها من ابتلي بهذا أن يقال له: لولا الله ثم الدعاء لكنت في حال أسوأ من الحال الذي أنت فيه. فهذا يزيد يقينه في الذكر لله عز وجل، ويقال له: لو لم تدع لكان الأمر أسوأ، فيتشبث ويحس أن الذكر له سلطان على قلبه، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، وهو أصدق حديثا، وقد قال تقدست أسماؤه: {فاذكروني أذكركم} [البقرة:152] ، وقال سبحانه وتعالى: {ولذكر الله أكبر} [العنكبوت:45] فإنه يوصى بالذكر، فإن لم يجد في نفسه أثرا فليتهم نفسه بضعف اليقين، فإن وجد أنه صدق وسأل فلربما أراد الله له خيرا لا يعلمه، وفضلا ينتظره بهذا البلاء فيحتسب الأجر والثواب من الله. الأخذ بالأسباب أما الأمر الثاني الذي يوصى به من ابتلي بالوسوسة: فأن يأخذ بالأسباب، وهذا الأمر فيه جانبان هامان: الجانب الأول: الارتباط بالعلماء: أن يرتبط الموسوس بطالب علم أو بشيخ، ولا يفتي نفسه، فإذا أفتاه ذلك العالم، أو من عنده علم وبصيرة فليعمل بفتواه ولا يلتفت إلى أي شيء سواه. مثلا: يشك أنه طلق زوجته أو لم يطلقها، فجاء يسأل الشيخ عن مسألته في الوسوسة التي وجدها، فإن قال له: ما وقع الطلاق، فعليه أن يتقبل الفتوى بصدر منشرح؛ لأنه بين الشيطان وبين العالم، فإما أن يصدق الشيطان وإما أن يصدق العالم، فإن صدق الشيطان استهوته الشياطين والعياذ بالله، فأصبح حيران في الأرض؛ ولذلك تجد من يبتلى بالوسوسة ويرتبط بالعلماء يكون أمره أرحم وأخف من الذي لا يرتبط بأهل العلم. ويستحسن للعلماء والأئمة والمشايخ وأهل الفتوى إذا جاءهم إنسان وعرفوا أن فيه وسوسة، وكانت أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم بالإجابة على أسئلته أن يحيلوه على من عنده صبر وتحمل وجلد أكثر؛ لأنه سيصل العالم إلى درجة صعبة جدا؛ لأن الموسوس لا يملك نفسه، حتى إن بعضهم من الحوادث التي كانت تمر بنا يمكن أن يجلس مع العالم ويسأله عشرين مسألة مما يمر به -نسأل الله السلامة والعافية- ويخرج من الباب ثم يرجع بعد دقائق يسيرة ويقول: زوجتي حلال لي؟! وذلك من شدة ما يجد من الوسوسة. فيحتاج إلى إنسان عنده صبر وتحمل، ومع ذلك نقول لأهل العلم وطلابه: ما أعظم جزاءهم عند الله عز وجل! وما أعظم ثوابهم إذا استشعروا أنهم يفرجون كربة المكروب بإذن الله عز وجل، وأنهم يوسعون على إخوانهم! وأنهم مع المبتلى في بلائه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) . فانظر رحمك الله: إذا كان العون في أحب الأشياء إلى الله وهو العلم النافع، فلا شك أن أمره أعظم، وما ارتفعت درجات العلماء، ولا نالوا الدرجات العلا في الجنة إلا بفضل الله وبمثل هذه الابتلاءات، فالعلم كما أنه يرفع الإنسان لا بد أن يدفع ثمنه، وأن يضحي. وينبغي على من ابتلي بشيء من الوسواس أن يشفق على العلماء الذين عندهم مسئوليات أعظم، وأن يعلم أنهم ارتبطوا بأكثر من أمر فيرتبط بمن دونهم وممن هو أكثر فراغا، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن تجد فيها من يضبط العلم ومن يحسن الفتوى، فإذا سأل العلماء المفتين الجهابذة كان الأمر أصعب، وربما إذا ارتبط بعالم من هؤلاء العلماء أحرجه، وقال له كلمة، أو تصرف معه تصرفا نابيا، وعليه أن يسكت، فوالله لو يعلم الناس ما يجده أهل العلم من تحمل المشاق والمتاعب لأشفقوا عليهم، فينبغي للمبتلى بالوسوسة أن يتسع صدره، ويختار عالما عنده من الفراغ والوقت ما يعينه على إجابته. الجانب الثاني: من الأسباب المهمة أنه إذا سأل عالما وارتبط به فهناك أمر مهم جدا، وهو أنه بمجرد ما يسأل العالم يشككه الشيطان في الفتوى، فتارة يقول له: لم تبين للشيخ حقيقة الأمر. يعني: يوسوس له في جانب غير الجانب الذي كان فيه، فيقول له: أنت ما وضحت للشيخ، فيرجع المسكين مرة ثانية ليعيد السؤال مرة ثانية عليه؛ لأنه يحس أنه لم يفهم الشيخ السؤال كما ينبغي؛ ولذلك كان بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم إذا سأله موسوس يعيد السؤال عليه مرة ومرتين مع أن الموسوس ما سأله أن يعيد، ويقول له: أنت تقصد كذا؟ يقول له: نعم، فيعيده مرة ثانية ويقول له: أنت تقصد كذا؟ فيقول له: نعم، قال: حتى تعلم أني فهمتك؛ فيخرج بصدر منشرح وبنفس واثقة أنه قد بلغت رسالته للعالم، وهذا من فطنة العالم وحكمته وذكائه، وهذا فتح من الله عز وجل له. وإنما يقولون: طلب العلم على علماء لهم قدر راسخ في العلم أبرك وأكثر فائدة؛ لمثل هذه الفوائد مع الخبرة ومع أخذهم للعلم عمن هو أعلم، فيركز العالم في نوعية السائل، ولذلك كانوا يقولون: الفتوى لها فقه، وهذا الفقه هو معرفة السائل والمستفتي. الموسوس يدخل عليه الشيطان بأمور كثيرة فالذي يريد أن يقف مع الموسوس في الفتاوى عليه دائما أن ينزل نفسه منزلة الموسوس، فبذلك يتسع صدره لضيقه، ويتحمل كثيرا مما يكون من هذا الموسوس، ولا شك أن من أفضل وأصلح ما تكون من الدعوات دعوات أمثال هؤلاء؛ لأنه يدخل عليه بكرب لا يعلمه إلا الله، ويخرج من عنده بنفس غير النفس التي دخل بها، فربما دعا له من أعماق قلبه دعوة تكون سببا في سعادته في الدنيا والآخرة، فيحتسب في مثل هؤلاء، فيحرص على أن يشعره أنه فهم قوله. وينبغي للعالم إذا سأله الموسوس أن يسأله: هل بقي في السؤال شيء؟ هل هناك جوانب أخرى؟ وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، كان يقول للموسوس إذا سأل المسألة: اسمع! أنت سألت عن كذا وكذا، فيعيد له السؤال مرتين، ثم يقول له: اعلم أن الذي يهم في الفتوى هو الذي ذكرته، يعني: ليس هناك شيء آخر أحتاج أن أسألك عنه، ولو كان هناك شيء احتجت أن أسألك عنه لسألتك، وذلك حتى إذا خرج الموسوس من عند العالم وجاءه الشيطان وقال له: هناك جانب آخر لم تذكره، فتحتاج أن ترجع مرة ثانية، ثم يصدق الشيطان، لأنه عندما يقول له العالم: إن المهم في السؤال هو كذا كذا، وحالك على كذا وكذا، وأي شيء آخر زائد عن هذا فاعلم أنه لا يؤثر في الفتوى، فيعلم أنه ملزم بهذه الفتوى، وأن الذي أجابه به العالم هو الذي عليه العمل. العمل بالفتوى النقطة الثالثة: أن يكون عند الموسوس شعور أن ما أفتاه به العالم هو الذي عليه العمل ولو كان الأمر على خلافه. أي: لو أنه سأل وما تذكر عند السؤال إلا هذا الأمر وسأل العالم عن هذا الأمر وأفتاه وقال له: زوجتك حلال؛ فهي حلال؛ لأنه ما تذكر الموسوس شيئا آخر فليس بملزم، ويكون العمل على هذه الفتوى حتى يتبين ما يناقضها ويخالفها. ولذلك يقولون: هذا من ناحية الحكم القضائي، وفيما بينه وبين الله عز وجل إذا جاءه الشيطان وقال له: كيف تستحل هذه المرأة وقد طلقتها؟ يقول: سألت عالما وقال لي: زوجتي حلال، فأنا استحلها بما أفتى به أهل العلم، فإذا أصبح يرتبط بأهل العلم ارتاح. ولذلك إذا صلى وجاءه الشيطان وقال له: كيف تصلي ووضوؤك مشكوك فيه؟ يقول: سألت من يوثق بعلمه فأفتاني أن صلاتي صحيحة، ألا ترى أن المستحاضة تصلي ودمها يجري معها، وهي صلاة صحيحة شرعا، فدل على أن الابتلاءات مقرونة بتقوى الله، ولذلك قال الله تعالى: {لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} [الحج:37] . وما دام أن الموسوس اتقى ربه وسأل العالم، وأنزل المسألة بأهل العلم فأجيب بالجواب المعتبر شرعا؛ فإنه يتعبد لله عز وجل بما أجيب به، في مسائل العبادات والمعاملات، ويجري الموسوس كل أموره على هذا الأصل. البعد عن المظالم أما الجوانب الأخرى التي ينبه عليها من الأسباب التي تدفع الوسوسة فأعظمها البعد عن المظالم، فربما أصيب الإنسان بالوسوسة بسبب عقوق للوالدين، أو قطيعة للرحم، أو أكل مال لمظلوم، أو يتيم، أو محروم، فعليه أن يتفقد نفسه في المظالم: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] فيراقب نفسه هل آذى أحدا؟ هل شتم أحدا؟ هل تكلم في عالم من العلماء فسلط الله عليه نفسه فأشغله عن أهل العلم؟ فربما جلس يتفكه بلحوم العلماء فابتلاه الله بلية نفسه حتى أصبح لا يعرف كيف يصلي والعياذ بالله، وكذلك ربما آذى مسلما، أو قذف محصنا، أو تكلم في عرض مؤمن، أو نقل شائعة، أو ذم وليا من أولياء الله، أو انتقصه حقا، أو ظلمه، أو غمطه؛ فغضب الله عز وجل عليه، وسلط عليه هذا البلاء فأشغله في نفسه. وغالبا ما يكون البلاء من جنس العمل، فالذي يبتلى بالوسوسة في دينه عليه أن يراقب ما يكون في أمور الدين، ومن أعظمها ما يتصل بحقوق من له حق في الدين، كالأنبياء والعلماء وصالحي عباد الله الأخيار، فهؤلاء يتقي مظالمهم؛ فإنه من المجرب والمعروف أنه ما آذى أحد أهل العلم أو أولياء الله إلا سلط الله عليه في نفسه، فأشغلهم عنهم بما يشاء، كما قال الله لنبيه: {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} [البقرة:137] . فالوساوس كثيرا ما تأتي بسبب المظالم، وقد وجدنا بعض الناس يبتلى بالوسوسة، فلما تفقد حاله وجد أنه عاق لأمه، ومنهم من ابتلي بالوسوسة بعد أن قطع الإحسان إلى أبيه، ومنهم من ابتلي بالوسوسة بسبب موقف بينه وبين أبيه في خصومة والعياذ بالله فأساء إلى أبيه أمام إخوانه، أو أمام أولاده، فنزلت عليه هذه العقوبة والعياذ بالله. ويعلم الله أني أعرف حوادث في الوسوسة لأناس عقوا والديهم فغيروا ما بينهم وبين والديهم فرجعت أمورهم على أحسن ما يكون، فعقوق الوالدين من أعظم أسباب الوساوس؛ لأن الوسوسة شغل للإنسان في نفسه والعياذ بالله، والعقوق من الذنوب العظيمة، وقطيعة الرحم كذلك، وربما جاء الرحم بحاجة إلى مال أو مساعدة أو معونة؛ جاء مكروبا منكوبا مفجوعا، فوقف على ذي الرحم منه وسأله وناشده بالله والرحم، فصرفه عن بابه مكسور الخاطر فدعا عليه، وعلى هذا ينبغي للإنسان أن يحذر من المظالم؛ لأنها من أسباب الابتلاء بمثل هذه الأمور. إحسان الظن بالله عز وجل والتقرب إليه بالصالحات كذلك: عليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، والله سيجعل له فرجا ومخرجا بالصدقات، والتقرب إليه بالطاعات، ويتخذ له وسيلة بينه وبين الله عز وجل من الحسنات الطيبة؛ لأن الله تعالى يتقبل الأعمال والدعاء، ويتقبل الدعاء بالوسيلة الصالحة: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} [المائدة:35] فأمرنا أن نبتغي إليه سبحانه الوسيلة. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل من أسباب رفع البلاء الوسيلة الصالحة، فقال في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم خسوف القمر وانكساف الشمس فصلوا وادعوا -وفي رواية- تصدقوا -استغفروا- حتى ينجلي ما بكم) فجعل الأعمال الصالحة وسيلة لدفع البلاء، فهذا إذا كان البلاء عاما فكيف إذا كان البلاء خاصا؟! فإن الله لا يعجزه شيء. وانظر رحمك الله إلى قول رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) وانظر إلى عبد مخلوق إذا غضب كيف يكون حاله، فما بالك إذا غضب الرب سبحانه وتعالى، فالمخلوق الضعيف كالوالد إذا غضب ومن له قوة وصولة وسلطة، إذا رأيته غضب ارتعدت الفرائص من هيبته، فما بالك بجبار السماوات والأرض الذي لا يعجزه شيء إذا غضب سبحانه؟ ومع ذلك يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وإطفاء الشيء ذهابه بالكلية. فهذا يدل على فضل الصدقات، وأنها من أعظم الوسائل والقربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، فمن ابتلي بالوسوسة فليتقرب إلى الله عز وجل بالصدقة. الوسوسة العارضة أو هل تلفظ أو لم يتلفظ، وهذا شك في الوقوع. وهاتان الحالتان بالنسبة للشك في الطلاق وغيره سنرجئ الكلام عليها إلى المجلس القادم بإذن الله تعالى. نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع مجيب. الأسئلة التعليق في الطلاق السؤال إذا قال الرجل لزوجته: إن سرقت مالي فأنت طالق، فسرقت غير النقود، فهل يأخذ حكم المال فتطلق؛ أثابكم الله؟ الجواب باسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإن المال يطلق على كل شيء له قيمة، كل شيء له قيمة فهو مال، ولا يختص المال بالذهب والفضة، فالناس تظن أن الأموال خاصة بالذهب والفضة، ولكن نصوص الشريعة دلت على أن المال عام شامل لكل شيء له قيمة، لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته) ثم ذكر الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم، فسمى الإبل والبقر والغنم مالا، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة. وكذلك ثبت في الصحيح من حديث الأعمى والأقرع والأبرص أن الأعمى قال للملك لما جاءه في صورة الفقير: (كنت فقيرا فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله علي بصري، فدونك الوادي فخذ من مالي ما شئت، فقال الملك: أمسك عليك مالك، فقد أنجاك الله وأهلك صاحبيك) فقال: (أمسك عليك مالك) ، مع أن ماله غنم، فدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة، ولذلك يقولون: المال كل شيء له قيمة. وقالوا: سمي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه: رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن ليس عنده مال فعنه الناس قد مالوا الناس لا تميل إلا لمن عنده مال، فمسي المال مالا؛ لأن النفوس تميل إليه وتهواه وتحبه، فلا يختص بالذهب والفضة، فإذا قال لها: إن سرقت من مالي، وقصد الذهب والفضة؛ نفعته نيته؛ لأن هذا تخصيص ونيته نافعة فيما بينه وبين الله عز وجل، وأما في القضاء فإنه إذا قصد التخصيص وبين، نفعه ذلك وحكم به. والله تعالى أعلم. حكم تكرار العمرة للمكي السؤال يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) فهل يشرع للمكي الإكثار من العمرة أم أن الطواف بالبيت يكفيه ويدرك هذا الأجر أثابكم الله؟ الجواب قد اختلف العلماء رحمهم الله في العمرة للمكي، فجمهور العلماء على صحة العمرة من المكي، وجوازها ومشروعيتها له؛ لأن عائشة رضي الله عنها كانت من مكة وأخذت حكم مكة ونزلت وأحرمت من أدنى الحل وهو التنعيم، ورخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، قالوا: فهذا أصل على أنه يشرع لمن كان من مكة؛ ولأن المكي يتمتع في أصح قولي العلماء، ويدل على ذلك عموم قوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب} [البقرة:196] أي: أن الهدي لازم على غير المكي، أما المكي إن تمتع فلا هدي عليه، والشاهد أنه إذا كان المكي يتمتع فإنه قطعا ستقع منه العمرة. والقول الثاني: أن المكي لا يعتمر وشددوا في العمرة له وهو قول عند الحنابلة رحمهم الله، واختاره بعض المتأخرين، وكان عطاء رحمه الله يقول: (لا أدري هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم) كأنه يشدد ويرى أن طوافهم بالبيت أفضل من اشتغالهم بالذهاب إلى التنعيم والرجوع؛ لأن العمرة يقصد منها الطواف بالبيت فإذا كانت هذه الخطوات التي سيذهب بها إلى التنعيم يسددها في طواف البيت فهذا أفضل له. فلو قيل من جهة الأفضلية ساغ أن يقال له: إن الأفضل له أن يطوف بالبيت، وأن يستكثر من الطواف؛ لأن المقصود من العمرة هو الطواف بالبيت لا أن معنى ذلك حرمة العمرة عليه، ومنعه منها. والله تعالى أعلم. أما تكرار العمرة ففيه خلاف بين العلماء، وجمهور العلماء على أنه يجوز للمسلم أن يكرر العمرة في العام أكثر من مرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، وشدد في هذه المسألة الإمام مالك بن أنس رحمه الله بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر إلا مرة واحدة في العام، ولكن قوله مرجوح؛ لأن هذا الذي فعله عليه الصلاة والسلام ليس على سبيل الإلزام، إذ إن المعلوم أن عمره عليه الصلاة والسلام معدودة، ولو قيل بظاهر هذا للزم أن الإنسان لا يعتمر في عمره إلا بعدد ما اعتمر عليه الصلاة والسلام، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يترك العمل وهو يحب أن يفعله خشية أن يفرض على الأمة. ومما يدل على مشروعية تكرار العمرة دليلان قويان: أولهما: هذا الحديث: (العمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة؛ مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فهذا يدل على فضل الإكثار من العمرة. الدليل الثاني وهو من أقوى الأدلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى قباء كل سبت، ومن المعلوم أن المجيء إلى قباء كان لقصد فضيلة العمرة وأجرها. فدل هذا على أنه لا بأس ولا حرج على المسلم أن يكثر من العمرة؛ ولأن الأصل جوازها حتى يدل الدليل على منعها وتحريمها. وجمهور السلف رحمهم الله على مشروعية تكرار العمرة، وليس في ذلك حد معين بحيث يقال: كل أربعين يوم، أو كل أسبوع، أو كل عشرة أيام؛ فالأمر في ذلك مطلق من الشرع، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، ومن أراد أن يقيد فإنه ملزم بالدليل الذي يدل على ذلك التقييد. والله تعالى أعلم. حكم أكل المتمتع من الهدي السؤال هل يجوز للمتمتع أن يأكل من الهدي، أم هو خاص بفقراء الحرم أثابكم الله؟ الجواب هذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله: واختار جمع من العلماء أن الهدي شكر لنعمة الله عز وجل على المتمتع، ولذلك يأكل منه، ويقوي هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من هديه، وقد نحر عليه الصلاة والسلام من هدي حجه وهديه للبيت ثلاثا وستين بدنة، وأتم علي رضي الله عنه على أصح أقوال العلماء الباقي إلى مائة، ثم أمر بها فطبخت، فشرب عليه الصلاة والسلام من مرقها، فلو كان لا يأكل من هديه لما أكل عليه الصلاة والسلام من هديه، ولنا فيه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أسوة حسنة! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
__________________
|
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 0 والزوار 10) | |
|
|
|
Powered by vBulletin V3.8.5. Copyright © 2005 - 2013, By Ali Madkour |